إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله – جل من قائل -:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – تبارك وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ۩ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ۩ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۩ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لّا يَشْعُرُونَ ۩ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ۩ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۩ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ۩ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ۩

بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۩ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۩ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ۩ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

قد تسألون ما الصلة المعقودة بين آيات (المُؤمِنون) – أي بين آيات سورة المُؤمِنون على الحكاية – وبين هذه السورة القصيرة الجليلة (سورة الماعون)؟ والصلة لمَن تأمل بادئ النظر واضحة – إخواني وأخواتي -، إنها قضية ضخمة ومسألة كبيرة: قضية الإيمان، حقيقته وجوهره وعلمه، أي أمارته ودليله، الإيمان وعلمه، الإيمان وأمارته، الإيمان ودليله.

إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ۩، فيدخل فيها الإخلاص دخولاً أولياً، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۩ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ۩، قال وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ۩، هؤلاء المُؤمِنون الذين تحَّقوا بالإيمان على هذا الوجه، هؤلاء يُسارِعون في الأعمال الصالحة، يتسابقون في المبرات والأعمال الطيبة، ولكنهم يُؤْتُونَ مَا آتَوا ۩، وشرحناها غير مرة – إخواني وأخواتي -، القرآن لم يقل إنهم يأتون ما أتوا، أي يجترمون ما اجترموا، كلا! إنما يُؤْتُونَ ۩، أي يُعطون، يُقدِّمون، هؤلاء يمهدون لأنفسهم بصالح العمل، يُؤْتُونَ مَا آتَوا ۩، وليس ما أتوا بمعنى اجترموا واجترحوا أبداً، إنما يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ۩، عملهم مهما كان كبيراً في ذاته هو عندهم صغير، مهما عملوا وتفننوا أو افتنوا في الصالحات والمبرات والخيرات الطيبات يرون عملهم ضيئلاً، ويخافون عليه من الرد، ألا يُقبَل، لأنهم يعلمون أنه إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، ولذلك قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ۩، هؤلاء فعلاً قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۩.

لذلك يستقلون ما يعملون من العمل الصالح، قال أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ۩، لم يتحدَّث فقط عن أنهم يفعلون الخيرات، قال يُسَارِعُونَ ۩، قال يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ۩، وشيئ أبلغ بكثير من هذه المُسارَعة، وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ۩، شيئ غريب! كأنهم يُريدون أن يسبقوا الخيرات نفسها، ألا يفوتهم خير من الخيور، عندهم نهم غير عادي، مثل ما تجد هذا النهم غير العادي أيضاً عند عبّاد الدنيا، تجدون الرجل مليونيراً أو مليارديراً على أنه حريص حتى على الملاليم، ولذلك يظلم المُوظَّفين والذين هم للأسف الشديد في خدمته وفي عمله وفي شأنه، يظلمهم هذه الملاليم، نهم غير عادي، لا يُريد أن يفوته قرش، لا! أهل الآخرة وأهل الله – تبارك وتعالى – لا يُريدون ولو أنفقوا كل ما عندهم أن يفوتهم شيئ من الخير، أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ۩ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ۩، كأن الله يقول هذا حسن وجميل وطيب وشريف، ولكنه عزيز ونادر، مَن استطاع أن يكون من هؤلاء فيا حيهلاً، وإلا فأنا لا أُكلِّف أحداً إلا وسعه، إلا ما أتيته، وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ۩، انظر إلى هذا، رحمة إلهية عظيمة.

الآن سورة الماعون، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۩، الدين هو الحساب والجزاء، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ۩، أي مُحاسَبون ومجزيون بما عملنا، لا يُصدِّقون بهذا، يُكذِّبون بالبعث، يُنكِرون اليوم الآخر، ولذلك الإيمان وجوهر الدين وحقيقته قائم على هاته الأركان الثلاثة: إيمان بالله واليوم الآخر، ومُباشَرةً يلزم عنهما ومنهما – مُباشَرةً إذا حصل الإيمان بالله واليوم الآخر – ماذا؟ المُسارَعة في الأعمال الصالحة، قال آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ۩، فهذا هو الإيمان، هذا هو الدين، هذا هو الذي يُريده الله – تبارك وتعالى – من المُكلَّفين، وإن اختلفت الشرائع والأحكام الفرعية.

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۩، الدين هو الحساب، وما يلزم منه من الجزاء، والجزاء يأتي بعد الحساب، أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ۩، أي مُحاسَبون، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۩ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۩، لأنه لو آمن بالله ولقاء الله وابتغى وجه الله لما دع اليتيم، يدع اليتيم أي يدفعه عن حقه، واليتيم المسكين له حق، والأشبه والأرجح في مُعظَم الأحوال أن يكون هذا الحق منزوراً قليلاً، لكن هذا يبخل به – والعياذ بالله -، قاسي القلب، الذي لا يرجو لقاء الله ولا يُؤمِن بلقاء الله – تبارك وتعالى -، مُكذِّب بالحساب، مُكذِّب بالدينونة، فهذا يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۩، واليتيم بالذات لماذا؟ لأن حاله من اليتم يحمل ويُوجِب رقة زائدة في قلب الإنسان الذي هو إنسان، لكن هذا الكافر المُكذِّب بالله ولقائه غلبت عليه القسوة والغلظة – والعياذ بالله -، فدع اليتيم، أي دفعه عن حقه، ظلمه حقه، دعه يدعه وأدعه دعاً، إذا دفعه عن حقه، وقيل دفعه هكذا بالمُطلَق، دفعه فلم يُعطه ولم يُطعِمه ولم يُنله شيئاً من خيره، وكلاهما مُحتمَل، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۩، هذا في ذاته وفي خاصته قاسٍ مسيك جلف غليظ – والعياذ بالله -، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩، ينهى غيره عن أن يُطعِم المساكين، يَحُضُّ ۩ بمعنى يحث، حض وحث بمعنى واحد، لا يحث ولا يُشجِّع، وكما تقول العامة لا يرحم ولا يدع رحمة الله تنزل، هو هذا بالضبط، هو لا يرحم، يدع اليتيم، يمنعه حقه، أو ينتهره فلا يُصيبه ولا يُنيله شيئاً من خيره وبره – إن كان أصلاً من أهل البر -، ولا يحث أيضاً غيره على إطعام المساكين، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، ما علاقة المُصلين بهذا المُكذِّب بالدين؟ سوف نرى! فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، وطبعاً السادة المُفسِّرون – جزاهم الله خيراً – لهم كلام مزبور في الكُتب ومعروف، منهم مَن قال هذه في المُنافِقين الذين يلهون ويسهون عن صلاتهم، في المُنافِقين! وقيل هي فيمَن أخَّر الصلاة عن وقتها، وقيل هي فيمَن تركها جُملة، وهذا ضعيف، هذا ضعيف! لماذا؟ لأنه قال لِلْمُصَلِّينَ ۩، قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، فواضح أنهم يُصلون إذن، لا تقل لي تركها جُملة، كيف تركها؟!

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ۩، قال عَنْ صَلَاتِهِمْ ۩، ولم يقل في صلاتهم، لو قال في صلاتهم لنالتنا، لما نجا منا أحد، مَن الذي لا يسهو في صلاته؟! ربما لا أحد، فالكل يسهو، ونسأل الله المغفرة والمُسامَحة والكرم والتجاوز، وإنما عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ۩، قيل عن أوقاتها، لا يتركونها جُملة، وإنما يُؤخِّرونها عن أوقاتها، يُؤخِّرنها عن أوقاتها وربما صلوها في غير وقتها، إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۩.

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ ۩… كله تأكيد، تأكيد! يقول لك هذه الحقيقة، هذه العلامة، أتُريد العلامة؟ هذه العلامة، الَّذِينَ هُمْ ۩… الَّذِينَ هُمْ ۩… قال هُمْ ۩، دائماً يُؤكِّد بهذا الضمير، نعم! الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ۩، أعمالهم مبنية على الاستعراض والمُراءة، يُرَاءُونَ النَّاسَ ۩، لا يعمل الواحد منهم العمل الصالح لأنه وجل من لقاء الله ووجل من ذكر الله – تبارك وتعالى – أبداً أبداً، هو في حقيقته مُشرِك، يعمل الأعمال للناس، للخلق، للعباد، ليُصيب حظ نفسه، ليُصيب حظ نفسه من المحمدة والتبجيل وحُسن السيرة كما يُقال والصيت الذائع بين الناس، أنه مُتدين ومن أهل الصلاة ومن أهل الدين والتقوى فيما يبدو – والعياذ بالله -.

الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ۩ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ۩، قال وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ۩، ماعون كل شيئ منفعته، وهذا في اللُغة، أي ليست تقتصر أو تختص فقط بأواني المنزل كما قيل أو الدار، الفأس والقدوم والقدر وما إلى ذلكم، لا! منفعة كل شيئ هي ماعونه، وفي اللُغة العربية الماء النازل من السحاب ماعون، وقيل هو المعين نفسه، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ۩ في آخر المُلك، أو في المُؤمِنون أيضاً نفسها وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ۩، قيل المعين هو الماعون، وهو الماء، وقيل المعين غير ذلك، فهو فعيل بمعنى مفعول، أي معيون، الذي يُرى بالعين، ولعل هذا أرجح، بدليل أنه قال إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا ۩، غار فلم يعد يُرى ويُشاهَد، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ ۩، أي طافح واضح ترونه بأعينكم، فهذا هو، هذا أدق على كل حال، ولكن في اللُغة أن الماعون هو ماء السحاب، الماعون وليس المعين، المعين صفة للماء، هل هي الماعون نفسه؟ هذا شيئ آخر، وفي هذا خلاف كما سمعتم للتو، لكن في اللُغة الماعون هو ماء السحاب، ومنفعة كل شيئ، بأَجْوَدَ منه بماعُونِه، يقول أعشى بني ثعلبة:

بأَجْوَدَ منه بماعُونِه                                             إذا ما سَمَاؤهم لم تَغِمْ.

فيمدح مدوحه، فيقول بأَجْوَدَ منه بماعُونِه، يُريد ماذا؟ الماء، لماذا؟ لأنه قال إذا ما سَمَاؤهم لم تَغِمْ، لم يظهر فيها غيم، وتعد بمطر، وتعد بغيث، فهو يجود بالماء القليل الذي عنده.

وقال بعضهم – وهم من الصحابة، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أيضاً – بل الماعون هو ما يتعاوره الناس، يُعير بعضهم بعضاً، من أواني الدار والمنزل، كالأشياء التي ذكرناها، وما في معناها، وقال بعضهم كعبد الله بن عمر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – الماعون هو الزكاة، والحق المفروض في المال، قال هذا هو الماعون، تفسيرات كثيرة! على كل حال يبدو أنه الشيئ الذي يرتفقه الناس ويتعاورنه فعلاً، ولا يضرك أن تُعطيه، وإن كان مفروضاً عليك أن تُعطيه فيجب عليك أن تُعطيه، إن لم يكن مفروضاً عليك فلا يضرك أن تُعير جارك أو صاحبك أو أخاك شيئاً لفترة قصيرة أو ربما أطول من ذلك، ما لم تكن مُحتاجاً إليه، لماذا تُمسِكه عندك؟ ما هذا اللؤم؟ وما هذا الإمساك؟ وإن كان مفروضاً فينبغي أن تخرج من حقه وتُبرئ الذمة من الحقوق المفروضة.

هذا معروف، وهذا مُجرَّد تفسير لفظي للسورة، الآن ما العلاقة بين أول السورة التي استهلها الله – تبارك وتعالى – بالدمدمة والتثريب والوعيد الشديد بالويل – فَوَيْلٌ ۩، قال أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۩ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۩ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۩ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩ – والتي استهلها بالتساؤل عن هؤلاء المُكذِّبين للقاء الله وللبعث والجزاء بالمُصلين الذين يسهون عن صلاتهم؟ ما علاقة هذا الاستهلال وهؤلاء المذكورين في أول السورة بالمُصلين الذين يسهون عن صلاتهم؟ ما العلاقة؟

كأن السورة – والله تبارك وتعالى أعلم – تُريد أن تُنفِذ إلينا رسالة، هكذا! هذا سياق السورة والتأمل فيها يُجدي ويُعطي ربما هذا المعنى، تُريد أن تُنفِذ إلينا رسالة: التدين المغشوش الشكلاني الكاذب الزائف لا يفترق كثيراً عن الكفر، عجيب! السورة تقول هذا، لا يفترق كثيراً عن الكفر، ويلتقيان في ماذا؟ في آثارهما، الكافر بالله، الجاحد، المُنكِر للقائه، للحساب والجزاء، وللبعث والنشور، قاس، غليظ، مسيك، قاسٍ على الضعفاء، ظالم لأصحاب الحقوق حقوهم، وكذلك هذا صاحب التدين المغشوش، المُتدين تديناً زائفاً استعراضياً كاذباً، ليس تديناً جوهرانياً حقيقياً، ماذا؟ يفعل نفس الأشياء، إذا عمل عملاً طيباً إنما مُراءةً للناس، فقط! أي لابد أن يكون مردود معنوي وأدبي يعود إليه، إذا لم يُوجَد مردود لا يعمل هذه الأعمال الطيبة أبداً، لا يعملها! ولذلك هو في عموم أحواله أيضاً مسيك باخل بالمنافع وربما بالحقوق، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ۩.

هذا النظر – إخواني وأخواتي – ربما يترجَّح معه أن معنى الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ۩ هو السهو عن حكمة الصلاة، ليس عن وقت الصلاة، هو ساهٍ عن ماذا؟ عن حكمة الصلاة ومقصودها، أي هل أنت تُصلي؟ أتُصلي وتمنع الماعون؟ لا يستقيم، أتُصلي وتُرائي بعملك الذي ينبغي أن يُطلَب به وجه الله؟ إذن أنت ما صليت، ولو صلى حقاً لرفعته الصلاة وطهَّرته، لنما ونضج معها روحياً يا إخواني، فإذن قد يكون هنا السهو ليس عن ميقاتها، وإنما عن ماذا؟ عن مقصدها، عن هدفها، عن غايتها، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الله لا يقبل دعاء عن قلب ساهٍ، في ألفاظ أُخرى لاهٍ، ساهٍ! ما القلب الساهي إذن؟ هو هذا، يدعو ولا يستحضر عظمة الله، يدعو ولا يستحضر قدرة الله، يدعو هكذا، يدعو أيضاً وهو ساهٍ غافل وربما جاهل، بماذا؟ بحدود وآداب الدعاء، كثير من الناس هكذا – والعياذ بالله – طبعاً.

قبل أيام استمعت إلى سيدة تدعو على شعب عربي كبير، بعشرات الملايين، والله العظيم! لم أستطع أن أبقى في المجلس، قُمت مُباشَرةً، لم أستطع، اقشعر شعر بدني، وشعرت بألم شديد في قلبي، ما هذا؟ وعلى أساس أنها سيدة مُسلِمة مُلتزِمة وتقوم الليل، وذُكِر عنها الشيئ الكثير من هذه الفضائل، تدعو على هذا الشعب العربي المُسلِم الذي يعد بعشرات الملايين، أن يحرقهم الله بنار الدنيا قبل نار الآخرة، وأن يُعذِّبهم جميعاً عذاباً يتمنون – هذا ما سمعته منها – معه الموت ولا يجدونه، وأن… وأن… قلت ما هذا؟ أستغفر الله العظيم، ما هذا؟ ما هذه القسوة؟ كيف يُمكِن لمُتدين وكيف يُمكِن لإنسان عرف الله أو اقترب منه حتى ساعة في عمره أن يكون بمثل هذه القسوة؟! لا يُمكِن هذا، المُؤمِن الحقيقي لا يُمكِن أن يكون قاسياً حتى في حق وعلى مَن قسا عليه وعلى مَن ظلمه، لا يُمكِن أن يكون بهذه القسوة، تدعو وتظن أن الله – تبارك وتعالى – يفتح لها أبواب السماء ويستجيب لدعائها، لماذا؟ لماذا وعلى أي أساس؟

ألا تعلم هذه السيدة أنها – والعياذ بالله – اعتدت طويلاً وكثيراً وعميقاً في دعائها هذا؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، والله قيَّد الدعاء بألا يكون فيه ماذا؟ عدوان، هذا في سورة الأعراف، لا يُمكِن أن يقبل الله دعاءً فيه مثل هذا الكم من العدوان يا إخواني، وتساءلت طويلاً وتألمت حقيقةً، هزني هذا الموقف وآلمني وأشعرني بالمرارة، حقيقةً ليال طويلة وأنا أُفكِّر في هذا الموضوع، ما الذي يحصل؟ لماذا نحن هكذا؟ وبالمُناسَبة هذه الحالة تتكرَّر كثيراً طبعاً، ستقول لي هذا يتكرَّر كثيراً جداً جداً، يُظلَم هكذا بمقدار صغير فيأتي بدعوة هكذا كبيرة، والحمد لله، الحمد لله أن الله – تبارك وتعالى – لم يجعل في طوق البشر وفي إمكانهم أن يُنفِذوا ما أرادوا ثم يُحاسَبهم، أي كان يُمكِن لله أن يجعل الأمور على هذا النحو، أن يبني هذا الوجود وهذه النشأة البشرية على هذه السُنة – مثلاً -، أن مَن ظُلِم يقول له أنت مُخيَّر، تستطيع أن تدعو وسأستجيب لك بما شئت، ولكن سأُحاسِبك بعد ذلك يوم الدين على دعائك، أكنت عدلاً فيه أم كنت ظالماً مُتجاوِزاً؟ الحمد لله أن الله لم يفعل هذا، لو الله فعل هذا ومكَّن الناس من هذا لما بقيت هذه الدنيا ربما بضعة أيام أو بضع ساعات، لانتهت الدنيا، لأن العبيد عندهم مثل هذا الحقد، مثل هذه القسوة، مثل هذه العدوانية، ومثل هذا الظلم والظلام والإظلام، الذين لا يعرفون مأتاه ومصدره.

في الحقيقة المسألة قد لا تتوقَّف عند حد أنني ظُلمت أو أنه ظَلمني، لا! المسألة لها جذور في الحقد والحسد والغيرة غير الشريفة والتنافس غير الشريف، فهناك مَن يُريد فقط أي شيئ لكي يحرق الأخضر واليابس، ويظن نفسه أنه – ما شاء الله – بمنزلة ومقام من الله أن الله يستجيب له، لماذا؟ هل أنتَ من أبناء الله؟ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۩، هل أنتِ بنت الله؟ أستغفر الله، هل أنتَ ابن الله؟ ما هذا التفكير؟ وما هذه الطريقة؟ ليس أحد منا من الله بنسب، كلنا عبيد لمعبود واحد، كلنا مربوبون لرب واحد، لا إله إلا هو! كلنا في قبضة القدرة، يجب أن نتواضع.

ولذلك يا إخواني التدين الشكلاني كما أوحت هذه السورة الجليلة – أي سورة الماعون – تقريباً يُوشِك أن يُساوي الكفر، طبعاً هذا هو! أنت الآن أحياناً تنقلب حتى الصورة أمامك، ولنكن صادقين، تجد رجلاً في ظاهره غير مُؤمِن وغير مُسلِم، وربما يكون حتى مُلحِداً، ولكن عنده لُطف، عنده رقة، عنده رحمة بالناس، يفعل الخير أكثر من رجل يُصِر على أنه مُتدين وطقوسي، حريص جداً على المظاهر والأشكال والرسوم والزينة والزخرفة الدينية يا إخواني، حريص جداً على هذا، لكن يفيض قسوة، يفيض غلظة، يفيض بُغضاً وكُرهاً، يُريد أي سبب فقط لكي يُعبِّر عن هذا الكم المُريع المُفظع من الكُره الذي في قلبه، لماذا؟ لماذا؟ في حين يا إخواني كما تعلمون وأخواتي أن التدين الجوهري الحقيقي – يُمكِن أن نُسميه حتى الجوهراني إذا ركَّزنا على القلب، على القلب وعلى الجوهر من الدين – ما هو؟ التدين الجوهري هو الذي يقوم على صلة بالله – تبارك وتعالى -، تستجيب وتعكس، صلة! كيف تكون الصلة هذه؟ كما قلنا قُبيل قليل إياك أن تبني صلتك مع الله – تبارك وتعالى – على أنك ابن الله، كأنك ابن لله – تبارك وتعالى -، هذا هو، وهذه لُغة القرآن طبعاً، أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۩، لا يُوجَد الكلام هذا، أو أنك المُختار، العبد المُختار، مَن أدراك؟! أنزل عليك وحي أنك العبد المُختار المرضي؟! أو أن لك على الله حقاً بما قدَّمت من عبادة ومن دموع ومن بعض الأعمال الصالحة، لك حق على الله أن يُلبيك في كل ما تطلب وفي كل ما تدعو أن يُجيبك، لماذا هذا؟ ليس هكذا، لا! التدين الحقيقي يختلف، وطبعاً هو من ماذا؟ من عبد فينا، نحن نعيش على كوكب، هذا الكوكب نفسه – أي الأرض هذه كلها، الكرة الأرضية هذه، سبعة ملايير ونصف من البشر – كله مُجرَّد ذرة في الكون، حبة رمل، والله أقل من حبة رمل، حسبما يقول علماء الفلك والكوزمولوجيا Cosmology، أقل من حبة رمل، لرب عظيم، لا يُقادر قدره، ولا يدري أحد سعة ملكوته ومُلكه، لا إله إلا هو! وأنت عبد في مُنتهى الضآلة، شرف لك عظيم أنه دلك عليه وسمح لك أن تُقيم علاقة معه، أن تتصل به، أن تتحدَّث عنه وتتحدَّث معه وتطلب إليه وتطلب منه، أكبر شرف على الإطلاق! ولكن ينبغي أن تكون هذه العلاقة مُستجيبة لهذه الحقائق الضخمة الكبيرة، حقيقة فقرنا وغناه، نحن نفتقر إليه في كل شيئ والله، بالله العظيم هذا العبد الضعيف الفقير الذي يُكلِّمك الآن لو انقطع عنه مدد الله أقل من طرفة عين لسقط، أسقط هكذا كومة لحم وعظم، وينتهي كل شيئ، في أقل من طرفة عين! وأنتَ وأنتَ وهي وهي، كلنا ذلك الرجل، كلنا ذلك العبد المُفتقِر إلى الله في كل نفس من أنفاسه.

في العامة – وأحياناً يكون تدين العامة أحسن من تدين هؤلاء الشكلانيين الكذّابين، حتى وإن كانوا رجال دين كباراً – دائماً كلما ذهبت في مشوار بسيط جداً مَن يقول لك الحمد لله على السلامة، هو يعلم فعلاً أنه كما تقول العامة في كل خُطوة تحتاج إلى السلامة، هو يعلم! لكن أنا ذهبت مسافة ثلاثين كيلومتراً Kilometre, ومع ذلك الحمد لله على السلامة، كان يُمكِن أن تذهب وألا تعود، عادي! حادث طرق أو أي شيئ وينتهي كل شيئ، كثير من الناس ينتهون بالطريقة هذه، فالحمد لله على السلامة، والنبي علَّمنا أكثر من هذا، في كل نومة واستيقاظة تحمد الله وتستحضر هذا المعنى، باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي… قد يُمسِكها، وكأين من رجل وضع جنبه لينام فكانت آخر نومة، لم يقم، وكل يوم نسمع عنهم، قال لك أحدهم هذا المسكين نام، أخذ قيلولة، ولم يقم، عادي! يحدث هذا، والنبي كان دائماً يستحضر هذه المعاني، ويُريد منا أن نستحضرها، باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها… أعطيتني عمراً جديداً وحياةً جديدةً، كل يوم والله نفتح فيه أعيننا – ونرجو أن نكون نفتحها على ذكر الله تبارك وتعالى وعلى قرآن الفجر، اللهم أقدِرنا ولا تخذلنا يا رب العالمين، والطف بنا – هو هدية جديدة، وما أحد أوجب هذا على الله، هذا من كرمه، من واسع كرمه، أعطاك فُرصة جديدة، لتتوب وتؤوب وتُصلِح ما فسد وتصل ما انقطع وتستعد للقاء، هو هذا معناه، ليس من أجل أن تأكل وتشرب وتلعب وكذا، لا! هذا مضمون لك، أن تأكل وأن تشرب، هذا مضمون لك، لكن ليس من أجل هذا، هناك شيئ أبعد من هذا وأشرف وأعز من هذا وأغلى من هذا، هو هذا! وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، يا الله! ما هذا الدعاء؟ ما هذا الدعاء الغريب؟ والله شيئ غريب، أُقسِم بالله! شيئ غريب، هذا رسول الله، هذا محمد، صلى الله على محمد وآل محمد، تخيَّل!

إذن ستقول لي التدين الجوهر ما هو؟ التدين الجوهري هو هذا، لا هو فلسفة ولا هو سياسية ولا هو نظريات في الاجتماع والأخلاق، لا! ليس هذا، التدين الحقيقي هو الذي يحتاجه الرئيس والمرؤوس، العالم والجاهل، النبي وأتباعه من أمته، الذكر والأُنثى، الكبير والصغير، والأسود والأبيض، الكل يحتاج هذا، كل أحد يحتاج هذا التدين، صلة بالله، علاقة بالله، أي التدين، وليس كلاماً على المنابر أبداً أبداً، وليس طقوساً مع بعضنا البعض نُؤديها، ليس هذا التدين الحقيقي، وطبعاً نحن لسنا ضد الطقوس، انتبهوا! والطقوس من الدين قطعاً، وسنقول لماذا، ولكن جوهر الدين ما هو؟ لا ينبغي أن تأخذ بالأشكال وتترك الجوهر، كإنسان يأتيك بثمرة عزيزة وبإنسان جائع جداً، حتى إذا أخذها وجدها قشراً، اللُب مُفرَغ منها، ما الفائدة؟ ماذا أفعل بالقشر أنا؟ هذا القشر عموماً يُرمى في الأخيرة، نحتاج إلى لُبه، ولذلك هذه الصلاة، صلاة السهو صلاة لا تُجدي على صاحبها مقاصدها الحقيقية، لا تُوثِّق علاقته بالله – تبارك وتعالى -، لا تنعكس في خلائقه وسجاياه وتصرفاته مع عباد الله، الله يقول ويل له من هذه الصلاة، ويل له، عجيب! ويل له من هذه الصلاة؟ نعم، ويل له من هذه الصلاة، قال فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، تعليق الحُكم بالمُشتَق مُشعِر بعلية ما منه الاشتقاق، فلماذا استحقوا الويل؟ لأنهم يُصلون، أي صلاة يُصلون يستحقون عليها الويل؟ صلاة السهو والقسوة والغلظة هذه، يُصلون ويُراءون ويمنعون الماعون، ولا يفهمون ما الصلاة ولا ما هي مقاصد الصلاة، فويل لهم، ويل لهم من صلاتهم، فكيف إذن لو لم يُصل يا رب؟ كيف لو لم يُصل ومنع الماعون أيضاً وفعل الأشياء المنهي عنها؟ هذا ويل له ثم ويل له ثم ويل له، هذا ليس ويلاً واحداً.

ذُكِر لرسول الله عند الإمام أحمد في مُسنَده الآتي، قيل له يا رسول الله إن فلانة يُذكَر من كثرة صيامها وصلاتها – قال حتى الصحابي يُذكَر، وربما قال قيامها – غير أنها تُؤذي جيرانها، امرأة لسانها ليس حلواً، امرأة مُرة، وبعض الناس تجدونه مُراً يا إخواني، حلانا الله وإياكم بحلاوة الإيمان والأخلاق العالية، هناك مَن عنده مرارة، تجلس معه فيتشكى دائماً، يتشكى ولا يُعجِبه العجب كما يُقال دائماً، وإن تكلَّم تكلَّم بقسوة، إن نقد نقد بقسوة، يقطع رؤوس الناس، صعب جداً، وهذه كذلك، لسانها ليس حلواً، تُؤذي الناس، أنتِ البعيدة كذا، أنتِ كذا، أنتِ كذا، وأنتِ كذا، قال هي النار، أهي في النار هكذا؟ قد يقول لي أحدكم هذا الحديث ينبغي أن يكون موضوعاً، لا يُمكِن أن نُسلِّم به، وأنا فكَّرت هكذا لأول وهلة، وهذا الحديث قد يكون مكذوباً، لماذا؟ لأن الفقه القرآني والعدالة القرآنية تُفهِمنا أن المسألة ليست هكذا في الظاهر، كيف؟ المسألة تتعلَّق بالموازين يوم القيامة، أليس كذلك؟ صلاتها ستُوضَع في كفة الحسنات، وكذلك صيامها وصدقتها وقيامها وحجها وعُمرتها، وكل شيئ سيُوضَع في الميزان، وإيذاؤها لجيرانها – إلى آخره – سيُوضَع في كفة السيئات، كيف النبي قضى مُباشَرةً هكذا – إن صح الحديث، والظاهر أن سنده قوي -؟ كيف قال هي في النار؟ لا، لا أُرجِّح فضلاً عن أن أقطع أن الحديث موضوع ومكذوب، بالعكس! وقد يكون صحيحاً في واقع الأمر، والله أعلم، لماذا؟ لأن النبي قرآني، هو هذا، هذا الفقه القرآني العميق، تقولون لي هي تُصلي؟ قالوا نعم، هي تُصلي كثيراً، أي يُذكَر من كثرة صلاتها وقيامها، تُصلي كثيراً وتصوم كثيراً وكذا، نعم! واضح، واضح أنها من جماعة فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، واضح، النبي فاهم، النبي قرآني، ليس المُهِم أن تُصلي فقط، المُهِم أن نرى كيف تنعكس الصلاة في حياتك وفي مُعامَلاتك مع الناس، هل تعف عن أعراضهم؟ هل تعف عن أموالهم؟ هل تُقدِّم لهم الخير والندى؟ هل أنت رقيق رحيم رؤوف شفوق بهم وعليهم؟ هذا هو، فالنبي عرف مُباشَرةً، تُصلي وتصوم وتذكر وكذا، ولكن قاسية، غليظة، سيئة الملكة، سيئة الأخلاق والتصرفات مع الناس، قال هي في النار، علم أنه لا خير فيها، هذا هو، هذا المعيار الحقيقي، أرأيتم؟ وهذا فقه قرآني، هذه من جماعة فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩.

وكلمة ويل بالمُناسَبة في القرآن الكريم لا تُقال إلا في الذنوب الغليظة كما لاحظ الفخر الرازي، قال هذا اللفظ لا يأتي إلا في الذنوب الكبيرة الغليظة، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ – يُحرِّفون كلام الله – وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ۩، فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۩، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۩، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ۩، وينبغي أن يرى كل واحد فينا أين حظه من الويل هذا، نحن والحمد لله لم نكتب الآيات ولم نُحرِّفها، لم نُحرِّف في القرآن، نحن لسنا من هذا القبيل، فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۩، نسأل الله الستر والعافية، هل قلوبنا لينة وجلة من ذكر الله أم قاسية فتقسو وتعسو ولا تستجيب؟ المُؤمِن الحق أول ما يسمع ذكر الله، كلام الله، آيات الله، يوجل، تُصيبه حالة خوف وفزع وخشوع، مُباشَرةً! وتُصيبه حالة تطامن وتخضوع، وبعد ذلك يبخع لأمر الله مُباشَرةً، لا يتعداه.

حين دخل أحد المُؤلَّفة قلوبهم على سيدنا عمر بن الخطاب – وعمر كان أمير المُؤمِنين، هذا إمبراطور من الأباطرة الكبار، لكن هذا دخل بطريقته طبعاً الجلفة، وهو من أعراب البادية – قال هِي يا ابن الخطاب، والله إنك ما تُعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، وهؤلاء الناس بالمُناسَبة، هؤلاء الناس! مِن الناس مَن هم مثل هذا الرجل في كل زمان ومكان، إذا لم يُعط هو ما يُريد ويتمنى فعمر سيكون غير عادل، وقيلت لرسول الله، اعدل يا رسول الله – قال له ذو الخويصرة -، اعدل! فما هذه قسمة أُريد بها وجه الله، قال له ويلك، مَن يعدل إن لم أعدل؟! موجودون هكذا، إذا لم أُعط أنا ولم أُموَّل أنا فأنت غير عادل، وإن كنت عمر بن الخطاب، وإن كنت رسول الله محمداً، صلى الله على محمد وآل محمد، فهذا هو، يُوجَد ظلم عند بعض الناس هكذا، هو مركز الكون، يقيس كل شيئ بنفسه، إذا أحببتني وأكرمتني ومدحتني وعظَّمتني فأنت أحسن واحد، إذا لم تلتفت إلىّ فأنت أسوأ واحد، وهكذا! أي هو يرى نفسه كما قلنا ابناً لله، هو مركز الوجود، وهذه الأنانية تتعارض على طول الخط مع ماذا؟ مع جوهر الدين، وسوف نرى لماذا، مُستحيل أن يكون مُتديناً حقيقياً ويكون كذلك، يستحيل أن يرى نفسه مركز الوجود، بالعكس يا إخواني، العارف بالله أصلاً لا يرى لنفسه على أحد حقاً، فلماذا إذن؟ ولذلك لا يُعاتِب، ولا يُخاصِم، ولا يُضارِب، أي العارف، قالوا هكذا، قالوا هذه من صفة العارف بالله، كيف تعرف العارف؟ ترى أنه حتى حين يُظلَم لا يُعاتِب، تقطعه ثم تصله ولا يُعاتِبك، تحرمه ولا تُعطيه ولا يُعاتِبك، على الأقل يُمكِن أن يُوجَد عتاب، أي عتاب، لكنه لا يفعل هذا، لا يُعاتِب، لماذا؟ لماذا؟ ليس لأنه ربما يكون رجلاً رزيناً ورصيناً وعنده اعتاد بالنفس، لا! ليس هذا، لأنه لا يرى نفسه شيئاً، ولا يرى لنفسه على أحد حقاً، مَن يُريد أن يُعطي فليُعط، مَن لم يُرد أن يُعط فلا يفعل، مَن يُريد أن يتكلَّم ومَن يُريد أن يظلم فهو وما اختار، مَن أنا؟ فلماذا إذن العارف كان بهذه المثابة؟ لأنه قريب من الله، وطبيعي أنك كلما اقتربت من الله فأنت تقترب من ماذا؟ من العظمة المُطلَقة، من الله تقترب أنت، كل اقتراب جديد يجعلك تتصاغر، تتصاغر، تتصاغر، حتى تفنى عن نفسك، لا تعود ترى نفسك، هذا هو!

هذه علامة لا تتخلَّف، إذا رأيت أحدهم وهو يغضب وينتقم لنفسه وينتصر لنفسه ويُجَن جنونه فاعلم أنه من المُستحيل أن يكون عارفاً بالله، فهذه علامة لا تتخلَّف، يستحيل! العارف ليس كذلك، ولذلك النبي لم يكن يغضب لنفسه، النبي لم يكن كذلك طبعاً، هذا النبي! لا يهمه مَن تكلَّم فيه بشخصه هكذا أبداً أبداً، وهذا في الصحيح عن أمنا عائشة – رضوان الله عليها -، ولكن فقط كان يغضب لمحارم الله، فإذا انتُهكت محارم الله يغضب غضباً ولا يقوم لغبضه شيئ، أما لنفسه فلا، وهي قالت كان لا ينتصر لنفسه، لا يغضب لنفسه، يُقال له أنتَ وأنتَ وفيك يا محمد بن عبد المُطلب ويا ابن كذا، لكن هذا لا يهمه، عادي! احك، يُقال له أنتم بنو عبد المُطلب قوم مُطل، عادي! يضحك ولا يهمه هذا، لماذا؟ لأنه يعرف، يعرف نفسه، قريب من الله هذا، سيد العارفين، وتاج العارفين – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، أرأيتم يا إخواني؟ هو هذا.

فإذن التدين الجوهري الحقيقي تدين يقوم على ماذا؟ على الصلة، صلة العبد بالله، هذه الصلة تستجيب وتعكس، تستجيب للحقائق الضخمة الكبيرة، غنى الله وفقرنا، أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۩، وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ۩، قد يقول لي أحدكم ماذا لو آمنا؟ ولو آمنتم جميعاً فالله أيضاً غني شكور، لكن هو غني، غني عن إيمانكم، قد يقول لي أحدكم نعم، إذن من أين يأتي هذا الغرور والعُجب عند هؤلاء المُغفَّلين التائهين من المُتدينين تديناً شكلانياً زائفاً؟ لأنه صلى عدد من الركعات أو حفظ القرآن أو حج أو اعتمر أو أطال لحيته أو أقام الليل أو غير ذلك، صار يرى نفسه شيئاً كبيراً، صار يرى نفسه أحسن من الناس، ومن ثم هو يحتقر عباد الله ويقسو عليهم، من أين؟ هذا أتى من تدينه الشكلاني، هذا لم يتديَّن حقاً، لم يعرف الله، ولم يقترب من الله، لأنه يعلم – أي هذا المسكين – أو يظن أو يتوهَّم أنه له على الله حق، أي لأنه عبد والتزم الشريعة وابتعد عن المُحرَّمات، فله دالة وله حق على الله.

ولذلك في الحديث القدسي الجليل يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم – قيل هو محمد بن عبد الله، وهذا أكيد، أتقى العباد هو محمد، الله يقول لو أنكم جميعاً، أي لو كلكم، كنتم على قلب محمد، أي أصبحتم مُحمَّديين كلكم – ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، إذن قصِّر، قصِّر وأقصِر من هذا الغرور الزائف المريض، الذي هو لعنة، لعنة وغش كبير في التدين وفي الدين يا إخواني، والمُشكِلة أننا ندفه ثمنه، صرنا ندفع ثمنه الآن، صرنا كشعوب وكأُناس ندفع ثمن هذا الغش وهذا الكذب في التدين، قصِّر من هذا! أين أنت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ إلى أين يُذهَب بك؟ ليس بشيئ عند الله هذا.

ونفس الشيئ: ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم – قيل هو فرعون، وبعضهم قال أبو جهل، لا! فرعون لا يزال ألعن من أبي جهل هذا، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ۩ – ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً، غنى! إذن حين تديَّن تديناً حقيقياً دائماً تكون واعياً بهذه الحقيقة، أنني أقترَّب من الله وأُحاوِل أن أعمل، وأُحاوِل أن أتملَّق لله وأتزلَّف عنده – لا إله إلا هو -، وهو الغني عني وعن عبادتي وعن ديني، فمهما فعلت من هذا ومهما أحسنت وجوَّدت عائدته وثمرته علىّ وإلىّ، لي! هذه لي أنا، من أجل أن أنجو أنا وأسعد في الدنيا والآخرة، فقط! لكن هو لا يهمه هذا، انتبه إلى هذا، هذا هو، أنت لن تزيده أبداً، وحين تعصيه وكذا لن تنقصه، لا أنت ولا كل العالمين، لأنه رب، لا إله إلا هو! خلقنا بــ كُن فَيَكُونُ ۩، فإذن هذا التدين الجوهري، يقوم على الاستجابة لهذه الحقيقة، غناه وفقرنا، كبريائه وصغارنا، قوته وضعفنا، علمه المُطلَق وجهلنا التام، إلى آخر هذه المعاني.

وبالتالي يا إخواني إذا تديَّن العبد بهذه الطريقة فما الذي سيعود به؟ أول شيئ كما قلنا سيُصبِح أكثر تواضعاً، سيكون عنده تواضع حقيقي، ماذا قال عمر حين قال له هذا – أي هذا الحمق – ما تُعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل؟ قال هذا للإمبراطور عمر، فيقول ابن عباس فهم عمر أن يُوقِع به، يُريد أن يرفع الدرع لكي يضربه، مَن أنت؟ أنت قليل الأدب وأنت جالس، ما قلة الأدب هذه؟ فابن أخيه قال له يا أمير المُؤمِنين قال الله – تبارك وتعالى – خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، وهذا من الجاهلين، يقول ابن عباس فوالله ما جاوزها عمر، جلس مُباشَرةً، ما دام الله قال هكذا فالأمر مُنتهٍ، نِعَم ما قال الله، الله قال – علَّمنا هذا – وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، حين يجهل أحدهم عليك اقعد، ولا يكن رائدك وقدوتك ومثالك طرفة:

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا                                       فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا.

هذه جاهلية، جاهلية الجاهليين هذه، القرآن ليس فيه هذا، القرآن فيه أن تستجيب للجاهل بماذا؟ سَلامٌ ۩، قال سَلامٌ ۩، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ۩، السلام عليكم، السلام عليكم؟ نعم، السلام عليكم، فعمر ما جاوزها.

ولذلك عمر كان يقول خير من ذكر العبد لله بلسانه أن يذكر الله عند أمره ونهيه، شخص قاعد لكي يتلو الآيات وكذا، ويقول لك أنا أذكر الله، جميل! هذا طيب ومطلوب، لكن هذا ليس الغاية الأبعد، ليس الأمد الأقصى، لا! هناك غاية أبعد، وهناك أمد بعد، ما هز؟ قال خير من ذكر العبد لربه بلسانه أن يذكر الله عند أمره ونهيه، ماذا يُريد الله وماذا لا يُريد؟ ماذا يُحِب وماذا يكره؟ أمر بماذا ونهانا عن ماذا؟ ونلتزم، هذا الإيمان، هل هذا واضح يا إخواني؟

وماذا بعد؟ الله كما تعلمون – إخواني وأخواتي – مصدر الجود، مصدر الكرم، مصدر الرحمة، مصدر العفو، مصدر العطاء، مصدر النعم، وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۩، وأنت أيها العبد صاحب التدين الحقيقي الجوهري اقترب من الله، ستزداد@ ماذا؟ كرماً وسخاءً ورحمةً وعفواً وإنعاماً على الناس، طبعاً! لأنك عبد رباني، لا يُمكِن غير هذا، وهذا ليس بيدك ولا بخاطرك ولا بإرادتك، هذه ثمرة الإيمان، هل هذا واضح يا إخواني؟

بهذه الطريقة تُحَل مسألة ربما بعض الناس يتهوَّك ويتحيَّر فيها، لِمَ قد نجد امرأةً أُميةً أو رجلاً أُمياً لا يكتب ولا يقرأ، لا يضع سواداً في بياض المسكين، ولكن تدينه مُعجب ومُغرٍ؟ تدين جميل جداً جداً، لا يذكر الناس إلا بالخير، ولا يتأخَّر عن فعل الخير، وليس من الناس إلا في خير، على أنه عامي، أي هذا المسكين، ولا يستطيع أن يقرأ في المُصحَف، وربما لا يحفظ إلا قصار السور فقط، يُقيم بها المسنون في صلاته، فلماذا إذن تدينه أجمل وأحسن وكذا؟ بكل بساطة – هذه طبيعة الأمر – لأنه مُتدين، هذا تديَّن، تديَّن هذا، لم يستعرض الدين، لم يتكلَّم مثلنا عن الدين، ولم يُفلسِف الدين، لا! هو تديَّن، والتدين آتى ثماره تلقائياً، كما أقول دائماً أنت الآن دون أن تدري – وقلتها حتى قريباً – قد يحدث معك الآتي، قد يكون هناك امرؤ بدائي، امرؤ بدائي تماماً، لم يسمع في حياته بكلمة فيتامينات Vitamins وبروتينات Proteins، لا يعرف هذه الأشياء أبداً، يعيش هكذا في المجاهل كما يُقال، في مجاهل بعض القارات، ولكن هذا يتناول طعامه ويصدف دائماً أن يكون هذا الطعام الطبيعي من الغابة مُتكامِل الأركان، أي فيه بروتينات Proteins وفيه كربوهيدرات Carbohydrates وفيه فيتامينات Vitamins وفيه أشياء، فتجد صحته وعافيته مُكتمِلة تامة، أي هذا الجاهل، وطبيب أو بروفيسور Professor في علم وظائف الأعضاء – نفترض – مهزول ويُعاني من فقر الدم، بروفيسور Professor كبير في إحدى جامعات أوروبا وأمريكا، لكنه مهزول ويُعاني من فقر الدم ومن المشاكل العديدة، لماذا؟ غذاؤه الذي يتناوله ليس مُتكامِلاً، ويعلم هو هذا، ليس مُتكامِلاً! هذا الفرق بين العامي وبين رجل دين يتكلَّم في الدين وهو غير ديِّن، غير ديِّن، رجل دين ويغتاب الناس، رجل دين ويطعن في الأعراض، رجل دين ويكذب ويُزيِّف – والعياذ بالله -، نعم! نعم! وهذا يقع في كل الأديان، ليس في الإسلام وحده وإنما في كل الأديان، وهناك شخص أُمي وعامي وبسيط ليس كذلك أبداً أبداً أبداً، ولا أجمل! ولا أجمل! القضية هنا ليست قضية معرفة، أن هذا عنده وهذا ليس عنده معرفة أو علم أو معلومات، لا! ليست هذه القضية، القضية أن هذا تديَّن حقاً، هو يعرف أن الدين كما قلت في جوهره اقتراب من الله، اقتراب! مُراعاة لله – تبارك وتعالى -، تُراعيه عند الأمر والنهي في الخلوة والجلوة دائماً، تعلم أنه رقيبك و: قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۩.

العاميون يعلمون هذا، وبطريق حسنة وجيدة يا إخواني، أي ويستحيون من الله – كثير منهم – ويخافون، ورأينا نحن أن آباءنا وأمهاتنا هكذا، عندهم هذا شئ فظيع، عندهم شهادة الزور – مثلاً – شيئ فظيع جداً جداً جداً، لا يُمكِن هذا، لا يُمكِن هذا حتى لو سيُقطَع رأس الواحد منهم، فلماذا إذن نحن نرى رجال دين ومُتدينين هم يأتفكون ويختلقون الأفائك والزور؟ لأن مَن يفعل هذا ليس عنده إيمان، الإيمان الحقيقي ليس غير موجود، يُوجَد إيمان شكلاني، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، ويل للمُصلين.

هذا هو الفرق يا إخواني بين هذه الحالة وهذه الحالة، أعتقد أنه ينبغي علينا – وأختم هذه الخُطبة بهذا الكلام – فيما يخص الوعظ – مثل هذه المواعظ حتى والدروس الدينية – أن نختط خُطة جديدة، ينبغي أن نختط خُطة جديدةً حقيقةً، في السنوات السابقة أو في العقود السابقة أعلينا إلى الغاية وأعلينا جداً من ماذا؟ من اعتبار المظاهر والطقوس والشكليات، تكلَّمنا كثيراً عن أهمية أن نُصلي وأن نُصلي الجماعات وأن نُصلي الجُمع، وعن أهمية الحجاب والجلباب والنقاب واللحى، وعن أهمية قيام الليل، وفتحنا دور تحفيظ القرآن الكريم، وتكلَّمنا عن أهمية حفظ القرآن، جميل جميل جميل جميل، كل هذا كان يُمكِن أن يُساهِم أحسن مُساهَمة في جعلنا من خير الناس وأفضل الناس، ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأننا تقريباً – ولا أُعمِّم طبعاً – قلنا هذا واكتفينا به، فالناس فهموا أن هذا هو مُنتهى المُراد من رب العباد، أُطلِق لحية وأرتدي جلباباً وأُصلي في المساجد وأحفظ القرآن وأحفظ في البخاري ومُسلِم وهذا هو الدين، لم يسمعوا كلاماً طويلاً عريضاً عميقاً في جوهر الدين وقلب الدين وسر الدين والإخلاص والصدق والمُراقَبة والمُحاسَبة والمُكاشَفة والإحسان، مقام الإحسان أعلى المقامات، إسلام، إيمان، وإحسان، لم يسمعوا كلاماً كثيراً في الإحسان، سمعوا كلاماً كثيراً فقط في الإسلام، في الظواهر والشكليات، وأقل منه في الإيمان، والإحسان تقريباً غائب، تقريباً غائب! هل هذا واضح؟ وإذا أراد بعض الناس أن يفتح باباً للإحسان قيل لك عنه هذا مُتصوِّف، درويش، غيبي، خُرافي، رجعي، ومسكين هذا، يسخرون! شيئ غريب، الأمور مُختلِطة تماماً، فطبعاً صرنا إلى مثل هذه الحالة التي لا تُحمَد، لا هي محمودة، ولا عقباها محمودة يا إخواني، بل عقباها مذمومة جداً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

لو أن رجلاً اختدعك أو خدعك فقال لك خُذ هذه الرُقية، ردِّدها خمسة آلاف مرة – ليس حتى خمسمائة مرة، وإنما خمسة آلاف، أو خمسين ألفاً، أي ردِّدها خمسين ألف مرة، وهذا قد يحتاج منك عشرين ساعة مثلاً -، وبعون الله إن فعلت هذا على مدى شهر أو شهرين يتحقَّق لك كل ما تدعو به، كل ما تدعو به! وأنت فعلت هذا، كل يوم تقعد يا مسكين عشر ساعات أو ثنتي عشرة ساعة، وبعد ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر جاءتك مُصيبة، ماتت زوجتك، أو دهست سيارة ابنتك، أو ابنك في الجامعة لم يتخرَّج ورسب، أو طُرِدت من الشركة، ما الذي سيحصل؟ على الأقل ستكفر بهذا الرجل وتكفر بهذه الرُقية اللعينة، وتقول يُمكِن أن يكون كل هذا الشؤم جاء بسبب هذه الرُقية، والقضية خطيرة بالمُناسَبة، القضية خطيرة جداً.

لماذا أقول هذا؟ أقول هذا فقط – وسأختم بهذا – لأن الكلام في الدين والدعوة إلى الدين والتبشير بمبادئ الدين وأخلاق الدين وأحكام الدين كثير، الكلام في الدين كثير كثير كثير، باستمرار! هناك منابر وفضائيات وكُتب ومواعظ على مدار الأربع والعشرين ساعة، على أساس أن الدين يُحيط بنا من كل جانب في العقود الأخيرة القريبة، ورأينا النتائج، ورأينا ونرى النتائج، بصراحة – وقلتها قبل ذلك، وأعود لكي أقولها، لكن كما قلتها أنا سمعتها الآن من عشرات الناس، لن أقول لك عدداً آخر، لكن سمعتها من عشرات الناس – هناك مَن يقول لك عندي بعض المال، خمسة آلاف أو عشر آلاف، لا أجد وليس عندي قناعة ولا طمأنينة أن أدخل في مُغامَرة أو استثمار مع أيٍ من أصدقائي أو إخواني أو جمهور مسجدي، سمعتها أكثر من مرة، وأنا أُوافِق على هذا، لأن التجارب تقول لك لا تفعل، إذا فعلت فستخسر كل شيئ، فأين هذا إذن؟ فما الصلاة هذه؟ أنا أُصلي معه من عشرين سنة في المسجد، هذا لا تفوته جُمعة، سمع ربما ألفي خُطبة، فما الذي يحصل؟ شيئ مُخيف، أليس كذلك؟ شيئ مُخيف! وطبعاً هناك أشياء أبشع وأشنع من هذا بكثير، أنه يغرك عن مالك ويتغوَّل مالك، لا! يُمكِن أن يصل الأمر إلى العرض وإلى أي شيئ، عجيب! ما الذي يحصل؟ الذي يحصل قضية، والذي سيحصل هو قضية أنكى وأنكر وأبشع وأشنع، الذي سيحصل – إن استمر الأمر على هذه الشاكلة وعلى هذا النحو – هو الآتي، سيخرج الناس – وخاصة أعني أولادنا وبناتنا – من دين الله أفواجاً، يقولون لكم خلوا هذه الغفلة لكم، أنتم أُناس مُغفَّلون وكذّابون، أنتم مُراءون@ وأدعياء ومُفتعِلون، لم نر منكم ولم نر من جيلكم ولا من هذه الأوساط ما يجعلنا نطمئن، نطمئن ونخشع لهذا النمط من التدين.

يظن المساكين هؤلاء – أعني أولادنا وبناتنا – أن الخطأ في الدين نفسه، ولا يجدون مَن يقول لهم لا، الخطأ ليس في الدين، الخطأ فينا نحن، نحن الذين كذبنا على الله ورسوله، كذبنا على الدين وعلى التدين يا إخواني والله العظيم، نحن وليس الدين، الدين مُستحيل أن يكون كذلك، مُستحيل والله العظيم يا إخواني، مَن عرف الدين ولو في الحدود الدنيا – كما قلت صلةً بالله – علم أن الدين مُستحيل إلا أن يكون أعظم قوة الوجود وعلى الإطلاق، ولا يُمكِن غير هذا، مهما فكَّرت لن تجد قوة تُضارِع الدين في جعل الإنسان ماذا؟ أكثر نُبلاً، وأكثر صدقاً، وأكثر طهارةً، وأكثر استقامةً، وأكثر أخلاصاً وأنانيةً، الدين! فقط الدين، انس غير هذا، لا تقل لي هناك أخلاق ومُجتمَع ومدنية وحضارة وقانون، كل هذا على عيني وعلى رأسي، كل هذا في كفة، لا يُمكِن أن يُقارَن بالدين، لحظة من مُراقَبة الله والعلاقة برب العالمين – ليس رب الحضارة ورب الأخلاق وإنما رب العالمين – ترجح بكل هذا والله العظيم، هذا هو الدين إذا عرفناه حقيقةً وإذا عرفناه جوهرياً، هذا قلب الدين.

يا إخواني الشيئ الذي لا يتجدَّد والشيئ الذي لا ينمو والشيئ الذي لا يُثمِر يُبتذَل ثم يُترَك وربما يُكفَر به، هل هذا واضح؟ واضح طبعاً، هو هذا، هذا معناه، ولذلك خطير أمر دينك أو ديني أو دينها، ونقصد بالدين هنا طبعاً التدين، تدينك هذا حتى على مُستواك الشخصي مُهِم، وهذا سيُجيب عن سؤال آخر ربما أيضاً حيَّر بعض الناس، لماذا نجد بعض الناس ونحن نعرفهم – إخواني في الحارة أو في الجامعة أو في المسجد، أعرفهم! إخوان لي هم، إخوة لي كما نقول في الله عز وجل، أعرفهم من ثلاثين سنة، هكذا يقول قائلنا – قد تغيَّروا؟ سيقول لك أحدهم والله لا أتردَّد أن أجزم وأقطع، يوم عرفته قبل ثلاثين سنة كان أفضل بكثير، كان أكثر استقامةً، أكثر نُبلاً، أكثر رجولةً، أكثر مروءةً، وأكثر صدقاً، الآن أصبح كما يُقال مُخادِعاً، أشبه بالمُنافِق، أشبه بالمُتقلِّب، قاس، غليظ، جاف، جاف فعلاً، وليس فيه حتى ماء الحياء وماء الصدق، فكيف هذا إذن؟ وهذا له ثلاثون سنة وهو في الدين! ما الذي يحصل؟

كما نقول دائماً وتعلمون هو لم يخض الدين تجربة حقيقية، تجربة الصلة بالله، لو خاضه كذلك لنما هذا الدين رُغماً عنه، ينمو باستمرار، وسيكون بعد عشرين أو ثلاثين سنة أحد العارفين بالله بسهولة، أحد العارفين بالله! تديَّن تديناً حقيقياً، وبعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة سيُصبِح عارفاً من العارفين بالله – تبارك وتعالى -، من أهل الأسرار والأنوار، اللهم ألحِقنا بهم وسلِّكنا في طريقهم.

لكن التدين الشكلاني – كما قلت لكم مثل الرُقية الخائبة الكاذبة – لا ينمو، لا يتجدَّد، وبالتالي لا يُثمِر، هو كما هو، والشيئ هو كما هو يجمد، أنت ائت بأحسن جهاز عندك الآن، بعد عشر سنين سيخرج من نفسك، يُصبِح قديماً، مُهترئاً، تعلوه الأتربة أصلاً، مُتقادِماً، لأنه جهاز مادي، لا يتجدَّد هذا، لا يتكاثر، لا يتوالد، ولا ينمو، وكذلك الدين والأخلاق والنظريات هذه الجامدة الشكلانية الكاذبة، لا تنمو هذه، لا تتجدَّد، لا تُثمِر، ولا تتوالد، فطبعاً صاحبها يزهد فيها، وهذه المُشكِلة، ليس الناس حتى وإنما هو نفسه، يقول لك دع هذا الدين، نحن جرَّبناه، فلماذا أنا أُفوِّت الصفقة هذه؟ هل أُفوِّت هذه المنفعة من أجل هذا الدين؟ ما هذا الدين؟ دين ماذا؟ نحن من ثلاثين سنة في هذا الدين، ولم نر شيئاً من الدين! وأنا أقول لك أنت الذي لم تر، العيب ليس في الدين، العيب فيك، وفي نمط تدينك، أليس كذلك؟ وواضح أنك طبعاً تُريد شيئاً آخر، من الأول أنت أخذت الدين ودخلت في الدين على أساس ماذا؟ على أساس أنك تستغل – أستغفر الله العظيم، اللهم غفراً، وسأكون مُؤدباً، هذا ما يجب – السماء، ولن أقول أكثر من هذا، أنت من الأول داخل وأنت تُريد الدين من أجل استغلال السماء، من أجل ماذا؟ من أجل مصالح الأرض الخسيسة.

قد يقول لي أحدكم وهل يُوجَد مانع من هذا؟ لا يُوجَد مانع، ولكن على طريقة ماذا؟ على طريقة أنه يأتي عرضاً، لا غرضاً، الدين لا يكون من أجل أن تستغل الله – أستغفر الله العظيم -، لكي يعمل لك ما تُريد، ليس هكذا الدين، ليس هكذا الدين! الدين حتى لو وُلدت أنت أكمه وأشل وفيك كل العلل والعبر كما يقول الإخوة المصريون لابد أن تحمد الله وتراقب الله، لابد أن تحمده وأن تشكره على ما أنت فيه، أليس كذلك؟ هو هكذا، ولن تُؤمِّل في أن تُصبِح بطلاً في الكاراتيه Karate ولا عداءً ولا حتى مليارديرياً، أنت كإنسان وُلِدت هكذا، ولكن هذا هو، كذلك الدين، هذا جوهر الدين، لكن الأمر سيختلف إذا دخلت على دغل مُنذ البداية وأردت أن تستغل الدين لأهوائك ومصالحك الشخصية، تماماً كجماعة يهود المدينة الذين أرادوا نبي آخر الزمان، ليس من أجل أن يتبعوا شرعه ويتبعوا الأوامر ويُصلِحوا أوضاعهم، لا! من أجل ماذا؟ من أجل أن يُسلِطوه سيفاً على رقاب أعدائهم من الأوس أو الخزرج، أليس كذلك؟ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ۩، سوف ترون، غداً سوف يأتي نبي آخر الزمان، وسوف نُرينكم، لنذبحنكم، لنقتلنكم قتل عاد وإرم، أهذا هو الدين؟ هل أن تُريد الدين من أجل أن تُصفي به خصومات وحسابات؟ أي دين هذا؟ طبعاً: فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ۩، وهذا الدين الخاص بنا اليوم أيضاً، نُريد ديناً لكي نُصفي به خصومات، المنابر هذه تُصفى فيها خصومات، وقالوا ونقول وقد قال فلان وأنا أقول! ماذا تفعل؟ هل أنت أتيت لكي تُصفي خصومات على منبر رسول الله؟ وبالأسماء! ما شاء الله بالأسماء، قال فلان الفلاني وقال فلان العلاني ونقول له وقلت له! المسألة تتعلَّق بخصومة شخصية، وماذا يُستغَل فيها؟ قال الله وقال الرسول، والله عجبي، والله عجباً، أُقسِم بالله يا إخواني، عجباً! لتصفية خصومات، فهذا هو.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُصفي قلوبنا ونفوسنا من سخائمها وأحقادها وضغائنها ومساوئها وسفاسف أمرها.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، قدِّس ضمائرنا، ونوِّر سرائرنا، أعِذنا من شر نفوسنا، وألهِمنا رُشدنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إلهنا ومولانا رب العالمين.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (29/6/2018)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: