إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُحسِنين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۩ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ۩ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ۩ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ۩ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

 لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، وصفان ونعتان جليلان اختص الله – سُبحانه وتعالى – بهما هذا النبي الكريم من بعده، النبي الرؤوف الرحيم، والذي وُصِف أيضاً في كتاب الله بأنه رحمة للعالمين، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، وهو رحمة للعالمين أجمعين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.

ولا غر – أيها الإخوة والأخوات – فأعظم إنسان لابد أن ينطوي على أعظم قلب، أعظم عقل وأعظم إدراك وأعظم فهم لابد أن تتساوق معه أعظم عاطفة وأعظم شعور، كم كان هذا القلب عظيماً ورحباً ومُنداحاً ووسيعاً ورقيقاً ولطيفاً! هذا القلب الذي كان يحن ويحنو على الدواب، على البهائم، على الحشرات، على النمل، وفي نفس الوقت يبكي إخوانه وأهله وأولاده – أبناءه وبناته – وأصحابه، إذا قضوا أو إذا اعتلوا ومرضوا، وأيضاً كان يبكي أمته، كان يبكي أمته، مَن أدركه منهم ومَن لم يُدرِكه، يقول أمتي أمتي، فكم كان هذا القلب عظيماً! كم كان هذا القلب عظيماً! صلى الله وسلم وبارك على صاحبه كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون.

روى الإمام مُسلِم في صحيحه – رحمه الله تعالى – عن عبد الله بن عمرو – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال قرأ النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام، أي مرةً – قوله – تبارك وتعالى – رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۩، من سورة إبراهيم، والآية هي حكاية لقول إبراهيم الخليل – عليه الصلاة وأفضل السلام -، والضمير هنا يعود على الأصنام، رَبِّ إِنَّهُنَّ ۩، أي الأصنام، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، وقوله – تبارك وتعالى – إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، ثم رفع – عليه الصلاة وأفضل السلام – يديه وقال اللهم أمتي أمتي، وبكى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، يبكي هذه الأمة، يبكي عليها، لا يدري مَن يستقيم منهم على سواء السبيل ومَن يحيد ويتنكَّب، فهو يبكيهم – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

فأرسل الله تبارك وتعالى – تكملة الحديث – جبريل – عليه السلام -، وهو أعلم وأدرى – لا إله إلا هو -، وقال له يا جبريل سل محمداً ما يُبكيك؟ فنزل جبريل وسأله، فأخبره بأنه يبكي شفقةً وخشيةً ومُحاذَرةً على أمته أن يضل منهم مَن يشقى – والعياذ بالله -، والله أعلم بذلك كما تعلمون، فعاد جبريل فأخبر رب العزة – تبارك وتعالى -، وكل هذا إنما جاء تعليماً لنا، وإلا فالله – تبارك وتعالى – أعلم وأدرى، فقال له – تبارك وتعالى – يا جبريل عُد إلى محمد – أرسله ثانيةً – وأخبِره، قل له إنا سنُرضيك في أمتك ولا نسوءك، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته، الله أكبر!

إذن جُزء – أيها الإخوة الأفاضل والأخوات الكريمات – من رحمة الله بنا ولنا كرامةً لهذا النبي العظيم، الله أكبر! نحن في معيته، نحن في كرامته – عليه الصلاة وأفضل السلام -، إنا سنُرضيك في أمتك ولا نسوءك، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ۩، فهذه سعة ما بعدها سعة، شيئ عجيب، كما قلنا لكم مرة قال أحد العقلاء أن تكون مُربياً تحتاج أن تكون أكثر من والد وأكثر من إنسان عادي، لكن أن تكون واصلاً إلى هذا المقام أو مُقتعِداً هذه المكانة هذا مُستحيل، هذا لا يكون إلا لمحمد، الذي يبكي أمته، بالملايير! لم يرهم، ولم يُدرِكوه، ولم يُدرِكهم، ومع ذلك هو يبكيهم، خشيةً وشفقةً ومُحاذَرةً عليهم، صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم.

أما شفقته ورحمته بالصبيان وبالضعفاء فهي شيئ عجب، روى البخاري ومُسلِم في الصحيحين عن أنس بن مالك – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال ما رأينا أحداً كان أرحم بالصبيان من رسول الله، رحمة عجيبة تُجاه الأطفال، تُجاه الصغار، رحمة غريبة جداً، كان يجلس إليهم، كان يتقرفص هكذا بالشارع، يطرح عليهم السلام، فيردون عليه السلام، يُمازِحهم، يُكلِّمهم، يسألهم عن أسمائهم، عن بعض مشاكلهم، وهو خير البرية، كما نقول دائماً ليس مُجرَّد باني دولة أو مُؤسِّس حضارة وقائد أمة، إنه خاتم الأنبياء والمُرسَلين، أعظم خلق الله، أعظم مَن خلق الله – تبارك وتعالى -، وأكرم وأحب وأجل عند وإلى الله – تبارك وتعالى – مَن خلق الله – تبارك وتعالى -، وهو يفعل هذا.

محمود بن الربيع في صحيح البخاري يقول لا زلت أذكر مجةً مجها رسول الله في وجهي من دلوٍ وأنا ابن خمس، كان ابن خمس سنين، وكان هناك دلو فيها ماء، النبي أخذ منها هكذا بفمه، ومج في وجهه يُمازِحه، الله أكبر! وهذا لم ينس ذلك، كان محمود من صغار الصحابة، أي محمود بن الربيع، قال هذا حدث وهو ابن خمس سنوات، قال لا أنسى هذه المجة التي مجها في وجهي، قال الحافظ ابن حجر ربما أراد تبريكه، هذه بركة طبعاً، إذا دخل الماء في فم رسول الله ثم عاد إلى أحد فهذه بركة عظيمة، لأنه يختلط بريقه الشريف، لو أن هذا الماء مسه الرسول فقط مُجرَّد مسيس لكان فيه بركة، فكيف إذا اختلط بتريقه؟ ولذلك تحنيكه للصبيان، أي تحنيكه للأطفال الصغار، يرى كثير من العلماء أن ذلك إنما كان خاصةً له، من خصائصه، والقلب يميل إلى هذا، ولذلك ليس لكل أحد أن يُحنِّك الصبيان، فربما يتجرثم الصبي، ربما يتضرَّر بهذا، لكن النبي شيئ مُختلِف تماماً، ريقه إذا خالط الريق الصبي فهو النور والخير والبركة العميمة بلا شك، فهذا من خصائصه كما يرى كثير من العلماء، صلى الله تعالى وسلم وبارك عليه.

يقول لم يكن أحد أرحم بالصبيان من رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ولقد كان إبراهيم – يعني ابنه من مارية عليها السلام – مُسترضَعاً في عوالي المدينة، مكان على حدود المدينة، يُسمى العوالي، وأبو بكر أيضاً كان له زوجة في عوالي المدينة، المُهِم في عوالي المدينة، في أحاديث أُخرى غير هذا الحديث الذي في الصحيحين كان مُسترضَعاً عند رجل حّداد، أي قين، يُقال له القين، القين هو الحدّاد أو الصائغ، يُسمى أو يُكنى بأبي سيف القين، نسبةً إلى مهنته، عند أبي سيف القين، فأبو سيف القين هذا كان ظئر إبراهيم، يُقال للرجل ظئر ويُقال للمرأة – أي المُرضِعة – ظئر أيضاً، كان أبو سيف القين ظئر إبراهيم – عليه السلام -، إذن هو عند أبي سيف القين، أي الحدّاد.

ولقد كان – يقول أنس، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – إبراهيم – يعني ابنه – مُسترضَعاً في عوالي المدينة، فكنا نذهب – يعني أصحاب رسول الله – معه، وإن الدار لتُدَّخَن – بتشديد الدال وفتحها، أي يعلو منها الدخان، لماذا؟ لأنه حدّاد -، يقول فندخل مع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فيأخذ إبراهيم، فيُقبِّله، في روايات كان يشمه ثم يُقبِّله، يشمه ثم يُقبِّله، ثم يضعه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، رحمة عجيبة، أي يقطع هذا المشوار الطويل من أجل أن يأخذ هذا الطفل الرضيع – ابنه الصغير – ليشمه ويُقبِّله ثم يضعه.

في الحديث الذي أخرجه الإمام أبو بكر البزّار – رضيَ الله عنه – وأحمد بن منيع وأعتقد أيضاً أبو بكر بن أبي شيبة – شيخ البخاري في المُصنَّف – عن عبد الرحمن بن عوف، يقول أخذ رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – بيدي، فأدخلني في النخل، فأدخلني في النخل أي في طائفة أو في مجموعة النخل، في المكان الذي كان فيه – في عوالي المدينة – ابنه إبراهيم – عليه السلام – مُسترضَعاً، قال حتى دخلنا داراً، وكان إبراهيم ابنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – يجود بنفسه، قال فأخذه النبي، هكذا احتمله، ووضعه على حجره، وإن عينيه لتذرفان، جعل النبي يبكي، قال فقلت يا رسول الله أو لم تنهنا عن البكاء؟ فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إني لم أنه عن البكاء، هذا سوء فهم منك، إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة، طرب ولهو ومزامير شيطان، هذا الذي نهيت عنه، كما يفعل الآن مَن يرقصون ومَن يُغنون – والعياذ بالله – ومَن يأخذهم الطرب الزائد، هكذا وصفه النبي، وصوت عند مُصيبة، ضرب وجه وشق جيب، هذا الذي نهيت عنه، عن هذين الصوتين الأحمقين الفاجرين، وإنها لرحمة، هذا الذي تراه من سيلان الدمع ومن البكاء رحمة، وإنها لرحمة، ومَن لا يَرحم لا يُرحَم، الله أكبر!

هذه المظاهر رحمة، ليست الرحمة فقط تأتي ببعض المسالك أو بعض الأفعال، حتى البكاء من أكبر علائم ومُؤشِّرات الرحمة، لأنه يُؤشِّر على ماذا؟ على لطافة القلب ورهافته ورقته، هناك القلب الذي لا يتوتر سريعاً، لأن البكاء كيف يحصل؟ بالتوتر، بعض الناس درجة توترهم عالية جداً جداً، يرى مصائب ويرى أشياء عجيبة تُبكي الصخر ولا يبكي، ويعتبر هذا من الرجولة، أبداً ليس من الرجولة، فقط لأن قلبك من صخر – والعياذ بالله -، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۩، قسوة القلب من علائم الشقاء – والعياذ بالله -، من علائم الشقاء قسوة القلب، النبي كان يُبكيه أشياء – سوف ترون وسوف تسمعون بعد الآن – أقل بكثير من هذه الأشياء، لأن قلبه كان لطيفاً جداً، درجة توتره كانت مُنخفِضة جداً، أي شيئ مُباشَرةً يُحرِّك هذا القلب، فتذرف العينان، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، قلب عظيم!

ولذلك كان حتى كثير البكاء من خشية الله، لا يُمكِن أن يكون الإنسان كثير البكاء من خشية الله ولا يبكي الضعفاء والمحرومين والمرضى والمُتألِّمين والضحايا، لا يُمكِن! لا يُمكِن هذا، إذا كان يبكي من خشية الله فسوف يبكي هؤلاء جميعاً، لأن هذه رحمة لا تتجزأ، هذه رحمة لا تتجزأ!

نسأل الله – عز وجل – أن يُليِّن قلوبنا، ويجعل فيها الرحمة والنور والسرور والحبور، بفضله ونعمته، إنه ولي ذلك، اللهم آمين.

قال وإنها لرحمة، ومَن لا يَرحم لا يُرحَم، ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ويا إبراهيم لولا أنه وعد صادق وقول حق وأن آخرنا سيلحق بأولنا لبكينا عليك ولحزنا عليك حزناً أشد من هذا، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون، قال وإنا عليك يا إبراهيم – أي مع ذلك – لمحزونون، أي مع أننا نُوقِن أنه وعد صادق وقول حق وأن آخرنا سيلحق بأولنا، هذا معنى قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وفي الصحيحين – هذا الحديث أصله أيضاً في الصحيحين من رواية أنس – إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، وهنا وإن القلب ليحزن، ولا نقول ما يُسخِط ربنا، وفي الصحيحين ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، هنا قال ولا نقول ما يُسخِط ربنا – تبارك وتعالى -، تسليم!

ولذلك أيضاً ورد في حديث ثالث أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بعد أن قضى ابنه إبراهيم – عليه السلام – قال إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، أي في سن الرضاع، في سن رضاع الثدي، قال وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين تُكمِلان رضاعه في الجنة، لأنه مات – عليه السلام – وهو ابن ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، أي سنة وأربعة أشهر أو سنة وخمسة أشهر، عليه السلام.

ولذلك الله – تبارك وتعالى – يسَّر له في الجنة – في دار المقام والخُلد يسَّر له – ظئرين، أي مُرضِعين أو مُرضِعتين، تُكمِلان رضاعه حتى يُتِم السنتين، عليه السلام، على إبراهيم وعلى رسولنا الصلوات والتسليمات، هكذا!

وروى أبو داود الطيالسي وغيره أيضاً أن رقية – عليها السلام، بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لما قضت – لما توفاها الله تبارك وتعالى إلى رحمته – جعل النساء يبكين، فنهاهن عمر، نهاهن بشدة وحزم، فأخذ النبي بيده وقال دعهن يا عمر، ابكين، ابكين وإياكن من صوت الشيطان، قال وإياكن من صوت الشيطان، أي الصراخ الزائد عن اللزوم والكلمات، ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما كان من القلب وما كان من العين فمن الرحمة، وما كان من اللسان وما كان من اليد فمن الشيطان، إذا ذهبت المراة تخمش وجهها أو تأخذ من شعرها أو تشق جيبها أو تتكلَّم وتتسخَّط قدر الله – تبارك وتعالى – فهذا من الشيطان، من تسويل الشيطان، من إلقاء الشيطان وتزيينه، من استفزازه للمُؤمِنات، لكن ما كان من العين – أي البكاء – وما كان من القلب – أي الحزن والتخشع والرقة التي تُداخِل القلب – فهذا من الرحمة، هذا من رحمة الرحمن – تبارك وتعالى -، هذا من فضل الله على المُؤمِن، فضل كبير أن تذرف العينان، أن يخشع القلب، وأن يقف شعر البدن، هذا من أعظم فضل الله على المُؤمِن والمُؤمِنة، نعم! فنسأل الله أن يُوالي علينا أفضاله في هذا الباب وغيره.

يقول الراوي ثم جلست فاطمة – عليها السلام، بنت رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام، يقول ثم جلست فاطمة – عليها السلام والرضوان والرحمة – على شفير قبر رقية، أي أختها، على شفير قبر أختها تبكي، والنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يمسح دموعها بيده وفي رواية بثوبه، النبي سمح لها بذلك، ابكي يا بُنية، يمسح دموعها الشريفة الكريمة بيده – عليه الصلاة وأفضل السلام -، بيده أو بثوبه في رواية أُخرى، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، شيئ عجيب!

تقول عائشة كما رواه الإمام الحاكم في المُستدرَك والإمام أبو عبد الله بن ماجة في السُنن، تقول لما اشتكى سعد وجد به الموت – وجع وجعاً شديداً، لكنه بحمد الله لم يمت، وتعرفون سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، مُستجاب الدعوة، رضوان الله تعالى عليه، تقول وجد به الموت، أي أشفى، أشفى به مرضه على الموت – دخل عليه رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فبكى وبكى أبو بكر وبكى عمر، تقول وإني لأعرف – تُميِّز – بكاء أبي بكر من بكاء عمر، لأنه بكاء أبيها، تعرف صوته وطريقته، قالت وأما الرسول فقد كانت عينه تذرف ويمسح وجهه بيده ولا يُسمَع له صوت، لا يُسمَع له صوت! هكذا يبكي وتذرف عيناه، تزرف عيناه ويمسح دموعه بيديه، أي ويمسح دموعه عن وجهه بيديه الشريفتين – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

هذه طريقته في البكاء، ولكن روى ابن عدي بسند فيه ضعف عن جابر بن عبد الله – ابن عدي في الكامل، وهو من مظان الضعيف على كلٍ، روى بسند فيه ضعف عن جابر بن عبد الله، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لما أوتيَ بحمزة بكى، لما رآه مُجندَلاً شهيداً بكى، فلما كُشِف عنه ورأى ما مُثِّل به – أي ما مُثِّل بحمزة – شهق، شهق النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقد كان مُصابه عظيماً جداً بحمزة عمه، أسد الله، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وألحقنا الله به وبإخوانه من شهداء المُسلِمين، اللهم آمين، هكذا!

أيضاً دخل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – على سعد بن عُبادة، سيد الأنصار، من سادات المُسلِمين، والحديث مُخرَّج في الصحيحين من رواية أنس – رضيَ الله عنهم وأرضاههم أجمعين -، يقول أنس اشتكى سعد شكوى له، فأتاه النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يزوره، وكان معه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، ولما دخل عليه وجده في غاشية أهله، أي في المكان الذي يجلس فيه نسوته، لم يره النبي، وجده في غاشية أهل، فسأل أقضى؟ أي أتُوفيَ؟ فقالوا لا، فبكى النبي، يبدو أنه بكى فرحاً، سأل أقضى؟ قالوا لا، فبكى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فلما رأى أصحابه بكاءه بكوا معه، إذا الرسول بكى فنحن نبكي، فبكوا – رضوان الله تعالى عليهم -، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ أي اسمعوا، هذه طريقة في التنبيه، ألا تسمعون؟ ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الله – تبارك وتعالى – لا يُعذِّب بما كان من القلب أو العين، هذا ليس فيه عذاب، وإنما يُعذِّب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه، البكاء لا بأس به، البكاء مُستحَب، ولكن يُعذِّب بما يكون من قول اللسان، كما قلنا تسخطاً للقدر – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، وإنما يُعذِّب بهذا أو يرحم، وأشار – عليه الصلاة وأفضل السلام – إلى لسانه، وهذا في الصحيحين.

وأما صاحبه الجليل الزاهد المُفتقِر إلى رحمة الله وغناه عثمان بن مظعون – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – فلما تُوفيَ وكان نازلاً عند امرأة من الأنصار يُقال لها أم مُعاذ جاء النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فطلب ثوباً، دعا بثوب، فسُجيَ عليه، وأكب النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عليه، حتى أكب طويلاً، أي وضع وجهه على وجهه هكذا كأنه يُحادِثه – وهو قضى، تُوفيَ إلى رحمة الله – طويلاً، ثم رفع النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – رأسه، وعيناه تهملان، يبكي! فبكى الناس جميعاً، بكى كل مَن كان في الدار، فقال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عند ذاك، قال رحمك الله أبا السائب، وكان يُكنى عثمان بن مظعون بأبي السائب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال رحمك الله أبا السائب، في رواية أُخرى قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – رحم الله عثمان بن مظعون، لم يلبس الدنيا، ولم تلبسه الدنيا، لم يُخالِطها، ولم تُخالِطه، كان رجلاً مُفتقِراً إلى رحمة الله، زاهداً في هذه الدنيا وفي عرضها الزائب ومتاعها الحائل، لم يلبس الدنيا، ولم تلبسه الدنيا، رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم أجمعين، أصحاب رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام.

أيضاً من رقته – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما يقفنا عليه هذا الحديث العجيب، وهو كما قال الحافظ في الإصابة أخرجه الإمام ابن خُزيمة في صحيحه، هذا كما قال الحافظ، لما رأت قريش النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يتكلَّم في شأن آلهتهم وأربابهم المزعومة الزائفة أتوا حُصيناً، والد سيدنا عمران، تسمعون بهذا الصحابي الجليل: عمران بن حُصين، ويُقال ابن الحُصين بالتعريف، والده قرشي، كلاهما كانا قرشيين، وكان هذا الشيخ الكبير في السن – أي الحُصين – مُعظَّماً في قريش، فأتوه، قالوا يا حُصين ألا تأتي هذا الرجل فتُكلِّمه؟ فإنه يذكر آلهتنا ويشتمها، فقال نعم، فقصد الرجل إلى رسول الله، ومعه جماعة من القرشيين، كان معه جماعة من القرشيين، فأتوا معه حتى صاروا قريباً من الباب، من باب الدار التي فيها رسول الله، فلما رأى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – الشيخ قال أوسِعوا للشيخ، وطبعاً الشيخ تُقال هنا للكبير في السن، وليس شيخ العلم أو الفضل أو الدين، تُقال للكبير في السن أيضاً، فلما رأى الشيخ قال أوسِعوا للشيخ، إكراماً له لسنه، لعلو سنه، قال أوسِعوا للشيخ، فأوسعوا له، فجلس، فقال يا محمد ما هذا الذي بلغني عنك، أنك تذكر آلهتنا وتسبها؟ فقال له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا حُصين كم تعبد من إله؟ قال سبعاً في الأرض وواحداً في السماء، قال له يا حُصين كم تعبد من إله؟ قال سبعاً في الأرض وواحداً في السماء، اتخذ له سبعة آلهة مُزيَّفة يعبدها من دون الله، يُشرِكها في عبادة الله، فقال له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا حُصين – انظروا إلى الطريقة وإلى الأسلوب العجيب، يصل إلى القلب من أقصر ومن أوسع الأبواب، أي من أقصر الطرق ومن أوسع الأبواب – إذا مرضت مَن تدعو؟ قال الذي في السماء، هو يعرف أنها حجارة، لا تضر ولا تنفع، يعرف ذلك، النبي يُريد أن يُحاكِمه إلى عقله وإلى فطرته، إذا مرضت مَن تدعو؟ قال الذي في السماء، قال يا حُصين فإذا ذهب المال مَن تدعو؟ قال الذي في السماء، قال فيستجيب لك وحده وتُشرِكهم معه، أرضيته في الشُكر أم تخاف أن يُغلَب عليك؟ قال لا واحدة من هاتين، قال يا حُصين أسلِم تسلم، أنت حججت نفسك، انتهى! أسلِم تسلم، قال يا محمد فإن لي قوماً وعشيرةً، فماذا أقول؟ ماذا أقول لهم؟ أنا شيخ كبير، أأقول لهم تركت ديني ودين آبائي؟ هذه العصبية الجاهلية، يا محمد إن لي قوماً وعشيرةً، فماذا أقول لهم؟ وعلَّمه النبي، انظروا إلى الجواب، شيئ عجيب، هذا أسلوب الحكيم في علم البلاغة، يُسمى أسلوب الحكيم! فقال له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قل – لم يقل له ماذا يقول لهم، وإنما قال له قل هكذا، ادع ربك، اترك وخل عنك القوم والعشيرة – اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وزِدني علماً ينفعني، الله أكبر!

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمورنا، وزِدنا علماً ينفعنا، اللهم آمين، لم يقل له قل لهم كذا وكذا وكذا أبداً، هذا أسلوب الحكيم، سأله عن شيئ فأجابه أن الأولى به أن يسأل عن شيئ آخر وهو هذا، قال له قل اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وزِدني علماً ينفعني، فقالها الرجل، فقالها! يقول الراوي فوالله ما قام من المجلس حتى أسلم، أسلم مُباشَرةً، مرت رُبع ساعة أو نصف ساعة وأسلم الرجل، لم ينقض المجلس حتى أسلم حُصين.

المُهِم – هذا الشاهد – فلما أسلم حُصين – رضيَ الله عنه وأرضاه – قام ابنه عمران فقبَّل رأسه وأكب على يديه ورجليه يُقبِّلها، قبَّل يدي أبيه وقبَّل رجلي أبيه، أي عمران بن حُصين، الصحابي الجليل، من أولياء الله، من أولياء الله – تبارك وتعالى -، كان يسمع سلام الملائكة عليه، كانت تُسلِّم عليه الملائكة من أنحاء البيت كما في صحيح مُسلِم، كان أهله في البيت يسمعون سلام الملائكة، من كبار أولياء الله، رضيَ الله عنه وأرضاه.

فلما رأى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ذلك بكى، النبي بكى! ثم قال بكيت لما رأيت من صنيع عمران بوالده، لما دخل الشيخ لم يقم له عمران، أي ابنه، ولم يلتفت ناحيته لكفره، لأنه كان كافراً، فليس له حق، أي حق التبجيل والتكرمة والتجلة، فلما أسلم قام الولد بحق والده، فدخلني من ذلك رقة، الله أكبر! ما هذا القلب الكبير؟! رقة عجيبة جداً، بكى النبي من هذا المشهد، بكى لاحترام الولد لوالده، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ونسأل – ونسأل بعد ذلك – من أين، ما هو مصدر، وما هو منبع تلكم الرحمة العجيبة الفريدة التي تميَّز بها المُسلِمون – الصحابة بالذات والتابعون – حين كانوا فاتحين؟ وشهد لهم العدو قبل الصديق، أن التاريخ لم يعرف ولم يأنس فاتحاً أرحم من المُسلِمين، رحمة عجيبة جداً كانت بالأمم، ليسوا غُزاة قتلى مُجرِمين مُستعمِرين، كانوا رحمة حقيقية، من أين؟ من هذا المُعلِّم العظيم، فقد علَّمهم الرحمة على أصولها، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمن علينا بالهُدى والقصد والرشاد في أمورنا كلها، وأن يجعل قلوبنا وألسنتنا رطبةً بذكره وبحُبه، وأن يُشبِعنا من خشيته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                      (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:

أما بكاؤه – عليه الصلاة وأفضل السلام – من خشية ربه فهذا أمر أحسب أن الحديث فيه يطول جداً، ويكفي فقط أن أُذكِّر بما تعرفون، أن أُذكِّر بما أخرج الإمام أحمد في كتاب الزُهد والإمام أبو بكر بن أبي الدنيا وغيرهما، أنه كان – عليه الصلاة وأفضل السلام – من جُملة دعائه اللهم ارزقني عينين هطّالتين تبكيان، تذرفان الدمع من خشيتك، وتُشبِعاني من خشيتك، قبل أن تكون الدموع دماً والأضراس جمراً، وقد لباه الله في دعوته هذه.

يقول الإمام عليّ – عليه السلام – لقد رأيتنا في ليلة، وما منا أحد قائم يُصلي، كلنا إما جلوس وإما نائمون، إلا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، كان تحت شجرة، قائماً يُصلي، يبكي، حتى أصبح، ومعنى حتى أصبح أي أنه كان يُصلي ويبكي الليل بطوله، ليلة كاملة في بكاء وصلاة، عليه الصلاة وأفضل السلام، هذا معروف، معروف جداً عنه، عليه الصلاة وأفضل السلام، كثرة بكائه معروفة.

وفي الحديث أيضاً الذي أخرجه ابن مردويه والطبراني وغيرهما كثيرون أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – بكى أيضاً لنزول آيات، وهن الآيات الأواخر من آل عمران، بكى الليلة بطولها، حتى أخضل لحيته، وحتى تبلل حجره الشريف، وحتى نزلت دموعه الكريمة الشريفة فبللت الثرى، ليلة بطولها كان يبكي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان يُصرِّح أنه إنما يبكي من خشية الذي أرسله، سُئل مرة أتبكي من خشية الذي أرسلك؟ سأله أحد الكفّار، قال نعم، قال نعم أبكي خشية الذي أرسلني.

فأيها الإخوة بعد هذا الحديث القصير الذي أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُرطِّب قلوبنا به وأن يُعيد علينا من أنواره عائدة خير ورشاد أُحِب أن أقول فقط بعض الناس يعتقد أن مُقتضيات الرجولة أو من مُقتضيات الرجولة أن يكون صلباً صارماً وألا يذرف الدمع مهما اقتضى الأمر، على مريض أو على ميت أو على إنسان منكور، أبداً! هذا غير صحيح، هذا من تسويل الشيطان، وهذا باب من أبواب الشيطان – والعياذ بالله – لتقسية قلب المُؤمِن، حتى يصير قلبك بعد ذلك قاسياً، فإذا استدعيته الرحمة لم يُلبك، لا يُعطيك، فتكون من القُساة – والعياذ بالله – الغِلاظ، قُساة القلوب، غِلاظ الأكباد، هؤلاء ليسوا بالمُؤمِنين، ليس المُؤمِن قاسياً ولا غليظاً ولا جافاً ولا جافياً، لأن الرجولة الكاملة والبطولة المُطلَقة إنما تجسدت في رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان سريع الدمع، كان طويل الحُزن وسريع الدمع، ويبكي كثيراً، والفائدة هنا – في خُطبة اليوم – أنه لم يكن فقط يبكي من خشية الله، كان يبكي للضعفاء، للمحرومين، للمُصابين، للمنكوبين، للمرضى، وللمحدودين، هكذا كان – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

وإذا كان هو أسوة لنا فمُقتضى هذه الأسوة أن نُعلِّم أنفسنا البكاء، بكاء الرحمة، ليس فقط بكاء الخشية، هو أرفع أنواع البكاء، أي الخشية، بكاء الخشية، خشية الله – تبارك وتعالى -، لكن أيضاً البكاء بأنواعه كلها، حتى يرحمنا الرحمن الرحيم – تبارك وتعالى -.

اللهم إنا نسألك أن تُفيض علينا من علمك وأنوارك ورحماتك، اللهم اهدِنا واهدِ بنا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا مِمَن يخشاك حتى كأنه يراك، وأن تُسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك.

اللهم خِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، اللهم اجعل غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، ارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً، وبالإساءة غفراناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم وبنتهل إليك بالدعاء والضراعة أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، اللهم انصر مَن نصر المُسلِمين، واخذل مَن خذل المُسلِمين، اللهم عليك بأعدائنا، أعداء الدين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً، اللهم أدِر عليهم دائرة السوء، فإنهم لا يُعجِزونك، وأرِنا فيهم تعاجيب قدرتك وآيات انتقامك وعلائم بأسك الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين، اللهم اكفنا شرهم بما شئت، كيف شئت، يا رب العالمين، فإنهم لا يُعجِزونك.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(25/7/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: