الدرس الحادي عشر
تفسير سورة آل عمران من الآية السادسة والتسعين إلى الآية العشرين بعد المائة

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، اللهم علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا. اللهم آمين.

۞ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ۞

أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، يقول الحق سُبحانه وتعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ۩، المقصود أيها الإخوة هنا طبعاً كما هو نص الآية أن البيت العتيق الموضوع في البلد الحرام هو أول بيتٍ وُضِعَ للناس لعبادة الله وتوحيده – سُبحانه وتعالى – على وجه الأرض، وفي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال قلت يا رسول الله أي بيتٍ وُضِعَ في الأرض أول؟ قال البيت الحرام، قلت ثم أي؟ قال المسجد الأقصى، قلت وكم بينهما؟ قال أربعون سنة، قلت ثم أي؟ قال ثم حيث أدركت الصلاة فصل فإنه مسجد، ورواه الإمام أحمد وهذا لفظه، رواه أحمد والشيخان البخاري ومُسلِم، إذن بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى أربعون سنة، هذا على ماذا أيها الإخوة؟ على أن باني المسجد الحرام هو إبراهيم، لكن سبق معنا أن إبراهيم رفع القواعد من البيت بعدما درست معالمه وتعفت آثاره وأن الواضع الأول كما في بعض الأخبار والآثار كان عليه آدم عليه الصلاة وأفضل السلام. 

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ۩، بكة هي مكة، ومكة لها أسماء كثيرة أيها الإخوة: يُقال مكة، يُقال بكة، يُقال الحاطمة، يُقال كوثى، يُقال العرش، يُقال صالح، يُقال قادس، يُقال المُقدَّسة، يُقال الباسة، يُقال الناسة، يُقال النساسة، يُقال البيت العتيق، يُقال البيت الحرام، يُقال البلد الأمين، يُقال المأمون، ويُقال صالح وذكرناها، كلها أسماء لمكة! ومَن أراد أن يستقصي المعلومات أيها الإخوة بتفاصيلها عن مكة وأحوالها وتاريخها فليعد إلى أوسع مرجع في هذا الباب وهو تاريخ مكة للإمام الأزرقي رحمة الله تعالى عليه، كتاب كبير جداً في جُزئين، لم يترك شيئاً مما يتعلَّق بالبلد الأمين إلا أتى عليه، لم يترك شيئاً، وهو مرجع على كل حال يعود إليه كل مَن أتى بعده، فجزاه الله خير الجزاء، لكن لماذا سُميت مكة ببكة؟ يُقال بكة، لماذا؟ قيل لأنها تبك أعناق الجبابرة، بمعنى تُخضِعها وتُذِلها، لأنه لا يدخلها أحد إلا خاضعاً ذليلاً، وهذا صحيح سُبحان الله، من المشاهد المُؤثِّرة التي اتفقت لمَن حج أو اعتمر البيت أيها الإخوة أن يرى بعض الملوك أو بعض الكبار إما في الطواف وإما قُبالة قبر رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – وبعضهم هكذا قد نكَّس رأسه تخضعاً وتطامناً وبعضهم أرسل دموعه، فسُبحان الله هناك يتفق هذا للجميع، لا يُوجَد ملك ولا مملوك، لا كبير ولا صغير، كلهم صغار عند الله تبارك وتعالى، وكلهم صغار أمام رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، وقيل سُميت مكة بكة لأن الناس تزدحم فيها، الناس يتبكّون أو يتباكّون فيها أي يزدحمون، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

۞ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ۞

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۩، سبق الحديث بحمد الله عن مقام إبراهيم فأغنى عن إعادته في هذا الموضع، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۩، أيضاً سبق نوع تفصيل يسير عن هذه القطعة من هذه الآية، فالبيت بيتٌ آمنٌ، وكان الناس يُتخطَّفون من حول هذا البيت في الجاهلية وأيضاً في الإسلام، ولم يُرخَّص لأحد – ترخيصاً شرعياً طبعاً – باستحلال القتال في هذا البيت إلا لرسول الله خاتم الأنبياء والرُسل صلوات ربي وتسليماته عليه، لكن ساعةً من نهار، ثم عادت مكة كما حرَّمها الله تبارك وتعالى، وهذا في الصحيحين، ذكرت لكم هذا الحديث، حديث أبي شُريح العدوي عندما كان عُمير بن سعد هذا يبعث البعوث – أي لقتال عبد الله بن الزُبير – في فتنة ابن الزُبير أيام عبد الملك، الحديث طويل ولطيف وفيه فوائد، على كل حال هو بلدٌ آمنٌ، لا يُنفَّر الطير فيه والصيد، وقد رأيتم ذلك، أليس كذلك؟ ولا يُختلى خلاه، ولا يُقطَع شجره، كل شيئ فيه، لكن يُوجَد استثناء في الإذخر، قال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم، قال إلا الإذخر، وهو نبت طيب الريح كان يستخدمه الحدّادون، فالقين هو الحدّاد، وقيل كان يُستخدَم في سقف البيوت، فقال استثن هذا، قال إلا الإذخر، لكن ما عدا ذلك كله مُحرَّم.

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ۩، هذه صيغة إيجاب، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ۩، والحَج أصلاً والحِج هو القصد، حَج إلى المكان الفلاني أي قصده بسفرٍ، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ۩، ما هو السبيل؟ روى الإمام الترمذي – رحمة الله تعالى عليه – أن رجلاً جاء النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وقال يا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، صلوا عليه كلما سمعتم اسمه تربحوا إن شاء الله، ولا تكونوا من الباخلين على أنفسهم، لأن أبخل البُخلاء مَن ذُكِر عنده النبي ولم يُصل عليه، عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن الحاج؟ أي عرِّف الحاج، ما تعريف الحاج؟ قال الشعث التفل، الشعث أي الأشعث، التفل ما معناها؟ ما معنى التفل؟ الذي لم يمس طيباً، رائحته كما هي بعرقه، هذا معنى التفل، النبي قال في النساء أيضاً في الصحيح وليخرجن تفلات، لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات، التي تُريد أن تقصد المسجد للصلاة أو للتعلم ممنوع أن تمس طيباً، ممنوع أن تضع أي عطر والعياذ بالله، طبعاً هذا منهي عنه نهياً مُؤكَّداً، قال وليخرجن تفلات، قال الشعث التفل، صيغة مُبالَغة على وزن فَعِل، فقام آخر فقال يا رسول الله ما أفضل الحَج؟ قال العَج والسَج، ما معنى العَج والسَج؟ العَج هو رفع الصوت بالتلبية، والسَج هو إهراق دماء الهدايا، الهدي! هذا معنى العَج والسَج، قال العَج والسَج، فقام رجل آخر وقال يا رسول الله وما السبيل؟ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ۩، قال الزاد والراحلة، إذن السبيل الزاد والراحلة.

ولذلك أيها الإخوة يُقال الحَج واجب بشرط كذا وكذا وكذا مع أمن السبيل، بحيث تستطيع أن تصل بما معك من النفقة وتكون أيضاً السبيل آمنة، ليس هناك قطّاع طرق وليس هناك ما يُهدِّد الحياة من عدوٍ أو سبعٍ أو نحو ذلك، هذا هو السبيل، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ۩، والاستطاعة تكون بالنفس وتكون بالغير، أليس كذلك؟ إذا شرطنا فيها الاستطاعة البدنية لا تكون إلا بالنفس، إن أسقطنا البدنية يبقى الشروط الأُخرى ومن ضمنها المالية فتكون بالغير، لا تستطيع أنت بنفسك لكن تستطيع أن تُنيب عنك مَن يحج مِن خالص مالك – أي من حُر مالك – أو من مال مُهدى إليك أو مِن مال مَن تلزمه نفقتك، إلا إن تارك الحَج من غير عُذرٍ – والعياذ بالله – أوشك أن يكون من الكافرين، طبعاً الآية تقول لا، تقول مَن كفر فأنكر الحَج وجحد فرضيته فهو كافر، لكن مَن أقر ولم يجحد ولكن لم يحج تكاسلاً فيه شُبهة من كفر، ولذلك روى الإمام العظيم العلّامة الكبير أبو بكر الإسماعيلي – رحمة الله عليه – وهو صاحب المُستخرَج على الصحيحين – أبو بكر الإسماعيلي صاحب المُستخرَج على الصحيحين، أي على البخاري ومُسلِم – بإسناده – وقال الحفّاظ هذا إسنادٌ صحيحٌ إلى عمر بن الخطاب، وهذا صح عن عمر – أن عمر – قدَّس الله سره ونوَّر ضريحه ورضيَ عنه – قال مَن استطاع الحَج فلم يحج فليمت يهودياً إن شاء أو نصرانياً إذا مات، قال يستطيع ويتكاسل – كأن تقول السنة القادمة ثم تقول السنة بعد القادمة وهكذا وهكذا – ثم يموت الأبعد، هو حر لكن حين يموت الأبعد – عمر يقول – يُمكِن أن يموت يهودياً أو نصرانياً، أي عند الله هكذا يُعتبَر، خطير! انظر إلى الآية، قال وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ۩.

۞ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ۞

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ۩، هذا تعنيف وتعجيب من سوء حالهم، لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ۩، واضح.

۞ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۞

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ ۩، الصد معروف، عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا ۩، ما معنى هذا؟ الضمير في تَبْغُونَهَا ۩ عائد على ماذا؟ على السبيل، لا تُريدون السبيل القاصدة “سبيل التوحيد”، تُريدون السُبل المُنحرِفة المعوجة، وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩. 

۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ۞

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ۩، وهذه واضحة أيضاً.

۞ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۞

قال وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ ۩، الله يقول كيف تكفرون؟ لا إله إلا الله، أمة عندها هذا الكتاب كيف تكفر؟ الله أيضاً يُعجِّب من حال مَن يُمكِن أن يقع في هذه المهواة والعياذ بالله، كيف يُمكِن لإنسان عنده مثل هذا الكلام ومثل هذا الكتاب العجيب العزيز – تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ۩ – ويكفر؟ أعجب شيئ هذا والله، إلا أن يكون – أكرمكم الله – دابةً في مسلاخ إنسان، كبعض العلمانيين الآن والمجانيين من العرب الذين يسخرون من كتاب الله ومن كلام الله ومن شرع الله ويُثيرون حوله الشُبهات والعجاج، هؤلاء دواب في مساليخ بشر والعياذ بالله، الله يُعجِّب من حالهم، يُعجِّب! الله نفسه يتعجَّب، مُستحيل! كيف؟ أين عقلهم؟ أين فكرهم؟ أين منطقهم؟ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۩.

أخرج الإمام أبو القاسم الطبراني رحمة الله تعالى عليه – وهذا حديث لطيف وعظيم – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوماً لأصحابه أي الناس أعجب إيماناً لكم؟ أي أي الإيمان أعجب؟ أي يُقضى منه العجب ويُثير العجب، قالوا يا رسول الله إيمان الملائكة، قال كيف لا يُؤمِنون وهم عند الله تبارك وتعالى؟ هل هذا عجيب؟ ليس عجيباً، صحيح! أي الناس أعجب إيماناً لكم؟ ذكروا الأنبياء، قالوا الأنبياء، قال كيف لا يُؤمِنون وعليهم تنزَّل الوحي؟ وحي الله، جبريل ينزل عليهم، أي أنهم يرونه من الغيب، جبريل من الغيب وهم يرونه ويسمعونه، لا! ليس هذا أعجب الإيمان، ليس إيمان الملائكة أعجب الإيمان ولا هذا، قالوا يا رسول الله فنحن، نحن الصحابة ربما يكون إيماننا أعجب الإيمان، قال كيف لا تُؤمِنون وأنا بين أظهركم؟ أنا بينكم، هذه هي! كيف؟ قالوا يا رسول الله فأي الناس أعجب إيماناً؟ قال قومٌ يأتون من بعدي يجدون صحفاً فيها كلام يُؤمِنون بما فيها، نحن! الحمد لله رب العالمين، قال هؤلاء إيمانهم عجيب، لم يروا النبي ولم يتنزَّل الوحي في مُدتهم ولم… ولم… ولم…لكن يجدون صُحفاًن البخاري ومُسلِم والقرآن الكريم والطبراني وأحمد وما إلى ذلك، ويقرأون ويتأثَّرون ويبكون ويُجاهِدون، بالصُحف! نسأل الله – تبارك وتعالى – حُسن الختام. اللهم آمين.

۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۞

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ۩، لن نُعيد الكلام في تعريف التقوى، ذكرناه غير مرة وهو مطروق، لكن هنا حَقَّ تُقَاتِهِ ۩، ليس التقوى، التقوى حق التقوى، ما هي التقوى حق التقوى؟ أخرج الإمام ابن أبي حاتم – رحمة الله تعالى عليه – بإسناده عن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال التقوى حق التقوى أن يُذكَر فلا يُنسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر، وأن يُطاع فلا يُعصى، هذه التقوى حق التقوى، دائماً تُطيع الله من غير معصية قدر المُستطاع، طبعاً غير معصوم الإنسان، المعصوم مَن عصم الله، لكن قدر المُستطاع، وأن تذكره فلا تنساه، وأن تشكره فلا تكفره، هذه هي التقوى حق التقوى، رضيَ الله عن ابن عباس، هذا موقوف، أخرجه الحاكم في المُستدرَك على الصحيحين على أنه مرفوع وقال صحيح على شرطهما ولم يُخرِّجاه، والأظهر أنه موقوف وليس مرفوعاً، ما معنى الموقوف؟ ما كان من كلام الصحابي، المرفوع ما كان مُسنَداً إلى رسول الله من قوله أو فعله أو وصفه خِلقاً أو خُلقاً، كما أخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن أنس بن مالك – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال التقوى حق التقوى – كيف؟ كيف فسِّرها؟ قرأ هذه الآية – لا يتقي العبد الله حتى يخزن لسانه، وهذه كلمة عظيمة والله، أتُريد أن تعرف نفسك؟ هل بلغت درجة التقوى حق التقوى؟ انظر إلى هذا اللسان السائب، إذا كلما عن لك شيئ تكلَّمت أنت بعيد لا تزال من حق التقوى، لكن تكون قريباً منها إذا كلما عن لك شيئ أمسكت لسانك، قلت لا، هذا حرام، هذا لا يُراد به وجه الله، هذه غيبة، هذه سخرية، هذه كذا، لا أُريد، هذه شماتة، تمسك اللسان باستمرار باستمرار باستمرار، روى أبو نُعيم – رحمة الله عليه – الأصبهاني في الحلية عن أبي بكر – رضيَ الله عنه وأرضاه – أنه رُؤيَ يوماً وقد أمسك لسانه بيده، يقول آه، هذا الذي أوردني الموارد، قال هذا البلاء كله منه، ولذلك يُروى عنه أن كان يضع تحت لسانه حصاة – حصوة يضعها هكذا تحت لسانه، إذا أراد أن يتكلَّم لابد أن يفتح فمه ويُخرِج الحصوة، قصة! هذا يعني أنه لابد أن يُفكِّر، لماذا أُخرِجها؟ لابد أن أُفكِّر، هل يجب أن أتكلَّم؟ ولذلك أيها الإخوة الأفاضل والأخوات الفاضلات الطريق إلى الله لها أركان، قال العارفون المُجرِّبون الخرّيتون الخُبراء أربعة أركان، من أهمها – ما هو؟ – الصمت، ما دام الإنسان يتكلَّم كثيراً لا يُمكِن – والله أيها الإخوة أقول لكم لا يُمكِن – أن يُفكِّر حتى أن يشتم رائحة الخشوع إذا صلى أو قرأ القرآن، مُستحيل! الصمت عونٌ على الخشوع والتقوى سُبحان الله، الصمت! تكلَّم قليلاً، ومَن عد كلامه من فعله أو عمله قل كلامه، أليس كذلك؟ في الأثر مَن عد كلامه من فعله أو عمله قل كلامه، ويطول الحديث في هذه المسألة، على كل حال هذا قول أنس رضيَ الله عنه وأرضاه.

وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩، قلنا في درس سابق أيضاً كيف وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩؟ هل هذا باستطاعتنا؟ هل يُمكِن أن يُكلَّف الإنسان أن يموت مُسلِماً؟ هذا في لطف الله، نسأل الله اللطف، هذا في لطف الله لكن الآية لها معنى، لأن الله لا يُكلِّف بالمُحال، لا يُكلِّف بشيئ ليس في التوق وفي الوسع، إذن ما معنى وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩؟ حافظوا على إسلامكم وحوطوا إيمانكم باصطناع جميع الأسباب المُفضية المُوصِلة إلى ذلك، لأن العادة أن مَن عاش على شيئ مات عليه، ومَن مات على شيئ بُعِث عليه، فعياذاً بالله من خلاف ذلك.

إذن انتبه الآن وأنت شباب، ولذلك تقريباً أطبقت كلمة السادة العلماء والعارفين عند تناولهم لموضوع حُسن الخاتمة وسوء الخاتمة أن حُسن الخاتمة ونسألها – نسأل الله إياها – وسوء الخاتمة ونعوذ بالله منها – والعياذ بالله – يتوقَّفان على ماذا؟ على ما عاش عليه الإنسان، إذا كان أكثر حياتك وأكثر همومك وأكثر قلقك وانبعاثك وحركتك في شؤون دنيوية – والعياذ بالله – ربما تموت عليها، نعم! كذلك القمّاش الذي كان كله حياته وكل همه المُقيم المُقعِد هو فقط موضوع البيع والشراء والقِماش والمال والربح، كل حياته! الصلاة ليست هماً عنده، العبادة ليست هماً، المعصية ليست هماً، الطاعة ليست هماً، فقط المال وما إلى ذلك، فلما نُزِع وهو مُسلِم قيل له قل لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فكان يقول متر القِماش بأربعة دنانير، نصفه باثنين، يُقال له يا رجل، يا عبد الله قل لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فيقول  متر القِماش بأربعة دنانير، نصفه باثنين، مات وهو يقول هذا، طبعاً لأن عقله باستمرار يهتم بالدينار، هو ما عبد الله، هو عبد ماذا؟ الدينار، لكل أمة عجل وعجل أمتي الدينار، تعس عبد الدرهم، ليس عبد الله هو، عو عبد الدرهم، النبي قال هذا في الحديث الصحيح، قال تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، أي إذا شكته شوكة فلا خرجت منه، فليكن هكذا، النبي يدعو عليه بالهلكة والعياذ بالله، لماذا؟ لأنه لم يعبد الله تبارك وتعالى، عبد المال، ويأتي ويصف الصفوف والجماعات ويُصلي ويظن نفسه من عباد الله، لكن قلبه أين يجول دائماً وخاطره؟ في المال، هناك أُناس يجول قلبهم في الشهوات وفي النساء، هناك أُناس – والعياذ بالله – قلب الواحد منهم دائماً جائل في الأحقاد والغش والحسد والمكر للمُسلِمين، سُبحان الله مُسمَّم، كأن إبليس يسكن في قعر قلبه، سُبحان الله! لم يُعط فُرصة أن يُصلِح هذا القلب المريض المعلول السقيم، إبليس تمكَّن منه واستحوذ عليه، كل همه الناس، فلان وصل وفلان كذا وفلان فعل وفلان كذا وأنا لم أصل وهو وصل وكذا وكذا، يا سلام! ما شاء الله، هذا حين يموت كيف سيموت؟ صعب! نسأل الله حُسن الخاتمة، انتبه واجعل كل همك الله تبارك وتعالى، وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما كثيرون قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن جعل الهم هماً واحداً – ما الهم الواحد إذن؟ الله عز وجل، الله وما يتعلَّق بالله كالآخرة والحساب وما إلى ذلك، الله – كفاه الله هموم الدنيا جميعا، والله لن يهمك لا امتحانات ولا أموال ولا عدو ولا أولادك ولا بناتك ومُستقبَلهم ولا كذا وكذا، الله سوف يكفيك كل شيئ إن شاء الله تعالى، وسوف يُعطيك ما تُريد على طبق من ذهب، هناك أناس أغنياء، أليس كذلك؟ أغنياء جداً، ولم يصيروا أغنياء هكذا بدون مُقابِل، صحيح! تعبوا طبعاً بالحلال وبالحرام وبعضهم تعلَّم وأتى بشهادات عُليا وما إلى ذلك، المُهِم تعبوا تعباً شديداً، وماذا بعد؟ صار الواحد منهم في الستين من عمره وهو غني، أين أولاده؟ في البارات Bars، أين بناته؟ عشيقات، أين كذا وكذا؟ ضاع كل شيئ، ويلطم المسكين ويندم ويعض سبّابة الندم، ضيَّعت كل شيئ، لماذا؟ طيلة حياتك تهتم بالمال وتجميع المال، لم تهتم بتربية الأولاد والبنات، أليس كذلك؟ لم تتق الله فيهم، ضاع كل شيئ يا مسكين، لن ينفع الندم الآن، ولات حين مندم، الأصعب من هذا أنه ضيَّع نفسه أيضاً، أليس كذلك؟ صار في الستين أو السبعين، وماذا فعل؟ لا شيئ، يا ليت لا شيئ، هناك سيئات، جبال من سيئات، أليس كذلك؟ هذا إذا هداه الله وبدأ يُسائل نفسه، هذا هو الخسران المُبين، القرآن يُعبِّر عنه بماذا؟ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۩، هل فكَّرتم في هذه الآية؟ كيف الإنسان يخسر نفسه؟ أنت حين تخسر – كما قلنا – مائة يورو تُجَن، يُجَن جنونك، وهذا شيئ تافه، أنت يُمكِن أن تحصل على مليون يورو فيما بعد، فكيف إذا خسرت نفسك؟ لم تخسر لا عقلك ولا عينيك ولا صحتك ولا كبدك ولم تُصِب بمرض ولم تخسر مالك ولا حُب الناس ولا الزوجة ولا أولادك، أنت خسرت نفسك، كلمة مُخيفة هذه، أن يخسر الإنسان نفسه بالمعاصي حتى يموت ذلك، نسأل الله السلامة والتسديد، شيئ مُخيف، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ومَن تشعَّبت به الهموم – إذن الذي يجعل الهم هماً واحداً الله يكفيه، أليس كذلك؟ وترى أُناساً فقراء بُسطاء من أهل الكفاف والعفاف وتجد أنهم – سُبحان الله – أولاد مُحترَمون وبنات مُحترَمات، العائلة تمشي كالساعة، أليس كذلك؟ تقوى، عنده احترام عند الناس، هو راضٍ دائماً ومُبتسَم، طلق المُحيا وباش، راضٍ عن الله، راضٍ عن القدر، الله أكرمه، لماذا؟ لأن كان كل همه الله عز وجل، ليس عنده هم ثانٍ هو، ليس مشغولاً بغير الله، فالله كفاه، وهذا وعد، هذا وعد من الله، قال ومَن تشعَّبت به الهموم عن مَن وضع أمامه خمسين ألف هم، أليس كذلك؟ ونسيَ ربه – لا يُبالي الله في أي الأودية هلك، تخيَّلوا أن ربنا يتخلى عن عبده ويقول له اذهب في ستين داهية يا بعيد، اذهب في ستين هلكة، في أي وادٍ اذهب واهلك، ليس لي علاقة بك، مُصيبة! 

إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى                           فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ.

يضيع الإنسان! 

كانَت لِقَلبي أَهواءٌ مُفَرَّقَةٌ               فَاِستَجمَعَت مُذ رَأَتكَ العَينُ أَهوائي.

فَصارَ يَحسُدُني مَن كُنتُ أَحسُدُهُ   وَصِرتُ مَولى الوَرى مُذ صِرتُ مَولائي.

تَرَكتُ لِلناسِ دُنياهُم وَدينَهُم                       شُغلاً بِحِبِّكَ يا ديني وَدُنيائي.

انتهى قال، أنا التقيت، أنا كنت مُتشظّياً، كنت مُتقسِّماً، كنت مُتشعِّباً، كنت مُمزَّقاً إلى خمسين ألف قطعة وشظية، قال الآن اختلف الأمر، الآن استجمعت أنا، الآن صرت إنساناً سوياً مُكتمِلاً، متى؟ مُذ تعرَّفت على الله تبارك وتعالى، هذا هو، نسأل الله أن يُعرِّفنا عليه وأن يدلنا عليه، اللهم اجعل حُبك أحب الأشياء إلى قلوبنا، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا، وإذا أقررت – انظر إلى دعاء النبي المُصطفى عليه السلام، ماذا يقول؟ – أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقر عيوننا – هو كان يقول عيني طبعاً – من عبادتك، يا الله! انظر إلى هذا، يقول أقر، اجعل سعادتي وفرحي وهنائي ورضاي وكفايتي وإحسابي في ماذا؟ في عبادتك، في التوجه إليك. اللهم آمين، هذا الفوز المُبين، هذا الفوز العظيم، اللهم أعطنا من ذلك يا رب العالمين.

۞ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۞

وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۩، قيل هذه نزلت في العرب عامة، قريش والأنصار! قريش كما تعلمون كان بينهم في الجاهلية المُحارَبات والحروب الطويلة الضارية الضروس، مثل حرب البسوس التي تعرفونها وداحس والغبراء، وأما أيضاً الأنصار – الأوس والخزرج – فتعلمون أن كان بينهم حروب امتدت مائة وعشرين سنة، آخرها يوم بعاث، يوم بعاث بين الأوس والخزرج، حروب باستمرار! واليهود قد انقسموا قسمين، قسم مع الأوس وقسم مع الخزرج، فيُقال هذه الآية – وهذا أرجح وتُوجَد روايات أكثر – نزلت بصدد الأنصار بالذات، الله يقول لهم هذا.

وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۩، يا أوس ويا خزرج، إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ۩، انظروا إلى هذا، فعلاً ما أعظم هذا الدين! هل يُمكِن لأيديولوجيا أن تُؤلِّف بين الناس؟ مُستحيل، هل يُمكِن لفلسفة مُعيَّنة أو قومية ما أن تفعل هذا؟ مُستحيل! إلا الدين، إلا الدين لأنه من عند الله، لأن القلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يُؤلِّف ألَّف، وإذا شاء أن يُنفِّر نفَّر، أليس كذلك؟ يقول أبو الدرداء ليحذر امرؤٌ أن تلعنه قلوب المُؤمِنين وهو لا يشعر، انتبه ولا تظن أنك تخدع المُؤمِنين، يُمكِن أن تخدع التعبانين المُنطمِسي البصيرة، لكن المُؤمِن الصالح لا يُخدَع، لماذا إذن؟ المُؤمِن الصالح عنده قبس إلهي، لا يزن الناس ولا يُعيِّرهم بما يُبدون من ظواهر أفعالهم، لا يُمكِن أبداً! تدّعي أنك مُتخشِّع قدامه وتأتي وتُصلي بشكل جيد أمامه وتُخرِج وتتصدَّق أمامه، لكن كل هذا لا ينفع، عنده قلب لا يرتاح إلى هذا المُؤمِن، وهناك رجل آخر لا يفعل شيئاً والمُؤمِن يرتاح إليه ويذهب إليه، قلبه يهوى إليه، ليس بهوى المُؤمِن، من عند الله – عز وجل – هذا، هذا شغل ربنا تبارك وتعالى، لذلك – سُبحان الله، أُذكِّر نفسي وإخواني بهذا – دائماً دائماً دائماً خاصة في العمل الإسلامي، خاصة في الدعوة، خاصة الناس الذين يتصدَّرون الدعوة والتعليم والوعظ – دائماً – يجب أن نعرف أن هذا الموضوع ليس موضوع سياسة وليس موضوع حزبيات وليس موضوع فهلوة وليس موضوع شطارة وليس موضوع بلاغة وليس موضوع صراخ على الناس لكي تتأثَّر الناس، كل هذا كلام فارغ، شيئ واحد هو: موضوع صدق وإخلاص، رابطة حقيقية بالله، إذا الله – تبارك وتعالى – من فوق يعلم أن هذا الكلام له وأنك مُخلِص سيضع كلامك في القلوب، هو عليه البلاغ، أنت عليك القول، كيف يكون عليه البلاغ؟ يأخذ كلامك ويضعه في القلوب، يُحيي الناس به، هو! وإذا كان العكس أُقسِم بالله لن ينفع، والله العظيم تمكث مليون سنة ووالله لن يتأثَّر بك حتى أي إنسان، أليس كذلك؟ شغل ربنا، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۩، هذا من عند الله، هو الذي يُحبِّب المُؤمِنين، كيف يُحبِّبهم إذا كانوا فعلاً مُؤمِنين؟ كل مُؤمِنين صادقين يتحابان، يشعران بمودة، وربما ترى إنساناً لأول مرة فتُحِبه، كل واحد فينا حدث معه هذا، أنا أذكر أنني رأيت ناساً على هذا النحو هنا في أوروبا، والله ذات مرة كنت في سويسرا ورأيت رجلاً زنجياً من السنغال، يا أخي أحببت هذا الإنسان حُباً شديداً، شيئ لا تتخيَّله، أنا أخطب الجُمعة فيهم وما إلى ذلك فنظرت إلى هذا الإنسان وكانت عندي أُمنية أن أعتنقه، شعرت أنني أمام أحد أولياء الله، زنجي طويل أسود ووجهه يلوح نوراً، أُقسِم بالله! وبعد ذلك فعلاً بعد الصلاة جاء وسلَّم علىّ فقلت هذه فُرصة فأخذته وعانقته، قلت له أُحِبك في الله يا أخي، فقال وأنا والله أُحِبك في الله، وبكينا بتأثر، أول مرة نرى بعضنا يا أخي! وبعد ذلك سألت الإخوة عنه فقالوا هذا ولي كبير، قلت لهم ولي؟ قالوا ولي، قالوا وأبوه من كبار أولياء السنغال، قلت لأحدهم يا أخي هذا يظهر في وجه الرجل، مُستحيل! هذا ظاهر في وجه الرجل، قالوا هذا الرجل هو أحد ثلاثة هنا لدينا في جنيف نتوسَّل إلى الله بهم وبدعائهم، إذا حصلت أي مُشكِلة أو أي مرض أو أي كذا لأحد الإخوة نأتي إلى الثلاثة، نقول يا فلان ويا فلان ويا فلان ادعوا بكذا وكذا، يدعون فيذهب كل شيئ، أرأيتم كيف؟ قلت هنيئاً لكم بأمثال هؤلاء الصالحين بين ظهرانيكم، وحدَّثني أخ فاضل مغربي هناك قائلاً والله اتصل ذات مرة أخ من أمريكا عنده مُشكِلة كبيرة – لا أدري ما هي، نسيت، ربما كانت في ابنه، المُهِم مُشكِلة مرضية خطيرة وهي ميؤوس منها – وقال يا إخواني هل عندكم صالحون؟ قلنا نظن، نحسبهم والله حسيبهم، قال ادعوا لنا، والقضية كذا وكذا قال، قال بلغناهم فارتفع كل شيئ، استجاب الله، أرأيت؟ شغل ربنا هذا، ليست فهلوة وليست شطارة أبداً أبداً، وليست تمثيلاً، هذا شغل إلهي، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۩، تقوم بعمل حزبيات أو تدفع أموالاً وتُعطي مراتب ولن ينفع كل هذا، سوف يظلون يكرهون بعضهم، كل هذا نفاق، أليس كذلك؟ لكن يتدخَّل ربنا يُؤلِّف بيهم بكلمة واحدة، يقول أبو الدرداء ليخذر امرؤٌ أن تلعنه قلوب المُؤمِنين وهو لا يشعر، قالوا كيف يا صاحب رسول الله؟ قال يخلو بمحارم الله فينتهكها، فيُلقي الله بُغضه في قلوب المُؤمِنين، حين يظهر لا يُحِبه الناس الصالحون، وهو يتساءل ويُفضَح أمام الناس، يُفتضَح هذا ويقول لماذا؟ لماذا هؤلاء تغيَّروا فعلاً تجاهي؟ أنت تعرف نفسك وتعرف لماذا تغيَّروا تجاهك، هم لا يعرفون لماذا، أليس كذلك؟ هم لا يعرفون لماذا!

ذات مرة الإمام أبو القاسم الجُنيد بن محمد قدَّس الله سره – هذا شيخ الأولياء وشيخ علماء الشريعة في عصره، اسمه شيخ الطائفتين، هذا أُجمِع على جلالته من جميع الطوائف – كان جالساً في مجلسه وجاء رجل فنظر إليه هكذا وقال ما هذا السواد الذي أرى؟ ليس سواد الجلد وإنما سواد باطني، قال ما هذا السواد الذي أرى؟ فخجل هذا الرجل وخرج، بعد عشر دقائق رجع، فقال عجيب، ما رأيت سواداً زايل صاحبه بهذه السرعة! أخبرني عن شأنك، هو لا يعرف ما الذي حصل، لكنه شعر بوجود سواد فنفر منه، القلب أبعده! بعد ذلك شعر بأنه رجع طيباً، قال له يا سيدنا هذا شيئ عجيب، قال له كيف؟ حدِّثني، أمرك أنت العجيب، دخلت أسود ورجعت أبيض في لحظات، عشر دقائق تقريباً، قال له يا مولانا والله أنت كنت مُجتازاً في السوق أنا وفلان من أخواني، فمررنا على بائع فابتعت منه شيئاً بالدين، هو قال لي بالدين، لماذا بالدين؟ لأنه يعرفه أنه شيخ، هذا تَلميذ الجُنيد ويُريدون أن يُراعوه، وهذا ليس جيداً، ممنوع أن يأكل الإنسان بدينه، انتبهوا! ولذلك كان الصالحون – انظروا إلى الفرق، سُبحان الله – من أسلافنا إذا أراد أحدهم أن يمتار وأن يشتري شيئاً لأهله ماذا يفعل؟ يذهب إلى سوق بعيدة، سوق أُخرى وليس سوق المحلة الخاصة به، لماذا؟ حتى لا يُعرف فلا يُراعيه أحد، يأخذ بنفس السعر، إذا كان بخمسة يأخذه بخمسة، فيُسأل لماذا إذن؟ يقول لا أُحِب أن أشتري بديني، إذا أتيت في السوق الذي يعرفونني فيه سوف يقولون لا يا شيخنا ويا مولانا، والله لك كذا ورأس المال كذا، لكن هو لا يُريد هذا، لماذا يا أخي؟ هل أشتري بديني وأدفع ديني ثمناً للسلع؟ لا، أرأيتم كيف التقوى؟ أرأيتم الورع؟ أرأيتم المُحاسَبة؟ أرأيتم الأُفق والإخلاص الحقيقي؟ قدَّس الله أسرارهم الكريمة، فقال له أخذت بالدين، يبدو أن الرجل أُخجِل، هو لا يُحِب أن يبيع بالدين لكنه باع لأنه شيخ وما إلى ذلك فضلاً عن انه تَليمذ الجُنيد، قال فعُدنا ونقدناه ثمن السلعة، قلنا له لا، خُذ الثمن، لا نُريد هذا، قال هذا هو، في لحظة بان، أرأيتم كيف؟ مسألة ربانية يا إخواني هذه، ولذلك يتساءل المُسلِمون اليوم عن سبب تمزقهم، مثلما قال مولانا الدكتور البوطي – حفظه الله ونفع به – هذه الموضوعات هامة، أرأيتم في حياتكم داعية كبير أو عالماً يتكلَّم فيها حين يُحلِّل مشاكل المُسلِمين؟ يعتبرونه درويشاً أهبل، الكل يتكلَّم كلاماً فلسفياً وسياسياً، يُقال لأن لا يُوجَد كذا وكذا والتنظيمات والخُطة الحزبية الفلانية كذا وكذا وهذا هو السبب، لا يتكلَّم أحد بصيغة ربانية ويقول أن سبب تمزق المُسلِمين أنه لا يُوجَد إخلاص صادق، لا يُوجَد حُب لله حقيقي، أليس كذلك؟ لا يُوحَد عمل يُراد به وجه الله حقيقةً، وهذا الذي مزَّق قلوبنا، ولذلك موجود في التوراة ورواه الترمذي وعلى ما أظن ابن ماجة أيضاً أن رب العزة – تبارك وتعالى – يقول ليكونن أُناسٌ في آخر الزمان يختلون الدنيا بالدين، الدين جعلوه شبكة يصطادوا بها الدنيا، المناصب والأموال والشُهرة والسُمعة، الدين هو الشبكة! مثل شبكة الصيّادين، يقول ليكونن أُناسٌ في آخر الزمان يختلون الدنيا بالدين، ويلبسون للناس مُسُوك الضأن من اللين، حين تراهم تقول ما شاء الله، يقولون بصوت مُنخفِض السلام عليكم ورحمة الله، خاشعين خاضعين تواضعاً، كذب هذا، تواضع النفاق اسمه، الحسن البِصري قال أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل ما خشوع النفاق؟ قال يخشع البدن والقلب غير خاشع، لماذا التكلف هذا؟ يقول الواحد منهم بصوت مُنخفِض السلام عليكم ورحمة الله، تكلَّم بشكل طبيعي يا أخي، واحك بشكل طبيعي ودرِّس بشكل طبيعي واخطب بشكل طبيعي كما خلقك الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ لا تُحاوِل أن تتكلَّف في كل شيئ، إذا تكلَّمت وكأنك مُمثِّل Schauspieler لن تُؤثِّر في الناس بالتمثيل الكاذب هذا، أليس كذلك؟ تمثيل كاذب! المُهِم يقول ويلبسون للناس – الله يراهم – مُسُوك الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يقول الله – تبارك وتعالى – بي يغترون أم علىّ يجترئون؟ فبعزتي حلفت لأوتيحن أولئك فتنة تدع الحليم فيهم حيران، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله يا إخواني هذا يشعر به المُسلِمون مُنذ سنين، كل صادق – إن شاء الله – يعرف أن سبباً كبيراً من بلاء الأمة بهذا السبب، أُقسِم بالله العظيم! والأمة الآن حيرانة، يُوجَد نوع من الحيرة، لا تعرف الطريق، لأن هناك نوعاً من المُتاجَرة بالدين، نوعاً من نصب الشباك الدينية لمغانم دنيوية خسيسة قذرة، والدين أجل وأقدس من ذلك، أقدس من أي شيئ آخر في هذا العالم، أرأيت؟ يقول محمد بن كعب القرظي – قدَّس الله سره – وجدنا مصداق ذلك في كتاب الله، يقول هذا الكلام المذكور في التوراة يذكره كتاب الله، وطبعاً هذا حديث عن الرسول، وبلغه أيضاً أن هذا الكلام في التوراة، فمحمد بن كعب القرظي يقول مصداق ذلك في كتاب الله، يقول هذا الكلام صحيح وكتاب الله يذكره، قالوا أين؟ قال وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ۩، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر والعياذ بالله، وهكذا! نسأل الله التسديد والعصمة والحفظ. اللهم آمين.

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۩، كل هذا واضح.

۞ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۞

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩، لن نجلب لكم أيها الإخوة ما يُمكِن أن يُجلَب في هذا المقام من الأحاديث الحاضة الحافزة على الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر فأنتم تعرفونها أو تعرفون شطراً كبيراً منها إن شاء الله تعالى، وهي أحاديث مشهورة وموجودة في الصحيحين وفي السُنن وفي المساند وفي غيرها وفي غيرها، أحاديث كثيرة جداً جداً، لكن يكفي فقط أن نُذكِّر أيها الإخوة أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر فقط كما وردت به الآثار والأخبار الصحيحة سببٌ لماذا؟ لأن تحل نقمة الله وغضب الله – والعياذ بالله – ولكي يُفرَّق بين القلوب، تتمزَّق الأمة أيضاً، وسببٌ لمنع إجابة الدعاء، ثم يدعو صالحوكم فلا يُستجاب لكم، فقط هذا الذي نُريد أن نُذكِّر به، لن نأتي بالأحاديث، كثيرة جداً جداً، وربما نحتاج إلى نصف ساعة أو أكثر نُذكِّر ببعضها، وأنتم تعرفونها، سمعتموها أكيد من الوعّاظ ومن العلماء وقرأتموها عشرات المرات، لكن فقط إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر ماذا يحدث؟ ما ذكرت لكم، وهذا بعض ما سيحدث، ويُسلَّط علينا شِرارنا، ونسأل اليوم لماذا يا أخي الحاكم الفلاني كذا وكذا والحاكم العلاني كذا وكذا؟ لماذا لا يُوجَد حاكم صالح؟ لماذا كذا وكذا؟ الأمة أصلاً تركت الأمر والنهي، أليس كذلك؟ وبالعكس في الأمة اليوم الرجل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المُنكَر أقل ما يُقال فيه ماذا؟ أقل ما يُقال فيه إنه مُتحمِّس لا يعرف مصلحته، أقل شيئاً، هذا لو أرادوا أن يرحموه وكانوا مُؤدَّبين معه، يقولون والله مُتحمِّس كثيراً، قيلت هذه وسمعناها في أُناس، يقولون هذا الرجل مُتحمِّس، كيف هو مُتحمِّس؟ مُتحمِّس لا يعرف مصلحته، وربما يضره هذا، تغضب عليه السُلطة ويغضب عليه بعض الناس، ويُمكِن أن يغضب عليه بعض أصحاب الهيئات، يا أخي لا رضوا إلى يوم الدين، هذا أقل شيئ، وأكثر ما يُقال ما هو؟ يستحق، مُثير للشغب، مُثير للبلابل، وضع رأسه برأس السُلطان، يدّعي أنه كذا وكذا، فليذهب إلى ستين داهية، الشماتة! أليس كذلك؟ والعياذ بالله، ويلٌ لأمة يغلب فيها هذا الصوت ويعلو فيها على صوت الآمّارين النهّائين، ويلٌ والله، ولذلك هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر كما قال مولانا حُجة الإسلام الغزّالي – قدَّس الله سره – هو قطب الدين الأعظم والمُهِم الأكبر والركن الركين، أكبر قطب في الدين هذا الأمر والنهي، لأن بلا أمر وبلا نهي ما الذي يحدث؟ تنحل عُرى الدين ويضمحل سُلطانه ويُطوى بساطه، هذا هو، يُطوى بساطه ويُوشِك أن يُصبِح الدين وشرائعه وشعائره شريعةً منسوخةً تُتخَذ من وراء الناس ظهرياً أو يتخذونها من وراء ظهرياً، لذلك الأمر والنهي مُهِم جداً جداً جداً أيها الإخوة والله العظيم! ثم إن لا يُمكِن أن نُفرِّغ وأن نُبرِّئ ذممنا إلا بالأمر والنهي، هل تعرفون لماذا؟ يوم القيامة سيُحاجِجنا ويُحاقِقنا عند الله – تبارك وتعالى – أنفارٌ كثيرون بل جماعات من الناس فعلاً لو وصل إليهم الهُدى لاهتدوا، لكن لماذا لم يهتدوا وماتوا في العماية؟ لأننا لم نقم بواجب النُصح لهم وتركناهم، قال الواحد منا ما علاقتي بهذا يا أخي؟ أنا أحترم نفسي، لا أُريد هذا حتى لا تُحكى لي كلمة تُضايقني، لكن ماذا عن الأنبياء يا أخي؟ هل الأنبياء لا يحترمون أنفسهم؟ وضُرِبوا وأوذوا وبُصِق عليهم، أليس كذلك؟ ووطئوا وقُطِعَت رؤوسهم ونُشِروا بالمناشير، لابد أن تتحمَّل، هذه وظيفة الأنبياء، وصحيح الذي يتصدى لأمر الناس ونهيهم ووعظهم تصدى لأمر عظيم، صحيح! والناس لن تتركه، وسوف يتسقطون غلطاته، يُريدون أي شيئ ويُشنِّعون عليه ولن يرضوا عنه طبعاً، لأن أي واحد في هذا المكان وفي هذه المثابة لا يُماشي أهواء الناس، وأهواء الناس مُتفرِّقة، كيف تُرضي أهواء الناس جميعاً؟ مُستحيل، الذي يُرضي هذا يُسخِط هذا، فأنت اجعل وكده إرضاء الحق ولا تقطع نظرك عن مُعامَلته تبارك وتعالى، واقطع نظرك عن مُعامَلة الخلق، ولا يهمك شيئ بعد ذلك، أليس كذلك؟ هذا هو، أهم شيئ أن يرضى الله تبارك وتعالى، وهذه وظيفة الأنبياء، مَن أقامه الله فيها فقد أقامه في خير وظيفة وأجزلها أجراً وأشرفها مُقامَاً في الدنيا والآخرة إن شاء الله تبارك وتعالى.

الإمام الدهلوي أكيد تعرفونه، هذا مُؤسِّس الدعوة التبليغية، جماعة الدعوة والتبليغ، كان عالماً كبيراً ومُحدِّثاً ورجلاً صالحاً من أولياء الله، كان يرى الرسول مئات المرات، رجل صالح – صالح كثيراً – رحمة الله عليه وقدَّس الله سره، وهو مُحدِّث هندي، هذا الشيخ ذات مرة جاء بعمامته وجُبته – وهو رجل طيب هكذا وضعيف – يدعو ورآه أحد المُجرِمين، رجل مُسرِف مُجرِم! هذا المُجرِم اغتاظ، الشيطان ركبه، قال له أنت أتيت وتدّعي أنك كذا وكذا ولعن الله كذا، وظل يضرب المسكين، حل عمامته وضربه وطرحه أرضاً في الطين، كانت الأرض مُطيَّنة، فيها ماء وطين، وقع في الطين المسكين، تبهدل الشيخ وتبهدلت عمامته ورأسه، والشيخ عنده تَلاميذ بالمئات فهموا بالرجل، قال لا، اتركوه، اتركوه! هل أتينا لكي ننتقم فقط لي وما إلى ذلك؟ بعد أن فش الرجل غله – الشيطان راكبه – جاء الشيخ ولف عمامته – وعمامة المسكين الآن كلها طين ووساخة وقرف – وقال له يا أخي هل انتهى الأمر؟ هل شفيت غيظك مني؟ قال له نعم، قال له فاسمع إلى كلمة الله إذن، الرجل لم يقدر وبدأ يعظه، فالرجل جعل يبكي يبكي يبكي يبكي كالطفل، وأكب على الشيخ يُقبِّله ويستعفيه، ثم بعد ذلك أصبح من أخص تَلاميذ الشيخ، أرأيتم كيف؟ بماذا؟ بالتحمل، لابد أن تتحمَّل.

سمعت قصة أرجو أن تكون صحيحة من أخ هو يقول أنه سمعها بطرق – لا أعرف – يبدو أنها وثيقة والله أعلم، يقول عالم – أحد علماء الشام، وهو شيخ فاضل قال، لم يذكر لنا اسمه – ذهب إلى بلدة خليجية لكي يجمع تبرعات لمعهد شرعي في دمشق، دمشق الشام! أفلس هذا المعهد أو يحتاج إلى تبرعات فأراد أن يجمع له، فجاء إلى رجل مُحسِن كبير وهو خليجي معروف يُعطي العلماء وطلّاب العلم دائماً ويُحِب هذه الأشياء، لكن سُبحان الله هناك نزغات، يبدو أن هذا المُحسِن الشيطان نزغه، وهذا امتحان لهذا الشيخ الكبير، الشيخ هذا قد يكون صار له مقام عظيم عند الناس وقد يكون مشهوراً بالولاية والصلاح لكن الله يُريد أن يمتنحه كما امتحن الأنبياء، أليس كذلك؟ الأنبياء امتُحِنوا وصار لهم شيئ أكثر من هذا، فالخليجي هذا قال له ماذا تُريد أنت؟ وطبعاً المكان مليء بالعفاة وطالبي الإحسان والصدقات والتبرّعات، أُناس كبار وصغار، أي الكل! قال له والله يا سعادة الشيخ يُوجَد لدينا معهد كذا في دمشق وكذا وكذا ووضعه كذا وكذا، قال كل يوم يأتي إلى رجل يقول لي معهد، اتفوا عليك، بصق في وجه الشيخ، لا إله إلا الله، غير مُمكِن! وهذا الرجل شيخ خليجي لا يُمكِن أن يفعل هذا، هذه أول مرة! امتحان إلهي، قال له اتفوا عليك، بصق في وجهه! الناس غضبت طبعاً وحزنت، أمر لا يُحتمَل، فالشيخ مسح البصقة هكذا بيده وكظم غيظه – سوف نرى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩ – وقال نعم سعادة الشيخ، هذه لي، فإين ما لله؟ أف! فقال لك انقلب رأساً على عقب الرجل، لا أدري كيف بالضبط المشهد، لن أقدر على أن أُؤلِّف من عندي، لا أعرف كيف المشهد، هل بكى هذا الشيخ الخليجي؟ هل كذا وكذا؟ لكن المُهِم أنه اعتذر اعتذاراً مُراً شديداً من الشيخ وأعاد له اعتباره وكرامته وأعطاه العطاء الجزل، لكن انظروا إلى الابتلاءات لعباد الله، ابتلاءات تحدث لكل واحد ولكل داعية ولكل واعظ ولكل إنسان من أهل الله، لابد أن تحدث له ابتلاءات مثل هذه، وأحياناً تكون أصعب، كأن يُسلِّط الله عليك رجلاً سفيهاً غبياً، شيئ لا تتخيَّله، هكذا فجأة يقوم لك، لابد أن تنبه وتتحمَّل، النبي ابتُليَ بأشياء أكبر من هذه، أليس كذلك؟ قالوا عنه سرّاق، سرق من الغنيمة قالوا، هناك شيئ جميل حلو أخذه النبي وسرقه، ونزل القرآن يُبرّئه، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۩، ما هذا؟ النبي يسرق من الغنيمة يا مُجرِمين ويا مُنافِقين؟ ورجل آخر غبي ماذا قال له؟ اعدل قال له، ما هذه قسمة أُريد بها وجه الله يا محمد، اعدل! أرأيت كيف؟ فلابد أن تتحمَّل، فهذه هي، لابد أن تأمر وتنهى وتُؤمِن بالله، وقال  يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ۩، لماذا وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ۩؟ لأن معروف أن الذي يأمر وينهى لابد أن يُصيبه إما كلاماً وإما فعالاً، ولابد أن تصبر، لابد أن تتحمَّل، لأن في النهاية المسألة ليست مسألة هيئات ومظاهر كأن تقول أنا عالم وأنا شيخ وأنا كذا وكذا، نحن دُعاة إلى الله، نحن عبيد الله ومقصودنا – إن شاء الله – أن نُعبِّد الخلق لله، هذا الذي نُريده نحن، فلابد أن نتحمَّل في جانب الله كل شيئ مهما قيل عنا، فنسأل الله أن يُقدِرنا على ذلك.

۞ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞

وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، قيل هي عامة في كل مَن كفر وقيل هي خاصة في أهل الكتاب، والظاهر أنها في أهل الكتاب، لأن الذين جاءتهم البيّنات حقاً هم مَن؟ أهل الكتاب بالذات، كفّار مكة جاءتهم بيّنات – صحيح – من الرسول لكن كفّار الكتاب عندهم بيّنات الكتاب وبيّنات القرآن، وأنكروا كلتا البيّنتين أو كلا نوعي البيّنات، أنكروا هذا وهذا، فهم أعرقُ وأغرقُ في الكفر وأحق بهذا الوصف، لعنة الله عليهم إلى يوم الدين.

۞ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ۞ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞

قال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۩، قيل تبيض حقيقةً بنور الإيمان والعمل الصالح، وقيل لا، كناية عن القبول والإسعاد، وهكذا قيل في وَتَسْوَدُّ ۩، قيل تسود حقيقةً وقيل كناية، الله أعلم، لكن نُجريها على وجهها، لِمَ لا؟ هذا صحيح.

قال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۩ ثم قال ماذا؟ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ ۩، بدأ بالإسوداد، لماذا إذن؟ لاعتبارين، أولاً الجوار، هو قال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۩، التي اسودت أقرب، هذه مُجاوَرة إلى هذه، تفنن هذا في الكلام، أليس كذلم؟ تفنن! ثانياً لتكون البداءة بالابيضاض والختام بالابيضاض، بدأ قائلاً يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ۩ ثم ختم بقول أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ۩، افتتحنا بالابيضاض واختتمنا بالابيضاض، فنسأل الله أن يُبيِّض غُرر أعمالنا يوم القيامة وأن يُبيِّض وجوهنا وأن يُثقِّل موازيننا، هذا هو.  

فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۩، كفرتم بماذا؟ يُوجَد محذوف هنا، أي كفرتم بالله وبرُسل الله بعد إيمانكم، فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ۩.

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ۩، ما هي رحمة الله؟ الجنة، سماها رحمة، وهذا جائز، هذا مجاز شائع جداً، تسمية المحل بالحال، ما هو المحل؟ الجنة، ما الذي يحل فيها؟ رحمة الله، يُحِلها على مَن أسكنهم جناته، فسمى الجنة بما حل فيها، تسمية المحل بالحال مجاز شائع جداً في اللُغة العربية، لكن هنا لماذا؟ لماذا هذا المجاز؟ لماذا لم يقل ففي جنة الله؟ هناك آيات أُخرى كثيرة يقول فيها لَهُمْ جَنَّاتٌ ۩ ويقول فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ۩ لكن هنا قال فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ۩، لماذا؟ هذا أنسب الآن مما لو قال ففي جنة الله، انتبهوا! لكي يدل على أن السبب الرئيس وال

عتيد والأساس الذي به استحقوا أن يدخلوا هذه الجنة ليس عملهم، إنما هو ماذا؟ رحمته لا إله إلا هو، وفي الصحيحين والذي نفسي بيده لن يُدخِل أحدكم الجنةَ عملهُ، وفي لفظٍ لن يَدخُل أحدكم الجنة بعمله، يُقسِم النبي! قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا، يا الله! حتى الرسول الذي كان يعبد الله ويقف حتى تتفطَّر قدماه وتنزان الدم؟ صلاة من الرسول هذه! قيام وتجهد ودعاء وقرآن، حياته كلها عبادة وتنام عيناه ولا ينام قلبه، حتى وهو نائم يكون في ذكر واستغفار مع الله مُتصِل باستمرار، قال هذا لا ينفعني، حتى أنا – قال – لا ينفعني هذا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه، لا إله إلا الله، أرأيتم كيف؟ لكي تعرفوا قدر نعمة الله علينا، نظن أن بسبب القليل من الصلاة والقليل من الصيام والقليل من الصدقات لابد أن يُدخِلنا الجنة، لا والله، هذه فقط لأننا أطعناه، السبب الحقيقي الرحمة، وتعرفون حديث الإمام الحاكم، الحديث اللطيف العجيب في رجل من بني إسرائيل الذي عبد الله خمسمائة سنة في قمة جبل، وهذا الرجل لم يكن له نصيبٌ أو حظٌ من الدنيا أو أملٌ إلا العبادة، لم يتزوَّج ولم يُرِد أي شيئ، فأجرى الله له سري، أي عين صغيرة تجري فيشرب منها، وأنبت عنده شجرة رمان تطرح له في كل يوم رمانة، وهي لا تطرح إلا في السنة مرة، فكان يأكل الرمانة ويشرب من السري ويتعبَّد، خمسمائة سنة وهذا الرجل يقضي حياته ساجداً راكعاً داعياً مُبتهِلاً ومُناجياً، ثم طلب من الله – تبارك وتعالى – وتمنى ودعا أن يقبضه الله ساجداً فقُبِض ساجداً بعد خمسمائة سنة، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأوقف بين يدي الملك العزيز الجليل – لا إله إلا هو – يوم القيامة، فقيل له يا فلان أين تظن يُذهَب بك؟ قال الجنة، إلى أين؟ الحكاية عندي محسومة أنا، هو عابد! هذه المُشكِلة، العبادة من غير علم مُشكِلة، رضيَ الله عنه وأرضاه، قال الجنة، قيل الجنة؟ مُمتاز، سوف نرى! فطلب الله – تبارك وتعالى – أن تُوزَن أعمال خمسمائة سنة، عبادة خمسمائة سنة، عبادة كاملة! لا غيبة ولا نميمة ولا كذا وكذا، كان وحده في رأس جبل، لا تُوجَد عنده ذنوب هذا الرجل، فقط حسنات عنده، طيلة حياته كان هكذا، أليس كذلك؟ لم ير شيئاً، فقط عبادة، خمسمائة بنعمة عين واحدة من كلتا عينيه الثنتين، عين واحدة فقط وليس الثنتين حتى، فرجحت نعمة العين بعبادة خمسمائة سنة، الله قال له أرأيت؟ خذوه إلى جهنم، هيا سوقوه، فأخذوا الرجل وأُسقِط في يده وخامره اليأس، مُصيبة هذه! لم ينفع كل هذا، ذهب كل العمل، هذه عين، ويقول عبدت! كيف عبدت الله أنت؟ أنت عبدت الله بجسم الله خلقه لك وبعقلك الله أعطاك إياه وبلسان هو خلقه لك وبعين هو أعطاك إياها، كل شيئ من عنده عز وجل، إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ۩، كل هذا لله، ليس لك فضل يا مسكين أنت، قال له يا داود اشكرني، قال له يا رب لا أستطيع، قال له كيف لا تستطيع؟ قال له كيف أشكرك وأنا إذا شكرتك فإنما بفضلك ونعمتك أشكرك، أنت الذي تُيسِّر لي هذا، أنا ليس عندي شيئ، قال له الآن شكرتني يا داود، برافو – Bravo – عليك، الآن – قال له – أنت شكرتني، الآن أنت فاهم، لا تظن أنك شاطر لأنك تذكر الله وتقول خمسين مرة الحمد لله ثم تشمخ على العباد، هذا يعني أنك جاهل ولا تفهم شيئاً، كلما عبدت أكثر تواضعت أكثر ورأيت نفسك لا شيئ، وترى أنك اقتربت من النار حتى أكثر، ثم تُدرِك عظمة الله أكثر وسطوة الله وجبروت الله أيضاً أكثر ورحمة الله أكثر، على كل حال الرجل التفت في النهاية وخاف، الله قال له ماذا؟ قال له يا رب ورحمتك؟ نسيت أنا، ماذا عن الرحمة؟ لا أُريد العدل قال له، ضِعنا بالعدل، العدل ضيَّعنا، نُريد الفضل، فنسأل الله ألا يُعامِلنا بعدله، لو وضع عدله علينا لهلكنا جميعاً، نسأل الله أن يمنحنا فضله لا إله إلا هو، إنه ذو الفضل العظيم، اللهم آمين في هذا الشهر الكريم يا الله بأسمائك وصفاتك يا رب العالمين، يا رب العالمين، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين، قال نعم يا عبدي برحمتي، برحمتي تدخل الجنة، ارجع يا عبدي وادخل الجنة فنعم العبد كنت يا عبدي، قال له أنت كنت عبداً طيباً لكن عقلك فيه بعض النقص ولذلك خُدِعت في نفسك وقلت ما قلت، طبعاً المسكين عقله فيه بعض النقص، لو كان عابداً وعالماً لما وقع في الغلطة هذه، أليس كذلك؟ هناك أحاديث كثيرة عن هذا.

إذن هذا معنى فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ۩، هذا سر أنه سمى الجنة رحمة الله، لكي يُفهِمك أنك لا تدخلها فقط بعملك، انتبه! فأنت تدخلها بفضل رحمته تبارك وتعالى، فتنبَّه ولا تغتر من الآن حتى، قال فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩.

۞ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ۞

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ۩، واضحة.

۞ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۞

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۩، واضحة.

۞ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ۞

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، أي برزت وأُظهِرت وكانت، أول شيئ قال كُنتُمْ ۩، هناك سؤال حين كنا صغاراً في الابتدائية كنا نسمعه، يسأله الناس الذين ليس لهم أي علاقة بالدين، يقول قال الله وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ۩ وقال  كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ۩، قال كُنتُمْ ۩ لكن الآن لا، لكن هذا الخطاب حتى ليس لنا، هذا الخطاب للصحابة، الله قال لهم كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ۩، هذا يعني أنه حين خاطبهم لم يكونوا خير أمة، كانوا! أليس كذلك؟ هذا الكلام فارغ، (كان) في اللُغة العربية لها ثلاثة دلالات، طبعاً هنا كان هي الناقصة أو الناسخة وليست التامة بمعنى وُجِدَ، أليس كذلك؟ يُقال لك كان يومٌ شديدٌ جداً، كيف كان يومٌ؟ أي وُجِدَ يومٌ، هذا شيئ ثانٍ، هذه كان التامة، لكن هذه الناقصة الناسخة، لها اسم وخبر، اسمها مرفوع وخبرها منصوب، هذه هي، نحن نتحدَّث عن هذه، أي عن الناقصة.

كان الناقصة هذه تأتي بمعنى الأزلية، تدل على الأزلية، حين نقول وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ۩، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ۩، وكان الله خلّاقاً، ما معناها؟ أزلاً، ليس معناها أنه كان والآن توقَّف عن هذا، لا! هذا معناها، أنها تدل على الأزلية، وكان تأتي فعلاً بمعنى الشيئ الذي انقضى وكان وحصل، أليس كذلك؟ كان حربٌ أو كانت حربٌ، يجوز الاثنان! قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۩، كان حربٌ أو كانتٌ حربٌ بين فئتين عام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين، ذهب وانتهى كل شيئ، كان وانتهى هذا، هذه ليس لنا فيها كلام، وهناك كان التي تدل على التجدد والاستمرارية أيضاً لكن بحسب السياق وأنت تتفنَّن في فهم معناها، مثل هذه لكن مشروطة تكون طبعاً.

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، لماذا؟ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۩، فإذا كنتم ما زلتم  تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۩ فأنتم خير أمة إذن، ولذلك روى الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري – قدَّس الله سره – في تفسيره عن قتادة قال كان عمر في حجةٍ حجها وقد أنس من الناس سرعةً – رأى الناس مُستعجِلة في أداء المناسك، وهناك مَن يُريد أن يعود وما إلى ذلك – فقال لهم أيها الناس قال الله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ… ۩ وتلا الآية، أيها الناس مَن سرَّه أن يكون من هذه الأمةِ فليُؤد شرط الله فيها، رضيَ الله عنه وأرضاه، هذا هو، حين تأمر وتنهي وتُؤمِن تكون من خير أمة – إن شاء الله – أُخرِجت للناس، أرأيت؟ من خير جماعة أُخرِجت للناس.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال في تفسير هذه الآية موقوفاً على أبي هُريرة، قال خير الناس للناس، ما معنى خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩؟ قال خير الناس للناس، تأتون بهم والسلاسل في أعنقاهم تسحبونهم ليدخلوا الإسلام، وفي الحديث الصحيح أيضاً قال عجب ربك لأقوامٍ يُقادون إلى الجنة بالسلاسل، قال الله يُعجِبه هذا الشيئ، ما هو؟ أُناس كفّار يُحارِبون المُسلِمين، نأخذهم أسرى ونأتي بهم إلى السلاسل فيرون أخلاقنا وديننا ومُعامَلتنا فيُسلِمون ويدخلون الجنة، فانظروا إلى رحمة الله، رحمهم بماذا؟ بالحرب وبالأسر، وهذه رحمة الله، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۩، قال إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ۩، كيف هذا؟ ما معنى لطيف؟ يتلطَّف بالوسائل والأساليب الخفية الدقيقة التي لا يُدرِكها دقيق الفِكَر، لماذا؟ للوصول إلى مقصود ومُبتغاه تبارك وتعالى، هذا معنى اللطيف، فرجل قاتل كافر زنديق يُؤسَر ويدخل الجنة إن شاء الله، الله يتعجَّب من الشيئ هذا، شيئ جميل، فهنا أُبو هُريرة يقول كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ۩، قال يعني خير للناس للناس، تأتون بهم والسلاسل في أعناقهم تسحبونهم ليدخلوا في الإسلام، وهذا مروي عن ابن عباس وعن العوفي وعن الربيع بن أنس وعن مُجاهِد بن جبر وعن غيرهم، المعنى هذا كله مروي بالأسانيد، والله أعلم.

وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۩، مما هم فيه من الجحد والنُكران والتحريف والكذب على الله وعلى أنبيائهم وكُتبهم، مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ۩، مثل مَن؟ مثل عبد الله بن سلّام، أليس قد أسلم؟ وأخوه أيضاً أسلم، وزيد بن سعنة الذي ذات مرة تحدَّثنا في خُطبة عنه، الذي قال له يا محمد أعطني ديني فإنكم بني عبد المُطلِب قومٌ مُطل، أتعرفون القصة؟ وبعد ذلك جاء عمر وأراد أن يبطش به، وأسلم في النهاية، فبعضهم أسلم، وفي البخاري عن أبي هُريرة قال – عليه الصلاة وأفضل السلام، صلوا عليه وسلموا تسليماً كثيراً – لو آمن بي عشرةٌ من اليهود لما بقيَ يهوديٌ إلا آمن، عشرة! لكن يبدو – والله أعلم – أن المقصود عشرة من أحبارهم ورؤوسائهم، ليس من عامتهم وإنما من المتبوعين فيهم، والله أعلم على كلٍ.

وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ۩، لماذا لم يقل وأكثرهم الكافرون؟ مع أنه نفى الإيمان عنهم فكان المُناسِب أن يقول وأكثرهم الكافرون، هم لم يُؤمِنوا، فلماذا لم يقل هذا؟ طبعاً قلنا قبل ذلك أيها الإخوة إن كلمة الفسق معناها المعصية، عموم المعصية! فيدخل فيها معصية الشرك بالله – الكفر – وما دون ذلك حتى من صغار المعاصي، هل هذا واضح؟ فكلمة فاسق قد تُطلَق على الكافر، وتُطلَق على مَن؟ على العاصي بذنوب صغيرة أو كبيرة، هل هذا واضح؟ لكن لماذا هنا قال عنهم وهم كفّار وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ۩؟ ليدل على أن كفرهم قد حدث بسبب الخروج عن كتابهم، هم فسقوا، لأن الفسق هو الخروج، يُقال فسقت الرُطبة بمعنى خرجت من جلدها، والفويسقة هي الفأرة، وقد ذكرنا هذا في الدروس، هذا هو، فإذن كفرهم بسبب خروجهم عما في كتابهم، ولذلك: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ۩، لكن هم لم يُقيموا حتى التوراة والإنجيل ففسقوا عن كتاب ربهم فكفروا، هذا سبب كفرهم، وهذا من دقيق تعبير القرآن الكريم.

۞ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ۞

لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ۩، ما معنى لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ۩؟ هذا استثناء من أعم الأحوال كما يقول النُحاة، وهو استثناء مُتصِل، استثناء مُتصِل وليس مُنقطِعاً، لأن بعض الناس يقول لا، الأذى ليس ضرراً، لكن لا، بالعكس الأذى ضرر، وما المقصود بالأذى هنا؟ اللسان، أي أنهم لن ينالوا منكم نيلاً حقيقاً ولن يُصيبوكم بقرحٍ كبير، غاية ما هنالك أنهم يسلقونكم بألسنة حداد، يتكلَّمون عليكم، يقولون المجاذيب، الدراويش، الهُبل، والأشرار، مثلما قالوا في ابن سلّام شرنا وابن شرنا وما إلى ذلك، فدعوهم يتكلَّموا، كلام! لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ۩، فهذا استثناء من أعم الأحوال.

وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ۩، وكان هذا – الحمد لله – مع بني النضير ومع قينقاع ومع قريظة ومع خيبر، أليس كذلك؟ والنبي حين دخل عليهم في خيبر صباحاً – ما شاء الله صبَّحهم النبي – وأردف خلفه قال إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فقد ساء صباح المُنذَرين، خربت خيبر، الله أكبر! خربت بحمد الله تبارك وتعالى، والله أورث رسوله وأصحابه ديارهم.

۞ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۞

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ۩، ما معنى ضُرِبَتْ ۩؟ أي أُلزِموها، كما يُقال ضرب على عبيده الجزية، ما معنى هذا؟ ألزمهم إياها، لابد أن تدفعوا، هذا معناها، أي الإلزام أو الترسيم باللُغة الحكومية، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ ۩، فباطلهم الذِلة وظاهرهم الذِلة.

لعلي ذات مرة حدَّثتكم بشيئ غريب، حين ترى حتى صور اليهود تشعر بالذِلة وبعضهم يكونون علماء، أنا عندي كتاب عن مُذكِّرات أينشتاين Einstein نفسه وهو عالم كبير ورجل معزوز، هو عاش ومات مُكرَّماً، أليس كذلك؟ وعنده نوبل Nobel وهو من أكبر علماء العالم، يا أخي – سُبحان الله – حين ترى صوره الفوتوغرافية تجده في صورة جالساً مع عمته في ذِلة غريبة والله العظيم، الذي يقرأ الصورة فنياً كما يُقال – بعين فنية – يرى هذا الشيئ، يُوجَد نوع من الذِلة فيهم، لأنهم ذِلة باطنية، أبى الله إلا أن يُذِل مَن عصاه، الله ضربها عليهم من عنده، وأيضاً هم أذِلاء الظاهر، كيف هم أذِلاء الظاهر؟ يُسبَون ويُقتَلون وتُضرَب عليهم الجزية ويُهانون و و و و وإلى آخره، أي ليس لهم استقلال حقيقي، قل لي الآن هل اليهود عندهم استقلال حقيقي في العالم؟ عكس ما يُصوِّر لنا بعض المشايخ وبعض الخُطياء العاطفيين، ليس لهم استقلال حقيقي وهم يعرفون هذا، وإلى الآن تحديهم الأكبر ما هو؟ هم عندهم حبل سُري مع أمريكا، لو قطعته عنهم خمسة أشهر فقط وربما حتى أقل فسوف تنتهي إسرائيل بالكامل، لن يُوجَد اقتصاد ولن يُوجَد مدد، سوف تنتهي بالكامل، فلابد من حبل، لابد من مدد، لا يقفوا على رجليهم وحدهم مع أن عندهم أموال، عندهم مليارات المليارات، لكنهم لا يقدرون على أن يفعلوا فيها شيئاً، إذن لماذا؟ لأن الله قطع عرقهم، قطع الله أعراقهم، لهم كم سنة إلى الآن؟ ثلاثة آلاف سنة، وهم خمسة عشر مليوناً، الحمد لله، هكذا الله قطع عرقهم، تخيَّلوا لو أن هؤلاء كانوا مائة وخمسين مليون أو كانوا مثل أمة محمد مليون ونصف، سوف يكون من الأحسن لنا أن نسكن المريخ أو نذهب إلى أي كوكب آخر، مُستحيل أن تمشي الأرض، لكن قطع الله أعراقهم وأذلهم، وطبعاً العرب تقول العِزة للكاثر:

تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا                                                وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ.

طبعاً الإنسان حين يكون قليلاً – مهما كان كذا وكذا – يكون ذليلاً، أليس كذلك؟ في كل الأحوال، في كل الطبقات، في كل المسائل القليل المسكين يظل ذليلاً إلى أن يشاء الله أن يُكثِّره، لكن طالما بقيَ قليلاً فهو ذليل، هذه هي! ماذا قال الله؟ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۩، ما معنى أَذِلَّةٌ ۩؟ قلة، أرأيتم؟ فسمى القلة ذِلة، الله قال هذا، هذا ليس من عندنا، ليس كلامنا هذا، ليس كلام الشاعر، قال في سورة آل عمران – وسوف تأتي معنا – وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩، ما معنى وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۩؟ وأنتم قلة، ثلاثمائة وثلاثة عشر شخص كنتم، وهم كانوا من بين تسعمائة إلى ألف، أليس كذلك؟ فكنتم أذلة، ذِلة ماذا؟ هل هذه ذِلة الإيمان؟ أعوذ بالله، وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۩، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۩، فبالإيمان هم أعزاء، لكن هم أذلاء ذِلة العدد، فالقليل ذليل، هذا ليس فيه كلام، هذا مُقرَّر لُغةً وقرآناً، فهم أيضاً – بحمد الله – قلة، لم أر مَن نبَّه على هذا المعنى في المُفسِّرين، أن الذلة سببها القلة فيهم، أي في اليهود، والحمد لله هذا إلى الآن صادق، أنهم قلة قلة قلة، لا يكثرون بفضل الله تبارك وتعالى، لعنة الله عليهم، وإذا كثروا فهي كثرة نسبية، ففي قرن ما كانوا خمسة وصاروا الآن عشرة مثلاً، نسبياً هذا! لكن هم قلة بالنسبة إلى الأمم الكُبرى في العالم وأصحاب المِلل العُظمى كالمسيحيين والمُسلِمين.

أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ ۩، ما معنى أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ ۩؟ معنيان: إما أين ما وُجِدوا وهذا أرجح، لأن حتى الآن أيضاً هم من غير حرب أذلاء – بحمد الله تبارك وتعالى – ومُخوَّفون ومُفزَّعون وعندهم حمايات وأمن – Security – في كل مكان، هناك ذِلةَ! وقيل أين ما أُخِذوا، أي في الحروب، قيل ثُقِفُواْ ۩ بمعنى أُخِذوا، والقرآن يستخدمها كثيراً في الحروب، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ۩ في الأنفال، إلى آخره.

إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ۩، قيل هو العهد، العهد من الله عهد الذمة، والعهد من الله – عهد الذمة – عهد أمان، أمان، نعطيهم عهداً نحن، عهد الله! وماذا عن المُراد بقوله وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ۩؟ عهد من الناس، كيف يكون عهداً من الناس؟ الأمان الفردي، أنتم تعرفون أن النبي قال المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، في فتح مكة جاءت أم هانئ – مَن أم هانئ؟ بنت أبي طالب، أليس كذلك؟ بنت أبي طالب، أي أنها بنت عم النبي – وقالت يا رسول الله انظر إلى ابن أمي، قال لها ما له؟ تقصد مَن؟ عليّاً، تقصد عليّاً عليه السلام، قالت له انظر إلى عليّ، انظر إلى ابن أمي، يُريد أن يقتل رجلاً بعدما أجرته، سُبحان الله امرأة! رجل كافر هذا وسوف يُقتَل، النبي أباح دمه، فقال لها طنيب عليكِ، دخيل على ولاياكِ يا أم هانئ “كما يُقال”، الحقيني! قالت له أنت وصلت، عربية! انظر إلى هذه المرأة، الإسلام كرَّم المرأة، قالت له أنت في جواري، لن يقدر أحد على الاقتراب منك، فجاء عليّ وقال لها جوارك ماذا؟ أُريد أن أُنهي حياته، أُريد أن أقط رأسه، فذهبت تشكو إلى النبي، فالنبي قال لها قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، أخرجاه في الصحيحين، قال لها قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، أرأيتم؟ فهذا حبل من الناس، وهنا قد يقول لي أحدكم كيف إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ۩؟ إذا المقصود بالناس المُسلِمين سوف يكون الحبل الأمان الذي يُعطونه، لكن يُوجَد الأمان الذي لا يُعطيه إلا الخليفة، ويُوجَد أمان يُمكِن أن يُعطيه أحد الناس، وفيه تفصيل كثير موضوع أمان الناس هذا.

وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۩، ما معنى وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ ۩؟ هذه الكلمة تتكرَّر كثيراً، باؤوا… باؤوا… باؤوا… ما معنى وَبَاؤُوا ۩؟ ورجعوا، أليس كذلك؟ ورجعوا! أي ورجعوا بغضب، كيف رجعوا؟ كناية عن الاستحقاق، واستحقوا غضباً، من قولهم باء فلان بفلان، إذا استحق أن يُقتَل به نقول باء فلان بدم فلان، هو الذي باء به، استحق أن يُقتَل به، لأن هو القاتل، ثبت عليه أن هو القاتل فباء به، أي استحق أن يُقتَل هذا الفاعل، باء فلانٌ – هذا الفاعل سيُقتَل – بدم فلان، وأصلها من البوء بمعنى الرجوع، وهي كناية عن الاستحقاق، أي استحقوا الغضب.

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۩، وهذه فيها كناية، انظروا إلى هذا، قال وَضُرِبَتْ ۩، كأنها قُبة، يقول الشاعر:

إِنَّ السَّماحَةَ وَالمُروءَةَ وَالنَّدى                         في قُبَّةٍ ضُرِبَت عَلى ابنِ الحَشرَجِ.

شبَّهها كأنها قُبة ضُرِبَت، فهؤلاء – سُبحان الله – مشمولون بالذِلة والمسكنة من جميع أطرافهم، من جميع كنفاتهم، كلهم! حتى من فوقهم ذِلة، لعنة الله عليهم الأذلاء.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ۩، انتبهوا فهذا الآن غير واضح، عكس ما تتخيَّلوا، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۩، أولاً هنا لدينا إشارتان: ذَلِكَ ۩ذَلِكَ ۩… ذلك الأولى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ ۩، إشارة إلى ماذا؟ إشارة إلى السبب الذي استحقوا به أن تُضرَب عليهم الذِلة والمسكنة، لماذا ضربهم الله بهذا؟ لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق أصلاً، انتبهوا! بغير حق أصلاً لأن لا يُوجَد نبي يُقتَل بحق، أرأيتم؟ فهذا لمزيد التشيع عليهم، أي لو أنه جاز قتل نبي – ولا يجوز – بحق فهم قتلوه بغير حق، أرأيتم كيف؟ هذا مثل قوله وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ۩، وإن لم يُرِدن؟ أيضاً كله حرام، لا يُمكِن طبعاً، لا يُمكِن أن يشتغل الواحد قوّاداً والعياذ بالله، إذن ما معنى الآية؟ هذه نزلت في أُبي بن سلول لعنة الله عليه، هذه في سورة النور، رأس النفاق كان عنده فتاتان أو لديه فتاتان – أي جاريتان – ويُكرِهما على البغاء وهما تُريدان العفة، فالله قال له خرَّب الله بيتك، هما يُريدان العفة وأنت تُكرِهما؟ اخس عليك، ما أنتنك! النتن هذا ابن سلول، فهذا لمزيد التشنيع عليه، وهنا نفس الشيئ، يقتلون الأنبياء بغير حق أصلاً، الآن انتبهوا فهذا غير واضح أكثر، ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۩، إشارة إلى ماذا؟ الأرجح في ذَلِكَ بِمَا عَصَوا ۩ إنها إشارة إلى أقرب مذكور: الكفر وقتل الأنبياء، ما الذي جرَّأهم على الكفر؟ وما الذي جرَّأهم على قتل الأنبياء؟ العصيان، ومن هنا قال السادة العلماء المعاصي بريد الكفر، أرأيتم؟ مُخيفة هذه الآية بالمُناسَبة، هذه الآية من آيات التخويف في كتاب الله، وتقول لكل واحد فينا انتبه، المعصية هي بريد الكفر، إذا بدأت تعصي الله وتتساهل في المعاصي وتقول هذه صغيرة وتلك كبيرة والله سوف يغفرها يُمكِن أن تكفر في النهاية، وبنو إسرائيل هكذا كان طريقهم والعياذ بالله، بدأوا بالعصيان والعدوان وانتهوا إلى الكفر وقتل الأنبياء، أرأيتم؟ وهذا هو الأرجح في الآية، وإلا لا يُعلِّل مرتين ربنا عز وجل.

۞ لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۞

لَيْسُواْ سَوَاء ۩، إذا وقفنا عليها لا نقول سواءْ وإنما نقول سواءَ، ما معنى لَيْسُواْ سَوَاء ۩؟ قيل هذا على لُغة أكلوني البراغيث، لكن لا، هو يتحدَّث عن المذكورين، أنا أقول هذا بصراحة، لماذا لا أقوله؟ يقول هذا عنهم نفسهم، هؤلاء المذكورون لَيْسُواْ سَوَاء ۩، واضح! لماذا أكلوني البراغيث؟ إذا قطعتها عن ما قبلها تكون لُغة أكلوني البراغيث، لكن إن لم تقطعها والسياق مُتصِل – وهذا مُتصِل بلا شك، وسياق الآية مُتعلِّق بسباقها، أي بما سبقها – فليست لُغة أكلوني البراغيث أو لُغة بلحارث، ليست لُغة بلحارث.

لَيْسُواْ سَوَاء ۩، لا يستوون، ما معنى لا يستوون؟ أي ليس اليهود كلهم طبقاً واحداً، أليس كذلك؟ وطرزاً مُتحِداً، بل منهم مَن هداه الله وفاء وعاد إلى الإيمان فآمن، كما قلنا كعبد بن سلّام وزيد بن سعنة وأخي بن سلّام وهكذا، هناك جماعة منهم أسلموا وآمنوا، لَيْسُواْ سَوَاء ۩.

مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، مِّنْ ۩ واضح أنها للتبعيض، مِّنْ ۩ هنا للتبعيض، أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ ۩، ما معنى قوله آنَاء اللَّيْلِ ۩؟ ساعات الليل، جمع إنو، وفيها ربما أربعة مذاهب إلى الآن، أربعة مذاهب في جمع ماذا، لكن المشهور أنها جمع إنو، أي ساعة أو جُزء أو وهن من الليل، وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۩، إذن التلاوة هنا في حال ماذا؟ في حال الصلاة، انتبهوا! التلاوة هنا في حال الصلاة، قال يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۩، تُوجَد مُشكِلة، قد يقول لي أحدكم ولكن التلاوة في حال السجود مُحرَّمة – وهذا صحيح – وفي حال الركوع مُحرَّمة، ممنوع أن تتلو القرآن وأنت راكع، ممنوع! وممنوع أن تتلوه وأنت ساجد، فلماذا قال يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۩؟ (ملحوظة) أجاب أحد الحضور بالجواب الصحيح فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، ثم استتتلى قائلاً نحن قلنا هذا فركِّزوا معي، إذن وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۩ قلنا كناية عن الصلاة، يصير معنى الآية ماذا؟ يتلون آيات الله مُصلِين مُتهجِّدين، وأي صلاة هنا؟ التهجد، كانوا يتهجَّدون في الليل، يتلون آيات الله مُتهجِّدين، لكن لماذا لم يقل مُصلين؟ لماذا قال وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۩؟ واضح عندكم جميعاً هذا أعتقد، لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الآخر، وفي الصحيحين والسُنن والمساند وغيرها عن جماعة من أصحاب محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – قال ينزل ربنا – تبارك وتعالى – في ثُلث الليل الآخر، ويقول – تبارك وتعالى – هل من سائلٍ فأُعطيه؟ هل من مُستغفِرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ حتى ينقضي الليل، أي في السحر، تبارك وتعالى! لأن هذا وقت شريف جداً جداً، فيه أقرب ما يكون الرب من عبده.

۞ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۞

قال أيضاً – خبر عنهم بصفات أُحرى – يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ۩، يُسارِعون صيغة مُفاعَلة، تدل على ماذا صيغة المُفاعَلة؟ يُسارِعون على وزن يُفاعِلون، تدل على ماذا؟ على المُبالَغة، لم يقل يُسرِعون، كان يقدر على أن يقول يُسرِعون، مثل ويُسرِعون في الخيرات، لكنه لم يقل يُسرِعون، ماذا قال؟ وَيُسَارِعُونَ ۩، مُبالَغة! المُفاعَلة تُستفاد لأشياء كثيرة، لأغراض كثيرة المُفاعَلة، منها هنا ماذا؟ للمُبالَغة، هنا مُفاعَلة للمُبالَغة، وَيُسَارِعُونَ ۩ وليس يُسرِعون، تُوجَد مُبالَغة، أينما يرون الخير ينطلقون إليه، أينما رأوا خيراً تيمَّموه وقصدوه، يقولون سوف نفعل هذا ونفعل هذا ونفعل هذا، الآن يُوجَد مبحث آخر، لم يقل ويُسارِعون إلى، نحن نقول سارع فيه أو سارع إليه؟ سارع إليه، فعل سارع يتعدى بإلى، لماذا عداه بالفي؟ قال وَيُسَارِعُونَ فِي ۩، لماذا؟ ليدل على أنهم مُتمكِّنون في الخيرات ومشمولون فيها، أي من فوق ومن تحت وعلى الجانبين، كل حياتهم خيرات، الله أكبر! كل تهممهم، كل خواطرهم، وكل جولانهم هو في الخير، فهم مُتمكِّنون فِي الْخَيْرَاتِ ۩ أو في الخيور، لأن خيرات جمع قلة، أليس كذلك؟ وأغنى! فِي الْخَيْرَاتِ ۩.

وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ۩، الصالحون هنا بمعنى ماذا؟ الذين صلحت بواطنهم عند الله تبارك وتعالى، الله شهد لهم بالصلاح، يعرف أن بواطنهم صالحة مُستقيمة، اللهم اجعلنا منهم.

۞ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۞

قال وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۩، ما معنى فَلَن يُكْفَرُوهُ ۩؟ فلن يعدموا ثوابه وجزيل أجره، لا! كله مرصود عن الله ومذخور لهم إن شاء الله، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۩.

۞ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩، نفس الشيئ، هذه واضحة، تقدَّم مثلها.

۞ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۞

مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۩، قلنا أمس أيها الإخوة وأطلنا النفس قليلاً كل شيئ يُنفِقه الكافر حتى فيما يبدو أنه من وجوه الخير هل يُقبَل منه يوم القيامة؟ لا يُقبَل، نفس الشيئ هنا، الله يقول مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ۩، ما هو الصر؟ البرد الشديد، قريب من الصرصر، يُقال ريح صرصر، وقيل الصر الريح فيها نار تحرق، وقيل هو صوت هذا الشرر فيها، أي النار! صصصص، وهذا من عجيب تصوير القرآن الكريم، سيد قطب أستاذ في الأشياء هذه، يُحِبها كثيراً رحمة الله عليه، الشهيد قطب يُحِب هذه الأشياء ويُطوِّل فيها، يتكلَّم فيها وتبسطه كثيراً، لأن هو صاحب التصوير الفني في القرآن الكريم، فلكي تُصوِّر ماذا تقول؟ انظر إلى هذا، ريح كأن فيها رصاص: صصصص، أحسن تصوير كلمة ماذا؟ صر، كيف تلفظها أنت؟ لأن الصاد من حروف الصفير، الصاد هي هكذا، اسمها من حروف الصفير، صر! أليس كذلك؟ فالكلمة وحدها تُصوِّر لك الأثر: صصصص، تأتي الريح شديدة جداً ومُسلَّطة على الحرث، ما هو الحرث؟ الزرع، فتُحرِقه!

سواء أيها الإخوة فسَّرنا الصر بالبرد الشديد أو بالنار هذا قريب، لماذا؟ لأن البرد الشديد إذا سلَّطه الله على الحرث أحرقه، نفس الشيئ! كأنك بالنار أحرقته، يُدمِّره بالكامل، نفس الشيئ! فسواء فسَّرتها بالنار أو بالبرد الشديد نفس الشيئ!

حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ۩، بكفرهم طبعاً وعدوانهم وبغيهم، فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ۩، لأن: اللَّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ۩، وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۩، طبعاً هذه الآية فيها مُناسَبة أيها الإخوة، أنتم تعرفون أن سورة آل عمران هي سورة معركة أُحد، ومعركة بدر أين؟ في الأنفال، ومعركة حُنين أين؟ في التوبة، ومعركة الخندق أين؟ في الأحزاب، هناك سور هكذا مُختَصة بالمعارك، كل سورة تتحدَّث عن معركة، وفتح مكة – يُعَد معركة أيضاً – أين؟ في الفتح، أليس كذلك؟ وهكذا! هذه السورة هي سورة أسهبت وأوعبت في الحديث عن معركة أُحد، وقد كان سبب هذه المعركة – معركة أُحد – أن الكفّار في قريش – لعنة الله عليهم – لما هُزِموا وأُخِذوا وقُتِّلوا تقتيلاً نجت العير، عير أبي سُفيان نجت، أليس كذلك؟ القافلة بما فيها من مؤونة وحمولة نجت، فقال كُبراء قريش وأعيانهم يا أبا سُفيان ارصد هذه العير لحرب محمد وصحبه، لن نأخذ منها أي شيئ، كلها سنتبرَّع بها لوجه مَن؟ لوجه الشيطان، لكي نرجع إلى المدينة ونُحارِب محمداً وأصحابه، الله قال دعوهم، أنفقوا كل هذا، تُوجَد إشارة إلى نفقة كفّار قريش في حربهم الرسول وأصحابه في أُحد، انتبهوا! القرآن يُؤشِّر إشارات من بعيد، لأنه بعد قليل سوف يُحدِّثنا عن معركة أُحد، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۩، ويبدأ يُحدِّثنا عن معركة أحد، ففيها إشارة!

۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ۞

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ۩، ما هي البطانة؟ هل تعرفون الثوب، له ظهارة وله بطانة، هذا هو فقط! ما في الداخل اسمها بطانة وما في الخارج اسمها ظهارة، أليس كذلك؟ بطائن وظهائر! قال بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۩، قال المُفسِّرون فكيف ظهائرها؟ هل فهمتم كيف هي الآية؟ الله يقول بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۩، البطانة لا يراها أحد، لا أحد يفتخر ببطائنه ويمشي بها، أليس كذلك؟ إلا المجنون! لكن قال الله بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۩، قال المُفسِّرون – انظروا إلى هذا، عندهم عقل ذكي، لعلنا نقرأها مائة مرة ولا نتنبَّه إليها، إلا مَن فتح الله عليه، أليس كذلك؟ نقرأ فقط – إذا كانت بطائنها من استبرق فكيف بظهائرها؟ والمقصود هو الظهائر، هذا يعني أن هناك جمالاً لا يُوصَف، ولذلك الله أضرب عن ذكره، لأنه لا يُوصَف، البطائن فقط من استبرق، إذن ما هو الاستبرق؟ الحرير الخشن، السُندس حرير ناعم، الاستبرق حرير خشن، كونه خشن لا يعني أنه كالشوك، لكنه أخشن من السُندس، على كل حال الله يقول بِطَانَةً ۩، أرأينا البطانة؟ هذه كناية طبعاً، الله يقول لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً۩، هل يقصد بطانة ملابس؟ لا، ما معنى قوله بِطَانَةً ۩؟ رجالاً أوداءً، تودونهم وتُحِبونهم وتُقرِّبونهم بحيث يكونون كالبطانة للإنسان، بحيث تُطلِعونهم على أسراركم وخفاياكم ومكنونات ما يجري بينكم، الله قال لا، قال لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ۩؟ ما معنى مِّن دُونِكُمْ ۩؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور من دون المُسلِمين فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، ثم استتلى قائلاً من دون الأمة، من دون المُسلِمين، أي من غير المُسلِمين، ممنوع! ممنوع هذا، وتفضون لهم ببعض الأسرار، خشية الفتنة والتأليب علينا ومعرفة نقاط الضعف فينا، ممنوع الله قال، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه البخاري ومُسلِم من حديث عبد الله بن مسعود – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – ما بعث الله نبياً ولا استخلف خليفةً إلا جعل بطانتين، بطانةً تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانةً تأمره بالشر وتحضه عليه، قال والمعصوم مَن عصم الله، اللهم اعصمنا يا رب، قال كل رئيس، كل نبي، كل خليفة، وكل ملك إلا يكون له بطانتان، أُناس يأمرونه بالخير وما إلى ذلك وأناس يأمرونه بالشر وما إلى ذلك، وسُبحان الله هذا حتى إلى اليوم موجود، تجد في أغلب الحكومات أُناساً يغلب عليهم الطيبة، يكونون مساكين ويكون مُستضعَفين، وتشعر فيهم طيبة، وفعلاً فيما بعد يكتبون في مُذكِّراتهم وما إلى ذلك أنهم كانوا طيبين ولم يرضوا ببعض الخيانات وبعض المُعاهَدات ودفعوا أحياناً ثمناً باهظاً، هؤلاء لا يزالون موجودين، تُوجَد قلة، في عصرنا هذا هؤلاء قلة للأسف، لكنهم موجودون، النبي قال ما بعث الله نبياً ولا استخلف خليفةً إلا جعل بطانتين،  بطانةً تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانةً تأمره بالشر وتحضه عليه، قال والمعصوم مَن عصم الله.

يُروى عن سيدنا عمر بن الخطاب – هذا رواه ابن جرير – أنه قيل له يا أمير المُؤمِنين إن ها هنا غُلاماً من الحيرة – الحيرة كان فيها نصارى – مُعلَّمٌ حافظٌ كاتبٌ – أي فهلوي وشاطر، يكتب ويفهم، يفهم الحساب والأشياء هذه – فاتخذه كاتباً، قال قد اتخذت إذن من دون المُؤمِنين بطانة، أنا أتخذه؟ عمر قال أنا أتخذه؟ لا، لأن هذه مسائل تتعلَّق بالإدارة، أليس كذلك؟ وسياسة الدولة والحسابات ورأس المال، ممنوع! قال قد اتخذت إذن من دون المُؤمِنين بطانة، الله قال لا، كيف؟ انظروا الآن إلى مَن يأتي ويضع يهودياً في منصب وزير، ثم يُقال تسلَّل، لماذا؟ لماذا؟ ممنوع، وهناك مَن لم يتسلَّل، هناك دول عربية أنتم تعرفونها تقول – عيني عينك كما يُقال – أن عندها مُستشَار شؤون كذا كذا يهودي، وهم يذبحوننا في فلسطين، يهودي! لماذا يا حبيبي؟ والمُسلِمون مُؤخَّرون.

قال بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ۩، وبالمُناسَبة للفائدة اللُغوية بطانة يستوي فيها المُذكَّر والمُؤنَّث والمُثنى والمجموع، أي مجموع الذكور ومجموع الإناث، فنقول هو بطانة، هي بطانة، هما بطانة، هم بطانة، هن بطانة، لا نقول بطائن وبطانات وما إلى ذلك، كله بطانة، يستوي فيها الجميع، مثل كلمة جُنب، هو جُنب، هي جُنب، هما جُنب، هم جُنب، هن جُنب، كله جُنب، لا نقول جُنبان وأجناب وجنبات، لا! كله يستوي فيه.

بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ۩، ما معنى لاَ يَأْلُونَكُمْ ۩؟ من الألو، ما هو الألو؟ التقصير، لا يُقصِّرون، والألو قد يأتي لازماً وقد يأتي مُتعدياً، يقول أحدهم لم آل جهداً، والله أنا ما قصَّرت، يقول لم آل جهداً، هذا لازم! لم آل جهداً، ويُقال لم آلك نُصحاً، إذن وُجِدَ ماذا؟ مفعولان، لم آلك نُصحاً، فيأتي لازماً ويأتي مُتعدياً، فلم أُقصِّر في نُصحك، إذن الألو – المصدر الألو – هو ماذا؟ التقصير، الله يقول هؤلاء الذين سوف تتخذونهم بطانة من دونكم لا يُقصِّرون في السعي في مضرتكم وفي الإفساد بينكم، لا يُقصِّرون، أي يركبون كل سبب وكل وسيلة والعياذ بالله.

لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ۩، هذه إخواننا العراقيون يعرفونها أكثر منا كلنا، ما هو الخبال؟ يقولون فلان مخبل، مخبل هذا في عقله، وهذا كلام فصيح، الكلام العراقي إلى الآن فيه كلام فصيح، الخبال في أصل اللُغة ما يعرض للإنسان من اختلاط بحيث يُورِثه اختلالاً إما في عقله أو بدنه، فيُقال خُبِّل، ومنها المخبول، هذا الأصل! ثم استُعير الخبال لماذا؟ لكل فسادٍ ومضرةٍ، انتبهوا إلى هذا، فهو لا يعني فقط الجنون والمرض، لا! بعد ذلك استُعير في اللُغة لكل فسادٍ ومضرةٍ، وهذا المقصود هنا في الآية، لا يُقصِّرون في السعي في إفسادكم ومضرتكم وإيصال ذلك إليكم بكل سببٍ ووسيلةٍ وبكل طريقٍ وحيلةٍ.

لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۩، لاحت على صفحات وجوههم وفي فلتات ألسنتهم، لماذا؟ قال أبو نُعيم عن عثمان ما أسر أحد سريرة سوء إلا ردأه الله رداءها، أرأيت؟ لابد أن تظهر، مُستحيل! واحد يقول لك أنا – والله – بحبك وأنا كذا وكذا ثم لابد أن تخرج منه كلمة في لحظة فتقول أهذا الذي يُحِبني؟ يُريد أن يذبحني هذا، لا فائدة! لابد أن يخرج منه هذا، المُنافِقون يقولون نحن نُحِبكم يا مُسلِمون ونُريد الخير لكم ولمحمد وأصحاب محمد، كذّابون! وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۩، الله قال هذا لسيدنا محمد في القتال، قال له في الكلمات سوف تعرفهم وسوف تراهم، وهؤلاء نفس الشيئ، قال قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۩، كما يقول العامة الآن وما خفيَ كان أعظم، لكن برح الخفاء بكتاب الله، فضحهم وهتكهم، هتك حُجبهم، شقَّقك عنهم أستارهم، فضحهم لنا كأننا نراهم رأي العين، لعنة الله عليهم.

قال قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ۩، ماذا يُستفاد من هذه الآية؟ أن من تمام العقل معرفة الصديق من العدو، أرأيتم كم هذه الآية مُهِمة؟ فيها تربية اجتماعية، من تمام العقل التمييز بين الصديق والعدو، كيف تعرف أن هذا الإنسان عاقل أو غير عاقل؟ إذا كان عنده القدرة على أن يعرف ويميز صديقه من عدوه، أي عنده فراسة في الناس، ليس أهبل، لا يُمكِن أن يحلف أحدهم يمينين وما إلى ذلك فنُخدَع فيه، يدسون لنا جواسيس ومُخابَرات لكي نُخدَع فيهم ببساطة، العاقل الله أعطاه ما يُسمى بعقل الإيمان، عنده عقل الإيمان أو عقل التنوير الإيماني، لا يُخدَع! ربما يدّعي أنه مخدوع أمامك لكن ليس كذلك، انتبه! أنا سأُعطيكم نصيحة، احذروا المُؤمِن الصادق، والله العظيم لا يُضحَك عليه، مساكين أنتم! لماذا؟ لأن هناك مَن يظن أنه شاطر ويُحاوِل أن يضحك عليه وما إلى ذلك وهو يكون مفضوحاً عنده، أنت تكون مفضوحاً عنده ويعرفك بالكامل لكنه يُحِب أن يستر عليك لأن الله يُحِب الستر، وهو يعرف كل شيئ، هو يعرف أشياء ربما أنت لا تتخيَّلها، يعرفها بقدرة الله وبإلهام الله، أحياناً يأتيه هذا بالإلهام، أحياناً يأتيه بالمنام الصادق، أشياء لا تتخيَّلها، لأنه مُؤمِن، رجل الله هذا، ولي الله، كيف تخدعه أنت؟ أليس كذلك؟ قال لك احذر من الولي الصالح فإنه يدخل في سرك ويخرج منه وأنت لا تشعر، أليس كذلك؟ فالله قال – معنى الكلام – من تمام العقل هنا معرفة العدو من الصديق، قال قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ۩، فاعرفوا مَن هم أعداؤكم ومَن هم أصدقاؤكم، لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً ۩.

۞ هَاأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۞

بعد ذلك قال هَاأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ۩، هذه اختُلِف في تفسيرها، كيف تُحِبُّونَهُمْ ۩ إذن؟ قيل تُحِبون لهم الخير، لأنكم تدعونهم إلى الإسلام وتُجهِدون أنفسكم في ذلك بل تبخعونها أحياناً في ذلك، وهم لا يُحِبونكم لأنهم يُحِبون لكم الكفر، أليس كذلك؟ الكفر والانثناء عن هذا الدين الحق، فاختلف الحالان سُبحان الله، سُبحان مَن فرَّق، وقيل هَاأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ۩ أي المحبة العادية الطبيعية، لماذا؟ لأن مَن أحسن إليك وجاء وتودَّد إليك وأهداك وساعدك وما إلى ذلك طبيعياً أو طبعياً – إذا أردنا الصرف الصحيح – أنك تميل إليه، وفي الحديث على ضعفه – لكن معناه صحيح – اللهم لا تجعل لكافر علىّ منّة قال، لا تجعل لكافر علىّ منّةً فتجعل له بذلك في قلبي محبة، أليس كذلك؟ الإمام عليّ قال أحسِن إلى مَن شئت تكن سيده، العرب تقول الإنسان عبد الإحسان، أحسن إلى مَن شئت تكن سيده، وهذا هو فعلاً، فهذه يُمكِن أن تكون محبة طبيعية، يأتي إليك رجل مُنافِق أو رجل يهودي ويظل يتودَّد إليك ويأتي إليك بالهدايا ويُساعِدك ويحمل عنك ويبكي من أجلك وما إلى ذلك ومن ثم تُحِبه، الله قال غلط، انتبهوا، هذا ليس صحيحاً، لا يبلغ بكم حد الكفر لكن انتبهوا واحذروا، هذه المحبة أنا لا أرضاها الله يقول.

هَاأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ۩، ما معنى وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ۩؟ جنس الكتاب، انتبهوا! المُراد جنس الكتاب، تُؤمِنون بالتوراة والإنجيل والقرآن، وهم لا يُؤمِنون إلا بكتابهم، اليهود يُؤمِنون بالتوراة، النصارى يُؤمِنون بالإنجيل، ويكفرون بما وراء ذلكم، فاختلفت الحال بالكامل، أي أنكم في طريق وهم في طريق، لا يُوجَد جامع مُشترَك.

وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا ۩، نفاقاً ورياءً، أليس كذلك؟ نفاقاً ورياءً، وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۩، هذه الصورة – عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۩ – لا تكون إلا لتصوير غاية الحنق والغضب، أي حين يكون الإنسان – والعياذ بالله – في قمة الغيظ والحنق، طبعاً هل هناك عض حقيقي أم أنه تصوير فقط؟ تصوير، ليس شرطاً كلما رآوهم أن يعضوا أناملهم، لا! وطبعاً عض الأصابع يُكنى به عن ماذا أيضاً؟ (ملحوظة) أجاب أحد الحضور بالجواب الصحيح فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، ثم أجاب بدوره قائلاً عن الندامة، قال الشاعر في بيت لطيف جداً:

غيري جنى وأنا المُعذَّبُ فيكمُ                             فكأنني سبَّابةُ المُتندِّمِ.

مَن سبَّابة المُتندِّم؟ الأصبع هذه، كلما ارتكب الواحد غلطاً يضع سبَّابته ويقول ما الذي جعلني أفعل كذا وكذا؟ ما ذنب هذه المسكينة؟ هل هي التي فعلت هذا؟ أنا الذي فعلت هذا بمخك التعبان، لكنه يأتيه ويعضها، فالشاعر يقول غيري جنى وجاءت العقوبة في، أليس كذلك؟

وَجُرْمٍ جَرّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ                                  وَحَلّ بغَير جارمِه العَذابُ.

يقول الشاعر العربي:

وَجُرْمٍ – أي رُب جُرم، هذه واو رُب – جَرّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ                                   وَحَلّ بغَير جارمِه العَذابُ.

ما ذنبه هذا؟ على كل حال هذا هو، وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۩، أي في غيظ وفي حنق شديد وكره مُستحكِم والعياذ بالله منهم، قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۩، أي قل يا محمد، هنا اختُلِف في معنى قُلْ – يا محمد – مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۩، هل تتخيَّلون أن الله فعلاً أمر محمداً بأن يقول لهم تعالوا موتوا بغيظكم؟ لا! الأرجح فيها أنها دعاء، قُلْ – يا محمد – مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۩ أي ادع عليهم أن يموتوا بغيظهم، انتبهوا! هذه يقول فيها بعض علماء البلاغة المُتفننين جداً فيها كناية الكناية، هل سمعتم في حياتكم مرة بكناية الكناية؟ هذه كناية الكناية، قليل جداً في اللُغة العربية هذا، كناية الكناية! دعونا نُحلِّلها، قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۩، حين تقول لواحد مُت بغيظك ماذا تعني أنت؟ مُت بغيظك ما معناها؟ إذا كان سبب الغيظ هذا – مثلاً – كرهك لي فمُت، مُت بهذا السبب، أي بكرهك، لكن ما سبب كرهك لي؟ ما جرى علىّ من نصر وظفر وغنيمة وما إلى ذلك، فهذا صار سبب السبب، أي كناية الكناية، فكأن معناها اطمئن يا محمد وتأمَّل في نصر الله وفي الخصب وفي التأييد وفي الظفر فإن الله مُظهِر دينه ومُعلِن كلمته وناصر عبده ومُعِز جُنده، هذا معنى الآية، فلما تجد مُفسِّراً يُفسِّر لك الآية بهذه الطريقة قد تقول من أين أتوا بهذا؟ هذا كلام فارغ، لكنه ليس كلاماً فارغاً، هذا تحليل بلاغي دقيق جداً، على أن قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۩ من باب كناية الكناية، فيتضح أن هذا معنى الآية، لا إله إلا الله، عجيب!

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ۩، ما هي ذات الصدور؟ خباياها، ذات الصدور هي خبايا الصدور.

۞ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ۞

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ۩، طبعاً القرآن في آيات أُخرى كثيرة عادل بين المس والإصابة، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ۩، نفس الشيئ قال، موجود! لكن ولو، يختلف بحسب المقام المعنى، هنا لماذا نوَّع؟ قال إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ ۩، أنتم ماذا تستشعرون بالذائقة البلاغية الضعيفة التي عندنا كعرب دراويش في اللُغة؟ (ملحوظة) أجاب أحد الحضور بجواب فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إنه غير صحيح، ثم استتلى قائلاً ماذا تستشعرون؟ أيهما أثقل: المس أو الإصابة؟ الإصابة، أليس كذلك؟ فالقرآن هنا له هدف، فقال إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ – حسنة صغيرة – تَسُؤْهُمْ – أي أنهم يغتاظون – وَإِن تُصِبْكُمْ – مُصيبة كبيرة تأتي على رؤوسكم – يَفْرَحُواْ بِهَا ۩، فيتمنون لكم كُبرى المصائب ويكرهون لكم صغار الحسنات، لعنة الله عليهم، هذا هو!

الآن – سُبحان الله، يا سُبحان مَن أنزل هذا الكلام – والله العظيم أمة محمد تُعاني من هذا الشيئ، أُقسِم بالله! يذهبون وراء أمريكا ويقولون لهم يا أمريكا كذا وكذا، يا أخي أعداؤكم هؤلاء، والله هم أعداؤكم، والله العظيم لا يُحِبون لنا أدنى ذرة خير، أُقسِم بالله! ويأتمرون علينا ليل نهار، وهنا قد يقول لي أحدكم يا أخي هذه موزانات سياسية، هذه موازين القوى، اختلف العصر، بماذا تتكلَّم؟ هل أنت درويش يا شيخ؟ لست درويشاً، بالعكس هذه ليست دروشة، الدروشة أن تترك الأمة الإسلامية، مد الجسور مع أمتك الإسلامية، أليس كذلك؟ لا نُريد الشرق والغرب، نحن مع الأمة، عندك أمة من مليار ونصف مُسلِم، اعمل سوقاً إسلامية مُشترَكة واعمل كذا وكذا، سوف تقول لا، هذا صعب، لكن كل شيئ يبدأ صغيراً وينتهي كبيراً، بالتدريج! أليس كذلك؟ ما المُشكِلة؟ حاول! يا سيدي الدول العربية كل المُبادَلات التجارية التي بينها تصل إلى عشرة في المائة، ومع الآخرين تصل إلى تسعين في المائة، فلماذا يا أخي؟ مَن الذي ضربكم على أيديكم؟ اشتغلوا مع بعضكم البعض، تاجروا مع بعضكم البعض، افتحوا الحدود، ارفعوا الجمارك، اعملوا تعريفة جديدة، ساعدوا بعضكم يا أخي والله سوف يُساعِدكم، لكن – سُبحان الله – حكّامنا هؤلاء مُنافِقون، لا يُريدون! تركوا كل شيئ وقالوا ليس لنا إلا الأم الرؤوم والإله الكبير الكافر أو إله الكفر والظلم أمريكا، دعوهم! والله لن تروا خيراً من أمريكا، قسماً بالله! ها هي بعد أن فعلت كل شيئ تُهدِّدهم بأنها ستُقيمهم عن مناصبهم، كانوا عبيداً لأمريكا وتُريد أن تُقيمهم عن مناصب أيضاً، دعوهم! لا أقامهم الله، هل نحن ندعو لهم؟ لا أقامهم الله.

قال وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ ۩: تَصْبِرُواْ ۩ على آذاهم وَتَتَّقُواْ ۩ الله، أي تتقوا محارم الله وغضب الله بسبب ارتكاب محارمه والعدوان على حدوده، لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۩، هل تعرفون ما معنى كلمة الكيد في الأصل؟ ما معناها؟ المشقة، وما أعظم هذه اللُغة! تعني المشقة والتعب كلمة كيد في الأصل، ومنه تكاءده، تسمعونها كثيراً، أقول لا يتكاءده شيئ وتكاءدني ذنبي، مشقة! شق علىّ، لماذا؟ لأن فعلاً المكيود والمغيظ المُحنَق – سُبحان الله – في عذاب، ويظل المسكين يُفكِّر، يترك كل شيئ ويُتعِب نفسه ويحمل جبلاً على قلبه، لأنه مكيود، يُريد أن يكيد الناس الطيبين فيُكاد، يظل في مشقة، فأكاد الله أمريكا – إن شاء الله – في الدنيا والآخرة واليهود، يتعبون أنفسهم! وإن شاء الله تدميرهم في تدبيرهم، ألم يُدبِّروا للعراق؟ الحمد لله فعلاً جاء تدميرهم في تدبيرهم والله، عظيم جداً الذي وقع للأمة هذه، والله عظيم! نحن رأيناه شراً واتضح أنه خير، بل هو خيرٌ لنا، سوف تكون نهايتها – إن شاء الله – في هذا المُستنقَع العراقي إن شاء الله، جعل الله تدميرهم في تدبيرهم، لا يعرفون كيف يخرجون من هذه الورطة.

إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ۩، نكتفي بهذا وقد تعبنا، لأننا الآن لابد أن ندخل في معركة أُحد:

۞ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۞

لكن سوف نُعطيكم مُقدَّمة في دقيقتين عن معركة أُحد لكي نُفصِّل غداً الآيات، لن نحكي سياق معركة أُحد، لماذا؟ سنترك أنفسنا هذه المرة مع السياق القرآني الكريم، نُريد أن نرى كيف يحكي القرآن لنا معركة أُحد ووقائعها ومجارياتها شيئاً فشيئاً، القرآن وحده! لكن هناك مُقدَّمة القرآن لم يحكها عن مُعركة أُحد، فبنا أن نحكيها، أي جدير بنا وحقيق بنا أن نحكيها، هذا معنى فبنا أن نحكيها، ما هي؟ تعلمون أيها الإخوة أن في السنة الثانية من الهجرة وقعت معركة بدر، متى وقعت؟ كلكم تعرفون هذا وهو سهل جداً، في السابع عشر وقيل في الخامس عشر من رمضان، يوم الفرقان! هذا مُهِم لكي نعرف لماذا يتكلَّمون كل سنة في رمضان عن بدر، يوم الفرقان! والحمد لله نصر الله نبيه وأعلى كلمته وأعز جُنده إعزازاً ما بعده إعزاز، أعظم معركة في تاريخ الإسلام إلى اليوم بدر – سُبحان الله – كانت، ولذلك نزلت فيها الملائكة، الملائكة حاربت فيها، قيل ألف وقيل ثلاثة وقيل خمسة وقيل كله، غداً سوف نرى الكلام هذا وننظر فيه، لأن هذه إشكاليات، هذه الآيات مع سورة الأنفال فيها إشكال كبير يتعلَّق بالإمداد بالملائكة، لا علينا من هذا الآن، كما قلنا العير نجت – عير أبي سُفيان نجت – فقريش انحطت كلمتهم على أن يُنفِقوا كل هذه العير وما فيها لحرب محمد وحزبه في المدينة، وفعلاً جاءوا – لعنة الله عليهم – بقضهم وقضيضهم في كم؟ ثلاثة آلاف، في بدر كانوا ما بين التسعمائة والألف، المرة هذه كانوا ثلاثة آلاف، ضاعفوا أنفسهم ثلاثة أضعاف لعنة الله عليهم، ثلاثة أضعاف! فجاءوا في ثلاثة آلاف وطبعاً يحدوهم الكبر والخُيلاء والفخر الكاذب والعياذ بالله، أعني أبا سُفيان والجماعة هؤلاء، علماً بأن أبا جهل مات في بدر، فهؤلاء جاءوا في ثلاثة آلاف ونزلوا قُرب المدينة، في وادٍ هناك نزلوا، النبي – عليه السلام – صلى الجُمعة – كان يوم جُمعة، لأن أُحداً كانت في السنة الثالثة في شوال، كانت في شوال في السنة الثالثة من الهجرة، فهذا يوم جُمعة والنبي كان يُصلي الجُمعة – وبعد أن صلى أقبل على الناس، بأبي وأمي هو، انظروا إلى التواضع، فهو كان يستشير، لم يقل لهم أنا القائد وأنا رئيس الدولة وأنا السُلطة العُليا وأنا نبي يُوحى إلىّ وما إلى ذلك فهيا إلى كذا، لا! يُريد أن يستشير ويعرف رأي الأمة، ثم يُقال الشورى مُعلِمة وليست مُلزِمة، كيف؟ ها هو النبي يستشير في شيئ خطير جداً جداً وجر على المُسلِمين على الأقل هزيمة، فقال لهم ماذا ترون؟ لكن أنا – النبي يقول لهم – رأيت رؤيا، سُبحان الله رأيت رؤيا! رأيت كأن – قال لهم – بقراً تُذبَح، ورأيت ثلماً في سيفي، ورأيت يدي وقد أُدخِلت في درع حصينة فأوَّلتها المدينة، البقرة التي تُذبَح بماذا أوَّلها النبي؟ أُناس من أصحابه يُستشهَدون، وماذا عن الثلم الذي في سيفه؟ واحد قريب جداً وعزيز عليه سوف يُستشهَد، وكان حمزة، قال ورأيت يدي وقد أُدخِلت في درع حصينة، بماذا أوَّلها وهو سيد المُؤوِّلين والمُعبِّرين؟ بالمدينة، بأنها مُحصَّنة – بعون الله – ولن تُدخَل، الرؤيا – سُبحان الله – فيها رموز وكلها تحقَّقتم وتعلمون كيف، سوف نرى هذا – إن شاء الله – غداً أو بعد غد على كل حال، فهو قال لهم الكلام هذا، فأنا أرى – سُبحان الله النبي قال لهم رأيه – أن نبقى في المدينة، نتحصَّن فيها ولا نخرج إليهم، لماذا؟ التاريخ يقول هذا، انظروا إلى النبي، هذا يعني أنه يستنطق عبرة التاريخ ويستشير درسه، قال لهم فما غزاها أحد إلا هُزِم وما خرج أهلها منها إلا غُلِبوا، قبلكم كان الأنصار، أي الأوس والخزرج، فأحسن شيئاً أن نظل في الداخل، ووافق على هذا الرأي مَن؟ رأس النفاق، طبعاً هو لا يُحِب القتال، ليس لأنه حكيم وما إلى ذلك ولكن لأنه لا يُحِب القتال، عبد الله بن أُبي بن سلول – لعنة الله – عليه – قال له أنا أرى هذا الرأي وعاد كلام النبي، يزعجك أن بعض الكتّاب – كتّاب السيرة – يذكرون هذا الرأي على أنه رأي ابن سلول، يا أخي هل هذا الهلفوت – كما يُقال – له رأي؟ هذا رأي النبي يا أخي وهو موجود في السير، قرأت هذا الشيئ في كُتب لبعض الكتّاب  فأزعجني، قالوا ورأى ابن سلول! كيف رأى ابن سلول؟ هذا رأي النبي، النبي قاله أولاً ثم ابن سلول ثنى عليه، أليس كذلك؟ فلابد أن نضع الأشياء في مواضيعها، فابن سلول وافق على الرأي هذا وقال سوف نظل هنا وهذا المطلوب وهو أحسن وما إلى ذلك، مَن الذين لم يقبلوا بهذا الرأي؟ جماعة من الشباب حامية صدورهم لم يشهدوا شرف القتال والجهاد في بدر، كانوا صغاراً، الآن شبوا وقالوا لا يا رسول الله، نخرج إليهم، لا يرون أننا جبنا وضعفنا عن لقائهم، أي أنهم بعد ذلك سوف يظنون أننا ضعفاء، انظروا إلى الشباب، موازينهم غير موازيننا، لكن النبي عنده تفكير استراتيجي فعلاً، رجل سياسي وعسكري، فلما كاثروهم – مَن الذين كاثروا مَن؟ هؤلاء الشباب كانوا أكثر من الفئة الثانية – سكت النبي ودخل البيت وأخذ لأمته، ما معنى اللأمة هنا؟ عُدة الحرب، لبس الخوذة وظاهر بين درعين، ما معنى وظاهر بين درعين؟ لبس درعين النبي، وهنا قد يقول أحدكم هل النبي يخاف من الموت؟ لا، هذه أسباب، يُعلِّمنا الأخذ بالأسباب، أليس كذلك؟ ولذلك لما تكلَّم علماؤنا والعارفون عن موضوع الأسباب قالوا ها هو النبي فعل كذا وكذا وكذا وظاهر في أُحد بين درعين، لابد من الأخذ بالأسباب يا أخي، لبس درعين النبي حتى لا يُوصَل إلى مقتل منه عليه الصلاة وأفضل السلام، ظاهر بين درعين وخرج، فالشباب ندموا طبعاً، شعروا بأنهم استكرهوا النبي، نعم هو يأخذ بالشورى ويحترم الشورى ورأي الأغلبية لكن لم يكن هذا رأيه، ويا أخي حري بالنبي أن يُتبَع حقيقةً، وهم شباب مُتعطشِّين – ما شاء الله – للجهاد، فالباعث شريف، الباعث شريف بلا شك، لا كلام في هذا، لا يُوجَد تنقيد عليهم رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

المُهِم قالوا يا رسول الله لعلنا استكرهناك، فإن شيئت قعدنا ولم نخرج إليهم، قال ما كان لنبيٍ أن يضع لأمته بعد إذ أخذها حتى يُقاتِل، لبست وانتهى الأمر، هذه سُنة إلهية، إذا النبي عليه السلام – أي نبي، ليس نبياً فقط وإنما أي نبي – لبس عُدة القتال ينتهي الأمر، هو القتال، لا إله إلا الله! وهنا كانت البداية، غداً سوف نُوفي، سوف نبدأ في:

۞ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ۞

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: