إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ۩ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ۩ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ۩ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ۩ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ۩ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ۩ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ۩ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

من غير تقديم أو تمهيد مُقدَّمات أدخل في موضوعي عامداً، أي رأساً، ألمس وبالأحرى لمست ولا أزال ألمس من أنفار من ذوي النباهة والفطانة والزكانة من علماء ومُفكِّري المسلمين لوناً من ألوان اليأس من إصلاحنا، لا أقول من إصلاح أُمتنا بل من إصلاحنا، فنحن من هذه الأمة، لسنا زائرين مُتفرِّجين، وإنما نحن من هذه الأمة، ألمس هذا اللون من ألوان اليأس والإحباط، وفي المُقابِل قد ألمس وتلمسون معي كثيراً من التفاؤل من غير النابهين، أي من العامة، العوام مُتفائلون، فالأمور عندهم – أي عند هؤلاء المتفائلون وهم كثر في الحقيقة – بخير وعلى ما يُرام، في الحقيقة ليس هذا تفاؤلاً بمقدار ما هو لامُبالاة، لأنهم غير مُهتَمين أصلاً، غير مُهتَمين حقاً، غير مُهتَمين صدقاً، من الصعب والصعب جداً أن نتوقع وأن نترقب من العامي الذي لم تُهذِّبه العلوم والفنون والثقافات والفكر والتأمل أن يكون مُهتَماً بنُطق تتعدى نطاقه الضيق، الفردي وربما الأُسرى، وربما على مستوى الحي على أبعد مُستوى، ومن هنا يصلح هؤلاء تماماً أن يكونوا وقوداً في معارك تُخرِب بلادهم، هم لا يفهمون معنى البلد ومعنى الوطن بالمعنى العميق العريض، هم يعيشون دائماً في نُطق ضيقة، ومن هنا تتآكلهم تلاوين أو ألوان التعصبات أيضاً، وخاصة التعصبات المحلية، لذلك في البلاد العربية وفي البلاد الأجنبية طبعاً – في كل البلاد – العوام دائماً يتعصَّبون لقراهم ولمُحافَظاتهم ولمحالهم ضمن البلد الكبير، وهذا أمرٌ عجيب، قد يتعصَّب الواحد منهم ضد أهل بلده ولا يعنيه هذا كثيراَ، انتبهوا إلى أنه يُلقَن هذا تلقيناً، فهذا ليس من باب التفاؤل بمقدار ما يعكس نزعة لاأبالية أو نزعة لامُبالاة، هو غير مبالٍ في الحقيقة، لذلك لا يطحنه هذا الإحباط ولا يُمرِّره هذا التشاؤم، لكن الكلام الآن مع المُفكِّرين والنابهين الفطنين الأيقاظ كما قلت، لماذا هم مُتشائمون؟ لسنا بدعاً من الأمم، كل الأمم تنهض وتتألق ثم تخبو، هذه سُنة حضارية، سُنة من سُنن الله تبارك وتعالى، وقد تألقنا زمناً ثم خبأ ضياؤنا وطُويَ بساطنا، وصارت الدورة والغلبة لغيرنا، هذه سُنة الله، لكن طبعاً هذا لا يعني أن نستلهم منه تبريراً وتسويغاً يجعلنا أيضاً راضين بما نحن عليه، لكن نحن نريد أن نقول المسألة ليست نهاية الكون وليست نهاية الأمة، بالضرورة أن هناك فلسفةً وأن هناك حلاً وأن هناك طُرقاً وسُبلاً للإصلاح، ومن المُمكِن جداً أن نُصلَح وأن ننصلح بإذن الله تبارك وتعالى.

أنا أستشعر الحزن المرير والحزن العميق حين أقرأ لطائفة من كبار مُفكِّري العالم وهم ليسوا حتى إلهيين، بل أن بعضهم ملاحدة كبرتراند راسل Bertrand Russell مثلاً، وبعضهم على أديان لكنهم علمانيو الفكر والتوجه، أشعر بالحزن والمرارة حين أرى هؤلاء يرون في ديننا ما نعجز نحن عن أن نراه، لا أقول ما لا نراه بل ما نعجز أصلاً أن نراه، يرون هذا في الإسلام العظيم، وأسقطوا من حسابكم ومن خيالكم ومن أوهامكم هذه الحالة الزرية التي تمر بها الأمة الآن، حالة الإرهابيين والتكفيريين والتفجيريين وهذا الغُثاء وهذا الجنون المُنفلِت، أسقطوا كل هذا،، هذه حالة عرضية وستمر بإذن الله تبارك وتعالى، أنا أعتقد إنها ستُشكِّل جزاءً من العلاج   بل هى جزءٌ من العلاج، وكما قلت غير مرة الآن الأمة في مجموعها لا أقول مُنكِرة وإنما كافرة بهذا الاتجاه وكافرة بهذه الطريقة في فهم الدين، الأمة في مجموعها – مجموع أمة محمد – على الإطلاق تتنكر لهذه الطريقة، وهذا جزء من العلاج فانتهى الأمر، جربتم هذا وهذا لا يُفلِح، هذا لا ينجع ولا يُفلِح، لم نسترد به بلداً ولم نطرد به مُستعمِراً، بل زادت مصائبنا بهذه الأشياء، لذلك دائماً أنا أقول هذا جزء من المُؤامَرة الكونية، سمه أنت جهاداً أو سمه استشهاداً أو سمه فُدائية، لكن أنا أسميه مُؤامَرة، لأن الذي يتضرر منه نحن، بلادنا وشعوبنا وديننا وسمعة هذا الدين الحنيف في العالمين وحتى بين أبنائه وفي عقر داره، إذن نحن لا نستطيع ونعجز عن أن نرى في هذا مسعىً جهادياً، الجهاد ليس هكذا، الجهاد لا يُمكِن أن يُتاخِم بل يتعدى حدود الجريمة والإرهاب أبداً، لكن نحن لسنا مُحبَطين جداً أو لسنا مُتشائمين إلى الغاية من جراء هذه الأشياء، نعلم إنها عرضية، تاريخنا لم يكن هكذا، وأعني تاريخنا القريب، فهو لم يكن كذلك، هذه ظاهرة عرضية، هذه ظاهرة مُصنَّعة Fabricated، صُنِعت ودُبِرت وهى الآن تُنفَذ، صحيح أن المُستوى النازل الهابط الواطيء لوعي الأمة يجعلها لا تلمس هذا ولا تفهم هذا بل لا تستطيع أن تفهم هذا، لعدوم وجود ثقافة فانتبهوا،وأنا أقول لكم هذا فعلاً بسبب الأُمية، وهنا قد يُحدِّثني أحدكم عن أوروبا لكن أنا أقول لكم أن أوروبا نهضت من عصر النهضة – Renaissance – وبعد ذلك نهضتها الحقيقية تحوَّلت إلى ثورات، حتى الثورة الصناعية والتصنيعية وثورات الحرية وثورات الفكر والثورات الاجتماعية لم تكن إلا رديفاً وإلا مُعقِبةً لثورات تعليمية، السويد كانت من أوائل الدول لأن في زهاء قرن واحد فقط ارتفعت فيها نسبة المُتعلِمين الذين يقرأون وكتبون إلى ثمانين في المائة، ثورة حقيقية ومن ثم الناس بدأت تقرأ وتكتب، لا تُحدِّثني عن نهضة في المُطلَق تأتي من الشارع أو نهضة نُخبوية Elitist، بمعنى أن نُخبة جاءت بها، هذا غير صحيح، الشعب كله لابد أن ينهض ولابد أن يتعلَّم ولابد أن يستوعِب، كفى هذا الغُثاء، وطبعاً الآن – ما شاء الله -نحن نغرق في غُثاء، الأمة العربية الآن تغرق في غُثاء، هل هناك مُسابَقة واحدة في التلفزيونات – Televisions – والفضائيات العربية للمُفكِّرين والمُثقَّفين والدارسين والنابهين والنُبغاء لكي يدرسوا سلوكات هذه الأمة أصلاً ثم يُحلِلونها؟ لا يُوجَد هذا أبداً، لكن يُوجَد عندنا خمسون مُسابَقة وخمسون برنامج للمُغنيين والمُغنيات، لسنا ضد الفن لكننا ضد الغُثاء وضد التصنيم، أقل مُغنٍ عقوده بمئات الألوف وبعضهم بالملايين، وأكبر مُفكِّر وأكبر رأس لا يصل إلى هذا، وأين المُغني – مع احترامنا لكل الناس ولكل طبقات الشعب أيها الإخوة – أصلاً؟ في ماذا يتعب المُغني؟ الله أعطاه صوتاً، هذه مواهب وليست مكاسب، هذه ليست موضع فخر أصلاً، الله أعطاه صوتاً وربما لم يُعطه جمالاً ولا عقلاً ولا ذكاءً ثم صقله بقليل من التدريب وأطرب الناس وانتهى الأمر، وهذا جميل فلسنا ضد الفن، لكن ماذا يُمكِن أن يُقدِّم هذا للأمة؟ بماذا يُمكِن أن يُساهِم في حل مُشكِلات ومصائب الأمة التي ترين عليها وعلى نفوخها؟ لكن المُفكِّر الذي يقرأ أربعين وخمسين سنة ويقرأ عشرين أو ثلاثين ألف كتاب أو يكون مثل عباس العقاد الذي قرأ سبعين ألف كتاب يموت وهو مدين – أي مديون – ولا يملك بيته الذي يعيش فيه، لو أمكن لمُفكِر أو كاتب عربي واحد أن يعيش من قلمه لكان عباس العقاد، عباس العقاد وافر الإنتاج، كتب ألوف الصحائف الرجل وفي كل المجالات ومات فقيراً، محمد رشيد رضا صاحب المنار – التفسير والمجلة – قد كان إماماً مُجدِداً وموسوعياً على مُستوى العالم، يُقرأ في الهند والسند والباكستان والتركستان كما يُقرأ في البلاد العربية، ويُراسِله العلماء والمفاتي من كل العالم لأنه كان موسوعة حية، رحمة الله عليه وسقى الله ثراه شآبيب الرحمة، مات الرجل وبمُجرَّد موته أُخِذَ بيته من أسرته لأنه كان مرهوناً، البيت كان في الرهن، أي كان رهنية، هذا حال الأمة الإسلامية، كارثة لا نستطيع أن نشعر بها، أنا أُقول من على هذا المنبر أين شيوخ العرب؟ علماً بأنني أقصد شيوخ النفط فانتبهوا وليس شيوخ اللحى، أين شيوخ النفط العرب؟ أين أُمراء العرب؟ أين ملوك العرب؟ أين أغنياء العرب؟ يجب أن يأخذوا الأمر بحد إذا أردوا أن يخدموا أمتهم، على الأقل اقرأوا تاريخ نهضة أوروبا، كيف نهضت أوروبا وكيف خُدِمَ الفكر وخُدِمَ العلم وخُدِمَ الرأي الحر، إذا أردنا فعلاً أن نستنقذ هذه الأمة من هذه الوهدة الزرية التي تطوَّحت فيها، والآن ييأس كثيرٌ من مُفكِّريها ونابهيها من إمكان إقلاعها ومن إمكان صحوتها من جديد ومن إمكان يقظتها من هذا السُبات المُخيم، والإمكان قائم بإذن الله تبارك وتعالى، لكن أنا سأذهب إلى مدى آخر، هذه اللغة أنا أصلاً شخصياً أتاذى منها وأعتبرها لغة خشبية، هذه اللغة التي تلوم والتي تنوح والتي تنبح أيضاً وتصيح وتنعى وتُبكِت لا تُفيد والكل ماهرٌ فيها، نُريد أن نتوصَّل إلى تحليل وإلى تفسير معقول مفهوم، وطبعاً – كما أقول دائماً – أي شخص تسمعونه أو تقرأون له يتحدَّث عن السبب – سبب دمار الأمة – اعلموا أنه شخص غير .. ماذا أقول لكم؟ غير مُتعمِّق وغير فاهم جيداً، لا يُوجَد سبب لكن تُوجَد أسباب، أي جُملة أسباب، هو مرض عضوي بسيط ليس له سبب، هناك جُملة أسباب، كيف لأمة كانت من الطبقة الأولى من طبقات الحضارة والتمدن والتمدين وكانت الرائدة – رائدة الركب العالمي – أن تهوى من حالق؟ وهذا الهوي لم يأت في قرن أو قرنين وإنما في قرون، ظلت تهوي قروناً، طيلة هذه القرون كانت تعيش بالقصور الذاتي لأن عندها رصيد، من غير مُبالَغة ليس لأنني عربي ومُسلِم – لا والله – حين أُطِل إطلالة سريعة على تراثنا العربي الإسلامي وحين أدخل في عالم أحد المُفكِرين الكبار أكون – وأقسم بالله على هذا – مأخوذاً، نحن الآن نعيش في القرن الحادي والعشرين ونقتعد على قمة هرم معرفي لم يُكن ليخطر على بال أكبر عباقرة العالم وليس المسلمين فقط في القرون السابقة، المعرفة الآن تتضاعف كل بضع سنين، ويُمكِن في يوم من الأيام أن تتضاعف كل يوم كما قالوا، ثم يُمكِن أن تتضاعف في كل ساعة، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، ووسائل العلم والمعرفة بشكل غير طبيعي مُتاحَة، الآن أي إنسان ذكي يُمكِن أن يحصل عليها، مصطفى صادق الرافعي تعلَّم تعليماً إبتدائياً ، عباس العقاد أكمل السادس أو الخامس الإبتدائي، ومع ذلك كانوا عباقرة كبار، أنا أقول لكم اليوم أي أحد فيكم يستطيع لو أراد ولو صح منه العزم ولم ينكسر ويتفنى أو ينثني أو يتثلَّم حده في عشرين أو ثلاثين سنة أن يكون من كبار مُفكِّري العالم من غير أستاذ ومن غير جامعة ومن غير شيخ ومن غير كلية، كل شيئ مُتاح لديك يا أخي، حتى الأستاذ الناطق الحي تراه في اليوتيوب YouTube, الأزهر يضع آلاف الدروس الحية للعلماء كما هى، سواء سمعته وأنت في ساحة الأزهر – أنت ستسمع فقط – أو سمعته في اليوتيوب YouTube، هو نفسه الذي يتكلَّم، وموجود بالإنجليزي وبالألماني وبالصيني وبكل اللغات، كله مُتاح الآن، هذا لم يكن مُتاحاً في يوم من الأيام بهذه الطريقة، ائت بأكبر عقل الآن – ليس حتى مسلم أو عربي بل حتى في العالم – وسوف تجد أن حجم الاهتمام المعرفي وحجم الإنجاز المعرفي لا يُقاس بمفكري الإسلام وبعباقرة الإسلام، شيئ مُدهِش – أقسم بالله – ومُحيِّر جداً، مما صُنِع هؤلاء البشر؟ هل هؤلاء أجدادنا؟ هل فعلاً نحن أحفادهم؟ مسافات فلكية بيننا وبينهم، كيف كانوا يكتبون؟ وعلى ماذا كانوا يكتبون؟ وبأي وسائل يستعينون؟ كيف كتبوا مئات المُصنَّفات؟ لديهم مئات المُصنَّقات، وأكثر هذه المُصنَّفات عميقة ودقيقة وفيها إبداع، حين ترى مُصنَّفات ابن النفيس وهى هائلة جداً عددياً ترى أنها شيئ مُذهِل ومُحيِّر، مُصنَّفات الجاحظ الفكرية والفلسفية والكلامية الجدالية والأدبية تُمثِّل شيئاً لا يكاد يُصدَّق، حين تُفكِّر في كيف أنه كتب صفحة تتعجَّب، فكيف كتب هذه المئات من الكتب؟ ما هذا؟ ما الذي كان يحدث؟ أبو بكر محمد بن زكريا الرازي – الطبيب الفيلسوف والكيميائي – مُصنَّفاته هى شيئ أيضاً لا يكاد يُصدَّق، جابر بن حيان يُنسَب إليه ألف وخمسمائة كتاب، يا سيدي افترض أن نصفها كان منحولاً، يبقى سبعمائة أو ثمانمائة كتاب، والرجل مُؤسِّس لعلوم وليس لعلم واحد، علم الكيمياء الحقيقية -Chemistry – وليس الخيمياء، فالسيمياء علم أشبه بالسحر هذا يقوم على تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، لكن الحديث عن الكيمياء – Chemistry – الحقيقية، هذا الرجل مُؤسِّس حقيقي لها، علم المعادن قبل أبي الريحان البَيْرُوني له فيه إسهامات، والبَيْرُوني عنده كتاب في علم المعادن إسمه الجماهر في معرفة الجواهر ويُطلَق عليه الجواهر، لكن جابر سابق، حتى في علم النباتات وعلم السموم Toxicology – – له إسهامات، هذا الرجل مُؤسِس لعلوم كثيرة وعنده مئات المُصنَفات، كيف هذا يا أخي؟ هذا إبداع، هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، أنا أقول لكم هؤلاء أُناسٌ صدقوا الله – تبارك وتعالى – وصدقوا مع أنفسهم وصدقوا مع أمتهم ومع البشرية في أنهم أرادوا الخير للبشرية وللناس، أرادوا أن يُقدِّموا ما عندهم بما هيأهم الله – تبارك وتعالى – فواصلوا بياض النهار بفحمة الليل، لم يكونوا تقريباً ينامون، ابن سينا – هذا الأعجوبة العجيب – كان ينام تقريباً أربع ساعات فقط طيلة حياته، يقوم لصلاة الفجر ثم لا ينام إلا مُتأخِراً، يكتب كل ليلة، واشتغل بالوزارة واشتغل في أماكن كثيرة، وعشرات العلوم تفنن فيها هذا الرجل أيضاً، أُناس كانوا صادقين، أُناس لهم ثقة بأنفسهم، رأوا أن القدر اصطفاهم وانتخبهم لكي يكونوا شيئاً ولكي يُقدِّموا شيئاً وشيئاً وشيئاً.

للأسف غرقت مرة أخرى في المُقدِّمات، نذهب الآن إلى الموضوع، يتساءل هؤلاء المُفكِّرون النابهون ويقولون كيف يتسنى أن نكون نحن وأن نكون ما عليه نحن ونحن الآن من أردأ الأمم؟ يجب أن نكون واضحين فانتبهوا، انظروا إلى الصين الآن وقد نهضت نهضة عظيمة، على الأقل على المُستوى المادي، أنا لا أقول لكم نهضة أخلاقية وما إلى ذلك ولكن على المُستوى المادي نهضت نهضة عظيمة، لكن بعد ضربات من النقد المرير، وبعد أُناس أُدخِلوا السجون، يُوجَد كتاب لمُفكِّر صيني كبير، هذا الكتاب طبعاً حين ألَّفه اتُهِمَ بأنه خائن وبأنه عميل، وقالوا هو عميل للرأسمالية العالمية وما إلى ذلك، قال لابد أن ننتقد فلسفة حياتنا، لابد أن ننتقد أُسسنا، لابد أن ننتقد حالتنا، والكتاب إسمه The Ugly Chinaman and the Crisis of Chinese Culture، أي الصيني البشع وأزمة الثقافة الصينية، فهو يقول   الصيني البشع، نحن بشعون، نحن شعبٌ بشع، وهذا نقد مُهِم، ومع ذلك يقول أحدهم لماذا نجلد ذاتنا؟ كأنها ذات مُنزَهة مُقدسة وكاملة – Perfect – ونحن نجلدها، لكن كيف نُفرّق بين جلد الذات وبين نقد الذات؟ نُريد أن نتتقد، يجب أن ننتقد الغُثاء، يجب أن نقول للشيئ الغالط أنت غالط وللشيئ الصحيح أنت صحيح، الغلط لا يُمكِن أن يكون صحيحاً يا أخي إلا لأمة مجنونة تُريد أن تُواصِل النوم والجنون، هذا الكتاب حتى صادم، مَن يقدر على أن يقول العرب البشعون؟ هذا مُستحيل، سوف يُقال هذا مجنون، هذا يتبرأ وينسلخ من جلده، لكن هذا قال الصيني الكريه البشع، يقول نحن – ما شاء الله – مُتقدِمون في ثلاثة، وبدأ بالقذارة، وهذا معروف كونك صينياً يعني هذا، وهذا ليس هجاءً في شعب عظيم، هذا شعب عظيم وعنده حضارة، لكن يقول بو يانج Bo Yang نفسه – إسمه بو يانج Bo Yang – نحن في القذارة – ما شاء الله – رقم واحد في العالم، وهم طبعاً يأكلون كل شيئ، الصراصير والفئران والكلاب والخنازير وما إلى ذلك، كل شيئ يُؤكَل فضلاً عن الرائحة الكريهة، وهذا أمر معروف، يُقال في الأمثال الصينية والقذارة لا يتنافران، أي لا مُشكِلة، لا يُوجَد أي نزاع في أن تكون صينياً وأن تكون وسخاً جداً، هذا أمر عادي، لأنهما يركبان مع بعضهما البعض، يقول بو يانج Bo Yang القذارة رقم واحد، نحن قذيرون جداً، ثم تحدَّث عن الإهمال وهذا ثانياً، قال نحن مُهمِلون في كل شيئ، والعرب أساتذة في الإهمال ومن ثم يقولون الله غالب وقدَّر الله وما شاء فعل وهو هذا يا رجل ولعله خير، إهمال ولامُبالاة قاتلة، وترون الواحد فينا يصل إلى سبعين سنة ويُدرِّس في الجامعة لكن لا يُوجَد إنتاج حقيقي ولا يُوجَد فكر ولا يُوجَد فهم، حتى في الحقل الذي يُدرِّس فيه يأتي يتكلَّم بطريقة خاطئة، وهذا أمرٌ عجيب، بعضهم يُخطيء أكثر مما يُصيب، ماذا تفعل إذن؟ أين قضيت سبعين سنة يا أستاذ يا بروفيسورProfessor؟ ماذا تفعل أنت؟هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، المرحوم عبد الرحمن بدوي ترك زهاء مائة وخمسين مُؤلَفاً في شتى العلوم والفنون رحمة الله عليه، وكان يتساءل دائماً بغضب هذا المصري العظيم الذي عاش وجودياً وانتهى مُدافِعاً عن الإسلام ومحمد والقرآن – رحمة الله عليه وغفر الله له – ويقول عن علماء مصر ماذا يفعلون؟ أين أنتم؟ ماذا تفعلون؟ هل أنا أختلف عنكم؟ هل أنا ذهب وأنتم خشب؟ أنا مصري وعربي، وكتبت مائة وخمسين مُؤلَف، وعنده ترجمات ودراسات جادة حقيقةً، لا يُوجَد عنده كتاب فيه كلام فارغ، كل دراساته وترجماته جادة ومُهِمة لأي مُفكِّر، أما نسبة الإبداع فيها فهذا موضوع ثانٍ، لكن هذه دراسات علمية أكاديمية جادة، أنتم ماذا تفعلون؟ أنتم أكاديميون وأساتذة كبار ومُرتباتكم موجودة فأين مُؤلَفاتكم؟ أين دراساتكم؟ أين ترجماتكم؟ كان يغضب – رحمة الله تعالى عليه – لأن هذه الحالة لا تعجبه أبداً،وله الحق أن يغضب وأن يصيح وأن يُثرِّب وأن يُدمدِم ويستنكر ولا يقف لكييهز هذه الأمة، قال بو يانج   Bo Yang القذارة والإهمال والضجيج، قال الصيني حين يهمس إلى جاره يُصرِّخ ويصيح، والعرب كذلك أيضاً، والطليان أيضاً كذلك قليلاً، نحن نُصرِّخ دائماً ودائماً يكون صوتنا عالياً لأننا شعوب مُتخلِفة، لا نتكلَّم بصوت هاديء مع بعضنا، في القطار – Train- أو في الحافلة – Bus – أو في أي مكان دائماً ما نُصيح، والصينيون يفعلون نفس الشيئ، نحن من أكثر الشعوب صياحاً، ثم نقول بعد ذلك ما هذا الجمود؟ هناك حالة من الجمود والتكلس رانت علينا، ثم – هذا الذي صدمني حين اطلعت على كلام بو يانج Bo Yang – يقول ثم إن هذا الميراث الكونفوشيوسي دمَّرنا، يقولون دائماً كونفوشيوس Confucius وكأنه نبي من السماء، هذا الكونفوشيوس Confucius دمَّركم، دمَّرتنا الكونفوشيوسية، لماذا؟ بسبب نزعتها المُحافِظة التقليدية، بلغتي أنا أقول الطاعوية، وقد حدثتكم مرة قبل سنين عن الطاعوية،فالكونفوشيوسية تقوم على الطاعوية، طاعة الحاكم – الرئيس أو الملك أو السلطان – وطاعة الأب وطاعة المُعلِّم وطاعة الزوجة لزوجها وطاعة الأخ الكبير وطاعة كذا وكذا وكذا، ومُقدَّسة هذه الطاعة، وهم لديهم مبدأ الـ Li والخمس علاقات المعروفة، فلابد من هذا باستمرار حتى في التعليم، لكن يا أخي التعليم إبداع، قالوا ممنوع لأي مُتعلِّم أياً كان ومهما وهبته السماء من قدرات ولياقات ومواهب وإمكانات أن يتجاوز ميراث مُعلِمه، لا يُمكِن لتلميذ أن يكون أحسن من أستاذه، يا سلام، هذا كونفوشيوس Confucius، ولذا قال لهم دمَّركم كونفوشيوس Confucius، هيا سبِّحوا بحمد كونفوشيوس Confucius وأنتم مُدمَّرون، اكسروا هذا الميراث، تحرَّروا منه قليلاً وغربلوه، خذوا منه ما يصلح والفظوا منه وانبذوا ما لا يصلح، وهكذا مثل بو يانج   Bo Yang يُوجَد مئات المُفكِرين الذين قاموا بالهز المُستمِر حتى بدأت تستيقظ قليلاً.

أنا سأقول لكم شيئاً، يتساءل هؤلاء النابهون – كثَّر الله النابهين في أمتنا – كيف نكون ما نحن عليه ونحن من أردأ الأمم للأسف الشديد وأكثر الأمم تأخراً الآن؟   مُتأخِرون بشكل – كما قلنا قبل ذلك – كبير، حين ترى تركيا تجدها منا، حين ترى إيران تجدها أحسن منا، حين ترى ماليزيا تجدها أحسن منا، وكل الدول الإسلامية أحسن منا، بل العالم كله أحسن منا، الآن العرب – ما شاء الله – صاروا تقريباً في ذيل القافلة، لماذا؟ عندنا أعظم موقع في العالم، وهو موقع عجيب، نحن نربط القارات كلها تقريباً، أليس كذلك؟ نربط كل القارات وعندنا النفط وعندنا سائر المعادن أيضاً وعندنا طاقة بشرية غير طبيعية، نسبة الشباب عندنا من سن الرابعة عشرة إلى سن الخامسة والثلاثين شيئ غير طبيعي، الأولى في العالم هذه الأمة من حيث عدد الشباب، لماذا يُستهلَك هذا الشباب ويضيع ويُهدَر؟ هذه الثروة البشرية الهائلة تُهدَر ولا يُنتفَع بها ولا تُوظَف ولا تُستثمَر، لماذا؟ ما العلة؟ أنا أقول لكم وسأكون واضحاً معكم كما أنا واضح مع نفسي حلاً، وأنا أعتقد أنه ليس حلاً سحرياً، لا يُوجَد سحر في الدنيا – كما قال ماكس فيبر Max Weber – فنحن فككنا السحر في العالم، هذا عالم بلا سحر، عالم غير مسحور، هذا عالم مفهوم، هذا عالم منطقي، وباللغة القرآنية هو عالم سُنني، قال الله سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۩، هذه هى السُنة، هذا عالم سُنني، عالم مُنظَم بقوانين، نحن نعيش في عالم هيولاني، عالم Chaotic من الفوضى والشواش، العرب وأي أمة مُتخلِفة وأي شخص مُتخلِف لا يرى سُناً ولا يرى قانوناً لا يرى للأشياء معنى ولا يرى للأحداث معنى، علماً بأن طريقة الله غالب والله يُريد هذا وقدَّر الله طريقة عبثية في فهم الأشياء تُعرِب وتُفصِح عن أنك لا تفهم شيئاً، تنسب كل شيئ إلى الغيب، وهذا يعني أنك لا تفهم ما يحدث ولا تفهم شيئاً، أليس كذلك؟ وبهذه الطريقة يستوي المُسيء والمُحسِن والمُصلِح والمُفسِد والجميل والقبيح، كله يستوي لأنه يُقال الله يُريد هذا، أليس كذلك؟لذلك أنا سوف أقول لكم الحل بكلمة واحدة، وركزوا معي لأننا نتكلَّم عن حل الآن، هذا ليس كلاماً نظرياً أو ترفاً، ولن أقول هذا ليس ترفاً فلسفياً لأن الفلسفة مطلوبة، وقلت قبل ذلك إياكم أن تحتقروا الفلسفة، أعتقد جزء من خيبة هذه الأمة – من خيبة الأمة العربية والإسلامية – أنها لا تحترم الفلسفة، هى تظن أن الفلسفة تتمثَّل في أنك لابد أن تقول بقِدم العالم وأن تكون أرسطياً وما إلى ذلك، لكن هذا غير صحيح يا أخي، الفلسفة في نظري اتجاه في التفكير ونزعة في التفكير تميل إلى مُساءلة المُقدَّمات وتبحث عن الجذور فقط، هذه هى الفلسفة، أنا لا أحترم الفلسفة المذهبية، لا تهمني المذاهب، وعملية مُضنية ومُتعِبة جداً وحاصلها ليس كبيراً أن تبدأ تتفلسف وتفهم كل المذاهب، المذاهب لا عد لها ولا حصر، في آخر أربعمائة سنة في الغرب هنا لكي تقرأ مذاهب الفلاسفة سوف تحتاج – والله – خمسمائة سنة ولن تنتهي أو تتعمق، كل أحد عنده فلسلفة وهناك دراسات قبله بالآلاف، لكن أنا أتحدَّث عن الفلسفة كنزعة في التفكير وكنزعة في التعمق وفي التحليل وفي التفسير تُسائل المُقدِّمات وتُسائل الأطر العامة، ولذلك هى قادرة على أن تُفسِّر وأن تُحلِّل وأن تُفكِّك وأن تُعطي صيغاً أيضاً للتركيب من جديد، وهذا إبداع، الفلسفة بهذه الطريقة هى جوهر الإبداع، ولا إبداع بلا فلسفة، فلن أقول هذا ليس ترفاً فلسفياً حتى لا أحقر الفلسفة بهذا المعنى النزوعي الاتجاهي، أعود وأقول لكم أن المسألة بسيطة في نظري، بل هى بسيطة جداً، نحن لدينا خير المباديء، وقد – قلت لكم – برترداند راسل Bertrand Russell أرَّقه موضوع هلاك البشرية وفناء البشرية تحت التهديد بعد الضربة النووية الأولى بضربات هيدروجينية وضربات قنابل الكوبالت Cobalt الرخيصة البخسة، بعدة قنابل كوبالت Cobalt تفنى البشرية، يفنى أخر كائن بشري، تفنى البشرية من عند آخر إنسان فيها، وكل قنابل الكوبالت Cobalt لا تُساوي سعر قنبلة واحدة، لأنها قنابل رخيصة قادرة على افناء الجنس، فهذا الرجل رُعِب، قال لك ما هذه المُصيبة التي نحن فيها؟ إلى أين وصلنا بالعلم؟ وبدأ يبحث، وطبعاً معرفته بالإسلام ليست عميقة وليست بعيدة وليست قديمة بالنسبة للكتاب الذي ألَّفه، لكنه قال يُوجَد عندنا حل الآن يلوح في الأفكار الشيوعية وهى أفكار باطلة لا تُلائم ولا تصلح لأسباب كثيرة، وهو أصلاً كاره للشيوعية، قال يبقى أكثر حل مُتاح – أقرب الحلول – وهو الإسلام، وهذا أمرٌ عجيب، برتراند راسل Bertrand Russell المُلحِد ماذا رأى في الإسلام؟ ما نعجز نحن أصلاً أن نرى فيه طبعاً، لأن – ما شاء الله – حين ينشط الناشط فينا يتحوَّل إلى قنبلة فيقتل ويُدمِّر، ينشط ضد السلام وضد البناء وضد الحضارة، لكن ليس هذا الإسلام، هو شيئ آخر أكبر من هذا بكثير، لذلك أنا أقول لكم شيئاً من نفسي وفي نفسي من قبل بضع سنين، ربما من ثلاث أو أربع سنين لكنني كنت أخاف لأن هذا طبعاً ربما يصمني ويدمغني بالزندقة، وهو أنني أعتقد أن الإسلام لم يبلغ ذروته ولا حتى مع جيل الصحابة، مع احترامنا لساداتنا وسادات الأمة الصحابة رضوان الله عليهم، لكن الصحابة أيضاً كانوا أبناء ظروفهم وشروطهم وأبناء مراحلهم، بالعكس أنا اعتقادي – وأُحِب أن أُبرهن هذا فقد أعرضه في مُحاضَرة أو كتاب أو خُطبة – على كل حال من غير تبجح أن الإسلام لم يستنفذ إلا الحد الأدنى من أغراضه، لا تتوقعوا أن الإسلام – ما شاء الله – أوفى على الغاية وأعطى كل ما عنده ثم بدأ يتراجع بعد ذلك، هذا غير صحيح، أنا أقول لكم الإسلام حقق أغراضاً له، لكن الحد الأدنى من أغراضه، وبعد ذلك أُجهِض هذا الإسلام، الأمة أجهضته، بنو أُمية وبنو العباس والمماليك والعثمانيون فعلوا هذا وإلى اليوم هذا مُستمِر، أجهضوا هذا الدين وحرَّفوه وخنقوه واعتقلوه، والأمة المسكينة من ورائهم دون أن تدري بخاصتها وعوامها فعلت، لكن أنا أقول لكم هذا الإسلام لم يف إلا بأقل وعوده ولم يُنجِز إلا الحد الأدنى من أغراضه بإذن الله تعالى، وما زال مُستقبَل هذا الإسلام ليس خلفه فانتبهوا، التصور الأول السلفي التقليدي يرى أن المُستقبَل في الخلف وانتهى الأمر فالإسلام أوفى على الغاية فيما مضي، هذه هى النزعة السلفية والتقليدية والتي تقوم بتعظيم السلف وعدم إتاحة فرصة حتى لفهم النص إلا بعيون السلف وحدهم وكأن السلف أنبياء يا أخي، وأنا دائماً أقول لدينا نبيٌ واحد، وعندنا أبطال كثيرون وهذا جيد، نعم عندنا أبطال لكن البطل لا يُصبِح نبياً, أليس كذلك؟ أنت بطل لكنك لست نبياً، أنت لست نبياً لي فانبته، تبقى بطل فقط، عمر بطل وعليّ بطل لكنهم ليسوا أنبياء، هم أبطال لهذه الأمة، هم أبطال عظماء، بخسهم وتحقيرهم يُعد حقارة في النفس، هذا عدم وفاء طبعاً، هذه نفس مُصابة بعقدة الضعة، وعلى ذكر عقدة الضعة يقول بو يانج Bo Yang من أمراض الصينيين أنهم مُستهلَكون مُتوتَّرون بين عقدتين، عقدة نقص وعقدة تفوق، هكذا واجه أمته وواجه نفسه كصيني، فهو عنده عقدة نقص Inferiority complex، وعنده عقدة تفوق Superiority complex، يقول فالصيني بعقدة نقصه عبد – لا يرى نفسه إلا عبداً، لأن عنده عقدة نقص وعقدة وضاعة، يرى نفسه لا شيئ، وكأنه ذبابة أو صرصار أو دودة أرض – والصيني بعقدة تفوقه سيد، لكن لماذا أذكر هذا أنا؟ أنا لم آت إلى هنا لكي أشرح لكم مُلخَص الكتاب، لكن لأن هذا يتطابق مع الحالة العربية للأسف، واضح جداً أن العربي تقريباً – إلا ما رحم ربي – عنده نفس الشيئ، مُستهلَك ومُتوتَّر بين عقدة نقص وعقدة عقدة تفوق، يرى نفسه شيئاً كبيراً، ولذلك هذا العربي المسكين غير قادر على أن يعيش كإنسان طبيعي، أنا إنسان طبيعي يا سيدي، لست سيدك ولست عبدك، أنا أخوك وأنا صاحبك وأنا صديقك وليس أكثر من هذا، نحن إخوة فقط، النبي كان يقول إنما المؤمنون إخوة، والبشر جميعاً إخوة، النبي كان يقول أيضاً اللهم إني أشهدك أن العباد كلهم إخوة، وهذا منطق عظيم، أعظم من منطق حقوق الإنسان ومُساواة البشر، منطق المُساواة والمُساواتية منطق قانوني يُفرِغ عن حس وعن فهم قانوني، ومنطق الإخوة يُفرِغ عن ماذا؟ هذه مقولة خبرية، كوننا إخوةً هذه مقولة خبرية، فنحن إخوة، أخوك يبقى أخاك شئت أم أبيت، لكن بالنسبة إلى أنه يُساويك أو لا يُساويك مسألة يُمكِن أن يُحتال عليها، هل يُمكِن أن تحتال في أن تجعل أخيك الذي هو من أبيك وأمك ليس أخاً لك؟ هل تقدر على أن تفعل هذا؟ لا تقدر، سوف يظل أخاً لك، سواء صلح أو طلح أو ارتفع أو انخفض هو أخوك، لكنك تقدر فعلاً على أن تكسر هذه الرابطة المُساواتية بينك وبين أي واحد بالظلم، ترفع نفسك فوقه درجات وتظلمه، تظلمه حقه وتدوس عليه أيضاً وعلى كرامته مثلما يحدث في بلادنا، يُوجَد عندنا ظلم صارخ وتظالم، أجهزة الأمن في الدول العربية مُخيفة مُرعِبة، لماذا؟ هذا شُرطي، هل هنا يُوجَد شُرطي مُرعِب في النمسا؟ هل رأيتم في حياتكم شُرطياً مُرعِباً في النمسا؟ الشُرطي ليس مُرعِباً والله العظيم، أقسم بالله أنا أفرح جداً عندما أشعر أن الشُرطة تجول في الحي، هذا يعني وجود أمان، أنت نائم ملء جفنيك وهذا المسكين يجول في الليل لمصلحتك ولأمنك، أليس كذلك؟ حين يطلب منك حتى الرخصة وأنت مُخالِف يقول لك يا سيد، ويتأدَّب في الحديث، في إنجلترا دائماً يقولون ياسيدي، حتى في أمريكا يقولون ياسيدي، من فضلك أعطني الرخصة، وبكل أدب يقول هذا رغم أنك مُخالِف وكسرت الإشارة الحمراء، ثم يقول لك أتعلم لم أوقفتك؟ وأنتم تعرفون هذه القصة لأنها تحصل كل يوم، لكن في بلادنا شرطي الأمن لا يفعل هذا، هذا ليس أمناً، هذا يحدث لإرعاب الناس ولإرهاب الناس ولإذلال الناس، ماذا يظن نفسه هذا الضابط؟ حسبنا الله ونعم الوكيل، أما يخشى الله؟ يتم إرعاب الناس وأخذٌهم تحت التحقيق ويبدأ التكسير وانتهاك الأعراض والضرب والتبريح وسب الأب والأم والأخت والعِرض، ما هذا؟ أي تربية هذه؟ أي إنسان هو العربي هذا؟ ويظن نفسه إنساناً، يظن نفسه ضابطاً، لا يعرف أنه وحش وحقير، هو وحش وحقير أيضاً، هذه حقارة البشر، لذلك يقول بو يانج Bo Yang الصيني ليس أمامه إلا خيار من خيارين، إما أن يكون سيدك وإما أن يكون عبدك، إذن لم يستطع أن يكون سيدك فهو سوف يكون عبدك مباشرةً، يا ساتر، علماً بأننا كذلك أيضاً، بدليل أنك إذا أتبت بأي عبد تعرفه في أي مكان أو في أي دائرة – ائت حتى ببواب – وائت بعبدٍ دونه، وسوف يُصبِح سيداً عليه يا أخي ويستذله مباشرةً، أليس كذلك؟ نحن قلنا أن مُجرَّد شرطي يفعل هذا، مع احترامنا للشرطة، الشرطة تُؤدي شيئاً عظيماً، لكن أنت مُجرَّد شرطي، أنت لست بروفيسوراً Professor في جامعة ولست وزيراً ولسا سفيراً ولست كاتباً ولست فيلسوفاً، أنت شرطي فقط مع احترمنا لك ولمهنتك، وكل المهن مُحترَمة، وهذه مهنة مُحترَمة فعلاً، لكن ما هذا الشرطي الذي يذل الناس؟ هو يُحِب أن يشعر بقيمته من خلال إذلالهم وإهانتهم وإخافهتم، يفرح عندما يشعر أنهم أُهينوا وذلوا له وبخعوا وخافوا ونُزِفت دماء وجوهه واصفروا، يفرح هذا المُعقَد، ما هذه العُقد؟ لذلك أنا أقول لكم أننا سوف نأتي إلى الموضوع الآن وإلا ستضيع الخُطبة من غير أن نقول الحل، نحن لدينا أحسن مباديء، يُقال لنا لدينا أحسن دين، لكن كلمة أحسن دين لا أقبلها، لماذا؟ هل تعرف لماذا؟ انتبه إلى هذا،عندما أقول أحسن دين فإن سؤالي هو بأي معنى؟ دين مَن؟ هل الدين كما تفهمه أنت أم كما يفهمه هو أو هى؟ هذا هو، هنا من المُمكِن أن أوافق حين تقول الدين كما يفهمه هو أحسن دين، أحسن دين بالنسبة لي كما أفهم أنا هذا الدين وسائر الأديان فأرى أن الإسلام أحسن دين، أما الدين كما يفهمه هذا المُفجِّر والمُكفِّر والقاتل ليس أحسن دين، لا يُمكِن أن يكون كذلك، لذلك هذه كلمات عامة ومُجرَّدة، يُقال أحسن دين، لكن بأي معنى؟ لا تغُر نفسك عن الحقائق، بأي معنى؟ اشرح لي في الأول كيف تفهم الدين وبعد ذلك سوف أقول لك هذا أحسن أم أسوأ، قد يكون أنكب دين وأكرث دين على أمته وعلى البشرية، أليس كذلك؟ فلا تغتر بههذه المانشيتات، هذه كالشيهات Clichés نحفظها دائماً فنقول أفضل دين وخير أمة وما إلى ذلك، لكن يجب أن نكون مُحدَّدين مع أنفسنا بالمنطق القرآني، فهذا منطق قرآني على كل حال، نعود ونقول نحن عندنا أحسن مباديء، وفعلاً هذا الدين فيه أحسن مباديء، ولا تقل لي عكس هذا، ائت بمباديء في القرآن واثبت أنها مبادئ ليست حسنة وأنها مباديء شريرة، أعوذ بالله، لا والله، هذا غير موجود في كتاب الله أبداً، لماذا أحسن مباديء وأسوأ أمة وأردأ أمة وأردأ حال الآن؟ أنا سأقول لكم ما هو الحل ببساطة، هذا من وجهة نظري وقد أكون مُخطئاً، وقطعاً أنا مُصيب على الأقل جزئياً ، فلن أُكذِّب نفسي من باب التواضع، جزئياً أنا أعلم أنني مُصيب، وقد أُخطيء في جزئيات أخرى، ما هو الحل؟ يا أحبابي – يا إخواني ويا أخواتي – المباديء والأفكار والقيم مهما كانت حسنة وفاعلة وجميلة وجيدة لا تصلح وليست كافية ما لم تأت على خلفية منظور للحياة وفلسفة للحياة صحيحة، انتبهوا إلى هذا، هذا الحل الذي عندي فقط، ونحن لم نفهم شيئاً من هذا الكلام طبعاً، ما معنى هذا؟ ما معنى فلسفة للحياة؟ ما معنى منظور للحياة؟ كيف هذا؟ هل هناك فلسفة للحياة ومنظور للحياة خارج المباديء؟ طبعاً، أنت الآن قد تجد شخصين، شخصاً أميناً والآخر أميناً أيضاً، لكن كل منهما أمين وفق فلسفة له في الحياة، الفلسفة مُختلِفة والقيم مُشترَكة، تجده الأول باراً بوالديه والآخر باراً كذلك مثل صاحبه وضريبه، لكن الفلسفة عندهما – حتى في البر – مُختلِفة، أليس كذلك؟ هى مُختلِفة، حتى لا نُطوِل أيضاً ولا نخوض في غمار هذا الموضوع أتساءل فلسفة المسلم في الحياة من أين هى مُستمَدة؟ ببساطة ليست من أرسطو Aristotle طبعاً ومن لا سقراطً Socrates ولا من نيتشه Nietzsche ولا من المُتأخِرين، وإنما من العقيدة، أي من عقيدتك، كيف أنت تُؤمِن؟ على أي نحو تُؤمِن بالله أنت بالذات وباليوم الأخر؟ كيف تُؤمِن بالدين؟ طبعاً أهم شيئ إيمانك بالله وعلاقتك بالله وفهمك لله وعلاقتك بجلاله، كيف هذا؟ العقيدة أهم شيئ، عقيدتك هى تصوّرك للوجود تماماً، هى فلسفتك في الحياة، هى منظورك للعيش.
أنا سأختار نقطة أعتقد أنها الأخطر على الإطلاق والأكثر إغماضاً وتعتيماً والتباساً وإشكالاً في عقائد المسلمين وعلى كلا المُستويين النظري والعملي من يوم ما كُرِثوا مع بني أمية إلى اليوم، البداية مع بني أُمية واستمر الوضع إلى اليوم، وهى سر مأساة المسلمين، هل تعرفون ما هى؟ نظرة المسلم إلى نفسه بإزاء الله تبارك وتعالى، هل يرى نفسه فعلاً كائناً مُكرَّماً حراً مُستخلَفاً في الأرض وبالتالي فاعلاً مُنتِجاً عاملاً وبالتالي – تالي التالي – مسؤولاً أم يرى نفسه ملعباً للقدر – ملعب أو ساحة يلعب فيها القدر – وريشة في مهب الرياح ومعمولاً ومفعولاً ومنتوجاً للأقدار وليس له شخصية وأنا وذاتية حقيقية وبالتالي غير مطلوب منه أي عمل حقيقي أو إنجاز حقيقي وبالتالي لا يرى نفسه في أعماق نفسه مسؤولاً؟ أنا أقول لكم الحاصل هو الثاني وليس الأول، وهذا ما حصل من ألف وثلاثمائة سنة إلى اليوم، وهذه قضية دمَّرت الشخصية المسلمة، هذه دمَّرتنا كأمة، وهذا شيئٌ عجيب فانتبهوا، قد تقولون لي أنت مُتناقِض لأنك في أول الخُطبة تحدَّثت عن الرازي وجابر بن حيان والجاحظ، لكنني أُبشِّركم بأن كل من ذكرت وأمثالهم عاشوا وماتوا مُتهَمين بالزندقة وعُمِلوا كزنادقة أصلاً، ما رأيكم؟ لأنهم لم يكونوا يخضعون لهذه المنظورات أبداً، ولكن كان إيمانهم بذواتهم إيماناً رابياً زاكياً كبيراً فانتبهوا، هم لم يكونوا كالعامة ولم يخضعوا حتى لأفكار أئمة الدين كالأشعري وغيره، ليس عندهم هذا الكلام، هم كانوا فلاسفة ومُفكِّرين مُستقِلين تماماً، وفهموا دور الإنسان ومكانة الإنسان ومن هنا أبدعوا، أبدعوا أيما إبداع، وهذا ينطبق طبعاً حتى على الجاحظ المُعتزِلي، ومعنى مُعتزِلي أنه يرى الإنسان خالق أفعال نفسه ولا يستجيز أن يُنسَب إلى الله شيئاً واحداً مما تفعله أنت، كل الأفعال التي تفعلها هى أفعالك أنت فقط، فانتبه إلى هذا، فهو مُعتزِلي طبعاً، وعلى كل حال لا تقولوا أنت مُتناقِض لأنني أعرف ماذا أقول، هذه هى النظرة الجبرية، وهذا هو الجبر الميتافيزيقي، طبعاً هذه مُصيبة وقعت للأمة من خلال توالي الاعتقاد بالجبر الميتافيزيقي، كأن يُقال أنا تحت سُلطان القدر، مثلما عبَّر العلّامة مصطفى صبري حين قال أنا تحت سلطان القدر، أنا معمول القدر، أنا ريشة في مهب رياح الأقدار، ابن الرومي كان أكولاً وناهِماً في الأكل، لكنه لم يفهم في يوم من الأيام على قباحة شكله وقد كان نحيفاً مقصداً صغيراً أن كثرة الأكل والنهم في الأكل وأن تأكل أي شيئ سوف يودي بحياتك في النهاية، هذا سوف يقتلك، المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء، لكنه لم يُحِب هذا رغم أنه هو القائل:

عدوك من صديقك مستفاد                       فلا تستكثرنَّ من الصِّحابِ.

فإن الداءَ أكثرُ ما تراهُ                           يحول من الطعام أو الشراب.

لا علينا من هذا، جاء بعد ذلك الطبيب وأراد أن يُعالِجه لأن عنده انتفاخات وتخمة ومشاكل لكنه أخطأ في علاجه، فقالوا له كيف حالتك؟ قال أنا انتهيت، أنا أُحتضَر وسوف أموت، وفعلاً مات الله يرحمه، قال أنا الآن أموت، لماذا يا ابن الرومي؟ لم يقل بسبب الأكل ومشاكلي، و إنما قال بسبب الطبيب، هذه أقدار والله غالب، هذا قدر والله يُريد هذا، قال:

غَلِط الطبيبُ عليّ غلطة مُوردٍ       عجزتْ مَحالتُه – وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ۩ – عن الإصدارِ.

والناس يَلحَوْن الطبيب وإنما                                   خطأ الطبيب إصابة المقدار.

قال القدر سوف يأتي لا محالة، وعندنا العامة ماذا يقولون باللغة العامية في بلاد الشام؟ يقولون على هوان سبايك، أي سبب وافق سبباً، لأن هذه أقدار فقط، ربطت هذا بهذا وهذا كله قدر لا علاقة لنا به، لكن نحن نرفض هذا المنطق، بهذه الطريقة غلط الطبيب مرفوع ومهدور، أي جُبار، لكن هل النبي قال هذا؟ النبي قال العجماء جُبار، تحدَّث عن غلط البهيمة، العجماء – البهيمة – إذا قامت بأمر خاطيء فهذا جُبار،لكن الطبيب المُتعلِّم كيف يغلط؟ وعندنا في بلادنا – ما شاء الله – يكثر هذا، تقريباً في آخر خمسة أشهر سمعت من أهلنا في فلسطين أن هناك أربع حالات في المُعسكر الذي كنت فيه مات فيها البشر بسبب غلطة مُمرِّض أو غلطة طبيب، ما هذا الهبل؟ في مُعسكَر بسيط كل يوم والتاني يوم شخص، ما السبب؟ يُقال عالجوه بشكل غالط أو أعطوه إبرة بشكل غالط، والطبيب مُتعلِم – ما شاء الله – أحسن تعليم طبعاً، وهناك رقابة وهناك وزارة صحة، هذا لا يصح، انظروا إلى ما يحدث في أوروبا هنا، أنا أعرف هنا بروفيسور Professor معرفة شخصية وهو من أكبر البروفيسورات Professors في النمسا في الأعصاب ولن أذكر إسمه لكنهم تحدَّثوا عنه قديماً ونشروا صورته وما إلى ذلك وسُجِن لمدة ثلاث سنوات، وضعوه في السجن مُباشرةً لأن كل شيئ بحساب، لكن نحن فلسفتنا فلسفة جبرية، لدينا جبر ميتافيزيقي، ادخلوا على تويتر Twitter وعلى الفيسبوك Facebook وعلى وسائل الاتصال الاجتماعي وسوف تُلاحِظون أن الكثير من الشباب قد يسبون عالماً أو مُفكِرً أو كاتباً، ويقولون عنه هذا العيل أو الولد الصغير، وحين تبحث عنه تجد أنه عمره يصل إلى خمس وثلاثين سنة أو أربعين سنة أو خمس وأربعين سنة، كيف يُقال أنه عيل يا بني؟ ما قصتكم؟ ليس عندهم قناعة أن من المُمكِن أن يكون عالماً ويُعلِّم ويكون فاهماً وحكيماً إلا إذا انحنى قوس ظهره وشاب شعر لحيته ورأسه وتقريباً أوشك على أن يُودِّع الحياة، أي أنه على مشارف القبر، لماذا؟ هذا ليس من باب تحقير العلماء والناس، لكن هذا يعكس ما في نفوسهم، هذا الشاب تجد عمره وصل إلى خمس وعشرين سن وقد تخرَّج من الجامعة لكنه لا يرى نفسه مسؤولاً أصلاً، هو ما زال غير مسؤول أو مُكلَف، هو طفل – Baby – إلى الآن، لأن هذه تربية قدرية وهذه عقلية جبرية، ولذلك أنا أقول لكم هذه عقلية لاأبالية، لامُبالاة لدينا، فهو يقتل القتيل ولا يتحرَّك ضميره لأنه طفل – Baby – صغير مُكلَف، كيف يا رجل؟يسرق مال المسجد ومال النبي ومال شُباك النبي ويبيع جُبة النبي ولا يتحرَّك ضميره، ويقول لك أنا طفل – Baby – صغير، طفل – Baby – ماذا؟ أنت سوف تذهب إلى جهنم يا أخينا، أنت سوف تجعل نفسك حطباً في جهنم يا أهبل، لقد ضحكوا عليك، يا رجل أنت مُكلَف، لكنه لا يُصدِّق أنه مُكلَف، متى يُكلَف؟ وطبعاً التربية تُعزِز هذا، نحن رأينا في بلادنا أن في حضرة بعض الآباء والأجداد يكون عمرك ثمان عشرة سنة وحين تتكلَّم مباشرةً تُسَكَت، يُقال اسكت يا بهيم، مَن أفهمك؟ لم يبق – والله – إلا الصغار لكي يتكلَّموا في حضرة الكبار، هل هذا صغير وهو عنده ثماني عشرة سنة يا رجل؟ أسامة بن زيد النبي بعثه في جيش الشام وقال أنفذوا بعث أسامة، وهو يموت كان يقول أنفذوا بعث أسامة، وعمره كان يصل إلى ست عشرة أو سبع عشرة أو ثماني عشرة سنة على الأكثر، محمد الفاتح على الأكثر كان عمره ثنتي عشرة سنة حين فتح القسطنطينية، ألف سنة لم تُفتَح ثم فتحها ابن ثنتي عشرة سنة،
هل ما زال ابن الثماني عشرة سنة طفلاً – Baby – وبهيماً ولا يفهم؟ ما هذه التربية المُنحَطة الجاهلة؟ لأن بعض المشائخ يُريد هذا وهذه هى التربية قدرية والجبر ميتافيزيقي فإذا تلاه أيضاً الاعتقاد بجبر اجتماعي وأن هذا هو المجتمع والظروف والناس وضغط المجتمع وضغط المُؤسَّسة الدينية وضغط السلطات والرقابة والأهل والعشيرة وما إلى ذلك من جبر اجتماعي فإننا ندخل في الجبرية الاجتماعية، وإذا دخلنا في هذا واعتقد المُتفلسِف فينا بالجبر التاريخي والحتمية التاريخية مثل ماركس Marx فإننا سوف نذهب في ستين داهية، يكون اشتراكي ماركسي ويعتقد بالجبرية الاقتصادية أيضاً، أن كل الأفكار والأيدولوجيات والفن والجمال والدين أمور مرفوع على عاتق الاقتصاد، إذا وقع الاقتصاد تقع كلها، إذا تغيَّر تتغيَّر كلها، وإذا تقزَّم تتقزَّم كلها، كله بحسب عاتق الاقتصاد، وهذا أمر غير معقول، دخلنا في جبرية اقتصادية وهكذا، لكن القرآن يقول لا يُوجَد جبر، علماً بأننا مِمَن كسَّر مصباحه وسار في الظلام، نحن كسَّرنا مصابيحنا ونمشي في الظلام، نحن لا نتعاطى مع كتاب الله العزيز تعاطياً جدياً، حين نقرأ أن الله يقول لنا كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩ هل نأخذ هذا بجد ونترك الحذلقات والفلسفات الفارغة – طبعاً ليس كل الفلسفات وإنما الفلسلفات الفارغة – التي تُفهِمنا أننا قد نكون مجبورين وهو كتب علينا وهو يعلم ولأنه يعلم فإذن نحن كذا وكذا وكل هذا الكلام الفارغ؟ وهذا الكلام كله يوجد عنه مليون جواب طبعاً، والجوابات واضحة، لكن نحن لا نُريد أن نفهم، نُلقَن أن ليس لنا أي دور، علماً بأن هذا يقودنا يا أحبتي – إخواني وأخواتي – إلى شخصية فصامية، هذا يفصم شخصيتنا، وطبعاً الفصامات التي تُصيبنا كثيرة جداً، ومن أقبحها هذا الفصام الميتافيزيقي، الشخص لو كان يعتقد أنه فعلاً مجبور – مجبور حقاً وصدقاً – ويسلك كمبجور فإن هذه نصف مُصيبة، هى مُصيبة مُنصَّفة، لماذا؟ لأنه مُتسِق، هناك حالة اتساق مع نفسه، أليس كذلك؟ هناك حالة اتساق، ومن المُمكِن أن يكون شخصاً فاضلاً، لماذا؟ يقول لك أنا شعرت بأن ضميري يرفض أن أسرقه، وهذا ليس ضميراً مُتحرِكاً، هذا أمر أنا مجبور عليه فلم أسرقه، ومن المُمكِن أن تخرج منه فضائل هذا الرجل، لكن في الحقيقة لا أحد يستطيع أن يكون كذلك، هل تعرفون ما الذي يحصل؟ إذا أنت اقتنعت بالجبر الميتافيزيقي على خلفية كلامية أو فلسفية أو دينية ما الذي يحصل؟ أنت تكون مشطور الشخصية، تعيش الجبر، تعيش كمجبور وكمُكرَه إزاء خطاياك وأخطائك، عندما تُخطيء فتسرق أو تكذب أو تُدجِّل أو تنصب أو تترك الصلاة أو تزني أو تشرب الخمر فماذا تقول؟ الله غالب، الله كتب هذا، هذا قضاء وقدر، قدَّر الله وإن شاء الله خير، إن شاء الله خير، لا أعرف فقد يكون في هذا خير، هل كل هذا خير؟ ما الخير الذي فيه هذا؟ أصبح عنده الخير أخاً للشر، انظروا إلى هذه العدمية الأخلاقية هنا، حتى القيم ضُرِبت، لا يُوجَد ثبات وتحدد للقيم، فالسرقة والزنا والكذب والدجل على الناس والاحتيال والخيانة وبيع الأوطان والأديان يقول لك عنها إن شاء الله خير، أين الخير؟ لن نرى الخير من أمثالك أبداً ومن أمثال هذه الطريقة في التفكير، لكن إزاء ما يريد ويهوى هو اختياري بالكامل، ويحتال بشتى الحيل ويتوَّسل وسائل ويضع الخُطط وما إلى ذلك لكي ينجح في مقصده، فالآن أصبح ماذا؟ مُختَاراً، هل رأيتم مرة مَن يسلك كمُجبَر حتى إزاء أطماعه؟ لا والله، إزاء أطماعه هو مُختَار، إزاء التنافس مع خصومه هو مُجبَر أن يتنازل لهم، لا يُوجَد أحد يتنازل، أليس كذلك؟إزاء اقتناص فرصة سنحت له ليس مُجبراً، إزاء الجوع والعطش طيب ليس مُجبَراً، يُدبِّر أمره دائماً لأنه يُريد أن يأكل ويشرب، لماذا أنت الآن أصبحت مُختاراً؟ هذا المسكين مفصوم الشخصية، هذه شخصية مُدمَّرة، وكما قلت اختلت قيمها، ومن هنا – كما قلت لكم – تُبرَّر أخطاء الحاكم الظالم وأخطاء جهاز الأمن وأخطاء الأطباء الذين لا يفهمون وأخطاء المرضى وأخطاء المشايخ والمفاتي بل وكل الأخطاء لأن الله غالب والله – لا إله إلا هو – يُريد هذا، لكن حاشا لله، النبي قال إن غلبك أمرٌ – عندما تعجز أمام قدر مقدور – قل قدَّر الله وما شاء فعل، النبي قال المُؤمِن القوي خير من المُؤمِن الضعيف وفي كُلً خير، استعن بالله ولا تعجز، وإن غلبك أمرٌ – إذا أمر إلهى غلبك من من عند الله فهذا أكبر منك – قل قدَّر الله وما شاء الله فعل، لا تقل لأفعالك السيئة وأخطائك وخطاياك قدَّر الله وما شاء فعل وتُحمِّلها على القدر، لم يحتج بالقدر في الشر إلا المُشرِكون، فهل تعرفون هذا؟ هذا في كتاب الله، وقد ذكرنا هذا في عدة خُطب، اقرأوا كتاب الله في النحل وغير النحل، المُشرِكون فقط هم الذين يحتجون بالقدر، تقول الآية الكريمة وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۩، يحتجون بالقدر على شركهم وعلى فواحشهم وظلمهم، هكذا كان يفعل المُشرِك، لكن نحن أمة من ألف وثلاثمائة سنة تحتج بالقدر على مظالمها، ما رأيكم؟ علماً بأن هذا كله يُعَد كلاماً عادياً خطابياً ولم نصل إلى شيئ فيه فائدة حقيقية من هذا الطرح كله، ماذا أُحِب أن أقول؟ ماذا أُريد أن أقول؟ أريد أن أقول بكلمة واحدة أن أخطر نقطة وأخطر تفصيلة في فلسفة المُسلِمين في الحياة هى أن المُسلِم لا يتوفَّر على تصور دقيق وصحيح وفاعل لدوره لجهة وجنبة حريته، هل أنت حر؟ هل أنت مسؤول؟ هذا الأمر غير محسوم إلى الآن في ذهن المسلم، ما الفرق بين هذه الفلسفة الجبرية الميتافيزيقية يا وبين الفلسفة القرآنية؟ نحن كان لدينا في القرن العشرين المرحوم محمد إقبال، الفيلسوف والشاعر الهندي العظيم رحمة الله تعالى عليه، هذا الرجل عاش بين الهنادكة وبين المُسلِمين طبعاً في الهند، لم تُعجِبه الفلسفة الهندوسية لأنها تمحق الذات، كل الفلسفات الهندية – حتى البوذية – تمحق الذات، ترى الأنا وترى الذات هى سبب كل المصائب والشرور والآلام، فلم يعجبه هذا الكلام، قال هذا غير صحيح، بالعكس كل الحضارات وكل المدنيات وكل النهضات تبنيها الذوات وتبنيها الأنا التي تشعر بنفسها وبدورها وبمسئوليتها، أنا أفهم الإسلام على إنه فلسلفة للذاتية، يُسميها خودي، بالفارسية وبالأوردو الخودي معناها الذات، أي Selfhood أو Egohood، فهى تعني الذاتية، وعنده ديوان إسمه أسرار خودي، أي أسرار الذاتية، يقول الذات بحسب ما أفهم القرآن والأنا المُستخلَفة في الأرض هى ذات واعية قوية مسؤولة مُنتدَبة لتحويل هيول العالم، هذا العالم هيولاني حسبما قال، قال هذا مثل الأحراش، أنت حين تذهب إلى الغابات تعلم أن الغابات تختلف عن البُستان، وقد ذكرت لكم هذا مرات، وهذا كلام جميل لمحمد إقبال – رحمة الله عليه – الذي كان عقلاً جبّاراً، هل رأيت يوماً بُستاناً طبيعياً؟ لا يُوجَد بُستان طبيعي، لكن البُستان صنعه الإنسان، أليس كذلك؟ الله تبارك وتعالى – المُلحِد يقول الطبيعة – خلق الأحراش والغابات، لكن البستنة علم إنساني، الإنسان يحول هذه الهيولة وهذه الفوضى إلى بُستان، يتصرَّف حتى في شكل الشجرة، فيقطعها ويقصقِصها ويعطيها أشكالاً وما إلى ذلك، فالبستنة علم إنساني، يقول كذلك حتى في القوانين وفي المُجتمَع وفي التاريخ مطلوب منك يا مسلم أن تُعيد ترتيب الأوضاع من جديد وفق فلسفة خاصة – فلسفة خاصة في فهم الذات وفي فهم الدور – وفلسفة مسؤولة، ومن هنا حرب محمد إقبال على الزُهد، أنا سأزيد على إقبال خطوة بسيطة مُتواضِعة إلى الأمام، محمد إقبال كان يقول الزُهد ليست فلسفة إسلامية، هذا الكلام كذب، هذا الكلام غير موجود لدينا، لا تُوجَد آية واحدة في كتاب الله تقول أن الأفضل أن تكونوا فقراء؟ هل هناك آية في كتاب الله تقول أن الفقراء أحسن في المُطلَق من الأغنياء وأن الذي ليس عنده أي مال ويتلقى الصدقات هو الأحسن؟ لا تُوجَد آية واحدة تقول هذا، لكن هناك آيات كثيرة تُسمي المال خيراً، قال الله إِن تَرَكَ خَيْراً ۩، والخير هو المال، وقال أيضاً وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ۩، فالله يُسمي المال خيراً، المال إسمه خير، لكن عندنا مئات الأحاديث تُحقِّر المال وتهجوه وتبخسه وتُثرِّب على مَن جمعه، وأنا أشك أن محمداً قالها أصلاً، انتبهوا فهذا خطأ، المال بحد ذاته لا يُمكِن أن يكون شراً، هل هناك حضارة ونهضة وبناء ومدنية بغير مال؟ هل هناك تجارة واستثمار ومُنافَسة بغير مال؟ المال عصب الحياة، وطبعاً المسلمون للأسف في تجاربهم الفاشلة التي أجهضت دينهم وفلسفة الدين للحياة لم يلحظوا تقريباً من مُعظَم الأغنياء خيراً إلا أنهم أُصيبوا وبائياً بأدواء الجشع والطمع والاستكبار و الاغترار والجمع والمنع وقطع أواصر الأرحام والأقربين والأحباب والأصدقاء بإسم المال فضلاً عن التنافس غير الشريف وركوب كل مركب مما حل ومما حرم في سبيل تكثير المال، لاحظنا هذا ونلاحظه، نجد مَن يفقد دينه من أجل أن يجمع المال، كون هذا حصل فإن هذا لا يعني أن المال بحد ذاته لعنة أو شراً وقد سماه الله خَيْراً ۩، الخطأ في هؤلاء وعند هؤلاء أن فلسفاتهم في فهم المال ووظائف المال خاطئة، يُوجَد حديث معناه صحيح سواء النبي قاله أو لم يقله، وهو بإسناد حسن عند الإمام أحمد، فأنا أُرجِّحه ليس بسبب الإسناد – الإسناد لا يعنيني كثيراً – لكن لأن المعنى صحيح ويوُافِق القرآن الكريم، قال النبي نعم المال الصالح للرجل الصالح، والعلماء اختلفوا من قديم في مَن أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ الفقير فقره فقراً اضطرارياً، هو لا يقدر، حاول وسعى لكنه لم يقدر ومن ثم يظل فقيراً، وهذا شيئ ثانٍ.

أرجع وأقول أنا أُريد أن أمشي خطوة فلسفية إلى الأمام مع محمد إقبال بسبب كلمة الزُهد، وعلى الزُهد فقس، على الزُهد قس أموراً كثيراً جداً، خطر لي أن ثمة معياراً يُمكِن أن نُميِّز به بين الخيور والشرور في عالم المفاهيم والأفكار والقيم، ما هو هذا المعيار؟ التعميم، أي معيار التعميم، ببساطة هل تظنون أن أي خير أو أي قيمة خيرة أو أي معنى خيِّر أو أي فكرة خيرة لو عُمِّمت وأصبحت شاملة وكل البشر أخذها سوف ينتج عنها شر؟ هذا مُستحيل، الخير مهما عمَّمته يزداد ويتآزر، أليس كذلك؟ الآن يُوجَد – مثلاً – الصدق، لو أصبح كل الناس صادقين هل هذا يضر أحداً؟ بالعكس هذا أجمل وأجمل، خذ أي أسرة – Familie أو Family – بسيطة فيها الأب والأم والأولاد كلهم – الذكور والإناث – يلتزمون الصدق جميعاً، فهل هذا ينتج عنه أي ضرر؟ حاشا لله، هل هذا ينتج عنه شر؟ حاشا لله، وكذلك في سائر القيم اللطيفة، يُمكِن أن نأخذ قيمة الزُهد، كأن نقول لن نشتغل ولن نأتي بالمال لأننا نُريد هذا ومن ثم سوف نظل فقراء مُتقلِلين،عمِّم هذا، هل سوف ينتج عنه فساد؟ سوف ينتج عنه فساد عظيم، لن ينتج فساد فقط بل فساد عظيم، سوف تُصبِح أمة شحاذين وأمة مُعوَّقين عسكرياً ومدنياً وحضارياً، لا شيئ لديها، ولذلك أنا أتحدى أن تأتي بمُصلِح عظيم في الملل التوحيدية نجح في إصلاحنا – يُوجَد مُصلِحون أُصيبوا بالهبل لكننا نُريد مُصلِحاً ناجحاً – دعا إلى الفقر والتقلل والزُهد، لا يُمكِن تصلح المُجتمَعات بالفقر والتقلل والزُهد أبداً، لا يُصلِحها إلا المال لكن وفق فلسفة خاصة للمال، كيف يُستخدَم هذا المال؟ كيف نستثمره؟ هذا هو الصحيح، أليس كذلك؟ فأقول لكم إذن نحن نحتاج أن نُعيد النظر في إطارنا الفلسفي للحياة وفي منظورنا للحياة، أهم نقطة وأهم تفصيلة في هذا المنظور – Perspektive – أن نُعيد التأكيد على أننا أحرار مُختَارون ومُساءلون ومسؤولون بين يدي الله، وينبغي أن نكون أيضاً مسئولين بين يدي المجتمع في هذه النشأة أيضاً وكلٌ يُحاسَب على أخطائه، أنا أقول لكم أن مثل هذه الفلسفة ستقلب حياتنا رأساً على عقب، وأول ما تقلب ستقلب منظور القيم نفسه، نظام القيم سينقلب يا إخواني، ستقلب أيضاً نظام – System – التربية، انظروا إلى الأب المُتساهِل، هذا عندنا يُسمونه الأب الذي يُدلِّع أولاده، لا يُوجَد مَن هو أفسد مِن الأب الذي يُدلِّع أولاده، أولاد فاسدون رخوون ضعاف وليس عندهم قدرة حتى على مُجابَهة الحياة، ليس عندهم قدرة على مُجابَهة أخطائهم، لا يقول الواحد منهم أعترف أنني ارتكبت هذا وأخطأت فيه وسوف أُصلِح خطأي، لأن عنده الكل سواء، فسواء الابن أساء أم أحسن يُوجَد إغضاء، لكن التربية الصحيحة ليست كذلك، الله إسمه الرب، من أين اشتُقَت كلمة التربية؟ التربية مُشتَقة من الرب، لأن الله يُربي عباده، والله – عز وجل – وهو غنيٌ عنا قال نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ۩.

إذن نكتفي بهذا القدر من أجل الصلاة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اجعلنا مفاتيح للهير، مغاليق للشر، اهدنا واهد بنا وأصلِحنا وأصلِح بنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة وجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم احفظ أمتنا، اللهم اجعل شبابنا وشوابنا وآباءنا وأمهاتنا في حرزك وفي أمانك برحمتك يا أرحم الراحمين، اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا، اللهم اغفر للمُسلِمين والمُسلِمات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.
(انتهت الخُطبة بحمد الله وهناك تتمة بعد الصلاة)

 

(نظراً لضيق الوقت وعدم اكتمال الفكرة هذه تكملة للخطبة ألقاها فضيلة الدكتور بعد الصلاة)
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد، إذن هذا المنظور للحياة وهذه الفلسفة للحياة – أعني الفلسفة المُستنِدة على قناعة بالجبر الميتافيزيقي – في الحقيقة منتوجها ومُخرَجها في نهاية المطاف المُسلِم الذي نعرفه أنا وأنت وهو وهى، المُسلِم الذي يرى نفسه – كما قلت لكم – معمول ومفعول القدر، لا صانع القدر، وفي الحقيقة نحن نُمارِس تفكيكاً مشيناً بين الأسباب والمُسبَّبات بإسم الفهم الخاطيء للقدر، لو أخذنا بالقدر بظاهره كما نزعم وقلنا أن كل شيئ خاضع للقدر فإذن لابد أن يكون السبب خاضعاً للقدر أيضاً بمقدار خضوع المُسبَّب، لكن نحن نُفكِّك بين الأسباب والمُسبَّبات فنعزو هذا للقدر ونسكت عن ذاك، وهذه – كما قلت لكم – فصامية، هذه شيزوفرينيا Schizophrenia حقيقية في تفكيرنا وفي سلوكنا، أنا أقول لكم هذا المُسلِم ببساطة – لأن هذه ليست هى النقطة الرئيسة وهى معلومة للجميع ومخبورة، نحن نخبرها أو نختبرها في أنفسنا ومن أنفسنا – أُلقيَ في رُوعِه ولا يزال يُلقى في رُوعِه أنك بعنوانك مُسلِماً من (أهل لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ينبغي أن تكون مُطمئناً، اطمئن في نهاية المطاف أنت من أهل الرضوان وأنت من أهل الجنة، أليست هذه عقيدتنا؟ هذه عقيدة لدينا فانتبهوا، إذا اعتقد هذا في الوقت الذي يرى نفسه في مفعول ومصنوع القدر بالله عليكم كيف يُمكِن أن يتوب توبة حقيقية هذا الإنسان؟ من ماذا يتوب؟ سوف يقول هذه كلها مقدورات عليه، ثم لماذا يتوب؟ مَن أسهل: الهدم أم البناء؟ الهدم، مَن أسهل: مُجاهَدة النفس أم تلبية رغائب وشهوات النفس والانسياق والإكباب على مُشتهياتها؟ الانسياق وراء والإكباب على رغائب ومُشتهيات النفس أسهل، هذا هو الضعف البشري، قال الله وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩، ولذا يقول أحدهم لا علىّ، سأحطب في حبل المعاصي وأفعل هذه وتلك وتلك وتلك، وفي نهاية المطاف لقد صح في الأحاديث أن شفاعة النبي المُحمَّد – صلى الله على محمد وآل محمد – لأهل الكبائر من أمته، وهنا أتساءل لماذا بالضبط هكذا صيغَ الحديث؟ هذا إن كان قاله النبي أصلاً، وللأسف في الصحيحين هذا لأهل الكبائر، فلو قال شفاعتي للمُحسِنين من أمتي لفهمنا، لو قال شفاعتي لمن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً لفهمنا، لأن الله فتح لهم باب العفو، هذا المسكين خلط لأننا لسنا أنبياء ولسنا ملائكة، وهذا معقول جداً، لكن كيف يُقال شفاعتي لأهل الكبائر؟ وطبعاً نحن كلنا فاهمون أن الزنا والسرقة والقتل والربا والرشوة وشهادة الزور – والعياذ بالله – وظلم العباد من ماذا؟ من الكبائر، فليفرخن رُوعك، لا تُرَع يا عبد الله لأن شفاعة النبي المصطفى – صلى الله على محمد وآل محمد – لأهل الكبائر من أمته، وبالقطع واليقين حتى لو قتلت وحتى لو قضيت حياتك في قتل الأبرياء وتسجينهم وتعذيبهم وإرهاقهم وإعناتهم فإن في نهاية المطاف مصيرك إلى الجنة وإلى رضوان مُقيم، ما هذا المنظور بالله عليكم؟ علماً بأنني لست الآن في وارد أن أُناقِش نقاشاً كلامياً – أي عقدياً – هذه المسائل فضلاً عن مسألة الشفاعة والكبائر وما إلى ذلك، ليس هذا مقصودي، هذا موضوع آخر على كل حال وأنا الآن لا أخوض فيه، لست خائضاً فيه، وإنما أريد التدعيمات والتوالي – Implications – والعقبات أو المُعقِبات، أي النتائج بلغة بسيطة، فكلمة النتائج أحسن من كلمة تدعيمات وما إلى ذلك، أُريد نتائج مثل هذه الفلسفة ونتائج مثل هذا المنظور، أنت عندك هذا المنظور وتقول أنا كمسلم مُوحِّد قضيتي هى كذا كذا كذا، كيف يُمكِن أن يكون هذا المسلم؟ السؤال جوابه نحن، كما نحن، ونحن نُعاني، نحن نُعاني من أنفسنا ومن مُعامَلة بعضنا لبعض، كيف يُعامِل بعضنا بعضاً؟ كيف يسطو بعضنا ببعض؟ كيف يغش بعضنا بعضاً؟ كيف يختل ويختدع بعضنا بعضاً؟ كيف يحفر بعضنا لبعض؟ هذا شيئ غريب، نحن بلاؤنا منا، بلاؤنا منا وبلاؤنا فينا، ظاهرة طبيعية بل ظاهرة طبيعية جداً أن يجلس معك أحدهم حتى في مثل هذا المجلس – أي في بيت من بيوت الله – ويُسجِّل ثم يذهب بهذا التسجيل إلى المُخابَرات، ويقول لهم انتبهوا لأن هذا الرجل قال كلمتين – كلمتين بين السطور كما يُقال – ويبدو أنه يقصدكم أو يقصد جهازكم، انتبهوا إلى هذا، وهو يُصلي معنا وربما يتباكى ويهز رأسه، هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، أي شخصية هذه؟ أي تربية هذه؟ أي مُنتَج هذا؟ أنا أقول لكم أنه قد يكون صادقاً مع نفسه ويُصلي ويُريد رضا الله كما هو صادق في أنه يزني ويسرق ويُريد رضا الله أيضاً لأنه مسلم مُوحِّد – إن شاء الله – ولا خوف عليه ولا هو من المحزونين، هذه نظرية خطيرة جداً جداً، كل هذا من تدعيمات وتوالي هذا المنظور الفاسد، أي هذا المنظور الجبري الميتافيزيقي، هذا غير صحيح، أنت لست مُجبراً، وربما – إن شاء الله – في الخُطبة القادمة سأطرح هذه المسألة مع أنني طرحتها من قبل لكنني سأطرحها بمنظور أوسع قليلاً وأكثر تعمقاً وأبسط أيضاً، سوف أُبسِّطها حتى تُفهم ويُدرِكها العامة، وسوف ترون – بإذن الله تبارك وتعالى – أن لا علاقة لمسألة أن الله كتب وقدَّر وعلم بكونك مُجبراً أو مُخيراً، هذه ليس لها علاقة، نعم علم ويعلم كل ما ستفعل وكتب لكنك مُخيَر ولا تشُكن في هذا، وسوف نُثبت هذا بطريقة فلسفية مُبسَطة جداً وغير مسبوقة طبعاً، المُهِم أنها غير مسبوقة، لو مسبوقة سوف نقول ارجعوا إلى كتاب فلان وعلان، لكنها غير مسبوقة، ونتوسَّل فيها بعض المفاهيم الفيزيائية وما إلى ذلك، وسوف تفهمون والحمد لله، والناس الأذكياء فهموا هذا، وإخواني الذين كانوا معي يعرفون أنني حين عرضت هذا قبل زهاء بضع عشرة سنة على أستاذنا الكبير الدكتور المسيري فهم بعد خمس دقائق وقال لي هذا شيئ خطير جداً جداً وهو يحل مشاكل ليس لها أي حل، وهى طبعاً تُحَل بهذا، هى محلولة أصلاً، في نظري محلولة تماماً بفضل الله عز وجل، هى محلولة ولا تُشكِّل لدي أي هاجس، الله علم وكتب وأنا حر بشكل مُطلَق، لدي حرية حقيقية، وهنا قد يتساءل أحدكم هل أنا حر بشكل مُطلَق؟ نعم بشكل مُطلَق، ومن ثم سوف يقول كيف يُقال أنا حر بشكل مُطلَق؟ هل أنت حُر في شكلي؟ لكن مَن قال لك أن شكلي فعلي؟ قلنا قبل هذا أن شكلي ليس فعلي، هذا فعله هو، لكن البحث في أفعالي أنا يا أخي أطال الله عمرك، هناك حالة الاستهبال عند علمائنا والله العظيم، علماء ومشائخ كبار يقولون أنت مُخيَّر في كذا وكذا ومُسيَّر في شكلك، هل يا حبيبي شكلي هو فعلي؟ ما هذا الهبل؟ هل هذا موضع النزاع؟ هل موضع النزاع مَن الذي خلقني؟ خلقني الله يا أخي، أنا أُريد فعلي أنا، أُريد فعلي وليس شكلي، شكلي هو فعله هو، أليس كذلك؟ هذا ليس علاقة بمُخيَّر ومُسيَّر، موضوع النزاع عن أفعالي أنا، يقولون لك كون أبوك وأمك فلان وفلانة فأنت مُسيَّر في هذا، وكون شكلك كذا كذا فأنت مُسيَر في هذا، وهذا غير صحيح، هذا ليس له علاقة بمسألة مُسيَّر أو مُخيَّر، هذا ليس فعلي، هذا فعله هو، هذا فعل الله، قال الله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۩، هذا اختيار الله يا أخي، كفى عبثاً، قلت لكم أن مخنا فوضوي – Chaotisch – في كل شيئ، أنا أُريد أفعالي أنا، حين أصدق وحين أكذب، حين أتكلَّم بأي نية أتكلَّم، والله مُطلِع على هذا، أنتم لستم مُطلِعين لكن الله يعرف – مثلاً – حين يتكلَّم الأخ أو الأخت لماذا تتكلَّم هذا ولماذا تكتب هذا وما هى النية، أليس كذلك؟ الله – عز وجل – يعلم هذا، وهى حُرة مُختَارة في هذا، فانتبهوا إلى هذا، أين هذه الفلسفة الجبرية الحتمية الميتافيزيقية من فلسفة القرآن الكريم؟ طبعاً هنا تُوجَد نقطة غير طبيعية، هى بالنسبة لي ذات جاذبية غير عادية، عندها جاذبية غير طبيعية بالنسبة لي والله العظيم، ومن ثم أستطيع أن أتفهم لماذا نحن فعلاً خُلفاء الله في هذه الأرض ولماذا الإنسان كائن عزيز عند الله تبارك وتعالى، وهو – كما قلنا – نادر جداً جداً، أنا أقول لكم ربما ليس له أي مثيل تقريباً، فهو فعلاً عملة نادرة، وقد قلنا هذا ذات مرة في الخُطبة التي تحدَّثنا فيها عن القتل وما إلى ذلك، أنت حين تقتل إنسان فأنت تقتل عملة نادرة في كون نصف قطره الآن حوالي تسعين بليون سنة ضوئية وفقاً لآخر الدراسات وفيه مليارات المجرات ومئات مليارات النجوم ومليارات الكواكب، وإلى الآن غير ثابت أن هناك أي حياة عاقلة كالحياة البشرية إلا حياتنا نحن في كل هذا الكون، ولك أن تتخيَّل هذا، هذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، لو شبَّهنا – وهذا التشبيه غير وافٍ وهو قاصر من جوانب كثيرة – هذا المسجد بالكون وقلنا أنه مليء بذرات الرمل، ومن كل ذرات الرمل هناك ذرة واحدة لها مزية خاصة على كل هذا العالم من الرمال فإن هذا سوف يكون شيئاً مُلفِتاً، هذا شيئ لافت جداً جداً جداً، هذا الإنسان ولذا لابد من احترامه، تقرير كرامته وحرياته وعدم المساس بحياته وحرياته مسألة مُقدَسة عند الله تبارك وتعالى، وفعلاً هذا معنى كلام النبي الذي أُصدِّق أن النبي قاله، ولن أنظر – كما قلت لكم – في إسناده، لا يهمني إسناده لأن المعنى صحيح، قال النبي لزوال السموات والأرض أهون عند الله من قتل رجل مُسلِم، لماذا إذن؟ لأن ليس أي مثيل، السماوات كلها ليس فيها مثل هذا الإنسان، فلتزل إذن ولا يُقتَل، أليس كذلك؟ومن أجل هذا الإنسان سخَّر الله كل السماوات والأراضين له، وقال وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩، هل هذا لنا نحن؟ هل هذا كله لهذه الذرة التائهة؟ هى ليست تائهة، تائهة عند التائهين وعند النهليين وعند العدميين، نحن لسنا عدميين بالعكس والحمد لله، وأنا أقول لكم هنا عظمة الإنسان، ولن نكون عاجزين عن أن نرى في إسلامنا الأشياء العظيمة وكله عظيم بإذن الله، ما هى؟ عظمتي كإنسان – عظمة هذا الجنس البشري – عظمة غير طبيعية، القرآن علَّمنا هذا، فلا تقل لي أنا ذرة تائهة في الكون أو في ضاحية أو في منزل أو في غرفة وما إلى ذلك، بغض النظر عن كل هذا أنت أعظم من كل هذا الكون، هذا الكون مُسخَّر لك، وبلا شك المُسخَّر أقل كرامة من المُسخَّر له، هذا مُسخَّر لك أنت، هل هذا مُسخَّر لي أنا؟ نعم مُسخَّر لك أنت لكي تعرف قيمتك، وقد قلت لكم أنني مع فلسفة إقبال في الخودي، أي في الذاتية، إقبال قال لك اعرف قيمة نفسك، أنت يا مُسلِم موضع عناية الله، أنت مُراد الله، هذا الكون كله صَدفة وأنت الجوهرة الحقيقية بداخل هذه الصدفة، أنت وحدك، وأنت كذات وكفرد أيضاً، وهذا مُهِم جداً جداً، إقبال يقول يحترق البيدر كله وتنجو الحبة، حين يضرب الصاعق – البرق – هل يحرق حبة قمح أم يحرق بيدراً؟ إذا أحرق فإنه يحرق بيدراً، من المُستحيل أن يحرق حبة، الحبة المُنفرِدة لا يحرقها، فانظروا إلى الفلسفة العجيبة التي عند إقبال، قال لا تهتم بهذا ولا تقل أنا واحد وماذا أُساوي؟ أنت من المُمكِن أن تُساوي الكثير والكثير جداً، وخاصة إذا عندك الوصفة – Rezept – وعندك الذي ليس عند غيرك، أليس كذلك؟ من المُمكِن أن يُحيي الله بك أمة، كتاب الموتي المصري – إسمه كتاب الموتى كما تعرفون – ماذا يقول؟ هذه عبارة لطيفة في الفلسفة المصرية، يقول يتعيَّن على آخر بشر أو على آخر شخص في الجنس البشري أو على آخر روح بشرية تتدلى إلى هذا العالم تقف بين يدي قاضي العالم السُفلي – قاضي القضاة أوزوريس Osiris – أن تُؤدي الشهادة على الجنس البشري، يقول له أنت منهم، أنت تُمثِّلهم، أنت غير مسؤول عن مُجتمَعك فقط بل مسؤول عن البشرية، تفضَّل أعطنا شهادتك، ماذا تقول في هذا الخلق الذي إسمه البشر؟ ماذا تقول في بني آدم؟ لك أن تتخيَّل هذا، وهذا شيئ جميل، المصريون كان عندهم هذه الفكرة، فهذه ليست فكرة أو مبدأ عند المُسلِم بل أن أقول لكم أن هذه عقيدة، حين أكون تابعاً لنبي متبوع إسمه محمد – صلى الله على محمد وآل محمد – والله يقول له وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩ فأنا هنا أنتشي، وهذا ليس من باب الافتخار والزهو، لكنني أنتشي إنما بمعرفة قدري، هل هذا نبيي وأنا أواصل في رسالته بإذن الله تعالى وأحمل هذا المشعل – Torch – للبشرية؟ نعم، هل هذا للبشرية؟ نعم للبشرية، ليس للمُجتمَع وما إلى ذلك وإنما للبشرية، لكن طبعاً الذي يعجز عن أن يُصلِح نفسه هو أعجز عن أن يُصلِح مجتمعه وأعجز عن أن يُصلِح البشر، لذلك يقول إقبال اعرف قيمة نفسك، عليك أن تُؤمِن بالله ثم تُؤمِن بذاتك، وتستمد إيمانك بذاتك من إيمانك بالله، وهذه عظمة الطرح الإسلامي، هناك أُناس يقولون نيتشه Nietzsche – مثلاً – عنده ذاتية، وإقبال مُتهَم بأنه استفاد من نيتشه Nietzsche، وأنا أقول لكم بصراحة محمد إقبال – رحمة الله عليه – درس في ألمانيا – تحديداً في ميونخ – وأخذ دكتوراة في القانون، فقطعاً عرف الفلسفة الألمانية وعرف نيتشه Nietzsche وفلسلفة نيتشه Nietzsche، وهذا واضح حتى في كتاباته، فهو عرف نيتشه Nietzsche وقرأه، ولكن مُستحيل أن يُقال أن فلسفته مُستمَدة منه، فالبون بعيد بين الفلسفتين، نيتشه Nietzsche في نهاية المطاف مُلحِد ولديه فلسفة عدمية، وأي فلسفة إلحادية لابد أن تنتهي إلى العدم، ومحمد إقبال صاغ هذا في بيت من أجمل أبياته حين قال وجود الله غير ثابت في نظرك – مثل نيتشه Nietzsche – ووجودك أنت غير ثابت في نظري، انتهى الأمر فأنت ضعت أيضاً، مكمن القوة في شخصية الإنسان استناده إلى الله تبارك وتعالى، وانتبهوا إلى أننا لا نُؤمِن بالله بالطريقة الجبرية، ونحن ندعو إلى الإيمان بالله لكن ليس بالطريقة التي تستهلك الشخصية وتجعلها – كما قلت لكم – ريشةً في مهب أقدار الله، بالعكس نحن نُؤمِن بأننا لن أقول حتى نُشارِك بالعكس سأقول شبه مُختَارون – لأنني مُتأدِب أنا مع الله لن أقول ننفرد ولكن سأقول شبه مُختَارون تماماً – في تعيين مُستقبَلنا وفي اختيار قدرنا، القدر نحن نختاره، كيف؟ أولاً لكي يحدث ترتيب فلسفي ويكون هناك تناسق في الاستدلال الفلسفي، نحن قلنا أننا مع مقولة أن الإنسان حر ومُختَار، الاعتراض عليه سوف نُجاوِب عنه في الخُطبة المُقبِلة – إن شاء الله – وبطريقة غير مسبوقة وننتهي من هذا الملف ولا نتجادل ثانيةً، والقرآن يُؤكِّد في مئات الآيات بأن الإنسان فعلاً حرٌ مسؤول، ولأنه حر فهو مسؤول، وإلا يكون هناك ظلم، فإذا كنت حراً أنا الآن سأّذهب مع تقرير حريتي إلى آخر الشوط، كيف؟ ببساطة أنت الآن حر وتعتقد أنك حر، ما الذي يحصل؟ أنت الآن في هذه اللحظة هنا والآن أمامك عدة خيارات، على الأقل الملحوظ لك منها ثلاثة أو أربعة، علماً بأن الداخل في الإمكان منها قد يكون ألف خيار لكن الذي تقدر على أن تستوعبه وتُدرِكه منها ثلاثة خيارات أو أربعة خيارات أو حتى عشرة خيارات يا سيدي، مثل إنسان يُريد أن يُنهي دراستة في الثانوية العامة ويُريد أن يدخل الكلية، أمامه عشر كليات، ليس ألف كلية لكن أمامه عشر كليات أو عشرون، إذن يُوجَد عشرون خياراً تعليمياً في التعليم العالي وهذا جيد، ما الذي يحصل وأنا حر؟ الفرضية أنني حر، كل هذه أبواب مفتوحة، أنا سألِج من باب منها، سوف أضرب أخماسي في أسداسي وأعمل حساباتي كما يُقال –   بالتونسي يقولون لك نقرأ الحساب فسوف أقرأ حساباتي – وبعد ذلك سوف أدخل في هذا الطريق، ما الذي يحصل؟ أنا الآن سوف يٌفتَح لي هذا السبيل وتُغلَق سائر السُبل، سوف تُسكَّر مُباشرةً، قال الله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ۩، نحن عبَّرنا عنها بماذا؟ الغلق، وذلك حين قلنا أنها أُغلِقَت، الله عبَّر عنها بماذا؟ بالمحو، وفعلاً تعبير القرآن أعظم حتى فلسفياً وأدق، هل تعرف لماذا؟!

شيئ لا يكاد يُصدَّق خطر لي الآن وأنا أتكلَّم على المنبر، لو قال يُغلِق الله السُبل الأخرىأو الطرق الأخرى أو الإمكانات الأخرى فهذا سوف يعني أن هناك إمكانية لأن تُفتَح لغيرك، وهذا مُستحيل، مثلما قال أونا مونو Onna Mono ومثلما قال جبرييل مارسيل Gabriel Marcel، قال لا يُوجَد شخصان يتساويان من كل الجهات في تاريخ الدُنيا، رجعنا إلى إقبال مع الخودي، أي الذاتية، فأنت أنت، لا يُوجَد مثيل لك، الإنسان كإنسان ليس له مثيل، وأنا أقول لك أنك كفرد من أفراد الإنسان ليس لك مثيل، وأنا كفرد ليس لي مثيل، أنا نسيج وحدي، وأنت لن تجد مثيلاً لك في تاريخ الكون، ما رأيكم؟ طبعاً أنا أقول لكم أن هذه الفلسفة – تحمَّلوا هذه الفلسفات الخاصة بنا – تُرهِق العقل المُسلِم، المُسلِم لا يُحِبها، هل تعرفون لماذا؟ عقلنا الإسلامي هو عقل ديني بالأحرى، أليس كذلك؟ الفلسفلة مشيت قليلاً مع الكِندي وقليلاً مع الفارابي وابن سينا ثم ضربها الغزالي مع ابن رشد ثم رجعت لإيران – الفرس – وما إلى ذلك، وهى عاشت بعد ابن رشد لكن في البلاد الفرسية وليس في العربية، فانتبهوا إلى هذا وهو معروف، وظلت ضعيفة في الدوائر السنية والشيعية، بشكل عام الفلسفة ضعيفة، فعقلنا بشكل أساسي هو عقل ديني وعقل نص، أي نص ديني، طبعاً هو الفهم في النص، للأسف الشديد هذا العقل المُسلِم عقل طبعه ليس إفرادياً، لا يُعزِز الفردية، لا يُعزِز الأنانة، هو طابع مجموعي، وعقل يُناشِد الإجماع، هو يُحِب الإجماع وهو مُستحيل، أي أحد يقول لك الإجماع قل له المُستحيل، لا يُوجَد شيئ إسمه الإجماع فلا تكذبوا على الناس، وأبسط شيئ لكي يكون هناك إجماع هو أن يكون إجماع مُجتهدي علماء الأمة، أي يدخل فيه الزيدي والإمامي وما إلى ذلك إلا لو كنت تُكفِّرهم، لكنه سوف يقول لك نحن لا نُكفِّرهم لكنهم ضالون ومُبتدِعون وكذا وكذا، والسُني مُبتدِع عندهم طبعاً وضال وناصبي وإلى آخره، والإباضي نفس الشيئ أيضاً، لكن هل أنت تُكفِّرهم؟ لا أُكفِّرهم، قل لي متى أجمعوا؟هذه المسائل التي اتفقوا كلهم عليها لا تكون مسائل إجماع، ولكن هى مسائل نص قطعي، أليس كذلك؟ هى مذكورة في الكتاب أو مُتواتِرة في السنة، هذه ليست مسائل إجماع، هذه في النص ثابتة، فلا تُحدِّثونا عن إجماع أطال الله أعماركم، لكنهم يُحِبون الإجماع، هل تعرفون لماذا؟ ليكبتوا الإبداع، وهذا الذي حصل – والله العظيم – بدعوى الإجماع ومن ثم تُقطَع رؤوس، وأعِدكم بخُطبة – إن شاء الله – عناصرها كلها حاضرة عندي إسمها مُعاقَبة الاجتهاد، كل مَن يجتهد يُعاقَب والله العظيم، والمُشكِلة أنه من المُمكِن أن يُقتَل، ابن تيمية اتُهِمَ بالزندقة،
هل ابن تيمية زنديق؟ هو إمام سلفي وظاهري والرجل ليس عنده عقائد باطنية بالمرة، وهو لا يُحِب كل هذه النغمات، فهو ظاهري بشكل واضح جداً، ومع ذلك اتُهِم بالزندقة، قيل عنه أنه زنديق، وطبعاً سُجِنَ سبع مرات، وفي آخر مرة مات في السجن، مكث لسنتين ونصف ثم مات في السجن، لأنه يُحاوِل أن يجتهد ومن ثم يُخالِف المألوف ويُخالِف الإجماع، فعن أي إجماع تتحدَّثون؟ أنتم تضحكون على الناس، على كل حال لا علينا من هذا، فالعقل المُسلِم يُناشِد الإجماع ويُعجَب بالإجماع، والإجماع ضد الإبداع، أليس كذلك؟ الإبداع ما هى طبيعته الأصلية؟ طبيعة الإبداع الأصلية هى الفرادة، ومن ثم أنت تقول هذا الشيئ مُبدَع أو بديع، الله هو بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، هل تعرفون ما هو الإبداع؟ الإبداع مثل الإختراع، الإبداع هو النسج على غير منوال، هل تعرفون النول الذي يُنسَج عليه؟ هو يُنسِج على غير منوال، الناس كلها تنسج على هذا المنوال لكنه ينسج على غير منوال ومن غير احتذاء، أي أنه لا يُقلِّد غيره، هو يسير في طريق غير مطروقة، لأول مرة طرقها، مَن الذي طرقها؟ هو هذا المُبدِع، أول مَن نهج هذه الطريقة هذا الإنسان، ولذلك نقول هذا الشيئ مُبدَع، هذا إبداع يا أخي، هذا العمل فيه إبداع، والإبداع في المُبدَع يعكس ماذا؟يعكس فرادة المُبدِع، لأن ما معنى الشيئ المُبدَع؟ لا يُوجَد مثيل له، لأول مرة نرى هذا الشيئ، لأول مرة نرى هذه النظرية أو هذا الاقتراح أو هذا الفهم أو هذه الأمور من هذه الزاوية، هذا يحدث لأول مرة، وهذا يعكس ماذا؟ يعكس فرادة الذي أبدع هذا الشيئ، فهو عقله ليس مثل عقلي وعقلك، هو يختلف طبعاً، ولأنه مُختلِف كان مُبدِعاً، ففي القلب من الإبداع تمثل الفرادة، هذا شيئ مُتفرِّد – Unique – لا يُوجَد له مثيل، هذه فرادة – Uniqueness – ليس لها مثيل، فالإجماع ضد الإبداع، لأن الإجماع يقول لك اسكت، إياك أن تخرق الإجماع، ينبغي أن تقول مثلما قيل، كما قيل لكم قولوا، كما أُلقيَ إليكم قولوا وردِّدوا وكرِّروا، ما هذا؟ ويُعاقَب الذي يخرج عن الخط الرئيس Mainstream.

الآن لو سألت أي أحد درس أصول الفقه – درس كتاباً من ثلاثمائة صفحة حتى في أصول الفقه – وقلت له حين يُذكَر الاجتهاد فإن الاجتهاد يتعيَّن ويتقوَّم أساساً بماذا؟ فإنه سوف يقول لك بالقياس وهذا معروف، أنت عندك النص والاجتهاد، والاجتهاد يتقوم أساساً بالقياس، وهل القياس مع الإبداع أم ضد الإبداع؟ ضد الإبداع، لأن القياس سالب لـ ونافر من التفرد ومن المخالف، فهو يُحِب المشابه، لذلك يُسقِط الفروق، يُحِب أن يرى أين وجه الاجتماع فقط، ثم يُلحِق هذا بهذا، هذا هو فقط، فيُلحِق الفرع بالأصل ويُعطيه نفس الحكم لأنه يُحِب هذا، هل لا تُوجَد إمكانية أن نُخرِج حكماً جديداً للمسألة؟ قالوا لأ وتحدَّثوا عن القياس، والقياس بطبيعته ضد الإبداع، ما رأيك؟ وإن أردت أن تُصِر على وجود القليل من الإبداع فإن الإبداع سوف يكون في حدود ضيقة جداً جداً جداً مكبوتة، ولذلك اقرأ في اللغات الأجنبية بماذا تُترجَم كلمة القياس الإسلامية في علم الأصول الفقه، تُترجَم إلى Analogical Deduction، أي الاستنباط التناظري، أي Analogische Deduktion كما تقولون بالألمانية، فكلمة Analogical تعني التماثلي أو التناظري، فكلمة قياس يُترجِمونها بـ Analogical Deduction، أي الاستنباط التتناظري أو التماثلي، شيئ مثل شيئ، أليس كذلك؟ فأين الإبداع إذن؟ لا يُوجَد إبداع، فمُشكِلة العقل المُسلِم أنه بشكل عام عقل لا يتعاطف مع الإبداع، لماذا؟ لأن هذا العقل – كما قلت لكم – عقل ديني، ليس لأن الدين يُريد هذا، هذا غير صحيح، لكن لأن العلماء حين اجتهدوا ووضعوا قواعد للاجتهاد وأمهات الأدلة ووضعوا منها الإجماع والقياس نهجوا لنا للأسف هذا المنهج، فما عُدنا نتقبَّل الإبداع، لا نُحِب الإبداع، علماً بأن الإبداع يُسلَب ويُغصَب إسمه، هل يُسمونه بالإبداع عندنا؟ يُسمونه بالابتداع أو الشذوذ أو خلاف الجماعة أو خلاف المنصور، والمنصور ما عليه الجمهور، أليس كذلك؟ وكما قلت لكم يُعاقَب صاحبه، لا يُسمونه بالإبداع، يُعطونه أسماء ثانية تهجينية أو هجوية أو هجائية، يُعطونه أسماء تبخيسية إزرائية، وبالحري غائياً هى أسماء تنفيرية، لكي تُنفِّرك منه ومن ثم تُكرِه الإبداع والمُبدِعين، وبالتالي تقول لماذا أبدع؟ سوف يُسمونني زنديقاً ويقطعون رأسي بعد ذلك، لست في حاجة إلى الإبداع، أليس كذلك؟ لذلك لما تقرأ في تاريخنا تجد نُفرة العلماء من علوم كثيرة، ينفرون منها ويخافون منها، مثل علوم المنطق وعلم الفلسفة وعلم النجوم، أي الفلك والذي كان له أي اشتغال به يقولون أنه أحرق كتبه وبدأ يُقسِم على مدار الأربع والعشرين ساعة أن ليس له أي علاقة بها وأنه لا يُحِبها ويُسيء الظن فيها، يا أخي لماذ؟ بسبب الذبح والقتل، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وعلى كل حال هذا تاريخ.

نرجع ونقول لا يُوجَد اثنان من البشر مُتشابِهان من كل وجه، هذا مُستحيل، ولذلك ماذا قال الله؟ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ۩، أنت أخذت هذه السبيل فإن السُبل الأخرى لن تُغلَق وإنما سوف تُمحى، لا تُوجَد إمكانية أبداً لأي أحد أن يُدخل فيها، وهنا قد يقول لي أحدكم هذا الكلام غير مفهوم، نفترض أن أحدهم دخل كلية – مثلاً – علم الاجتماع .

ومن ثم سُدَّ باب بقية الكليات أمامه، باقي الكليات سوف يدخلها ملايين المن البشر، نعم سوف يدخلونها لكن هو لن يدخل، دخوله لكلية الاجتماع يختلف عن دخول مائة مليار من البشر، كل مُخرَج سوف يكون مُختلِفاً، هذه دخلها فلان بعقليته وبوعيه وبوجدانه وبتجربته وبخبرته وبإمكاناته وسوف يخرج منها شيئاً مُختلِفاً، أليس كذلك؟ هذا صحيح بنسبة مائة في المائة، وهنا قد يقول لي أحدكم لماذا في أمتنا الوضع مُختلِف؟ من المُمكِن أن يتخرَّج عشرة آلاف شخص لكن كلهم قرأوا على شيخ واحدا كما نقول؟ هذه أمة قُتِل فيها الإبداع، أمة ببغاوات، هذه روح قردية، هذه روح الترديد، والأمة يُعتبَر فيها الذكاء بمقدار ما تحفظ وليس بمقدار ما تُبدِع، ما مقدار ما تحفظ؟ أنت حافظ للقرآن وللأحاديث وللأسانيد وللمتون وللأشعار وللقال وللقيل وليُقال ولنقول ولروينا ولرُوينا ومن ثم يُقال لك أنت عبقري، عبقري ماذا؟ أنت ليس عندك أي شيئ، أنت لم تأت بأي شيئ ينتمي إليك، أنت مُجرَّد آلة، ولذا هذه الأمة تنحط والأمة حين تُفقَد فيها الأنانة الذاتية وشعور الإنسان بنفسه، أي مَن أنا، لكن الفرد المسكين لا يشعر بنفسه، مثله مثل غيره، الواحد مثل الألف، وهذه مُصيبة طبعاً.

إذن الله يقول يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء ۩، ولن نتحدَّث عن مثال الكلية فهذه مسألة طويلة أن أمامك خمس أو ست سنوات دراسة، لكن سنفترض أن أحدهم قال لي خّذ يا عدنان للمسجد مائة ألف أو مائة وخمسين ألف، وهذا مبلغ كبير مُغرٍ في الحالة العادية للناس، ثم قال لي أطال الله عمرك هذا سر بينك وبيني، لا أُريد أن يعرف أحداً، أُريد أن أجعلها في السر لوجه الله، ثم ذهب إلى بلده، هو ضيف من قطر أو من الإمارات أو من أي مكان فعاد إلى بلده، بعد ذلك جاء الشيطان – لا قدَّر الله ولا سمح – من أجل أن يُغريني، وأنا أقول لكم إذا هذا حصل – مثلاً – بصراحة معي فإنين سوف أحتقر نفسي إلى أن أموت، لمُجرَّد أنني فكرت سوف أحتقر نفسي وسوف أتعب نفسياً وعقلياً، هكذا أنا تربيت وبالتالي هذا صعب، بالنسبة لي هذا صعب، لا تيأسوا لكن شيئ صعب جداً جداً أن تكتشف نفسك في لحظة مُعيَّنة أنك هش بل وغد حتى وإنسان بطّال إلى هذه الدرجة، هل مائةوخمسون ألف أو مائة ألف من المُمكِن أن تغريك فعلاً وتُصبِح سرّاقاً؟ تنحط من رتبة إنسان مُسلِم يخشى الله ويُحِب الله أو يدّعي هذا إلى رتبة لص سرّاق من أجل مائة وخمسين ألف أو من أجل مائة وخمسين مليون أو من أجل حتى مائة مليار، هل من المُمكِن أن تفعلها؟ تُوجَد مُشكِلة في شخصيتك، تُوجَد مُشكِلة في التربية هنا، تُوجَد مُشكِلة في الإيمان بالله، أليس كذلك؟ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ۩، أين هو؟ هو يراني إذا أخذت المائة وإذا أخذت الواحد لأنه موجود، ثم أنه موجود ويرى ويُحاسِب وسوف يُحاسِب على الواحد وعلى المليار وكلاً بقدره، فهو لن يتغاضى، أليس كذلك؟ فكيف أنا راقبته مع الواحد – لأن الواحد خسيس وليس له قيمة كبيرة – ونسيته مع المليون؟ هذا يعني أن إيماني كله مضروب من أصله، لابد أن نكون واضحين، إيماني من أصله مضروب، لابد أن نقول هذا ببساطة ومن ثم نترك هذه النُقطة، فأنا الآن عندي هذا الاختبار البسيط الذي يتعلَّق بالمائة والخمسين ألف، وعندي سُبل لكي أؤدي أو لا أؤدي، وفي السُبل يوجد سُبل، من المُمكِن أن أؤدي بطريقة لا يعود علىّ كشخص معها أي منفعة، ومن المُمكِن أن أؤديها بطريقة يعود لي من خلالها منافع شخصية، أليس كذلك؟ من المُمكِن أن آخذ راتباً – مثلاً – أزيد، أقول بصراحة يا جماعة أنا أرى أن راتبي لا يليق بي وبجهودي وبقدراتي، ومعروض علىّ أشياء ثانية، فأُريد زيادة يا جماعة، لكن من أين يا شيخ؟ لو عندنا – والله – لزِدناك، ما رأيكم في أن جاءنا مائة وخمسين ألف؟ ما شاء الله هذه بركة وسنزيدك، هذا أيضاً خساسة ووغادة، أرأيتم؟ هذا نوع من الوغادة، أنت تلعب على مُستوى مصالحك الشخصية الضيقة ولا تنظر إلى مصلحة المسجد ومصلحة الأمة ومصلحة الناس وما إلى ذلك، كل شيئ تراه من ناحية شخصية، أليس كذلك؟ ليس عندك يقين بأن الله يرى كل شيئ ويُرتِّب الأمور بحسب النية وبحسب العمل، ليس عندك هذا، لا تعمل بهذه الطريقة، وعلى كل حال لا علينا من هذا، أنت الآن اخترت خياراً فدخلت من هذا الباب، ومن ثم مُحيَت الأبواب الأخرى، انتبه إلى ما سأقول، الآن سؤالي هل مُستقبَلك تغيَّر أم لم يتغيَّر؟ تغيَّر، أنت الآن صنعت مُستقبَلاً لك، كان يُمكِن قبل لحظة واحدة أن تصنع مُستقبَلاً آخراً لك، مُستقبَل إنسان سرّاق وإنسان انحط من رُتبة الأمانة واحترام النفس، علماً بأن كل هذا – والله العظيم – سوف ينعكس على كل شخصيتك، لا تقل أنا سوف أسرقهم وسوف أستغفر وأبكي إلى أن أموت ولما أستثمرهم – إن شاء الله – وما إلى ذلك سوف أُعيدهم أضعاف مُضاعَفة، لكن هذا – والله العظيم – انعكس عليك إلى أن تلقى الله، ما رأيك؟ هل تعرف كيف؟ عندما ترجع إلى زوجتك وأولادك لن ترجع بالإنسان ذي الكرامة وذي الثقة بنفسه وذي الاحترام الداخلي الذي كان قبل خمس ساعات، سوف يرجع شخص ذليل، شخص في الداخل، شخص مهين عند نفسه، شخص عند نفسه سرّاق، أليس كذلك؟ روحياً تواصلك مع زوجتك وأبنائك سوف يخبو والله العظيم، ما رأيك؟ افهم هذا لأنه أمر عميق، أنت سواء كنت أباً أو صديقاً أو مُعلِّماً أو شيخاً أو أستاذاً أو واعظاً أو كاتباً أو صحفياً أو مُفكِّراً أو رئيساً أو أياً تكن فأنا سوف أقول لك كيف أنت في الداخل وكيف تكون قدرتك على إلهام وإيحاء الآخرين وخاصة المُقرَبين منك، هذا ليس بالتمثيل حتى لا أكذب عليك، أقول لكم ببساطة أحياناً تسمع أُناساً يقولون لك الحمد لله حصل كذا وكذا ومع ذلك قسماً بالله لا تتحرَّك فيك شعرة، وقد يتباكى الذي أمامي ومع ذلك بالله العظيم لا تتحرَّك فىّ شعرة، والناس يقولون لي هذا، وهذا كله تمثيل، مثِّل وابك وهز المنبر وكسِّر الدنيا لكن قلوبنا لا تستجيب، على مَن تكذب؟ وإذا رأيتم مَن يستجيبون له فهم كذّابون مثله، قسماً بالله ما تفاعلوا لوجه الله وهم لم يتتفاعلوا، هم يُريدون أن يظهروا للناس أنهم يتفاعلون، لكنهم كذّابون مثله، هؤلاء من نفس الجنس ومن نفس النوعية، أليس كذلك؟ هذه أمور إلهية، ولذلك لن تُربي أولادك بالتمثيل، خذها مني من أقصر طريق، أنت لا تستطيع أن تُربي أولادك وتُلهِمهم الخير والصواب والرشد والعفة والأمانة والدين بالتمثيل، كأن تُمثِّل عليهم، تكون في الخارج داعراً – حاشاك – ولصاً وسرّاقاً وخائناً وما إلى ذلك ثم تأتي إلى الدار وتفعل العكس، لن تقدر على هذا، علماً بأن هذه الفكرة ما زال لها الكثير من المعاني التي هى أعمق من هذا، على كل حال أُريد أن أقول كلمة وأمضي، أي أحد فيكم مُتزوِّج ومُنجِب للأولاد – من المُؤكَّد يُوجَد أكثر من ولد – أقول له تذكَّر لما أتيت أهلك وجاءك هذا الولد أو البنت، تذكَّر أحوالك كيف كانت مع الله، تذكَّر عبادتك وذِكرك واستقامتك وتعلقك ويقينك، هذا بالله العظيم ينعكس في نطفتك، أي في ابنك، ما رأيك؟ وتذكَّر لما كنت في حالة شك وحالة وساخة وما إلى ذلك، فهذا انعكس في ابنتك أو ابنك يا أخي، هذا شيئ مُخيف ومُرعِب، كل هذا كأنه يتبرمج ومن ثم يُؤثِّر على النُطفة وعلى البرنامج الوراثي الذي فيها، لا أعرف كيف هذا، هذه أمور غريبة عجيبة، وكذلك هى حالة الإمام مع المأمومين والشيخ مع تلاميذه، هذه المسائل كلها لها علاقة روحية، الحكاية ليست بالكذب والتمثيل، انتبهوا إلى هذا على كل حال، لكن لماذا لا نقدر على أن نُميِّز هذا؟حين عمَّ وفشا الكذب والتمثيل والخداع ما عُدنا نُميِّز، أُصيبنا بالعمى جميعاً، لكن لو وُجِدَ التمييز فهذا يدل على وجود أُناس نظيفة.

نرجع ونقول أنت الآن اختطت مُستقبَلاً جديداً لك، أنت مَن فعل هذا، كان يُمكِن أن تكون ذلك الآخر أو الثاني أو الثالث أو الرابع، هنا قد يقول لي أحدهم أنا الآن دخلت في طريق اللصوصية مثلاً – والعياذ بالله – فهل ضاعت فرصتي؟ لم تضع الفرصة، هذا من عظمة الله ومن كرم الله، وهذا تجده من نفسك فأنت الآن سرقت هذا المال لكنك بعد لحظة أو لُحِيظة واحدة سوف تجد أمامك عشرات الأبواب مُفتَّحة وبالتالي عشرات المُستقبَلات، أمامك مُستقبَلات – Futures – كثيرة من ضمنها طريق التوبة، طريق التوبة يقول لك أعد المال واعتذر واستغفر واخرج صدقة في السر واستر على نفسك وأنا سوف أُخفي أثر ما فعلت دون أي مُشكِلة، أليس كذلك؟ أنت تقدر على أن تقول سوف أخرج من هذا الطريق وأذهب إلى طريق ثانٍ جديد، فترجع مرة ثانية دون أي مُشكِلة، وهذا معنى التوبة ، وبعد ذلك يعقبها الإصلاح، فيُقال تاب وأصلح، إذن هل في كل لحظة نحن أمامنا مُستقبَلات؟ نعم، هذا موجود في كل لحظة، وإزاء باب دخلته سوف تُمحى الأبواب الأخرى، لن نقول سوف تُغلَق وإنما سوف تُمحى، تقول الآية الكريمة يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۩، ما هذه الفلسفة الرهيبة؟ فأنتِ يا أختي وأنتَ يا أخي في كل لحظة تُعيِّن مُستقبَلك بإذن الله تبارك وتعالى، في كل لحظة تنتخب مُستقبَلاً جديداً لك، ما رأيك؟ وهذا المُستقبَل فيه علاقة ما بما حدث، إما علاقة تكاملية تراكمية أو علاقة تناسخية، كما قلنا قبل قليل هذا طريق مُختلِف عن هذاك تماماً، دخلنا الخيانة ورجعنا إلى الأمانة، انعطفنا ورجعنا إلى الطريق السليم، أليس كذلك؟ هذا إسمه الصراط المُستقيم، وهكذا باستمرار.

أنا أقول لك هذا تقريباً بعض معنى قوله – تبارك وتعالى – يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۩، أنت أمامك مُستقبَلات مفتوحة كثيرة، إياك أن تقول لي أنا ريشة في مهب الرياح وأنا كذا وأنا كذا، والآن سأورِد اعتراضاً وأختم بنُقطة أخيرة وانتهي من هذا إن شاء الله، يُوجَد اعتراض كبير، يعترض بعض الناس قائلاً هذه الفلسفة كلها مُجرَّد حكي وترتيب كلام، هذه ليست حقيقية ولا يشهد لها الواقع والوقائع، ومن ثم نقول له لماذا؟ يقول انظروا إلى المُجتمَع، سُئل أحد الظرفاء هل الأنسان مُخيَّر أم مُسيَّر؟ قال في الغرب الأوروبي مُخيَّر، وفي الشرق كله الأقصوي والأدنوي – الأقصى والأدنى – مُسيَّر، وعلى ما في هذا الجواب من ظرف إلا أنه صحيح، فعلاً الفلسفات الشرقية عموماً والحضارات الشرقية حضارات قاهرة للإنسان وسالبة للحريات، هذا يُسمونه الاستبداد الشرقي، أليس كذلك؟ انظر إلى الصين وإلى اليابان – أبناء الشمس – وإلى العالم العربي حتى من قديم، عندنا ظهرت الآلهة، أي الملوك الآلهة، فهؤلاء أكثر شيئ عندنا، لكن في الغرب الأوروبي الحديث على الأقل من عهد النهضة إلى اليوم قالوا الإنسان مُخيَر، لكن الإنسان هو الإنسان، الأوروبي هو نفسه الشرق أدنوي أو الشرق أقصوي، هو نفسه، فما الذي اختلف؟ منظور الحياة، أليس كذلك؟ المنظور مُختلِف، فلسفة الحياة مُختلِفة، أوروبا فهمت هذا من عهد النهضة -Renaissance – لما بعثت الإنسانيات أو النزعة الإنسانية أو الإنسانوية، أي الـ Humanism كما يقولون، ما معنى هذا؟ هؤلاء اهتموا بالآداب الرومانية والتراث اليوناني الذي يُمجِّد الإنسان، وطبعاً هناك نزعات وثنية مثل أن الإنسان هو صانع قدره وأنه يُصارع الآلهة نفسها، أستغفر الله العظيم، هم يقصدون الآلهة الزائفة الخاصة بهم طبعاً، فقالوا هو يُصارِع الآلهة وما إلى ذلك، وهذه التعبيرات تجرحنا قليلاً لكنها صحيحة، في الحضارات القديمة لم يكن عندهم الفكرة التوحيدية التي لدينا، حُرِّف التوحيد من قديم للأسف الشديد، كان عندهم معارض وأسواق للآلهة، تدخل الأسواق وتنتقي إلهك الذي تُريده، لكل ظاهرة إله ولكل قوم إله ولكل مسألة إله، عندهم آلهة كثيرة، فرعون الملعون لما غرق وشرب المياه أعلن إسلامه وإيمانه أيضاً، لكن لمَن؟ لم يقل لله رب العالمين، وإنما للذي آمنت به بنو إسرائيل، وإلى الآن عنده فكرة أن الإله يكون أقوامياً، فكل جماعة عندهم إله وعندهم رب، هو غير قادر على أن يستوعب التوحيد، عندما حدَّثه موسى عن رب العالمين قال له وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۩، ما معنى رب العالمين؟ كيف يكون رباً للعالمين؟ لا يُوجَد هذا، يُوجَد رب هذا ورب هذا ورب هذا وهكذا، هناك رب لكل قوم ولكل ظاهرة، غير قادر على أن يستوعب فكرة وجود رب للكل وأنه رب الأرباب، ما معنى كلمة رب الأرباب؟ هذا أن كان هناك أرباب غيره، وكلهم كانوا زائفين مُدَعين ومُصطنَعين، البشر كانوا يُفكِّرون بهذه العقلية الرديئة، تقول الآية الكريمة قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ۩، لا يقدر على أن يقول رب العالمين، هذا الأهبل لا يستوعبها، ويقولون فرعون مات مُؤمِناً، وهذا كلام فارغ، هو لا يعرف كيف يقول كلمة صحيحة أصلاً، يقول آمنت بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، ما معنى أنك آمنت بالإله الذي آمنت بنو إسرائيل يا أهبل؟ مات وهو أهبل، لأن عقل هذا المسكين مُبرمَّج على هذا، وهو ليس مسكيناً.

نرجع ونتحدَّث عن الاعتراض، يقولون أنك تجد الإنسان في الغرب الأوروبي هنا عنده فعلاً فكرة عن نفسه تُفيد بأنه صانع قدره ومن ثم يتحدّى كل شيئ، وفعلاً في الغرب الأوروبي هنا نقرأ قصص مُحيَّرة، يتحدَّثون – مثلاً – عن رجل بلا رجلين – مقطوع من عند جدعه – يعبر بحر المانش، فهو بلا رجلين ومع ذلك يعبر بحر المانش، كيف فعلها؟ كيف قدر على أن يُغامِر هذه المُغامَرة؟ قالوا هو يقدر على هذا، لماذا لا يقدر؟ قبل أيام بعث لي أحدهم صورة رجل برجلين صناعيتين، وفي الحقيقة هما أنبوبان، أنبوب مكان الرجل اليُمنى وأنبوب مكان الرجل اليُسرى، وهو مُتسلِّق لجبل، ووصل تقريباً لشبه القمة !
يا ربي، ما الزائد عنده وهو ليس عندنا؟ هو ليس عنده أي شيئ زائد، هو عنده شيئ ناقص بصراحة، هذاك ليس عنده رجلان بالكامل، هذا عنده عمودان أو عُكازتان أو عصاتان، لديه عصوان حديديتان فقط، ومع ذلك يتسلَّق جبل في آخر الدنيا، لعله وصل إلى كيلو أو اثنين أو ثلاثة فأنا لا أعرف، لكن هذا ليس عنده شيئ زائد عني وعنك، بالعكس هو عنده ناقص، والذي عنده ومكَّنه من إنجاز واجتراح هذه الخارقة موجود عندك، ما هو إذن؟ الإرادة، احفظ هذا جيداً، الإرادة – Will – التي عنده هى التي جعلته فعل هذا، وقد تقول أنا عندي إرادة أيضاً، لكن ما الفرق؟ انتبه إلى هذا الجواب، ما الذي فعّل الإرادة فيه فاجترح بها المُعجِزات والخارقات وما الذي نوَّمها وسكنّها وأخمدها وأطفأ جذوتها عندك فجعلتك هذا الكم المُهمَل العالة على نفسك قبل أن تكون عالة على البشرية بصراحة؟ والله بعض الناس يرى نفسه عالة على نفسه، يقول لك بصراحة أنا عالة على نفسي، ويتمنى الموت دائماً ويقول لولا الانتحار حرام لانتحرت، هو عالة على نفسه، ويقول أنا مُتضايق من نفسي في جلدي، أنا أكره جلدي وأكره نفسي، أنا أرى نفسي كماً مُهمَلاً، لماذا؟ لماذا يا رجل؟ أنت لك طول وعرض وتأكل وتشرب وعندك رجلان في حين أن هذا المسكين ليس عنده رجلان، وهناك المُصابون بالعمى، انظر إلى العباقرة المُصابون بالعمى في تاريخ الدنيا كلها من الذين حصَّلوا من العلوم ما لا يعلمه إلا الله، لماذا؟ انظر إلى المُعجِزة هيلين كيلر Helen Keller والتي كانت صماء عمياء بكماء، هيلين كيلر Helen Keller كانت مُعجِزة، لماذا؟ هل تعرف ما السبب؟ بكلمة واحدة أقول بسبب فلسفة الحياة، هذا هو فقط، فلسفتك في الحياة، منظورك للحياة ونظرتك لنفسك ولأهدافك ولغاياتك ولإطارك، هذه إسمها فلسفة الحياة، فلسفة الحياة هى القادرة على أن تُفعِّل الإرادة بهذا المُستوى أو تُنيم الإرادة إلى هذا المستوى، فلسفتك في الحياة تفعل هذا، هل فهمت كيف هذا؟

قال الشاعر:

قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ                       فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ.

إياك أن تقول لنفسك مَن أنا؟ أنت شيئ كبير بإذن الله، لا تغتر طبعاً ولا تزدهي ولا يأخذك البأو والغرور، وإنما فعّل النية فقط وانظر إلى نفسك على أنك رجل العمل، قل أنا سأُنجِز، الآن الاعتراض أنه قد يقول أحدكم إلى الآن يا عدنان مع احترامنا لكلامك وقد أتعبت نفسك وأتعبتنا معك لكن هذا كله فلسفة فارغة، لماذا؟ انتبهوا إلى هذه النقطة الآن، أنا اليوم أتعبت نفسي فعلاً ولا أُريد أن أُغادِر المنبر قبل أن أقولها لأنها تهمني كثيراً، إخواني وأحبابي الذين يعيشون معي من عشرين سنة لعلهم استمعوا إليها مني، لكن الناس الجداد الآن مثل الذين على اليوتيوب YouTube لعلهم لم يستمعوا إليها من قبل، هى مُهِمة جداً وهى فلسفة قرآنية أيضاً، قد يقول لي أحدهم كلامك كله كلام فارغ، لماذا؟ سوف يقول لي الطفل الصغير يا عدنان يُولَد في بلدي الذي أعرفه جيداً – ومن المُؤكَّد أن هذه البلد هى سوريا ومن المُؤكَّد أنها العراق ومن المُؤكَّد أنها فلسطين ومن المُؤكَّد أنها مصر وتونس وليبيا والجزائر والسعودية والإمارات وإلى آخره، فنحن في الهم شرك وفي التخلف شرك – منقوصاً، هو يأتي إلى الحياة منقوصاً، لأنه غذاء أمه مُلوَّث أو غذاء أمه ناقص أصلاً، لم تتغذ وهى حامل كما ينبغي، وهذا أثَّر على الطفل حتى على المُستوى التكويني، على مُستوى الخلية – Cell – هناك نقص، خلوياً هو ناقص، جاء المسكين ناقصاً، هو منقوص، وفضلاً عن كونه منقوص البنية هو يأتي منقوص الحظ، لم يستقبل رعاية صحية كما ينبغي، وهذا صحيح، هل هذه البلاد مثل النمسا وهولندا والسويد وألمانيا وفرنسا؟ هذا مُستحيل، أين هذا؟ في هذه البلاد التي ذكرتها يكون أحدهم زائراً – أبي أو أبوك قد يكون زائراً مثلاً – وليس عنده إقامة وإنما عنده فيزا ثم يقع مريضاً فيُؤخّذ على المُستشفى لكي يُعالَج، لا يُطالِبونه بشيئ إلا بعد أن يُفرَغ من علاجه تماماً وينقه ويبل من مرضه، ثم بعد ذلك يقولون له بيقولوا هل عندك ما تدفعه؟ قد يقول لا والله، أنا عندي ألفان فقط، لكن أنت مُطالب بسبعة وسبعين ألف، أنا عندي ألفان فقط، أعطنا الألفين والله سوف يسهِّل عليك، ثم يرفعون الأمر إلى رئيس البلدية فيقول لقد عفونا عنه لأنه ضيف وما إلى ذلك، في فرنسا هذا يحصل دائماً كما حدَّثني الإخوة، هذا يحدث باستمرار، وممنوع أن تسأل المريض عن المال أولاً، إياك أن تسأل أي أحد يأتيك في حالة طارئة هل عندك ما تدفعه أم لا، اترك كل هذا وعالجه أولاً، وبعد ذلك سوف نتحدَّث معه، ما هذه الإنسانية؟ وهذا ليس مواطناً، هذا ليس عنده مُواطَنة هنا في أوروبا، في بلده الذي فيها مليارات – ينبغي أن نكون صداقين – النفط طبعاً، الله أعلم أين تذهب، الله أعلم ونحن نعلم أيضاً لكن لا علينا، ومع ذلك يأتي الإنسان ولا يُستقبَل برعاية صحية سليمة ولا برعاية تعليمية لائقة ولا بحظوظ مُتكافئة في العمل والتوظيف بعد التعليم، لا تُوجَد أي حظوظ مُتكافئة يا أخي، كلها رشاوي ووسائط وابنه وعمه وسيده ومن البلد وحزبه وما إلى ذلك، شيئ لا يُصدَّق، فضلاً عن الهم طبعاً السُلطوي وكبت السُلطة وتخويف الأمن للناس والمُخابرات والاستبحاثات وخمسين ألف جهاز على رأسك ورأس مَن أنجبك، كيف تقول لي أنا حر؟ حر ماذا يا حبيبي؟ انظر إلى البلاء الذي أعيش فيه، هل أنت تقيسني الآن وقد وُلِدت في هذا المُجتمَع عليك وعلى أولادك الذين يعيشون في النمسا وهولندا والسويد وكل هذه الدول المُحترَمة الكريمة الطيبة؟ أين هذا يا حبيبي؟ فالمسألة ليست على هذا النحو، بل هى أكبر من هذا، لكن أنا سوف أُجاوِبك عن هذه المسألة وقرآنياً، ما رأيك؟ ويا له من جواب في نظري لأنه من القرآن، هذا ليس من عندي، هذه ليست شطارتي، القرآن لو لم يقل هذا لما فهمته بصراحة، فيا له لأنه كلام الله، ما هو؟ العجيب يا أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – أن القرآن العظيم حين عرض نظرية المُجتمع فعلاً كان سبّاقاً في عرضها، علماء الاجتماع البدائيون لم يكونوا علماء اجتماع بصراحة وإنما وضعوا خطوات بسيطة، لكن ابن خلدون – ما شاء الله – كان مُؤسِّساً، ابن خلدون تُوفيَ في عام ثمانمائة وثمانية وذلك في أول القرن التاسع بعد أن عاش في القرن الثامن، أبو الحسن المسعودي تُوفيَ في عام ثلاثمائة وستة وأربعين للهجرة، أي أنه مُتقدِّم جداً بخمسة قرون تقريباً إلا نصف على ابن خلدون، صاحب الإشراف وصاحب تاريخ مروج الذهب و معادن الجوهر وغيره، أبو الحسن المسعودي وابن خلدون بطريقة فعلاً منهجية مُنظَمة فهما أن المُجتمَع شيئٌ أكبر من أن يكون مجموع أفراد، قالا هو ليس مجموع أفراد أبداً، المُجتمع يُعامَل كشخصية مُستقِلة عن الفرد، هو شخصية وعنده واقعية من نوعٍ ما، كيف يكون المُجتمع هكذا؟ نحن نعرف أن المُجتمع عبار عن أفراده، فكيف هذا؟ هو ليس عبار عن أفراده، هذا مُستحيل طبعاً، لو كان المُجتمع عبار عن أفراده هل تعرف ماذا سوف يحصل؟ سوف يكون عند الفرد حرية مُطلَقة في المُجتمع أن يكون كما يُريد، أليس كذلك؟ لكن حين تجد أن كل شيئ في المُجتمَع يُؤثِّر عليك في الثقافة والتعليم والاقتصاد والسياسة والأمن وإلى أخره فهذا يعني أن المُجتمع ليس مُجرَد جمع، ببساطة هل المُجتمَع الآن مثل الأحجار التي تُكوِّن هذا المسجد مثلاً؟ هذا مُستحيل، لماذا؟ لعدم وجود تفاعل Interactivity، لكن المُجتمَع فيه على الأقل تفاعل بين أعضائه، أليس كذلك؟ هل المُجتمَع مثل أشجار التي تُكوِّن غابة؟ في الغابة وأشجار؟ لا، أنا أقول لكم يُمكِن للبُستاني أن يقول عن شجرة مُعيَّنة هذه سوف تكون شجرة كذا وكذا وكذا وهى من نوع كذا وكذا وكذا وسوف تُثمِر كذا وكذا وكذا، وذلك إذا توفَّرت لها البيئة المُناسِبة وينتهي الأمر، ليس لها علاقة إذا زرعت بجانبها أي أشياء، فإذن نحن لسنا في غابة، المُجتمع ليس غابة ونحن لسنا أشجار في غابة، هناك مسألة أعقد من هذا، إذن ماذا نحن؟ فلنستلهم العلم ونقتبس لغة العلم ونستجلب أساليب العلم الآن، هل نحن نتفاعل تفاعلاً كيميائياً أم تفاعلاً فيزيائياً؟ لا نتفاعل لا فيزيائياً ولا كيميائياً أيضاً، ما رأيك؟ المسألة أعقد قليلاً، كيف؟ لو كُنا نتفاعل في المُجتمَع فيزيائياً ما الذي سوف يتغيَّر فينا؟ فقط القشرة، الصور والأشكال، وتبقى الجواهر – Essences – كما هى، وهذه خاصية في التفاعل الفيزيائي، أليس الماء يتحوَّل إلى بخار وإذا أبعدت عنه المُؤثِّر – الحرارة – فإنه سوف يتكثَّف ويعود ماء؟ سلِّط عليه برودة – أي أنقِص الحرارة لكي يحدث التبريد – بعد ذلك، ماذا سوف يحدث؟ سوف يُصبِح حجراً ويتجلَّد، ابعد عنه المُؤثِّر عنه وسوف يعود إلى حالته السائلة، أليس كذلك؟ هذه طبيعة التفاعل الفيزيائي، وما الذي يتغيَّر دائماً؟ الشكل والصفات الظاهرة فقط التي هى تابعة تقريبا للشكل Form، لكن الجوهر أمر مُختلِف، فهل على المُستوى البنيوي يتغيَّر جُزيء الماء؟ لا يتغيَّر، يظل كما هو سواء في الجليد وسواء في السائل وإلى آخره، وأنتم تعرفون أنه (يد 2 أ،
H2o)، لكن ماذا عن التفاعل الكيميائي؟ قطعاً نحن لا نتفاعل فيزيائياً، البشر لديهم ما هو أعمق من التفاعل الفيزيائي، فهل نتفاعل كيميائياً؟ لأ طبعاً، لماذا إذن؟

في التفاعل الكيميائي يُستهلَك العنصر ويتحوَّل إلى شيئ آخر تماماً تقريباً، وذلك لحدوث تغيَّر في تركيبه، أي في التركيب على مُستوى الذرات نفسها، أليس كذلك؟ إذن هو اختلف، فيخرج لك مزيج أو خليط لا هو ولا هو هذا، الآن خُذ الماء الذي تشربه – قوام الحياة – وسوف تجد أنه ليس هيدروجيناً – Hydrogen – وليس أكسجيناً Oxygen، ولا هو صفات الهيدروجين – Hydrogen – مُنفرِدة ولا صفات الأكسجين – Oxygen – مُنفرِدة، هى شيئ آخر، لأن هذا تفاعل كيميائي، يقول لك مالك بن نبي كيمياء البشر، وهذا تعبير خاطيء، علمياً هو تعبير خاطيء، سوسيولوچياً هو تعبير غلط ، لا تقل لي هناك كيمياء بشرية، حين نقول هناك كيمياء فهذا يعني أنني سوف أفقد جوهري وأنت سوف تفقد جوهرك ومن ثم يأتينا مُنتَج ثالث أو طريحة ثالثة تختلف عن الاثنين بالكامل وهى شيئ آخر مُختلِف، وهكذا إلى أن يحدث تفاعل جديد مع شيئ آخر، لكننا لسنا كذلك، واضح أننا شيئ بين البينين، نحن نقف في تفاعلنا الاجتماعي بين التفاعل الكيميائي والتفاعل الفيزيقي، وهذه مسألة غريبة جداً، لماذا؟ سوف نرى!

المُجتمع يا أحبتي في الله بحسب القرآن العزيز له شخصية، له واقعية من نوع ومن لونٍ ما، كيف؟ أين هذا؟ من أين لابن خلدون أن يفهم هذا الكلام هو والمسعودي وأنت ونحن؟ كيف؟ القرآن الكريم – مثلاً – يقول كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، أنا أقدر على أن أفهم أن يُزيَّن العمل لي ولك في ظل أذواقنا المُختلِفة، لكن حين تقول لي أن هناك أمة مُعيَّنة عندها مزاج وتُحِب شيئ وتكره شيئ فهذا أمر غير معقول، وهناك أمثلة تطبيقية في كتاب الله، مثل مَن؟ قوم لوط مثلاً، كانوا يُحِبون السدومية وأن يركب بعضهم بعضاً، هم كانوا مُعجَبين بهذه القصة ويُحِبونها ويرونها ويظنون أنها مُمتازة، وهم مُتواطؤن – والعياذ بالله – على هذا الدنس والوساخة، جاءهم لوط وقال لهم ما هذا؟ ما هذه المُصيبة التي تفعلونها؟ هو نبي وفاهم وعنده فلسفة للحياة عظيمة جداً جداً جداً، وهو يعلم إن هذه الفلسفة إذا استمرت سوف ينقرض بها النوع الإنساني، أليس كذلك؟ سوف يكتفي الرجال بالرجال وبعد ذلك النساء بالنساء ومن ثم سوف ننتهي ويذهب الجنس البشري، هذا دمار للبشر، فهو قال لهم ماذا تفعلون؟ ماذا قالوا؟ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ۩، أعوذ بالله منهم لأنهم يتطهَّرون، هؤلاء يُحِبون الطهارة فأخرِجوهم، أف، يتقززون من الطهارة ويستمرئون ويستحلون ويستعذبون النجاسة والسدومية والعياذ بالله، هذا معنى قوله كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، ما رأيك؟ أنا أعرف شعوباً هنا في شرق أوروبا يُحِبون الوساخة، الوساخة الحسية يُحِبونها، يُحِبون الريحة الناتنة، لا أراك الله إذا ركبت معهم في مترو – U-Bahn – أو في أي شيئ، لا أراك الله، يُحِبون هذه الأشياء جداً، مَن الذي زيَّن لهم الوساخة والقذارة الحسية؟ فإذن القرآن يتحدَّث عن الأمم والشعوب – أي الجماعات – على أنها شخص واحد فعلاً، هذه الجماعة هى شخص واحد، هذه شخصية واحدة ولها ذوق مُعيَّن فتتعشق أشياء وتكره أشياء، وهذا أمرٌ غريب، لكن القرآن يتحدَّث فعلاً عن هذا، هذه لغة القرآن، قال الله كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، وهذا كان أولاً، ثانياً يقول القرآن كل أمة بحسب وضعها وشخصيتها وأذواقها تستحق نوعاً من الرسالة، قال الله وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ۩، هذا تعبير دقيق، يقول الله نحن بعثنا هذا الرسول بهذه الرسالة وبهذه المباديء والأشياء لهذه الأمة بالذات لكي يُصلِح ما اعوج منها ولكي يُعالِج أدواءها وأمراضها، أليس كذلك؟ إذن هذا الرسول المنسوب لهذه الأمة – في الأغلب والأعم يكون هو ابن هذه الأمة وناتج منها – يكون فعلاً مُناسِباً لها تماماً، كأنه مرض يُعالِجه طبيب، أليس كذلك؟ قال الله فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ۩، والأكثر من هذا أن القرآن يقول الأمم والشعوب والجماعات عندها أجل ، أنا أعرف أن عندي أجل وأن عندك أجل، حين ينتهي آخر نفس تسقط، لكن هل الأمة عندها أجل؟ هناك آيات كثيرة تقول هذا، قال الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ ۩، يا للعجب، القرآن يقول هذا، هذه لغة قرآنية وهى لغة علمية عجيبة غريبة، هذه حين يراها اليوم أي سوسيولوجي أو عالم في الاجتماع وتشرحها له سوف يشد شعره ويقول لك هذا مُستحيل، هل يُوجَد كتاب يتحدَّث بهذه اللغة وقبل ألف وأربعمائة سنة؟ هذا كتاب الله عز وجل.

الأعجب من هذا كله أن الله تحدَّث عن يوم القيامة وقال وَوُضِعَ الْكِتَابُ ۩، إذن الله قال الكتاب ولم يقل الكتب، يُوجَد كتاب مُختلِف، وطبعاً كل أحد عنده كتاب، قال الله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ۩، لكن هناك مسألة ثانية، قال الله وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ۩، كتاب واحد وجماعة من المُجرِمين، أي هؤلاء القوم الذين أسرفوا، وهنا قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ هذا كتاب هؤلاء، كتاب هذه الجماعة أو كتاب هذا الشعب أو كتاب هذه الأمة، هو كتاب واحد، هذا الجزء كان من سورة الكهف، والدليل على صحة الكلام ما في سورة الجاثية، قال الله وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ۩ يا الله، فهى لها كتاب، هذا القبيل من الناس له كتاب، فيُحاكَم إلى كتابه، وهنا قد يقول لي أحدكم هذه فلسفة غريبة، بالفلسفة أنا انتهيت الآن وأجبتكم عن السؤال، كيف؟ هنا قد يقول لي أحدكم لم أفهم هذا، لم أفهم كيف أجبت عن السؤال، وأنا سوف أقول لك كيف، هذا كتاب الله وهذا الله عز وجل، الله يقول لك حين تُفكِّر فكِّر بعمق، لا تُفكِّر بصبيانية وباستخفاف وبطفولية، فكِّر على الأقل في مُستوى الكتاب الذي بعثت لك إياه، أنت تقول هناك طفل يُولَد ناقصاً، هو منقوص الحظ ومنقوص البنية والهيكل ومنقوص كذا وكذا، الله يقول هل تنعى علىّ أنا؟ هل تُنحي باللائمة على رب العالمين؟ انح باللائمة على المُجتمَع، انح باللائمة على أمتك، وهنا قد تقول لي كيف أنحي باللائمة على المُجتمَع؟ هل ابني ضحية المُجتمَع؟ طبعاً هو ضحية هذه الأمة، هو ضحية الشعب، هو ليس ضحية واحد فقط، هو ليس ضحية الحاكم حتى وحده، لكنه ضحية الأمة كلها، وكل الضحايا في المُجتمَعات – مثل الذين يُسجَنون ويُقتَلون ويُعذَبون – هم ضحايا المُجتمع فانتبه، هناك خطايا للمُجتمَع، وهذه خطايا المُجتمّع، للمُجتمع أخطاء غير أخطائي وأخطائك، وللمُجتمَع خطايا غير خطاياي وخطاياك، هذه خطيئة مُجتمَع، وهنا قد يقول لي أحدكم ما هذه الفلسفة؟ هذه فلسفة خطيرة جداً جداً جداً وهى ثورية وتغيرية هائلة، لماذا؟أولاً هذه الفلسفة تنفي تماماً الاكتفاء بالمسلك الصوفي والتصوفي في الإصلاح، كأن تقول لي أنا صوفي أهتم بإصلاح نفسي وبالخلاص الذاتي – Salvation – وما إلى ذلك، وإذا أنا انصلحت وحدي سوف ينصلح كل شيئ من غير أن أتكلَّم مع المُجتمَع ومع الناس ومع الثقافة، فأنا ليس لي علاقة بهم، وأنا أقول لك أنت غلطان، قرآنياً أنت غلطان، ينبغي أن تُصلِح نفسك وفي الوقت نفسه بالتوازي – Parallel – لابد أن تُبرِيء ذمتك بأداء ما عليك نحو المُجتمَع، ينبغي أن تُؤدي حق المُجتمَع في الإصلاح بالأمر والنهي والانتقاد والتشريع والعلم والتدريس، هذا لابد منه، وفي نهاية المطاف إذا لم تفعل هذا فإنك قد تكون أحد ضحايا هذا المُجتمَع، على الأقل دُنيوياً لن تتخلَّص، من المُمكِن أن يأتيك يوم من الأيام لن تجد فيه الفرصة لكي تعبد الله بأمان، قد تُقتَل في بيتك، أليس هذا الذي يحدث الآن في بلادنا مثل سوريا التي نسأل الله أن يرفع عنها؟ لن تجد فرصة لكي تُوحِّد الله في بيتك، سوف تُذبَح وتُضرَب بالطائرات من أعلى، سوف تُضرَب بالـ F-16، وهذا شيئ لا يُصدَّق، لكن هذا لأنك سكت وقلت أنا أهتم بنفسي فقط، وهذا لن ينفع، وهنا قد تقول لي هذه مُصيبة المصائب ومن ثم ذهبت الدُنيا، فهل في الآخرة سوف أتخلَّص؟ ليس بالكامل، عندك فرصة واحدة لكي تتخلَّص قرآنياً، هذه – والله – نظرية رهيبة، أقسم بالله أن هذه فلسفة قرآنية رهيبة، تتخلَّص إذا أديت في الدُنيا حق المُجتمَع وأبرأت ذمتك بالأمر والنهي وقلت للصح أنه صح وللغلط أنه غلط واستمريت على هذا إلى أن تلقى الله، ومن ثم تُصلِح نفسك وتُصلِح غيرك فعلاً، بعد ذلك أنت مُت ولم تنجح، هل تعرف لماذا؟ لعدم وجود الكثير من أمثالك، أنت فشلت لوجود عشرة أو عشرون مثلك في مُجتمَع يضم أربعين مليوناً مثلاً، ومن ثم هذا لن ينفع، أليس كذلك؟ وهذا حصل طبعاً، الله أهلك قوم نوح، لم ينفع معهم لا نوح ولا الجماعة الذين معه ومن ثم قال الله لهم مع السلامة وطوى بساطهم، وأهلك فرعون وجنده في مرة واحدة، لأن هذا لم ينفع، وقال لموسى اخرج من هذه الأرض كلها، هذا لن ينفع، اتركهم في كفرهم، أليس كذلك؟ فأنت ينطبق عليك هذا، ولذلك تقول الآية الكريمة وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ ۩، فماذا قالوا في نفس الآية؟ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، إذن هذا من باب الإعذار، أنا حتى لو كنت أعرف أن كلامي وأمري ونهيي وصراخي وصياحي لن ينفع فإنني سوف أظل آمر وأنهى وأصيح، لماذا؟ لعل بعضهم يستجيب، وحدَّثتكم مائة مرة ويالها من دلالة عن كيف يبعث الله نبياً أو رسولاً لشخص واحد، هل يفعل هذا من أجل واحد فقط؟ نعم من أجل واحد، لأن الله يعرف في علمه أنه قد يبعث رسولاً يهدي أمة من الناس – مليون مثلاً – لكن لن يهتدي به إلا واحد فقط، ومع ذلك لم يحرم هذا الواحد من فرصة هدايته، وهذا معنى الهادي، حين تأتي تشرح للناس معنى كلمة الهادي – ما معنى الهادي؟ – قل لهم الهادي الذي يبلغ من هدايته – لا إله إلا هو – ومن بسطة وسعة هدايته – وهى من آثار أيضاً رحمته أو تتعارك مع رحمته وتتآزر وتتحالف معاها – أنه يبعث رسولاً – هذا الرسول ليس شخصاً مثلي ومثلك – لكي يهدي به رجلاً واحداً، يبعث الرسول لواحد فقط، ثم يموت الهادي ويموت المهدي لكن لا بأس، ويبقى الناس في العماء سادرين، فليكونوا هكذا وليذهبوا في ستين داهية لكن لابد من أن نهدي هذا الواحد، فأنا كمسلم هذه فلسفتي، أُريد أن أتكلَّم إلى أن ألقى الله، لعل الله ينفع بي واحداً أو اثنين، لا مُشكِلة في هذا وسوف أكون أعذرت، ويوم القيامة سوف أخرج من الحساب المجموعي، تقول الآية الكريمة قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، سوف أقول له يا رب أنا لست منهم، وهنا يقول لي فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي، أنت لست منهم، أنت كنت قوّالاً بالحق وقواماً به وبه تعدل، فكُن في جانب وحدك، وبعد ذلك يُوضَع الكتاب – كتاب الأمة – لكي يُحاسَبوا حساباً مجموعياً ولن ينفع الاعتذار، لن ينفع أن يقولوا يا ربي لم تكن هناك فائدة، كنا نشعر باليأس لأن أكثرهم كانوا كذا وكذا، سوف يقول الله للواحد منهم هذا غير صحيح، أنت لم تُجرِّب ولم تقل شيئاً فكيف عرفت؟ أتعلم الغيب؟ أتدّعي ما لي وتجعله لك؟ الله سوف يقول لك من أين عرفت هذا؟ مَن قال لك أنك لو تكلَّمت وقلت وكتبت وصرخت لن يهدي الله بك خلقاً كثيراً؟ كان يُمكِن أن يتغيَّر الوضع كله، ما رأيك؟ لو أنا فكَّرت أن من المُمكِن أن أُساهِم في التغيير وأنت فكَّرت وقلت أُريد أن أُساهِم في التغيير فإنه علمياً في لحظة مُعينة من المُمكِن أن نصل إلى الحد الحرج، وهذا الحد الحرج تنقلب به أوضاع الأمة بإذن الله تعالى، ما رأيك؟ أي والله، عدد يكون معلوماً في علم الله وليس عندنا، يعلم الله – مثلاً – أن في هذا المُجتمع ينبغ خمسة آلاف أو أربعة آلاف مُصلِح ومن ثم سوف يتغيَّر كل شيئ، إذا نبغ ثلاثة آلاف لن ينفع، لكم إذا وصلوا إلى أربعة آلاف أو خمسة آلاف سوف يتغيَّر كل شيئ، أليس كذلك؟ ومن ثم أنا لا أُريد أن أُنقِص الحسبة، أُريد أن أزيدها بإذن الله، أُريد أن أكون واحداً منها، هل هذا واضح؟

إذن انتبه إلى أن ما تراه من ظلم الناس في المُجتمَع – من ظلم الأطفال الرُضّع والشيوخ الرُكّع والبهائم الرُتّع والناس في السجون والزنازين وما إلى ذلك – ليس خطأ القدر ولا يُسأل عنه الله تبارك وتعالى، مَن يُسأل عنه؟ المُجتمع، هذه خطيئة المُجتمع، هذا خطيئة – Sin – المُجتمع، هذا ذنب المُجتمع، وهنا قد يقول لي أحدكم أنا كفرد الآن ما مدى استقلاليتي؟ أنت قلت هناك تفاعل كيميائي وتفاعل فيزيائي وما إلى ذلك، فماذا عني؟ أنا قلت لك أنك تتفاعل مع أعضاء هذا المُجتمَع ومع المُجتمَع كشخصية تفاعلاً بين تفاعلين، لا هو فيزيائي ولا هو كيميائي، كما قال الله وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ۩، بمعنى أنك بمُجرَّد كونك عضواً في المُجتمَع مُضطَر لتتنازل عن بعض استقلاليتك، لن تعيش كما تريد في كل شيئ، هذا مُستحيل طبعاً، لن تقدر على هذا ، المُجتمع عنده إكراهات ورُهابات وعنده جواذب أيضاً ومُرغِّبات، لكن انتبه إلى هذا السؤال خطير جداً، ما هو القدر الذي يُقدَّر أو يُفترَض أن أتنازل عنه من استقلاليتي خضوعاً لنواميس المُجتمَع وقوانين المُجتمع وإكراهاته وجواذبه؟ أنا أقول لك نحن لا نعلم هذا القدر، حتى الآن ليس عندنا نظرية، ليس عندنا أي قانون رياضي يُحدِّد لنا هذا، لا يُمكِن لأكبر عالم اجتماع في العالم أن يفعل هذا، نحن فشلنا أن نفعل هذا، لكن قرآنياً يقول القرآن أن القدر المُتبقي لك من الاستقلالية تستطيع به أن توُاجِه الخط العام للمُجتمع، ما رأيك؟ أي أيدولوجيا المُجتمع، الأيدولوجيا الحاكمة المُتسلِّطة وربما التي يرفضها الجماهير أيضاً، ما رأيك؟ وهنا قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ عندنا مائة دليل على هذا، سوف نأتي بدليل واحد لأننا أطلنا جداً، ما هو؟ سورة غافر، قولوا لي ماذا يُسمون سورة غافر؟ سورة غافر تُسمى سورة المُؤمِن، مَن هذا المُؤمِن؟ ليس أنا أو أنت وإنما هومُؤمِن آل فرعون، تقول الآية الكريمة وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ۩، وهنا قد يقول لي أحدكم لماذا رب العالمين – عز وجل – سمى هذه السورة العظيمة اللطيفة – سورة غافر من أروع السور والقرآن كله رائع، هو يَروُع ويُعجِب – بإسم مُؤمِن آل فرعون؟ لماذا سماها سورة المُؤمِن؟ هناك دلالة رهيبة، في نظري أنا مُؤمِن آل فرعون مثله مثل آسية وقد قُتِلت طبعاً، هى استُشهِدَت لأن قتلها فرعون اللعين، هذه امرأة فرعون، وهذا من آل فرعون، أي أنه من أقربائه، قد يكون ابن عم أو غير هذا لكنه قريبه، هو من آل فرعون، أي من الأسرة الفرعونية نفسها، هو ليس من الأقباط أو من المُجتمَع وإنما هو من الأسرة الحاكمة، هو مُؤمِن وآسية مُؤمِنة، هذه أنثى وهذا ذكر، أنا في نظري هذان النموذجان أعظم من نموذج أصحاب الإخدود، ما رأيك؟ لماذا؟ أصحاب الإخدود جماعة مُغلَقة، جماعة عندهم دين مُعيَّن وهو الدين النصراني، ويُسعِف بعضهم بعضاً في التمسك به والاحتفاء به، وهذا طبيعي ونراه كثيراً، من المُمكِن أن ترى في الشيوعيين مَن يضحون ويموتون ولا يتنازلون عن مبادئهم، لكن هنا الوضع مُختلِف تماماً، هنا عندك امرأة ورجل في مُجتمع بالكامل وثني، أليس كذلك؟ وأين يعيشا؟ في قلب السلطة الظالمة التي وثَّنت هذا المُجتمَع، أليس كذلك؟ ادّعى هذا الملعون أنه ربهم وأنه إلههم، ومع ذلك أمكن لآسية وأمكن لمُؤمِن آل فرعون أن يخترقا النسق، ألم يخترقا النسق أم لا؟ نعم اخترقا النسق، أمكن لهما أن يتخففا من جواذب النسق، أمكن لهما أن يشّذا من الطريق العام للمجتمع Mainstream، لقد خرجا من هذا، هل يُمكِن للشخص أن يفعل هذا؟ نعم، هل الإنسان عنده هذه القدرة؟ نعم عنده هذه القدرة، والأنبياء كلهم فعلوا هذا، وهنا قد يقول لي أحدكم أن الأنبياء يفعلون هذا لأنهم أنبياء، وهذا صحيح، لكن مُؤمِن آل فرعون وآسية ليسا من الأنبياء، مُؤمِن آل فرعون ليس نبياً وفعلها ونجح، والقرآن خلّده وسمى سورةً بإسمه، أليس كذلك؟ هذه سورة المُؤمِن، إذن أنا أستطيع هذا، نعم أتنازل عن أشياء ومُضطَر أن أتنازل – هذا طبيعي والمُجتمَع يُكيَّف أشياء كثيرة حتى من وجداني ومن تفكيري ووعيي – لكن ما يبقى لدي من استقلال أنا قادر به على فك قيود ما ذُكِر، هل هذا واضح؟

إذن لكي نختم بعبارة بسيطة وسهلة نقول هذه الأخطاء كلها أخطاء مُجتمَع وخطايا مُجتمَع، إذا أردنا أن نُعالِجها وإذا أردنا أن نتوب منها هل نتوب منها كأفراد أم كمُجتمَع؟ كمُجتمَع، إذن هل النظرية أو الفلسفة أو الوصفة التي سوف نُقدِّمها هى وصفة لفرد وأفراد أم هى وصفة مُجتمَعية؟ وصفة مُجتمعية، هذه تطال ماذا؟ هل تطال سلوك أفراد أم تطال ثقافة مُجتمع؟ ثقافة مُجتمَع، لابد من أن تطال الثقافة نفسها، أعود إلى أول الخُطبة – عوداً على بدء – وأقول أهم ما ينبغي أن نغيره في ثقافتنا العربية الإسلامية الآن هل تعرفون ما هو؟ هذا الاعتقاد بالحتمية وبالجبرية الميتافيزيقية، يجب أن نُؤكِّد استقلال الإنسان في أخذ قراره وفي تحديد أفعاله، الإنسان مُختَار، الإنسان حُر، كفى لكل النزعات الجبرية الكاذبة، وهذا شيئ آخر طبعاً فانتبهوا، كل هذا مُمتاز وجميل وهو الأساس لكن هذا وحده يأخذ نسبة ثمانين في المائة في الإصلاح، فهل تعرفون ما الذي يبقى؟ هل تعرفون ما هى العشرون في المائة والتي بدونها لن يبقى لأي شيئ فائدة رغم وجود هذا الأساس الذي يُمثِّل الثمانين في المائة؟ التربية، ينبغي أن نُحوِّل هذا المنظور إلى ثقافة، ليس إلى خُطب جمعية ودراسات فلسفية ودكتوراة وماجستير وإنما إلى ثقافة – Culture – للمُجتمَع فيتنفسها كما يتنفَّس الهواء، لكن نحن اليوم ماذا نتنفس؟ الكسل واللامبالاة والإهمال واحتقار الأخرين واحتقار العمل – والله العظيم – والجبرية، هذا هواؤنا الفاسد الذي نتنفسه، وهذا أفسدنا ودمَّرنا بالكامل، نحن نُريد ثقافة صحيحة وصحية حين نتنفسها تُعطي منتوجات مُختلِفة تماماً، كيف هذا؟ السؤال الآن كيف نُحوِّل هذه النظرية وهذا العلم وهذا الإدراك وهذا الوعي إلى ثقافة؟ هذه عملية سهلة جداً جداً، الإجابة هى يُمكِن أن نفعل هذا بالتربية، وهنا قد يقول لي أحدكم نحن نُربي وقد رُبينا ونحن من خريجي المساجد، وهذا صحيح، نحن رُبينا ونُربي لكن وفق منظور فلسفي فاسد ووفق فلسفة للحياة فاسدة، نحن نُريد أن نُربي بشكل صحيح على هذه الفلسفة، علماً بأن هذه الفلسفة سوف تُلزمني كأب من الأسرة وكمُدرِّس وكشيخ وكمُعلِّم وكشرطة وكأمن وإلى آخره أن أقول لمَن أحسن أحسنت ولمَن أساء أساءت بقدر إحسانه وإساءته وأن أنبِّه وأن أُثرِّب ثم بعد ذلك أن أُكافيء دائماً وأُعاقِب، لا يُوجَد – كما قلنا – مفهوم أنا أب رحيم مع أولادي وسوف أُدلِّعهم، هذا غير صحيح، سوف تُفسِدهم، هذه ليست تربية، هذا دمار وفساد، سوف يُصبِحون فاسدين ورخويين، ابنك حين يُخطيء يُنبَّه لمرة ولمرتين ولثلاث مرات بهدوء، ثم تُفهِّمه وتُقدِّم له مُبرِّرات، وهذا لا يعني أن تضربه وما إلى ذلك، أنا ضد الضرب، لكن احرمه من المكافآت، الحرمان من المُكافآت هو عقاب، قل له لن أُعطيك مصروفاً، التلفزيون Television ممنوع لأسبوع كامل، ألعاب الـ Nintendo والـ PlayStation وما إلى ذلك ممنوعة لأسبوع، إذا كان الخطأ كبيراً سوف يُمنَع كل هذا لشهر، أنا ذات مرة عاقبت أولادي لآخر السنة الدراسية ومنعت التليفونات Telephones، وقد طبَّقت هذا – بفضل الله – رغم أنني عاطفي وحنون جداً، وكان يبكي قلبي من الداخل لكنني كنت أدوس عليه حتى لا يفسد الواحد منهم، كان يبكي قلبي – أقسم بالله – لأنني حنون جداً، لكن لا علينا من هذا، المُهِم أن هذه التربية تُفهِم الولد أنك مسؤول، لا يُوجَد شيئ يقول هذا الطبيب أخطأ وقتل أمي أو أبي أو أخي لكن قدَّر الله والله غالب، أكثر شيئ أكرهه في الليبيين مقولة الله غالب، لقد جننتوني بسببها، مع أن هذا الشعب من أكثر الشعوب التي أحبها والله العظيم، الشعب الليبي أُحِبه جداً جداً، هو شعب رائع لكنني أكره فيهم مقولة الله غالب، في كل شيئ يقولون الله غالب، ولذلك عندكم حالة رهيبة من الترهل الفظيع، علماً بأن فلسفتكم في الحياة خاطئة، ونحن كلنا ذلك الليبي فلستم وحدكم، في كل شيئ يقول الواحد منهم الله غالب باستمرار، يا أخي غلَّبتني بالله غالب، لكن انتبه إلى أن هذه فلسفة خاطئة، يجب أن المُحسِن يُكافأ ويُقال له أحسنت، والمُسيء يُنبَّه ثم بعد ذلك يُعاقَب، ليس شرطاً بالضرب لكن يُعاقَب بغير الضرب، وهذا بحد ذاته كسلوك في الأسرة يُخرِج لك – والله العظيم – أشخاص مسئولة تحترم نفسها وتحترم خياراتها، وهؤلاء يُدرِكون أنهم أحرار وأنهم مُختَارون ببساطة، وبعد ذلك دعِّم هذه الفكرة على نطاق أوسع، علماً بأنه ينبغي أن يُقال هذا الكلام في الشعر، فشعر ابن الرومي ينبغي أن تأتي به حين تأتي به تعقيباً على شعر يُقرِّر المسئولية ويُؤكِّد الحرية وتقول هذه حكمة أما هذه فهى حماقة لابن الرومي، أي لعليّ بن العباس بن جرجس، ابن الرومي كان أحمقاً حين قال هذا الكلام، هذا الكلام غير صحيح، الطبيب يتحمَّل مسئوليته، وطبعاً ينبغي أن يُوجَد تحقيق، يُفتَح تحقيق جنائي لمعرفة هل قتل هذا المريض أم لم يقتله وهل يُوجَد شيئ مُحتمَل غير هذا أم لا، وهذا شيئ ثانٍ، فكل أحد ينبغي أن يتحمَّل مسئوليته، أما بالنسبة لتسامح وما إلى ذلك فأنتم تعرفون فلسفة العقاب في الإسلام، إذا كانت الحقوق الفردية – كأن يقتل أحدهم حتى ابني لا قدَّر الله – فأقدر على أن أتنازل بل أنا مدعو للتنازل، ويتبقى بعد ذلك الحق العام والأشياء التي لها علاقة بالحق العام، لذلك يُقال لك حقوق العباد مبنية على التشاح، أي يتشاح الناس فيها، هى مبنية على المُشاحة وهذه فيها تضييق، حقوق المُجتمَع والناس فيها تضييق، ونحن قلنا أن هذا المُجتمَع شخصية كاملة، لا أقدر على أن أتخلى عن حقوق المُجتمَع، وحقوق الله مبنية على التسامح وعلى المُسامحة، مثلما نقول سامحك الله، وعلى كل حال هذا موضوع ثانٍ – التربية – ولذا أكتفي بهذا القدر لعل الله – تبارك وتعالى – ينفعني وينفعكم وينفع أحبابنا بما قلت، والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله .

(انتهت الخُطبة والتتمة بحمد الله)

فيينا (1722/1/2014)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقات 4

اترك رد

  • يا له من موضوع في غاية الأهمية موضوع العقيدة الجبرية القدرية يا لخطورتها على مسيرتنا في الدنيا و مصيرنا في الآخرة و قد لفت نظري في القرآن آية خطيرة المعنى بهذا الخصوص و هي { ذوقوا مس سقر * إنا كل شيئٍ خلقناه بقدر } أي أنتَ أيها الإنسان أغمضتَ نظرك عن كونك محور كل هذا الوجود و أضعتَ عمركَ و أنت تقول : قدرَ الله لي هذا ـ و الله غالب ـ و ليس بيدي شيئ ـ و هذه الجمل السلبية البالية السقيمة التي بدل أن نرتفع إلى أحسن تقويم خلقنا الله مؤهلين للعودة إليه و الارتقاء له باتخاذ المعالجات و الأسباب الحكيمة تحعلنا نُرَدّ أسفل سافلين و نتهاوى في دركات لا آخر لها و فوقها يقول له ربه يوم القيامة : كما كنتَ تعتقد أيها الإنسان أن كل شيئٍ خلقناه بقدر لا دور لك في أي شيئ كذلك هذه جهنم و سقر خلقناها بقدر فاصلاها و بئس المصير …. و لو يعلم أهل هذا الفكر أنهم مشركين حقاً لانخلعوا منها بأي طريقة مع أن القرآن فيه نص صريح بتوضيح هذا و هي { و قال المشركون لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيئ } أي أن الذين يغلب عليهم هذا التفكير من رد كل البلاوي و الدواهي التي هم فيها لله لا لأنفسهم التي تحتاج لتزكية و لعلاج من أدواء كما يعالج الجسد تماماً من أمراضه مع العلم أن الله يتقرب ممن تقرب إليه بتزكية نفسه باعاً إن تقرب إليه شبراً و الحديث القدسي معروف و لا يترك الله عباده يتخبطون دون أن يرسل لهم من يهديهم سبلهم مع أن أدنى الكائنات مهدية بأمره … و يمكن هنا أن نأتي بمثال من القرآن في مدى الإمكانيات المتاحة للإنسان في تغيير الواقع و هو هدهد سليمان الذي فك نفسه من عذابٍ شديد و ذبح بأن فكَّ بلقيس و قومها من الكفر و من عذاب جهنم فأنكر عليهم قائلاً { ألا يسجدوا لله الذي يُخرجُ الخبءَ } فكان هذا بمثابة معذرة منه عنهم و بارك الله له هذه الهمة و المعذرة في أن استخدمه سليمان عليه السلام في إلقاء كتاب إليهم بسم الله الرحمن الرحيم أذعنوا به لسليمان عليه السلام …

  • سلام عليك يا أخي العزيز عدنان

    سامحني لغتي ضعيفه. رسالتي مل قلب :

    لا أعرف كيف اعبر عن شكري يا أعز الناس. ليس علا عبقريتك ليس علا صداقتك و ليس علا أسلوبك الرائع بل علي الروح و الحب الذي زرعتها في قلبي في هذا الشهر المبارك.
    خمس دقايق كلامك علي الله و رسوله غيّرن مجرا حياتي. و الله يا اخي نتبع في مقطعين يومين يمكن خمس مرات و لا أمل أبد . بل عكس قربي الا الله يزيد و يزيد معني معروف بيل جفاف الروحاني.
    مشتاق ايليك يا اخي و اسأل الله ان نتلاق في الدونية قبل الآخرة. ندعيلك انا الله يرفعك اعلي …. Enlightenment

    تزرع فيل حب و الرحمه بدلا من الخوف. هذا دليل انك ترجع متريح مل نوم بعد لقاء ربنا. يزرع الخوف انسان نفس او روح خايف من الرجوع الا ربها.

    سامحني كثرت الكلام.

    اخوك و حبيبك في الله من سويسرا

%d مدونون معجبون بهذه: