إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩
ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ۩ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩ وَمَن لّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ۩ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ۩
صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:
كلُ عامٍ وأنتم وأمتنا الإسلامية بخيرٍ وفي حالٍ خيرٍ من هذه الحال، ألفٌ وأربعمائة وثماني وثلاثون سنة يُمكِن القول انقضت على ميلاد هذه الأمة وليس على ميلاد الدين، ميلاد الدين يعدل هذه المُدة مُضافاً إليها ثلاث عشرة سنة تقريباً هى مُدة مُكث رسول الله وأصحابه في مكة قبل الهجرة الشريفة، هذا عمرُ الدين، لكن هذا التأريخ الهجري هو عمر الأمة، كان دين يوم أنزل الله – تبارك وتعالى – قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۩، كان مطلع النور، كان انفجار فجر الهداية الأخيرة، وكانت أمة يوم استعلى أتباع هذه الدين الجُدد بإيمانهم وسبقوا بصدقهم وإخلاصهم فضحوا كل ما يملكون، خلَّفوه وراءهم ظهرياً في سبيل أن يعز هذا الدين وأن يمتد هذا الدين وفي سبيل أن تنجو هذه الرسالة، ومن هنا كان ميلاد الأمة.
عبر هذه التاريخ الطويل – وإنه لتاريخٌ طويلٌ، زُهاء ألف وخمسمائة سنة إلا قليلاً – يتكرَّر ويتبرهَن درسٌ واحد – الدرس نفسه وعينه – وهو كلما أضاءت وسطعت الروح كلما كان الدين والأمة بخير، وكلما خبت الروح كلما صار الدين والأمة إلى حالةٍ غير محمودة، ما معنى سطوع الروح وخبو الروح؟ الروح لا يُمكِن أن تُفهَم بعيداً عن جوهر الهداية الخاتمة، لا إله إلا الله، محمدٌ عبده ورسوله أتى بهذا النور والضياء والحق لكي نُوحِّد الله وحده ونعبده وحده ونمهد لأنفسنا في حياةٍ أبدية لا تنتهي، تقول الآية الكريمة مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ۩، فهذا هو الدستور، هذا هو المعقد، هذا هو المُستمسَك – الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات – وهذا جوهر الدين وهو جوهر الروح!
في كل فترة انحدر فيها الدين وتراجعت فيها الأمة رأينا هذه الأمة بشعوبها وبقاداتها – بقاداتها السياسيين وقاداتها الروحيين من حملة العلم والفكر والنور والهُدى – دائماً يُقدِّمون أنفسهم ومصالحهم على الدين وعلى جوهر الرسالة فنتأخَّر، إلى اليوم نحن لا زلنا بفضل الله – تبارك وتعالى – ومنّه – وله الحمد وحده والفضل والمنّة – مُستمسِكين بهذا الدين، فنحن عالقون في هذه المُفارَقة الصعبة.
لو – لا قدَّر الله ولا سمح – عزمنا أمرنا وحزمناه على أن نترك هذا الدين أصلاً ورأساً ستجري علينا السُنن التي تجري على البشر الآخرين تقدماً وتأخراً لكن ضمن ماذا؟ ضمن حظوظ الدنيا، الآخرة لا نصيب لنا فيها، فلابد أن نكون واضحين مع أنفسنا، هل نُريد صلاحنا وخيرنا في الدنيا والآخرة أم نُريد صلاح الدنيا بمعايير الصلاح الدنيوية أو الصلاح الدنيوي؟ لابد أن نكون واضحين، أما هذا العلوق في بين بين – لم نحزم أمرنا لأننا لا نعرف ماذا نُريد – هذا الذي جعلنا أشبه بالمُتحيرين الذين يُراوِحون في أماكنهم، يمشي العالم ويتقدَّم وتيغيَّر ونحن في أماكننا، ولعلنا نغرق في رمل مُتحرِّكة يوماً فيوماً كما هى الحالة المعيشة.

دائماً – وربما يكون هذا من تحيزات المهنة كما يُقال – ما أرى أنه يترجَّح في خاطري وفي خلدي وفي تفكيري دور أهل العلم والفكر والذكر على حتى الساسة والقادة، قد يُمكِن أن نُشكِّك في هذا إلى ما قبل خمسين سنة كما فعل محمد عبده رحمة الله عليه، لكن بعد ثورة المعلومات ودخولنا في عهد النت Net والفضاء السيبري ينبغي ألا نتشكَّك في هذا، الذين هم أكثر فاعلية هم أصحاب الكلمة وأصحاب الفكر، فهم الذين يقودون الجماهير والناس، هم الذين يُشكِّلون مخيال الشعوب والكتل البشرية الهائجة المائجة الكثيرة – هم هؤلاء أكثر من غيرهم – ومن هنا حرض القادة والساسة على أن يستعملوهم وعلى أن يُوظِّفوهم وعلى أن يجعلوهم أقلاماً بأيديهم، طبعاً وهم في هذا يدفعون الأثمان الباهظة أو الباخسة، هذا لا يعنينا لكن هذا هو الحاصل وما سيحصل إلى أن يشاء الله تبارك وتعالى، إن شئتم أن تعجبوا فإعجبوا كما يُقال لعالم حامل هُدى، حامل كتاب وسُنة، حامل نور وضياء لم تسطع فيه أشعة الروح، وهو مادي خامل دنيوي نظره قصير وحساباته تافهة جداً جداً جداً، لأن كل شيئ إذا ما قيس برضا الله – تبارك وتعالى – وبما عند الله – تبارك وتعالى – هو أتفه من التافه وأسخف من السخيف، لا يُقضى منهم العجب – لا يُقضى من هؤلاء النفر العجب – أبداً، كيف يُمكِن أن تكون عالم دين ولا تسطع فيك الروح؟ تفتقر إلى القدرة الحقيقية على أن تُلهِم الناس وأن تُحيي فيهم الروح وأن تُحفِّز فيهم بناء علاقة حقيقية مع الله – تبارك وتعالى – حتى وإن كانوا ساسة وقادة، قوة الروح لا شيئ يعدل بها، لا شيئ يُمكِن أن يُضاهيها، وهى ليست قوة تنفيذية أو افتعالية، هى قوة تعمل ذاتياً كالمصباح، لست مُضطَراً أن تُلقي مُحاضَرة عن قوة هذا المصباح ذي الخمسة آلاف وات Watt – مثلاً – حين تُشعِله، اسكت تماماً وهو سيتحدَّث عن نفسه، قوة الهداية وسطوع الروح كهذا المصباح، هو نور أيضاً، قال الله وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ۩، وقال أيضاً اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ۩، هذا نور الله في صدر المُؤمِن وفي قلب المُؤمِن، إذا حل في هذا القلب ينعكس على صفحات وجهه وفي فلتات لسانه وفي تعبيرات مقاله وفي حاله وفي سلوكه، ينعكس وهو صامت لا يتكلَّم، تماماً كهذا المصباح الذي لا يتكلَّم لكن نوره يتكلَّم بالنيابة عنه، أما المصباح الخافت الباهت ذي الخمسة عشرة واتاً Watt – مثلاً – مهما تكلَّمت ومهما حاولت أن تُقنِع الناس أنه عظيم وآسر – ضوءُه آسر – وشعاعه بعيد المدى فهذا كله كلام فارغ، أنت تضحك على نفسك، لا نستطيع أن نقرأ جيداً في ضوء هذا المصباح، نُصاب بالعشى، فالمسألة ليست مسألة حذلقة وكلام ودعاوى، وإنما مسألة نور سارٍ – سارٍ بذاته – ولذلك جئت في هذا اليوم المُبارَك الذي أسأل الله أن يُعيد علينا وعلى أمتنا من بركاته وبركات أمثاله وأن يتوب علينا وأن يُحسِن الإلطاف بنا لكي أُحدِّثكم عن المنطق الذي ينبغي أن يتسلَّح به كل مُؤمِن ساطع الروح وكل مُؤمِن صادق وهو يرى السنوات تعقب السنوات والدهور تنسخ الدهور والعمر يتفصَّى ويتقضَّى من بين أيدينا، يتسرَّب كأنه قطرات ماء، الحقيقة هى حقيقة زوالية هذه النشأة وهذا العالم وهذه الحياة، هذه الحقيقة لا تبعث مَن يفهمها ويفقهها جيداً ويُوقِن بها على أن يستكين وأن يستنيم إلى الدعة والراحة والكسل كما يفعل بعض مَن يدّعي الزُهد، كلا هى تبعثه على العكس تماماً كما كان البررة السابقون السُبق من أسلافنا الصالحين، تبعثه على أن يستثمر كل لحظة من لحظات عمره في طاعة الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأن كل لحظة من هذه اللحظات المُتقضية وحية التقضية وسريعة الفناء والتفلت يُقابلِها ما لا يتناهى في دار الأبد.
هذا هو المنطق ببساطة، ومن هنا قوة المُؤمِن الهائلة الذي تحقَّق بالإيمان ولم يحمل دعوى الإيمان ولافتة الإسلام، وإنما تحقَّق بالإيمان، قوة هائلة جبارة تنبعث في هذا الإنسان، فهو يعمل بها على تغيير نفسه وتغيير ما حوله تغييراً إيجابياً بنّاءاً فاعلاً رحيماً مُنيراً، فيكون رحمةً لا عذاباً، وبناءاً وتعميراً لا هدماً وتخريباً، ووصلاً لا قطعاً وفصماً، هذا هو!
فيما يُنسَب إلى الإمام الجليل أبي الحسن عليّ بن أبي طالب – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، هذا من كلام الإمام عليّ ولا يصح حديثاً، ليس له سنن أصلاً إلى رسول، لا ضعيف ولا صحيح ولا حسن لأن ليس له أصل، لكن هذا يُنسَب إلى الإمام عليّ، وينسبه بعضهم إلى سهل بن عبد الله التستري، أياً ما كان قد فصَّله فصلاً ابن الجوزي في صيد الخاطر: فصل الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، حقيقة من أعجب وأبده وأروع وأوضح وللعجب أغمض الحقائق، بقدر ما هى واضحة بقدر ما هى غامضة، نسلك وكأننا لا نفقه شيئاً من حنايا هذه الحقيقة، شاءت حكمة الله تبارك وتعالى – وهذه حكمة بالغة جداً يا أحبابي – أن يُدرِّجنا درجاتٍ، تكون البداية في عالم الأرحام، هذه البداية في هذه النشأة، والبداية الحقيقة في عالم الذر يوم خاطبنا – تبارك وتعالى – أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۩ وقلنا بَلَى ۩، فتلك البداية الحقيقية الأولى ولها تجلياتها هنا، لكننا كنا في هذه النشأة البداية الرحِمية، ثم بعد ذلك أتت هذه النشأة الدنيوية لتُسلِم إلى النشأة الأُخرى الأبدية، في النشأة الرحِمية الجنين على قدر إدراكه يفهم أشياء، فهو له لون إدراك بلا شك، علماء الأجنة أكَّدوا أنه فترة من فترات تنشؤه وتزيده رحِمياً يبدأ يسمع الأصوات، فهو يسمع صوت أمه، ولذلك هم ينصحون الأب أيضاً أن يأتي قريباً من الرحِم ويلتصق به وبالبطن ويُخاطِب هذا الوليد المُبهَم جنسه، يُخاطِبه حتى يعتاد على صوت أبيه، لكن في الأرجح دون أن نقطع بشيئ أن هذا الجنين لو كان له إدراك لكي يُعبِّر – قدرة على التعبير – لقال هذا الصوت يأتي من ها هنا، أي من الداخل، وهو لا يعرف أصلاً مفهوم الداخل أو الخارج، فانتبهوا إلى أنه لا يعرف مفهوم الخارج وبالتالي هو لا يعرف مفهوم الداخل، هو يُدرِك أن هذا هو الوجود كله – كل الوجود هو هذا – وهو وجود وسيع ومُريح ومُناسِب جداً بالنسبة إليه، فقط هو هذا الوجود، وبالقطع هو لا يتساءل عن مصدر هذا الصوت، يظن أن الصوت من هذا العالم، وفي الحقيقة هو ليس من هذا العالم، هو من العالم الخارجي، أي من عالمنا هذا ويتسلَّل إلى ذلك العالم الصغير، ثم نأتي إلى هذا العالم، وشاءت الحكمة الإلهية البالغة جداً أن يجعلنا مغلوبين لسُلطان النوم، فإذا ما أمعنا واستغرقنا نوماً أخذنا في الحُلم، أي بدأنا نحلم، والحُلم قصة وأي قصة وعبرة وأي عبرة، عبرة عجيبة جداً.
الصينيون القدماء لم يقتنعوا بأن الفوارق بين عالم اليقظة وعالم المنام والأحلام هى فوارق صلبة وحقيقية ومُمكِن تحديدها، لم يقتنعوا بهذا ولم يكونوا قوم من الهمج بل كانوا قوماً مُتحضِرين جداً، اخترعوا الكتابة والورق والبارود والصواريخ ولديهم فلسفة في الحياة، وهذا شيئ عجيب، الصينيون لم يكونوا قوماً همجاً بل كانوا مُتقدِّمين جداً، بل هم يرون الشعوب الأُخرى بربرية وهمج ولا يزالون للأسف، فهم عندهم هذه النزعة العنصرية لأنهم كانوا مُتقدِّمين جداً على سائر الشعوب، وكانوا يعتقدون أن الإنسان يعيش في عالم المنام كما يعيش في هذا العالم، والعالمان موصولان بطريقةٍ ما، ولذلك كان أحدهم إذا رأى رأى جاره – مثلاً – يسرق بقرته في المنام فإنه يُقاضيه إلى القاضي، حين يستفيق من النوم يذهب إلى القاضي، وطبعاً القاضي لا يتهمه بأي شيئ، بالعكس هذا الشيئ بمثابة دعوى جدية وينبغي أن تُعتبَر، لكن هل حضر هناك مَن يشهد؟ إن كان ثمة شهود في المنام أُحضِروا في الحقيقة، وهكذا وقد يُقضى على الجار السارق، والجار مُستسلِم، فهذا هو القانون وهذا أمر طبيعي، وهو أيضاً ينطبق عليه هذا القانون، فهم ليسوا بُلهاً وليسوا حمقى، هم يعلمون أن الأمر جد، والفارق أصعب بكثير من أن تُحدِّده هكذا اعتباطاً.
إلى اليوم الناس هنا في الغرب بالذات للأسف – الحمد لله على كل حال – يتعاطون بالقمار هذا مثل اللوتو Lotto هذه والسحب واليانصيب – القمار هذا أو الميسر مُحرَّم في الشريعة بفضل الله وهذه مُخاطَرة سخيفة جداً – ومُعظَم الناس يشترون هذه الأوراق أسبوعياً، في المملكة المُتحِدة احتمال أن تفوز بالجائزة الكُبرى يُساوي واحد على أربعة عشر مليوناً، والناس يشترون ويدفعون أموالاً وأربع مرات في كل شهر – خمسون مرة تقريباً في كل سنة – لأن الواحد منهم يدفع لأنه على أمل أن يكسب مع أن الاحتمال ضعيف جداً وضئيل جداً، الاحتمال يُساوي واحد على أربعة عشر مليوناً، يدفع كل أسبوع مرة لكن بعد كم سنة يُمكِن أن أفوز؟ بسيطة: بعد مائتين وخمسين ألف سنة، إذا ظللت تشتري أسبوعياً وغبر عليك مائتان وخمسون ألف سنة هناك احتمال واحد أن تفوز لمرة واحدة، أي واحد على مائتين وخمسين ألف سنة لأن هذا يحدث أسبوعياً ويُمكِن أن تحسبوها رياضياً، ومع ذلك الناس يرون أن من المنطقي جداً أن يفعلوا هذا، فهم لا يحلمون، هذا ليس حلماً وليس وهماً وليس مُغامَرة فاشلة بالعكس هم يقولون لنفعل هذا، لكن أيهما أعظم احتمالاً: هذا أم أن تكون الآن في حلم وأنا الآن في حلم؟ أي أحلم أنني أخطب هذه الخُطبة وأن تكون أنت وهو أو أي واحد فينا ضمن هذا الحلم، وطبعاً إذا كنت أنا الذي أحلم فأنتم كلكم عناصر في حلمي، خدم في هذا الحلم، وإذا كان أحدكم هو الذي يحلم فنحن كلنا عناصر في حلمه، وعلى كل حال لا ندري فهذا الشيئ مُعقَّد جداً!
أيضاً الفيلسوف والمُتروحِن الصيني s Zhuang Zhou – في القرن الرابع قبل الميلاد، أي قبل كافكا Kafka بألفين وأربعمائة سنة تقريباً، علماً بأن كافكا Kafka رأى نفسه وقد مُسِخَ إلى خنفسة وقد عبَّر عن هذا في قصة وهذه القصة مشهورة جداً، وعلى كل حال هو قبل هذا – يكتب في مُذكراته قائلاً في الليلة الماضية رأيت أنا جوانغ زي Zhuang Zhou نفسي في المنام وقد عُدت فراشة سعيدة خفيفة تطير من غُصن إلى غُصن ومن محط إلى محط وهى مُستمتِعة بوقتها، العجيب أنني لم أُدرِك أنني أنا جوانغ زي Zhuang Zhou قد استحلت إلى فراشة، كنت مُجرَّد فراشة وفقط، كانت فراشة سعيدة، ثم استيقظت من النوم فإذا أنا جوانغ زي Zhuang Zhou الذي أحسب نفسي حقيقياً، والآن للصدق – يقول لكي أكون صادقاً معكم – أنا لا أدري هل أنا فراشة تحلم بأنها الآن بشر هو جوانغ زي Zhuang Zhou أم أنا جوانغ زي Zhuang Zhou الذي حلم بالأمس بأنه كان فراشة وعاد إلى حقيقته، فهو قال لست أدري!

رينيه ديكارت René Descartes في القرن السادس عشر – أبو الفلسفة الأوروبية الحديثة – يكتب في كتابه الشهير تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى في التأمل الأول – في أول تأمل – عن مُبرراته وأسبابه التي تجعله يسحب الثقة من الحس ومن وسائل الحس، من البصر والسمع واللمس والشم والتذوق، أي من هذه الحواس الخمس المشهورة التي قال لا قبها ولا ينبغي أن نثقف بها حتى النهاية لأنها ليست ميتينة وليست صلبة تماماً، لكن ماذا عن الأدلة، قال الأدلة هى واحد واثنان وثلاثة وثلاثة وأربعة وخمسة، ومن أهمها قال الحلم، أين نكون في الحلم؟ قال نتصرَّف ونرى أشياءاً ونسمع أصواتاً ونلمس ملموسات ونذوق مذوقات ونشم مشمومات ونطعم مطعومات ونشرب مشروبات ونرى صوراً ولوحات وأشياء وحركات كلها على غِرار الصور والحركات في هذا العالم، أليس كذلك؟ نحن لا نعيش في المنام عالماً آخراً بطريقة أُخرى، نفس هذا العالم، على نفس الغِرار، أليس كذلك؟ ونخاف ونحزن ونبكي، يُنهنهنا البكاء أحياناً، وأحياناً نستفيق من النوم ونبكي ونظل نبكي لدقائق، أليس كذلك؟ ونخاف أيضاً ونهرب ونغضب وتعلو أصواتنا وأحياناً قد نستفيق ونحن في حالة غضب شديدة جداً على أقرب الناس إلينا، وبعض الحمقى يسطو بأقرب الناس إليه لأنه استفاق من نومه وهو غضبان عليه، يقول شعرت طيلة اليوم وأحياناً طيلة الأسبوع أنني أكرهه، وهذا أمر عجيب يا أخي، فهذا نوم، لكن هو هذا.

الآن هو يلعب اليانصيب وعلى احتمال واحد على أربعة عشر مليوناً أن يفوز بالجائزة الكُبرى، أي أن أمامه ربع مليون سنة كاحتمال أن يفوز – الله يفتح له ويُيسِّر له – طبعاً، وأنت تحلم وتستيقظ، تستيقظ ثم تعود تنخرط في النوم وتحلم، ما هى إمكانية أن نكون الآن نحن حالمين؟ كما قلت لكم أنا أحلم أنني أخطب ومن المُمكِن أن أحدكم هو الذي يحلم، لا ندري مَن الذي يحلم بمَن، ما هى الاحتمالية؟ أكبر بكثير جداً من احتمال اليانصيب الذي يرونه منطقياً ويقوم به بروفيسورات – Professors – في الجامعة وأطباء ومُهندِسون وربما رجال دين وأُناس مُحترَمون جداً، فالواحد منهم يشتري هذا كل أسبوع ولا يرى في هذا جنوناً أو حمقاً أو بلاهة، وعلى كل حال الاحتمال أكبر بكثير، هناك واحد على أربعة عشر مليوناً لكن هنا كم؟ واحد على عشرة، أي العُشر، عشرة في المائة، الاحتمال الآن بنسبة عشرة في المائة أننا نحلُم – علماً بأن يجب أن نقول نحلُم وليس نحلَم، وهذا في الحِلمية والحُلمية، حَلَمَ في المنام، يحلمُ حُلماً، حَلُمَ يحلُمُ حِلماً، أي الحِلمية بمعنى أن يكون حليماً – لكن هل تعرفون لماذا؟ لأننا نستيقظ ست عشرة ساعة ونروح في نوم ثماني ساعات كل يوم، وفي هذه الثماني ساعات يعترينا ما يُعرَف بحركة العين السريعة REM وهى اختصار لـ Rapid eye movement، وعند حركة العين أو المُقلة السريعة نأخذ في الأحلام فنحلُم، كم مرة؟ من عشرين إلى خمس وعشرين في المائة من هذه الثماني ساعات هى REM، وهذا يُساوي تقريباً ساعة وست وثلاثين دقيقة، أي تقريباً واحد وستة من عشرة، واحد وستة من عشرة أحلام في مُقابِل ست عشرة ساعة يقظة يُساوي بالضبط واحد على عشرة علمياً، هذا كلام العلماء الإخصائيين، هذه نسبة احتمال أن تكون في أي لحظة تحلم، وطبعاً كم حلمنا وكنا سعيدين جداً جداً جداً أن تحصَّلنا على ما نُحِب واتصلنا بمَن نعشق في المنام ثم بعد ذلك يتكشَّف الأمر عن ماذا؟ عن حُلم لعين، والأعجب كم مرة سقطنا في كوابيس مُفزِعة مُخيفة ومُرعِبة ثم استيقظنا لنرى أننا استيقظنا في المنام ثم عُدنا نُكبَس بهذه الكوابيس ثم استيقظنا، وأحياناً يحصل للإنسان ثلاث وأربع مرات ما يُعرَف بخبرة الاستيقاظ الزائف، وهذه لعنة – لعنة حقيقية – وعذاب، الذي يُصاب بهذا الشيئ يتعذَّب فعلاً بعذاب حقيقي، تكون ضمن كوابيس الغول والجن والشياطين وأشياء مثل هذه ثم تستيقظ لترى نفسك أنك لا تزال في المنام ثم تستيقظ وتمسك الخشب ثم ترى أنك في المنام حقيقةً والعفريت موجود لا زال يُشاغِبك ويُشاغلِك لمدة ثلاث أو أربع مرات، وهذه خبرة ما يُسمى في العلم بالاستيقاظ الزاف، وهذه لعنة حقيقية، ومن هنا قد تقول لي أحياناً أنا أكون نائماً وأحلم وأعرف أنني أحلم ولذلك أعبث في الحلم، أنا أُشاغِب مَن يُشاغِبني وأُشاغِل مَن يُشاغِلني، وهذا صحيح وهذا ما يُعرَف بالحلم الصافي والحلم الجلي المُشعشِع Lucid Dreaming، الحلم الصافي الواضح – Lucid Dreaming – لا يكون في الـ REM، وإنما يكون في مرحلة أُخرى، وهنا من السهل حتى أن تُوجِّه النائم وأن تقول له أنا أرى أنك تعبان قليلاً فحاول أن تنام على جنبك الأيمن فيفعلها، ويُمكِن أن تقول له ارفع يدك إلى فوق يا فلان وسوف تكون أحسن ومن ثم يفعل، فإذن هو بين المنام واليقظة، لكن ما هى العبرة هنا؟ العبرة حين نُدرِك أننا نحلم تُزايلنا أسوأ أفزاعنا ومخاوفنا وكوابيسنا، نعود نلعب بها – كما قلت لكم – حين نُدرِك ونحن نحلم أننا نحلم فنبدأ في اليقظة Waking، هذه اليقظة الآن حتى في الحلم، بالمثل يا أحبتي في الله ونحن في هذا العالم، علماً بأننا في حلم، حلم من نوع آخر طبعاً وسأُثبِت لكم هذا، وهذا معنى الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فنحن في حلم بمعنى أو بآخر، وفي هذا العالم – وهذا ما يحصل مع العرفاء والأولياء ألحقنا الله بهم وعاد علينا من بركاتهم – يُوم تُدرِك أنك في حلم هنا – أنت في حلم لأن هذه ليست حقيقة قاسية صلبة كما تظن وكما تُحِب أن تعتقد ومن أجلها تُقاتِل وتقتل وتُقتَل وتسرق وتُكفِّر وتذبح وتكره وتصل وتقطع وتمكر وتشي وتركب الصعب والذلول من أجل أن يزيد مالك أو ثروتك أو ترد اعتبارك – يُزايلك الخوف والحُزن، وحين تُدرِك أنك في حلم تبدأ تستيقظ، والناس في حلم وفي كوابيس – المساكين عائشون في كوابيس، كوابيس الخوف والحزن والطموح والأطماع التي لا تنتهي ولا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية – لكن أنت استيقظت – نسأل الله أن يُوقِظنا من سنة الغفلة ومن نوم الغافلين – الآن، يوم تستيقظ ترى أسوأ الكوابيس توافه وسواخف، أشياء سخيفة لا قيمة لها، يبقى شيئ واحد له الاعتبار كل الاعتبار لديك وهو الله – لا إله إلا هو – فقط، ولذلك لحظة الموت هى لحظة ماذا؟ الاستيقاظ الحقيقية لمَن استيقظ ومَن لم يستيقيظ، ولذلك موت الذين كانوا مُستيقظين ليس حدثاً دراماتيكياً أبداً، هو حدث عادي جداً جداً جداً لأنهم يخبرونه في كل ساعة، لذا هو ليس حدثاً عجيباً بالنسبة لهم أبداً، ويذهبون إلى الموت وكأنهم على موعد جميل مع محبوب، كلهم كانوا هكذا، كلهم يلهجون بنفس الطريقة!
مُعاذ بن جبل – رضوان الله عليه – الشاب الذي مات في الرابعة والثلاثين من عمره والعالم الجليل والصحابي الكريم النبيل مات مطعوناً في طاعون عمواس فبكت زوجته فقال لم تبكي؟ والله ما كنت حريصاً على الدنيا لجري الأنهار وغرس الأشجار وإنما لعبادة الله وذكره في ليلة شاتية طويلة، هذا الذي حبَّبني في الدينا، الوقت الطويل أكون فيه مع الله تبارك وتعالى، لا أفلح مَن ندم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، لا أفلح اليوم مَن ندم، فهو قال لها لماذا أندم؟ هذه أجمل ساعة.

حُجة الإسلام الإمام الغزالي – رضوان الله تعالى عليه وسقى الله تُرابه الشريف واكف وشآبيب رحماته – يقول أخوه أحمد الغزالي – الواعظ الشهير وأيضاً هو عالم ورجل فاضل وواعظ صوفي – صلى الفجر وقرأ ورده ثم طلب كفنه – كان مُعِداً له من سنين ومن ثم الكفن الأبيض دائماً حاضر – فأخذه ووضعه على نفسه وقال مرحباً بالدخول على الملك، ثم أسلم وتُوفيَ، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

لأنهم كانوا مُتيقظين، هذا ليس حدثاً مفصلياً في حياتهم أبداً، ليس حدثاً دراماتيكياً، والناس تصك الوجوه وتصرخ وتخمش وتندب ويُغمى عليه وتُجَن لأنهم كانوا فعلاً في حلم فظيع والآن استيقظوا، فهذا هو الحلم، هذا أحد أحلامكم، هذا الذي تبكيه الآن وتخمشين وتصكين عنصر في حلمك وأنت كنت عنصراً في حلمه – هذا حلم – الآن ذهب إلى الحقيقة الأُخرى الأوسع، فكيف لنا أن نُدرِك أننا في حلم؟ لماذا هذا العالم حلم؟ لماذا هذه الحياة حلم؟ قبل أن أُجيب سأُشير إلى شيئ آخر، هذه مسائل يتدخَّل فيها الإيمان والكفر، اليقين والإلحاد، الإثبات والنفي، العقل والحكمة والغباء والبلاهة، البصر والبصيرة والعمى والانطماس، فنسأل أن يُبصِّرنا ظاهراً وباطناً وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، يتحدَّث هنا – وطبعاً هذا أحد كوابيس العصر الآن – علماء وفلاسفة على أعلى مقام ومن أعلى مُستوى في العالم ويقولون هناك إمكانية تُفيد بأننا نحن الآن ومَن نظن أننا نحن في ألفين وستة عشر إسقاطٌ لأحلام ومُجرَّد ألعاب لعقول أُخرى بشرية وربما غير بشرية – لكن في الأرجح عندهم بشرية في هذا العالم وفي هذه الدنيا وفي هذا الأرض وفي هذا الكوكب – وهذه العقول قد تكون في الواقع الذي لا نُدرِكه ولا نعرف عنه شيئاً تعيش سنة ألفين ومائة وليس ألفين وستة عشر وإنما ألفين ومائة ميلادياً، أي على مبعدة ثمانين سنة من الآن أو أربعة وثمانين سنة، لكن ماذا عنا؟ سوف تقول هذه مثل أفلام ماتريكس Matrix وما إلى ذلك، وهذا صحيح وله علاقة بالمصفوفات، نحن قد نكون كذلك، قد نكون ألعوبة بأيديهم، أي أنهم يلعبون بنا ويُعطون كلاً منا دوراً، قد نكون نحن مُجرَّد أدمغة أُفهِمَت أن لها أبداناً وأطرافاً تُحرَّك من آخرين، وقد لا يكون لنا وجود حقيقي، وهذا شيئ يُجنِّن.

طبعاً دانيال دينيت Daniel Dennett الفيلسوف البيولوجي الأمريكي المُلحِد عنده قصة مشهورة جداً يتخيَّل فيها نفسه وقد نُزِعَ دماغه من بدنه وُوضِعَ في محلول يُمكِن حفظه فيه على غِرار ما تُحفَظ الأكباد والكلاوى وكل هذه الأشياء من الأعضاء المعروفة والتي تُحفَظ في محاليل مُعيَّنة لأوقات، فيُحفَظ هذا الدماغ ولكنه وُصِلَ أيضاً بأقطاب وإلكترودات – Electrodes – كثيرة بجسمه الذي فُرِّغَ من دماغه بحيث أصبح الجسم في مكان والدماغ في مكان على بُعد مترين أو ثلاثة متر، وقد يكون لا سلكياً Wireless، فليس شرطاً أن تُوجَد الأسلاك طبعاً، من المُمكِن أن يُوصَّل بطريقة لا سلكية، وهذه كلها تقنيات أصبحت كالمُتاحة – على باب الإتاحة – طبعاً، ثم يقول: فنظرت إلى نفسي وأتيت مع الخبير وقلت هذا غير معقول، دانيال Daniel ينظر إلى نفسه، أنا نفسي لكن من المُستحيل أن أكون أنا نفسي ودماغي هناك، ما الذي يحصل؟ يُحِب أن يُوصِّل إليك حقيقة تقول أن حقيقتك ما يعرف بالـ Soul أو بالروح أو بالنفس وكل هذه الأشياء أشياء عصبية في الدماغ هناك، لكنه لم يأت بشيئ، الرجل لم يأت بشيئ بل أمعن في تضليل نفسه وتضليل مَن يُصدِّقه، فهل تعرفون لماذا؟ قبل أن نفترض هذه الافتراضات وهى افتراضات مشروعة – مشروع أن يُطرَح ما يُريد وأن يتخيَّل ما يُريد – نُحِب أن نقول هناك الكثير من الأشياء التي هى أعقد من هذا بكثير، فلم يُجِبنا لا دينيت Dennett طبعاً ولا حملة جائزة نوبل Nobel في وظائف الأعضاء من قبل خمسين سنة مثل السير جون إيكلس Sir John Eccles والكندي بنفيلد Penfield وإلى الآن لم يُجِبنا أحد جواباً يقتنع هو به فضلاً عن أن يطمح في إقناعنا عن كيف نُبصِر وكيف نسمع؟ وطبعاً كيف نتذوَّق وكيف كذا وكذا، فهذا نفس الشيئ وينطبق على كل الحواس، قد تقول لي هذه سهلة وقد تعلَّمنها في الابتدائية، لكن في الحقيقة أنت لم تتعلَّمها ولا تعرف شيئاً، لا هم يعرفون ولا أنت تعرف ولا أي أحد فينا يعرف، الذي نعرفه لا يتعدى كثيراً ما عرفه العبقري الفذ إسحاق نيوتن Isaac Newton – أيزك نيوتن Isaac Newton – قبل زُهاء ثلاثمائة سنة، نيوتن Newton يكتب في البصريات – Optics – في طبعة ألف وسبعمائة أو أربع قائلاً For the Rays to speak properly are not coloured، فهو يقول أشعة الضوء إذ أردنا أن نتكلَّم بدقة أو بطريقة صحيحة وسلمية عنها ليست مُلوَّنة، وهذه عبقرية رهيبة، لأنه يقول الضوء ليس مُلوَّناً، أشعة الضوء ليست مُلوَّنة وبالتالي ليس شيئاً في الكون مُلوَّن، فانتبه إلى هذا، نيوتن Newton يفهم هذا، واليوم أي عالم حائز نوبل Nobel في وظائف الأعضاء يقول لك هذا صحيح بنسبة مائة في المائة وأبصم عليه بالمائة، لماذا؟ نحن درسنا هذا الإعدادية وهو سهل، وسوف نرى كيف هو سهل، هو سهل بفضل نيوتن Newton الذي كان من العبقريات الفذة، يقول In them there is nothing else than a certain power and disposition to stir up a sensation of this or that Colour، فهو قال لا يُوجَد في أشعة الضوء أي شيئ سوى قوة مُحدَّدة و طاقة مُحدَّدة A certain power، لا يُوجَد في أشعة الضوء لا يُوجَد شيئ أكثر من هذا، وحتى الماهية غير مفهومة للشيئ طبعاً، وهو نفسه عجز عن وضع تعريف لماهية القوة أو الطاقة وقال لا أعرف ما هى، نعم أصفها لكن لا أعرف ما هى، وطبعاً هو لا يعرف، ومَن الذي يعرف الآن؟ سوف نرى مَن الذي يعرف، وعلى كل حال هو قال هذه القوة المُحدَّدة تعمل تحفيزاً – Stir up – للتحسس، لكن تحسس ماذا؟ دماغ الإنسان – ليس الشبكية وإنما الدماغ – لهذا اللون أو ذاك اللون This or that Colour، وهذا الكلام بنسبة مائة في المائة لم نتخطه إلى اليوم، والباقي كله هوامش وتفاصيل لكننا لم نتخط هذا الفهم العبقري، ثلاثمائة سنة ولم نتخطه، وحتى أكون واضحاً معكم سأقول أن هذا الذي قاله السير جون إيكلس Sir John Eccles الذي هو من أكبر العلماء على الإطلاق في القرن العشرين، ليس الأكبر على الإطلاق لأنه حامل لنوبل Nobel، هو أكثر من نوبل Nobel بمرات، الرجل يقول أننا نتلقى أطوالاً موجية مُختلِفة، طبعاً الطول الصادر عن جسم أصفر يختلف عن الصادر عن جسم أحمر أو أسود أو بنفسجي وأخضر وإلى آخره، وأنتم تعرفون هذا، وهذا معنى أن الألوان أطوال في نهاية المطاف، فقط فروق في الأطوال، فنحن نتلقى هذا فتقع على الشبكية في العصب المُتصالِب ثم تذهب إلى الدماغ، لكن ما هى الدماغ كما يقول السير جون إيكلس Sir John Eccles؟ قال مُجرَّد عُلبة شديدة الإعتام والإظلام، عُلبة هُلام فيها شيئ مثل الجيلي Jelly، أرأيتم كيف يكون الهُلام؟ هذا هو المُخ، وهذا مُظلِم جداً، ثم قال لا أحد فهم مُطلَقاً كيف يتم تفسير هذه الأطوال الموجية بألوان زاهية مُنيرة!

هل فهمتم؟ هل بدأتم تفهموا الآن كيف يكون الإعجاز الرباني؟ هذا الإعجاز الإلهي وهذه القدرة الإلهية ولم يفهم أي أحد إلى الآن كيف هذا، والعجيب أنك تعود إلى كتاب الله الأجل الأعز – لا إله إلا هو – فترى القرآن بكل وضوح وبكل مُباشَرية يقول لك مُنبِّهاً: هذا ليس مصدر الرؤية والبصر، هذه وسيلة، فالعين منفذ للإبصار والأذن منفذ للسمع، كلها منافذ وخروق وثقوب مُهيئة فقط لهذا، لكن أين يتم الإبصار؟ في القلب، أين يتم السمع؟ علماً بأننا لا نعني بالقلب الفؤاد وإنما نعني العقل، قال الله لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ۩ وقال أيضاً لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا ۩، أي أننا نقول في الدماغ، فإذن هناك يتم، لكن كيف يتم؟ لا أحد يفهم، كيف يتم؟ مَن الذي وضع هذا الـ Setting أو الـ Einstellung؟ مَن الذي برمَج المسائل بطريقة مُنذ البداية بهذا الشكل؟ أي أنه خلق لك هذه الكُتلة من الهُلام ثم وضع فيها خلايا مُعقَّدة وكثيرة جداً بالمليارات، وهذه الخلايا مُبرمَجة في داخلها على أن تُترجِم طولاً موجياً كذائياً باللون الأصفر، فهنا تُوجَد برمجة إذن، هنا تُوجَد معلومة مُنذ البداية، هنا يُوجَد وعي قرَّر هذا، مَن الذي قرَّر هذا؟ مَن هو العقل بالتالي؟ مَن هو الذي يعبث بعقولنا؟ هل فهمتم الآن ما هى قصة دانيال دينيت Daniel Dennett ؟ هل فهمتم قضية الحلم الذي نعيشه؟ كلنا نعيش في حلم، وهذا معنى وجود الخالق المُقدِّر – لا إله إلا هو – مالك المُلك ذي الجلال والإكرام، فأنت لست تقوم وحدك، ليس أنت مَن قرَّر أن تخلق دماغك وجهازك العصبي على هذا النحو، لا أنت ولا غيرك، هناك مَن قرَّر وهناك مَن أراد، ومن هنا قد تقول لي هذا قرار حكيم وجميل جداً ولذا أنا مُمتَن له، فهذا قرار جميل بالفعل، كان من المُمكِن أن أعيش كالخُلد في عماء وفي ظلماء، وأكتفي بسماع الأصوات ولكن لا أرى شيئاً، ومن ثم لن ترى عيني ولن يحزن قلبي، لن أحزن على الألوان الجميلة التي لا أراها لأنني لم أرها أصلاً ولم أخبرها، أليس كذلك؟ أما الآن فتسشعر بحسرة لو كان الأمر كذلك، لو كان وانقلب كذلك، وسوف تكون بالتالي مُمتناً لصاحب النعمة العُظمى – لا إله إلا هو – الفرد الصمد الأحد الماجد الواجد الحكيم المُقدِّر – لا إله إلا هو – لأن هو الذي شاء، إذن هو لا يعبث بعقلك، لكنه مالك لعقلك – لا إله إلا هو – لكن أنت لم تسأل سؤالاً بصدد مَن الذي برمَج ومَن الذي نظَّم ولماذا فعل هذا بهذه الطريقة؟

كيف يهربون من قضية الوجود الأعلى لا إله إلا هو؟ يقول لك الواحد منهم يا رجل المسألة مقلوبة، لا تقولوا مَن خلق العالم وخلق الإنسان، نحن الذين خلقنا الله، الله فكرة الإنسان ابتدعها، كيف يكون فكرة؟ فكرة مثل أفكار ماركس Marx والكلام الفارغ هذا، فهم يقولون هو ابتدعها، ثم يستنيمون على أساس أنهم عباقرة وأن فرويد Freud قال هذا، فهم يقولون نحن الذين أثبتنا لكم – ما شاء الله – أننا الذين خرجنا – أو طلعنا كما نقول بالعامية – بفكرة الله، فالله غير موجود، وهذه الفكرة من لدنا، لكن يبقى السؤال مطروحاً ومُلِحاً جداً: إذا كنا نحن الذين خلقنا الله كفكرة مَن الذي خلقنا؟ مِن أين أتينا؟ وقبل أن نقول حتى مَن الذي خلقنا نعلم أن هناك مَن سيقول لنا خلقنا التطور، تطور حصل في هذه المادة عبر ملايين السنين، وحين تقول له مَن الذي خلق المادة؟ يقول لك المادة من مادة، ثم يبدأ يُجزيء لك ويقول كل ما في هذا الوجود من هذه المُتعضيات والأجسام المُتحيزة وغيرها هى أشياء تتركَّب مِن أجهزة، والأجهزة من أعضاء، والأعضاء من خلايا، والخلايا في نهاية الأمر تعود إلى جُزيئات، والجُزيئات إلى ذرات، والذرات إلى دقائق دون الذرية، والدقائق دون الذرية إلى كذا وكذا، علماً بأنه الآن تورَّط في ورطة ليس لها أي حل، فهو يُريد أن يُعرِّف الـ Reality أو الواقع أو الحقيقة بماذا دائماً؟ بشيئ أدنى، وهذا هروب – مُحاوَلة هروب – بالتأكيد، وطبعاً هذا هروب علمي وفلسفي مقبول ومشروع جداً ولابد منه ولكن في النهاية سوف يُسلِمه رغماً عنه من ناصيته إن كان يحترم عقله وهروبه إلى الله تبارك وتعالى، هو سوف يرد كل مُستوى إلى المُستوى الذي دونه وهذا جميل جداً، فماذا عن الذرات؟ الذرات دقائق دون ذرية، وهذه الدقائق دون الذرية مُكوَّنة من ماذا؟ من دقائق أقل، والآن أقل ما وصلوا إليه الكوارك Quark، فهم يقولون لك هناك الكوارك Quark وهذا جميل جداً، لكن ماذا عن الكوارك Quark؟ يستند إلى ماذا؟ يقعد على ماذا هذا؟ عُدنا إلى أمثولة السُلحفاة، الكون محمول على أفيال، والأفيال على سلاحف، والسلاحف على سُلحفاة، ثم ماذا؟ السُلحفاة الكبيرة الأخيرة مَن يحملها؟ هنا يسكتون، يجب أن تعود باستمرار إلى ما قاله الله، فالقرآن أعطاك الحل ببساطة – لا إله إلا الله – وهذا شيئ عجيب، قال لك في نهاية المطاف أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ۩، وقال أيضاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ۩، فهو قال لك رغماً عنك إذا كنت تحترم عقلك وتحترم هذه الطريقة في الهرب وهذه الطريقة في العزو والإسناد لابد أن تعود إلى شيئ، وهذا الشيئ أنت الآن مُختلِف مع المُؤمِنين في تسميته، هم أذكى منك وسموه بالله وجعلوه ذاتاً – لا إله إلا هو – ليس عاقلة وواعية بل هى مصدر العقل ومصدر الوعي ومصدر السمع ومصدر البصر ومصدر الفقه والبصر، فكل شيئ من لدنه لا إله إلا هو، هو الذي شاء أن يخلقنا سميعين مُبصِرين عاقلين، قال الله وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۩، وهو الذي أفهمنا أن الأذن ليست هى السمع وإنما هى جهاز السمع وأن العين ليست هى البصر وإنما هى جهاز البصر، قال الله وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ۩، تُوجَد العين ويُوجَد النظر لكن لا يُوجَد البصر، لماذا؟ لأن البصر لا يحدث في الدماغ كما نعتقد، فهو في الحقيقة لا يحدث في الدماغ، الذي يحدث في الدماغ أيضاً هو تلقي الإبصار وتلقي السمع وتلقي هذه المعاني كلها وتلقي الوعي والإدراك، هذه هى الحقيقة الروحية الحقيقية وسوف تُصبِح علمية بإذن الله، ومن ثم سيتضح أن الدماغ كان في نهاية المطاف أداة أيضاً وثقباً وألة مثلما نقول عن الأنف والأذن والعين أنهم أدوات، فهو وسيلة أيضاً، ولذلك يتهدَّد الله الكفرة العُتاة المُستكبِرين بماذا؟ بالختم على قلوبهم، فهو قال أنا أختم عليها، وما معنى أنه يختم عليها؟ أي أنها لا تعود تتلقى شيئاً من خارج، سوف تتوقَّف عن الفهم بالمرة، وسوف يبقى البعيد مُتورِّطاً في كفره إلى آخر لحظة وهو يخوض مع الخائضين حتى يُصدَم ويُبدَه بماذا؟ بيوم الدين، وهذه مُصيبة، وفي يوم الدين – نعود إلى الحلم، نحن الآن في أمثولة الحلم – سيُدرِك الكل – كل الناس أجمعين – أنه كان فعلاً في حلم، لأن الحلم في نهاية المطاف وقته قصير، مع أن الزمان يسير فيه سريعاً جداً، أنت في ثوانٍ تحلم بأشياء تقصها ربما في نصف ساعة، وكذلك هذا العالم وهذه النشأة أيضاً، قال الله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ۩، وقال أيضاً الله فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ۩، فضلاً عن أنه قال نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ۩، فالآية إذن تقول يوم، وفي القرآن الكريم أيضاً قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ۩ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ۩ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، إذن الله يقول يوم، كل هذه الحياة سوف تبدوا لكم يوماً أو أقل من يوم، لكن هل تعرفون كيف؟ يُمكِن أن تستنبطوا هذا وحدكم، نحن الآن نزعم أننا في حال يقظة، لكن كيف نعرف أننا مُستيقظون؟ بالحُكم على الحلم أنه حلم وليس يقظة، أليس كذلك؟ لو ما كان هناك حلم لن نصك مُصطلِح اليقظة أصلاً، لن يكون هناك أي شيئ إسمه يقظة، هذا المُصطلَح وفقط، لأن الحلم موجود فاليقظة موجودة، ولأن اليقظة موجودة فالحلم موجود، اليقظة دائماً ترى نفسها أعلى – تتجاوز إلى فوق – وقادرة على أن تُصدِر حُكماً على ما ليس بيقظة – أي على الحلم – وتراه ليس ثابتاً وليس راسخاً، وهذا ما سيحدث معنا يوم القيامة، أي أنك سوف ترى كل حياتك بعد أن حكمت الناس وسيَّرت الجيوش وقتلت البشر وسجنت وأودعت وحكمت وسرقت ونهبت وملأت بطنك وانفجرت وكأنه ساعة أو حلم، وسوف تُحاسَب على كل هذا، يا الله ما الذي يحدث؟ هنا الكابوس الأعظم، هذا الكابوس الأعظم الحقيقي، فاليقظة هنا في الدنيا تُحرِّرك من كوابيس أحلامك، اليقظة هناك تُورِّطك في كل كوابيس أحلامك الدنيوية، وكلها سوف تُسأل عنها، وهذا هو الفرق.
إذن هناك لا أقول مَن يعبث وإنما أقول هناك فعلاً مَن يتحكَّم في هذا العالم، وضمن هذه الخُطة التحكمية يُعطينا حُرية أن نختار وأن نحلُم كما نُريد ضمن الحدود المُتاحة طبعاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
إذن ليس يُجدي وليس ينفع أن تقول لي الجُزيء من ذرات والذرات من دقائق والدقائق من أدق ثم تسكت، لابد وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ۩.
كان على مكتب الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان Harry Truman لافتة خشبية – يُمكِن أن تجدوا صورتها في النت Net – مكتوب عليها The Buck Stops Here، أي هنا ينتهي المطاف، وهذه العبارة – أي The Buck Stops Here – مُلهِمة وجميلة، مَن الذي يُدير هؤلاء المُوظَّفون في هذه الإدارة الحكومية؟ التابعون للحزب الفلاني، مَن الذي يُدير هذا؟ المسؤولون عنه، مَن الذي كذا وكذا، ثم في نهاية المطاف تعود إلى رئيس الولايات المُتحِدة الأمريكية، يُوجَد ثلاثمائة مليون وواحد يتكلَّم بالنيابة عن الجميع، فهو قال لك هنا ينتهي المطاف، ومن ثم جميل أن نفهم هذا!
قال الله وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ۩، هنا ينتهي المطاف الحقيقي، أي مطاف كل شيئ في الوجود، فالحلقة ليست مفتوحة وإنما هى حلقة مُغلَقة، وهى تُغلَق بالإيمان وتبقى مفتوحة بالإلحاد وبالشكوكية وبعدم الإيمان، ومن هنا الضياع، أي ضياع الملاحدة وضياع الذي لا يُؤمِن.
أختم هذه الخُطبة بعرض سانحة سنحت لي ليلة أمس، لطالما شعرت شعوراً أظن أن كل البشر لا يُفلِحون في الفكاك من هذا الشعور، قد يُفلِحون في تزييفه تعبيراً عنه، فالواحد منهم حين يُعبِّر قد يُزيف، لكن لو صادقاً مع نفسه لن يفعل هذا، علماً بأن أحد أسباب بل أحد أكبر أسباب غباوتنا كبشر أننا نهرب من أنفسنا، وهذه قضية طويلة وهذه فلسفة خاصة، يا ليت يعمل شخص وجودي – أي فيلسوف وجودي – الآن فلسفة وجودية ويُسميها فلسفة الهروب الدائم من النفس، وهذا الذي يجعل الإنسان فاشلاً على جميع المُستويات وإن أظن أنه من الناجحين، وأعظم الهروب وأسوأه وأفشله أن تهرب من الله لا إله إلا هو، هناك مَن يهرب من فطرته، فالحيوان بما هو حيوان عنده نوع من الاهتمام والحدب والحنان على صغاره وحتى على بيوضه، وأنت ترى بشراً هنا في العالم هذا يُضيِّعون أولادهم ويتركونهم في مهب الرياح، ويذهب الواحد منهم لكي يسكر ويُحشِّش ويُدخِّن ويفعل ما يُريد ويعيش بالطول والعرض تاركاً أولاده في مهب الرياح بلا أي ضمان في عالم قاسٍ وفي دنيا خشنة جافة خلو من الروح والرحمة، كيف يُمكِن لبشر أن يفعل هذا؟ فقط بالهروب من نفسه، فقط لو التقى بنفسه والتقى بمشاعره لن يفعل هذا، لو التقى بنفسه سوف يُضحي نفسه في سبيل أولاده، فبسهولة يفعل هذا كما يفعله الكثيرون وهذا أمر معروف، وحين يهرب من نفسه ويهرب من الله يُمكِن جداً أن يهرب من مسئوليته وعواطفه تجاه أفلاذ أكباده، لكنهم يفعلون هذا، يُوجَد من البشر مَن يفعل هذا، لكن علينا ألا نهرب، علينا أن نكون واضحين، وعلى كل حال هذا الشعور الذي لا نُفلِح في الفكاك منه ما هو بصراحة؟ هو أننا أبديون، صعب جداً أن يتخيَّل الإنسان أنه سيعيش مليارات السنين – مليارات المليارات المليارات – في الجنة – إن شاء الله تعالى – ثم يكون عدماً، يُجنِّنه هذا ولذا هو لا يُصدِّقه ويقول لك أنا لن أنتهي بعون الله، فهو يشعر أنه مُؤبَّد بقوة شديدة، ويشعر بدرجة بأقل منها – لأن الثقافة والحس والنشأة تُؤثِّر على هذا الشعور – أنه أيضاً أزلي، كيف هو أزلي؟ من مواليد كم هو؟ قال لك من مواليد ستة وستين، فأزلي ماذا يا بني؟ هل أنت جُنِنت؟ لكنه يقول لك أنا أشعر بهذا، أنا بصراحة أشعر أنني محور الكون وأن هذا الكون دائماً يعرفني وأنا أعرفه، أنا لم ائت أمس، صعب أن أتخيَّل أنني على هذا النحو، لكن الله قال له لابد أن تتخيَّل، قال الله هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ۩، لكن لماذا الله يُذكِّرنا بهذا؟ لأن هناك مَن لا يتذكَّر هذه الحقيقة، وأنتم تقولون لنا أنكم تشعرون بكذا وكذا، وصحيح أنكم تشعرون بهذا، وأنا أقول لكم هذا الشعور طبيعي، وهو شعور إنساني، ومن ثم هذه ورطة جديدة للملاحدة، لكن – إن شاء الله – تكون مبعث نور لهم ليهتدوا وليُحاوِلوا أن يفهموا أنفسهم، هذا أكبر بواعث الإيمان بالله تبارك وتعالى، وسوف نفهم السبب الآن ونختم الخُطبة بهذا.

هل تعرف لماذا نحن فعلاً بمعنى ما أزليون وأبديون؟ طبعاً أنا لست مُلحِداً ولست وحدوياً، أي لست Pantheist، لا أقل بوحدة الوجود وعدم بينونة الخالق من المخلوق، لست على هذه الطريقة الزندقية الوحدوية أبداً وأفهم ما أقول، فلاسفة العقيدة لدينا تحدَّثوا عن مقامين في هذا الباب وهما مقام الثبوت ومقام الوجود، لا مُؤمِن إلا وهو مُوقِن ومُسلِّم بأن كل ما أوجد الله في العوالم كلها وكل ما سيُوجِد – لا إله إلا هو – كان ثابتاً في علمه أزلاً، أليس كذلك؟ هذه طريقة المُؤمِنين الذين يعرفون الدين ويعرفون التوحيد الحقيقي وليست طريقة القدرية الجهلة الأغبياء الذين يقولون لا قدر والأمر أنف، هذه طريقة المُؤمِن الواعي بالنص الإلهي وبالوحي الإلهي، ومن هنا قد تقول لي هذا أمر معروف، قبل أن يخلق الله الكون وقبل أن يخلقك ويخلقني ويخلقها كان لنا ثبوت في علم الله، وبعد ذلك حين شاء بكلمة كُن كوَّننا – كُن فَيَكُونُ ۩ – ومن ثم أصبح لدينا مقام الوجود الآن، فهذا مقام الثبوت في العلم الإلهي وذاك مقام الوجود في العالم المخلوق المُبدَع لله تبارك وتعالى، هل تعرفون ما الذي لم نفهمه جيداً ولم نُفهَّمه جيداً؟ حجم الفرق بين المقامين، أي بين الشيئ في مقاميه، فكم مقدار هذا الفرق؟ الذي سنح لي أنه جد ضئيل – ضئيل جداً جداً جداً – وأنه لغز، فمن المُؤكَّد أنه لغز لن يفهمه البشر إلى ما لا نهاية، هذا لغز الخلّاقية، قدرة الله على أن يُحيل المعلومة الأزلية ويُخرِجها من مقام الثبوت إلى مقام الوجود، فكيف يفعل هذا؟ العملية صعبة جداً، لكنه قال لك ليست صعبة، تقول الآية الكريمة إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ۩، فهو يقول لك فقط حرفان، لكن هذا للتقريب لكي تفهم، فهناك مَن قالوا لا يُوجَد حرفان أصلاً، وهناك مَن قالوا سوف نأخذ بظاهر الآية، وهنا سندخل في موضوع المُعتزِلة وأهل السُنة ونفس القصة القديمة الحديثة، فلا علينا على كل حال لأننا لن نُدخِلكم في معاوص كلامية، فهو قال لك كُن ۩ ومن ثم ينتهي كل شيئ، لكن ما معنى هذا؟ تخيَّل الآن أنك مُهندِس أو رسّام أو مُصمِّم – Designer – وصمَّمت أو رسمت في ذهنك لوحة مُعيَّنة، صمَّمت تمثالاً مُعيَّناً أو تخيَّلت مخلوقاً يا سيدي، الآن ما هو الفرق بين هذا المخلوق في ذهنك وهذا المخلوق فيما لو خرج إلى الوجود؟ فرق هائل جداً جداً جداً جداً، مُعظَم معلوماتنا على الإطلاق التي في ذهننا عن الأشياء والأمور لو استحالت بكلمة التكوين – لو الله شاء الله وقال لما في ذهنك أنت كُن فَيَكُونُ ۩ – ماذا سيخرج؟ تهاويش فقط، خطوط وخربشات ليس لها أي قيمة حقيقية، لأن الفرق بعيد، الله يُريد أن يُخرِج ما في ذهنك إلى عالم الوجود، أي من عالم ثبوته في ذهنك إلى عالم وجوده في العالم الظاهر بكُن من الله – كُن من الله وليس منك – ومن ثم سوف يخرج شيئاً مُشوَّهاً لا قيمة له ولا حركة فيه ولا نبض ولا معنى له حتى، لماذا إذن؟ أنا سوف أقول لك لماذا، لكي يخرج الشيئ من مقام الثبوت إلى مقام الوجود ويدب كما هو وكما نعرفه – مثلاً – أو نُريده لابد أن تكون المعلومات التي تُحيط به وتُقدِّره – كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩ – معلومات لا مُتناهية الدقة والإحاطة من جميع جوانبه، فإذا قلت لي أن أقل دقيقة تُكوِّن المادة – لن تكون الكوارك Quark والله أعلم ما إسمها – يجب أن تكون المعلومات قد وصلت إلى هذا المُستوى وربما أدنى أيضاً، وهذا غير المسألة التعالقية الاتصالية، وأنا أقول لك أن الأشياء الثابتة في علم الله هى ثابتة على هذا النحو وعلى أكثر معناه، وهذا يعني أن مقام الثبوت في علم الله ليس لعباً، لكن يبقى أيضاً الفرق لا نهائياً بين وجود الله ذاته – لا إله إلا هو – وبين ثبوت الأشياء في علمه الأزلي ضرورة لا نهائية الفرق بين الخالق والخالق، بين العليم الخبير ومعلوماته، بين القدير المُهيمن القاهر ومقدوراته، هذه ضرورة الفرق اللانهائي، أما الفرق بين المقدورات معلومة والمقدورات مُكوَّنة فقط حرفان – لا إله إلا الله ولا يملك هذا الأمر إلا هو – هما كُن، فهل فهمتم؟
ولذلك نحن في مقام ثبوتنا في علم الله انعكس وتجلى في مقام وجودنا في هذا العالم بكلمة التكوين في هذا الشعور المُبهَم العجيب القوي بأننا أزليون بلا بداية وبلا نهاية، لن ننتهي!

مرة أُخرى أقول لكم أن هذا فيه جزء كبير من الحق والحقيقة، وهذا أحد أكبر بواعث البشر على أن يُؤمِنوا ويبحثوا عن الله لا إله إلا هو، لأن الشيئ الوحيد فقط الذي يُفسِّر شعورك بالأبدية وأقل منه بهذه الأزلية هو ماذا؟ وجود الله الذي ضمن لك الثبوت في علمه أزلاً وضمن لك الامتداد في عالمه أبداً، تقول الآية الكريمة خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۩، أي بلا نهاية – لا إله إلا هو – طبعاً، فهو هذا إذن.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعلِّمنا وأن يُفقِّهنا وأن يُصلِحنا وأن يُرشِدنا.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً وعملاً مُتقبَّلاً ودعاءاً مُستجاباً، ونعوذ بك من علمٍ لا ينفع ومن قلبٍ لا يخشع ومن عينٍ لا تدمع ومن نفسٍ لا تشبع، ونعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة، أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين إلهنا ومولانا رب العالمين، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا غائباً إلا رددته ولا مريضاً إلا شفيته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه ولا أسيراً إلا أطلقته وأحسنت فكاكه يا رب العالمين برحمتك يا أرحم الراحمين، جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (30/9/2016)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: