محاضرة الهموم الأسرية…مداخل جديدة للنظر والعلاج

video

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما يُحِب ربنا ويرضى، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً، اللهم آمين.

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في الحقيقة أحببت أيها الإخوة أن نتناقش حول موضوع خُطبة أمس https://bit.ly/3vT9C2L، موضوع في نظري حسّاس ومُهِم، وليس عاجلاً، هو راهن دائماً، هذا الموضوع له راهنية دائمة! ضرورة النقاش حول بعض ما ورد في الخُطبة مُبرِّرها الأول أن بعض ما ورد فيها قد لا يكون وضح على وجه سليم عند بعض الناس، ربما بعض الناس فهم بعض الأشياء التي وردت في الخُطبة على نحو غير صحيح، ثم – المُبرِّر الثاني – طبعاً هي – كما قلت – خُطبة تحتاج إلى ما يُكمِلها، على الأقل لابد من خُطبة ثانية، هذا موضوع قطعي، ولكن أيضاً هي فتحت أبواباً أو أشرعت أبواباً على موضوعات كثيرة جداً، تحتاج إلى أن نُعمِّق فيها فهمنا، إلى أن نتبادل حولها الآراء أيضاً والخبرات والتجارب والقراءات.

أنا سأبدأ من عندي أيها الإخوة فقط لكي أُزيح أو أُميط اللثام عن فكرة ربما بدت غير واضحة لدى بعض الناس، بعض الناس يُمكِن أن يفهم أن بعض ما ورد في الخُطبة قد يكون دعوة إلى التساهل مع السلوكات الخاطئة، مهما كانت هذه السلوكات مُستفظَعة أو مُستبشَعة – مثَّلنا أمس حتى بالفاحشة، واستشهدنا بآيات من القرآن – وهذا غير صحيح، وبالعكس نحن قلنا هذه الأفكار وهذه المفاهيم دعوة إلى ألا تُدمِّرنا الأخطاء، دعوة إلى ألا تُدمِّر أولادنا أيضاً المعاصي والفواحش، لأنها تفعل هذا للأسف، هناك مَن يُدمَّر، طبعاً يحدث الاستنكار الشديد جداً والذي يصل إلى حد التبرئة والبراءة واللعن، وطبعاً من الجهة المُقابِلة يصل – والعياذ بالله – أحياناً إلى حد استدعاء الشرطة أيضاً والفرار من البيت، خراب! خراب ودمار وكوارث للأسف الشديد.

نحن – بالعكس – غايتنا أن نتعامل معها بطريقة قرآنية حسبما وضَّحنا، بحيث لا تُدمِّرنا إن شاء الله تبارك وتعالى، بالعكس! يُمكِن أن نهتبلها فُرصة أو أن نُحوِّلها إلى فُرصة للتعلم والتكامل والنضج، سأُوضِّح هذه الفكرة ثم أترك الباب بعد ذلك مفتوحاً لتبادل الآراء حول موضوعات كثيرة مما وردت في الخُطبة.

أولاً تقريباً مُهِم ما تُوصَّلنا إليه أن التصور القرآني للخطأ والخطيئة والمعصية ليس كالتصور الديني السائد، هذا وضح بشكل أعتقد جلي تماماً، أعجب ما هنالك أن ارتكاب الخطأ حتى وإن تدلى إلى مُستوى الفُحش أو الفاحشة لا يُنافي التقوى، بعض الناس يعتبر أنه إذا ارتكب فاحشة وتاب إلى الله توبةً نصوحةً فإنه من الصعب جداً أن يعود ليُسجَّل في ديوان المُتقين، انتهى! هذا مُؤمِن عاصٍ، مُؤمِن تالف، مُؤمِن عاثر، ولكن هو لا يحلم أن يعود، بالعكس! الآيات تقول عكس هذا تماماً، لم تنزع عنهم صفة أو عنوان التقوى مع أنهم قد يتورَّطون في احتقاب بعض الفواحش والمظالم والعياذ بالله، لكنهم يُسارِعون إلى التوبة ولا يُصِرون، وهذا له علاقة أيضاً بفلسفة التوبة، ولذلك فعلاً كما قال الصدّيق فيما يُنسَب إليه – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، أي كبيرة مع الاستغفار والتوبة الصادقة تُمحا بإذن الله تعالى، إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩.

رأينا أن هذا لا يتناقض حتى مع اصطفاء الله للعبد، حتى الظالم لنفسه الذي – كما فسَّروه – لا يُصلي – الظالم لنفسه لا يُصلي وربما لا يصوم ولا يحج ولا يُزكي، لكنه مُوحِّد وعنده الوجهة السليمة وعقيدته سليمة – من الأمة المُصطفاة، وهذا شيئ غريب جداً، فهل تُريد تسامحاً أكثر من هذا؟ يُتهَم الإسلام خاصة عند الغربيين المسيحيين بأنه دين مُتشدِّد جداً ويُقال إن موقفه مُتشدِّد مع الخطأ والخطيئة، يبدو أن هذه الآيات تُجيب عن هذا الاتهام الباطل، بالعكس! هو غير مُتشدِّد بالمرة، مُتسامِح إلى أبعد حدود التسامح، لكنه دائماً يدعو ويحفز ويُحرِّك الهمم إلى أن يُقيل المرء نفسه عثرته، إذا عثرت لا تبق عالقاً في الفخ، قم واستئنف، انتهى! إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩، يقبل التوبة من أي ذنب حتى لو كان شركاً وكفراً وتجديفاً، المُهِم ألا تعلق في الفخ، بعض الناس يعلق ويلج به العثار، للأسف يبدو أن المفاهيم السائدة أيضاً والتعامل السائد مع هذا الإنسان ليس صحيحاً، يُقال هذا – والعياذ بالله – كذا وكذا، هذا الرجل كذا وكذا، هذا فعل كذا وكذا، هذا الذي فعل كذا وكذا، هذه التي فعلت كذا وكذا، وللأسف ينتهي مُستقبَلها، النبي قال لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، وقد حُدَّ في حد من حدود الله، قال لا، لماذا؟ لماذا تقولون هذا الكلام؟ الرجل الذي أيضاً أُقيم عليه الحد ورُجِم لما أصاب خالداً – رضيَ الله عنه وأرضاه – شيئ من دمه لعنه، النبي قال لا تلعنه، فقد تاب توبة لو قُسِمت على أهل كذا لوسعتهم، وكذلك المرأة المخزومية أيضاً والحديث في مُسلِم، وكذلك أيضاً حمار كما في البخاري، الذي كان يُعزَّر في الخمر وليس يُحَد، في الحقيقة لم يكن هناك حد فكان يُعزَّر، تعزير! يُضرَب وما إلى ذلك، فالنبي قال لا أعلم إلا أنه يُحِب الله ورسوله، انظر إلى هذا، أسلوب النبي يختلف تماماً، النبي كان يتعاطف مع هؤلاء الخُطاة والخاطئات، يتعاطف معهم، بالعكس! يقول ينتظرهم – حتى وإن ماتوا في حد لله – مُستقبَل أبدي مُشرِق، ولك أن تتصوَّر هذا، في بحبوحة قال، عن هزال قال هو الآن في بحبوحة في الجنة، الله أكبر! أي بسبب هذا الحد الله طهَّره، رباه وبلغ به هذا الحد الذي جاء بعد توبة أكثر مما تبلغ به كل أعماله.

هذا المنطق لم نلتقطه جيداً، لماذا؟ هذا يحتاج إلى تحليل نفسي وتربوي واجتماعي، هل نحن أمة فعلاً أدمنت القسوة وأدمنت إسلاف واستسلاف الأحكام؟ لأن دائماً الأحكام عندنا جاهزة، فقط نحتاج أن يُخطئ الإنسان لكي نُصدِر عليه حُكماً عاماً بالإعدام الأدبي، لكن يا أخي هذا الرجل أحسن، أحسن في عشر سنين، التزم بالطاعة في عشرين سنة، ثم أخطأ الآن وعثر، ليس معصوماً، فهل الأمر انتهى؟ هل أنهيته وأنهيت إحسانه؟ الله لا يفعل ذلك، كل شيئ عند الله بقدر وفي الميزان سُبحانه وتعالى.

الأغرب من هذا الحديث الصحيح الذي قال فيه لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يُخطئون أو يُذنِبون فيستغفرون فيغفر لهم، ما معنى هذا الحديث؟ من أي زاوية يُمكِن أن ننظر إلى هذا الحديث؟ من أي زاوية؟ بعض الناس ينظر إليه من زاوية أن الله – تبارك وتعالى – رحيم، وهذا صحيح بلا شك، رحيم ويقبل دائماً توبة عبده، بعضهم ينظر إليه من زاوية أن الإنسان لم يُعَد ولم يُخلَق لكي يكون ملكاً مثلاً، وهذا صحيح، لكن الزاوية الأعجب والتي لا نغفل عنها وننظر إلى الحديث من خلالها ما هي؟ زاوية أن الله – تبارك وتعالى – يعلم أن هذا الإنسان لا يتكامل ولا ينضج إلا عبر التجربة، الصواب والخطأً! وكما قلت الصواب الذي وضعك على سكته أبوك وأمك، بتعبيري هم وضعاك على سكة حديدهم، يجب أن تقطع نفس المشوار الذي قطعاه مع أنك لست في نفس الزمان، لست في نفس الظروف، لست في نفس الشروط، ولست هما! أنت كائن مُختلِف، لكنهما أرادا أن تكون صورة مُشوَّهة منهما، هذه تربية فاشلة، صحيح – كما قلت – بعض هؤلاء الناس نرى أنه لم يُذنِب، لم يُخطئ في حق الله وفي حق الناس، إنسان وادع بسيط وما إلى ذلك، لكنه بُبعد واحد، مُسطَّح جداً جداً جداً، حتى لا يستطيع أن يتحدَّث عن معنى تكامل الإنسان، المسكين ليس عنده كمالات ذاتية أبداً، هو مُسلِم عادي بسيط جداً جداً جداً، يقوم بالفروض وما إلى ذلك فقط، انتهى! ليس عنده حتى طموح لأنه لا يفهم، مُستحيل أن تفهم معنى التكامل إلا بالمُعاناة، إلا بالمُعاناة الذاتية! مُعاناة حتى القوى، مُعاناة الضرورات، مُعاناة الغرائز، ومُعاناة الشهوات، لابد وأن تُعاني، لابد وأن تُعاني من هذا وأن تنجح في الامتحان وأن تجتازه وأن تعثر أيضاً وأن تقوم، لابد! وإلا لن تفهم، وسوف تبقى مُسطَّحاً، آفاقك ضيقة جداً جداً، قواك بقيت كامنة، لم تخرج إلى الفعل، بقيت كامنة! سُبحان الله، مثل كِم لم يتفتَّح لكي يكون زهرة، انتهى! بقيَ كماً، بقيَ كِماً ولم يتفتَّح، ما الفائدة؟ أشعر بهذا إزاء أُناس كثيرين، أُقسِم بالله! الواحد منهم يكون في الأربعين أو في الخمسين أو في الستين من عمره، وهو إنسان مُحترَم، تتمنى أن يكون عندك وداعته واحترامه، لكن تشعر بأنه بسيط وبسيط إلى درجة تدعو إلى الرثاء، بسيط جداً! ولا يستوعب حتى أي حديث، مثل هذا الحديث لا يستوعبه ولا يعنيه أن يستوعبه ولا يهمه أصلاً، هو يهمه أن يبقى كذلك، للأسف بقيَ إنساناً غير ناضج وبسيطاً، نحن جنينا عليه بما يُعرَف بالتربية، أي تربية هنا؟ ليست هذه التربية، والإسلام لا يقول إن هذه التربية.

إذن الله – تبارك وتعالى – يعلم أن هذا الخليفة لا ينضج إلا عبر التجربة، عبر الصواب والخطأ، يُريد هذا له، سيدنا عمر قال مَن لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام، كأنه يقول – كما قلت أمس – أفدح الأشياء ثمناً هو ما تأخذه بغير ثمن، أليس كذلك؟ هذا شيئ أخذته من غير أن تدفع فيه، قيل لك إن هذا هو الطريق وهذه هي السكة، ثم ماذا بعد؟ ماذا عني أنا؟ وماذا عن طريقي الخاص؟ لا يُوجَد، لم يُسمَح لي، لم يسمح لي المُجتمَع الضيق الأفق ولا الوالدان الحازمان اللذان يستظهران بكل قوى المُجتمَع وتقاليده وعاداته وما إلى ذلك، لم يسمحا وبقيت هكذا، كما قلت لم أتفتَّح!

هذا المنظور مُهِم جداً جداً أن نتوسَّله عندما ننظر إلى أخطاء أولادنا، حتى لا نُدمِّرهم، حتى لا نُشعِرهم بأنهم مبغوضون، أنهم مكروهون، أنهم فاشلون، أنهم خذلونا، أنهم مخذولون، لا! بالعكس يا أخي، طبعاً في نفس الوقت لن أقول لأحدهم برافو Bravo، هذا عمل طيب، بالعكس! سوف أُظهِر له حُزني وغضبي من هذا السلوك، وأن هذا يُغضِب الله – تبارك وتعالى – أيضاً، وأن هذا السلوك غير مُشرِّف وغير طيب، لكن – انتبه – فرق بين أن أشجب السلوك وأن أشجب السالك، الشخصية! فرق كبير جداً جداً، حتى مع الطفل الصغير دائماً انتبه، وذكرنا هذا في دروسنا عن تربية الأبناء العلمية، ألقينا دروساً في تربية الأبناء أو الأولاد عموماً.

طبعاً أي سلوك خاطئ لابد أن يُشجَب، لابد من هذا وإلا سيُصبِح عند الطفل استواء أو استقرار في الأمور، مُستحيل! أي ستختلط عنده الأمور، سيُصبِح عنده الصح مثل الغلط، لا! لابد أن يُشجَب، ولابد أن يرى غضبنا وحُزننا، ولكن في نفس الوقت عليه أن يكون مُوقِناً بحرصنا وحُبنا له، نُحِبه! لم نعد مُبغِضين ماقتين له، بالعكس! نحن نُحِبه ولكننا نكره السلوك، إذن فرق كبير بين أن تُحِب سلك ابنك أو تكرهه وبين أن تكره أو تُحِب ابنك أو ولدك، الحُب هذا مطلوب دائماً.

في الحقيقة هذه مسألة لا تحتاج إلى برهان، لماذا؟ لأنها مسألة غرزية، لا يحتاج أب أن أقول له لابد أن تحتفظ بحُبك، لأنه يحتفظ به، حتى وإن فعل ابنه ما فعل، حتى وإن ذهب به ابنه إلى السجن، سيلعنه وسيطلب لعنه والتأمين وقلبه يقول لا أمين، قلبه يُحِبه، مُستحيل! وهذا معروف، بالذات في الآباء، يُمكِن للابن أن يُبغِض أباه للأسف، لكن من الصعب جداً للأب أن يُبغِض أولاده أو الأم، أتعس لحظات الأب وأتعس لحظات تمر بها أمر هي أن ترى أولادها أشقياء وتعساء، هذا شيئ لا يُوصَف، لا يُوصَف إطلاقاً! هذا قلب الولد وقلب الوالد، فهو لا يحتاج إلى مَن يعظه ويقول له عليك أن تُحِبه وأن تحتفظ بحُب ابنك، هو يُحِبه ويحتفظ بهذا، لكن للأسف يفشل – لأنه لم يتعلَّم هذا ثقافةً ولم يتلقه تربيةً – في أن يُعبِّر عن حُبه لابنه في هذه الظروف، ويظن بثقافة خاطئة ومعلومات معوجة أن الأفضل أن يُشعِر ابنه بغضبه وكرهه له، لا يا أخي! هذا خطأ كبير جداً.

ولذلك حتى الصحابة بالمُناسَبة كانوا يفهمون الحب المشروط والحب غير المشروط، الصحابة كانوا يفهمون هذا، قال أحدهم أنت أخي وإنما أكره فعلك، فإن نزعت عنه فأنت أخي، أنا أُحِبك وأحترمك، لكن أكره هذا الفعل منك، الفعل! لا أكرهك، انظر إلى هذا، هذا وعي – سُبحان الله – شديد، سُبحان مَن علَّمهم، كان عندهم وعي كبير، لكن هذا ليس عندنا اليوم، مُباشَرةً نُشخصِن، هذا معروف! هذا مرض عندنا في السياسة، في الثقافة، في الفكر، وفي كل الدوائر، نُشخصِن الأشياء! نترك حتى السلوك وتصير معركتنا مع الشخص نفسه، يُقال هذا الشخص تالف، عاتٍ، لن ينفع، لن يصلح، كنا نعرف، وكنا نتنبأ له، الله أكبر! نُؤبلِسه، نُحوِّله إلى شيطان يا أخي، هذا خطأ يا أخي، بالعكس! ذكِّر نفسك وذكِّره وذكِّر كل مَن حضر بتاريخ حسناته، بتاريخ ممادحه، وقل لهم هذا السلوك خرج مخرج العفو، مخرج الغفلة، ومخرج كذا وكذا، نعوذ بالله من الغفلة، وإن شاء الله سينزع عنه قريباً، وهو أكبر من هذا وأرقى من هذا، ساعده! لا تكن عوناً للشيطان عليه، فهذا هو، لابد أن نتعامل معه وفق هذه الكيفية.

نُنكِر الخطأ، نشجبه، نُظهِر غضبنا وحُزننا على السلوك وليس على الشخص، وفي نفس الوقت نُعبِّر عن حُبنا له، وهذا الذي سيجعله يُراجِع نفسه، والعكس سيحدث إذا لم نفعل هذا، سيقول انتهى، أنا صرت مكروهاً مكروهاً، الكل يلعنني والكل يكرهني لأنني فعلت هذه الفاحشة أو هذا الذنب العظيم، إذن انتهى الأمر ولن أعود، لن أعود! علماً بأن الذي سيندم بعد ذلك هو الوالد، هو لن يلوي على شيئ، للأسف مُراهِق صغير طائش، لا يفهم الحياة ولا يهتم كثيراً بمشاعر الوالدين وكم سيُحطِّم قلبيهما! وهذا حصل ويحصل دائماً، هما يتحطَّمان حقيقةً لكنه لا ينظر إليهما على أنهما يتحطَّمان ويهويان، ينظر إليهما على أنهما حاقدان كارهان يُبادِلانه العداوة، لا! بالعكس، أنا أقول له أنت عدو لهما، لكنهما ليسا عدوين لك، هما والدان في الأول والأخير، لكن للأسف هما أرسلا رسائل خاطئة أكَّدت وعزَّزت هذا الوهم الكبير عندك، أنهما يكرهاني، كما ذكرت في قصة البنت الصغيرة، هناك بنت صغيرة أمها مُتيَّمة بها، تعشقها! قالت لي أنا أعشقها، والبنت تقول لها أنت تكرهينني وأنا أكرهك، قلت مُصيبة! هي لا تكذب، لأنك تُرسِلين رسائل خاطئة بأسلوب خاطئ، قالت صحيح، هذا يحصل!

للأسف ليس عندنا هذا الوعي، استفيدي من تجربتك مع هذه البنت، افهمي ما السر وما الخطأ، لكن ليس عندنا هذا التعليم، لذلك التعليم جيد، أنا أقول دائماً المعرفة عندها مُهِمة إنقاذية، ومُستحيل أن تبدأ دائماً من الصفر، لابد أن تبدأ من حيث انتهى الناس، هذا أقصر بكثير، يُمكِن أن يُجرِّب بعض الناس فيستفيد ويستخلص بعض الاستخلاصات لكن بعد عشرين أو ثلاثين سنة تكون البصلة احترقت كما يُقال، انتهى كل شيئ، أليس كذلك؟ وفشل! لماذا؟ لماذا علينا أن نبدأ المشوار من أوله؟ بالعكس! أنا سأبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأقرأ ما كتب التربويون وعلماء النفس والناس أصحاب الاختصاص في هذا الباب، أقرأ! وفعلاً سيُوفِّر هذا علىّ عثرات وتجارب فشل وإخفاقات وخذلانات كثيرة جداً جداً، وبالعكس! هذا سيجعلني أقرب دائماً إلى النجاح إن شاء الله تبارك وتعالى، ومن هنا ضرورة المعرفة، مُشكِلتنا نحن العرب تقريباً أننا لا نُحِب أن نعرف، لم نُدمِن القراءة، لا نُحِب أن نقرأ، لا نُحِب حتى أن نستمع إلى أشياء جديدة، وعموماً هذه الأشياء الجدية لا تُقال لنا كثيراً، حتى حين تُتابِع برامج وما إلى ذلك لا تشعر بأن هناك فعلاً برامج علمية يُمكِن أن تُفيد للأسف.

فهذا ما أحببت أن أذكره، هذا ليس دعوة إلى الخطأ وإلى مدحه، بالعكس هذا دعوة إلى ألا يُدمِّر أولادنا وألا يُدمِّرنا الخطأ، وكما قلنا أمس هذا شيئ مُتناقِض، نُخطئ! نحن نُخطئ، كل واحد يُخطئ على قدره، ولا أحد يشعر بأنه سيُحطَّم، تجد مَن هو مُلتزِم ويُصلي الجُمعة والجماعة ويذهب ويجئ وما إلى ذلك، لكنه أخطأ! وبعضهم أخطأ أخطاء كبيرة، أخطاء كبيرة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن – بفضل الله – أيضاً لا يشعر بأنه سيتحطَّم، بعض الناس للأسف يقرأ هذا السلوك على أنه نفاق، يقول هذا مُنافِق يا أخي، كيف عمل كذا وكذا وهو يُصلي؟ يا أخي أنت لا تفهم، ما معنى أنه مُنافِق؟ يُنافِق مَن؟ هل هو يُنافِقك في البلد هذه؟ ترك كل شيئ وأتى لكي يُصلي الجُمعة والجماعة ويتعب ويتبرَّع ويتعاون وما إلى ذلك، يُنافِق مَن؟ لا يُنافِق أحداً هذا، في بلادنا يُمكِن أن يُنافِق الإنسان لأن هناك ضغطاً اجتماعياً رهيباً، أليس كذلك؟ لكن هنا لا يُوجَد ضغط يا حبيبي، كل واحد حُر هنا، أليس كذلك؟ كل شاة معلقة من عرقوبها كما يقول العوام، لا أحد ملزوز إلى أن يُنافِق أحداً خاصة إذا كان عنده مصدر دخل وعنده عمل، هو لا يحتاج إليك، لكن هذا الرجل يعثر ويقوم، يا حيهلاً، أهلاً به! ماذا نقول له؟ بالعكس يا أخي، لابد أن نُشجِّعه وأن نأخذ على يديه، لكنك تقول لا، هذا مُنافِق! هذا توصيف مُبتسَر وضال ومُضلِّل للأسف، يُعميك أنت عن الحقيقة، ويُشوِّش ويُشوِّه علاقاتك مع الناس الذين حولك، غير صحيح! غير مُنافِق هذا الرجل، ولكن كلما هنالك أنه  يشعر كما تشعر أنت وأشعر أنا أن أخطاءه لم تُدمِّره، أن أخطاءه لم تُفقِده التوجه الصحيح، يعرف أن هناك طريقاً إلى الله، غلطنا ولابد أن نقوم، لابد أن نُتابِع المسيرة، نُؤدي حقوق الله وحقوق العباد ونُصلي ونصوم ونتبرَّع ونعمل دون أي مُشكِلة ونحج ونعتمر، وهذا شيئ مُمتاز جداً جداً، وسينجو بإذن الله، هذا شيئ عظيم جداً! أحسن من أن يُعتقَل في فخ المعصية، هل يُعجِبك هذا؟ هل هذا أفضل حتى لا يكون مُنافِقاً؟ كلام فارغ هذا، كلام فارغ وغير ديني.

لكن في نفس الوقت – وهنا التناقض – هذا الذي يعثر دائماً ويقوم وينهض ووجهته صحيحة في نهاية المطاف يخاف على أولاده من أن يُخطئوا أصغر الأخطاء، يشعر أنها ستُدمِّرهم! وأقول له يا أخي لماذا؟ لم تُدمِّرك أنت، لماذا تشعر بأنها ستُدمِّرهم بالكامل؟ غير صحيح! ولذلك طبعاً يصطنع أسلوباً في التربية – في بلادنا ينجح – في قمع الشخصية وعدم تفتق قدرها وإمكاناتها، وفعلاً تخرج بلا شك شخصية مُشوَّهة، وأنا أرى هذا الشيئ كما قلت أمس، تجد شخصيات مُشوَّهة، هناك مَن لا يقدر على أن يسأل ولا يقدر على أن يُناقِش، خجلان! لماذا أنت خجلان؟ وصلت إلى الرابعة والخمسين من عمرك يا حبيبي، وأنت طبيب أو مُهندِس وما إلى ذلك، وبعضهم يكون وزيراً ويقول إنه خجلان، أنت لست خجلان، عندك نقص في الشخصية، عندك مُشكِلة كبيرة في شخصيتك للأسف، هذا ذنب أبيك أو أمك أو شيخك أو أستاذك، هذا جعلك شخصية غير طبيعية للأسف، شخصية غير كاملة، وشخصية غير ناضج.

المسكين يُعتدى على حقوقه ولا يقدر على أن يُطالِب بحقوقه، ليس عنده حرية تعبير انفعالي بالمرة! اليوم حدَّثني أحد إخواني عن أحد معارفه، قال لي المسكين من ثلاثة أيام لا ينام، ويأخذ حبوب مُنوِّمة، قلت له هل عنده مرض وما إلى ذلك؟ فقال لي لا، أبداً! كان طبيعياً جداً وكان ينام، قلت له فلماذا إذن؟ قال لي أحدهم أسمعه كلاماً أزعجه عبر التليفون Telephone، قلت له هذه مُشكِلته، هو أسمعه كلاماً، وهذا الكلام ليس له معنى أصلاً بصراحة، الرجل يُحِب أن يُسافِر إلى بلد آخر، يُريد أن يترك النمسا وأن يُسافِر بسبب أوضاعه، عنده مُبرِّرات كثيرة مُمتازة، كان يعنيه رأي الطرف الآخر عبر التليفون Telephone أو على السكة كما يُقال، فقال له كيف تهاجِر وأنت أخذت مُساعَدات النمسا؟ أنت حصلت على المساعدة – Hilfe – وأنت كذا وكذا! يا أخي هو حر، هو حر يا حبيبي، قلت لأخي هذا – والله – لو ذهب إلى مُؤسَّسة رسمية نمساوية هنا سوف يقولون له نتمنى لك كل النجاح وكل التوفيق، وحين تُفكِّر أن تعود فهذه بلدك، قال لي بالضبط هذا ما حصل، قسماً بالله! قلت له نحن ملكيون أكثر من الملك، نحن أُناس غير طبيعيين، يا أخي ما علاقتك به؟ هو حر، بالعكس! لو أنت إنسان عندك مُستوى من الرقي قل له يعز علىّ أن أُفارِقك، أنت أحد معارفي وأحبابي، وأنا أتسلى معك، وبالعكس! أتعزَّز وأسعد بكل إخواني هنا، يعز علىّ هذا ولكن أتمنى لك الخير، هل استخرت الله؟ سيقول  لك استخرته مثلاً، ومن ثم قل له امض على ما خار الله لك، عسى الله أن يكتب لك التوفيق، هكذا هم البشر، هكذا هم الناس الراقيون، لكنه بهدله! قال لي بهدله في التليفون Telephone، مسح به الأرض، وكأنه يتكلَّم باسم النمسا كلها وباسم مُؤسَّساتها، مُؤسَّساتها ماذا ستقول لك؟ ستقول لك مع النجاح العظيم اذهب وتوكَّل على الله، وحين ترجع ستجد أن هذه بلدك ونحن هنا، وقالوا له هذا بالفعل، فضلاً عن أنهم قالوا له حين تُريد أي شيئ سنكون موجودين في سفارتنا في العاصمة الفلانية التي ستذهب إليها، نحن موجودون هناك، هذه بلدك ونحن أهلك، يا أخي هؤلاء أناس راقيون، المُهِم أن ليس هذا بيت القصيد، بيت القصيد أن هذا الشخص مُعرَّض للانهيار، قلت له هذا الآن مُعرَّض لانهيار عصبي، لم ينم لمُدة ثلاثة أيام، انتهى الأمر، احترق! لماذا؟ لأن ليس عنده أي قدرة، قال لي لا يستطيع النقاش، فقلت له هذه هي، لم يُرب بحيث يكون عنده حرية تعبير انفعالي، التربية خاطئة! طبعاً هو مُلتزِم وعنده لحية، هذه المُشكِلة! طبعاً هو مُلتزِم ومُستقيم، إنسان مُستقيم ومُربَّى، لكن رُبّيَ على ماذا؟ هذا المسكين ليس عنده شخصية أصلاً، لا تُوجَد شخصية، فقط عُشر شخصية أو عشرة في المائة من الشخصية الإنسانية! لماذا يا أخي؟ التربية خاطئة، يُمكِن أن يُكرِّرها إن لم يسمع كلام مثل هذا مع أولاده، ويظن أن هذه التربية الصحيحة، سوف يُصبِحون صورة مني، هل أنت مُعجَب كثيراً بنفسك؟ هل تُعجِبك هذه الشخصية؟ في حين أن الإنسان الطبيعي العادي ليس كذلك أبداً، إذا شعر بأي مشاعر وشعر أنه لا يحتملها لابد وأن يُعبِّر عن هذا، سيقول له يا أخي عفواً، قف – Stop – بالله عليك، قف قليلاً، ما لك؟ لماذا فتحت هذا الهجوم علىّ يا أخي؟ مع كل احترامي لك وحُبي أسألك لماذا؟ لماذا أنت ملكي أكثر من الملك يا أخي؟ أنا جئت أطلب منك نصيحة في صدد مُعيَّن، إذا عندك النصيحة فلتُعطني إياها، إذا لم تكن عندك فلابد أن تكفيني خيرك وشرك، لماذا فتحت الهجوم علىّ؟ ومن ثم سوف يعرف الآخر مُباشَرةً أنه أخطأ، علماً بأن أكثر الناس على هذا النحو، يُقال أكثر الناس إذا لم تضع له حداً كأن تقول له هذا حدي فإنه لن يعرف حده، أعتقد قال هذا سبينوزا Spinoza أو شخص مثله ذات مرة، هذا هو! أكثر الناس هكذا، أكثر الناس عندهم ظلم، يقول أبو الطيب:

وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ                         ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ.

من شيم النفوس! إذا لم تقل له Enough is enough – أي Genug ist genug بالألمانية – وقف يا حبيبي فسوف يمشي في كل شيئ، هناك أُناس هكذا للأسف، يُريد الواحد منهم أن يُحطِّمني، لماذا يُحطِّمني؟ لن أسمح له أن يُحطِّمني، لن أسمح له! لماذا أتحطَّم وأنا لست مُذنِباً؟ بالعكس! أنا إنسان بكل تواضع سألته النصيحة، هل له الحق في أن يُدمِّرني؟ لا، هذا غلط، لكنه لم يترب بالطريقة هذه.

وفي نفس الوقت هذا الشخص نفسه لو رأيت منه موقفاً نبيلاً أو تصرفاً مُمتازاً سأذهب وأقول له يا سيدي اسمح لي أن أُعبِّر عن إعجابي بموقفك النبيل هذا، أنت كنت إنساناً فائقاً، إنساناً مُمتازاً، كثَّر الله من أمثالك، عبِّر أيضاً! لا تقل لي والله أنا كُنت مُعجَباً به، اذهب وقل له، وأسمينا هذا مرة – عقدنا عنها مُحاضَرة أو حتى خُطبة – حرية التعبير الانفعالي، أليس كذلك؟ وذكرنا حتى قصة جونسون Johnson الذي أكل شيئاً ثم بصقه أمام الناس، وهو أديب كبير وأول مَن ألَّف مُعجَماً بالإنجليزية، صمويل جونسون Samuel Johnson! هذا هو طبعاً، هل يا أخي أحرق نفسي وأموت لكي ترضى ولكي لا يُقال هذا ليس عنده لياقة في الأكل؟ لا، لابد أن أرميه،وليحدث بعد ذلك ما يحدث.

عبِّر بحرية وتبسَّط في لباسك، في كلامك، وفي كل شيئ، ومن ثم سوف تكون طبيعياً وسوف تكون أقرب إلى نفسك، لا تغترب عن ذاتك، صدِّقني! أنا أشعر بهذا، أنا – مثلاً – الآن جالس هنا، لو أردت أن ألتزم الفُصحى من أول المُحاضَرة إلى آخرها والتزمت بطريقة المشايخ سأغترب عن نفسي، لن أكون عدنان، أنا لست هكذا، أليس كذلك؟ كأن أقول بالفُصحى فقط أيها الإخوة الكذا والكذا، لا أُحِب هذا الأسلوب ولا أقدر عليه، لا أُريده لأنه يُغرِّبني عن نفسي، هناك أُناس يعيشون ويموتون بهذه الطريقة، وفي الحقيقة الخاسر الأكبر هم، الواحد منهم هو الخاسر الأكبر لأنه اغترب عن ذاته، هل أنت هكذا؟ أنت لست هكذا، هل أنت تجد حريتك كاملة بالطريقة هذه؟ لا طبعاً، أنت مُمثِّل، عشت ومت مُمثِّلاً! وأنا قلت مرة في مسجد الهداية مَن هو المُمثِّل؟ المُمثِّل الذي لا يكون نفسه، نحن لا نعرف مَن هو، أليس كذلك؟ هناك أُناس يعيشون مُمثِّلين ويموتون مُمثِّلين، فهذه تربية فاشلة، هذه التربية حقيقة فاشلة!

انظر إلى أصحاب رسول الله، لم يكونوا هكذا، وعقدنا خُطبة كاملة أيضاً عن هذا، يختلفون تماماً مع مَن؟ ليس مع شيخ أو أستاذ أو عالم أو أب أو أم أو مُدرِّس أو مسؤول، لا! مع رسول الله، تخيَّل فقط مُجرَّد اسم رسول الله، تخيَّل أنك أمامه، هذا الشيئ يجعل مفاصلك ترتعد، أنت أمام أعظم خلق الله، إذا تحدَّث عن الفكر والرؤية والفلسفة وما إلى ذلك فأنت أمام أعظم إنسان عنده فكر، مُستحيل أن يُوجَد عقل بشري مثل عقل هذا الإنسان، إذا تحدَّثت عن الاستقامة والنزاهة والوضوح وما إلى ذلك فأنت أمام أعظم خلق الله استقامة، إذا تحدَّثت عن الفراسة وما إلى ذلك فأنت أمام أعظم خلق الله فراسة، ماذا تُريد؟ هل تُريد الحديث عن قائد ناجح سياسياً وعسكرياً واجتماعياً؟ هذا هو، ومع ذلك كل هذا لم يكن ليمنع الصحابة أن يقولوا كلمتهم، كانوا يقولون لا، ولا نُريد أن نأتي بأمثلة، فعلنا هذا في خُطبة سابقة، كانوا يردون عليه، عادي! لكن بأدب، سعد بن أبي وقاص قال له لا، أنا لست مُقتنِعاً، لماذا لا ترضي أن تعترف بأن هذا الرجل مُؤمِن؟ أنا لست كذلك، أنا أعرف عنه الإيمان، هذا الرجل صالح، وفعل هذا ثلاث مرات، إلى أن أعطاه الرسول جواباً في النهاية أرضاه، قال له ليس لهذا السبب فعلت هذا، فعلت هذا حتى لا يُكِبه الله في جهنم، وهناك أُناس آخرون لم أفعل معهم هذا، فسعد لم يكن مُقتنِعاً بأن هذا غير مُؤمِن، بالعكس! قال أنا أرى أنه مُؤمِن ورجل صالح، فالنبي حدَّثه من منظور آخر وأفهمه حقيقة الشيئ، رد عليه ثلاث مرات لكن بأدب، أدب عالٍ جداً جداً جداً، هو يعرف مَن هو بالنسبة للرسول، لكنه عبَّر، وأنت عبِّر، حين لا تُوافِق على شيئ قل أنا غير قادر على أن أوافِق على الشيئ هذا، إلى الآن لست مُقتنِعاً، لن أُجادِل لأن ليس عندي العلم الكافي، لكن سأرفض إلى أن أقتنع قلبياً، وحين أشعر بأنني أصبحت مُطمئناً لهذه الأفكار سأقول هذا، لكن كُن صادقاً، يوم تقتنع قل أمام الناس كنت مُخطئاً والآن أصبحت مُقتنِعاً يا إخواني، بعض الناس لا يفعل هذا، شاطر في السلبية وخائب في الإيجابية، أضعف من أن يكون إيجابياً، وهذا أيضاً لأنه شخصية غير كاملة، غير مُكتمِلة، وغير ناضجة، كل هذه مشاكل تربوية!

الفكرة الأخيرة في هذا الموضوع بالذات – موضوع الخطأ وفلسفة الخطأ – التي أحببت أن أقولها كالآتي، ابنك أو ابنتك مهما بلغ به – كما قلت – الخطأ – أياً كان هذا الخطأ – لابد أن تتصرف معه بشكل صحيح، بالنسبة إلينا – نحن عرب عموماً – أفظع شيئ عندنا هو الزنا، أن تزني البنت، خاصة البنت، انتبهوا! رُغم أن دينياً لا فرق بين البنت والولد، نفس الشيئ! حين يثبت أنها زنت أو أنه زنى لابد من مائة جلدة إذا كانا من الأبكار، نفس الشيئ! لم يُفرِّق الله، لكن نحن لسنا كذلك، عاداتنا وتقاليدنا تُفهِمنا أن البنت إذا زنت فسوف تبقى داعرة وعاهرة إلى أن تموت، لماذا يا حبيبي؟ من أين أتيت بهذا؟ يقول لك هو هكذا، كلام فارغ! هذه عادات وهذا كله كلام فارغ، لكن الرجل – ما شاء الله – ليس كذلك، يزني ثم يُصلي فيُصبِح شريفاً، ويتزوَّج أحسن بنات الناس وهو داعر، هو يُمارِس الزنا إلى الآن، أي داعر حقيقي، وهذا الداعر الحقيقي لا يُنظَر إليه على أنه داعر، يُقال لا، هذا لا يعيب، الزنا لا يعيب الرجل، لا! هذا يعيبه يا حبيبي، شرعاً يعبيه، وهو معيب! وسوف ترى بعد ذلك ابنتك أو اختك حين تتزوَّجه – لا قدَّر الله – كم هو معيب، أي الداعر هذا! يتركها ويذهب إلى الأوساخ كل يوم، فهو معيب، نفس الشيئ! لكن نحن عندنا ثقافة عجيبة جداً، ولم نسمع في جرائم الشرف أبداً – أنا لم أسمع عن هذا شخصياً – عن عائلة قتلت ابنها لأنه زنى ببنت من بنات الناس، لم نسمع بهذا مرة، بالعكس! عندهم نفسية مُتغطرِسة وحقيرة ووقحة، يعتبرون أن هذا الزنا فخراً، يقولون ابننا فحل ووضع أنوف الآخرين في التراب، أف! ما هذا؟ فحل ماذا؟ كلام فارغ هذا، داعر! هذا داعر، هذا إنسان قذر، هذا الأحق بأن يُبهدَل، لكنهم يتركونه ويفتخرون به، وإذا أخطات ابنتهم فإنها تُقتَل مُباشَرةً، قد تُقتَل بنت مسكينة بلغت ثنتي عشرة سنة، ويحدث هذا حتى في حالات الاغتصاب، في بعضها تُقتَل البنت، رُغم أنها اغتُصِبت يا أخي، ابنتهم اغتُصِبت ومع ذلك يقتلونها، فعلاً كم هي المرأة مظلومة عندنا! يقولون غير مظلومة وتحصل على حقوقها، لم تحصل على شيئ، مظلومة! مظلومة ومقهورة ومحقورة، لأن الثقافة مُسمَّمة، ثقافة غير إنسانية، ثقافية ذكورية فعلاً وغير إنسانية، غير رحيمة وغير إسلامية، فنحن أكثر شيئ عندنا يُستفظَع هو الزنا، إذا زنت البنت أو إذا زنى الولد، انتهى الأمر وكأن هذه نهاية الدنيا، لا! ليست هذه نهاية الدنيا، لو حدث هذا في دولة إسلامية سيُجلَد الزاني مائة جلدة ثم ينتهي كل شيئ، ترجع البنت بشكل عادي إلى المُجتمَع، فهنا – مثلاً – يعتبرون هذه كارثة من الكوارث، لأن الشخص أخطأ الخطأ هذا، وهذا خطأ كبير بلا شك، والله سماه فاحشة، الخطأ هذا فاحش والعياذ بالله، هذا الخطأ فاحش لكنني لا أُريده أن يُحطِّم ابني أو ابنتي، لا قدَّر الله، ستر الله علينا جميعاً.

هذا المُخطئ طبعاً يُمكِن أن يُسلِّم نفسه لأي أحد وأن يهرب، وكذلك يُمكِن أن تهرب البنت وأن تذهب عند أي أحد أو أن تُسلِّم نفسها للداعر الذي فحش معها، يُمكِن أن تحدث نتيجة طبعاً غير مُتوقَّعة، وطبعاً هي لن تعود إلى البيت، أو هو لن يعود إلى البيت، لأنه يعرف أن لا موطأ قدم له في هذا البيت، هو فعل أقبح ما يُمكِن أن يُفعَل، خاصة – كما قلنا – للأسف إذا كانت بنتاً، يُمكِن لأمها أو أخيها الكبير أو أبيها أو عمها أن يُعطيها أملاً، يقول لها ارجعي وما إلى ذلك، لكن – كما قلت أمس – هي سوف تختبر بذكائها صدقهم، هل هم صادقون؟ وهذا الاختبار بالمُناسَبة هام، هذه ليست مسألة تتعلَّق باختبار – Test – تقوم به فحسب، لا! سوف تعرف صدقهم من لحن القول، إذا التقت بواحد منهم – بأبيها أو بأخيها مثلاً – فمن وجهه سوف تعرف، هل لا يزال يحمل كماً كبيراً من الغضب والحقد والاحتقار لها ويُريد أن يستدرجها لكي تأتي ومن ثم يُرجِعها أيضاً إلى فخ الأسرة والمُحاسَبة أم أنه فعلاً مُحِب لها ومُشفِق عليها وصفح عنها ويُريد لها أن تصفح عن نفسها أيضاً لكي تقدر على الرجوع إلى البراءة والطهر مرة أُخرى؟ هي تُريد أن تصفح عن نفسها، مُهِم جدأً أن نُعلِم الإنسان كيف يصفح عن نفسه يا إخواني.

ولذلك ماذا قال الصوفية؟ اقرأوا هذا في الإحياء، هذا قرأته وأنا صغير، أناس من كبار العارفين بالله عرَّفوا التوبة، قالوا ما هي التوبة؟ قالوا أن تنسى الذنب، ولا كأنك فعلته، انتهى! لماذا؟ لأن يُمكِن إذا استبقيت ذكر الذنب وظل دائماً يُؤرِّق ضميرك ويُعذِّب نفسك باستمرار أن تكون هذه ثُغرة يدخل منها الشيطان مرة أُخرى، يقول لك ما الفائدة يا بعيد؟ أنت ادّعيت كذا وكذا وكذا، لن ترجع طاهراً أبداً، وهناك تشابيه غالطة، أنا كنت أُشبِّه بها للأسف لكنها مزلق خطير، وهي تشابيه إبليسية، ابن الجوزي كان يقولها وغيره، وأنا كنت أقولها وكنت مُعجَباً بها، ثم اتضح أنها كلام فارغ، يُقال هذه مثل الرُقعة في الثوب، والثوب الذي تمَّزق ورُقِع ليس كالثوب السليم، ابن الجوزي قال هذا في صيد الخاطر! أليس كذلك؟ مثل إناء زجاجي تهشَّم، مهما لحمته تبقى فيه أثر الشروخ، وهذا غير صحيح، الإنسان ليس هكذا، بدليل أن عمر بن الخطاب يا حبيبي كان رجل الشروخ، وأبو بكر أيضاً وعثمان، هؤلاء العظماء الأجلة المُقدَّسون عندنا كانوا هكذا في الجاهلية، ليس عندنا أي شيئ يُؤكِّد أنهم كانوا معصومين من أي شيئ، فعلوا كل شيئ! وبعد ذلك جاء الإسلام وخلقهم خلقاً جديداً، هناك فُرصة لأن يُخلَق الإنسان خلقاً جديداً، لكن نحن في لبس من خلق جديد، لا نُؤمِن بأن الإنسان يُخلَق خلقاً جديداً، المسيح ماذا قال؟ الحق أقول لكم، لن يدخل الملكوت مَن لم يُولَد ثانيةً، قال يُمكِن أن تُولَد مرة ثانية، أي الــ Second born كما يُسمونه، هذا الــ New born بالإمريكية، أي الميلاد الجديد، يُمكِن أن تُولَد مرة أُخرى بإذن الله تعالى، وتُولَد كإنسان آخر، وهناك أُناس رأيناهم هكذا، هناك أُناس – والله – حين تابوا وحسنت توبتهم نشهد بالله العظيم أنهم صاروا بشراً مُختلِفين، ما رأيكم؟

حدَّثتكم مرة بقصة أخ كردي، أكثر ذنوبه – والعياذ بالله – كانت تتعلَّق بالخمر والنساء، كان مُدمِناً على الفاحشة والعياذ بالله! الله أعطاه جمالاً وسحنةً طيبةً، وبعد ذلك كان يحضر دروسنا، وأنا – الحمد لله – عندي هذه الطريقة التي لا أُحاوِل بها أبداً أن أُثرِّب على أي إنسان، هذا المسكين حر، لابد أن تُعطيه صورة طيبة، كان يحضر الدروس ويُحِب أن يحضر، يحضر ولكن يُمارِس الفواحش هذه! وفي يوم من الأيام تاب وحده، هذا الكلام بلغ منه قعر القلب، تأثَّر الرجل وقرَّر التوبة، وسمعت أنه تاب، لم التقه لأسابيع تقريباً، وبعد ذلك جلسنا مرة في السيارة، جلست أنا في الأمام ثم نظرت وسلَّمت على شخص فعلاً وجهه مُنوَّر وطيب، قلت له كيف الحال يا أخي؟ وما إلى ذلك، وبعد ذلك قلت للأخ السائق هل يُمكِن أن تُعرِّفني على الأخ؟ فضحك وقال لي يا شيخ ما القصة؟ فقلت له مَن هذا الأخ؟ فقال لي ألم تعرفه؟ فقلت له لا والله، فقال لي هذا فلان، فقلت له ماذا؟ نظرت – والله العظيم – ووجدت أنه إنسان آخر يا إخواني، أُقسِم بالله!

أنا سأقول لك شيئاً، سأُعطيك اختباراً – Test – وجرِّبه، علماً بأن الصالحين كل يوم في الصباح كانوا يفعلون هذا، ما هو؟ انظر في وجهك في المرآة، ضروري! كانوا يخافون المسخ، يخاف الواحد منهم من أن يكون مُسِخ أو حدث له شيئ بسبب ذنوبه، وهؤلاء كانوا عارفين بالله، انظر إلى وجهك حين تُصلي الصبح في وقته وحين تكون الصلاة طيبة، وانظر حين تنام عن صلاة الصبح – حتى لو نمت رُغماً عنك – كيف يكون في الصباح، وبالمُناسَبة إذا أدمنت هذا الشيئ فسوف تستطيع أن تتفرَّس هذا في وجوه مَن حولك، سوف تعرف أن هذا صلى الصبح اليوم وأن هذا لم يُصل، ستقول مُستحيل أنه صلى حتى لو حلف لي، لم يُصل وهذا واضح، يُوجَد ظلام، يُوجَد نوع من الظلام، طبعاً لأنه أضاع قدراً من النور على نفسه، هذا يُكسِب الإنسان نوراً يعرفه أهله يا إخواني، فكيف بالتوبة الماحية؟ تاب توبة حقيقية، وترك شهوات كان يُحِبها، وكان يلتذ بها بلا شك لأنه شاب، ترك كل شيئ لوجه الله، هذا يُخلَق خلقاً جديداً!

كما قلت أمس وكما أقول دائماً – احفظوا هذا – المجاز يُضلِّلنا، هلكنا المجاز هذا! ونحن نُصدِّق المجاز ونذهب معه إلى آخر الشوط، يُقال هذا ثوب وانتهى الأمر، لكن أنا لست ثوباً ولست رقُعةً، كلام فرغ هذا، هذا ينطبق على الثوب، الثوب الذي يُرقَع، لكن الإنسان ليس ثوباً يُرقَع، كلام فارغ هذا، الإنسان كائن آخر، سر الله هذا، فيه من روح الله، لا تقل لي عن الإنسان إنه ثوب ورُقِع وسيظل مرقوعاً، هذا كلام فارغ! وأتحداك بأنني سأُحضِر لك ألف شخص مِمَن تابوا وحسنت توبهم ولن تعرف ما حصل لهم، ستقول لي عن أحدهم قطعاً هذا وُلِدَ في أسرة من أولياء الله، وجهه يا أخي وسلوكه يدلان على هذا، هذا الرجل أكيد نشأ نشأة الطاعة، لكنني سأقول لك لا يا حبيبي، هذا الرجل هداه الله قبل سنتين، وكان في المعصية أربعين سنة، ضاعت فراستك، لأن هناك فُرصة، وهذا من رحمة الله بنا، نحن كرماء على الله، الإنسان كريم على الله وهو يُعطيه ما يُريد، هذه الأفكار أُسميها فعلاً الأفكار غير الفواتية، ذكرت هذا المُصطلَح مرة في خُطبة، أنا أكره كل تفكير وكل نظرية فواتية، ومن ضمنها طبعاً نظرية الفوت هذه، هذه أُسميها نظريات فواتية، هذا المُصطلَح من عندي! ما معنى هذا؟ معنى هذا أنه لا يُمكِن الاستدراج، الذي راح راح، يقولون Too late، لا! هذا غير صحيح، لا نُحِب النظريات الفواتية، بحسب الدين لا يُوجَد فوات بإذن الله تعالى، إلى آخر لحظة عندك فُرصة.

فسيختبر ابنك او ابنتك صدقك، سيلتقط أحاسيسك وسيرى الحقيقة مهما حاولت أن تُمثِّل، وجرِّب أن تكون صادقاً وسيلتقط هذا، ستعرف البنت أن أمها أو والدها أو أخاها الكبير فعلاَ صفح وأحبها وفتح ذراعيه وقلبه أيضاً له، عفا الله عما سلف، انتهى كل شيئ وإن شاء سنتفح صفحة جديدة، ومن ثم ستعود المسكينة أو سيعود المسكين، سيعود! وفعلاً بهذه الطريقة سوف نُبغِّضه في تجربة المعصية، سوف يفهم أن المعصية شيئ فظيع، كاد أن يُفقِده نفسه ووالديه وأهله واحترام كل مَن كان يُحِبهم ويُحِبونه ويحترمهم ويحترمونه، أسلوب مُمتاز وناجح! هذا الأسلوب ينجح وأرجو أن يُجرَّب مع كل مَن عنده مُصيبة وما إلى ذلك، لابد وأن يُجرِّب هذا، وإن شاء الله لن تكون هناك مُصيبة، سوف ينجح تماماً بإذن الله تعالى.

المُصيبة تكون حين لا نفعل هذا، سنُغامِر بحملهم على تكرار الخطأ، الآن ستكون مُصيبة المصائب إذا تكرَّر الخطأ، ما الذي سيحدث الآن؟ سيفقد هذا حس التقويم، لأنه يفعل خطأً فاحشاً، ومن ثم سوف يستوي الخطأ عنده مع الصواب، نفس الشيئ! سوف يكون الزنا عنده مثل الزواج، سوف يكون الخمر عنده مثل الماء، سوف يكون عند الكذب مثل الصدق، انظر إلى الكذّابين وإلى المُدمِنين على الكذب، شيئ غريب! يكذب الواحد منهم بداعٍ وبغير داعٍ، عنده الصدق مثل الكذب! أرأيت؟ عنده الوفاء والأمانة مثل الخيانة والغدر، نفس الشيئ! لأنه كرَّر هذا مرة ومرتين ومائة مرة ومائتي مرة، لم نُعطه فُرصة لكي نرجع، لم نُعطه فُرصة وسددنا الباب في وجهه، انتهى! الشيطان طبعاً استفرد به، أليس كذلك؟ لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، الشيطان استفرد بهذا المسكين، أليس كذلك؟ ونحن بمواقفنا كنا شياطين بصراحة له، نحن مثَّلنا دور الشياطين أيضاً بصراحة من خلال هذه الطريقة، وانتصرنا للشيطان على الرحمن في ساحة حرب هذا المسكين أو هذه المسكينة، ومن ثم سوف يفقد طبعاً حس التقويم وسوف يظن أنه يفعل ما هو من حقه، وبالتالي سينتهي لأنه أصر، أصبح من المُصِرين، المُصِر هذا قريب من النقمة، بعيد من الرحمة، قال وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩، الإصرار فقط هو المُصيبة، الإصرار! والإصرار متى يكون كما قلنا؟ ما تبرير الإصرار؟ أنه فقد حس التقويم وملكة التقويم، غير قادر! هو ليس مُقتنِعاً الآن بأن هذا خطأ فعلاً، لأن الإنسان الذي عنده ضمير يصعب عليه جداً أن يُكرِّر الخطأ، ضميره لا يسمح له، أليس كذلك؟ هذه القوة الإلهية النبيلة مُهِمة، لا يسمح له ضميره ويُعذِّبه، لا يقدر على أن يأكل أو أن يشرب، صعب جداً.

رأينا ما فعله الدكتور مُصطفى الفقي، المُفكِّر المصري الكبير الذي كان هنا، رجل نبيل فعلاً، من ذلك اليوم وأنا أحترمه، هذا لم يسمح له ضميره بأن يُدجِّل على سبعين مليون مصري بمسألة أنه فاز في الانتخابات، والمسألة لا علاقة لها بالفواحش وإنما بتزوير أشياء وما إلى ذلك في الحزب الوطني، بعد أقل من شهرين – تقريباً شهرين – ظهر في مجلس الشعب وقال لهم أنا فقدت احترامي أمام نفسي، فقدت احترامي في عيون مَن كان يحترمني، ما عدت أستطيع أن أنام وأن أهنأ كما كنت في الأول، وفجَّرها قنبلة! أنا مكاني ليس هنا، أنا لا أستحقه، قال هذا مكان خصمي من الإخوان المُسلِمين، هذا مكانه وهذه أصواته، لكن نحن اغتالناها وزوَّرناها، بعضهم كبَّر وبعضهم بكى، أنا حين اطلعت على هذا بكيت بالدموع الغزيرة، وكم أحببت هذا الإنسان! وكم أحترمه! وهو ليس إسلامياً، هو مُسلِم ومُلتزِم بفضل الله، هذا الرجل يُصلي وما إلى ذلك لكنه ليس إسلامياً، هو حر يا حبيبي، ذهب إلى التفكير الليبرالي، لكنه رجل نبيل، أنبل من ألف إسلامي يُمكِن أن يغتال أصوات الناس، ليس كل إسلامي – أعوذ بالله – هكذا، لكن هذا موجود، ستجد منهم ألفاً وستجد مائة ألف طبعاً من الآخرين، ستجد هذا! هذا أنبل من مائة ألف يُمكِن أن يغتالوا أصوات الناس على أساس أنهم سيُطبِّقون حُكم الله، وهم يكذبون على الشعب قبل أن يكذبوا على أنفسهم وعلى الله، هذا لا يصح، الضمير – الضمير الحي – لا يسمح لصاحبه أن يُصِر وأن يستمر، يُرجِعه! لكن فاقد الضمير- هذا انتهى وليس عنده هذه القدرة – أمره مُختلِف، هذا شيئ ثانٍ، هذا الإنسان مُنتهٍ فعلاً، وهذا هو المُصِر! كلمة الإصرار هي تعبير عن ماذا؟ كلمة الإصرار تعبير عن فقدان ماذا؟ ملكة أو هبة أو موهبة الضمير، منحة وموهبة! موهبة من الله أيضاً وهبة، الله منحنا هذا الشيئ، أي الضمير! قال مَن كان له مِن قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ، الذي عنده ضميره يحفظه الله عز وجل، الله يُسيِّره في الطريق الصحيحة، لكن لابد أن يكون عنده الضمير، لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ۩.

هناك فرقة صوفية اسمها الملامتية، تقوم كلها على ماذا؟ على تحسيس وتنمية وإرهاف وصقل الضمير في الإنسان، دائماً تُؤنِّب نفسك، تُفتِّش نفسك، تتحسس نفسك، باستمرار! ولا تتساهل، شيئ عجيب، طريقة كاملة تقوم على هذا، اسمها الملامتية وهي موجودة إلى اليوم، من مئات السنين وهي موجودة، فأسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعيننا على أن نصل بأنفسنا وبأولادنا في هذه البلاد وفي غيرها، علماً بأن المسألة الآن لم تعد قاصرة على هذه البلاد، قبل فترة بسيطة كان يُمكِن أن نقول في هذه البلاد، الآن الذي نسمعه والذي يحصل في كل البلاد العربية والإسلامية لم يجعل الفرق واسعاً جداً بين ما يحصل هنا وما يحصل هناك، تقريباً كل ما يحصل هنا يحصل هناك، الفرق البسيط أن هناك يُوجَد تكتيم ويُوجَد دس وخبئ لكن هنا تُوجَد شفافية، كل شيئ يظهر، كل شيئ! كل شيئ أصبح يحدث، لأن المُجتمَع فعلاً أصبح في حالة انفتاح وتواصل وسيولة، كل شيئ موجود!

حتى في الدوائر الغربية من الثلاثينيات إلى الخمسينيات – مثلاً – تقريباً لم يكن أطفال المدارس يجلسون أمام التلفاز، لم يحدث هذا، هذه الظاهرة لم تكن موجودة في الخمسينيات في أمريكا، لم تكن موجودة! وإن فعلوا ففي النهار لبضع دقائق حسبما قالوا، فهم مشغولون بأشياء أُخرى كثيرة، الآن في أمريكا يجلسون أمام التلفاز لسبع ساعات في المُتوسِّط يومياً، الأكثر من هذا أن الآن الأطفال أبناء تسع أو عشر سنوات عندهم مواد إباحية يُمكِن أن يطلعوا عليها باستمرار كل يوم، كارثة! هذه كارثة وهؤلاء الأطفال أبناء عشر سنوات، كم تُشوَّه براءتهم! وكم تُحطَّم طفولتهم! شيئ خطير جداً جداً، بماذا؟ بفعل هذه السيولة في المعلومات وفي المواد وفي كل شيئ، المطبوعات عالم وحدها والإنترنت Internet عالم وحده، سُبحان الله! وكذلك الرسائل، كل شيئ صار الآن يُرسَل رقمياً Digital، كل شيئ صار يُرسَل، تُرسَل صور وأفلام وأشياء، شيئ فظيع جداً جداً يحدث عبر المحمولات هذه، أكيد بعد سنة سوف يظهر محمول – مثلاً – بسعة عشرة جيجات Giga، تفضَّل! ستُنزَّل أفلام كاملة على المحمول، ولذلك التعويل لا يكون على القهر والمنع وإغلاق الأبواب والنوافذ، هذا كلام فارغ! مثلما فعل مجذوب عندنا في مُعسكَرنا كما قلت لكم، (ليَّس) كما يقولون – أي طيَّن – على الباب والشبابيك وسكَّر كل شيئ، الزنزانة أرحم من هذا، يُمكِن أن تسمعوا في يوم من الأيام أن ابنته – والعياذ بالله – سلَّمت نفسها لأقرب داعر، لأول داعر على الطريق، انتهى! لأنه كفَّرها، كفَّرها بكل شيئ، كفَّرها بنفسها! مجنون هذا، ويظن أنه سينجح، هذا هو الفشل بعينه، سيُخرِج كائنات ليست بشرية، سيُخرِج كائنات مُشوَّهة، كائنات مُشوَّهة وليس بشراً، مخلوقات وأمساخ مُشوَّهة، ويُسمي هذا تربية باسم الدين وباسم الإسلام.

فالصحيح أن التعويل ليس على المنع والسد والتطيين، وإنما على تنمية ملكة الضمير، هذه الشطارة! كيف؟ تقوم بهذا في البيت والإخوة الكبار لإبنائك والزوجة والأخوات الكُبريات، هذا هو! هذه الفلسفة وهذه التربية وهذا الفهم، كيف تعمل هذا؟ هذا يحتاج إلى تعليم، يحتاج إلى دراسة، يحتاج إلى مُحادَثة، ويحتاج إلى كذا وكذا، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

نفتح المجال – إن شاء الله – لإخواننا حتى الساعة الحادية عشرة إن شاء الله، إذا هناك أي شيئ عن خُطبة أمس – أكيد هناك أشياء – أو أي إضافة أو أي نقد أو أي كلمة أو أي استفهام أو أي استيضاح فلنأخذه لكي نُثري هذه الأشياء إن شاء الله، طبعاً الخُطبة لم تكتمل كما قلت، أحتاج على الأقل إلى خُطبة أُخرى، لأن هناك أشياء أُريد أن أُحاوِل أن أعرضها بكيفيات عملية، كيف يُمكِن أن نُطبِّقها عملياً؟ كيف يُمكِن أن نقوم بهذا؟ لكي يتحوَّل الكلام من النظر إلى عمل، طبعاً هناك أشياء كثيرة قلناها وهي قابلة لأن تتحوَّل إلى كيفيات عملية بسرعة، مَن فهم الرسالة يعرف كيف هذا، هذا واضح! وطبعاً ليس من السهل أن تُغيِّر عاداتك، خاصة عاداتك السلوكية والفكرية، أنا أعرف هذا، صعب جداً جداً جداً! يُمكِن أن تفعل هذا لساعة، وبعد يوم يختلف كل شيئ، هذا غلط، ارجع وحاسب نفسك باستمرار، إذا شعرت بأن هذه الطريقة الجديدة هي الطريقة الصحيحة فلتُحاوِل أن تُرغِم نفسك على سلوكها كلما حدت عنها، باستمرا باستمرار باستمرار! بعد فترة سوف تُدمِن على ذلك ومن ثم سوف تكتسب موقفاً جديداً، هذا مُمكِن إن شاء الله، لكن صعب أن يحدث هذا في البداية، وهذا معروف! صعب جداً جداً، وأنا دائماً أقول الذين ينظرون إلى هذه الأمور بطريقة سحرية وعقلية سحرية لن يستفيدوا شيئاً، لن يستفيدوا شيئاً! وعموماً نحن كذلك للأسف، صدِّقوني! أنا أشعر بهذا، أتحدَّث عن نفسي، قبل سنوات طبعاً بعيدة حين كنت أُطالِع بعض الكُتب في هذه الموضوعات – وهي كُتب منهجية تتحدَّث عن خُطوات تحتاج إلى فترات طويلة وأشياء – كنت أتركها مُباشَرةً، هكذا كانت عقليتي قديماً، مثل عقلية أي واحد فيكم، ماذا كنت أُريد؟ كنت أُريد أشياء كالمفاتيح، أشياء سحرية! أشياء أفعلها ومن ثم يتبدَّل السلوك، وهذا كلام فارغ، هذا سحر، هذا لا يكون إلا في الأفلام وفي عوالم الغموض والعجائبيات، لا يُوجَد هذا في دنيا الناس، غير صحيح الكلام هذا، وجرِّب هذا مع نفسك كما قلنا، هل تستطيع أن تُغيِّر في نفسك خُلقاً واحداً بسهولة وكأن هناك Switch لــ On و Off، حين تضغط على On يشتغل وحين تضغط على يتوقَّف Off؟ مُستحيل، لم يحدث هذا أبداً، حتى ولو كان السلوك بسيطاً جداً جداً، تحتاج أحياناً إلى الجهاد أشهراً طويلة وسنوات بحسب علماء التربية، يقولون أي عادة يُمكِن أن يجتثها الإنسان إذا واظب على مُحارَبتها وامتنع عنها كُليةً وحارب كل ما يتصل بها شهراً كاملاً، عبر ثلاثين يوماً مُستمِرة! أنا أقول لو جعلوها أربعين سيكون هذا أحسن، أقول هذا من باب الاستئناس بــ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۩ و بــ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۩، وعند السادة الصوفية شيئ يُسمى الأربعينيات، كلهم يأخذون به، وبالمُناسَبة هذه فكرة ذكية جداً جداً، وها هو علم التربية يُؤكِّدها لكن بوقت أقل، وأنا أعتقد أن هذا التقدير غير سليم، أربعون يوماً سيكون تقديراً أسلم، والنبي أيضاً قال مَن لم تفته صلاة الجماعة أربعين يوماً أو ليلة في المسجد كُتِبَ له براءة من النفاق، لماذا قال مَن لم تفته صلاة الجماعة أربعين يوماً؟ النبي ذكرها! لماذا قال مَن لم تفته صلاة الجماعة أربعين يوماً أو ليلة؟ خمس صلوات في المسجد يومياً، لأن فعلاً يبدو أن هناك قدرة أو طاقة ستكون عندك، وستستطيع أن تقتحم بها عقبة العادة وعقبة المعتاد، عقبة الراسخ ستقتحمها! لكن قبل ذلك سيكون هذا صعباً، لأن الطاقة أقل، سوف تعود وترجع، لكن بعد أربعين يوماً وليلةً مُستمِرة يُمكِن هذا.

سيقول لي أحدكم – مثلاً – أنا عندي عادة سيئة، أي عادة! اغتاب الناس مثلاً، أنم، أُوصِّل الكلام، أترك الصلاة، أنام عن صلاة الصبح، مثلاً سيقول لي هذا، وبالتالي سأقول له هل تُريد أن تتخلَّص منها؟ سيقول لي نعم، ومن ثم سأقول له إذن اقطع على نفسك عهداً أن تُحافِظ على هذه الصلاة – مثلاً صلاة الصبح التي تتكاسل عنها لأسباب أو لأُخرى – أربعين يوماً أو أربعين ليلةً، هي في الحقيقة أربعون يوماً، لأنها في بداية اليوم، فحافظ عليها أربعين يوماً، إن نجحت هذا فالأمر سوف ينتهي، سوف تُصلي بعد ذلك صلاة الصبح في وقتها باستمرار، وسوف تكون سهلة جداً جداً، نفس الشيئ حين تنم أو تغتاب أو تكذب، اقطع على نفسك عهداً وحاسب نفسك حتى لا تفعل هذا الشيئ أربعين يوماً ، إذا نجحت فالأمر سينتهي بعون الله تعالى، هم يقولون – أي علماء التربية – يُمكِن هذا بعد ثلاثين يوماً، ربما تكون هناك مُبالَغة في هذا قليلاً، أربعون يوماً أدق بكثير بإذن الله، أربعون! يبدو أن هناك آليات حتى لهذا، ونحن قلنا في الدرس الأخير عند الأستاذ جبر إن مارك توين Mark Twain قال عبارة لطيفة، قال ليس أسهل من الإقلاع عن التدخين، أقلعت عنه مائة مرة! هذا يعني أنه أصعب شيئ، لم يقدر المسكين على أن يُقلِع، يُقلِع ثم يرجع، ويُقلِع ثم يرجع، فقال هذا أسهل شيئ، أقلعت عنه مائة مرة! وهذا يعني أنه صعب، الإقلاع عن التدخين مسألة صعبة، وهذه عادة سيئة ومعروف أضرارها، لكن هذا صعب، صعب! والأصعب منه العادات الفكرية، أرأيت كيف هذا؟ كيف تتصرَّف؟ كيف تفعل كذا وكذا؟ هناك مَن يقول لك والله أنا استفدت من درس سمعته مرة في الإنترنت Internet أو في الفضائيات وعلمت أن النبي لم يكن يُثرِّب، لم يكن كثير التفنيد، لم يُحِب أن يُعاتِب، لكن يا أخي مِن الناس مَن هو كثير التفنيد والانتقاد والعتب، يُجنِّن مَن حوله! حين يدخل يقول لماذا هذا هكذا؟ لماذا كذا وكذا؟ ألم أقل كذا وكذا؟ ألم أسكت عن كذا وكذا؟ ومن ثم ينزعج أهله منه، لابد من أن تتاغضى، تغاض عن أشياء كثيرة، اجمع ما تراه من تقصير ثم تعال بعد ذلك – بعد أسبوع أو أسبوعين – وقل لهم أنا أرى – والله – أن هناك تقصيراً في الناحية الفلانية، وأنا أحصد هذا من أسبوعين وهذا لا يجوز، ومن ثم سوف يقبلون هذا منك، لكن لا ينبغي أن تنتقد كلما دخلت، النبي لم يكن كذلك، النبي لم يكن مُفنِّداً، لم يُعتاب وما إلى ذلك، ولذلك كان محبوباً، الناس كانت تُحِب حضوره وتُحِب مجلسه، لم يقل لأنس عشر سنوات أفٍ قط ولا قال له لشيئ فعله لِمَ فعلته ولا لشيئ لم يفعله لِمَ لَمْ تفعله أبداً! كان يقول حين تحدث مُصيبة أو يقع شيئ كبير قدَّر الله وما شاء فعل، لا تُعاتِبوه، لا تُؤنِّبوه، لو قدَّر الله شيئاً كان، يا أخي ما سر هذه الشخصية؟ لكن طبعاً تفسيرها معروف بالنسبة لنا، ما سر الشخصية هذه؟ السلام والمُصالَحة الداخلية، في داخله – عليه السلام – يُوجَد سلام رهيب، سلام وسكينة غير عادية، ولذلك نُقطة قوته ذاتية، من ذاته، من الداخل! أليس كذلك؟ نُقطة قوته ذاتية، ولذلك لا يُمكِن لشيئ أن يهز النبي عليه السلام، مُستحيل! لا شيئ يُمكِن أن يهزه، هل تظنون أن النبي في المعارك – أنا النبي أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب – كان يهتز؟ هذا من عندنا، عقلية عنترية! لم يكن هكذا، حتى في السلوكات اليومية مع زوجاته، مع أهله، ومع أصدقائه لا يهزه شيئ أبداً ولا يُحرِّكه شيئ، لأن عنده غنى داخلي، خصب وثراء باطنى، شيئ عظيم جداً جداً، بحجم عظمة الكون! ولك أن تتصَّور هذا، النبي عنده رضا عن الله وبالتالي عنده رضا عن نفسه، النبي عنده إيمان بالله وبالتالي عنده إيمان بنفسه، يعرف نفسه! يُؤمِن بنفسه حقيقةً وبقيمه وبمبادئه وبطريقته وبسلوكه وبفعله، لم يكن كافراً بنفسه أبداً، ولذلك كان عنده كل هذا، ولذلك النبي – عليه السلام – كان يمتح ويُضيف وينثر السلام والوداع على كل ما حوله ومَن حوله، هذا هو! فلابد أن نتعلَّم من هذا.

قد يقول لي أحدكم هذا أعجبني ومن ثم سأُحاوِل أن أقتدي برسول الله، وهذه أحسن مُحاوَلة! وفي أول ليلة فعلاً ستذهب وتُحاوِل هذا، لكن في الصباح حين تقوم قد تتراجع، لكن لا تيأس، ارجع وقل لا، هذا غلط، دعونا نرجع إلى المُحاوَلة، سأُحاوِل أن أقتدي برسول الله، وهكذا! حاول باستمرار، لا تيأس، كان يُوجَد شعار عند تشرتشل Churchill – وهو رجل ناجح في الحياة بلا شك – يقول فيه لا تستسلم، لا تستسلم، لا تستلسم أبداً، هذا كان شعاره، لا تستسلم مهما حصل! ولذلك أنا أُريد أن أعقد خُطبة أقول فيها متى نكفر بأنفسنا، أخطر شيئ أن تكفر بنفسك، لا تكفر بنفسك! فليكُن عندك إيمان بذاتك – بإذن الله تعالى – وسوف تنجح به، إياك أن تكفر بنفسك، لو كفرت بنفسك لن ينفعك إيمان العالم بك، لو كفرت بنفسك وآمن كل العالم بك وبقدراتك سوف تفشل، لو آمنت بنفسك – بإذن الله تعالى – دون أن تكون مُعجَباً أو مغروراً أو نرجسياً – فقط لو آمنت بما آتاك الله – سوف تنجح وسوف تُحقِّق ما يُعتبَر مُستحيلاً، ولا تسمع كلام كل المُثبِّطين وكل الهازئين والساخرين، لا تسمع كلامهم وسوف تنجح بإذن الله، فلا تستسلم تحت كل الظروف.

(ملحوظة) فتح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم باب الحوار قائلاً ماذا عندكم يا إخواني إن شاء الله؟ ثم سمح لأحد الحضور بالحديث قائلاً تفضَّل يا أخ محمد، فقال بدوره مُداخَلته التي أتت تعليقاً على حديث أنس، ورأى فيها أن الأمر لن يكون مُجدياً في التعامل مع زوجته وأولاده إذا قال لهم قدَّر الله وما شاء فعل حين يُخطئون، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم جميل! طبعاً هذا الاعتراض كان مُتوقَّعاً، وهو اعتراض منطقي ومعقول، سيقول لي أحدكم وأين حديث النبي – عليه السلام – بل أحاديث النبي وأين آيات القرآن الكريم عن الأمر بمعروف والنهي عن المُنكَر؟ أليس كذلك؟ افرض أن ابنك ارتكب شيئاً غالطاً أو ارتكب مُنكَراً، أين حديث عمرو بن سلمة في البخاري؟ النبي قال له يا غُلام سم الله، لأنه رآه وهو يأكل من كل مكان دون أن يُسمي، فقال له يا غُلام – أي عمرو بن سلمة – سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فها هو قال له هذا، لكن أنا سأُعطيك الجواب، هذا سؤال ذكي، والجواب يا سيدي كالتالي:

النبي كان سيد القوّالين بالحق، هذا معروف! وتأخير البيان في حقه غير جائز أصلاً، هذا في علم أصول الفقه، النبي لا يُقصِّر ولا يكسل عن البيان، أصلاً هو مخلوق ومبعوث لكي يكون صاحب رسالة ومن ثم لكي يقول لك أين الصح وأين الغلط، هذه وظيفة النبي أصلاً، ليست وظيفته أن يكون قائد دولة بالمُناسَبة، هذه أتت وحدها،  والنبي لم يُرِد المُلك، قال لهم أنا لا أُريد المُلك وما إلى ذلك، قالوا له سوف نُعطيك المُلك، فقال لهم أنا لا أُريد المُلك، أُريد أن تُوحِّد الناس الله، وأنتم أحرار في النهاية، إذا أحببتم أن تُقيموا دولة فلكم هذا، دولة تُوحِّد الله، أهلاً وسهلاً! لكن حين ترك مكة وذهب إلى المدينة اختلفت الظروف تماماً ومعروفة السياقات، الله لم يبعث النبي لكي يكون رئيس دولة، لا! ولم يبعثه لكي يكون صاحب فكر وفلسفة وما إلى ذلك، بعثه لكي يكون رسولنا، لكي يُعطينا الخُطة والوجهة والرؤية، فهذه وظيفته ولم يُقصِّر فيها عليه السلام، قطعاً النبي كان يتكلَّم في بيته وأمام أنس، أنس ليس من السبعة المُكثِرين، لكن له أحاديث كثيرة جداً، وإن لم يكن من السبعة في المشهور، لكن قطعاً أنس سمع آلاف الأحاديث من رسول الله وفي مُناسَبات شتى، وقطعاً سمع أحاديث تُعرِّض ببعض فعله أو بفعل أزواج النبي لكن في سياق آخر غير سياق خطئه حتى لا يُحرَج، وكانت هذه طريقة النبي، حين يرى الغلط يترك صاحبه، وفي مُناسَبة ثانية – حتى لا يُحرِج صاحب الغلط – يرجع ويقول ما بال أقوام كذا وكذا؟ فيفهم الشخص مُباشَرةً ويقول هذه تنطبق علىّ، لكن ربما النبي لم يقصدني بذاتي، ربما رأى هذه المسألة من غيري، ومن ثم يشعر هذا المسكين بالراحة لأنه ليس مُستهدَفاً، وهذا من حكمة رسول الله، لم يكن كهذا الشيخ – لا نُريد أن نذكر أسماء – الذي سمعنا عنه في إحدى الدول العربية حقيقةً، هناك مَن حكى لنا عنه، صعد على المنبر وقال الله يقبل توبة العبد مهما فعل ومهما عمل وما إلى ذلك، لا تخافوا، وأمامكم فلان هذا مثلاً، أترونه؟ فقيل له ما له؟ فقال هذا – والله – لم يكن لينزع الكأس قديماً عن فمه، طاسة الخمر – قال – معه دائماً، على مدار الأربع والعشرين ساعة وهو مخمور، ثم تاب الله عليه، فقال له لعن الله كذا وكذا، وقام المسكين وهو غاضب، لأنه فضحه أمام الناس، الناس لم تكن تعرف أنه كان مخموراً، فقام وسبه – سب الإمام – ثم خرج من صلاة الجُمعة، بسبب حماقة هذا الإمام الغبي، هذا إمام غبي! ما هذا؟ إذا أردت أن تتحدَّث فلتتحدَّث بالشيئ الجيد، علماً بأن هذا مُستحَب، هذا من إبداع الخطيب وهو شيئ جيد،كأن يقول مثل فلان ما شاء الله، أعرف عنه أنه فعل كذا وكذا، في بعض هذه الأحيان لا تكون مدّاحاً، المُسلِم ليس مدّاحاً، بعض الناس يُدمِن المدح، لكن هذا ليس مدحاً، وإنما هو ضرب مثل، أحياناً يأتي في سياق مُناسِب وينزل على قلوب الناس برداً وسلاماً، يستحسنونه ويكون جميلاً ولطيفاً، وهل تعرفون بماذا يُشعِر الناس فعلاً؟ سأُعطيكم مبدأ فلسفياً، وهو مبدأ نفسي أيضاً، كل تأكيد على المُشترَك – وهذا المُشترَك قد يكون غرزياً، قد يكون اجتماعياً، قد يكون ثقافياً، وقد يكون غير ذلك وغير ذلك – يُبهِجنا ويُشعِرنا بالمُساواة.

لذلك أنا أقول – وأعوذ بالله من كلمة الله – مثلاً قد يأتي عالم جليل أو رئيس أو ملك أو وزير أو ولي صالح – مثلاً – أو شخص غني قدير أو مُدير كبير ويجلس مع أُناس عاديين على باب الله، فقراء! يجلس – مثلاً – ويضحك، يضحكون على شيئ فيضحك، ربما قال أحدهم نُكتة حتى غير مُؤدَّبة، فضحك كما يضحكون، هذا الشخص سوف تجد أنهم يُحِبونه أكثر ويشعرون أنه قريب منهم، أرأيت؟ لو تعفَّف وما إلى ذلك سوف يقولون طبعاً هو لم يضحك لأنه يرى أنه شيئ كبير، هو من طبقة ثانية، وليس ضرورياً أن يضحك، لكنهم سوف يشعرون بالبُعد ويجفونه، لن يُحِبون مجلسه بعد ذلك، ربما يحتاجون إليه لكنهم لن يُحِبوا مجلسه، لأنه ليس منهم، هو شيئ ثانٍ!

لو تكلَّم بلهجتهم سوف يُحِبونه، لأنه يتكلَّم مثلهم، رُغم أنه عالم كبير ويقدر على أن يتكلَّم بلهجة مُختلِفة تماماً وأن يذكر مُصطلَحات حتى لن يستطيعوا فهمها، لكنه يتكلَّم بلهجتهم العامية العادية – مثلهم مثله – ومن ثم هم يُحِبونه، لو حكى له أحدهم مأسأتها – مثلاً – بسبب فقده لابنه أو لزوجته بعد مرض – مثلاً – برَّح بها وما إلى ذلك – ذكر شيئاً مؤثِّراً، دراما Drama – وبكى المُتحدِّث وبكى هذا الرجل – الملك أو الوزير أو عالم الدين أو الصالح أو المُدير أو المياردير – سوف يجل ويجد في نظر الناس، سوف يشعرون بأنه إنسان غير طبيعي، سوف يقولون هذا الإنسان عظيم، لماذا هو عظيم؟ لأنه بكى، البكاء، الضحك، لُغة الناس، ثقافة الناس، وأساليب الناس كلها مُشترَكات، أليس كذلك؟ فالذي يُشارِكنها فيها يُشعِرنا بالمُساواة، أنه مثلنا، مثلنا! ليس أعلى منا، هو ليس شيئاً آخر.

النبي كان حريصاً على تطبيق هذه الفلسفة في الحياة كل يوم وكل ساعة، أليس كذلك؟ كان يلبس مثل الناس، لم يُحِب أن يلبس لباساً يختص به، اليوم علماؤنا لا يلبسون مثلنا، يُحِبون أن يلبسوا لباساً يتميَّز عن لباسنا، أليس كذلك؟ وهم حريصون على ذلك، ذات مرة كنا في حفلة وكان معنا أحد إخواننا وأصدقائنا من البوسنة، هو مُقرئ وحافظ كتاب الله، مُقرئ حقيقةً عظيم، رآني فعانقني وعانقته ثم تكلَّمنا وما إلى ذلك، وكان يلبس مثلي، لكن حين دخل على بعضهم خلع ملابسه، وارتدى الجُبة والعمامة مُباشَرةً، تزييف! لماذا يا أخي؟ أنت تُترجِم عنك القراءة الخاصة بك وصوتك الجميل – ما شاء الله – والرائع بغض النظر عن لباسك، لكنهم اعتقلونا في صور، هو أصلاً لا يعرف الكلام هذا ولا يُحلِّله، هو مُعتقَل! المسكين مُعتقَل بالمُناسَبة ويُمارِس مسجونيته في هذه الصور دون أن يدري، ومن ثم يغترب عن ذاته، وبمقدار هذا التزييف يغترب الشخص عن ذاته.

أنا – والله – مرة حاولت أن ألبس عمامة، ذهبت إلى الحج وما إلى ذلك فحاولت تأثراً بهم أن ألبس عمامة، وحين كنت ألبسها كنت أشعر بأنني غريب، ولم أقدر على أن أتكلَّم كما أتكلَّم الآن، بعد ذلك قلت ما العمامة هذه؟ لا أُريد هذه العمامة، أنا سألبس كما يلبس الناس في عصري، انتهى! أنا لست مُؤهَّلاً لها، لم يخلقني الله لكي أكون صاحب عمامة، لا أقدر على هذا، أشعر بأن مُخي قد أُغلِق، وفعلاً أنسى حتى بعض المعلومات البديهية التي تعلَّمتها في طفولتها، فقلت هذه رسالة من الله، كأنه يقول لي لا تكن هكذا، لا أُريد منك أن تكون هكذا، كُن كما تقول، كُن طبيعياً وتلقائياً، البس كما يلبس الناس، علمك وفكرك سوف يُترجِمان عنك وليس عمامتك وما إلى ذلك، فألقيت بها وقلت انتهى الأمر، No more عمامة إن شاء الله، انتهى! وهناك أُناس ليسوا كذلك، فالتأكيد على المُشترَك يُشعِر الناس بالمُساواة، النبي لم يلبس إلا كما يلبس الناس، في الجلسة كان يجلس كما يجلس أدنى الناس، أليس كذلك؟ أدنى الناس! أعلى الناس يقدر على أن يجلس جلسة أعلى الناس وأدنى الناس، دائماً هناك قاعدة في هذا الصدد، يقولون ماذا؟ يقولون الأدنى مُتضمَّن في الأعلى، أليس كذلك؟ مَن قطع ألف كيلو قطعاً هو قطع تسعمائة وقطع سبعمائة وقطع كيلو، لكن مَن قطع مائتي كيلو لم يقطع ألف كيلو، أليس كذلك؟ بمعنى أن الكبير هذا يقدر على أن يجلس جلسة الصغير، لكن هل الصغير يقدر على أن يجلس جلسة الكبير؟ من أين له هذا يا حبيبي؟ شحاذ ومُكحَّل، سوف يقولون له اخرج من هنا، سوف يطرودنه من المجلس للأسف! أليس كذلك؟ لو قام وقال أنا كذا وكذا، سوف يقولون له مَن أنت؟ اخرج يا حبيبي من هنا، اخرج بعد أن أتينا بك، لا يسمحون له! وهو طبعاً لن يفعلها، لن يفعلها من الأصل، لكن الكبير – وأكبر كبراء البشر هو رسول الله – حين جلس جلسة العبد ورفع رجلاً ووضع أُخرى قالوا له يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ ما الجلسة هذه؟ أتجلس هكذا على الأرض وتفعل هذا؟ العبيد كانوا يجلسوا هكذا! فقال إنما أنا عبد، صلى الله عليه وسلم، ما العظمة هذه؟ قال إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد، ما هذا العظمة؟ ما هذه الشخصية؟ ما هذا الإنسان؟ صلى الله عليه وسلم، يا ليتنا نستفيد منه في نهاية المطاف لكي نتعمَّق هذه الأشياء، هكذا كان في لباسه وفي كلامه، كان يمشي في الشارع ويجد أطفالاً، فيجلس ويتقرفص عندهم ثم يمسح رؤوسهم، كيف أنتم؟ يقول لهم، كيف حالكم؟ ابن مَن أنت؟ ما اسمك؟ ما كذا وكذا؟ في الشارع! هذا في الشارع، بعض الناس في المسجد لا يُحِب أن يُلقي عليك السلام، أليس كذلك؟ يدّعي أنه لا يراك، يقول سأنتظر إلى أن يُلقي علىّ السلام، بعض الناس حين يتصل به أحدهم عبر التليفون Telephone ينتظر إلى أن يقول له كيف حالك، يقول لا، لن أقول له كيف حالك؟ أعوذ بالله، ما الكبر هذا؟ ما الغطرسة هذه؟ هناك اُناس مرضى، نفوس مُعفَّنة ناتنة، هذه نفوس نتنة وهذه نفسيات مُعفَّنة، الإنسان لا يليق به الكبر، الكبر فقط لرب العالمين، لكن هناك أُناس هكذا، وهم مرضى، هؤلاء مرضى! يظن الواحد منهم أنه شيئ كبير، الرسول لم يكن هكذا أبداً، فالتأكيد على المُشترَك يُشعِرنا بالمُساواة، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ۩، تخيَّل! قال له أنت منهم، كُن مثلهم، وهذه حقيقة العبودية، نحن جميعاً هكذا، اللهم صل على سيدنا محمد.

ما أُريد أن أقوله يا أخ محمد إن النبي – عليه السلام – كان يقول وكان يُنكِر وما إلى ذلك لكن ليس على الشخص، وإنما يُعمِّم حتى إنكاره على السلوك المُنكَر، وأنت طبِّق هذا على نفسك، ولذلك أصحابه أفلحوا أو لم يُفلِحوا؟ أفلحوا، هم أكثر الناس تربيةً وأكثر الناس سداداً واستقامةً ورُشداً، أليس كذلك؟ وكذلك أزواجه، انظر إلى سير أزواجه ما شاء الله، اقرأ عن سير أزواج النبي، عندهم الزُهد، النُسك، الكرم، العبادة، الصلاح، القيام، وسرد الصيام، شيئ غريب يا أخي! انظر كيف كانت عائشة مثلاً، أم المُؤمِنين الصدّيقة! انظر كيف كانت، اقرأ عنها، اقرأ عن السيدة العظيمة هذه، هذا الأسلوب أفلح، انظر إلى الحسن والحُسين، كيف خرج الحسن والحُسين؟ هذان رجلان! رجلان قليل مَن هو مثلهما، ورباهما النبي بالطريقة هذه، بالعكس! مُنتهى الحنان والرحمة والتبسط وما إلى ذلك، تبسط غريب جداً جداً! النبي كان يُقبِّل زبيبة الحسن والحُسين، أي العضو الذكري، وطبعاً الأب العادي يُحِب أن يفعل هذا، أمهات كثيرة تفعلن هذا، وأنت يُمكِن أن تفعل هذا كأب، عادي! لكن هل النبي فعل هذا؟ النبي فعل هذا، لأن النبي على الفطرة، النبي ليس مُزيَّفاً، النبي أبعد خلق الله عن التزييف، التلقائية هي أعظم شيئ تأثَّرت به في شخصية، النبي فعلاً كان هكذا، أكبر مثال للتلقائية كان النبي، لا يُحِب التزييف أبداً، لا يُزيِّف شيئاً حتى عن نفسه، يخرج ويقول – مثلاً – لا تذكروا لي أصحابي إلا بخير، فإني أُحِب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر، لم يقل لا، أنا لا أُخدَع، أنا أبو العقول، أنا ذكي جداً وعندي فراسة، ومهما حكيتم لي سأُميِّز الصح من الغلط، لم يقل هذا! والذي يقول هذا أيضاً هو كذّاب، أليس كذلك؟ لأن الإنسان طين وماء، إذا قمت بخضه قليلاً فإنه سوف يُخَض ويُعكَّر، مهما كنت فيلسوفاً وعقلانياً سوف تتأثَّر إذا قال لك أحدهم فلان الذي تضع ثقتك فيه حكى عنك كذا وكذا أو قال كلمات لا أعرف ماذا يقصد منها، وأنا أقول لهذا الشخص هل أنت شيطان؟ الذي يقول هذا الكلام هو شيطان، أنا أكره هؤلاء الناس، أُقسِم بالله! وأحترم كل إنسان لا يُطيل لسانه في الناس ولا يتدخَّل إلا بالإصلاح، لو تدخَّلت قل الكلام الطيب، كُن محضر خير فقط، لا تقل غير ذلك، اتق الله يا رجل، فالنبي قال لا، لو شخص حكى لي شيئاً سيئاً سأتأثَّر وقلبي سيتغيَّر على بعض أصحابي، فاتقوا الله ولا تُغيِّروا لي قلبي، يا أخي ما التواضع هذا؟ لم يقل سيشكون في وسيقولون لو كنت نبياً لما تأثَّرت، كيف تُخدَع بكلام الناس؟ فما الجواب إذن؟ الصحابة أذكى منا طبعاً، ولن يشكوا فيه، لماذا؟ لأنهم يعلمون أنه لا يقول إلا ما قيل له، إذا جاءه وحي فهو وحي، إذا لم يأته وحي فإنما هو بشر، يستخدم حدسه، ويستخدم ظنه.

السيدة عائشة – مثلاً – قال لها في حديث الإفك يا عائشة إن كنت ألممتِ بشيئ فاستغفري الله وتوبي إليه، قال لها أنا لا أعرف، لم ينزل وحي إلىّ، والنبي تشوَّش وبدأ يستشير الناس، استشار أسامة واستشار عليّاً، قال لهما ما رأيكما؟ أشيرا علىّ، ماذا أفعل؟ شهر كامل والنبي مُشوَّش، فغضبت عائشة، كيف يقول لها هذا؟ ما معنى إن كنت ألممتِ بشيئ؟ هل أنا غلطت؟ هل أنت شككت فىّ؟ هي لم تغلط والنبي شك فيها، لكنه شك لأنه بشر، ولذلك أيضاً حين خرجت مرة صفية إلى النبي وهو في قيام الليل – كانت عنده وخرجت – رآهما صحابيان فأسرعا، فقال لهما النبي على رسلكما، إنها أمكما صفية، فقالا يا رسول أفيك نشك؟ فقال إن الشیطان یجري من ابن آدم مجرى الدم، هما زيَّفاً لكنه لم يُزيِّف، هذان الصحابيان هنا زيَّفا طبعاً، قالا هذا من باب المُجامَلة، لأنه رسول، لكن هو لم يُزيِّف، قال لهما لا، دعونا نكون على بلاطة هكذا كما يُقال، لا تُزيِّفوا علىّ ولا على أنفسكم، إن الشیطان یجري من ابن آدم مجرى الدم، أي سوف تشكون! ولك أن تتخيَّل هذا، سوف تشكون وسوف تقولون مَن هذه التي عنده؟ ولماذا؟ والشيطان سوف يستغلها ويُمكِن أن يُشكِّكهم حتى في نبوته، لماذا هناك امرأة غريبة عنده ليلاً؟ الله أعلم، هل هذا يجوز؟ هل هذا حلال له وحرام علينا؟ ما قصته؟ الشيطان يُمكِن أن يستغل هذا الموقف، هكذا هو الشيطان، الشيطان ملعون! الشيطان يُشكِّك في ربك، أليس كذلك؟ ليس في نبيك فقط، كم مرة شكَّكم في ربكم! مليون مرة، أليس كذلك؟ مُذ كنتم صغاراً إلى الآن، لو كان ولو لم يكن وكيف وما إلى ذلك، أليس كذلك؟ شكوك في الله وليس في النبي، فلا يُوجَد تزييف، ابتعد عن التزييف، كُن واضحاً وصريحاً، كُن تلقائياً، النبي كان أبا التلقائية، فهذا هو إذن، ولذلك النبي – عليه السلام – نجح، النبي نجح! وأنت يُمكِن أن تستخدم هذا لكن لابد وأن تكون عندك مُواصَفات كثيرة من رسول الله، في البيت لابد أن تكون قدوة حقيقية، قدوة حقيقية في كل شيئ! وسوف يلتقط أبناؤك وأولادك وأهلك منك هذا الشيئ، أرأيت؟ سوف يتلقطونه، أنا أقول لك أفضل مليون مرة للأب مثلاً – مليون مرة – أن يُبرهِن لأولاده على أنه صادق اللهجة بألا يكذب، لا يكذب! لا يقول حتى لأولاده قولوا لمَن يُحدِّثكم في التليفون Telephone هو ليس هنا، لو فعلت هذا لدمَّرت كل شيئ، سوف ينقص من احترام ابنك لك، سوف يقول ما هذا؟ أبونا يُحدِّثنا عن الصدق ويقول لنا وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ۩ ويأتي إلينا بآيات وما إلى ذلك لكنه كذّاب، ها هو أبونا يكذب! لو علَّمت أولادك وقمت بتربيتهم تربية صحيحة وأعطتهم حرية انفعالية سوف يقول لك أحدهم بابا هل يُمكِن أن أقول لك شيئاً دون أن تزعل؟ لماذا أنت كذبت؟ أنا أعرف رجلاً يُربي أولاده بهذه الطريقة، وفعلاً حتى ابنه الصغير – عنده خمس سنوات – يقول له مثل هذا، بابا أنت فعلت هذا الغلط، لا تزعل مني، أنت قلت هذا لكن هذا غلط، أليس كذلك يا بابا؟ فيخجل ويقول له هذا غلط، أنت مُحِق ولن أفعل هذا مرة ثانية، لكن نحن لا نُربيهم هكذا، نكذب ونُصدِّق أنفسنا، نقول هم لم يُلاحِظوا كذبنا في الكلام ومن ثم نحن لم نكذب، لكن هم لاحظوا وعرفوا هذا جيداً أكثر منك، يتأثَّر الأطفال ويُصدَمون، يقولون أبونا كذّاب، وهذا يُنقِص من احترامك، أليس كذلك؟ سوف يكونون كذّابين، ولو ضربتهم بسبب الكذب سوف يقولون عادي، هو يضربنا لأنه أبونا، لكن هو يكذب أيضاً، أليس كذلك؟ الأحسن من هذا ألا تضرب وألا تتحدَّث عن مواعظ، كُن صادقاً فقط، أرهم كم أنت صادق وسوف يصدقون! أليس كذلك؟ سوف يجدون أن هذا الكذب بثرة وشناعة ومقبحة، لأن هذه عملية غير مُتداوَل في الأسرة، عملة غير موجودة، عملة غير مُتداوَلة! أي هذا الكذب، من أين سيأتي؟ من أين سيُنفِقونه؟ هو غير موجود، حين يأتون به من الخارج وتُعاتِبهم يذوبون طبعاً، تقول لهم كيف هذا؟ نحن لوَّثنا جو الأسرة! هذه هي التربية، تخيَّل مثلاً – وهذا حصل، تأتينا مُكالَمات ورسائل للأسف – أن يدخل شاب مُراهِق على أبيه – هذا أبوه الذي يصل عمره مثلاً إلى أربعين أو خمسين أو ستين – فيجده يحضره فيلماً وسخاً، هذا يحدث طبعاً! يشكي لك الابن ويقول لك يا مولانا قل لي ماذا أفعل لأنني رأيت أبي المُتدين الذي يُصلي ويدعونا إلى الصلاة وقيام الليل وما إلى ذلك وهو يخون أمي، وهذه خيانة لأمه طبعاً، هو يشعر بأن هذا حتى جرح لأمه، لماذا؟ أنت عندك زوجتك، ما الذي تُريده؟

بالمُناسَبة أمس كنت أُريد أن أقول شيئاً لكنني لم أقله عن موضوع الحُب والزواج هذا، أُريد أن أقوله الآن لأن بعض الناس قد لا يفهم كلامي جيداً، انتبهوا! الذي توقَّف عن حُب زوجته وقال أنا أشعر بأن مشاعري تبخَّرت وبهتت وما إلى ذلك، سنقول له ما البديل يا حبيبي؟ هل سوف تُحِب وتتزوَّج؟ طبعاً سوف تُحِب – هذا أكيد في الأول – فتاة أصغر وأحلى وما إلى ذلك، وسوف تكون هذه تجربة جديدة، وماذا بعد؟ نفس الشيئ! والمرة هذه بعد مُدة أقل، هل تعرف لماذا؟ صدِّقني لأن الأولى – في تسعين في المائة من الحالات – هي التي صبرت عليك وبدأت حياتها معك وكنت في روقنك يا حبيبي، يا أبا الشباب! انتبه ولا تنس الحقيقة هذه، ضعها أمامك، أنت كنت في روقنك، كنت شاباً جميلاً قوياً وفحلاً، لكن أنت الآن لست كذلك يا بابا، أنت كهل أو شيخ، فالتي أخذتك هذه الله أعلم لماذا أخذتك ووافقت عليك، خاصة إذا كانت صغيرة وحلوة، قد يكون هذا بسبب الفلوس أو طمعاً في التركة أو لأنها لا تجد حتى مَن يأخذها ويلتقطها، لأن هذه ساقطة، ولا أعني أنها ساقطة في الأخلاق، يقولون:

لكل ساقطةٍ في الحيِّ لاقطةُ                             وكلُّ كاسدةٍ يوماً لها سوقُ.

فهذه الكاسدة وجدت مَن يشتريها، فأعطتك نفسها، جيد! لكنها لن تصبر عليك، بعد أشهر أو سنوات بسيطة جداً سوف تقول لك مَن أنت؟ هل سأُدمِّر شبابي معك؟ هل سأُدمِّر حياتي مع رجل كهل لا ينفع في شيئ مثلك؟ وأنت سوف تجد أنك توقفت عن محبتها، سوف تقول هذه قليلة الأدب وقحة وحقيرة وطعنتني في شرفي وما إلى ذلك، ساقطة! وماذا بعد؟ هل سوف تُكرِّر هذا للمرة الثالثة؟ هناك مَن يفعلون هذا، دمَّرت نفسك! ومن ثم سوف تنتهي حياتك وأنت غير مُستقِر، لم ترس، لم تصل إلى الميناء وإلى المرفأ، إلى متى؟ لا يا رجل، بالعكس! خُذ الفلسفة الثانية وافهم أن الحب سلوك، اختيار وسلوك! وتصرَّف على أساس تجديد الاختيار، أنا سوف أُجدِّد محبتي لزوجتي إن شاء الله، وسوف أتصرَّف فعلاً على هذا الأساس، وسوف تجد أن الحب سوف يأتي بالتصرف هذا، وسوف تبدأ تُلاحِظ ماذا؟ جوانب الجمال الباطنية التي في زوجتك وليست الظاهرية، بالعكس! سوف يكون ظاهرها بعد ذلك جميلاً، سوف تقول لا أرى مَن هو أحلى منها.

أنا أعرف رجلاً كان على هذا النحو، هو مَن حدَّثنا عن نفسه، وفعلاً كان معشوقاً للبنات هذا الرجل، هذا ما يُسمونه الــ Sexual susceptibility، سُبحان الله! هناك بعض الناس هكذا، الله أعطاهم هذا، وأنت حين تراه تشعر بأنك أحلى منه، وطبعاً أنت أحلى وأكثر جمالاً منه لكنك لست محبوباً لدى الإناث، انتبه! هو ليس كذلك، فيه مُواصَفات مُعيَّنة تميل إليها النساء، سُبحان الله! يُسمون هذا القابلية الجنسية، معشوق! شيئ يُجنِّن مخ النساء، وأعني بعضهن طبعاً، وماذا بعد؟ لم يلتفت ولم يُلق لهن بالاً، وعنده امرأة ليست جميلة، مُتوسِّطة الجمال بصراحة، وهو يستأهل مَن هي أحسن منها، لكنه يقول لا أرى في العالم مَن هي أجمل منها ولا أُبدِّلها بكل نساء العالمين، عنده قناعة وعنده رجولة هذا، انتهى! هذه تجربة وانتهى الأمر، وخاصة بعد أن يُوجَد أولاد وبنات، وخاصة إذا كانت امرأة غير مُشاكِسة، طيعة وطبية، ماذا تُريد أنت؟ ماذا تُريد منها؟ كُن أنضج من هذا وأكبر من هذا وأركز من هذا، أليس كذلك؟ واخدم في النواحي الأُخرى في الحياة، أليس كذلك؟ كما يقول العوام – والله العوام عندهم حكمة – لا تعش عمرك وعمر غيرك، أليس كذلك؟ انتهى الأمر! عمرك كشاب انتهى، أنت الآن كهل، عمرك ككهل انتهى، أنت الآن شيخ في الستين وما إلى ذلك، انتهى! لن تقدر على أن تُرجِع الزمان، أليس كذلك؟ الآن جاء عمر ابنك، ابنك الآن الشاب الذي عمره خمس وعشرون سنة دعه يتزوَّج ويتمتَّع وينبسط، افرح بمُتعته وسعادته، أنت الآن شيخ يا حبيبي، انتهى! وأي إنسان لا يخضع للحقائق تُهشِّمه الحقائق، وهذا معروف! أليس كذلك؟ كل إنسان يُحاوِل أن يُكابِر على الحقائق تُحطِّمه الحقائق، تُكسِّر رأسه وتجعله أضحوكة بين الناس أيضاً، أليس كذلك؟ الناس حين يرونه لن يقولوا هذا له لكنهم سيضحكون عليه في ظهره، سيقولون أرأيتم هذا الشيخ الذي وصل عمره إلى السبعين؟ طلَّق زوجته وتزوَّج ببنت عشرين سنة، أرأيتم؟ أرأيتم؟ وحين يرونه سيقولون أهلاً أهلاً يا مولانا، لكنه ليس مولانا وإنما مويلينا، يرون أنه صغير جداً، لا! لا تسمح للناس أن تسخر منك في ظهرك، كيف سأفعل هذا؟ لن أسمح لهم، سأعرف كيف أتصرَّف.

حدَّثتكم ذات مرة بقصة أخينا الدكتور عبد الجبار، لو هو موجود لن أذكرها، لكنه غير موجود، ذهب لكي يتزوَّج – الحمد لله – وما إلى ذلك، وكان عنده فُرصة لأن يتزوَّج بنت عشرين سنة، قال لي في مُنتهى الجمال والأدب والتدين، ولكن – قال لي – أنا رفضت، قلت له لماذا؟ أنا أفهم قصته وأعرف أنه رجل ناضح وراكز! قال لي يُوجَد فرق كبير بيني وبينها، لماذا أظلمها معي؟ وأنا عندي هدف ثانٍ غير الزواج أيضاً، عندي هدف أن أتقرَّب إلى الله بكفالة الأيتام، أنا أُريد امرأة كهلة أو قريبة من الكهولة وعندها أيتام، بحيث يرزقني الله منها بولد أو ولدين وأكفل أيتام، هذا ما أُريده، فقلت له يا أخي كثَّر الله من أمثالك، ما هذا؟ نُضج! شخصية ناضجة، راجل راكز، ليس لأن عنده المال وجاء من النمسا له أن يأخذ بنت العشرين، وماذا بعد؟ سوف يُعاني هو وسوف تُعاني هي، أليس كذلك؟ وسوف تنتهي الحياة بكارثة ومأساة، لا تتجاهل الحقائق، اجعل الحقائق واضحة أمامك.

(ملحوظة) فتح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم باب الحوار مرة ثانية قائلاً هل هناك شيئ ثانٍ يا إخواننا إن شاء الله؟ ثم سمح لأحدهم بالحديث قائلاً تفضَّل يا أخي، فتحدَّث بدوره وذكر أن فضيلته قال حين يفعل الأبناء شيئاً جيداً لا ينبغي أن يُتفاخَر بهم، فلا يُظهِر الآباء للأبناء فخرهم به، لكن الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم استنكر هذا، وقال إن الأمر ليس كذلك، ثم استتلى قائلاً الموضوع ليس بهذه الطريقة، ما ذكرته أنا هو الآتي، أعط ابنك فُرصة مُناسِبة، علماً بأن هناك آباء يُفسِدون شخصية آبائهم بإفاهمهم أنهم استثنائيون جداً، استثنائيون من الاستثنائيين، كأن يقول أحدهم لابنه – مثلاً – أنت ابني ولا يُوجَد مَن هو مثلك يا حبيبي، يا ابني أنت كذا وكذا، سُبحان الله! أنا رأيت الكثيرين ولم أر مَن هو مثلك، ثم يقول لزوجته أرأيتِ يا أم فلان؟ أرأيتِ كذا وكذا؟ والولد جالس مع أبيه وأمه ويسمع هذا ومن ثم يُصدِّقه، هذا إفساد وتحطيم لشخصية الإنسان، وهذا فاشل! هذا الابن سيكون فاشلاً، أنا أقول لك حتى وإن نجح علمياً أو مادياً سيكون فاشلاً علائقياً.

أنا لدي صديق ناجح مادياً – تماماً ناجح – وناجح علمياً، أُحِبه وأحترمه، وفي الباطن هو إنسان مُمتاز جداً جداً حقيقةً، طيب وكريم وما إلى ذلك، ولكن – أسأل الله ألا يسمع درسي هذا وإلا سيُحطَّم المسكين – أنا أتحاشى لقاءه حقيقةً ولا أكون سعيداً حين ألتقي به، لا أكرهه والله، أُحِب أن أراه لأنه إنسان طيب، عندي Ambivalence كما قلت أمس، عندي ازدواجية عاطفية، أُحِب أن أراه لأنني أُحِب رؤيته فهو صديقي وأخي ولا أُحِب أن أراه، هل تعرف لماذا؟ لأنه يشعر بأن الله لم يخلق مثله، هو فريد Unique، الله لم يخلق مثل امرأته، هي فريدة Unique، واحدة ولا تُوجَد ثانية لها، المصنع الإلهي صنع منها واحدة وفقط، الله لم يخلق مثل أولاده، كلهم فريدون Uniques، الله لم يخلق مثل سيارته، سيارته لا يُوجَد مثيل لها، وسيارته موديلها قديم، ظهر من عشر سنوات، لكن لا يُوجَد مثيل لها، مهما ذهبت وقمت باللف في هذه الدنيا لن تجد مثلها، سيارة مُمتازة، وهكذا وهكذا! شيئ قاتل، وإذا جلس معك فإنه لا يُعطيك فُرصة لكي تتحدَّث، لو تحدَّث واستفدنا من علمه لقلنا أهلاً وسهلاً، كل حديثه عن نفسه وزوجته وأولاده وشهاداته وسياراته وخردواته وهبله، ويجلس معك عشر ساعات دون أن يكل أو يمل، أنا طبعاً أمل وأكل وأتمنى أن تبتلعني الأرض، وهو آخذ في الحديث، يا أخي ضاع وقتي وضاع عمري، ما هذا؟ إلى متى يا أخي بالله عليك؟ وتُحاوِل أن تُوصِّل له هذا لكن كيف سوف تُوصِّله؟ ماذا سوف تقول له؟ في النهاية أرثي لحالته، حين يبتعد عني أرثي له وأقول هذا المسكين ضحية، قطعاً ضحية لوالد ووالدة أفسدا شخصيته وهو صغير، لذلك أنا أقول لك هناك أُناس آخرون يكونون ضحايا لتربية ثانية، أعرف شخصاً – أعرفه جيداً – حدثت له بعض المشاكل في شخصيته وما إلى ذلك، ما شاء الله ابتلاه الله بوالده، هذا الولد طبعاً محبوب جداً جداً، الله رزقه حُب الناس، كل مَن يراه يُحِبه ويُفتَح له قلبه، وهو ولد ذكي، كان الأول على مدرسته وعلى فصله، وعنده مواهب، الله أعطاه مواهب كثيرة جداً جداً، سُبحان الله! شخص مُتميِّز، الله خلقه هكذا مُتميِّزاً، سُبحان الله! وهو ذكي ولمّاح ومُؤدَّب وخجول، لكن الابتلاء الخاص به أين؟ في والده، دائماً ما يكون مُتسلِّطاً عليه، وهو يُحِبه، أي والده! يُحِبه جداً جداً، لكنه يقول له لا تظن أنك ذكي، أنت بليد وغبي، لم أر مَن هو أبلد منك يا بليد، يا كذا وكذا، يقول له هذا بمُناسَبة وبغير مُناسَبة، حتى كان يشك هذا الولد في نسبه، وكان يأتي ويبكي ويستحلف أمه، يقول لها سألتكِ بالله هل أنا ابنكما أم أنا لقيط وأنتما قمتا برتبيتي عندكما؟ فتنفعل أمه وتقول له هل أنت مجنون؟ هذه الأم المسكينة لا تقدر على أن تفهم، لأن الأب أيضاً لا يقدر على أن يفهم، وهو أب صالح وطيب، لكن ليس عنده مبادئ تربوية، هبل واستهبال! من عندهم يخلقون مبادئهم الخاصة ويُدمِّرون كل شيئ، جنون يا أخي! لا يُوجَد علم، لا يُوجَد فهم، مُستحيل أن تسمع واحداً من الخُطباء الذين يتحدَّثون عن التربية يقول هذا، مُستحيل! هذا غير موجود، إذا تحدَّثوا عن التربية فإنهم يأتون بالآية التي ذكرناها اليوم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ۩، ويقولون مروهم بالصلاة واضربوهم وكسِّروهم وما إلى ذلك، ثم ينتهي الأمر، هذه التربية! أما التربية العلمية والتي تدخل فيها الأشياء بدقة فليست موجودة، انظر إلى رسائل الدكتوراة في التربية الإسلامية، عندي منها الكثير جداً، وهي مُضحِكة جداً، كلها مليئة بعض النصوص، كلام فارغ! دكتوراة ماذا؟ والله لا أُعطيه دبلومة عليها، أُقسِم بالله! أتدرس تربية؟ إذن فلتذهب ولتقرأ للناس الذين تكلَّموا في التربية وأجروا تجارب لعشرات السنين، طبعاً لا نُوافِق على كل شيئ، لكن هناك أشياء كثيرة صحيحة يا أخي، اذهب وفتِّح عينيك، كل استشهاداته إحياء علوم الدين، القابسي، ابن خلدون، ابن العربي، الدكتور فلان، محمد قطب، وسيد قطب، ما الهبل هذا يا أخي؟ أهذه رسالة دكتوراة؟ ما الهبل الذي عندك هذا؟ ثم يقول لك هذه دكتوراة في التربية بامتياز، وكل هذا كلام فارغ، كلام ليس فيه علم يا أخي، فهؤلاء على هذا النحو، هذا الأب المسكين حطَّم ابنه، حطَّمه نفسياً، شكَّكه في نسبه للأسف، أفقده الثقة في نفسه، الولد صار في مهب الريح، ولم يشفع له كل ذكائه وأدبه وتدينه وثقافته، كل هذا لم يشفع له، قال لماذا؟ أنتم تعرفون لماذا، قال حتى لا يُغَر، يا ما شاء الله! أنت حطَّمته بالكامل، كيف يُغَر؟ أهذا سيُغَر؟ لقد تسبَّبت في عمل عُقدة وضاعة عنده، أي Inferiority complex، المسكين هذا صار عنده عُقدة نقص، يشعر بأنه أقل من الآخرين، وفعلاً هذا أثَّر على أشياء كثيرة في حياته، وفي المُقابِل شخص آخر يقول إن ابنه هذا لم يخلق الله مثيلاً له، هذا مُحطَّم وهذا مُحطَّم، بصراحة هذا غلط يا أخي، فالآن – مثلاً – تشجيعك لابنك مطلوب، مطلوب أن تُشجِّع ابنك إذا نجح، إذا جوَّد، إذا أتى بأي شيئ، وإذا أحسن أي شيئ في حدود معقولة ومقبولة، من غير مُبالَغة! أي لا وكس ولا شطط، لا إفراط ولا تفريط.

والذي يتحدَّث عن ابنه أمام الناس أقول له لا يجوز لك أن تُدمِن الحديث عن ابنك ونجاحاته أمام الناس، هذا يُشعِره أمام الناس أنه شيئ، يُتعاطى معه كشيئ، كما يمتدح أبوه سيارته، أرأيتم هذه المرسيدس Mercedes؟ هذه إس كلاس S-Class، والله اشتريتها بثمن لوتو Lotto، ما شاء الله! وهي مُمتازة، والسلندر Cylinder كذا والحصان كذا، مُمتازة! ونفس الشيئ مع ابنه، أرأيتم هذا الولد؟ هذا الولد ما شاء الله عليه، هذا كذا وكذا، الولد بعد مرة ومرة لن يتقبَّل، قد يقبلها مرة، لكن في ثاني مرة وفي ثالث مرة سيختلف الأمر، لماذا؟ يتحدَّث أبوه عنه كأنه من مُقتنياته، من جُملة مُقتنياته! وبالمُناسَبة أنا أقول لك نحن عندنا فلسفة ضمنية للتربية تقوم على أن أولادنا من مُقتنياتنا، ملكنا! صدِّقني فنحن نتصرَّف على هذا النحو، أنت ترى مَن يقول عندي أو لدي أو لي أربعة أولاد، حتى اللُغة خطيرة هنا، خطيرة! لو قلت منّ الله علىّ بكذا لكان هذا أبعد من هذه اللُغة الملكية، لو قرأت كتاب Haben oder Sein – أي – To Have or to Be? – الخاص بإريك فروم Erich Fromm لاستفدت كثيراً، كتاب رائع جداً جداً، أروع ما قرأت في التفرقة بين هذه الأشياء هو هذا الكتاب، يُحذِّرك من عقلية التملك هذه في كل شيئ، انتبه! نحن عندنا حتى في المعنويات أيضاً تعابير تملكية، أليس كذلك؟ وهذا خطير جداً، فالطفل يشعر بأنه شيئ، يُتحدَّث عنه كشيئ، وهذا يُشعِره بالاغتراب عن ذاته، سوف تقول لي ما البديل؟ وسوف أقول لك ما البديل وكيف يكون، ابنك جالس معك مثلاً، وقد نجح وحصل على المركز الأول، تميَّز وبرَّز كما يُسمونه النمساويون، ليس تبرَّز وإنما برَّز، أي صار مُبرِّزاً، أتى بالمركز الأول، أتى بــ Eins، حين يسألك صديقك كيف كان الامتحان وما إلى ذلك؟ قل له اسأله، فهو أعرف مني، هذا مُمتاز! مُمتاز جداً للطفل، قد يخجل وما إلى ذلك، لكنه سيُسأل ما الذي حصل؟ فيقول الحمد لله رب العالمين، فيُقال له بماذا أتيت؟ فيقول أتيت بــ Eins، فيُقال له ما شاء الله وما إلى ذلك، هذا مُمتاز! وقل له ما شاء الله وطبطب عليه، لا تُوجَد مُشكِلة في هذا، لأنه هو مَن قال، دعه يُعبِّر عن نفسه هو، علِّمه أن يُعبِّر هو عن نجاحاته، لا تتحدَّث دائماً أنت، لا تقل والله ابني كذا والله ابني كذا وابنك ساكت دائماً، لا! ابنك ليس شيئاً، هذا الذي أردت أن أقوله، وفعلاً أنا كنت أشعر بهذا في طفولتي، كنت أكره أن يُتحدَّث عني، وأشعر بحرج شديد، لكن كان عندي شعور غامض، لم أفهم لماذا، لماذا أكره هذا الشعور إذن؟ لماذا؟ كما كنت أكره شعور الضم أيضاً، لا أُحِب أن يأخذني والدي كل فترة لكي يضمني، لا أُحِب هذا الشيئ، ابني محمد الآن أصبح مثلي، لا يُحِب هذا! لماذا؟ لأن ربما الطفل عنده ثقة أكثر مما يتوقَّع أبوه، ولا يُحِب أن يُعامَل كطفل صغير، كأنه فقط لعبة نُقبِّلها، يُمكِن أن يشعر أيضاً  بالاغتراب، كأنه مثل لعبة تأخذها كل فترة وتُقبِّلها، لا! لكن لو خلقت ظرفاً للعناق سيتقبَّل الطفل هذا، هل فهمت الفرق؟ لا تُقبِّله وتمدحه وهو جالس إلى جانبك دون سبب، مثلما تفعل مع التليفون Telephone الخاص بك، تقول إنه جميل ومُمتاز، خاصة حين يكون جديداً، هو يشعر بنفس الشيئ، يقول لماذا أبي يُقبِّلني كثيراً؟ لكن – مثلاً – لو قام بعمل شيئ جيد وأنت استحسنته وقبَّلته سيشعر بأن هذا أتى كمُكافأة على فعله هذا.

حين تأتي من الخارج يُمكِن أن تُقبِّل ابنك، أهلاً وسهلاً بهذا، وكذلك حين يذهب إلى النوم، حين يذهب إلى المدرسة، وحين يأتي من المدرسة، عندك كل يوم ما يقرب من ثلاثين فُرصة لكي تُقبِّله وتضمه، هذه الفُرص تأتي في سياقاتها، لكن لا تُعامِله كشيئ وتُقبِّله كثيراً لأنك فرحان به، انتبه! طبعاً أكثر مَن يقع في هذه الحماقة الأمهات، الأمهات وليس الرجال، هناك رجال يقعون في هذا، لكن هذا عند الأمهات أكثر للأسف الشديد، يقعن في هذه الحماقة، وخاصة حماقة أن أبناء الواحدة منهن استثنائيون، الله لم يخلق من هو أجمل من ابنها، لم يخلق شعراً أنعم من شعره، لا تُوجَد مشية أحسن من مشيته، ولا كذا وكذا، فتُدمِّر الطفل، لا! دعونا نكون مُتواضِعين لكي نُعلِّم أبناءنا التواضع، حتى الأبناء حين يرون الآباء والأمهات يُعبِّرون عنهم بمُستوى فعلاً موضوعي يتعلَّمون أن يكونوا موضوعيين، قد يقول شخص لأحدهم ما شاء الله عليك، أنا – والله – لم أر مثل وجوه أولادك، فيقول له لماذا؟ بالعكس! أولادي عاديون، لماذا تحلف بالله؟ هؤلاء أولاد عاديون، وأولاد فلان أجمل من أولادي، هذا مُمكِن! لكن لا تقل هذا أمام أولادك، انتبه! لا تقل هذا أمامهم، ولا تقله حتى بين الإخوة، لا تقل هذا أحلى وهذا أجمل، ممنوع هذا، لأنه يُحدِث أيضاً مشاكل، لا تقل هذا أطوع وهذا أذكى، ممنوع كل هذا، علماً بأن هذه مُقارَنات تعيسة تُجرى بين الأطفال، فهناك أشياء لابد أن تُفهَم علمياً، أرأيت كيف؟ هذه الأشياء ليست من عندي، أنا تعلَّمتها أيضاً من كُتب والحمد لله، ربما لو تُرِكت وحدي لصعب علىّ أن أصل إليها، ولبقيت أُمارِس أخطاء مثلي مثل غيري، فالكُتب وفَّرت علىّ كل هذه المُعاناة وكل هذه الإخفاقات، هذا هو العلم، العلم له دور إنقاذي.

(ملحوظة) سمح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور بالمُداخَلة قائلاً تفضَّل يا سيدي، وكان أهم ما ورد في هذه المُداخَلة سؤاله الذي ختمها به وهو هل لابد من الخطيئة حتى تكتمل الشخصية؟ فقال فضيلته مُجيباً جميل، هكذا أصبح السؤال مُحدَّداً، هو هذا! وهذه صياغة فلسفية دقيقة، هل لابد من الخطيئة حتى تكتمل الشخصية؟ وأنا سأقول لك من حيث المبدأ نعم، لكن من حيث التفاصيل التفاصيل بعدد التفاصيل واقعية، وهي كثيرة بالملايين، كيف هذا؟ أولاً الشخصية لا تكتمل إلا بالتجربة – تجربة الخطأ واستنباط الصواب من خلال الخطأ والمُعاناة – طبعاً، لأن هذه فطرة الإنسان، وهكذا هُيأ وخُلِق، هكذا خلقه الله! يبدو أنه لا يتكامل إلا عبر هذه الطريقة، لماذا إذن؟ لماذا؟ لأن – كما قلنا – هو مخلوق لكي يُخطئ، وليس لكي يستقيم بالمعنى المُطلَق للاستقامة، لا! هذا أولاً.

ثانياً الإشكال الذي حدث لحضرتك وربما لأكثر من أخ من الجالسين وربما لم يُعبِّروا عنه ما هو؟ موضوع الفاحشة، أنا أعرف أن هذا حسّاس جداً بالنسبة لنا، كأن على كل واحد فينا أن يُمارِس كل المعاصي بما فيها الفواحش حتى يكتمل، وهذا غير صحيح، لم أقل هذا، هذا غير صحيح بالمرة طبعاً، بالعكس! الآن لو سألني أحدكم هل أنت تسمح بهذا؟ سأقول له بالعكس، حاول قدر ما تستطيع ألا تنزلق إلى كبائر الذنوب بأي ثمن بإذن الله، أنا واحد من الناس كانت لي دعوة – وشعرت أنها مُستجابة – حين كنت شاباً مُراهِقاً، وكنت حينها في يوغوسلافيا شاباً ومالكاً لأمر نفسي، وكنت أتعرَّض لإغراءات يومية مثلي مثل غيري من الطلّاب، لكنني كنت أقول يا رب إذا كنت تعلم أنك ستُخلي بيني وبين نفسي – أي ستخذلني – وسأقع في هذه الفاحشة فأسألك بأسمائك الحُسنى – وكنت أقول هذا فعلاً بلهفة – إما أن تقبض روحي وإما أن تأخذ بصري أو تشلني قبل أن أرتكب هذه الفاحشة، لعلمي بخطورتها، وكم هي قادرة على تدنيس جوهر الروح الإنسانية! أعرف هذا، الله سماها فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ۩، أعرف هذا، ولكنها أيضاً لو وقعت – لا قدَّر الله – مع أي إنسان سأطمئنه كما قلت، لن تكون نهاية المطاف، انزع وتُب إن شاء الله، وكأن شيئاً لم يكن عند الله عز وجل، ولكن ما أقوله مبدئياً نعم، طبعاً لكل منا معاصٍ، أرأيت كيف؟ وكل واحد منا معاصيه بحسبه، أنا أحياناً حين تأتيني بعض الأسئلة والاستفسارات عبر التليفون Telephone أستغرب، أستغرب من مُستوى الناس، طبعاً بالنسبة لي هذا غريب، أستغرب جداً! كيف يُمكِن لمُسلِمين أن يفعلوا مثل هذه الأشياء؟ هذه بالنسبة لي ليست مُستغرَبة وبعيدة فقط، وإنما هي أشياء تهز كياني، غير مُمكِن! أحياناً أستنبط من أسئلة بعض الناس وحتى من بعض الأحاديث الجانبية التي تكون بيني وبينهم سمات وشيات للشخصية والتي تكون مُخيفة بالنسبة لي، هل يُمكِن أن يكون هناك شخص بهذه الشخصية؟ إلى هذه الدرجة وصل الأمر؟ وبالنسبة لي هذا ليس مُقزِّزاً ومُخيفاً فقط، بل هذا مُرعِب وفظيع، وهو يتعايش مع نفسه بشكل عادي، يعيش بهذه الطريقة، سُبحان الله! وهذا فظيع.

هناك أُناس عندهم قدر من الحسد لا يُمكِنك تخيله، قسماً بالله! وهم يعيشون معنا، عندهم قدر من الحسد عجيب، هناك أُناس عندهم قدر من الحقد لا يُمكِنك تخيله، كأن الواحد منهم كان معجوناً من مادة الحقد، ما هذا؟ كيف أنت على هذا النحو؟ لا أقول كيف تكون مُسلِماً وإنما كيف تكون بشراً عادياً وتعيش بهذه النفسية؟ يعيش بها وتجد أنه يُصلي ويصوم ويذهب ويجيء وما إلى ذلك، ولكن هذا المسكين عنده مشاكل كبيرة، ومن ثم عنده ذنوب كثيرة، مثلاً هناك أُناس آخرون ليسوا على هذا النحو، هم أرقى والله أنعم عليهم، لكن عندهم ذنوب من نوع ثانٍ، ذنوب الواحد منهم مُختلِفة، كما قالوا حسنات الأبرار سيئات المُقرَّبين، لو الناس عرفوا أن هذه ذنوبه وأنه يُعاني منها وأنه يخاف من الهلاك بسببها لقالوا سُبحان الله، أين نحن وأين هذا الرجل؟ هذا يعني أننا سندخل جهنم بنسبة مائة في المائة، هي بالنسبة لهم ليست ذنوباً، وإنما هي أشياء عادية جداً وبسيطة جداً، لا يعتبرونها من الذنوب، تخيَّل! فكل إنسان تكون ذنوبه بحسبه، بحسب ما وصل إليه من الكمال، وبحسب ماضيه ومشروطياته وظروفه أيضاً.

فلا يُفهَم كلامي أبداً بل لا يُفهَمن كلامي على أنه يُفيد ضرورة – والعياذ بالله – وانبغاء تجريب كل المعاصي والفواحش، حاشا لله! أتحدَّث عن المعصية من حيث أتت، المعصية كخطأ، وكعصيان لأمر الله، أياً كانت هذه المعصية، وهنا تختلف – كما قلت لك – أحوال ومقامات الناس وما يُمكِن أن يتلطَّخ به كل واحد من الناس، حتى القرآن – ولنكن صريحين – سجَّل على الأنبياء بشكل واضح جُملة أخطاء، لن أدخل في جدل المُتكلِّمين، لكن أنا مع القرآن الكريم بوضوح، أليس كذلك؟ القرآن قال هذه أخطاء، لكن ما هذه الأخطاء بالنسبة لنا؟ ليست بشيئ، أليس كذلك؟ مثلاً خطأ داود أنه تعجَّل في الحُكم قبل أن يسمع مقال الخصم الثاني، هذا يحدث معنا يومياً، يتصل بك أحدهم قائلاً أرأيت ماذا فعل معي عدنان؟ فتقول له يا أخي هذا لا يجوز، أعوذ بالله يا أخي، هدى الله عدنان، أنت هكذا ظلمتني، لماذا تقول هدى الله عدنان؟ هل أنا ضللت؟ مَن أدراك بالحقيقة؟ لعلي أكون مظلوماً يا حبيبي، تقول هدى الله عدنان وفتح الله عليه، والله لم يكن هذا أملنا في الشيخ، دمَّرتني! اسمع مني يا بابا واعرف ما الذي حدث، فمثلاً هذا الخطأ نقع فيه كل يوم ونحن نرى أنه شيئ عادي، بالعكس! يرى الواحد منا نفسه على أنه إنساني وما شاء الله وقّاف مع الحق، وتقول إنك جبرت بخاطر هذا المظلوم، رُغم أنك ظلمت شخصاً ثانياً ربما يكون هو البريء مثلاً! فهذا خطأ، في حق داود يُعتبَر خطأً كبيراً، ويُقال بكى من أجله، أربعون صباحاً وهو يبكي على الخطأ هذا، نوح – مثلاً – الله قال له إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۩، لأنه قال له هذا ابني، هذا ابني يا رب، قال إنه ابنه بالفطرة يا أخي، هذا طبيعي! رأى الماء وما إلى ذلك، وهذا ابنه! فهو قال له هذا ابني، أنت قلت لي احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ۩، لكنه نسيَ أنه قال إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ۩، نسيَ حتى الاستثناء، طبعاً هناك لهفة، هناك لهفة والموقف صعب، فهذا خطأ كبير، طبعاً في الأساطير بكى عليه ثلاثمائة وخمسين سنة، هذه أسطورة طبعاً، لكن للأسف مذكور في الإحياء وفي غيره، قيل فبكى عليه ثلاثمائة وخمسين سنة، هذه أسطورة! لكن قطعاً بكى كثيراً بسبب الكلمة هذه.

فما أُريد أن أقوله الذنب من حيث الأصل في طبيعة الإنسان نعم موجود، وسيغلط الإنسان، كلنا ذاكم الخطّاء، لابد وأن نغلط بطريقة أو بأُخرى، لكن هذا لا يعني – والعياذ بالله – الإغراء بالمعصية أو تسهيل أمر الفواحش أو مُساواتها، لا! الله قال إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ۩، فجعل منها كبائر وصغائر، أليس كذلك؟ فلابد أن يفهم المُسلِم أيضاً عبر منظوره القيمي أن الذنوب تتفاوت، لا يُمكِن أن يُساوي بين هذه وهذه ثم يقول كلها معاصٍ، لا! ولذلك كل توبة أيضاً تكون بحسب الذنب، هناك ذنوب تتعلَّق بالصغائر وحتى التوبة لا تُشترَط في تكفيرها، وقلنا هذا عدة مرات، حين تتوضأ تذهب وحدها، حين تستغفر تذهب وحدها، حين تشاكك شوكة تذهب وحدها، حين ترجع إلى البيت جائعاً ولا تجد طبيخاً – هذا ذكرناه في موضوع أمس – تذهب وحدها أيضاً، أي هذه الذنوب، لأنك لم تجد طبيخاً وسوف تنتظر لساعتين، هذا هو طبعاً! كل شيئ يسوء المُؤمِن هو مُصيبة، فأي مُصيبة تُصيبك وأي شيئ يُحزِنك ويُنكِّد عليك يُكفَّر به من ذنوبك، والله هذه رحمة واسعة، ثم تبقى الكبائر والعياذ بالله، وهذه التي ينبغي أن نُغلِّظ شأنها أمام أولادنا، لابد وأن نُغلِّظ شأنها! وبفضل الله الكبائر بالذات – أنا أقول لك – هي الذنوب الأكثر وضوحاً وتجسداً بحيث تُقيم برهاناً من نفسها ومن المكروثين بها على أنها سيئة ودون حتى أن نخوضها، لا أعتقد أن واحداً فينا لابد وأن يقتل شخصاً بريئاً مُتعمِّداً لكي يفهم أن القتل فظيع وأنه يُدمِّر الضمير ويُعذِّب الإنسان، أليس كذلك؟ لا أعتقد هذا، لا أعتقد أنك يُمكِن أن تقول لا بأس أن أخوض هذه التجربة فلعلي أتوب وأتكامل، لا أعتقد هذا أبداً، بالعكس! الأغلب على ظني أن الإنسان يعرف أنه إن خاض هذه التجربة السوء سيتحطَّم ربما، أعني مَن قتل نفساً بريئة، أليس كذلك؟ فهذا ليس ضرورياً.

وكذلك السرقة – أن تسرق ما لغيرك – مثلاً، كلنا جرَّبنا السرقة، كلنا نُجرِّبها يومياً، مَن يقول لي كيف يحدث هذا جُزئياً؟ يحدث عن طريق سرقة أقوال غيرنا، جهود غيرنا، إبداعات غيرنا، تصعد المنبر وتقول أنا – والله – توصَّلت يا إخواني إلى فكرة عظيمة، وهي فكرة الشيخ – مثلاً – أو فكرة أبي أنس، فلماذا سرقتها؟ هو هنا غير مُحترَم، وهذه السرقة تُعذِّبه، يقول أنا لم أكن مُنضبِطاً، أنا لم أكن مُحترَماً، وكذلك الحال حين تكتب بحثاً وتقول إنه بحثك رُغم أنك نقلت كل ما فيه، أنت نقلته كله! مثل هذا حدث قبل أيام، نقل أحدهم كل ما في بحثه فقلنا له يا رجل اتق الله، كل هذا منقول، فأنزل رأسه، فقلنا سنُعطيه اثنين، وهو لا يستأهل حتى أن يحصل على اثنين بالسالب، لأنه نقله كله! هذه سرقة، وهو يعرف أنها سرقة، وتجد أن ضميره في الداخل يُؤنِبه وأن صورته اهتزت، هذه الــ Self-image اهتزت أمام نفسه، فكيف بسرقة جهود الناس الحقيقية؟ هناك مَن يخرج في الصباح من بيته ولا يعود إليه إلا في المساء لأن خلفه أسرة، ثم تأتي بكل بساطة وتغتال حقه وحق أولاده، مُنتهى الدناءة والسفالة! ليس شرطاً أن تُجرِّب هذا، لا! أنت تعرفه، جرَّبته في مُستويات بسيطة ولا يُعجِبك، أليس كذلك؟ دع هذا.

أنت مُتزوِّج الآن، وأتت فُرصة – والعياذ بالله – قبَّلت فيها فتاة أو امرأة في ظرف مُعيَّن، وشعرت بخيانة لزوجتك وخيانة لدينك وأمانتك، هذا سيُؤرِّق ضميرك جداً جداً، فتقول سُبحان الله، هذه قبلة والله سيغفرها إن شاء الله، سأستغفر لكي يغفرها الله لأنها ليست بالشيئ الخطير، فكيف – لا قدَّر الله – لو فعلت الفاحشة؟ ما الذي سوف يحدث؟ هذا يُعطيك نموذجاً، أليس كذلك؟ مثل البيع السابري، هذه القبلة أنبت ضميرك وعذَّبته، فكيف بالوساخة الكاملة؟ أليس كذلك؟ سوف تجد أنها مسألة صعبة، ليست سهلة! هذا هو المبدأ، لكن ألا يُوجَد مَن يحتقب الكبائر؟ يُوجَد، لماذا؟ هذا موضوع ثانٍ، لم يترب كل الناس تربية واحدة، لم ينشأ كل الناس في أسرة تتقي الله وتخاف الله وتُذكِّرهم به، ليس كل الناس على هذا النحو! أليس كذلك؟ كل الناس ليس عندهم هذه الحساسية وهذا الضمير اليقظ، هناك أُناس عندهم ضمير مُتبلِّد قليلاً، ليس كل الناس هكذا! هناك أُناس ستفعل، فعلينا إن وُجِدوا – وهم موجودون حتماً، ولا قدر الله يُمكِن أن نُبتلى بهم في أقرب الناس إلينا كأولادنا وبناتنا – أن يكون عندنا نظرية في التعامل مع هذه الحالات، أرأيت كيف؟ لأننا لا نفعل هذا الفعل – بفضل الله – نستفظعه بُحكم ثقافتنا ونشأتنا، لكن لا ينبغي أن يخرج هذا الاستفظاع عن التحديد الإلهي لأوزان ومثاقيل هذه الأشياء يا أخي، أنت تجعلها نهاية، لكن الله لم يجعلها نهاية بفضل الله عز وجل، أليس كذلك؟ وقال لك وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۩، وذكر ماذا؟ وَلَا يَزْنُونَ ۩، ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۩ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۩، بعد ذلك بآية ماذا قال؟ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ۩، وقبلها ماذا قال؟ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، إذن قال يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۩، إذا تابوا وآمنوا وما إلى ذلك فبعون الله ستصير حتى السيئات حسنات، ولك أن تتخيَّل هذا، فماذا تُريد أكثر من هذا الترحاب؟ أليس كذلك؟ ترحاب غامر وعامر، سماحة إلهية كبيرة، هذا هو المعنى.

لذلك انظر إلى حكمة سُفيان الثوري – مثلاً – وحكمة كل أئمة أسلافنا، رضوان الله عليهم، ماذا كان يقول؟ كان يقول كان من هديهم أن أحدهم إذا سُئل في مسألة فظَّع أمرها، أي من مسائل الذنوب، يقول لا، أعوذ بالله، هذه كذا وكذا، هذه خطيئة، والمفروض ألا نفعله، فإذا ابتُلي أحدهم لم يُقنِّطه من رحمة الله، يقول له له لا، بعون بالله ستُغفَر، نعرف أن هذه خطيئة، لكن هذه ليست نهاية الدنيا يا أخي، الله كريم، والله كذا وكذا، والنبي قال، من أجل ماذا؟ من أجل أن يتوب الرجل هذا، أرأيت كيف؟ حتى لا تُيئسه، لو قنَّطته سوف ينتهي الأمر، سوف يُكرِّر هذا الشيئ، استنقذه! هذه هي الحكمة.

أنا عندي معلومات كنت أُحِب أن أذكرها، لكنني لم أذكرها، لأن هنا يُوجَد شبّاب عزّاب ومُراهِقون، لذلك لم أذكرها، لم أذكرها مرة في خُطبة ولن أذكرها إن شاء الله، سأموت دون أذكرها، ما رأيك؟ وهي مكتوبة في كل كُتب التفاسير، أي إنها ليست معلومات غير مُتاحة للجميع، موجودة في كل كُتب التفاسير وفي كل كُتب الفقه، لكن من الغلط أن تُذكَر لشباب يافعين مُراهِقين، سوف تُغريهم بأشياء لن يكون مصيرهم حسناً معها، هل فهمت قصدي؟ لأنها تحتاج إلى حكمة، هذه المسائل تحتاج إلى حكمة.

ابن عباس – وهذا في مُصنَّف ابن أبي شيبة، ويُقال هذا مذهبه الصحيح، هو عاد إلى مذهب جمهور الصحابة – جاءه رجل وسأله عن حُكم مَن قتل مُؤمِناً مُتعمِّداً، قال له هل توبة؟ فقال له البتة ليس له توبة، ليس له توبة، انتهى! هلك بسببها، الكافر عنده توبة، لكن هذا ليس عنده توبة، فأُحبِط الرجل وأنزل رأسه ثم ذهب، فقال له أحدهم ما القصة يا ابن عباس؟ فقال له رأيت رجلاً يسألني وفي عينيه الغضب، هذا أتى لكي يأخذ رخصة، كيف أقول له توبة؟ سوف يقول سأقطع رأسه وسأتوب، ما هذا الغباء؟ هذه ستكون فتوى غبية، ولذلك جاءه في مُناسَبة أُخرى رجل آخر، قال له يا ابن عم رسول الله حصل كذا وكذا وكذا، وأُريد أن أتوب، فقال له ما قصتك؟ فقال له قتلت، فذكَّره بالتوبة، تخيَّل! هذا يعني أن مذهبه يقول حتى القاتل له توبة، وهذا الصحيح وهذا المعقول، لو قلنا ليس له توبة لأغرينا الناس – كما قال الإمام ابن عاشور قدَّس الله سره – بالكفر، أليس كذلك؟ الإسلام يجب ما قبله، هذا يعني أننا نقول لكل مَن قتل – على مذهب مَن يقول ليس له توبة ويُنسَب إلى ابن عباس – هناك حيلة ثانية، اكفر يا سيدي، سب الرب، هيا! سب الرب، سب الدين، سب محمد، وسب القرآن، لكي تكفر، ثم ارجع مُباشَرةً إذا أمهلك ملك الموت، وفي مُعظَم الظن سيُمهِله، مَن يعلم؟ لم يحصل عكس هذا إلا قليلاً، ارجع وتُب، انطق بالشهادتين وسوف يُغفَر لك كل شيئ، كفرك هذا وقتلك للنفس أيضاً، هل هذا جيد؟ هل من الجيد أن نُكفِّر الناس هكذا؟ هل يصح أن ندفعهم إلى الكفر؟ فالقول بأن القاتل ليس له توبة إغراء بالتكفير، أن نُكفِّر الناس! أليس كذلك؟ لأنه في النهاية يُريد أن يستنقذ نفسه، سوف يكفر ثم يتوب، هذا المنطق غير صحيح، لكن يبدو أن الحكمة فعلاً كانت ما فعله ابن عباس، كان يُغلِّظ وكان يقول ليس له توبة حتى لا يقع الناس في إثم قتل النفس، فإن ابتُليَ أحدهم بهذا الإثم يسَّر له وفتح له باب التوبة والرحمة الإلهية، هذه حكمة، حكمة عالية! فهذا الذي نُحِب أن نقوله.

أنا في الحقيقة حين تكلَّمت أمس وتكلَّمت اليوم كان في ذهني نماذج واقعية حاصلة حتى لا أكذب عليكم، وأُحِب أن أُوصِل رسالة، لأن – صدِّقوني – حتى هنا لا يُوجَد أب أو أم حزين وغضبان ومكروث ومنكوب لأن ابنه دخَّن – مثلاً – أو حتى شرب من طاس بيرة أو ترك صلاة الجُمعة أو الجماعة أو الصبح، لا! كلها أشياء كبيرة، كلها! كلها علاقات جنسية وأشياء تتعلَّق بها، هذا الذي يهز الوالدين هنا، فنُحاوِل أن نُفهِم هؤلاء أيضاً هذا، نقول لهم هذه يا جماعة أحسن طريقة لاسترجاع أولادكم، أولاً ليست كيف تتصرَّف وإنما كيف تُفكِّر، غيِّر من تفكيرك! طبعاً من الصعب أن أتصرَّف، قال لي أحدهم سأقتل، هل أقتل قتل شرف – إن شاء الله – أم ماذا أفعل؟ ما رأيك؟ أرأيتم بالله عليكم؟ (ملحوظة) ضحك بعض الحضور، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا تضحكوا، لا! لا ابتلانا الله بهذا، بالعكس! والله العظيم هذا شيئ يُبكي، أُقسِم بالله! هذا المسكين يحتاط ويقول لي ماذا أفعل؟ هل أرتكب جريمة شرف كالتي يقومون بها في بلادنا العربية والإسلامية أم ماذا أفعل؟ هذا حين يسمع كلاماً مثل هذا – صدِّقوني –  سوف يمسح هذا الكلام عن قلبه أشياء كثيرة جداً جداً، وأنا أعرف أنه سوف يدعو لي بالخير أيضاً في غيابي، وسوف يقول هل الأمر كذلك إن شاء الله؟ طبعاً يا أخي كذلك، وأسهل من كذلك، ابنك ليس نبياً، ابنتك ليست نبية، هي ليست معصومة، وهو ليس معصوم، ما المُشكِلة؟ الكثير مِمَن يُصلون معنا هنا زنوا، كثير منهم زنوا! وبعضهم يزني إلى الآن ويُصلي، وأنت تراه كأخ لك ويقول لك أسألك الدعاء يا أخي، وتقول له سأدعو لك إن شاء الله، يقول لك ادع لنا يا أخي بظهر الغيب، والمسكين يزني أو زنى، لكن الذي زنى وتاب والذي يزني ويتوب – الحمد لله – يقبله الله، الحمد لله يا أخي، الله يقبل الجميع، ما بك؟ وأنت ترى أنه إنسان طيب وما شاء الله – كما قلنا – عليه نور، قد يكون الرجل زنى ثم تاب ورجع، فتجد عليه نوراً لأن الله قبله، قال إذا تاب العبد الملائكة تتباشر في السماء، تُبشِّر بعضها! لكم البُشرى، فهذا تاب وما إلى ذلك، هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، يُهنئون أنفسهم بهذا، ربنا يُحِب هذا يا أخي، لا تُقنِّط الناس!

قال له يا داود أتعلم مَن هم أبغض عبادي إلى؟ قال له مَن؟ قال له الذين يُقنطِّون عبادي من رحمتي، هؤلاء أكثر مَن أكرههم! هناك أُناس على هذا النحو، يُحِبون أن يُقنِّطوا الناس، هذا غير صحيح، فهذه الرسالة مُوجَّهة لأمثال هؤلاء وهي لنا أيضاً، وأسأل الله ألا يبتلي أحداً منا أو واحدة منا من النساء، اللهم آمين، لأن هذه بلوة كبيرة بصراحة، لكنني أقول حين تقع الآن كيف ستتصرَّف؟ بناء على الكيفية التي تُفكِّر بها، فكِّر هكذا وافهم هذا يا أخي، هو هذا إن شاء الله، هذه ليست نهاية المطاف وليست نهاية الدنيا،  سوف يتوب – إن شاء الله – وسوف يرجع كل شيئ على ما يُرام، وفي نفس الوقت – كما قلنا – هناك رسالة أُخرى، لا تُقلِّل من حُبك لابنك أو ابنتك، لابد أن يشعر أنك لا تزال تُحِبه، وهذا الحب لابد أن يكون غير مشروط، لابد وأن يفهم هذا! حتى لو حاول أن يتحداك وأن يمتحنك، قد يقول لك ماذا لو بقيت أُمارِس هذا الشيئ؟ عندي صاحبتي هذه وسأظل معها بالحرام وما إلى ذلك، فهل ستظل تُحِبني؟ لابد وأن يفهم أنك ستظل تُحِبه حقيقةً، قل له يا ابني غداً ستتزوَّج – إن شاء الله – وستُخلِّف، قل له لو قلت لك لن أُحِبك سأكون كذّاباً، طبعاً أُحِبك، كيف لا أُحِبك؟ لكن هذا الكلام كله حين تقوله فقط سيكون أيضاً غير مُفيد، لابد أن يفهم هذا عبر السلوك لكي يعرف أنك تُحِبه، عبر السلوك، عبر النظرة، عبر التعامل، وعبر كل شيئ، تخيَّل! لابد أن يعلم أنك تُحِبه، لا ينبغي أن يشعر بأنك مُتسلِّط عليه وبأنك شرطي يُراقِبه، هذا أكثر شيئ يكرهه المُراهِق أو المُراهِقة، انتبه! لا تُحاوِل أن تُحدِّد له حياته، كأنك تُريد أن تُقولِبه وأن تجعله يمشي على نفس سكتك، هذا يُجنِّن المُراهِق، ما رأيك؟ ولذلك – مثلاً – لو سألني أحدكم سأقول هذا الجواب، وأنا لا أُحِب أن يسألني أحد، أُحِب كما قلت أمس أن يُفكِّر الإنسان، لا تطلب مني فتوى، هذه مُشكِلتنا! الناس تقول دائماً كيف نتصرَّف؟ لا يا أخي، قل كيف أُفكِّر؟ بناء على أفكار اليوم وأمس سنفترض حالة وهمية هكذا، وأكيد هي تحدث وحدثت، سنفترض أن بنتاً هربت لكي تتعاطى المُخدِّرات – مثلاً – أو أن ولداً هرب لكي يتعاطى المُخدِّرات، الولد يهرب أكثر لكي يتعاطى المُخدِّرات، نفترض أنه صار يتعاطى الهيروين هذا وبدأ يهرب من البيت مع صديقاته أو مع أصدقائه، وبدأ يُمارِس أشياء مُحرَّمة وما إلى ذلك، هو مَن يُريد أن يهرب، هو لا يُريد البقاء في المنزل، سوف تقول لي كيف أتصرَّف؟ كما قلنا هذا السؤال غير دقيق، لابد أن تعرف كيف تُفكِّر، قل كيف أٌفكِّر؟ قبل قليل قلت فكرة، لا تُشعِره بأنك شرطي يُراقِبه، لا تُشعِره بأنه مقهور لك، لا تُشعِره بأن حُبك له مشروط بالتوبة والرجوع، لابد وأن يرجع نظيفاً وإلا فالأمر انتهى، غلط! هذا كله غلط، العكس تماماً هو الصحيح، لابد أن تفعل العكس تماماً، وبالتالي إذا هرب فسأتركه، لن أُلاحِقه، سأدعه، ولن أُبلِّغ عنه الشرطة، ولن أُحضِره إلى البيت، لأن هذا غير مُفيد، سيتوق إلى أن يهرب مرة أُخرى وسيكرهني بشكل زائد، سيُحاوِل بكل وسيلة أن يتخلَّص من سطوة هذا الشرطي الكريه المقيت، أليس كذلك؟ هذا ليس أسلوباً صحيحاً، والقانون يُساعِده للأسف الشديد، سأتركه! لكن حين يتصل ويقول يا بابا أنا تعبان سأُهرَع إليه، سأقول له ما الأمر يا حبيبي؟ ما الذي حصل يا بابا؟ سوف يقول أف، فعلاً والدي يُحِبني إلى هذه الدرجة، أنا هارب وأسأت إليه ووضعت رأسه في التراب وما إلى ذلك، أنا تسببت له في مشاكل وأعرف أنه تعبان ولا ينام من أجلي، لكن حين عرف أن عندي مُشكِلة وأنني تعبان جاءني وهُرِعَ إلىّ! هذا يُمكِن أن يُبدِّل حياته رأساً على عقب، أرأيت؟ لكن هذا يحتاج إلى فهم، يحتاج إلى فهم وإلى دراسة لكي تعرف كيف تتعامل، لا يُمكِن لإنسان عادي غير دارس أن يتعامل على هذا النحو، سيظن أن هذا الأسلوب غير صحيح، سيقول كيف هذا؟ هذا ابني ولابد أن أُحضِره حتى بقوة الشرطة يا أخي، لكي أنقذه مما هو فيه, لابد أن أُنقِذه من هذا البلاء، لكن أنت لن تُنقِذه، بالعكس! أنت تُغريه لكي يُواصِل العناد والمُشاكَسة.

لذلك أنا وعدت – وإن شاء الله أنا فاعل بإذن الله تعالى إذا كتب الله في العُمر بقية – بعمل سلسلة كالتي قمنا بعملها عن الأطفال الصغار، هذه كانت سهلة، لكن الأصعب ستكون مع المُراهِقين، كيف نتعامل مع المُراهِقين؟ وأنا قلت أمس تقريباً كلنا ينجح مع الصغار، وكلنا إلا مَن رحم الله يفشل مع المُراهِقين، مَن نجح؟ قليل جداً جداً مَن نجحوا النجاح الصحيح، وكما قلنا هذا ليس شرطاً، أنا هنا – أعيد وأُكرِّر فتحمَّلوني – رأيت أُناساً نجحوا مع أولادهم بالمعنى الذي تندَّرت عليه ورفضته أمس للنجاح، ابنك عمره خمس وعشرون سنة، لكنه لا يقدر على أن يتكلَّم بجُملة في محضر الرجال، ما هذه الشخصية؟ وهو في النمسا هنا، على عكس هذا الأخ بارك الله فيه، يُمكِن أن تجد طفلاً صغيراً يتكلَّم ويُناقِش أمه ويُناقِش أستاذه، يُناقِش الأستاذ بشكل عادي! وهو في روضة الأطفال – Kindergarten – وعمره خمس سنوات، يتكلَّم بشكل عادي، يقول أُحِب هذا ولا أُحِب ذاك، أُريد كذا وكذا، لو فعلت كذا لكان أحسن، وأنت تستغرب من هذا، تقول ما هذه الحرية؟ ربما تكون Over قليلاً، أي بشكل زائد عن اللزوم قليلاً، لكن هناك حرية، وهذا مُمتاز، وابن مولانا هذا عمره خمس وعشرون سنة ولا يقدر على أن ينظر إليك، تتكلَّم وتُناقِش دون أن يقدر على أن يُضيف جُملة واحدة، وإن أضاف يخجل ويرتبك ويدخل بعضه في بعض – كما يُقال – ويرتجف ويتعرَّق، ما هذا؟ عنده مشاكل نفسية، اذهب به إلى الطبيب النفسي – Psychiater – مُباشَرةً، لعله يقدر على حل بعض عُقده لك، لأنك عقَّدت ابنك، فهل تظن أن هذا سيكون ناجحاً؟

لذلك أمثال هؤلاء ليسوا طبيعيين، أذكر قصة وقعت حين جئت إلى يوغوسلافيا، حين جئت إليها استقبلني رجل طيب، فقلت هكذا يخلق الله أُناساً مُؤدَّبين وأوادم وعلى حياء، استضافني في بيته – بارك الله فيه – وهو لا يعرفني، قلت له أنا من مُعسكَر النصيرات وأنت من مُعسكَر كذا، فقال لي أهلاً وسهلاً، تفضَّل! أعطاني مفتاح بيته وكان يطبخ لي الغداء والعشاء، ولا يسمح لي بفعل أي شيئ، ولا يُمكِن أن تسمع منه كلمة، عاقل ومُؤدَّب، شيئ غير طبيعي، أنا قلت ما هذه التربية؟ كنت مُعجَباً إعجاباً شديداً به، لم تكن عندي حكمة، أُعجِبت به وقلت هذه التربية النموذجية، بعد ذلك تركته وذهبت إلى الصرب وما إلى ذلك، المُهِم هو كان في زغرب في كرواتيا، فسألت عنه، فقالوا هذا كذا وكذا، فقلت لهم ما الأمر؟ فقالوا هذا صار أبا الفواحش، امرأة صاعدة وامرأة نازلة، ولا ينتبه إلى الدراسة ولا إلى أي شيئ، فقلت لهم ماذا؟ مُستحيل! فقالوا هذا ما يحصل والله العظيم، فقلت لهم يا جماعة كيف هذا؟ فقالوا هذا هو، وصار إنساناً مُختلِفاً تماماً، أيقظ في ذهني هذا مبدأ، مبدأ جديد! قلت ما القصة؟ هذا يعني أن العاقل – السهتان والسهمان كما يُقال – ليس مُؤدَّباً وليست شخصيته قوية بالضرورة، بالعكس! قد تكون شخصيته ضعيفة تنتظر فُرصتها، مثل الذي ينتظر فُرصته أربعين سنة لكي يرتشي رشوة كبيرة، أليس كذلك؟ قال لك هو مُوظَّف رسمي في الجمارك وهو مُحترَم، حين كانت تأتي إليه الرشاوى بمئات الدولارات كان يرفضها، كان يقول لا، أعوذ بالله، لعن الله الراشي والمُرتشي، لكن اختلف كلامه حين جاءه هؤلاء وقالوا له ما رأيك في أرنب – أي في مليون – مثلاً؟ قال هذا أرنب وباع الدنيا ومَن فيها، باع بلده! فهذا يُقال فيه إنه انتظر أربعين سنة فقط لكي بيبع نفسه، طبعاً هو رأى أنها لا تُساوي مائة دولار أو مائتي دولار، لكن حين عُرِض عليه مليون باعها بمليون، في نهاية المطاف مَن يبيعها بمليون لو اضطر سيبيعها بعشرة، لكنه لم يكن مُضطَراً، مُرتَّبه كان يكفيه، لو اضطر واحتاج وشعر بالعوز لباعها بعشرة يوروات أو بعشرة دولارات، أليس كذلك؟ هذه الخطورة! فهذا الشخص الذي ترى أنه عاقل وما إلى ذلك قد يكون على العكس من هذا، وأنت تفهمون كلامي، يبدو أن التجارب التي تحصل تُؤكِّد النظرية هذه، أمثال هؤلاء ينتظرون فُرصتهم للأسف لكي ينتقموا من أنفسهم، هم غير راضين حتى عن أنفسهم، هم غير راضين عن حياتهم، لا يُوجَد شاب في هذه الدنيا يرضى لنفسه أن يكون جالساً دون أن يتكلَّم، هو يُحِب أن يتكلَّم لكنه غير قادر على الكلام، يُحِب أن يقول معلومة لكنه غير قادر على القول بها، يُحِب أن يعترض لكنه غير قادر على الاعتراض، ويُحِب أن يُعبِّر عن وجهة نظره لكنه غير قادر على التعبير، هذا سيكون ناقماً على نفسه! أليس كذلك؟ وأمس كلنا إنه سيكون ناقماً على كل مَن جعلوه بهذه الطريقة، فلو جاءته الفُرصة لكي يتحرَّر سوف يتحرَّر وسوف يُمعِن في الانتقام من نفسه، سوف يُحاوِل أن يُعطيك صورة مُختلِفة تماماً للصورة التي كان عليها، ولذلك أنت ترى أحياناً أن بعض مَن يُوصَف بالحياء أصبح إنساناً لا يُوصَف بأنه مقيت وإنما يُوصِف بأنه وقح، تقول له كيف تتواقح على هذا النحو؟ أنت أمس كنت كذا وكذا، فيقول لك ما يُحزِنك ويُسمعِك كلاماً غريباً، هل تعرف ماذا يُحاوِل هذا المسكين؟ يُحاوِل أن يبني صورة مُختلِفة، لأنك كنت تظن أن هذا الحياء حياءً وهو كان يراه – وهو مُحِق – ضعفاً، أليس كذلك؟ كان يراه ضعفاً حقيقياً.

ولذلك علماء الشريعة حتى عندنا أيضاً بكل ذكاء قالوا لنا هناك حياء محمود وهناك حياء مذموم، ليس كل مَن أنزل رأسه واحمر وجهه يكون مُؤدَّباً وحيياً، قالوا لا، الحياء الذي يمنع من العلم سؤالاً وجواباً ليس حياءً شرعياً وهو مذموم، يُحِب أن يسأل لكنه لا يقدر، يقول لك جلست مع الشيخ ثلاث ساعات وكنت أُحِب أن أسأله لكنني لم أقدر، تقول له وما الذي منعك؟ فيقول لك لم أقدر، ضعيف! يقول أنا أستحي، لكنني أقول له أنت لا تستحي، أنت ضعيف الشخصية، جرِّب وافعلها مرة، وسوف تجد أنها عادية، إذا لم تفهم فعليك أن تُناقِش الشيخ وأن تُراجِع كلامه، وسوف تجد أنها عادية، ناقش أستاذك وناقش أبيك وأمك، عادية وليس فيها أي شيئ، فهذا ضعف شخصية وليس حياءً، ونضحك على أنفسنا ونقول إنه حياء، طبعاً لكي نتوافق مع أنفسنا، ونحن نعرف أن هذا كذب.

المُهِم قمت بعمل قاعدة في تلك الأيام حين كنت في يوغوسلافيا وقلتها للشباب، قلت لهم يا جماعة كل مَن ترون أن لا شخصية عنده وأن ليس عنده ثقة بنفسه وأنه لا يقدر على أن يُعبِّر عن نفسه ويجلس في بيته لا تثقوا فيه، هذا لا أثق فيه وهذا شخص يُمكِن له أن يفعل أي شيئ، وجاءت الأيام لتُصدِّق هذه النظرية، والله العظيم! أحدهم كان من نسل رسول الله، ما رأيكم؟ كان يقطر رقةً وحياءً وأدباً، وكان يُحدِّثنا عن أقربائه وعن كراماتهم، العمات والخلات والأخوال، شيئ غريب! لكن – نفس الشيئ – عنده شخصية ضعيفة، لا يتكلَّم ويقول أنه مُؤدَّب، لا يُحسِن أن يتكلَّم ويتعثَّر، ينطق بكلمتين ثم يسكت وما إلى ذلك، وبعد ذلك – نفس الشيئ – انتهى إلى الكأس والبنات، فما هذا؟ أنت من نسل رسول الله يا أخي، دنست نسبك الشريف، فعلاً كان من نسل رسول الله، وكان عالماً ومن الأولياء، لماذا فعل هذا؟ معذور! حين تدرسه نفسياً تجد أنه معذور، لكن الشخص القوي الشخصية ليس كذلك، بالعكس! لا يرضى بهذا ويحترم نفسه، يعرف أن هذا الشيئ غلط ويقول إنه لن يفعله، تخيَّل! فهذه هي المسألة، هذه هي.

فإن شاء الله أكون قطعت بالجواب عن هذا السؤال، أحسن أخونا جداً حين طرحه، فأنا قلت له من حيث المبدأ نعم المعصية ضرورية لتكامل الشخصية، ضرورية قطعاً، لكن هذا لا يعني أن كل معصية لابد أن أن تُجرَّب، لا يُمكِن أن أمر بالمعاصي كلها وأن أُجرِّب كل واحدة في هذه المعاصي وأكتشفها لكي أتكامل، بالعكس! قد أُدمَّر، هناك معاصٍ مُدمِّرة – كما قلنا – كالقتل، لا قدَّر الله، ما الكلام الفارغ هذا؟ هذا غير مُمكِن، ليس هذا المعنى، وكما قلنا على المُستوى الثاني من الجوب مَن ابتُليَ بهذه القاذورات – كما كان يقول أسلافنا – لا نُقطِّهم من رحمة الله، أليس كذلك؟ ولا نُفهِمهم أنهم كشخصيات أصبحوا مماسيخ وما إلى ذلك، بالعكس! هم سيظلون أوادم وبشراً، لكن سلوكاتهم خاطئة ومقبوحة، ونحن نُحاوِل أن نُطهِّرهم منها إن شاء الله، مع احتفظانا باحترامهم ومحبتهم، وإنما هم إخواننا إن شاء الله، هذا هو! هذا سلوك راقٍ، أليس كذلك؟

انظر إلى الغربيين، عندهم نصف الطريق صحيح والنصف الآخر غالط، ما النصف الصحيح؟ يظل الواحد منهم يتقبَّلك ويحترمك ويقول لك أنت حر، هذه شخصيتك وهذه ظروفك وما إلى ذلك، لكن ما المُشكِلة؟ حتى السلوك نفسه عندهم كله نسبي ومُبرَّر، ليس عندهم مُشكِلة، هو حر في أن يكون شاذاً وهي حرة في أن تكون شاذة، هذا ما يحدث! كان يقول محمد إقبال – رحمة الله عليه – الغربيون أفلحوا في نصف الطريق، حين قالوا لا إله، نصف مُوحِّدون، هم مُمتازون، كسَّروا الآلهة الزائفة كلها، وقالوا لا إله، أي إله منفٍ هنا: الزائف أو الحق؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور الزائف، فأكَّد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم على أنه الزائف، ثم قال الله قال لا إله، هذا ينطبق على الكل، حتى نفسك هذه حين تُؤلِّهها تكون كاذبة، هذه ليست إلهاً، هذه باطلة! وكذلك الحال مع الأصنام كلها المعنوية والمادية، لا إله! قال هم قطعوا نصف الطريق، وأثبتوا فعلاً أن لا إله، للأسف – قال – وقفوا في نصف الطريق، ولم يهتدوا إلى إلا الله، وهذا سر مُعانتهم، نحن كمُسلِمين – صدِّقوني – نقول الله هو الإله عز وجل، لكن أيضاً عندنا آلهتنا الزائفة، فلم نُحقِّق لا إله بالمعنى السليم في إطار إلا الله، أليس كذلك؟ عندنا آلهة زائفة.

الأخ الذي حكيت لكم عنه وقلت إنه حكى لي عن أخ يعرفه قال لي الأخ هذا عنده مبدأ في الحياة، وهذا ليس مبدأ طبعاً، هذه كيفية نفسية للأسف بحُكم التربية الخاطئة، قال لي كل إنسان عنده سُلطة هو مُقدَّس، لم أُعلِّق على هذا، لأن هذه المسألة زهقت منها ومللت بسببها، هو تربى هكذا! أي شخص عنده مثابة اجتماعية وسُلطة هو بالنسبة له مُقدَّس، شيئ كبير! لا يقدر على أن يرد عليه، لا يقدر على أن ينصحه، لا يقدر على أن يقول له لا، يتقبَّله ويعتبره شيئ غير طبيعي، فماذا عنك أنت؟ ما هذه التربية؟ ما هذا الكلام الفارغ، تربيتنا نحن تقول لا إله إلا الله، الألوهية الحقيقية لله، كل مَن عدا الله بشر وضعاف ونسبيون ومحدودون ويُؤخَذ منهم ويُرَد عليهم، الكل هكذا! أليس كذلك؟ الهيبة الكاملة لله، الجلال الكامل لله، نحتاج تربية تكون مُتوازِنة على هذا النحو، فهذا هو التوازن في الأشياء.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمنّ علينا وعليكم بالرشاد الكامل – إن شاء الله – نحن وأولادنا وذُرياتنا إن شاء الله.

في الجُمعة المُقبِلة بعون الله تعالى – كما وعدتكم – سنُكمِل هذا الموضوع، لكن بنصائح عملية، أنا إلى الآن لم أُجرِّب هذه النصيحة، أنا عازم على تجريبها في هذه الأيام بإذن الله، لن أخطب قبل أن أُجرِّبها، طبعاً هي لا تتم في أسبوع، ستبدأ في أسبوع، لكن يُمكِن أن تتم في شهرين أو في ثلاثة أو في أربعة، كيف نُحدِّد وجهتنا؟ كل واحد فينا كيف يُحدِّد وجهته في أسرته؟ وهل هذا الكلام النظري مُفيد وفعلاً سيُصبِح عملياً في النهاية ومن ثم يُمكِن أن يُؤثِّر على أولادنا؟ كثيراً جداً جداً، أكثر مما نتخيَّل يا إخواني، والله العظيم! أكثر مما نتخيَّل، وهذا لابد وأن نفعله، وفي الحقيقة أنا لم أُؤلِّفه، أيضاً أنا قرأته واستفدته، لم يخطر لي على بال في يوم من الأيام للأسف الشديد ولم يقله أحد لي، استفدته وأُريد أن أفيد الناس به، لأن بحسب ما قرأت هذا مُجرَّب في آلاف الأسر وناجح نجاحاً مُنقطِع النظير، الأسرة كأسرة الآن – ليس كإنسان، ليس كفرد، وإنما كأسرة – لابد وأن تُحدِّد وجهتها، لكن بطريقة جماعية، يجلس الأب والأم والأولاد والبنات، ليس جلسة واحدة وإنما جلسات، قد تستمر شهراً أو شهرين أو ثلاثة أو أربعة بحسب الظروف، وتُحدَّد الأهداف والغايات والرؤية الكاملة للأسرة، يُتفَق عليها! ويكون هذا الاتفاق من خلال النقاش، لي عبارة قلتها ذات مرة وأُريد أن أتوسَّلها هنا، وهي ما لا نُؤمِن به نحن على استعداد لخيانته، هذا صحيح! لأن هذا يعني أن ما لا نُؤمِن به نكفر به، أليس كذلك؟ فكيف أكون وفياً لما أكفر به؟ فالناس يستغربون، كيف خان هذا الفلسطيني – مثلاً – أو العراقي بلده؟ لأنه لم يُؤمِن ببلده، انتبهوا! لو آمن ببلده لما خانه، يموت ولا يخونه، كيف خلعت هذه التي كانت المُحجَّبة حجابها وذهبت لكي تُمارِس الفاحشة؟ لأنها لم تُؤمِن بحجابها، لو آمنت به حقيقةً لوضعته، ولذلك هدَّدت بعض الفتيات بأنها إذا لم تنزع الحجاب ولم تأخذ حريتها فسوف تخون حجابها وتُدنِّس شرف أبيها، لأنها لم تُؤمِن بهذا الحجاب، أنت تضعه على رأس ابنتك لكي تفتخر بها فقط أمام الناس، كأنك تقول لهم انظروا إلى ابنتي، سوف تخونه وسوف تضع رأسك في التراب من أجل أن تنزع هذا الحجاب، وربما تكون من غير حجاب ولا تخونك، تكون كاشفة لشعرها لكنها وفية ولا تخونك، لأننا فقط نكون أوفياء لما نُؤمِن به، هل فهمت كيف؟ هذه هي.

فنفس الشيئ يحدث الآن مع الأسرة، أولادك – الأبناء والبنات – ينبغي أن تتناقش معهم بخصوص الوجهة والرؤية، ثم تقوموا بصياغة ذلك، وطبعاً من الضروري أن يُصاغ كتابياً، وأن يكون هذا أول بأول، فلا تُوجَد صياغة نهائية، لا يُوجَد Draft نهائي، تُوجَد مُسوَّدات! يُكتَب Draft ثم يُكَتب Draft آخر وهكذا، حين يُراهِق الولد تقوم بعمل تغييرات، تقول أُريد تغييرات، لا تُوجَد مُشكِلة! مع أي تجديد في الأسرة يُمكِن أن تُجدِّد في الوجهة، سوف تقول لي وهل فعلاً هذا يُلزِمهم؟ يُلزِمهم، لأن هذا كلامهم وبيانهم واختيارهم هم، يُعبِّرون عن هذا بأمثولة – هذا ليس مثلاً وإنما هو أمثولة – مشهورة جداً، ما هي؟ قل لي متى آخر مرة غسلت فيها سيارتك المُستأجرة؟ ولا مرة طبعاً، سيارتك المُستأجرة لم تغسلها ولا مرة، لأنها مُستأجرة! إلا لو فعلت هذا رياءً، هذا مُمكِن! لكن سيارتك التي تملكها – سيارتك فعلاً – تغسلها من تلقاء نفسك في الصيف وفي الشتاء، فأي شيئ صدر عنك وعن قناعتك وشاركت فيه وشاركت في صياغته وعدَّلت في بعض بنوده سوف تُحافِظ عليه، أليس كذلك؟ وسوف تُحاسِب الآخرين عليه، سوف تقول لهم لماذا فعلتم كذا وكذا؟ على عكس الشيئ الذي أُعطيَ لك، كما قلنا اليوم أمس أفدح الأشياء ثمناً هي التي تأتي بلا ثمن، لو قلت هذه وجهة الأسرة وهذا ما نُريد أن نتفق عليه، سوف يقول لك ابنك لا، هذا لم أتفق عليه، أنا لم أُناقِشه، لم أقله، ولم أُوافِق عليه، فيا ليتنا نفعل هذا، وأنا أُريد أن أُجرِّب هذا مع ابني – إن شاء الله – وحتى مع أطفالي الصغار، أُريد أن أرى نتيجته، أُريد أن أُجرِّبه حتى في إطار أشياء بسيطة جداً جداً، كالحفاظ على نظام البيت، على النظافة، وعلى النوم في ساعة مُعيَّنة أيام الدراسة، أُريد أن أرى نتيجته، سأفعل هذا في شكل نقاشات، سأصوغه بالألمانية وبالعربية، وسوف أرى كيف سوف ينتظمون وسوف يُحاسِبون أنفسهم عليه، أنا طبعاً عندي – بحسب ما قرأت في الكُتب هذه – يقين بأنه سينجح تماماً بنسبة تسعين في المائة بإذن الله تعالى، فنحن نُريد أشياء مثل هذه تكون عملية، ومن ثم نبدأ في تطبيقها مع أسرنا إن شاء الله تعالى، لعلها تنجح وتُخفِّف من علينا أعباء كبيرة.

(ملحوظة) فتح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم الباب لتلقي المُداخَلات مرة ثانية قائلاً هل هناك شيئ آخر؟ فتحدَّث أحد الحضور وسأل سؤالاً دار حول إشكالية التفرقة في التربية بين الجنسين خاصة في فترة المُراهَقة، فبعض الآباء والأمهات يسمحون لابنهم المُراهِق – مثلاً – بالخروج من البيت في حين أنهم لا يسمحون بهذا لابنتهم، وذكر أن هذا يُسبِّب للبنت الضيق حين تراه، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم  طبعاً، هذا السؤال أيضاً مُمتاز وذكي، البنت سوف تقول لماذا له الحق في أن يخرج وأن يُقابِل أصدقاءه وليس لي مثل هذا الحق؟ إذا أفهمناها أنه يمتلك أمره أكثر مما تفعلين فسوف تقول لنا لا، هذا غير صحيح، هذه تفرقة ولا أقبلها، أنا عندي ثقة بنفسي وثقة بشرفي وشخصيتي، وهذا حُكم جائر علىّ، علماً بأن المُراهِقين يكرهون الأحكام المُسبَقة، يتعقَّدون منها، لا يُحِبون أن يكون عندك أحكام مُسبَقة، إذا قلت لها لا يا بُنيتي أنا عندي ثقة كاملة فيكِ ولكننا نخاف عليكِ لأنكِ أضعف، لأنكِ ضعيفة، فسوف تقول لك لا، هذا أيضاً غير صحيح، نحن هنا في مُجتمَع، وهذا ليس مُجتمَع وحوش، لا تُوجَد اغتصابات ولا تُوجَد كذا وكذا، في البلاد العربية تُوجَد اغتصابات أكثر من هنا، سوف تقول لك هذا، وهذا صحيح، عندنا عدوان على النساء، ونحن العرب بصراحة عندنا عدوان مُقزِّز، بأشكال ليست رمزية فحسب وإنما بأشكال فعلية أيضاً، يبدأ الأمر بهذه النظرات الشهوانية، فهناك مَن ينظر إلى المرأة من فوق إلى تحت، شيئ مُقزِّز، وبالتعليقات التي يُسمونها التطقيص، إلى أين يا غزال؟ يا أحمر على أبيض، يا أبيض على كذا، قلة أدب يا أخي، والله العظيم! أُقسِم بالله هذه سفالات،  هذه موجودة إلى الآن في بلادنا، إلى الآن! سفالات حقيقية في بلادنا، شيئ مُقزِّز.

أنا حين جئت إلى النمسا هنا استغربت، في النمسا كنت أجلس، وأنا عربي ومن ثم عيناي كانتا كالرادار Radar، فكنت أنظر لكنهم لم يكونوا ينظرون، فكنت أخجل، هذا حين جئت في البداية وكنت شاباً صغيراً، كنت أنظر لأنني كنت فضولياً، لكنهم لا ينظرون، تجد – مثلاً – شخص يُمسِك بجريدة وشخصاً آخر يجلس بجانبه دون أن ينظر إليها، يعتبرون أن هذا انتهاكاً للــ Privacy الخاص به، أي للخصوصية، ممنوع أن تنظر إلى جريدتي يا أخي، اشتر لك واحدة، هل تُريد أن تقرأ منها سرقة؟ هذا نوع من السرقة، هناك مَن يُريد أن يقرأ خبراً مجاناً، فهم لا ينظرون، عادي! هذا عندهم يا أخي، وهذه ثقافة طبعاً، لكن نحن ننظر لكي نعرف ماذا يقرأ وما إلى ذلك، ليس عندنا مُشكِلة، مثلاً تظهر فتاة جميلة، فتاة جميلة جداً جداً وتكون مُتعطِّرة وما إلى ذلك، لكنهم لا ينظرون إليها، لا يحدث شيئ، لو كانوا عرباً لمشوا خلفها، مثل مستر بين Mr Bean، المُهِم لا علينا من هذا، أدركت بعد ذلك أن هذه ثقافة مُختلِفة يا أخي، جميلة لنفسها أو لعشيقها أو لزوجها، وقبيحة على نفسها، كل واحد حر في نفسه وهو مُقتنِع بها، لكن عندنا الأمر ليس كذلك يا أخي، عندنا نفسية عدم القناعة، لا يُوجَد شخص مُقتنِع بما أعطاه الله إياه، تجد مَن تزوَّج ثلاثة ومع ذلك ينظر إلى كل نساء العالم، يا أخي ما هذه السفالة؟ ثم نقول نحن عندنا أدب وعندنا كذا وكذا، ونحن ليس عندنا أي شيئ في هذه الأشياء، نحتاج إلى تأديب في الأشياء هذه، فهي سوف تقول لك في العالم العربي الذي قمت بزيارته يحدث هذا، لكن لماذا أقول هذا؟ لأن قبل فترة بصراحة أخ هنا تزوَّج من امرأة نمساوية، وهي إلى الآن لم تُسلِم، ذهبت إلى بلده وعادت مُعقَّدة، قالت يا ليتني ما ذهبت، تعقَّدت المرأة! لماذا؟ قالت ما هذا؟ قالت لم أعد قادرة على أن أمشي، أشعر بأنني سأتعثَّر، الكل ينظر إلىّ من الجهتين، وهي – ما شاء الله – جميلة فعلاً، قالت الكل ينظر إلىّ، الكبار والصغار! قالت الكل ينظر إلىّ، فقلت لها هذا طبيعي عندنا، في بلاد العرب هم هكذا، ينظرون! ما هذا؟ شيئ مُقرِف، فهي سوف تقول لك لا، هذا يحدث في بلادك، وفعلاً أنت تخاف على ابنتك حين تخرج من أن تُغتصَب في الحقيقة، لكن هنا لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد هذا هنا وكل واحد يهتم بنفسه، ومن ثم سوف تقول لك فكرتك هذه غير سليمة، فما الحل؟ هو هذا، أنا أقول لك الحل أن تُوضَع قواعد على السواء وأن تكون معقولة للجميع، هل تعرف أين وجدت هذه الفكرة مُطبَّقة ولذا استغربت؟ في مكان يبعد عنكم مسافة عشرة كيلو، والتقيت هناك بأُناس من ضمنهم مُدراء مدارس، وجاءت امرأة دكتورة من التربية والتعليم وقالت لي يا سيد إبراهيم أنا أتأسف لك، تظن أنني فييناوي وأنني أُوالي فيينا بنسبة مائة في المائة، قالت لي أنت جئت من فيينا وما إلى ذلك، لكن هناك شيئ، فقلت له تفضَّلي، ما الأمر؟ قالت – وكانت المسكينة تعتذر كثيراً، خافت من أن تجرح شعوري كفييناوي – الوضع يختلف كثيراً عندنا، فقلت لها كيف؟ فقالت لي عندنا هنا لا يخرج أطفال أو مُراهِقون بعد الساعة الثامنة، فقلت لها أنا لاحظت هذا، في الساعة الثامنة لا تجد أي أطفال أو مُراهِقون في الشوارع كلها، الكل ينام! قالت لي هذا غير موجود هنا، بعد ذلك هنا – مثلاً – لا يسفه أحدهم على أبيه وأمه أو على مُعلِّمه، قالت ليس عندنا الكلام هذا، هذا موجود عندكم في فيينا، فقلت لها هذا صحيح، لكن هذا غير موجود هنا, هذا ممنوع عندنا، غريب! والحكاية كلها تتعلَّق بعشرة كيلو، أشياء كثيرة تختلف، ما شاء الله، وفعلاً هؤلاء أُناس قرويون وبدو، بعد ذلك قالت لي يُمكِن هنا – قالت هذا يحدث أحياناً، وهذا غلط – أن يُضرَب المُراهَق، قالت أهله يضربونه، حين يرتكب أي خطأ يضربونه، تخيَّل! لذلك أنا لاحظت شيئاً ثانياً مع بناتي وفهمته في إطاره واستوعبته، الأساتذة عندهم والأستاذات ليسوا كنظرائهم هنا، يصرخون دائماً في وجوه الأولاد، ابنتي حين رأتهم أول مرة قالت لي يا بابا ما هذا الأستاذ؟ لماذا يا بابا يُصرِّخ؟ فقلت لها هل يفعل هذا معكِ وحدكِ؟ فقالت لا، يفعل هذا مع الكل، يُصرِّخ دائماً! فقلت لها هؤلاء بدو فعلاً، هم قرويون وعندهم هذه العقلية، ابنتي الثانية راوند قالت لي نفس الشيئ، قالت لي يا بابا يُصرِّخ، يُصرِّخ السيد فلان كثيراً، فما القصة هذه؟ أستاذ الرياضة يُصرِّخ! وفعلاً هم يُصرِّخون وعندهم وضع مُختلِف تماماً عن فيينا هنا، ولذلك عندهم انضباط وعندهم أخلاق.

في البيت الذي أسكن فيه أعطاني أخي زجاجة ماء فشربتها، ونسيتها على حافة السور الخارجي، بعد ذلك تركتها، قلت سأتركها كاختبار، تركتها شهرين، لم يأخذها واحد ولم يدعها – أي لم يرم بها – واحد، ما رأيك؟ أدب غريب يا أخي عند هؤلاء الناس، كل واحد منهم يهتم بنفسه، الناس مُؤدَّبون، الشباب والشابات وكل الناس، وحين يرونك يقومون بتحيتك، هم دائماً ما يُحيّون بعضهم البعض، أحدهم قال لي لماذا هؤلاء يقومون بتحيتي؟ هل بسبب كذا وكذا؟ فقلت له لا، هم يُحيّون الكل هنا، يختلف – سُبحان الله – الوضع، هذا في نفس البلد لكن على بُعد عشرة أو عشرين كيلو متر، يختلف كل شيئ!

فما أُريد أن أقوله يُمكِن أن تضع قواعد، وها هم يُطبِّقونها، قل لهم يا أولادي بعد الساعة الثامنة ليلاً لن يُسمَح لأحد بالخروج، لماذا؟ ليس لأنني أخاف عليكم، ولكن لأننا نُحِب أن ننام مُبكِّراً، عندكم مدارس، نُحِب أيضاً ألا يغار إخوانكم الصغار منكم، ينبغي أن يناموا لكي يستوعبوا الدراسة وما إلى ذلك، نحن في الساعة الثامنة نقفل أبواب البيت، لابد أن تتفقوا على الشيئ هذا، وهذا يكون على كل المُستويات.

طبعاً الآن قد تسألني هل من حق ابنتي أن تخرج لكي تُقابِل صديقاتها؟ من حقها، لا تستطيع أن تمنعها من هذا في هذه البلد بصراحة، ونفسياً هذا صعب، أنا ابنتي هذه السنة ذهبت بها إلى حفلتين من حفلات أعياد الميلاد الخاصة بصديقاتها، كنت أذهب بها بنفسي عبر السيارة ثم أُرجِعها إلى البيت بالسيارة، ولذا البنت لا تشعر بأنها غريبة عن المُجتمَع، ولا تشعر بأنها أنقص منها، بالعكس! أشتري لها هدية أيضاً، وتكون هدية فارهة لكي تشعر بقيمة نفسها، أهم شيئ هذا، لأنني أخاف من مبدأ أُسميه مبدأ الانتقام، إذا أسأت مُعامَلة ابنك فمن المُمكِن أن يُحاوِل الانتقام منك ولو بطريقة مُتأخِّرة، وهذا حصل وهناك حالات واقعية أخافتني بصراحة، انتبه! إياك أن تجعل ابنك يحقد بحيث يُريد أن ينتقم وأن يرد لك الصاع صاعين، الشيئ المسموح به ليكن مسموحاً، الشيئ غير المسموح به ليكن غير مسموح، أحياناً تقول لي ابنتي هل يا بابا أقدر على الذهاب إلى صديقتي حتى الساعة الخامسة مساءً؟ فأقول لها نعم، لكن هل عندها إخوة؟ فتقول لي – مثلاً – عندها أخ أصغر منها بسنتين، أي إنه صغير، فأقول لها اذهبي، ومن ثم تفهم وحدها ما ينبغي فعله، أقول لها إذا عندها أخ مُراهِق الأحسن أن تأتي هي عندنا، فتقول لي هذا صحيح يا بابا، صديقاتك اللاتي عندهن إخوة كبار يأتين عندنا، وهي تفهم هذا المبدأ وحدها، فهي تذهب إلى صديقاتها، أهلاً وسهلاً! صديقتها التي عندها أخ كبير تأتي إليها، صديقتها التي عندها أخ صغير – أي طفل – تذهب إليها، لا تُوجَد مُشكِلة، لأن ابنتي أكبر منه وأكثر وعياً منه، فالبنت تلتقط الشيئ هذا وترى أنه مُبرَّر، فالمبدأ كالآتي: لو الطفل أو حتى المُراهِق أو المُراهِقة تبرَّر الفعل عنده – بالنسبة له هو حتى مُبرَّر – سوف يقتنع به، حتى وإن حدث فيه بعض التعديلات، أنا أقول لك هناك أشياء كثيرة نحن نشعر بأنها كالتحديد، نعم يُوجَد نوع من التحديد، حتى الكبار أمثالنا عندهم نوع من التحديد، كل شيئ ليس مُمكِناً، لا تُوجَد مُشكِلة، لكن هذا مُبرَّر، إلى حد ما مُبرَّر، أما إذا شعر بأنك تمنعه فإنه سيتضايق، هناك أب – مثلاً – أعرفه، قال لي هذا غير مسموح به عندي، كل شيئ أقول له لا، فقلت له هذا غلط، والله العظيم! فقال لي لا رحلات، لا زيارات، لا خروجات، فقلت له كل هذا غلط، يُمكِن أن يرتد عليك وبطريقة كارثية، فقال لي والله أنت أخفتني، فقلت له طبعاً لابد أن تخاف، بناته اتصلن بنا مرة، رغبن في أخذ فتوى من الشيخ، قالت إحداهن هل يا عمو فعلاً ممنوع أن نخرج في أي رحلة؟ هناك رحلة مدرسية سيخرج فيها كل الفصل! فقلت لها مَن الذي قال ممنوع؟ الرحلة هذه حتى ليس فيها أي شيئ، الفصل كله سيخرج يا أخي، ما المُشكِلة؟ لكنه قال لا، أنا أقول لا للرحلات، فقلت له هذا يعني أنك تُوصِّل رسالة لبناتك من أسوأ ما يكون، فقال لي كيف؟ فقلت أنت تُفهِم بناتك بطريقة أو بأخرى – لا مُؤاخَذة – أنهن عاهرات، الواحدة منهم تحتاج إلى فُرصة فقط لكي تبيع شرفها، فقال لي يا ويلي! فقلت له يا ويلك طبعاً، هذا ما تُفهِم ابنتك إياه، أنت تُكفِّرها بنفسها، تقول لها أنتِ غير ثقة، أنا لا أثق بكِ، كل الناس يثقون ببناتهن لكن انا لا أثق بابنتي، ولو خرجت سأخاف عليها، فقال لي والله هذا الكلام خطير، فقلت له هذا هو، بالعكس! استخدم أساليب أُخرى في التربية، أفهمها غير هذا، قل لها يا ابنتي أنا أُعطيكي إمكانية أن تخرجي لأن ثقتي فيكِ – بعون الله – كاملة، ومَن مثلكِ لا تخذل أباها أو تضع رأسه في التراب، أنتِ لست كذلك، هي سوف تموت ولن تخذلك، لكي تكون عندك ثقتك، وطبعاً هذا الكلام لا يأتي هكذا كإنشاء يُؤلِّفه الأب اليوم، لا! (ملحوظة) قال أحد الحضور إنه يأتي بالعمل، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، ثم قال يأتي تتويجاً لمسيرة من الحُب المُتبادَل بيني وبين أولادي، بينك وبين بناتك، وذلك عبر سنين، أليس كذلك؟

لا أنسى ما حدث – وهذا أيضاً تعلَّمته بالتجربة – حين ذهبنا لكي نُؤدي واجب العزاء في دكتور سوري – رحمة الله عليه – في باساو، (ملحوظة) توجَّه الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إلى الحضور بالسؤال قائلاً مَن كان معنا حينها؟ ألم يذهب أحد منكم؟ ذهبنا كمجموعة في سيارتين، ثم قال المُهِم ذهبنا إلى باساو – حوالي ستمائة كيلو، هي على الحدود الألمانية، أو أقل من هذا – لكي نُؤدي واجب العزاء، هو مات – رحمة الله عليه – وترك بنات وما إلى ذلك، عنده بنت مُراهِقة عمرها حوالي ست عشرة سنة، وهي بنت جميلة وطيبة وما إلى ذلك، عيونها مثل الفناجين من شدة الإحمرار، شيئ لا أراك الله، وأحبت أن تلتقي معي لكي تعرف إلى أين ذهب أبيها، هل هو في الجنة أو في النار؟ هم مُسلِمون طبعاً، لكن أمها نمساوية، وأبوها سوري وهو دكتور، فأصبح عندي فضول، لماذا بكت هذه البنت إلى هذه الدرجة؟ ما هذا الحُب؟ فقالوا لي هذه كانت تُحِب أباها حُباً جنونياً، وهو كان يُحِبها حباً غير طبيعي، لا تكسر له كلمة، حريصة على فعل أي شيئ يُسعِد والدها، مُستعِدة لأن تفديه بروحها، فقلت يا الله! أهكذا ينجح الحُب إلى هذه الدرجة؟ حين يكون حُباً حقيقياً ينجح، وهي مُستعِدة لأن تفديه بروحها، ربما هي – مثلاً – كمُسلِمة الآن تُحِب زميلاً لها مسيحياً – مثلاً – أو يهودياً أو أياً كان، هذا مُمكِن، لكنها ستقول له أرفض الاقتران بك، أرفض أن تتقدَّم إلى زواجي، لأن هذا سيُغضِب أبي وهو لا يجوز في ديننا – مثلاً – وما إلى ذلك، وسوف تظل مُحطَّمة إلى أمد، إلى سنة – مثلاً – أو سنتين لأنها مُراهِقة، ستبكي ليلاً وتشعر بالرومانسية وما إلى ذلك، لكنها لن تكسر بخاطر أبيها، أبوها أولوية عندها، انتبه! أبوها أولوية، أنا أقول لك هذا التحدي الصحيح، إذا نجحت في أن تجعل نفسك وإذا نجحتِ في أن تجعلي نفسك يا أختي المُسلِمة أولوية لدى أولادك فوالله العظيم سيكون هذا أكبر نجاح، حينها تكون نجحت! نجحت وانتهى كل شيئ، فقط انجح في أنت تكون أولوية، لكن لو حصل العكس ووجدت أن ابنك باعك من أجل شخص يُحِب الخمر والسُكر أو من أجل أي شيئ اعلم أنك لم تكن أولوية عنده، أليس كذلك؟ والسبب بصراحة – دخلنا في موضوع ثانٍ وسوف نُطيل – أنك لم تجعل أسرتك أولوية، صدِّقني! لماذا فشلت في أن تجعل نفسك عند أولاد أولوية؟ لأنك لم تجعل أسرتك أولوية، أليس كذلك؟ سنختم بهذه الجُمل، هل غاب عنا شكاوى الأخوات؟ انظر إلى حجم العقلية التي عندنا، ما شاء الله، كم فيها من المرونة وإلى أي درجة تُحِب أن تتعلَّم!

كنت في مكان في فيينا، وذهبت لكي أُلقي مُحاضَرة عن التربية، وظننت أن الإخوة فرحوا بها، لكنهم خرجوا منها وهم ساخطون علىّ، ومَن الذين خرجوا وهم يُحيّون ويهتفون؟ النساء، لأنني فعلاً أنصفت، وذكرت أن هذه مسالك غير حميدة وغير تربوية وغير صحيحة، ليست مقبولة! ما هي؟ سهر الآباء والأزواج، قلت لهم غير مقبول أن يحدث هذا باسم الدعوة أو باسم أي شيئ آخر، كيف يحدث هذا باسم الدعوة؟ نحن دُعاة هنا، نأتي في يومي الجُمعة والسبت يا حبيبي، لن نكون أحسن من رسول الله، كان يتخوَّل الناس بالموعظة، هذا كافٍ، انتهى! هذا كافٍ، هل تُريد مني أن آتي إليك كل يوم لكي أُعطيك درساً لمُدة ست ساعات أو أربع ساعات؟ ما يحدث هذا كلام فارغ، ما يحدث هذا تضييع للأوقات، هذه شغلة بطالة كما يُقال بالعامية، أليس كذلك؟ فهناك إخوة يجلسون في المساجد إلى الساعة الواحدة والثانية ليلاً، ثم يبحث الواحد منهم عن أقرب مقهى مفتوح، ويقول إنه يُكمِل شغله في الدعوة على المقاهي، وطبعاً كله غيبة ونميمة، شغل الدعوة هذا كله غيبة ونميمة وقرض لأعراض الناس، وحين ينتهي يعود إلى البيت، وإذا وجد وقتاً ليس للنوم فإنه يقوم أيضاً بفتح الإنترنت Internet، وهذه شكاوى من عشرات الأخوات، قالت إحداهن لا يكاد يجلس معي ومع أولاده – مثلاً – خمس دقائق في الأربع والعشرين ساعة، أنا هزتني الحقيقة هذه، وأتت من أخوات كثيرات، كن جالسات في المكان وكلهن قلن الكلام هذا، قلن نعم وجعلن يشتكين، فأنا أنصفت، فمَن الذين غضبوا؟ الرجال، شعروا بأنها مُجامَلات، أهذه مُجامَلات؟ هذه قضايا تربوية خطيرة، غداً ستضع أصبع الندم لأنك لم تسمع كلام فلان وعلان، ولن ينفعك أي شيئ، ولات حين مندم، انتهى كل شيئ!

فما أُريد أن أقوله هؤلاء فشلوا في أن يجعلوا أسرتهم أولوية، بالعكس! ولا ثانوية ولا ثالثية، يُمكِن أن تكون أسرتهم في المرتبة الخمسينية بصراحة، وحين تسأل الواحد منهم يقول لك أسرتي أهم شيئ عندي، أسرتي أولوية يا أخي، وإلا لماذا نحن نتعب ونشقى؟ لكي تقضي أوقاتك في الشوارع، وعلى الإنترنت Internet، هذا هو بصراحة، حتى حين تعود تفتح الإنترنت Internet، إنترنت Internet ماذا؟ لا يُمكِن، ضع برنامجاً، لابد من أن تكون هناك رؤية لديك أيضاً، قل كم يجب أن أجلس مع زوجتي وأبنائي؟ كم يومياً؟ بماذا أتكلَّم؟ ماذا أفعل؟ وما برنامجي معهم أيضاً؟ ما رأيك؟ وليس شرطاً حتى أن يكون البرنامج جدياً، والله لو جلستم لكي تُشاهِدوا فيلماً سيكون هذا جميلاً جداً، هذا سيبقى الولد والبنت يستذكره إلى أن يموت، سيقول إنه جلس مع أبيه وشرب القهوة أو شرب الشاي أو شرب الكابتشينو Cappuccino،سيتذكر الكلمات والنكات والتعليقات التي أتت على بعض مشاهد الفيلم، جميل جداً هذا، مطلوب هذا! لا يكون الأمر دائماً هكذا، لكنه مطلوب ولو مرة في الأسبوع أو مرة في الشهر، لكن لا تقل لي أسرتي أولوية وكل حياتك تُؤكِّد أنها ليست أولوية، اجعل الأسرة أولوية فعلاً.

وكذلك الحال مع مَن يعمل في وظيفتين، هناك مَن يكون مُوظِّفاً أو عاملاً ثم يشتغل بعد ذلك في وظيفة أُخرى، حين تقول له لماذا؟ يقول لك من أجل المال وما إلى ذلك، لكن هذا يأتي على حساب الأسرة، لا! أنا مُستعِد أن أعيش بنص مُرتَّبي الآن – أي بنصف دخلي – لكنني سأكسب وقتاً أكبر مع أسرتي، لذلك أمس آثرت أن افتتحت الخُطبة على النحو الذي رأيتم، فكَّرت كثيراً وأنا في طريقي إلى هنا بالسيارة، قلت كيف أفتتح الخُطبة؟ لأنه فعلاً موضوع مُحيِّر وكبير جداً جداً، يُمكِن أن تفتح هذا الموضوع من خمسين زاوية، فقلت سأفتحه بموضوع فراش الموت، أليس كذلك؟ لن يتمنى واحد فينا لو أنه اشتغل أكثر أو حصَّل مالاً أكثر أو أتى بأشياء أكثر، ولا واحد! لكن كل واحد سوف يندم لأنه لم يُعط أسرته وقتاً أكثر، أليس كذلك؟ وحناناً أكثر، وسعادة أكثر، سوف يتمنى لو أن هناك إمكانية لكي يعود مرة ثانية.

المُمرِّضات في المشافي العالمية يُلاحِظن الآتي، وهناك عالم وباحث سوسيولوجي أمريكي قام بعمل دراسة – وهي دراسة يا أخي لطيفة – قال فيها أُريد أن أرى الناس الذين هم على شفا الموت في المُستشفيات، أي الذين ينتظرون عزرائيل لكي يأتي ويُنهي المُهِمة، ما أكثر شيئ يتمناه هؤلاء؟ هل تعرف ماذا كانت النتيجة بحسب ما قال؟ أكثر من سبعين في المائة منهم يتمنون أن يُرجئهم الموت وأن يُعطيهم فُرصة لكي يعودوا من أجل أن يُصلِحوا الإشكالات السلوكية والعاطفية مع أقرب الناس إليهم، مع أولادهم، زوجاتهم، بناتهم، وأصدقائهم، من أجل هذا فقط! ربما خاصم بعضهم، ربما هناك مشاكل، وربما هناك فجوة لكنها ليست مادية، لها علاقة بالأشياء العلائقية المعنوية، وقال حين يتم هذا ولو بطريقة الوعد – كأن يأتون إليه لكي يقولوا له نحن سامحناك والأمر انتهى، كل شيئ إن شاء الله سيكون على ما يُرام، وما إلى ذلك – يشعر بأنه سيموت مرتاحاً، أثمن ما في الحياة يا أخي العلاقات، صدِّقني! أثمن ما في حياتك على الإطلاق العلاقات، قسماً بالله! والله العظيم – ويشهد الله على هذا – لم أتمن أن يكون عندي فلوس إلا من زُهاء سنة، هذه كانت أول مرة في حياتي، دائماً كنت أقول اللهم اجعل رزقي كفافاً، لم أحِب الفلوس ولم أُردها، لكن من فترة – من حوالي سنة تقريباً – أصبحت أُحِبها، الآن لو قال لي ربنا هل تُريد أن أُعطيك ملياراً؟ سأقول له نعم يا رب، أُريد هذا المليار، لماذا؟ يعلم الله أنه لن يكون لي، وأولادي – الحمد لله – يعيشون ولا يحتاجون إلى شيئ، فلماذا إذن؟ هل تعرف لماذا؟ لكي أُطبِّق بعض المبادئ التي اقتنعت بها، وفعلاً تجعل الحياة أجمل وأثرى وأخصب بكثير مما هي عليه، كيف مثلاً؟ أعرف شخصاً من أصدقائي ومن أحبابي أعرف أن وضعه ليس على ما يُرام، مسكين على قد حاله كما يُقال، وقد يكون صاحب أسرة وعنده تكليف، فأُعطيه ما لا يحلم به، أنت كإنسان غني يُمكِن أن يحلم بأن تُعطيه كم مثلاً؟ عشرة آلاف، فكيف لو أعطيته – مثلاً – مائتي ألف يورو؟ كيف؟ كيف سينظر إليك هذا؟ كيف؟ كيف سينظر إلى الأمور كلها؟ كيف سينظر إلى الدنيا حتى وإلى العلاقات؟ وفي نفس الوقت – انتبه – أنت أعطيته أكثر نفسك وسوف ترتقي وتشعر بنوع من الثراء الدخلي بشكل غير طبيعي، هذا أحسن من كل أموال الدنيا، تخيَّل!

قبل فترة كنت أُتابِع حالة رجل يُريد أن يأخذ قرضاً، وهذا القرض كان هائلاً، كان كبيراً جداً جداً، قال أنا أُريد أن أخذه بشكل عادي وأنا سأستطيع سداده، جميل! فكَّرت وقلت هذا الشخص له علاقات كثيرة مع أُناس مُتوسِّطي الحال، هم مساكين وعندهم أسر فيها أبناء وبنات ولا يجدون شيئاً، وأنت – ما شاء الله – عندك قدرة على أن تأخذ هذا المبلغ الهائل وعلى سداده بعد ذلك لكي تشتري أكثر من شيئ وأكثر من سيارة وأكثر من بيت وأكثر من مشروع، وما شاء الله هذا بشكل زائد عن اللزوم، بشكل زائد عن اللزوم جداً جداً جداً بصراحة، أنا لا يلزمني هذا، والنبي حتى قال كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا، إلا ما لا، يُمكِن ألا يكون قصد النبي أنه وبال أو عقاب في الآخرة، ربما يكون هذا في الدنيا، والله العظيم! أقصر خُطة لإفساد نفسك وأهلك وأولادك أن تُغرِقهم في المُتع وفي الترف، أي بشكل زائد عن اللزوم، سوف يُفسدون، أنت سوف تُدمِّرهم، وانظر – وأتحدى – إلى أبناء الأغنياء الملوك والوزراء والأمراء.

سأُحدِّثكم بشيئ مُقزِّز، كما تقزَّزت سوف تتقزَّزون، تقبَّلوا مني هذا، شخص كان في دبي قبل فترة وهو من إخواننا، والله العظيم حكى لي أشياء مُقزِّزة، وحكاها أُناس آخرون أيضاً، هل تعرفون ماذا قال؟ يسمحون لأبناء الأمراء – يُمكِن أن يُصبِح الواحد منهم أميراً للبلد كلها – بأن يتخفوا – يلبسون لباساً ثانياً غير رسمي – لكي يذهبوا إلى نوادٍ مُعيَّنة، لماذا؟ أكرمكم الله – وهذا تعبير فاحش وحقير جداً – لكي يُركَبوا، أمراء! قبَّحكم الله، قبَّح الله العرب هؤلاء أو العُربان هؤلاء، يا أخي ما هذا القرف الذي وصلنا إليه؟ لماذا؟ لماذا وصلنا إلى هذا؟ قلت له فما السر يا أخي؟ هؤلاء لا ينقصهم المال، يستطيع الواحد منهم أن يتزوَّج من أجمل البنات، قال لي بالعكس! هو كره البنات، شبع من البنات، شعر بالقرف من البنات! لم تبق عنده أي إثارة، لأن هذا كان بشكل Over، أي زائد عن اللزوم، وكل شيئ زائد عن اللزوم يُدمِّر صاحبه، أليس كذلك؟ كل شيئ زائد عن اللزوم يُدمِّرك، المال الكثير يُمكِن أن تغرق فيه، الأكل الكثير يُمكِن أن تموت مُتخَماً بسببه، كل شيئ زائد يُدمِّرك، وكذلك الحال مع العلم، لو أردت علماً كثيراً بشكل زائد عن اللزوم سوف يُدمِّرك، لن يُعطيك فُرصة للعمل ولا حتى للعبادة، أليس كذلك؟ سوف تطلب العلم الكثير ليل نهار، ومن ثم سوف يهلكك، كل شيئ لابد من التوسط فيه.

فهذا ما أُريد أن أقوله، يا ليت هذا الأخ – مثلاً – يسمع كلامي لكي يفهم ويفهم رسالته، عندك إخوة وعندك أصدقاء كثر وأنا أعرفهم، كثر يا سيدي! يحتاجون إلى القليل القليل من هذا الكثير الكثير، ما دمت – ما شاء الله – قادراً فلماذا لا تأخذ قرضاً من أجلهم؟ خُذ يا سيدي هذا القرض، ثم خُذ منه مائة ألف وانفع هؤلاء، وبعد ذلك سدِّده، أنت سدِّده كأنك أخذته لنفسك، خُذه من أجلهم ثم سدِّده، ما الذي يمنع من هذا؟ للأسف كل فترة وفترة نُصدَم بأن الغربيين يفعلون هذا، لكن نحن لا نفعله، وهذا ما يُصيبني بالجنون!

حدَّثتكم مرة في خُطبة عما فعله ملياردير أمريكي، لا أعرف اسمه، نسيت هذا الآن، في الخُطبة كنت أتذكَّره، ربما قرأت عنه في العربية ونسيته الآن، لكن هو عنده مليارات Milliarden، أي Billions بالإنجليزية، هل تعرفون ماذا كانت وصيته؟ عنده عائلة، أعتقد كلها من خمسة أنفار، الوصية كالآتي: تُعطى العائلة أربعة ملايين دولار، والمليار ألف مليون، وهو عنده مليارات، وماذا عن البقية؟ قال للمُجتمَع، للمُحتاجين، للجامعات، للكُليات، للبحث العلمي، ولمسيرة بلدي، شعرت بتقزم، أنا شعرت بقزامتي كمُسلِم أمام هذا النموذج يا أخي، هل حرام أن نسمع عن مُسلِم يفعل مثل هذا؟ لم نسمع، أتحدي أن تأتني بُمسلِم فعل هذا، ائتني بمُسلِم فعل هذا يا أخي! سواء كان مُسلِماً عادياً أو أميراً وما إلى ذلك، ائتني بمُسلِم فعل هذا، لم يفعل هذا حد، ولا يفعلها أحد الآن، لأننا أمة ضحلة، صدِّقني! فهمها للحياة والدين كله أصبح ضحلاً جداً جداً جداً، هؤلاء أعمق فهماً منا يا أخي، هو يعلم أن أربعة ملايين دولار أكثر من كافية، أليس كذلك؟ ليبدأ أبناؤه وبناته مشاريعهم في الحياة، هو لا يُريد أن يُعطيهم كل شيئ بشكل جاهز، أنتم أيضاً عليكم أن تُواصِلوا، عندكم أربعة ملايين دولار، ليأخذ كل واحد منكم تسعمائة ألف دولار – مثلاً – ثم يبدأ مشروعاً ويُكمل وحده، لن أُعطيك المليارات التي تُدمِّرك وتُدمِّر حياتك، أليس كذلك؟ وفي نفس الوقت أعاد الشكر إلى المُجتمَع، المُجتمَع أعطاه الفُرصة لكي يُكوِّن المليارات، يا أخي ما هؤلاء الناس؟ ديننا طبعاً عنده نفس النظرية هذه والله، وهو يقولها – والله العظيم – دائماً، يقولها! انظر ماذا يقول لك النبي، إن الله تصدَّق عليكم بثُلث أموالكم، يا أخي ما هذا التعبير؟ فضعوه حيث شئتم، ما معنى هذا؟ هذا يعني أنك بحاجة – أنت نفسك – إلى أن تتصدَّق على نفسك، ليس على الآخرين فحسب وإنما على نفسك أيضاً، كيف إذن؟ لابد وأن أُعطي المُجتمَع وأن أُعطي الناس ثُلث ثروتي، لم يقل لك النبي ثلاثة أرباع ثروتك، قال لك الثُلث، هذا مسموح، أعط هذا، افعل هذا، تصرَّف هكذا مع غيرك من أجل نفسك، أنت أحوج الناس إليها، ليس أولادك وإنما أنت، أنت أحوج الناس إليها! لكن هذا ليس عندنا يا أخي، ليس عندنا والله العظيم! شيئ غريب، فأنا أرى كيف تكون المُستويات، يُريد أن يستدين بمئات الآلاف وهو تارك أقرب الناس حوله، لم يخطر له في حياتة مرة – ربما يخطر له شيئ يكون أحسن من هذا – أن يستدين من أجل غيره، لأنه قادر على أن يُسدِّد، في النمسا تقدر على أن تستدين بمليون ما شاء الله، يُمكِن أن تستدين بخمسين ألف أو مائة ألف من أجل أن تُعطي هؤلاء الناس، وبالمُناسَبة هذه المائة الألف التي ستُعطيها لثلاث عائلات يُمكِن أن تُنعِش حياتهم بالكُلية، يُمكِن أن تُحقِّق لهم أحلاماً، لم يحلم هؤلاء المساكين بها، أنا قرأت هذا في كتاب لشخص أجنبي – أمريكي – ثم حزنت والله، أُقسِم بالله! وضع مبادئ هكذا، وهو رجل واعٍ، ماذا قال؟ قال مَن تأمَّل منك شيئاً أعطه ما لا يخطر بباله، فإن تأمَّل منك – مثلاً – أن تُهديه قلم باركر Parker أعطه سيارة، تخيَّل! هل تقدر على أن تفعل هذا؟ لو قدرت على فعل هذا سوف تصير إنساناً وسوف تنضج، أعطه! ماذا سوف تخسر؟ لن يُدمِّرك هذا، أنت عندك القدرة، لذا أعطه سيارة، لا تُعطه قلماً أو قلمين أو دستة أقلام، وإنما أعطه سيارة! فهؤلاء الناس بدأوا في التفكير بالعقلية هذه، لكن نحن استُنزِفنا، ليس عندنا العقليات هذه، وهذا وضع فظيع فعلاً يا إخواني.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

فيينا 22/06/2007

ملحوظة: هناك خطبة لفضيلة الدكتور تحمل العنوان نفسه:

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: