إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ۩ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ۩ اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ۩ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ۩ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الكريمات:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا ۩، أي من ظلمهم لأنفسهم، كفراً وعصياناً وتنكباً عن سواء السبيل، كما قال – سُبحانه – في الآية الأُخرى من سورة النحل وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ۩، هنا قال بِمَا كَسَبُوا ۩، أي من المظالم المُختلِفة، كبيرها وصغيرها، ولا سيما الكبائر بلا شك، وفي قاعها الشرك – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ ۩، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ۩، وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۩، الأجل المضروب، الذي ضربه – سُبحانه وتعالى – لهم إلى أمد وإلى أمة معلومة من الزمان، ضربه إلى أمة وأمد معلوم من الزمان، كما قال – سُبحانه وتعالى – وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ۩، أي لولا الكلمة ولولا الأجل المُسمى لَكَانَ لِزَامًا ۩، لَكَانَ لِزَامًا ۩ ماذا؟ أن تحل بهم القوارع، أن يحل بهم العذاب الأليم، أن يأتيهم العذاب بغتة، لكن منع من ذلكم شيئان، كلمة سابقة من رب العزة والجلال، والأجل المضروب، أي الأجل المُسمى، وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ۩، أي وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ۩، لَكَانَ لِزَامًا ۩.

ما هي هذه الكلمة التي سبقت من ذي العزة والجلال – لا إله إلا هو -؟ الأكثرون على أنها هذه الكلمة العظيمة الجليلة: إن رحمتي تسبق غضبي، سبقت رحمتي غضبي، فهو الصبور، وهو الحليم، وهو العفو، وهو الغفور، لا إله إلا هو! ولذلك تسبق رحمته غضبه.

ورحمته – سُبحانه وتعالى – وصف ذاتي، وأما غضبه فهو من صفات أفعاله، لا إله إلا هو! اسم فعل من أفعاله، وأما الرحمة فهي من أسمائه الذاتية، لا إله إلا هو! من أسمائه الذاتية، فهي وصف ثابت، ولذلك تسبق غضبه.

وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ۩، وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ۩ في الآية الأُخرى من سورة النحل، وهذه كالآيات الأواخر من سورة فاطر.

أيها الإخوة والأخوات:

حديثنا هذا اليوم – إن شاء الله تبارك وتعالى – عن صفة من صفات الله، عن اسم من أسماء الله – سُبحانه وتعالى -، عن اسمه الحليم، وهاتان الآيتان من خير ما يُعبِّر عن هذا الاسم، أعني آيتي وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ۩ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا ۩، أظهر ما يُستدَل به على حلمه – تبارك وتعالى -، هناك آيات كثيرة، وصف نفسه – سُبحانه وتعالى – فيها بالحلم، ولكن هذا الحلم دائماً – وهذا شأنه شأن باقي الأسماء والصفات – يأتي مقروناً بغيره، فبنا أو حري بنا أن ننظر في شكل هذا الاقتران، يقترن الحلم بالعلم، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ۩ في الحج، الحلم يقترن بالعلم، يقترن بالمغفرة، غَفُورٌ حَلِيمٌ ۩، يقترن بالشكر، شَكُورٌ حَلِيمٌ ۩، يقترن بالشكر! هو شَكُورٌ حَلِيمٌ ۩، ويقترن بالغنى، غَنِيٌّ حَلِيمٌ ۩، ما سر هذا الاقتران بالعلم، بالشكر، بالمغفرة، وبالغنى؟ اقترن بهذه الصفات والأسماء الأربعة في آيات كثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى! سوف نفهم سر هذ الاقتران في آخر الخُطبة، بعد أن نُفيض بما قدَّر الله ويسَّر – سُبحانه وتعالى – من بيان طرف من أطراف معاني هذا الاسم.

بعض السادة العلماء – رضوان الله عليهم أجمعين وأعاد الله علينا من بركاتهم – آثر أن يُعرِّف هذا الاسم الجليل وهذا الوصف الخطير – الحلم أو الحليم – بأنه الذي يُؤخِّر العقوبة عن عباده، يُمهِلهم ويُنظِرهم ويُؤجِّلهم ويُؤخِّر عنهم العقوبة، وهذا فيه قصور شديد.

علَّق الإمام الفخر الرازي – رحمة الله تعالى عليه – في لوامع البيّنات فقال فإن كان هذا التأخير لأجل أنه لا يستطيع أن يُعاقِبهم فهو عجز، الله – عز وجل – ليس بعاجز، وهو يستطيع أن يُعاقِبهم الساعة، على التو، فوراً، من فوره! وإن كان هذا التأخير لأجل أنه يُريد أن ينتقم منهم فيما بعد فهذا الحقود، الحقود يُؤخِّر ويُنظِر لكي يُنزِل انتقامه الشديد بخصمه بعد ذلك، فهذا الحقود، وإن كان يُريد ألا يُنزِل بهم العقاب أو العذاب البتة فهذا هو العفو والمغفرة، هو عفو وغفور، فأين الحلم من ذلك؟ انظروا إلى هذا السؤال الذكي، ولنا تعقب على كلام الإمام الرازي – رحمة الله تعالى عليه -، وهو من جهابذة علماء الكلام، من جهابذة علماء العقيدة، ولكن أيضاً في كلامه ما يُؤخَذ عليه.

أما أن الله – تبارك وتعالى – حليم لأنه يُؤخِّر العذاب والعقاب فهذا ما نطق به الكتاب والسُنة، لا يستطيع الفخر ولا غيره أن يُنكِره، حلمه – أيها الإخوة والأخوات – لا يعني أنه يُسقِط العقوبة جُملةً وتفصيلاً، كلا! لو كان ذلك كذلك فهذا هو العفو الغفور، وانتهى الأمر، لكن في الحلم معنىً زائداً، نعم هو يُؤخِّر وبعد ذلك يأخذ العباد بما أعده لهم من صنوف العذاب وأليم العقاب، ولا يتناقض هذا مع حلمه، بالعكس! هذا أظهر معنى من معاني الحلم، وهو بعض معنى الحلم، والدليل عليه أن الله – تبارك وتعالى – وصف خليله إبراهيم – عليه الصلاة وأفضل السلام – بأنه حليم، لكن في أي سياق وصفه بهذا الوصف ونعته بهذا النعت؟ في سورة هود، هذا هو السياق، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى ۩، البُشرى بالغلام الحليم، إسماعيل – عليه السلام -، وأيضاً هو غُلام حليم، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ۩، قال وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ۩، لماذا يُجادِل؟ يُريد من رب العزة والجلال أن يُؤخِّر العذاب عن قوم لوط، الله أخبره أنه أرسل الملائكة لاستئصال قوم لوط، وهؤلاء الذين بشَّروه هم الذين أخبروه، هم أنفسهم جاءوا إلى إبراهيم وزوجه وبشَّروهما بالغُلام الحليم، ثم أخبروه بعد ذلك أنهم مبعوثون من الله – تبارك وتعالى – لاستئصال قوم لوط، فلما ذهب الخوف أو الروع عن إبراهيم بدأ ونشب يُجادِل ربه في قوم لوط، لكي يُؤخِّر عنهم هذا العذاب، هذا هو معنى الحلم الأساس الرئيس، قال – تبارك وتعالى – إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ ۩، قال إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ۩ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ۩، وهذا لم يتناقض مع حلمه، لأنه أمهلهم وأخَّرهم، وأمهل لهم مُهلةً طويلةً، فلم يرعووا ولم ينزعوا عما كانوا فيه من خبائث وقبيحات المُنكَرات والأعمال – والعياذ بالله -.

هذا هو الأصل في معنى الحلم، أنه يُؤخِّر، لكن – كما قلت لكم أيها الإخوة والأخوات – هذا بعض معنى الحلم، وبعض معناه العفو والمغفرة، فلا يتناقض معه، وبعض معنى الحلم أن يعفو وأن يغفر، الله – تبارك وتعالى – في حق الكفّار لا يُمكِن أن يعفو وأن يغفر لكافر، لأن الله قال إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ۩، لكنه حليم بالقطع، حليم على جميع خلقه، حتى على الكفّار والملاحدة والمُجدِّفين في حقه، لا إله إلا هو!

ومن هنا أحسن جداً الإمام أبو بكر الحليمي شارح حديث شعب الإيمان، وهو من أحسن شروحه، وعليه نسج أو على منواله نسج أبو بكر البيهقي، رحمة الله عليهما جميعاً، قال الإمام الحليمي الحليم هو الذي يُوالي إفضاله وإنعامه على عبيده وإن عصوه وفجروا وكفروا، فهو يُنعِم ويُفضِل ويرزق ويهب ويُعطي الكفّار والفجرة من العُصاة – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، يقول الحليمي مع أن بعضهم كفر وبعضهم الآخر لا يخطر له أن يسأل الله أصلاً، هو غافل ذاهل عن الله، ومع ذلك الله يُعطي هذا ويُعطي هذا، كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۩، هذا هو أيضاً، هذا المعنى أصل في الحلم! حليم، لماذا؟ لأنهم في قبضته، لا يخرجون عن مُلكه.

روى الأئمة في تفسير قوله – تبارك وتعالى – وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ۩ من سورة الأنعام أن إبراهيم – عليه الصلاة وأفضل السلام – لما أُريَ هذا المُلك العظيم الوسيع المُنداح رأى ضمن ما رأى في الأرض – في هذه الدنيا – رجلاً مُقيماً على معصية، يُقارِف معصية كبيرة، فدعا عليه أن يهلك، فأهلكه الله من ساعته، انتهى ومات! ثم رأى ثانياً، فدعا عليه أن يهلك، فأهلكه الله، وثالثاً ورابعاً، فقال له الله – تبارك وتعالى – حسبك يا إبراهيم، قِف! إنك إن كلما رأيت عاصياً دعوت عليه أن يهلك فهلك لم يبق إلا القليل، لأن أكثر خلقي عُصاة، لا إله إلا هو من حليم عليم، عفو غفور، لأن أكثر الخلق عُصاة، لم يبق إلا القليل، ولكن ذرني وعبادي، اترك عبادي لي، فإنهم إني عصوني أمهلتهم، فإن تابوا إلىّ قبلتهم، وإن لم يتوبوا أرجأتهم، وإن أصروا أخَّرت عنهم العذاب، حتى مع الإصرار والعناد – والعياذ بالله – واللجاجة في العصيان والكفران، أخَّرت عنهم العذاب، لماذا؟ يقول – تبارك وتعالى – لعلمي أنهم لا يخرجون عن مُلكي، أين يذهبون؟ هم في مُلكي، في الدنيا في مُلكي، في الآخرة في مُلكي، اليوم وغداً أو بعد ملايين السنين في مُلك الله، لن تخرج عن قبضته وعن قدرته وعن مُلكه، لا إله إلا هو! 

ومن هنا هو حليم، لا إله إلا هو! لا يستفزه طيش، ولا يعجل به غضب، والغضب هو ما يُقابِل الحلم، كما يُقابِله أيضاً السفه، يُقال حليم وسفيه، يُقال حليم وغضوب، والسفه أليق بمُقابَلة الحلم من الغضب، لأن الغضب أليق بمُقابَلة الصبر، يُقال صبور وغضوب، وإن جاز أيضاً حليم وغضوب، لكن أليق – كما قلت – السفه في مُقابَلة – أي في مُناقَضة، المُقابَلة هي المُناقَضة – الحلم، حليم وسفه أو سفيه، السفيه هو الخفيف، يُقال تسفهت الريح الغصن إذا حرَّكته بسرعة، غصن الشجر تسفهته، تسفهت الريح الغصن، السفيه هو الإنسان الخفيف، الذي يُستفَز بسرعة، يُستفَز بكلمة أو بنظرة أو بموقف بسيط جداً، يُستفَز ويفقد أعصابه، لأنه ليس حليماً، هو سفيه، الله – تبارك وتعالى – لا يستفزه طُغيان طاغٍ أبداً، ولا يُخرِجه عن حلمه – لا إله إلا هو – عصيان عاصٍ أبداً، لا إله إلا هو! لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩.

سب أحدهم الأحنف بن قيس – أحد مشاهير التابعين، وأحد نُبلاء هذه الأمة، كان من تَلامذة ونُصراء الإمام عليّ عليه السلام وكرَّم الله وجهه، وكان مشهوراً جداً بالحلم وبالحكمة أيضاً، كان حكيماً حليماً، رحمة الله تعالى عليه، سبه أحد الشباب السُفهاء، سبه وشتمه – فأعرض عنه، ثم والى في سبه وشتمه، فأعرض عنه، حتى إذا تعب الشاب السفيه قال له يا ابن أخي هل لك في الغداء؟ فإنك مُنذ اليوم تحدو بجمل ثفال، الجمل الثفال هو البطيء، أي أنت ضيَّعت يومك، تُريد أن تستفز رجلاً لا يُستفَز، كالذي يحدو – أي يُغني – ويُنشِد – لجمل، وهذا الجمل بطيء، لا يكاد يسير، قال له يا ابن أخي هل لك في الغداء؟ فإنك مُنذ اليوم تحدو بجمل ثفال، أنا لست كما تظن، رجل لا أُستفَز.

وقد سُئل عن هذا الحلم العجيب، عن هذا الثبات، وعن هذه الرصانة والرزانة والتثقل، فقال إني أجد ما تجدون، أنا في الداخل أعتمل غيظاً وغضباً، بلا شك يُؤذيني ذلك، ولكنني صبور، ولذا الصبر من لوازم الحلم، لا حلم بلا صبر، ومن هنا جاءت مُقابَلة الحلم بالغضب، لأن الصبر أيضاً نقيض ومُقابِل الغضب، قال إني لأجد ما تجدون، ولكنني صبور، أتصبَّر وأُصبِّر نفسي، إنما العلم بالتعلم، والحلم – بقية الحديث – بالتحلم، ومَن يتصبَّر يُصبِّره الله، ومَن يستعف يُعفه الله، الأخلاق كلها خُلق طبع وخُلق تطبع، كل الأخلاق! إذا رأيت في رجل خُلقاً فإما أن يكون هذا الخُلق خُلقاً بالطبع، جبله الله – تبارك وتعالى – عليه، وإما أن يكون بالتطبع، بالتعمل، بالاكتساب، بالتريض كما يُقال، بمُعاناة هذا الخُلق مرة ومرة ومرة، حتى يُصبِح كالطبع له.

في الحديث الصحيح الذي أخرجه مُسلِم والترمذي وغيرهما – وهو حديث أشج عبد القيس – حين جاء وفد عبد القيس أسرعوا جميعاً كما تعلمون إلى رسول الله، إلا رئيسهم، إلا نبيلهم، إلا سيدهم الأشج، المعروف بأشج عبد القيس، سرَّح شعره وأصلح هيئته وهندامه وسمته، ثم ذهب إلى رسول الله بالسكينة، وهكذا! فقال له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا أشج إن فيك لخصلتين يُحِبهما الله تعالى، الحلم والأناة، فيك حلم! قال يا رسول الله هما خصلتان جُبِلت عليهما أم اكتسبتهما؟ قال بل جُبِلت عليهما، من الله هكذا، خلقك الله حليماً وذا أناة، عنده تؤدة، وفي رواية أُخرى قال تؤدة، الحلم والتؤدة، ويجوز الحلمُ والأناةُ، ويجوز الحلمَ والأناةَ على البدل، قال الحلم والأناة، لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – يُحِب من عباده الصالحين أن يتخلَّقوا بأخلاقه، أي ما يليق بهم طبعاً، وبعض الأخلاق الإلهية لا تليق بالعبد مُطلَقاً أصلاً، تخلَّقوا بأخلاق الله، الحديث ضعيف ومعناه صحيح.

نعود إلى ما كنا فيه، فهكذا إذن حلم الله – تبارك وتعالى – بعض معناه العفو والمغفرة، بعض معناه الستر، بعض معناه الإمهال، الله – تبارك وتعالى – إذن – هذا تعقباً ورداً على كلام الإمام الجليل الفخر الرازي، قدَّس الله سره الكريم – إن أمهل لينتقم فيما بعد – أي يُوقِع العقوبة – فلا يُقال إنه حقود أبداً، لكن لماذا يُمهِل إذن؟ لماذا يُمهِل؟ إذا أراد أن يُوقِع العقوبة هو مُوقِعها مُوقِعها، فلماذا يُمهِل؟ رحمةً منه وإعذاراً، يُمهِل رحمةً منه وإعذاراً، يُريد أن يُعذِر من نفسه إلى عبده العاصي، إلى عبده الكافر، إلى عبده الفاجر – والعياذ بالله – المُسترسِل مع هواه ومع نفسه، يُعطيه فُرصة للتوبة، يُعطيه فُرصة للإنابة وللرجعة إلى الله – تبارك وتعالى -، وهذا يحدث مع كثيرين، هذا يحدث مع كثيرين! لو أن الله يُعاجِل الخلق بأول ذنب – من كبائر الذنوب مثلاً، لو خصصناها بالكبائر وقلنا من كبائر الذنوب، وحتى الشرك كما قلنا في قاع ذلك – لما بقيَ إلا القليل، لما بقيَ على ظهر الأرض إلا القليل، إلا الأقل، القليل الأقل، ولكن يُعطى العباد فُرصةً، ومنهم مَن يتوب، ومنهم مَن يسترسل – والعياذ بالله – ويُختَم له بخاتمة السوء والكفر، نسأل الله حُسن الختام وسعادة الأعمال والآجال، اللهم آمين، فهذا هو إذن، فهذا هو!

يُروى أن شاباً كان يقترف المُنكَرات والقاذورات – كما كانوا يسمونها -، ويتوب ويبكي على نفسه، ثم يعود – والعياذ بالله – في حافرته، ثم يتوب، حتى هجس له إبليس ووسوس له يوماً بهذا الهاجس، قال له حتى متى تعصي وتتوب؟ أي هل أنت تلعب مع الله تبارك وتعالى؟ يُريد أن يُقنِّطه من رحمة الله، وأثَّر هذا الهاجس في نفسه، ما هذا؟ هذا لعب، المسكين كان مغلوباً على نفسه، هواه أقوى منه – والعياذ بالله -، شهوته قوية، يتوب ويعود، يعود ويتوب، وهكذا! ولكنه لم يقنط من رحمة الله، كيف؟ في المساء توضأ وضوءاً حسناً، وصلى ركعتين، ثم رفع عينيه إلى السماء، وقال يا رب، يا رحمن، يا رحيم، يا غفور، يا كريم، أنت عصمت المعصومين، وحفظت المحفوظين، وأصلحت الصالحين، فإن عصمتني وجدتني معصوماً، وإن أهملتني وجدتني مخذولاً، ناصيتي بيدك، وديوني بين يديك، فافعل بي ما تشاء، لا إله إلا أنت، سُبحانك إني كنت من الظالمين، فنام فآتاه هاتف، هتف به في منامه، قال له قد غفرنا لك ما مضى من ذنبك، وحفظناك فيما بقيَ من عمرك، لحُسن الأدب وحُسن التأتي، تأتي إلى ربه بمثل هذه الذلة وبمثل هذا الانكسار، هو يعلم أن الله إن لم يُزكه فلن يُزكيه أحد، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ۩، بهذه الذلة، بهذا الإنكسار، بهذا الافتقار، بهذه الأوبة، بهذا الخضوع، وبهذا الوله عاد إلى ربه، فقبله الله تبارك وتعالى، فادع بأمثال هذه الدعوات، أنت أصلحت الصالحين، فأصلِحنا لك يا رب العالمين، احفظنا فيما بقيَ من أعمارنا، دائماً هو حليم، لو أن الله آخذه من أول ذنب – والعياذ بالله – لمات عاصياً، ولربما مات فاجراً أو كافراً، لكنه انتهى به الأمر إلى أن أصبح من الصالحين.

تعلمون قصة مالك بن دينار – رضيَ الله عنه وأرضاه -، هو نفسه كان من الفسقة، من مشاهير العُصاة، وقصة هدايته معروفة في رؤياه لابنته في المنام، المُهِم مر يوماً برجل أيضاً، كان مشهوراً أنه – والعياذ بالله – من كبار الطُغاة والعُصاة في البلدة أو في القرية، ومر عليه يوماً في الليل، بعد مُنتصَف الليل، وهذا الرجل – والعياذ بالله – كان مخموراً، قد طرحته الخمر أرضاً، وهو يهذي لكنه يذكر اسم الله تبارك وتعالى، لا  يعرف، هذا في اللا شعور لدى هذا المسكين وفي العقل الباطن، هو مُؤمِن، فاستحيا مالك بن دينار من رب العزة أن ينطق هذا الفهم المُتنجِّس بالخمر باسم الله تبارك وتعالى، فأتى بماء نظيف طهور وغسل فمه، مضمض له وغسله، ثم نام مالك – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، فرأى في المنام أيضاً أو بالأحرى فسمع في المنام هاتفاً – مع الهاتف لا يُقال رأى هاتفاً، لأن الهاتف صوت، يُسمَع ولا يُرى شاخص، فسمع في المنام هاتفاً – يقول طهَّرت فمه لأجلنا، فطهَّرنا قلبه لأجلك، وأصبح الرجل من الصالحين، هذه هي رحمة الله، يُعطينا فُرصة لكي نعود، يُعطينا فُرصة لكي نتوب، حتى في آخر الزمان، حتى في علو الأسنان، حتى بعد أن نكون – والعياذ بالله – قد حطبنا في حبل المعاصي ما حطبنا وتكدَّرنا بما تكدَّرنا، الباب مفتوح والرحمة واسعة، والكريم – لا إله إلا هو – شديد الفرح بأوبة العبد إلى جنابه، فنسأل الله أن يتوب علينا توبة الصادقين.

هذا اسم ووصف من أوصاف الله – تبارك وتعالى -، حظنا منه ماذا؟ حظنا منه واضح جداً، ولذلك لم يُطوِّل العلماء فيه الكلام، حتى أن أبا حامد في المقصد الأسنى لم يتكلَّم فيه، قال حظ العبد منه ظاهر، أن تتحلَّم، أن تتصبَّر، وسيد الحلماء هو رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، من أظهر أوصافه ونعوته الحلم، كان حليماً جداً، لا يُستفَز، ولا يغضب لشيئ، لم يكن يغضب لنفسه قط، وما انتقم لنفسه قط، لكنه كان يغضب لله، لحُرمات الله، ولجناب الله، إذا انتُهِكت حُرمة من حُرمات الله يغضب غضباً لا يقوم له شيئ قط، غضب شديد جداً، لكن لنفسه لا يغضب.

روى أبو داود عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن أعرابياً جافياً غليظاً جاهلاً فعل الآتي، النبي كان يُحدِّثهم بحديث فإذا بالأعرابي يأتي ويجبذ – يُقال جبذ وجذب، نفس الشيئ، ويجبذ أي يجذب – النبي من ردائه، وكان رداءً خشناً، حتى أثَّر في رقبته وعاتقه، وقال يا محمد، هكذا بعنف! وقال يا محمد احملني على بعيري هذين، احملني أي حمِّلني، ضع لي أشياء، ضع لي رزقاً على هاتين الركوبتين أو البعيرين في العدل، احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك، الله أكبر على الأدب! أدب جم، الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ۩، لماذا؟ ليس لأنه أعرابي، لأنه مُنقطِع، لا يتعلَّم، ليس مُتحضِّراً، لا يأتي إلى هناك، لا يسمع الدروس، لا يسمع العلم، مُنقطِع!

الإنسان فينا إذا انقطع توحَّش وتأبَّد، يُصبِح كالوحش، الإنسان إذا انقطع عن الناس يُصبِح أقرب إلى الوحش، يفقد هذه الصفات اللطيفة الطيبة، التي تأتي بالمُعاشَرة والصبر على أذى الناس ومُلايَنة الناس ومُداراة الناس، مُداراة الناس نصف العقل، ولا تأتي إلا بالخُلطة، لكن مَن انقطع وانفرد فقد تأبَّد، أصبح آبدة، أصبح وحشاً، فهؤلاء كانوا كالوحوش، أي هؤلاء الأعراب، قال هذا الأعرابي احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك، وهو ليس في نيته أن يُسيء إلى النبي، لكن هذه طريقته وهذا أسلوبه، لا يُحسِن أحسن من هذا، فاغتاظ الصحابة لذلك، ماذا كانت مرجوعة النبي؟ بماذا رجع إليه النبي من جواب؟ قال له – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا وأستغفر الله، أي أستغفر الله أن أدّعي وأزعم أني أحملك من مالي، أعوذ بالله، هذا نبي ورسول ومُؤسِّس دولة وباني حضارة وقائد أمة، الله أكبر على هذا التواضع، الله أكبر! صلى الله عليه وآله وأصحابه كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون، قال لا وأستغفر الله، في رواية ثلاث مرات، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، ولكن لن أحملك حتى تُقيدني، أنت آذيتني، اجعلني أقتص منك، أقِدني من نفسك، قال والله لأُقيدكها، الأعرابي قال والله لأُقيدكها، قال ولِمَ؟ أي النبي، قال لأنك لا تجزي بالسيئة السيئة، أنت رجل حليم، وأخلاقك عظيمة، أتُريد أن تقتاد مني؟ فضحك النبي، ابتسم النبي لهذا الموقف، وهو يعلم أنه مسكين، قال لأنك لا تُكافيء بالسيئة السيئة، فضحك النبي وقال احملوا له على بعيريه، قال على بعير تمراً، أو قال قمحاً، أي بُراً، وقال على بعير شعيراً، صلى الله على هذا الحليم، على هذا السيد الكريم، ومن هنا كان سيد الأولين والآخرين، كيف تكون السيادة؟ وبِمَ يكون السؤدد؟ بالحلم.

كانت العرب تقول احلم تسد، طريق السيادة الحلم، لا يُمكِن أن تكون سيداً وتكون سفيهاً، مُستحيل! أو أن تكون سيداً وأنت غضوب، لا يُمكِن! بالحلم، بالصفح، بالإمهال، بالتجاوز، وبتوسعة البال كما نقول في العامية، لابد من توسعة البال، احلم تسد، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الحليم سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، حتى في الآخرة يُبعَث الحلماء أو الحالمون أسياداً، أسياد أهل المحشر، الحليم سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، كاد الحليم يكون نبياً، شيئ عجيب، هذه من أمهر ومن أخص خصائص الأنبياء، الحلم! قال كاد الحليم أن يكون نبياً، لم يقل كاد العاقل أو كاد العليم أو كاد الصبور، لا! الحليم بالذات، هذا الخُلق الذي هو جُماع أو جُمّاع معانٍ كما قلنا لكم، مثل الإمهال، الستر، العفو، المغفرة، وإرجاء العقوبة، جُمّاع هذه المعاني الحلم.

كان هناك يهودي يُدعى زيد بن سعنة، ولعلكم سمعتم هذا الحديث الجليل مِراراً، لكنه جليل بحق، هذا اليهودي – زيد بن سعنة – اشترى منه النبي شيئاً بثمن إلى أجل، لكنه جاء قبل الأجل بيومين أو ثلاثة أيام، قاصداً مُتعمِّداً، هذا يهودي وجاء مُتعمِّداً، قال فأخذت بقميص رسول الله، أي بالياقة، قال فأخذت بقميص رسول الله، ونظرت إليه بوجه غليظ، هكذا بوجه غليظ، أي جامد كما نقول، وقلت له يا محمد ألا تقضين حقي؟ قبل الأجل! أجلك بعد يومين أو ثلاثة، لماذا تأتي هكذا وتتهجم على رسول الله – على هذا السيد الجليل – بين أتباعه وأصحابه وهو رئيس الدولة؟ اليهود رعايا عند الرسول، لكن هكذا يفعل معه، غره حلمه! قال له ألا تقضين حقي؟ بوجه غليظ، فقام عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وقال والله لولا ما أخشى فوته لضربت رأسك بسيفي هذا أي عدو الله، ما الذي يخشى فوته؟ أن يُنقَض العهد الذي أُبرِم مع اليهود في المدينة، مع قوم هذا الرجل يُوجَد عهد، لا يُريد عمر أن يخفر بذمة الله ورسوله، لا! هناك مُراعاة، والله لولا ما أخشى فوته لضربت رأسك بسيفي هذا أي عدو الله، اترك رسول الله! 

يقول زيد بن سعنة فنظرت إلى الرسول، والرسول لا يزيد عن أن ينظر إلىّ وإلى عمر ويتبسَّم، لم يُستفَز، لم يتحرَّك أبداً، ولم يتعكَّر، النبي كما هو، رُغم أنه أخذه من قميصه، هذا يهودي وليس مُسلمِاً، يهودي وهو من الرعية، أي مَن سيُطالِب بدمه لو قُتِل؟ ثم قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لعمر يا عمر أنا وهو كنا أحق وأولى منك بغير هذا، أي بغير ما قلت، قال كيف يا رسول الله؟ قال كان هو أحق منك أن تُطالِبه بحُسن ماذا؟ التباعة، بحُسن التباعة أي بحُسن المُطالَبة، قل له اطلب حقك وتقاض حقك بشكل طيب، بشكل لائق، وبصورة جميلة،  قال كان هو أحق منك أن تُطالِبه بحُسن التباعة، وأنا أولى منك أن تأمرني بماذا؟ بحُسن الأداء، أد ما عليك، قل يا رسول الله اقض، الله أكبر! مع أن الوقت لم يحن، الأجل لم يحن، لكن هذه أخلاق السيد الحليم، عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وهنا المشهد الحقيقي، يقف اليهودي – رضيَ الله عنه وأرضاه – زيد بن سعنة ويقول يا عمر بن الخطاب لقد كنت أتلطَّف لمُخالَطة محمد، أنا كنت أُريد هذا، أتوسَّل بوسائل كثيرة حتى أختلط به وحتى أُعامِله، أُريد أن أختبره، حتى ابتاع مني ما ابتاع، ابتاع بمعنى شرى وبمعنى اشترى أيضاً، حتى ابتاع مني ما ابتاع إلى أجل، وأنت تعلم القصة يا عمر، أنت تعلم القصة! ولقد عرفت في محمد حين رأيت وجهه كل صفات النبوة وعلائمها، هذا مكتوب لدينا في التوراة، وكلها في وجهه، ظاهرة!

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ                                     لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ.

وجهه وحده يكفي، وهذا ما حصل مع عبد الله بن سلّام أيضاً، وهو حبر أحبار اليهود، حين رأى النبي علم مُباشَرةً أنه نبي، رأى هذا في وجهه، قال فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، مُستحيل! هذا نبي، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، اللهم احشرنا تحت لوائه وشفِّعه فينا يا رب العالمين ولا تحرمنا شفاعته، من وجهه!

قال رأيت فيه كل علائم النبوة، أي في وجهه، إلا اثنتين، أي إلا خصلتين أو صفتين، لم أخبرهما فيه، فأردت أن اختبرهما فيه، ما هما؟ قال عمر، قال حليم لا يجهل، هذه الصفة الأولى، لا يُمكِن أن يكون سفيهاً أو يجهل على أحد، حليم لا يجهل، لا يُمكِن! لا يبتدئ ولا يُجازي أيضاً بالجهل والسفه، الله أكبر!

في معركة أُحد جُرِح في شفته السُفلى – عليه الصلاة وأفضل السلام – وشُج وجهه، وكُسِرت رباعيته الشريفة، وجعل دمه يتساقط وهو يأخذه بيديه، يُنشِّفه! يقول لو وقع على الأرض لنزل بهم العذاب، ولا أُريد أن يُعذَّبوا بسببي، عليه الصلاة وأفضل السلام، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩.

لذلك درس الدعاة أوفر نصيباً وأعظم حظاً من رسول الله من درس غير الدعاة، كل مَن أراد أن يكون داعيةً إلى الله – تبارك وتعالى – إذا قرأ السُنة وإذا قرأ السيرة عليه أن يقف طويلاً وملياً عند هذه المواقف، أول ما يتفقده الناس أو أول ما ينبغي أن يُتفقَّد في الداعية هو ماذا؟ خُلق ماذا؟ الرحمة، أن تكون عنده رحمة، قلب رحيم! هناك مَن يزعمون أنهم مِن الدعاة إلى الله، لكنهم يتصرَّفون وكأنهم يتربَّصون بالناس الدوائر والشر، يُريد الواحد منهم من أحد أن يُخطئ خطأً، لكي يقول له كفرت، خرجت عن المِلة يا أخي، زوجتك طالق منك، جدِّد زواجك، افعل كذا وكذا، الله أكبر يا أخي! هل أنت تتربَّص بالناس الشر؟ إذا ارتكب أحدهم صغيرة جعلها قُبة صغيرةً، وهدمها على رأسه، أخرجه من الإسلام بصغيرة، أين الرحمة بعباد الله؟ الرسول رحمة حتى بالكفّار، بالكفّار! 

قيل له في أُحد يا رسول الله ادع عليهم، قال إني لم أُبعَث لعّاناً، إنما بُعِثت رحمةً، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، الله أكبر! وقد فعل الله، هداهم الله – تبارك وتعالى -، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، يأخذ دمه، يُنشِّفه ويقول لو وقع على الأرض لنزل بهم العذاب.

إذن هو حليم لا يجهل، والخلة أو الخصلة الثانية ما هي؟ ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، شيئ عجيب هذا، هذا خُلق استثنائي، لا يُمكِن أن يُوجَد في بشر عادي، أي بشر عادي ليس هكذا، أي بشر عادي إلا أن يكون نبياً وإلا أن يكون محمداً – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا اشتد جهلك عليه مهما كان حليماً تزداد درجة توتره، أليس كذلك؟ يغضب، ترتفع نسبة الغضب باستمرار، من المُمكِن بعد ذلك أن ينفجر، هذا شيئ طبيعي، وهنا يُقال للصبر حدود، لكل شيئ حدود، لا يُمكِن! إلا النبي لم يكن هكذا أبداً، كلما جهلت عليه أزيد وأزيد تزيده شدة الجهل عليه حلماً.

ولذلك قال أحد السادة العارفين – عرَّفنا الله به ودلنا عليه دلالة الصادقين – عموم الخلق مع رسول الله وإلى رسول الله – أي قياساً ونسبةً إلى رسول الله – كالأطفال الصغار، أطفال! حتى العلماء وحتى الأولياء أطفال صغار، النبي يرى حقائقنا، غير مُمكِن! غير مُمكِن لطفل صغير أو أقل من طفل أن يستفز هذا السيد الجليل، سيد الكونين، سيد العالمين، رحمة العالمين، عليه الصلاة وأفضل السلام، ومن هنا كان خاتم الأنبياء والمُرسَلين، انتهى! كل شيئ خُتِم به – عليه الصلاة وأفضل السلام -، هكذا كان حلمه.

وبعد ذلك أيضاً أصحابه قبسوا من هذا النور أقباساً، وكذلك أتباعهم وأتباع أتباعهم، هذا الذي ذكرنا اسمه هكذا عرضاً – وهو الأحنف بن قيس – كان مشهوراً جداً بالحلم، وسُئل فقال تعلَّمت الحلم من عاصم بن قيس المنقري، قال هو أحلم مني، كنا نغدو إليه نستفتيه في الحلم، كما تغدون إلى الفقهاء تسألونهم في الفقه، أستاذ بل مدرسة، مدرسة كاملة في الحلم، أي قيس بن عاصم المنقري، قال كنا معه يوماً وهو في مجلسه، وكان هو جالساً هكذا في قومه مُحتبياً – أي منقر، قبيلة منقر، وهو كان سيد قومه، وكان جالساً مُحتبياً -، فبين هو كذلك إذ جيء بابن له مقتول وبشاب مكتوف، قيل هذا ابنك، قتله ابن أخيك، الله أكبر! قال فوالله الذي لا إله إلا هو ما قام من مجلسه ولا فك حبوته حتى فرغ من كلمه، تكلَّم وعلَّق على الموقف، ثم بعد ذلك قام ووقف، ابنه مقتول، وقتله ابن أخيه! ماذا قال؟ قال لابن له آخر جالس في المجلس قُم يا بُني يرحمك الله، فأطلِق عن ابن عمك، أي أطلِقه، يُقال أطلِق عنه، وهي أفصح من أطلِقه، فك ماذا؟ قيده، فك إساره، أطلِق عن ابن عمك، ووار أخاك التراب، واغد على أمك بمائة من الإبل، فإنها غريبة، أي نُعطيها الدية لها، تطييباً لنفسها، لأنها ليست من قومنا، غريبة عنا، حكمة!حكمة عجيبة، حلم أعجب وحكمة عجيبة، قال فإنها غريبة، ثم نظر إلى ابن أخيه القاتل، يقول الأحنف والله ما زاد عن أن قال له يا ابن أخي قتلت قرابتك، وأسعدت عدوك – يشمت بنا الأعداء -، ونقصت عددك، لا يُبعِد الله غيرك، أي أبعدك الله يا بعيد، فقط! ما زاد عن هذه الكلمات، أهذا الذي فعلته؟ قتلت قرابتك – ابن عمك بمثابة أخيك -، وأسعدت عدوك، ونقصت عددك – عدد رجال القبيلة -، لا يُبعِد الله غيرك، أي أبعدك الله وحدك يا بعيد، فقط! هذا الحلم، الأحنف بن قيس تعلَّم منه الحلم.

أوتيَ عمر بن عبد العزيز – رضوان الله تعالى عليه – برجل وقد ارتكب جُرماً يستدعي مُعاقَبة، فغضب عمر وقال احبسوه ثلاثة أيام، وكان من عادته إذا أراد أن يُنزِل عقاباً بأحد وهو في غيظ أو غضب يأمر بحبسه، لماذا؟ حتى لا ينزل به العقاب في ساعة غضب فربما جاوز فيه الحد وربما اشتفى، لا! يأمر به فيُوضَع في السجن – أي في الحبس -، حتى تنفثئ ثورة غضبه، وبعد ذلك يحكم فيه.

واجهه رجل يوماً بما يكره – أي عمر بن عبد العزيز، الخليفة الراشد الخامس -، فقال له يا عبد الله أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السُلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، لا! انصرف، يرحمك الله، أنا سُلطان – صحيح – مُسلَّط، وأستطيع أن أفعل ما أُريد، سُلطان! أمير مُؤمِنين، فأنت أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السُلطان، أنا عندي قوة، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً – أي بين يدي الله -، لا! انصرف، يرحمك الله.

رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُخلِّقنا بهذا الخُلق الجميل الجليل، فإن الأخلاق الحسنة كنوز بين يدي الله – تبارك وتعالى -، يهب مَن شاء مِن عباده ما شاء منها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدِنا واهدِ بنا، وأصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك يا رب العالمين، اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك، وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وهذا الجَهْد وعليك التُكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، وأنت المُستغاث وبك المُستعان.

اللهم انصر الإسلام وأعِز المُسلِمين، اللهم أعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم مَن أراد بالإسلام وبالمُسلِمين خيراً فكُن له خير مُعين ومُؤيِّد، ومَن أراد به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيز مُقتدِر، فإنه لا يُعجِزك، إلهنا ومولانا رب العالمين.

لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها وتيسيرها بفضلك ومنّك يا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 (8/8/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: