إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ۩ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ۩ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ۩ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.

أيها الإخوة والأخوات:

عن الإنسان حديثي إليكم اليوم، وفي البداية أود أن أُشير إلى أن بعض الذين يدّعون الفكر والعقل والفلسفة والدرس العميق يزعمون أن مبحث الإنسان قد غاب من تراثنا الإسلامي، وتحت هذا العنوان يكتب مُتسائلاً الدكتور حسن حنفي في كتابه دراسات إسلامية لماذا غاب مبحث الإنسان من تراثنا؟ طبعاً هو لا يعني الإنسان بالمعنى ربما المُبتذَل، الذي تتداوله العامة – عامة الناس -، يُريد الإنسان كنُقطة محورية، كنُقطة مركزية، الإنسان بمعنى مُختلِف تماماً عما يُبتذَل في حديث الناس يومياً، وإلا فالإنسان في تراث المُسلِمين يُتحدَّث عنه بوصفه مُكلَّفاً، يُتحدَّث عنه بوصفه مُجاهِداً – مثلاً -، يُتحدَّث عنه بوصفه عابداً، يُتحدَّث عنه بأوصاف كثيرة، وهو يعلم ذلك طبعاً ويستحضره جيداً، لكنه يقول هذا الإنسان التراثي مُغلَّف بأغلفة كثيرة، تبتعد به عن حقيقة أو عن واجب أن يكون محورياً ومركزياً، فالمركز هو الله، في التراث الإسلامي المركز هو الله، وأما الإنسان فهامشي، هكذا يقول هذا الرجل، سنرى بعد قليل ما تتمتع به هذه المقولة أو هذا القول من نصيب الصحة أو من نصيب البُطلان.

أيها الإخوة والأخوات:

وقبل أن أُدلِف إلى موضوعي عامداً أُريد فقط أن أُنبِّه إلى أمر ذي بال، يتعلَّق بهذه المُصطلَحات الحديثة أو العصرية، كمُصطلَح الإنسان بالمعنى الذي يُؤشِّر إلى أصالة الإنسان، ليس الإنسان كموجود هكذا من لحم ودم ومن نفس وبدن، لا! الإنسان الذي يُؤشِّر إلى مذهب أصالة الإنسان، أي الــ Humanism، الإنسان كمحور، الإنسان كغاية، كسقف، وكنهاية، هذا هو معنى الإنسان في الطرح الغربي، الإنسان غاية، مُستوى نهائي، سقف، وغاية لذاته أو غاية في ذاته، فهناك مذهب أصالة الإنسان أو الهيومانية – أي الــ Humanism -، وهذا المذهب أو هذا المُصطلَح أو هذا التوجه ظهر في عصر النهضة، ظهر في عصر النهضة كرد فعل على ماذا؟ كرد فعل على مفهوم الإنسان الذي كان سائداً في العصور الوسطى المسيحية الكنسية، حيث كان يُنظَر إلى الإنسان من زاويتين، الزاوية الأولى تجعله مُبهَظاً ومُثقَلاً بتحمله عبء الخطيئة الأولى، هذه الخطيئة التي كان مصدرها الجسد وشهوات الجسد، لأن آدم آثر أن يأكل وزوجه من الشجرة المُحرَّمة، يقول الكتاب المُقدَّس هي شجرة المعرفة، وهذا هراء طبعاً، على كل حال فهذا الجسد وشهواته هو سبب هذه الخطيئة، ولذلك كان ينتمي هذا الجسد في المفهوم المسيحي الوسطوي، كان ينتمي إلى عالم المُدنَّس، إلى عالم الخطيئة، إلى عالم المُدنَّس، إلى ملكوت الشيطان، وهم يتحدَّثون عن ملكوتين، ملكوت الرحمن أو الرب وملكوت الشيطان، الجسد ينتمي إلى ملكوت الشيطان، لذلك لابد أن يُسحَق، لذلك لابد أن يُهان، ولابد أن يُخفَّض، أي هذا الجسد، هكذا كانت تنظر الكنيسة والناس في العموم إلى الإنسان من هذه الزاوية، والزاوية الثانية تشطير الإنسان، تشظية الإنسان، تقسيم الإنسان، وتعضية الإنسان – أي جعله عضين -، الروح أو النفس في جهة والبدن في جهة، والروح تنتمي إلى المُقدَّس، إلى ملكوت الرب، والخلاص يكون بمُحاوَلة التكفير عن الخطيئة الأزلية، هكذا كان يُنظَر إلى الإنسان.

جاء مذهب أصالة الإنسان رداً على هذا السخف، أعاد الاعتبار للإنسان من الزوايتين، فالجسد جُزء من ماهية الإنسان، لا يتجزأ، لا يُمكِن أن تعقل نفسك بلا جسد، لا يُمكِن أن تعقل ذاتك بلا جسد، فالجسد جُزء من ماهية الإنسان، جُزء حقيق بالعنو، حقيق بالرعاية، وحقيق بالتكرمة، والناحية الثانية أيضاً بعد رد الاعتبار إلى هذا الجُزء المظلوم الذي قيس عليه هو إعادة توحيد الإنسان في كيان واحد، بحيث لا ينفصل روحه عن بدنه ولا بدنه عن روحه أو نفسه، وأيضاً هذا يقتضي تحرير الإنسان، تحرير بدن الإنسان، من ماذا؟ تحرير الجانب المادي في الإنسان، من ماذا؟ من سيطرة الأمراء والنُبلاء، أي الــ Adligen، من سيطرة النُبلاء والأمراء، من سيطرة الأباطرة، وتحرير روح الإنسان والحياة الروحية للإنسان، من ماذا؟ من عسف وتدخل وسيطرة الكنيسة ورجال الدين، الكهنوت!

هذا باختصار هو معنى مذهب أصالة الإنسان، وهذا شيئ جيد بلا شك، العصر تقبَّل هذا المفهوم، وذهب به خُطوات وسيعة ورحبة إلى الإمام وإلى اليوم، تبدَّلت الأحوال كثيراً أيضاً، ولكن هذه قضية أُخرى، الذي أُريد أن أُشير إليه أن هذه المفهومات أو هذه المفاهيم كمفهوم الإنسان، مفهوم الحرية، مفهوم الديمقراطية، ومفهوم السياسة – أشياء كثيرة جداً جداً -، يُمكِن أن تُفهَم بشكل مُلتبِس جداً، كيف؟ لأن هذه المُصطلَحات لها حمولة معرفية، حمولة دلالية، مضامين، مشمولات معنوية أو دلالية، تختلف اختلافاً قد يبعد وقد يقرب، على ضوء ماذا؟ على ضوء المرجعية الأوروبية الحديثة والمُعاصِرة، عنها في المرجعية الإسلامية القديمة وأحياناً أيضاً المُعاصِرة، وإن بدا البون أقل وأقرب بكثير بين المرجعتين في العصر الحديث، بفعل ماذا؟ التواصل والتثاقف والتعاطي، فطبعاً بديه أن تكون هناك مُحاوَلات للتأصيل، وأنتم تسمعون كثيراً بمُصطلَح التأصيل، ما معنى تأصيل مفهوم الإنسان؟ ما معنى تأصيل مفهوم الحرية؟ أي الذهب إلى النص الديني، وبالذات القرآن الكريم، وبعد ذلك مفهوم التأصيل يتسع ليشمل حتى أقوال الفقهاء، أقوال العلماء، التراث الإسلامي برمته، التراث الإسلامي بعامة، الذهاب إلى النص، وما انبثق عن هذا النص من دوائر الاجتهاد المُختلِفة، للبحث عما يُمكِن أن يُحدِث مُطابَقة مع الحمولة الموجودة العصرية لمُصطلَح ما، هذا هو معنى التأصيل، ولذلك يُقال مُحاوَلة تأصيلية لمفهوم الإنسان.

وهنا يُوجَد خطأ منهجي، هنا لابد أن يقع هؤلاء المُؤصِّلون في خطأ منهجي، ما هو هذا الخطأ المنهجي؟ ليس بالضرورة – أيها الإخوة والأخوات – أن تتطابق المضامين الفكرية دائماً، لأن في هذا كسر أيضاً للسياقات، وخاصة السياق المعرفي أو ما يتولَّد فيه هذا السياق المعرفي، لكن مع ذلك بعد هذا التنبيه المنهجي والذي كان لابد منه أود أن أقول إن مفهوم الإنسان الذي انطلق واستند واتكأ على المرجعية الأوروبية الحديثة التي تعكس النظرة الهيومانية للإنسان لا يبتعد كثيراً عن دائرة ما يُمكِن أن يُسمى بالمُفكَّر فيه أو القابل للتفكير فيه أيضاً، وهما دائرتان مُختلِفتان إلى حد ما في النص القرآني وفي النص الديني، ولنأت لنستفتي كتاب الله – تبارك وتعالى -.

أول شيئ مفهوم الخطيئة، بماذا يُدلي القرآن في هذه المسألة؟ ببساطة هذه الخطيئة كانت تخص آدم وحواء، وانتهت وجُبت بالتوبة، فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۩، انتهى كل شيئ، لا يُوجَد شيئ اسمه خطيئة أزلية تتحمَّل أبهاظها وأثقالها إلى يوم يُبعَثون، غير صحيح! القرآن يختلف بالكامل، -، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، حتى إن كانت هذه النفس هي أبو النفوس كلها، آدم – عليه الصلاة وأفضل السلام -، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، أنا رهين بما أكسب، وأنت رهين بما تكسب، وآدم كان رهيناً بما كسب – عليه الصلاة وأفضل السلام -، جُبت وانتهت قضية الخطيئة.

ثانياً الإنسان لا يُوجَد فيه الشطر المُقدَّس والشطر المُدنَّس، أي الروح والبدن، هذه التفرقة والتشظية والتعضية لا يعترف بها القرآن، بل إن القرآن ينظر باعتبار – باعتبار عالٍ وبتكرمة – إلى ماذا؟ إلى الجسد الإنساني، الجسد الإنساني يعتبر أنه عامل تفوق، عامل انمياز أو تميز، قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۩، عنده جسم مُمتاز، قوي، صحيح، مُعافىً، تجري فيه الصحة، عامل تميز! تبرير لهذا الاصطفاء، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ ۩، بالعكس! هذا البدن المُكتمِل المُعافى هو دلالة اصطفاء رباني، لكن في مُستوى البدن طبعاً، هذا في مُستوى البدن، عجيب! لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ۩، وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۩، هذا هو القرآن ببساطة، ولا نُريد أن نُطوِّل باستجلاب مزيد من الأدلة التي تعرفونها جميعاً أبداً، فهذا هو موقف القرآن.

النبي كان يقول ببساطة مَن كان له شعر فليُكرِمه، ليس البدن هكذا بعامة وبإطلاق، حتى جُزئيات أو أجزاء أو مُكوِّنات هذا البدن، الشعر هو جمال، هو صفة جمال بلا شك، النبي يقول مَن أعطاه الله وأنعم عليه بهذه النعمة فليُكرِمه، ليُسرِّحه جيداً، ليدهنه كلما استطاع بطريقة مُعيَّنة، وهكذا! حتى يتحدَّث عن هذا النبي، وكذلك الحال مع الأسنان، لابد من تنظيف الإنسان والمُحافَظة على صحتها، يغضب النبي ويثور وهو الذي كان أشد حياءً من العذراء في خدرها لرجل يدخل عليه وقد اصفرت أسنانه وفاحت رائحتها الكريهة، فيقول ما بالكم تدخلون علىّ قحراً بخراً؟! وقد شبَّه أحدهم ذات وقعة أو ذات مرة بالشيطان، قال كالشياطين، ليست هذه صفة الإنسان المُكرَّم وصفة خليفة الله في الأرض أبداً، فليُعن بهذا البدن.

هذه من بدهيات الإسلام، لكنها لدى الآخر ليست بدهية، يُؤسِفنا ويُحزِننا أن يأتي بعض مَن يدّعي العقل والتفلسف والتعمق من فلاسفة أو دارسي الفلسفة من المُسلِمين ليزعم أن مبحث الإنسان غائب، بأي معنى؟ بالمعنى حتى الهيوماني لم يكن غائباً، وسوف ترون، الشقة قريباً جداً، هذا ما يتعلَّق بالبدن، فالبدن ليس تدنيساً، بالعكس! حتى تعاطي أكثر شهوات هذا البدن – أكثر شهوات هذا البدن عنفواناً وجذلاً وهي الشهوة البدنية الجنسية – القرآن وقف موقفاً واضحاً جداً منها، وجعلها مما يُبتغى، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩، هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۩، بل علَّمنا أن نتوسَّل إلى تحقيق هذه اللذة – إلى تحقيق هذه اللذة الكريمة – بمُقدِّمات، لا نقول كما يقول بعضهم للأسف تأثراً بالفكر الإنساني – سمعناها في قول داعية مشهورة جداً، قال الآتي – إنها أحط الغرائز الحيوانية في الإنسان، مَن قال إنها غريزة حيوانية؟ لماذا؟ لماذا تبخسها حظها وحقها؟ بالعكس! قال – تبارك وتعالى – وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۩، قال وَقَدِّمُوا ۩، يُعلِّمنا كيف نتوسَّل إلى تحقيق الأمد الأقصى عند إتيان هذه الشهوة.

هناك مثل مسيحي لا يزال سائراً إلى اليوم، يقول ليت شعري، لماذا هي كل لذائذ الدنيا تُذكِّر بالإثم دائماً؟ لماذا؟ لأن الكنيسة قالت ذلك، فقط هذه القضية، القضية ليس لها مُستوى طبعي، ليس لها مُستوى غرزي، إنها مُستوى ثقافي فقط، إنها مُستوى ثقافي! الكنيسة قالت ذلك، الكنيسة قالت الذي يضحك ويبتهج آثم، لأنه لا يسعى في خلاص نفسه من الخطيئة الأزلية، لماذا تضحك؟ لماذا تمزح؟ لماذا أنت سعيد وجذلان؟ ولماذا أنت مرح؟ هذا البدن أيضاً لابد أن يُقهَر، لابد أن يُطمَس، ولابد أن يُخفَّض، طبعاً سعياً في الخلاص، وسعياً في التخليص.

للأسف الفكر العربي العامي تأثَّر أيضاً بهذه الأنظار الكنسية، لأنني على يقين أن فكراً إسلامياً في فترات من فترات أفوله وفترات انحطاطه وانتحاره أو انحداره قد تأثَّر أيضاً بالأنظار السلبية للآخرين كثيراً، وهذا يحتاج طبعاً إلى حديث بحياله.

أظن أن أكثر العرب يعرفون هذه الأمثولة، حين تجلس جماعة ويأخذون أو يتجاذبون أطراف الحديث في جو من المرح والبهجة والفرح ويضحكون، وربما يضحكون كثيراً أو أزيد من اللازم، ولا نعرف ما هي حدود هذا اللازم، لكن هكذا يُقال، يُقال أكثر من اللازم، ولا ندري حدود اللازم، مَن الذي حدَّد هذه الحدود؟ يُقال بعد ذلك اللهم أعطنا خير هذه الساعة، يترقَّبون الشر، هكذا! رُبينا على ذلك ونحن صغار، إذا ضحكنا قلنا اللهم أعطنا خير هذه الساعة، لأن الضحك يبدو أنه مُخالَفة ويبدو أنه خروج عن القاعدة، ولذلك لابد أن يعقبه العقاب ولابد أن يعقبه الشر، فإذا حدث شيئ قالوا من شر تلك الساعة التي ضحكنا فيها، وهذا غير صحيح، بالعكس! وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ۩، هذا من الغرائز الأصيلة في الإنسان، ومن المُتطلَّلبات الأصيلة، صدِّقوني! ولذلك قبل سنوات طُرِح علىّ السؤال الآتي، وحتى أنا شخصياً – وأعوذ بالله من كلمة – لم أفهم هذا السؤال، طرح علىّ أحد المُثقَّفين الأجانب النمساويين هذا السؤال، قال ما هو موقف الإسلام من حق الإنسان في المُتعة أو البهجة – أي الــ Pleasure أو الــ Enjoyment -؟ فلم أفهم هذا السؤال، والسؤال له خلفية ثقافية وفلسفية وتاريخية رهيبة، لم أفهم هذا! طبعاً عدم فهمي يعكس إيجابية الموقف الإسلامي، الآن فهمت هذا، طبعاً! لماذا؟ لأن القضية بدهية في نظري، لماذا لا أتمتَّع؟ لماذا لا أكون سعيداً؟ لماذا لا أكون فرحاً؟ بالعكس! الإيمان هو ينبوع السعادة، ينبوع الطمأنينة.

ابن تيمية – رحمة الله عليه – كان يقول جنتي أو بُستاني في صدري، ماذا يستطيع أن يفعل بي أعدائي؟ أنا أسعد خلق الله – تبارك وتعالى -، أسعد عباد الله – تبارك وتعالى -، فحق الإنسان في البهجة وحق الإنسان في المُتعة – طبعاً بالإطلاق، لا أتحدَّث عن مُتعة مُحرَّمة وما إلى ذلك، بالإطلاق طبعاً – محفوظ ومكفول، ولذلك القرآن أيضاً أدلى بدلو طائل في هذه المسألة، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا  ۩، في سياق الصلاة! انظروا إلى هذا، لا فرق بين الدنيا والآخرة، انتبهوا لأن هذه القضية مُهِمة جداً جداً.

أظن أنكم جميعاً وأنا واحد منكم أيضاً نشأتم وتربيتم على أن الدنيا مزرعة للآخرة، نحن نُشئنا ورُبينا على أن الدنيا مزرعة للآخرة، ولم نجد غير هذا القول، الذي هو نصف الحقيقة، والذي تقول به كل الأديان والشرائع للأسف، وكل رجال الأديان، كل الأحبار، كل الكهنوتيين، ما هو؟ أن الدنيا مزرعة للآخرة، أن الدنيا مطية للآخرة، وهذا نصف الحقيقة، ونصف الحقيقة يُساوي الكذب، يُساوي التدليس والزيف، القرآن لم يقل هذا فقط، لم يقل هذا فقط، لأنه لو قاله فقط سيكون لنا موقف آخر، لكنه لم يقله فقط، ماذا قال؟ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ۩، إذن الدنيا مطية للآخرة، هذا صحيح، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ – من مُتع الدنيا وأنعامها – الدَّارَ الآخِرَةَ ۩، ثم قال وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۩، إذن فالدنيا غاية لذاتها أيضاً، انتبهوا! هذا لأول مرة – أنا مُتأكِّد – تسمعونه، لأنني لم أسمعه وللأسف لم أٌقرأه لأحد، لكن القرآن يقوله.

ومن هنا بعض الناس قد يستنكر هذا السؤال، السؤال عن دائرة اللا مُفكَّر فيه في القرآن، مَن الذي يستطيع أن يطرح سؤالاً جسوراً جريئاً كهذا السؤال؟ اللا مُفكَّر فيه! هل طرح الطبري وابن الأثير وابن عطية والطبرسي وفلان وعلان ما لم يُفكَّر فيه؟ طبعاً، طرحوا الكثير، الكثير الكثير، وجزاهم الله خيراً على ما قدَّموه، لكننا نحن الأخلاف الكُسالى، الأخلاف الذين يُريدون أن يعيشوا فقط على ما قدَّم الأولون، دون أن يُقدِّموا شيئاً، وبئست الخلافة هذه، دائرة اللا مُفكَّر فيه وسيعة جداً جادً، لأن استنكار هذا السؤال يعني مُباشَرةً ولا أقول في التحليل الأخير بل في التحليل الأول، يعني في التحليل الأول ماذا؟ أن القرآن عقيم، انتهى! القرآن استُنفِذ في قرون، لقد قال الطبري وأحفاده، قالوا كل ما يُمكِن أن يُقال، وهذا غير صحيح، هذا كلام ربي، هذا كتاب الله، إنه يُساوي ماذا؟ الصيغة المُوائمة والمُقابِلة للإطلاقية الإلهية، في العلم، في الحكمة، في التدبير، في التسيير، وفي كل شيئ، ولذلك لا يُمكِن أن ينتهي ما يقوله القرآن، ولذلك دائرة اللا مُفكَّر فيه هي دائرة تنفتح حتى على المُطلَق، هي الدائرة الأوسع بكثير، وأما دائرة المُفكَّر فيه ودائرة ما قيل وما أُوِّل به فهي الأصغر جداً، صغيرة حتى أنها لتقرب من العدم، هكذا ينبغي أن نفهم هذه المسألة.

إذن وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۩، إذن الدنيا غاية في ذاتها أيضاً، غاية في ذاتها! يُراد من رب العزة – لا إله إلا هو – أن نعمر هذه الدنيا، أن نعيش هذه الدنيا، أن نُمدينها، أن نُحضِّرها، أن نستثمرها، أن نرتفقها، وأن نستخرج كظائمها وأسراراها وخيراتها وثرواتها، يُراد هكذا! يُراد أن نكون مُبتهِجين، سُعداء، ومُكتفين في هذه الدنيا أيضاً، إنها غاية، كما أن الإنسان غاية، الإنسان غاية، ليس وسيلة، الإنسان غاية فيها، الإنسان سقف، والإنسان نهاية، هكذا يطرح القرآن هذه المسألة.

ولنعد إلى آية المقام، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ۩، في الآية التي تليها لِيُعَذِّبَ اللَّهُ ۩، هذه مُرتبِطة بالآية، آية الأمانة وآية العرض، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ۩، هذه الأمانة كثر ما قال فيها القائلون، ومن أقوالهم ما يستدعي العجب ولا أقول الضحك، من أقوالهم ما يستدعي العجب، قال بعضهم الغسل من الجنابة، فهل يُتخيَّل أن الله عرض الغسل من الجنابة على السماوات والأرض والجبال؟ ما معنى هذا الكلام؟ قال بعضهم الغسل من الجنابة، وقال بعضهم غير هذا، هناك أقوال كثيرة، زُهاء ستة أقوال تدور على التكاليف، بعضهم قال الصلاة، بعضهم قال الصيام، بعضهم قال الغسل من الجنابة، بعضهم قال مجموع هذه الثلاث، أي الصلاة والصيام والغسل من الجنابة، بعضهم عمَّم وأطلق، فقال التكاليف الدينية، بعضهم قال التوحيد، بعضهم قال دلائل التوحيد، بعضهم قال الخلافة أو الاستخلاف، إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۩، أشياء كثيرة! وينبغي كما قال الشيخ الإمام الطاهر بن عاشور – قدَّس الله سره الكريم – أن تُسقَط الأقوال التي تدور على التكاليف الشرعية، هذا كلام غير صحيح، كل شيئ له علاقة بالتكاليف الشرعية لا يُمكِن أن تُؤوَّل به الأمانة في الآية، وقد أحسن هذا الشيخ الإمام العلم، لماذا؟ لأن هذه الأمانة لم تُعرَض على المُؤمِن فقط، عُرِضت على الإنسان بالإطلاق، أي المُؤمِن والكافر، بهذه الأمانة يحصل الانمياز، يتميَّز مُؤمِن وكافر ومُشرِك.

ولذلك أنا لدي طريقة قد تكون أسهل وأقرب في الوصول إلى المرام، ما هي؟ الآية نفسها تقول ذلك، الآية تُعطيك مُؤشِّرين، هناك مُؤشِّر هذا التميز، إذن هو أمر يحصل به تميز الناس، تميز البشر، إلى مُؤمِنين وكافرين، أي مُشرِكين ومُنافِقين، ما هو هذا الأمر الذي الآية تُؤشِّر إليه؟ والمُؤشِّر الثاني إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ۩ بإزاء الإنسان الذي قبل، هن أبين وأشفقن، إذن لابد أن تكون هذه الأمانة التي قبلها الإنسان شيئ ينماز – أي يتميَّز – به الإنسان من ماذا؟ من بين سائر هذه المُكوِّنات، من بين هذه المُكوَّنات أو الكوائن أو الموجودات، يتميَّز عن السماوات بأجرامها وأفلاكها، يتميَّز عن الأرض، ويتميَّز عن الجبال، ما هي هذه الميزة؟ إنها ميزة القرار الواعي، الحرية!

انظروا إلى الكون كله، إلى الأجرام، إلى الأفلاك، إلى النبات، إلى الحيوان، إلى التراب، إلى الجبال، وإلى كل شيئ! محكوك بقانون، إنه قانون ماذا؟ الضرورة، الحتمية، ولذلك الشمس يُمكِن أن نتنبأ بما سيقع لها من خسوف أو كسوف بعد حتى مئات الآلاف من السنين، لماذا؟ لأنه لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ۩، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ۩، إذن الكون محكوم بالقهر، بالحتمية، بالتسيير، بالضرورة، للاختصار يسمى قانون الضرورة أو دستور الضرورة، فهل الإنسان محكوم بهذا الدستور؟ كلا، هذه هي الأمانة التي ميَّزته، الإنسان ليس محكوماً بدستور أو قانون الضرورة، إنه صاحب الحرية، صاحب الاختيار الواعي، صاحب القرار الرائد – من الإرادة -، صاحب القرار الرائد الذي يعكس إرادة ومشيئة، أي القرار الشائي، القرار الشائي الرائد، كيف؟ هذه هي الحقيقة، انظروا إلى الآتي، كل أيضاً أجرام وأجسام وأجزاء الطبيعة تسلك السُبل الأسهل والأدنى، حتى إذا ما عاقها عائق ماذا تفعل؟ لا تُقاوِم، لا تُبدي مُقاوَمة، إلا إذا كانت معوقية هذا العائق هي ما يقتضي أقل مُقاوَمة، كالماء الذي ينحدر من علٍ ويسير في مسيله أو في مجراه، يأخذ دائماً أسهل المسارات، يتعرَّج ويتحوَّى ويأخذ دائماً أسهل المسارات، إذا اعترضه عائق أو حائل مُباشَرةً يتحوَّل إلى شيئ أسهل، الإنسان لا يفعل هذا، بالعكس! قانون الجاذبية يُنادي على هذا الماء، ولا يُمكِن للماء إلا أن يُلبي، نعم مُباشَرةً، لكن قانون الجاذبية وأنت على قنة جبل يُناديك، قد تنزل وقد لا تنزل، قد تفعل العكس أنت، تُصاعِد في الجبل، أليس كذلك؟ فالإنسان هو الظاهرة الوحيدة التي تستطيع أن تقول للسُنن ولهذه القوانين التي تحكم عالم الضرورة وعالم الحتميات لا، كما يستطيع أن يُلبي لكن ليس خضوعاً حتمياً، وإنما خضوعاً لقرار رائد شاءٍ، عن وعي، ومُبرَّر لدى هذا الإنسان، هذه هي الحرية.

على كلٍ انتبهوا، الآية فيها دلالة خطيرة جداً، لا تزال أبعد من ذلك، ما هي؟ متى عرض الله هذه الأمانة على الإنسان؟ متى؟ في الفترة التي يُمكِن أن ندعوها أو نُسميها فترة ما قبل التاريخ، أليس كذلك؟ قبل أن يُخطئ آدم وقبل أن ينزل إلى الأرض، لا يُوجَد تاريخ، بعضهم يُسميها الأزل، لكن هذا تجوز، الأزل بمعنى اجتماعي أنثروبولوجي – إذا وُجِد -، وليس بمعنى فلسفي طبعاً، ليس بمعنى فلسفي! إذن في فترة ما قبل التاريخ وما قبل انواجد الإنسان على هذا البسيط أو على هذه المعمورة حصل هذا العرض، عُرِضت الأمانة وتلقاها الإنسان، تقبَّلها بكل جسارة وبكل شجاعة، لم نصل إلى الدلالة، ما دلالة هذه المسألة؟ 

دلالتها أن هذه الحرية، أن هذه الإرادة، وأن هذا الاختيار مقولة جوهرية في الإنسان، انتبهوا! إذا قرأتم لعلماء الأنثروبولوجيا Anthropology وبالذات لعلماء الاجتماع فسوف تجدون أن كثيراً منهم يتخبَّط ويُخطئ ظاناً أن الحرية مقولة اجتماعية، صحيح بعض تعينات، بعض تشخصات، وبعض تمظهرات الحرية هي مقولات اجتماعية، هذا صحيح ولا يُمكِن إنكاره، هناك أنواع من الحرية مثل حرية الانتخاب، حرية الترشح، وحرية التعبير، كل هذه الأشياء لا يُمكِن إلا أن تُوصَّف إلا على أنها مقولات اجتماعية، الحرية هنا مقولة اجتماعية، أنا لا أتحدَّث عن التعينات، أتحدَّث عن الحرية جوهرياً ماهوياً، هل هي مقولة اجتماعية؟ كلا، لماذا؟ لأنها كانت قبل التاريخ، قبل المُجتمَع، وآدم آدم، هكذا برأسه وبحياله، من غير مُجتمَع، من غير رحم مُجتمَعي، وقد أُعطيَ آدم هذه التكرمة، وتحمَّلها، يقول مولانا – أي جلال الدين الرومي، قدَّس الله سره – لقد حُمِّلت وتَحمَّلت هذه الأمانة التي أشفقت منها السماوات اعتماداً على عون يأتيني من لُطف جنابك، لا إله إلا هو! 

ومن هنا أرد على حسن حنفي وأمثاله من هؤلاء المُقلِّدين للأسف للمقولات الغربية والفكر الغربي، أقول له مسكين أنت، الإنسان بهذا المعنى، بهذه العملقة، وبهذا الجبروت لا يتحدَّد خارج مركزية الإله، الله دائماً هو في المركز، الله هو المُطلَق، الله هو المُبتدأ والمُنتهى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ۩، الرجعى إلى الله – تبارك وتعالى -، وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، هو المُبتدأ وهو المُنتهى وهو دائماً المركز بالمُطلَق وهو المُطلَق – لا إله إلا هو -، لا يتحدَّد ولا يُمكِن تحديد الإنسان تحديداً مقبولاً بصفة إيجابية خارج ماذا؟ خارج ماذا؟ خارج الوجود الإلهي العُلوي، خارج الشرع والدين الإلهي، لا يُمكِن! بل يُفقَد الإنسان، وهذا يحتاج – إن شاء الله – إلى مُحاضَرة بحيالها، إذا انتفى الله انتفى الإنسان كما يقول بيرديائيف Berdyaev، الفيلسوف الروسي الوجودي العظيم، نيقولا بيرديائيف Nikolai Berdyaev كان يقول إذا نفينا الله انتفى الإنسان، وهذا ما حدث في الحداثة الغربية وما بعد الحداثة الآن، انتفى الإنسان بالكامل، هُمِّش الإنسان، سُحِق، وخُفِّض إلى نُقطة الصفر.

بل إن القرآن يُؤكِّد لنا أن الدين وأن الإيمان عقيدةً وشريعةً أو عقيدةً وشرعاً، يُؤكِّد لنا أن الدين وأن الإيمان بهذا المعنى هو الذي يُطلِق في الإنسان كل قوى، كل مُحرِّكات، وكل بواعث وحوافز المسئولية الفردية، ومن ثم المجموعية، هو الذي يُفجِّر فيه معنى إنسانيته، هذه التي تُخفَّض بألف سبب وسبب آخر، قد نعرض لبعضها الآن سريعاً – إن شاء الله تعالى -.

هناك الفيلسوف الفرنسي العظيم روجيه جارودي Roger Garaudy، طبعاً وأنا أعلم أنكم تسمعونه، ولكن قلة الذين يعرفون مَن هو جارودي Garaudy، لابد أن تقرأوه ماركسياً قبل أن تقرأوه إسلامياً، حين تقرأون هذا الرجل حتى ماركسياً – حين كان ماركسياً – تُدرِكون عظمة هذا الدماغ، هذا الذي لقَّبه الفيلسوف المصري أو العالم المصري الكبير رشدي فكّار بالمنجم، قال جارودي Garaudy منجم فكري، منجم! رجل غير طبيعي، غير عادي، دماغه غير عادي، رجل يقرأ يومياً عشرة كُتب، يومياً يقرأ في مُختلِف العلوم والفنون والأفكار، شيئ غير طبيعي، منجم بالمعنى الحقيقي، هذا الرجل لماذا أسلم؟ لماذا أسلم هذا المنجم الكبير؟ هذا الفيلسوف الشامخ القامة لماذا أسلم؟ أسلم بسبب الآتي، قال لأنني وجدت أن الإسلام والإسلام وحده كان سر انتشاره هو إتيانه بصيغة حركية جديدة للمُجتمَع وللناس، نسخت كل السكونيات التي أثبتتها الديانات السابقة والأيديولوجيات السابقة المُنصرِمة، قال الإسلام هو الذي أطلق ثورة المسئولية الفردية التي كبَّلها الإقطاع ورجال الكنيسة، الإسلام فعل ذلك، من أول يوم! ما معنى أن يكون هذا هو سر الإسلام وسر انتشار الإسلام؟ طبعاً لأن الإيمان بهذا المعنى الذي فهمه جارودي Garaudy أو مُعادَلة الإيمان بهذه الطريقة هي التي ثوَّرت الإنسان وفجَّرت كل الطاقات.

أنت تستطيع من بضعة جرامات من عنصر مُشِع كاليورانيوم Uranium أن تحرق مدينة، كذلك فعل الإسلام بالإنسان، من هذا الإنسان الضئيل مظهرياً والضئيل مادياً فجَّر الإسلام ثورة، لا أقول ساحقة، ثورة بنّاءة، ثورة عُمران، ثورة دين وتمدين، عمت أرجاء المعمورة في فترة قصيرة جداً جداً، كانت أشبه بالمُعجِزة، وهم يعتبرونها مُعجِزة، مُعجِزة الفتح الإسلامي، مُعجِزة التمدين والتحضير، كيف حضَّر – برأي غوستاف لوبون Gustave Le Bon – المُسلِمون أوروبا؟ كيف علَّموها؟ وكيف انتشلوها من الهمجية؟

وإلى اليوم للأسف نُرانا مُضطَرين إلى ترديد بعض هذه المقولات، إلى اليوم! اليوم الذي يُزعَم فيه أن الإسلام هو إسلام الإرهاب والقتل والتفجير للأسف، ونحن أيضاً نُسيء إلى أنفسنا، لأننا لا نستطيع أن نُصوِّر الإسلام على نحو مُختلِف تماماً، وندخل المُعترَك الفكري، مُعترَك الحوار، مُعترَك المُصارَعة الحضارية، باقتدار وثقة كاملة، بالله أولاً، وبشرعه ثانياً، ثم بأنفسنا ثالثاً، لا نفعل ذلك، لأن هذه الثقة غير موجودة – أنا أقول لكم – للأسف، إلا عند قلة مِمَن رحم الله – تبارك وتعالى -، هذا الإسلام إلى اليوم وهو هكذا.

يأتي أنثربولوجي كبير جداً جداً، مُتخصِّص فيما يُعرَف بأنثروبولوجيا Anthropology التنظيم الدولي، وهو العالم الهولندي الفذ – معروف عالمياً، ادخلوا على الإنترنت Internet فقط، وسوف تخرج لكم عشرات الآلاف من الصفحات – جيرارد هوفستيد Geert Hofstede ليقول الآتي، هوفستيد Hofstede هذا من أكبر الباحثين في العالم، هوفستيد Hofstede يقرأ أربعين حضارة أو ديانة، مَن منكم فعل ذلك؟ مُستحيل، ولا أنا! يقرأ أربعين حضارة وديانة أو يقرأ أربعين ثقافة وديانة، عفواً! والحضارة هي الثقافة، لكن ليس بالصيغة الألمانية طبعاً، بالصيغة الإنجليزية والفرنسية، يقرأ أربعين حضارة أو ثقافة وديانة في مدى قريب من خمسة وعشرين عاماً، ثم يخرج بكل موضوعية علمية، بكل أمانة يُحترَم فعلاً لأجلها ويُقدَّر ويُشكَر، ليقول الإسلام هو أكثر الثقافات على الإطلاق التي درستها – وهو درس أربعين ثقافة وديانة – يستطيع أن يحتوي الآخر ويتسامح ويقبل بالآخر، أكثر ديانة مُسالِمة، أكثر ديانة عاقلة، أكثر ديانة مُنفتِحة الصدر والقلب، والتاريخ يقول هذا، لكن حتى القرآن نفسه يقول هذا، النصوص تقول هذا، النصوص التي لا نكاد نفهمها للأسف الشديد، نخر عليها صُماً وعُمياناً أو كالصُم العُمي – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

هكذا! هكذا هو الإسلام، فجَّر الإسلام ثورة، لكن للأسف لا نُدرِك هذا، وحديثنا اليوم عن آية العرض، نتحدَّث عن الإنسان من خلال آية العرض، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ۩، هذه الآية التي جعلت فيلسوفاً مُسلِماً أُحبِّذ دائماً الاستشهاد دائماً والرجوع إليه، لأنه في نظري مرجعية بلا شك، وهو محمد إقبال – رحمة الله تعالى عليه – يقول الآتي، وسأتساءل أو سأزرع سؤالاً وليُجِب عنه كل واحد منكم بمُفرَده وبرأسه، ما الذي يُفرِّق بينك وبين محمد إقبال؟ محمد إقبال المُسلِم الذي كان يكب على القرآن الكريم، الرجل لم يكن قيام الليل يفوته في ليلة واحدة، القانوني، الفيلسوف، الشاعر، والمُفكِّر العالمي يومياً كان مُتصِل الحبل بالله، كل ليلة لا يفوته القيام، البكاء، والسجدة، يقول يا رب خُذ مني كل ما تُريد، خُذ مني أي شيئ، غير أنة السحر، الآهة بالسحر لجلالك، لا إله إلا الله! يقول حتى الملائكة ليست مثلي، الملائكة ليس لها هذا القدر من التمتع بساعة السحر مثلي، العبد الذي يُعاني التوتر بين الروح والبدن، الذي يُعاني التوتر بين الصعود والتدلي، ليجد هذه اللذة العجيبة جداً التي تُخفِّف هذا التوتر وتُحرِز له تصعيداً جديداً في مدارج الاكتمال والترقي، رحمة الله تعالى عليه، ما الذي يُفرِّق وما الذي يُميِّز بينك وبينه؟ ما الذي جعل من إقبال الذي أصفه بهذه الكلمات الحقيرة الصغيرة إقبالاً؟ وما الذي جعل منك ما أنت عليه؟ هذا إقبال! هل أنت كإقبال؟ مع أنك تكب على القرآن الذي كان يكب عليه، أنت تقرأ نفس القرآن، أنت تقرأ نفس الآيات، هل القرآن هو السبب وهو العلة التي خفَّضت قيمتنا إلى هذا الحد وأعلت قيمته إلى ذلكم الحد؟ 

عن ماذا أتحدَّث؟ قد يتساءل بعضكم، عن صورة الذات، كيف كان إقبال ينظر إلى نفسه كمُسلِم قرآني وكتَلميذ على مائدة القرآن؟ وكيف تنظر أنت إلى نفسك؟ كان ينظر إلى نفسه – سأضرب مثالاً واحداً فقط، وهناك آلاف الأمثلة في دواوينه الشعرية – على النحو الآتي، كان يُخاطِب ربه، يقول له يا رب، أنت صنعت الأحجار، وأنا صنعت المرايا، صنعت من الحجر المرايا، أنا خالق أيضاً وصانع، بمُستواي! فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩، انتبهوا! أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ۩، انتبهوا وتخفَّفوا من ثقل المُصطلَحات الكلامية والأيديولوجية التي دمغت تفكيرنا، ليس خالقاً من عدم، انتبهوا إلى هذا، هو مُقدِّر، صانع، ومُصوِّر، يقول يا رب أنت صنعت الحجارة، وأنا صعنت المرايا، أي منها، يا رب أنت خلقت السُم، ومن السُم خلقت الترياق أنا، جعلته دواءً، خلقت من السُم دوائي، ومن الحجارة مرايا، يا رب أنت خلقت الأشجار وأنزلت الماء، وأنا صنعت البساتين، أنا الذي صففت هذه الأشجار بطريقة مُعيَّنة وهندستها، أنا الذي صنعت الشونبرون Schönbrunn والحدائق الجميلة جداً والغناء، أنا! ما معنى الكلام هذا؟ ما هذه الثقة المُطلَقة؟

قبل يومين كنت أشكو بتمرر إلى أحد إخواني وخلاني، أقول له أجدني مُتحسِّراً على طريقتنا في التفكير، على نفسي أولاً قبل الآخرين، بعد هذا العمر من الدرس ومن الرهبنة في محاريب المكتبات – حياتي ضيَّعتها بين الكُتب، حياتي كلها بحمد الله – أجد شعوراً بالتأثم، حين أُفكِّر في أمثال هذه القضايا وأستوعب وأستغرق، لماذا؟ يشدني جاذب عجيب، هل هذا الجاذب يعكس روح القرآن أم يعكس الفكر المُنحَط المُتخلِّف الذي شوَّه عقليتنا وشوَّه أنظارنا التي نرنو بها للقرآن؟ هذا هو السؤال أيضاً، يشدني ويجذبني جاذب قوي جداً، يقول لي ليست هذه هي الطريق، الطريق فقط في البكاء والعبادة، في الدين بالمعنى التقليدي، في دين الطقوس، لكن تمدين الحياة وتثوير الحياة وإبهاج الحياة والأحياء قد لا يكون ديناً، وأشعر فكرياً أن هذا خطأ، ليس هكذا الدين، من هنا انحططنا وانحدرنا، من هنا نحن سلبيون جداً، من هنا! فهذا الدين أولاً جاء لهذه الدنيا، جاء لهذه المعمورة، قبل أن يأتي للآخرة، أليس كذلك؟ وجاء لنا كبشر، لم يأت للملائكة أبداً، جاء لنا نحن، فلماذا فهمناه على نحو مُختلِف؟ إذن ليست العلة وليس السبب هو القرآن، السبب في الطريقة التي تنظر بها للقرآن، لقد نظر إقبال بطريقة مُختلِفة.

وقد يُجادِلني بعضكم، يقول وما أدراني أن طريقة إقبال هي الصحيحة؟ سأُعطيك البُرهان، طريقة إقبال هي الأصح، تُقارِب الحق أكثر من طريقتنا، لماذا؟ لأنها توائم هذا القرآن، المرجعية الآن المُطلَقة لنا هي القرآن، وهي توائم هذا القرآن، قرآن مَن هذا؟ قرآن الرب الحكيم العليم الجبّار القهّار الرحيم – لا إله إلا هو – الصانع الخالق المُبدِع الحكيم، هذا الرب بكل هذه الصفات وغيرها كثير كثير استخلف هذا الإنسان، الذي أراد منه أن يكون منعوتاً بماذا؟ بأقباس من هذه النعوت، وقد أعطاك هذه الأقباس، وسماك سميعاً بصيراً، وسماك خالقاً، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۩، انتبه إلى المنطق القرآني، ليس إلى المنطق الكلامي اللاهوتي الثيولوجي، سماك خالقاً صانعاً مُبدِعاً مُتجاوِزاً، سماك كذا، الرب الذي حمَّلك الأمانة.

قد يقول بعضهم ولكنه هو نفسه – لا إله إلا هو – مع علمه بضعفي وجهلي قال إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ۩، ولو نظرت إلى الآية بنظر أعمق لعلمت الحق يا أخي، كيف؟ ظَلُومًا جَهُولا ۩ يُمكِن أن يُنظَر إليها على أنها ملاك عدم الاستحقاق، ويُمكِن أن يُنظَر إليها على أنها ملاك تصحيح الحمل وتصحيح العرض، نعم كان يصح أن تُعرَض الأمانة على الإنسان ويصح أن يتحمَّلها الإنسان، لماذا؟ لأنه لا يتصف بالظلم والجهل إلا مَن جاز أصلاً أن يتصف بماذا؟ بالعدل والعلم، ولذا لا يجوز أن يُقال في الجبل إنه ظالم أو ظلوم أو جهول، لكن يجوز أن يُقال ذلك في الإنسان، هو ظلوم وجهول، لماذا؟ لأنه يجوز أصلاً كمُستوى سابق أن يُقال إنه عليم وعادل، هذا هو! الآية لا تُصادِر على الاستحقاق، بالعكس تُبرهِنه بطريقة أُخرى، تُبرهِنه بطريقة أُخرى! وهكذا.

إذن هذا هو، جرى بعد ذلك مسخ هذه المعاني القرآنية العجيبة، حتى أن مسألة الحرية هذه – وأنا أتحدَّث عنها من غير تعيينات، أي من غير تحديد باللُغة الفلسفية، أتحدَّث عنها من غير تحديد ومن غير تعيين، الحرية هكذا كمفهوم جوهري ماهوي – مُسِخت، هذه الحرية أيضاً مُسِخت وطُمِست حين طُرِحت في إطار يجعلها موضعاً للتساؤل ومثاراً لمُجادَلة الله طرف فيه، هل أنا مُخيَّر بإزاء الله الذي يسمح لي بالاختيار أم أنا مُسيَّر بإزاء القدرة القاهرة الجبّارة التي لا يعدوها شيئ ولا يتكاءدها ولا يتعاجزها شيئ؟ أهكذا هي المسألة؟ أهكذا صوَّرها القرآن؟ القرآن فصل فيها يا مسكين، القرآن فصل فيها! القرآن قال وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۩.

وقد يقول قائل أهو الذي حملنا؟ كيف؟ نحن حملنا أنفسنا، حملناها على السُفن التي صنعناها! الله يعلم ذلك، وهو الذي قال ذلك، في كم آية وفي كم موضع قص الله علينا أن نوحاً كان يصنع السفينة! ومع ذلك قال إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ۩، وقال وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ۩، نحن الذين حملنا نوحاً، أيضاً لهذه الآية دلالة وأي دلالة! ما دلالتها؟ دلالتها المُطابَقة بين فعل الله وفعل الإنسان، ما دلالة المُطاَبقة أيضاً؟ سؤال بعد سؤال، دلالة المُطابَقة أن الإنسان هو الذي يُعبِّر عن ماذا؟ عن فعل الله، هو الوحيد القادر على أن يكون مرآةً تعكس ماذا؟ إرادة الله في تعمير هذا الكون وفي تثمير هذه الحياة، الله – تبارك وتعالى – أراد أن تُصنَع السفينة، وصنعها الإنسان، أراد ان تحمل هذه السفينة هؤلاء الثُلة المُصطفين، والإنسان هو الذي حملهم عليها، الله عبَّر وقال نحن الذين حملنا، يُوجَد تطابق، عجيب جداً! ماذا تُريدون من تجلة وتكرمة أكثر من ذلك؟ شيئ عجيب، لكن للأسف – كما قلت لكم – مُسِخت المسألة، وجُعِل الله طرفاً فيها.

وسأختم بتساؤل واحد، بالله عليكم قولوا لي وقولوا لأنفسكم الجبابرة، مصاصو الدماء، أصحاب السُلطة، المُتسيِّدون، والمُتنفِّذون، هل سألوا هذا السؤال مرة واحدة؟ وهل يفعلون؟ هل تظنون أن هذا المُشكِل الفتاللزمي – من Fatalism – يُمكِن أن يشغل بال الجبّابرة من مصاصي دمائنا ومن الذين اغتالوا حرياتنا كلها وبالذات الحريات الاجتماعية والسياسية والفكرية والتعبيرية؟ هل سألوا هذا مرة؟ هل كانوا صدَّعوا رؤوسهم أو يُصدِّعون رؤوسهم وأدمغتهم بمسألة هل أنا مُخيَّر أو مُسيَّر؟ بالنسبة إليهم هم مُخيَّرون، مُخيَّرون في أن يُقطِّعوا ألسنتنا، مُخيَّرون في أن يفقأوا عيوننا وأن يتركونا ضفادع تنق نقيقاً كما قال نزار قباني، نعم! هم مُخيَّرون في ذلك، ويعلمون أنهم مُخيَّرون، مُخيَّرون تماماً، إرادتهم واضحة، ولكن علينا أن نُمشي هذه المسألة على رجليها، لأنها تمشي على رأسها.

إذا طرحنا مُشكِلة القضاء والقدر دائماً بنفس الصيغة الفلسفية اللاهوتية القديمة فالمسألة تمشي على رأسها، نحن نُريد ان نُعدِّلها لنُمشيها على رأسها ولنبدأ لنتساءل عن حرياتنا، عن ذاتياتنا، عن قُدرنا، وعن إمكاناتنا بإزاء هؤلاء، ما هي اختياراتنا بإزاء هؤلاء؟ ما هي إمكاناتنا؟ أين ذاتياتنا؟ وأين وجودنا الذي خُفِّض وطُمِس؟ وجودنا خُفِّض إلى درجة الصفر تقريباً، أحياناً بالسالب – والله -، أحياناً بالسالب! غداً في مُحاضَرة السبت سنتحدَّث عن هذه النُقطة مُفصَّلاً، وسنتحدَّث عن فلسفة الصمت الاجتماعي، الأمة العربية الآن أمة الصمت الاجتماعي، سأُفلسِف هذه النُقطة أيضاً على ضوء المرجعية القرآنية، مُنطلِقاً ومُستثمِراً بعض النقاط في خُطبة اليوم، أحياناً بالسالب Minus- – أي تحت – يحدث هذا، وهذا ما كان يُدعى بالاغتراب، ما دعاه ماركس Marx وفروم Fromm وكل هؤلاء الفلاسفة بالاغتراب، نحن نعيش اغتراباً حقيقياً، ليس اغتراب ماركس Marx الذي تحدَّث فيه عن اغتراب الإنسان عن عمله وعن فائض جُهده أبداً، إنما هو اغتراب حتى عن ذاتك، أين هي ذاتك؟ أين إمكاناتها؟ وأين قُدرها؟ كلها خُفِّضت خُفِّضت خُفِّضت خُفِّضت.

القرآن كثَّف عن هذه المعاني في كلمة واحدة، هنا الجلال، هنا الرهبوت القرآني، قال فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩، ما معنى فَاسْتَخَفَّ ۩؟ بماذا تُوحي كلمة فَاسْتَخَفَّ ۩؟  بالتخفيض، لقد خفَّض كل شيئ، ألين المُجتمَع – من الــ Alienation -، ألينهم أو غرَّبهم، نحن نعيش في حالة اغتراب كاملة عن الذات.

طبعاً هذه أكثر درجات الاغتراب سُحقاً، أن تغترب عن ذاتك، أما أن تغترب عن عصرك، عن تاريخك، عن شهود العصر، عن عملك، وعن كذا وكذا، فهذه درجات أدنى، لكن هذه درجة – والعياذ بالله – مُتفرِّدة جداً، أي الاغتراب عن الذات، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۩.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك يا رب العالمين، اللهم اهدِنا واهدِ بنا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها بمنّك يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، اللهم مَن أراد بالإسلام وبالمُسلِمين خيراً فكُن له خير مُعين، ومَن أراد به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيز مُقتدِر، فإنه لا يُعجِزك.

اللهم عليك بأعدائنا، أعداء الدين، أحصِهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، اللهم أرِنا فيهم عجائب قدرتك وآيات انتقامك وعلائم بأسك الشديد الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

15/8/2003

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: