إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ۩ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ۩ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

لا شك أننا – أعني الأمة الإسلامية – نعيش حالة تأزم سياسي مُنذ صدر تاريخنا، لا تزال هذه الحالة التاريخية مفتوحة ومُمتَدة إلى يومنا هذا، وسؤال المقام كيف تأتى لهذه الأمة أن تتعامل مع هذه الأزمة – الأزمة السياسية، إدارة الشأن السياسي داخل الأمة الواحدة -؟ وكيف انتهى بها أو إلى ما انتهى هذا التعامل في عصرنا وفي وقتنا الراهن؟ بالاستقراء التاريخي نجد أنه قد تبلور أو تبلورت ثلاث مدارس رئيسة، على الأقل في إطار أهل السُنة والجماعة بخصوص هذه القضية.

المدرسة الأولى مدرسة الصبر، التي ترى بُطلان السيف، هكذا كانوا يُعبِّرون على ما ذكر الأشعري في مقالاته أن السيف باطل، يرون بُطلان السيف، ويُحرِّمون الخروج العنيف المُسلَّح على الحاكم وإن ظلم وجلد ونهب وتعدى الحدود وتجاوز، تُعرَف بمدرسة الصبر، وبالإزاء وفي المُقابِل هناك مدرسة السيف، مدرسة الخروج، التي شرعنت للخروج العنيف المُسلَّح الدموي، طبعاً دائماً الخروج على الحاكم الظالم الذي تجاوز حدوده ولم يعمل بمُقتضيات هذه الشريعة الكريمة، وهناك مدرسة ثالثة، إنها مدرسة أقرب إلى الذرائعية أو البراجماتية، وربما يُظَن فيها نوع من الواقعية، إنها مدرسة التلبث والانتظار، مدرسة تحقيق المناط، مدرسة تحقيق المناط أو المناطات، التي ترى وجوب الاحتشاد والانتظار حتى تحصل وتتحصَّل شروط التمكين، ثم بعد ذلك يُمكِن الخروج، إذن هي تُحسَب على مدرسة الخروج، على مدرسة السيف! 

ومن أسف أنه لم تتبلور بشكل مجموعي أو بشكل جماعي المدرسة التي نُريد أن نتحدَّث عنها مُسهَباً وطويلاً في مقامنا هذا اليوم، مدرسة اللاعنف أو الثقافة السلمية، مدرسة العصيان السياسي والعصيان المدني، هذه لم تتبلور للأسف في تاريخنا على مُستوى مجموعي، وإن ظهرت على مُستوى أفراد، بعض الأئمة وبعض العلماء وبعض الأفراد العاديين على اختلاف دوافعهم في انتهاج هذا النهج.

ولو أردنا أن نُقوِّم أيضاً ظواهر الخروج وهي كثيرة جداً في تاريخنا بمنطق استقرائي – أي أن نُحاوِل استقراء هذه الظواهر استقراء شبه تام أو قريباً من التمام بحسب الوسع والجُهد والطاقة – سنجد أن هذه التجارب الكثيرة وهي كثيرة جداً وبالذات في الفترة الأولى كانت دائماً تُمنى بالفشل، الخيبة في انتظارها للأسف الشديد، التي نجحت منها، فمثلاً الخلافة العباسية أو الدولة العباسية هي ظاهرة خروج، هم خوارج على بني أُمية، بعد أن أنهكت على المعارك الطويلة المفتوحة بين بني أُمية وبين الخوارج الدولة الأموية، حتى نضجت كما يُقال تفاحتها، وللأسف لم تسقط هذه التفاحة في يد الخوارج، وإنما سقطت في يد أولئكم المُتربِّصين القابعين الماكثين الثاوين في الظلام، والعاملين بصيغة تنظيمية غاية في الاستبطان والسرية والإحكام، أعني دُعاة العباسيين، من العرب والفرس، وعلى رأسهم أبو مُسلِم الخراساني، لقد سقطت التفاحة في يد هؤلاء، ولم ينل الخوارج منها نصيب.

وإذا كان بنو أُمية كما قيل أفلحوا أو قُدِّر لهم بقدر الله المحض أن يُنجِبوا (بطريق الخطأ) خليفةً عادلاً مُقسِطاً كعمر بن عبد العزيز فإن بني العباس لم يفعلوا مثل ذلك، لم ينجحوا أن يُنجِبوا رجلاً كعمر بن عبد العزيز، ولذا لا سادس للراشدين في بني العباس، خامس الراشدين من بني أُمية، لكن لا سادس لهم في بني العباس، فالأمر في تنزل.

والسؤال هو هل الوضع اللاشرعي أو هل اللاشرعية هكذا بالإطلاق والتعميم يُمكِن أن تُزال بلاشرعية؟ هذه هي فحوى ظواهر الخروج، لا شرعية تُحاوِر لا شرعية أُخرى! مَن الذي انتخب هؤلاء؟ ومَن الذي صدَّرهم؟ ومَن الذي خوَّلهم؟ ومَن الذي أعطاهم الصلوحية أن يتحدَّثوا وأن يتصرَّفوا بالنيابة عن الأمة؟ لا أحد، إنها مُجرَّد أحزاب وتنظيمات وحركات وتنظيرات، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩، والحال انتهى إلى ما تعلمون من الوضع البئيس والقابض جداً في عصرنا هذا، وأيضاً على مدار ثلاثة أو أربعة عقود يُؤكِّد الاستقراء أن هذه الظواهر في عصرنا هذا وفي وقتنا هذا لم تكن نتائجها بأحسن من النتائج التي سجَّلها التاريخ، كانت بئيسة جادً، في مُنتهى السودوية وفي مُنتهى الإحباط، لهؤلاء الخارجين – إذا صح أن يُسموا خارجين – وللأمة في مجموعها.

ومن هنا شهدت الساحة حركات تقويم ونقد ذاتيين بطريق الحملقة في العيوب التي لم تنقصها الشجاعة والجرأة حين راجعت ذاتها، وحين قوَّمت مسيرتها، وحين حاولت – كما قلت – بشجاعة وجرأة نادرتين مقدورتين ومشكورتين أن تضع النقاط على الحروف، ولا أعني فقط مثل جماعة أو حزب النهضة التونسي في مُراجَعتهم المُشرِّفة جداً، والتي عبَّروا عنها كتابياً، وفي أكثر من حلقة دراسية بشكل واضح، وإنما أيضاً الجماعة الإسلامية في مصر، المعروفة بجماعة الجهاد، لقد راجعت نفسها بشكل واضح، وأعلنت دون جمجمة ودون تشكيك واسترابة أن الخط الذي سلكته كان خطاً غير صحيح، بل لقد أعلن آحاد هؤلاء وهم يُقادون إلى أعواد المشانق أنهم كانوا مُخطئين وأنهم تبرأوا، وهم يُقادون إلى أعواد المشانق! إذن لم يُعلِنوا ذلك بضغط أو بإكراه أو ملقاً ودهاناً أو بدوافع أُخرى أبداً، بدوافع علمية وبدوافع شرعية محض كما تخيَّلوها، لقد كنا على خطأ! حتى الدكتور عمر عبد الرحمن الذي يقضي فترة السجن مدى الحياة في سجون أمريكا وافق على هذه المُراجَعة، وأكَّد على صحة هذا التقويم.

إذن ما الذي حدث؟ وما الذي يحدث؟ ولماذا النهاية دائماً على هذه الشاكلة؟ لأن البعض يقول هل ما كان حلالاً على غيرنا ينبغي أن يكون حراماً علينا؟ لقد شهد الآخرون تاريخاً مُمتَداً وحافلاً بالثورات، وقد نجحت هذه الثورات أو تلكم الثورات أن تُحقِّق الكثير وأن تُقدِّم الكثير للشعوب المسحوقة المُضطهَدة المظلومة، وعلى رأسها طبعاً المثال الموحي والمُلهِم الثورة الفرنسية، وهذا استدعاء خاطئ، الموضوع مُتشعِّب جداً كما قد يتراءى لكم ولي، ولكن نُريد فقط أن نضع النقاط على بعض الحروف في هذا الفصل الطويل، في هذا الفصل الدامي الطويل، والذي فيه التباس شديد.

أولاً فرق كبير بين مدرسة الصبر وبين المدرسة التي نتمنى أن تتبلور بشكل واضح، مدرسة العصيان المدني، استراتيجية اللاعنف الداخلية طبعاً وليس على جميع الجبهات، وينبغي بداية أن أُوضِّح أيضاً دفعاً للبس مُحتمَل أنني لا أتحدَّث في إطار ثورات وحركات ونضالات التحرير والأحرار، هذا شيئ آخر، الصراع السياسي بين الأمم فيما بين بعضها البعض شيئ وفي الأمة الواحدة شيئ مُختلِف تماماً، أنا أتحدَّث عن الصراع السياسي وإدارته في الأمة الواحدة، في المُجتمَع الواحد، وفي داخل الدولة الواحدة، أما ما عدا ذلك فهذا له مجال يطول فيه الحديث جداً، وهو أسهل طبعاً وأوضح وأدنى إلى الاتفاق أو الوفاق.

فرق كبير بين المدرسة التي نتمنى أن تتبلور بشكل واضح وبين مدرسة الصبر كما تبلورت تاريخياً، وللأسف التي أفرزت فقهاً سُلطانياً يُداهِن الحاكم ويتملَّقه ويُنافِقه ويُسوِّغ له التجاوزات مهما بلغت هذه التجاوزات، انتهت هذه المدرسة أو الامتدادت  السيئة لها في تبرير ما عُرِف للأسف قبل سنوات بديمقراطية الاستثناءات، ديمقراطية الاستثناءات ديمقراطية نعم ولكن مع استثناء أحزاب بأعيانها، لابد أن تُستثنى، لأن هذا يُحافِظ على الديمقراطية، ديمقراطية ماذا؟! كيف يُمكِن الجمع بين الشيئ ونقيضه؟! شيئ عجيب، ديمقراطية الاستثناءات! طبعاً صك المُصطلَحات وتوريد هذه السفسطات اللفظية أمر يستطيعه كل مُتملِّق وكل مُنافِق وكل مَن رضيَ أن يكون جزمة في رجل السُلطان، ديمقراطية الاستثناءات! لقد قالها قبل ذلك أجداد هؤلاء وأسلافهم من أهل الملق والدهان والنفاق إن الخليفة أو أمير المُؤمِنين لا يُسأل عما يفعل، وقالها بعض المُعاصِرين أيضاً.

نحن لسنا مع هذا التيار البئيس جداً، هذا التيار أضر على الأمة من السُلطان الظالم نفسه، ومن حكومات الاستبداد نفسها، لأنها لا تتمكَّن ولا تستطيع أن تُهيكل ظلمها واستبداديتها، فيما يُعرَف بالعنف الرمزي، وهو الاصطلاح الذي ولَّده عالم الاجتماع – العالم المشهور – بورديو Bourdieu، العنف الرمزي لا يُمكِن أن يجد له سبيلاً وجواً يعيش فيه إلا عبر هؤلاء المُنافِقين، الذين يتسلَّلون إلى أجهزة الإعلام وإلى دوائر التربية والتعليم بعامة والثقافة أيضاً في الأمة، هذا هو العنف الرمزي، الذي كما قال بورديو Bourdieu تم بالتواطؤ مع الأمة المُستباح عقلها قبل أن تُستباح حرياتها – وإذا استبيح العقل لا يبقى ثمة مكان للحرية أصلاً -، تم مع الأمة المُستباح عقلها ووعيها والمُستنزَف، تم بالتواطؤ معها، بالتواطؤ معها! يُراد إقناعها بالتواطؤ معها أن الوضع على ما يُرام، وأنه ينبغي أن يمتد هذا الوضع، لأنه الأسلم والأحسن، هذا هو العنف الرمزي، وكما قلنا يتمظهر في كل الوسائل المذكورة، ويجد السدنة والحُماة الذين يقومون عليه، فلسنا مع هذه المدرسة.

ثقافة اللاعنف أو ثقافة المُقاومة السليمة أو العصيان المدني ترى العكس تماماً، ترى أننا لا نحمل السيف، لا نتوسَّل لُغة الخراطيش والبارود والنار أبداً، وهذا مبدأ وليس خياراً تكتيكياً، انتبهوا! لأن من ضمن المطبات القاتلة أو الكارثية التي وقعت ولا تزال تقع فيها بعض التنظيمات الإسلامية أنها لم تحسم خيارها بشكل واضح، أو لم تحسم تصوراتها بشكل واضح، هل هي مع الخيار العنيف أو مع الخيار السلمي؟ إنها تتردَّد بينهما بحسب الظروف، كما قلت لكم مدرسة تحقيق المناط، مدرسة التمكين، تُريد أن تتمكَّن وأن تُحصِّل شرائط التمكن، ثم تقفز بعد ذلك، وهذا وضع كارثي جداً، وقد بات الآن معروفاً لدى الجميع أن أي تنظيم سياسي فاعل ينتظر نجاعةً ومردوديةً عاليةً يتوسَّل بلُغة أُخرى غامضة ثقافة التنظيم العسكري أو الجيوب العسكرية مقضي عليه بالفشل، هذا الآن تُقرِّره الاستراتيجية، ما تُنتِجه السياسة تقضي عليه هذه الجيوب التنظيمية العسكرية، وثقافة التنظيم العسكري تختلف البتة عن ثقافة العمل المدني والعمل السلامي أو السلمي، بالكامل! هذه نُقطة، المُهِم أرجو أن تكون واضحة.

نعود، استراتيجية اللاعنف أو العمل السلمي أو العصيان المدني ترى أن من أوجب الواجبات أن نكون واضحين وصادقين واستشهاديين في قول الحق دائماً وأبداً، ليس في موقف واحد، وأن نقول للظالم أنت ظالم، وأن نقول للحق هذا حق، وللباطل هذا باطل، وهذا طبعاً لا يُعجِب الكثيرين، لماذا؟ يقولون سنذهب ببلاش كما يُقال، إذا أصررنا أو أصرينا على أن نقول كلمة الحق وأن نقذف السُلطان بها فإنه سيُطوِّح بأعناقنا، وذلك يعني أننا سنُقاد إلى السجون أو إلى المنافي أو إلى القبور، وليكن! ومن هنا قال الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه أحمد وأهل السُنن أو وأصحاب السُنن حين سُئل عن أفضل الجهاد، قال كلمة حق عند سُلطان جائر، انتبهوا! ليس عن الجهاد، عن أفضل الجهاد، كأن الرسول يُعطينا هذا المفتاح للتغيير الحقيقي داخل المُجتمَع، أحسن شيئ في مُعادَلة التغيير أن تُدرِك هذا المفتاح، هذا مفتاح الحل، التغيير وإدارة الصراع السياسي داخل المُجتمَع الواحد هذا هو أحسن وسائله، ما هو؟ العصيان المدني، التمرد المدني، غير العنيف، وهو ثورة في نفس الوقت.

بالأمس فرغت من قراءة المقالة المُطوَّلة التي كتبها المُنظِّر الأول كما يزعمون طبعاً، وإلا أنا وجدت أن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – هو المُنظِّر الأول بامتياز لهذه الثقافة، وسيأتيكم البيان بعد قليل، أقصد هنري ديفيد ثورو Henry David Thoreau، وتُنسَب إليه، يُقال  Thoreau’s civil disobedience، أي العصيان المدني الثوروي، تُنسَب إليه! هذا الرجل قال أن تُدرِك الحق وأن يكون لديك الشجاعة أن تُحِق الحق وأن تُنادي به بالكلام وبالعصيان المدني أمر أكثر من ثوري، أكثر من ثورة، أحسن من أي ثورة، أكثر من ثوري، هو ثوري في الجوهر – قال -، الــ Essence أو الروح الخاصة به ثورية، إنه لا يشق الدول والكنائس والتجمعات، بل العائلات، ثم قال بل الشخص نفسه، الله أكبر! كلمة عظيمة جداً، في مُنتهى العظمة، هذا المبدأ يشقك أنت، يقول يُميِّز الشيطاني فيك من الإلهي، يجعلك في مُواجَهة حقيقية مع النفس، لأن الإنسان عنده رغائبه وأهواؤه وتبريراته وتسويغاته ودوافعه الكثيرة جداً، التي قد تُخيِّل إليه في يوم من الأيام الحق باطلاً والباطل حقاً، حفاظاً على ماذا؟ على امتيازاته الشخصية، ولذلك أن تعرف الحق وأن تُقرِّر أن تقول به وأن تسير مسيرة إحقاقه أمر يشقك على نفسك، يُثوِّرك أنت على نفسك، يشقك باثنين، يُميِّز الشيطاني بلُغة ثورو Thoreau من الإلهي فيك، شيئ عجيب!

وأيضاً في جُملة أُخرى أعجب من هذه أو قريبة منها في العظمة والتألق الفكري والنفّاذية والاستبصار الحقيقي يقول هذا الرجل الكبير، يقول إذا كان رجل أقرب إلى الحق أو على الحق أكثر من جيرانه – أي أحق هو بالحق من جيرانه – فإنه يُشكِّل أغلبية الواحد، Majority of one، أكثرية الواحد! ليست المسألة عشرة مُقابِل واحد، الحق مع مَن؟ طبعاً تغدو مسألة أُخرى مُختلِفة تماماً، أن نتكلَّم في معايير معرفة الحق من الباطل، مسألة مُختلِفة، حتى ثورو Thoreau نفسه لم يُعن بها، ثورو Thoreau نفسه لم يُعن بها، هنري Henry لم يُعن بها، وإنما قال هكذا إذا كنت أقرب إلى الحق من جيران تألَّبوا عليك بالباطل فضلاً عن حكومة كاملة تألَّبت بالباطل على الشعب وعلى الجماهير فأنت تُشكِّل أغلبية الواحد، أنت أغلبية، وسوف يكون الغلب لك في نهاية المطاف، آخر الأمر، إن لم يكن أوله.

أيها الإخوة:

ما معنى – لنُحاوِل مُحاوَلة تفكيكية بسيطة – قول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – حين سُئل عن أفضل الجهاد، فقال كلمة حق عند سُلطان جائر؟ وأيضاً في الحديث الآخر أكَّد نفس المعنى حين قال سيد الشهداء، إذا كان هذا أفضل الجهاد، فإذن مَن ذهب في سبيل هذا الجهاد ضحيةً فسيكون أحسن الشهداء، أكَّده في الحديث الآخر! النبي يعرف ماذا يقول، لأنه يصدر عن وحي، وليس عن اجتهادات بشرية نسبية تتغيَّر أبداً، قال سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله، إنه سيد الشهداء بعد حمزة، لأنه جاهد أفضل الجهاد.

لو فكَّكنا هذا الحديث العجيب الذي أخرجه أحمد وأصحاب السُنن بماذا يُمكِن أو إلى ماذا يُمكِن أن نخلص؟ سنخلص أولاً إلى هذه النتيجة، أن الكلمة والصدع بالكلمة قوة ثورية تغييرية ذات مردودية، ذات نجاعة، ذات فاعلية، وذات أثر هائل جداً جداً، قرأت مرة لبرتراند راسل Bertrand Russell في كتابه عن الصراع بين العلم والدين الآتي، في أول فصول الكتاب يقول الكلمة ليست كما يستهين بها العوام والجهلة، إنها ذات قوة انشطارية، ووجدته مسبوقاً، القرآن أكَّد هذه الحقيقة، وتعرفون القنبلة الانشطارية والنووية وكيف تكون، من شيئ بسيط جداً جداً، يخرج الشيطان الطاقوي من مقمقه ليُهلِك مدينة ربما فيها خمسة ملايين، وكذلك الكلمة، إن خرجت بالحق وبالصيغة المُناسِبة ترفدها خلفية نظرية مبدئية صحيحة وسليمة، فهذه ذات قوة انشطارية، يُمكِن أن تُغيِّر.

الآن ترون هؤلاء الأوروبيين، لو نفذ أحدكم ببصره أو ببصيرته فيهم تاريخياً، سيعلم أنهم إنما يعيشون على أفضال وعلى أنعام وعلى أيادي المُفكِّرين الأحرار هنا، ويُمكِن أن تتحقَّقوا من هذا إذا حذفتم هؤلاء المُفكِّرين الأحرار، تحدَّثنا عن الثورة الفرنسية هكذا عرضياً، على أفكار مَن قامت هذه الثورة؟ على أفكار صاحب مقولة اسحقوا العار، أعني فولتير Voltaire، فرنسوا فولتير François Voltaire، على أفكار مونتسكيو Montesquieu صاحب روح القوانين، على أفكار جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، وعلى أمثال هؤلاء، احذفوا أمثال هؤلاء، لن تكون الثورة الفرنسية، مُستحيل! ولن تكون أوروبا الحديثة، سيختفي كل شيئ.

إذن حقاً الكلمة لها قوة انشطارية، أكثر من ذرية، والقرآن قال هذا، قال أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ۩، لا يُمكِن إلا هذا! تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ۩، لا تُوجَد شجرة تُؤتي أُكلها كل حين، تُؤتي أُكلها مرة أو مرتين على الأكثر في السنة، لكن هذه الشجرة تُؤتي أُكلها كل ساعة، بل كل لحظة، لأنها ذات قوة انشطارية، هذا قبل راسل Russell وغير راسل Russell، إذن فالكلمة حقاً ذات قوة انشطارية.

إذن أولاً نحن نعتصم بماذا؟ بهذا المبدأ، أن نُعارِض وأن نُشاكِس وأن نُمانِع – موقف المُمانَعة – وأن نتكلَّم، لابد أن نتكلَّم بكلمة الحق، لابد أن نقول للحق إنه حق وللباطل إنه باطل، إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُودِّع منها، أي صلوا عليها الجنازة، انتهت! أمة من الأموات، وإن كانوا أحياء على المُستوى الفسيولوجي أو البيولوجي، إنهم أموات على مُستوى الحياة الحقيقية، هذا أمر مُهِم جداً لابد أن نُبدئ وأن نُعيد في التنويه به والتركيز عليه والتأكيد عليه أيضاً في نفس الوقت، أمر أن نتكلَّم بما ذكرت، لأن بعض الناس صوَّر المسألة على أنها ماذا؟ سُلطان غشوم ولا فتنة تدوم، وليكن كذلك، ثم ماذا؟ إذن فلتسكت، وليكن هذا السُلطان الغشوم بفعل الفقه السُلطاني سُلطاناً مُمتازاً، بل خير السلاطين، وأنه مُستودَع الحكمة والعلم والمعرفة، وكل ما يأتيه أو يذره هو حق ابن حق، كلا! هذا نفاق، هذا كذب، هذا عدم وفاء وخيانة من هذه الأمة لمبادئها، لرسالتها، لكتابها، ولنصوص دينها، نحن لا نُريد هذا، نُريد تصوراً مُختلِفاً تماماً ووضعاً مُختلِفاً تماماً، وللأسف إلى الآن لم يتبلور، لماذا نحن مع هذه الثقافة؟ لماذا نحن مع هذا التوجه؟ ليس فقط مدارس التاريخ، مع أننا نقدر التاريخ ودرسه كما ينبغي، يقول محمد إقبال في تجديد الفكر الديني – رحمة الله عليه – لقد كان القرآن صريحاً في أنه إلى جانب العقل والوعي هناك مصدران آخران للمعرفة، ليس العقل الأرسطي التأملي يُمكِن وحده أو يُمكِن له وحده أن ينفذ إلى حقائق الأشياء وحقائق الوجود وإلى المعارف، أبداً! هناك مصدر الطبيعة، الوجود المشهود، أي الكون، هذا الحس التجريبي، الذي دعَّمه وأرساه القرآن العظيم، إذن الطبيعة والتاريخ.

ما من كتاب شدَّد وأكَّد ونوَّه بأهمية الدرس التاريخي كالقرآن العظيم، وما من أمة جحدت التاريخ درسه كالأمة الإسلامية، إلى اليوم! نحن فقراء جداً في الوعي التاريخي، بالعكس! للأسف فقهاؤنا وعلماؤنا يُحذِّرون من دراسته، مع أن الذي أُنجِز في الكتابة التاريخية أو ضمن الكتابة التاريخية بطريقة الحوليات والسرديات يُوشِك أن يكون أكثر من ثلاثين في المائة من التراث الإسلامي، لكن بهذه الطريقة طبعاً، غير التحليلية، أشبه إلى الوصفية، التي تفتقد بالمرة إلى روح التحليل، ومع ذلك ظل الفقهاء دائماً يُحذِّرون الناس من فتح كُتب التاريخ ومن درس التاريخ، لأنها تُسوِّد الظنون، وتُسوِّد القلوب والمُعتقَدات، وتجعلك تُدرِك أن كثيراً من المُقدَّسين لم يكونوا مُقدَّسين، بل هم مُدنَّسون، هم مُدنَّسون بالدنس كُله، ولذلك يُحذِّرون من هذا، وللأسف الشديد فقدنا عبرة التاريخ، ودرس التاريخ قرآنياً هو درس المآلات ودرس العواقب، دون أن نخوض ودون نُستهلَك ونستغرق أنفسنا وجهدنا في تشخيص الحوادث، تعيين الأماكن والأزمان والأشخاص هذا لا يعنينا، تماماً على الضد مما فعله علماؤنا ومُفسِّرونا، حين ذهبوا واستهلكوا أنفسهم في معرفة اسم كلب صاحب الفتية في قصة أصحاب الكهف، اسم الكلب، لون الكلب أيضاً، وأشياء أُخرى كثيرة تتعلَّق به، هذا نوع من الانتحار المعرفي، أين درس التاريخ الحقيقي؟!

أيها الإخوة:

درس التاريخ يقول إن التاريخ أكبر مُختبَر للأفكار والنظريات، لكن حذَّر بعضهم أن النظريات في مجال الاجتماع والسياسة تتسم بهذا المزلق الخطر جداً، وهو أنه من الصعب، بل من المُستحيل، أن تظهر آثارها في الزمنية القصيرة، مُستحيل! نظرية – مثلاً – في التغيير لا يُمكِن أن تُعرَف في عشرة أو في عشرين وأحياناً حتى في خمسين سنة، صعب! لكن يُمكِن أن تُعرَف في ظرف مائة أو مائتي سنة، إذن أليست ألف وأربعمائة سنة كافية لأن تُنجِز هذا الاختبار للأفكار والنظريات؟ لقد كانت ألف وأربعمائة سنة من تاريخ الأمة المرحومة المُحمَّدية كافية، بل أكثر من كافية بمراحل، أن تُنجِز هذا المُهِم العظيم، وأن نعرف أن ثمة نظريات كثيرة وآراء ومقولات واتجاهات ليست سديدة وليست صحيحة، لأن التاريخ هو الذي تكفَّل بتزييفها، والواقع إلى اليوم يُؤكِّد زيفها وبُطلانها، فلماذا التشبث بها؟ هل تعرفون لماذا؟ لأننا لم نُؤمِن بعد بدرس التاريخ، لم نُحملِق فيه هكذا، تركناه خلفنا، وخليناه ظهرياً، ثم ذهبنا إلى النصوص، دائماً نحن مع النصوص، نقول ماذا قال النبي؟ هل جوَّز النبي ذلك أو لم يُجوِّز؟ والحديث ضعيف، والحديث الآخر صحيح، وهذا أقرب إلى الصحة، بماذا ترد على هذا الحديث؟ مساكين نحن! هل تعلمون لماذا؟ لأن هذه النصوص مُجرَّدة ومُقدَّسة دون تشكيك في صحتها أو في انتسابها استُدعيت بشكل فج في معركة صفين.

لقد وضعوا القرآن على ماذا؟ على الرؤوس، ليست رؤوس الرجال، على رؤوس الرماح، النص كان موجوداً، موجوداً فجاً غليظاً خشناً، لم يُغن عنهم شيئ، كل واحد يتوسَّل النص، إذن فلندع النص الآن، لأن النص لا يتحدَّد بتلك اللُغة الواضحة تماماً، إنه نص إلهي، يتميَّز بالإطلاقية، يأتي بعد ذلك للبرهنة على نسبية الصحة في فهم مُعيَّن إزاء هذا النص من خلال ماذا؟ شيئ واحد فقط، وهو التجربة التاريخية، من خلال التجربة التاريخية، وهي حينئذ أصدق من كل الفهوم النسبية للنص، ولا أتحدَّث عن النص في ذاته بالصفة الإطلاقية.

الأمة لم تفعل هذا، ويبدو أنها إلى اليوم لا تُريد أن تفعله، وهذا يُوقِعنا في مطب آخر، أشد خطراً، انتبهوا! وقعت فيه أكثر الجماعات الجهادية والعنفية، التي تُجيد الصراع داخلياً طبعاً، هذا الذي أُريده، كيف؟ تحسب هذه الجماعات – ولا يزال بعضها يحسب – أن المُعادَلة إذن بسيطة جداً جداً، في إطار هذا الفهم النصوصي الحرفي المُباشِر الفج – كما قلت لكم – والخشن، تحسب أن مُعادَلة التغيير بسيطة جداً، مَن نحن؟ نحن  الدُعاة إلى الإسلام، المُطالِبون بتحكيم شرع الله، مَن الآخر؟ الحكومة العلمانية، القومية، القُطرية، الكافرة، المُرتَدة، المُذيَّلة أو المُتذيِّلة للأجنبي، لليهودي، للأمريكي، ماذا يقول النص؟ لابد من الحرب، ولابد من رفع السيف مُباشَرةً، فالمسألة محلولة جداً، لكن هذا مُستحيل، مُستحيل! هذا منطق كارثي في التغيير، وقد قاد إلى كوارث ولا يزال، وأفغانستان والجزائر وغيرهما شاهدان للأسف الشديد، للأسف! طبعاً أنا أُحلِّل فقط هذه التجارب وبجهة العموم، لا أُحلِّل التجارب الناجحة الأُخرى التي اختطت خطاً مُخالِفاً، سواء في ماليزيا أو في تركيا أو في غيرهما، فهذا موضوع مُختلِف، وهي أكثر بحمد الله – تبارك وتعالى -، لكن دائماً الضوء يُسلَّط على الأخطاء منا وغيرنا.

لماذا هذا المسلك انتحاري؟ لماذا؟ لأن كل ما يتعلَّق بالاجتماع والسياسة جدلي، تضايفي، ليس خطياً ميكانيكياً، والمُعادَلات ليست من النوع البسيط، إنها شديدة التركيب، ومقتل النظرية ومقتل التطبيق المُنبثِق عنها في ماذا؟ في تبسيط المُعقَّد وتبسيط المُركَّب، الآن – مثلاً – هل ببساطة المُعادَلة تعني أنا والسُلطة أو مُعارَضة السُلطة أم أن السُلطة بالمُعارَضة بل بالمنطقة كلها داخلة في مُوازنات دولية شديدة الخطر؟ لم يُدرِك بعض هؤلاء الإسلاميين مع حُسن نواياهم أو حُسن نوايا الأكثرين منهم أنهم حين كانوا في النُقطة الأكثر قُرباً من تسلم السُلطة أن الوضع العالمي والإقليمي قد تبدَّل بالكُلية، هناك مُفاوَضات بين العرب وإسرائيل، نظام عالمي جديد موقفه شديد الشنآن للإسلام وللمشروع الإسلامي، وقالها رئيس حلف الناتو NATO أيامها بشكل واضح، قال انتهى الخطر الأحمر، وعلينا الآن أن ننظر في الخطر الجديد، إنه خطر الإسلام، قالها هكذا، في برشلونة أعتقد في تلك الأيام، في أوائل التسعينيات، هكذا! قال خطر الإسلام، إنه الخطر الذي يتهدَّد العالم الغربي كله، والآن طبعاً التصريحات تواترت أكثر وبسخونة أكثر وبتصريح وبوضوح أكثر بكثير.

على كل حال حرب الخليج الثانية فكَّكت العرب، ومزَّقتهم شر مُمزَّق كما يُقال، أفول تقريباً الخطاب القومي لصالح ماذا؟ الانعطاف الجماهيري نحو المد الإسلامي، وحرب الخليج برَّرت ذلك، هي التي برَّرت ذلك! مما وضع الإسلاميين في مُواجَهة لا أقول مُحتمَلة، بل مُباشِرة ومفتوحة، مع النظلم المحلية والأقليمية ومع النظام الدولي الجديد، ولم نُدرِك ذلك، فالمسألة شديدة التركيب، شديدة التعقيد، تتداخل فيها عشرات العوامل في نفس الآن، ليست ميكانيكية بسيطة خطية، أنا وأنت والنص وانتهى الأمر، أبداً!

ولذلك لابد علينا أن نتعلَّم كما نُحاوِر النص في نفس الوقت أن نُحاوِر الواقع، مُحاوَرة الواقع هي ما ينقصنا، للأسف قد تجد شيخاً يحفظ البخاري ومُسلِم والسُنن وأحمد والقرآن ولا يعرف شيئاً عن الواقع، لا يُمكِن أن نستفتيه فيما يخص واقعنا، وكل أمور الدين تخص واقعنا، كل أمور الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية والتعليم والحضارة والصراع الداخلي والحارجي هي أمور الواقع، من الصعب جداً – لا يُمكِن، هذا انتحار – أن يُستفتى مثل هذا، لأنه لا يستطيع أن يُحاوِر الواقع، مبتوت الصلة بالواقع، مبتوت الصلة بالواقع وأيضاً بعيد من درس التاريخ، هذه مُشكِلة كبيرة، فهو يتوسَّل فقط استدعاء النصوص.

للأسف بدأ الوقت يُداهِمنا، فلنعد إلى النصوص، بعض الناس قد يقول هذا المسلك غير صحيح، وأنا غير مُؤمِن بهذه الطريقة، وهذه الطريقة قد تكون غير مُجدية، بالعكس! هذه الطريقة مُجدية وأكثر من غيرها بمراحل، هل تعلمون لماذا؟ أولاً طبيعة النشاط السلمي في التغيير والإنكار والمُمانَعة تسمح بتجنيد أكبر نسبة مُمكِنة من الجمهور، الرجال والنساء، الكبار والصغار، والأميين والمُتعلِّمين، أليس كذلك؟ لأنه نشاط سلمي، لا يخلق حالة من البارانويا Paranoia والشعور بالاطضهاد والخواف أو الخوافات – الــ Phobias – الكثيرة أبداً، فتسمح بذلك، هذه واحدة.

ثانياً تسمح دائماً بأن تُفرِز القيادات بطريق شورية، أي بطريق ديمقراطية، بخلاف التنظيمات العنفية المُسلَّحة، إنها تشتغل في السراديب وتحت الأرض وخلف الكواليس، ودائماً تقع في قبضة أشخاص طمّاحين وقد يكون بعضهم طمّاعين وقد يكون البعض الثالث قاصراً من القاصرين، لم ينتخبهم أحد، ولم يُصوِّت عليهم أحد، هكذا جاءوا بقدرة قادرة، ليقودوا التنظيم السري العنيف.

في هذا التنظيم أيضاً المنطق منطق الخضوع المُطلَق، لا نقاش، ولا مُراجَعة، والنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أشار إلى هذه الحقيقة، في صحيح مُسلِم قال ويكثر الهرج، ما الهرج يا رسول الله؟ قال القتل، حتى لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قُتِل، اقتل يقتل، لا يُوجَد نقاش، وطبعاً تُوجَد شرعية زائفة تستمد من النصوص بالقتل، بعض الناس يقول ولكن لا يُقتَل إلا الكافر أو الذين صدرت فتاوى بتكفيرهم كفرج فودة وغيره – مثلاً -، وهذه مُصيبة، هل تعلمون لماذا؟ لأن هذا الباب إذا انتفح فلن تبقى ضمانة لأي أحد كائناً مَن كان ألا يُستباح دمه، ولا أكبر شيخ، ولا مُفتي الإسلام، يُمكِن أن يُستباح دم الكثير، وليس فرج فودة فقط، البداءة بفرج فودة، والنهاية بالشيخ الفلاني أو بالعلّامة الفلاني أو بالمُفتي الفلاني، لماذا؟ لأنك لن تكون أعبد ولا أحلم ولا أصبر من عثمان بن عفان، وقد قُتِل، وأنا أعتبر أن أول ظاهرة خروج ليست هي الخروج على الإمام عليّ – عليه السلام -، بل على عثمان، ظاهرة خروج مُسلَّحة حقيقية، توسَّلت للعنف، وما حصل لعثمان هو الذي مهَّد كل الذي حصل للإمام عليّ، كل الفتنة التي أصابت هذه الأمة بسبب ما حصل له، هؤلاء كانوا خوارج، عثمان قُتِل، وهو صاحب رسول الله!

الإمام عليّ – عليه السلام -، مَن سيكون مثله في العلم والعدل والزُهد والإمامة والتُقى؟! لقد قُتِل أيضاً، استحلوا دمه ودم أتباعه، مع أنه لم يُواجِهم بنفس المنطق، وهذا يُؤكِّد أنه كان المُتفرِّد من بينهم بالحق، الخوارج كلهم كانوا بطّالين، وقال لهم علينا ثلاث، ألا نمنعهم مساجد الله، هم مُسلِمون – قال -، هؤلاء أخواننا – قال -، بغوا علينا، ولا أُكفِّرهم، الله أكبر! هذا هو الحق، هذا صاحب المبدأ والرسالة، قال ألا نمنعهم مساجد الله، وألا نبدأهم بقتال، لا نُقاتِل مُسلِماً إلا أن يُقاتِلنا هو، ومَن الذي يتكلَّم، ليس جماعة وليس حزباً، هذا أمير المُؤمِنين، الخليفة، إمام الزمان! وله الحق، لأن الكل مُطبِق ومُجمِع على مدى التاريخ الإنسانية – في تاريخ المدنية والدولة، بدءاً من الدولة المدينة أو المدينة الدولة – أن للدولة حق احتكار العنف، في المُجتمَع الواحد يجب أن تحتكر الدولة وحدها العنف، لا يُمكِن لجماعة أن تتكلَّم بلُغة السلاح، ممنوع! هذا يُؤدي إلى حالة احتراب وتفسخ وارتباك داخلي، مُقابِل ماذا؟ مُقابِل تأمين الأمن للمجموعة وللهيئة الاجتماعية في كاملها، فهذا كان يُمثِّل الدولة، هو الخليفة، أعلى سُلطة رمزية في الدولة الإسلامية، قال لا نبدأهم بقتال، مع أنهم خارجون ويُناوِشون الدولة، إلا أن يُناوِشوا هم ويبدأوا بالمُناوَشة، وأيضاً لا نمنعهم الفيء ما كانت يدهم معنا، إذا قاتلوا معنا أعداء الله من الكفّار أو البُغاة فنحن لن نمنعهم فيئهم، الله أكبر! هذا هو العدل، وهذا هو القسطاس المُستقيم – رضيَ الله عنه وأرضاه، وكرَّم الله وجهه -.

فلنعد، هذه النُقطة الأولى، النُقطة الثانية أن الجهاد أو النضال أو المُقاوَمة العنيفة المُسلَّحة – يُلعلع فيها صوت الرصاص – يُمكِن لها فقط أن تُجنِّد شريحة من الشباب، ليس كل الشباب، وطبعاً ليس النساء، من الصعب جداً جداً، ليس لهن نسبة، وليس الصغار، وليس الشيوخ من الرجال والنساء، فقط شريحة مُعيَّنة محدودة من الشباب، وكما قلنا ضمن تنظيم سري كواليسي، مأخوذ بالفوبيا Phobia والبارانويا Paranoia واللُغة اللاواقعية واللاموضوعية، والنتائج ما قد رأيتم في العقود السابقة، النتائج ما قد رأينا جميعاً في العقود السابقة.

ثالثاً ما هي ثقافة السلاح؟! إنها ثقافة السلاح في المُعظَم أو في الأغلب الأعم فقط، لكن ثقافة المُقاوَمة السلمية أو العصيان المدني تفتح مدرسة للجماهير، كل الجماهير! تجعل أسلحة سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية وفكرية وثقافية بيد هذه الجماهير، تثقيف عام على جميع المُستويات للجماهير، وهذ في النهاية – آخر الأمر – مكسب كبير وأي مكسب للأمة!

لنعد إلى النصوص، لأن البعض لا يرتاح إلا إلى النصوص، هل هناك ثمة ما يُشير إلى هذا الاتجاه؟ كثير جداً، دأبنا دائماً ودأب علماؤنا على تعليمنا وتلقيننا أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم يُؤذن له ولم يأذن هو بدوره بحمل السلاح ومُبادَرة الكفّار الذين بادروه ظلماً وعدواناً وعسفاً، لأن المُجتمَع المُسلِم ولأن الجماعة الإسلامية أو الرسول ومَن حوله ومَن معه كانوا قلة مُستضعَفة في مكة، ولو قد فعلوا لأعطوا ذريعة إلى استباحتهم، وهذا حق، لكنه ليس الحق كله، ليس السبب الوحيد، هل تعلمون لماذا؟

لأن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – أولاً لم يحد عن هذه الخُطة في مُجتمَع المدينة، عفواً! في دولة المدينة، حيث صارت له دولة، وكان في المُجتمَع أيضاً طائفة – ليس أفراداً يُشكِّلون حالة ردة مُقنَّعة أو مُستعلِنة، وإنما أفراد لهم ثقل ووزن، أعني عبد الله بن أُبي لعنة الله عليه وأمثاله من المُنافِقين – من هؤلاء الذين كانوا يُشكِّلون طابوراً خامساً، وبلُغة القرآن عدواً حقيقياً، أشد فتكاً وخطراً من العدو الآخر، بلُغة القرآن هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۩، الله قال قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۩، ومع ذلك النبي لم يأذن باستباحتهم ولم يرض بذلك، قال لا أُريد أن يتحدَّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، مما يُؤذِن باحتراب داخلي، بتهالك المُجتمَع، وبتفسخ الوحدة، النبي كان له خُطة مرسومة، طبَّقها في مكة، وطبَّقها في المدينة، بغض النظر عن هذا العدو، ينتمي إلى الجماعة أم خارج المنظومة العقدية الأيديولوجية بالكُلية، ككفّار مكة، نفس الخُطة!

هناك ما هو أغرب من ذلك، النبي بنور الوحي وبنور الله – تبارك وتعالى – علم أن هذه الأمة ستتعرَّض لفتن وكوارث ومُلِمات ومصائب ومرائر، لا أول لها ولا آخر، علم ذلك علم اليقين بالوحي، وأخبر أصحابه بذلك، وقال في الحديث الصحيح إني لأرى مواقع الفتن من بيوتكم كمواقع القطر، تنزل هنا وهنا وهنا وهنا، رأى الفتن النبي نفسه مُجسَّدة، من باب تجسيد الأعراض، مُعجِزة له – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

في الحديث الذي أخرجه – وهناك أحاديث كثيرة جداً – أبو داود وابن ماجو أيضاً عن أبي ذر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – قال له يا أبا ذر كيف أنت إذا كثر الموت – موت كثير في الأمة، هنا في هذا المُجتمَع المُسلِم – حتى يكون البيت بالوصيف؟ والمُراد بالبيت هنا القبر، أي حتى يكون القبر بالوصيف، والوصيف هو العبد، والوصيفة هي الأمة، بمعنى أنه يكثر القتل جداً، حتى يُشغَل الناس أو يضيق المكان عنهم، فمَن أراد أن يحجز له مكاناً ليُدفَن فيه لابد أن يدفع ثمنه باهظاً ثقيلاً، عبد! ثمن عبد، أي عشرات أو مئات ربما الدنانير أو الدراهم، لكي يُدفَن، الله أكبر! فتنة عظيمة جداً إذن، فتنة مفتوحة مُستوعِبة دامية.

قال الله ورسوله أعلم، وفي رواية ما خار الله لي ورسوله، أي ماذا تقول يا رسول الله؟ فأنا لا أعرف ما الموقف، قال له اصبر، أو قال تصبر، في رواية قال يا رسول الله أفلا أحمل سيفي فأضعه على عاتقي؟ أي هل أحمل سيفي معي، وفي اللحظة المُناسِبة أخرج بالسيف وأُشارِك، فأُدافِع عن نفسي على الأقل وعن أهلي وعن حُرمي وعن أولادي؟ قال إذا شاركت القوم يا أبا ذر، ستكون منهم، من أصحاب هؤلاء الفتنة، حرب أهلية! إذن شاركت القوم يا أبا ذر.

ثم قال له يا أبا ذر، قال لبيك وسعديك يا رسول الله، قال كيف أنت بحجارة الزيت إذا غرقت بالدم؟ وحجارة الزيت مكان بحرة المدينة، المدينة في جنبتيها الحرتان، حجارة سود مُسنَّنة، هي آثار انفجار بركاني قديم، والمنطقة كانت بركانية، منطقة بركانية! حجارة الزيت مكان، سماها حجارة الزيت لأنها كأنها مدهونة بالزيت، لشدة سوادها تلمع هكذا، لشدة سوادها كما قال الشرّاح، قال كيف أنت بحجارة الزيت إذا غرقت بالدم؟ قال الله ورسوله أعلم، أو قال ما خار الله لي ورسوله في رواية، قال الزم بمَن أنت فيه أو قُم بمَن أنت منه يا أبا ذر، أي خلك هكذا.

قال فإن دُخِل علىّ؟ أو إن دُخِل على بيتي؟ ماذا إن جاءوني في البيت؟ أنا مُعتصِم في البيت ودخلوا علىّ، فماذا إذن؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن خشيت أن يبهرك شُعاع سفيه فألق ثوبك على رأسك، ليبوء بإثمك وإثمه، ولذلك في رواية أبي داود بشكل واضح قال فإن دُخِل عليك بيتك فكُن كخير ابني آدم، أي كهابيل – عليه السلام -، كُن أنت المقتول، ولا تكن القاتل.

بعض الناس يتشكَّك في هذه الأحاديث، هي أحاديث صحيحة، علماً بأنها في البخاري، في مُسلِم، في السُنن، وفي أحمد، كثيرة جداً! ولم يبق للأسف مقام لكي نستدعي بعضها، كلها تُؤكِّد أن تكون حلساً في بيتك، كحلس البعير، كالسجاد، لا تتحرَّك من بيتك.

كسِّروا قسيكم، أي أعواد الأقواس، القسي هو عود القوس، كسِّروا قصيكم، قطِّعوا أوتاركم، النبي يقول هذا، ألزِموا بيوتكم، يُوشِك أن يكون خير مال المُسلِم غنم يتبع به شعث الجبال، ومواقع القطر – أي المطر -، يفر بدينه من الفتن، هذا في البخاري عن أبي سعيد الخدري، هناك أحاديث كثيرة، لابد أن نعرفها، السعيد مَن كف يده، كف يدك، ابق وحدك.

يقول بعض الناس هذا فيه مُخالَفة لما نعلمه من هدي الإسلام وأمره بالانتصار، لابد للمظلوم أن ينتصر! نعم، هذا في الحوادث الفردية، لكن يختلف الأمر إذا غدا الأمر مُنذِراً بحرب أهلية وباحتراب داخلي، فالإسلام أعطانا ماذا؟ الحل الناجع، والذي علَّمناه درس التاريخ أيضاً، إذا قامت الحرب الأهلية – رأينا هذا في الصومال، رأينا هذا في لبنان، ورأينا هذا في إسبانيا، قامت حروب أهلية كثيرة، والآن هذا في الجزائر للأسف الشديد – فلن تنكسر حلقة العنف الجنونية إلا بشرط واحد، أن أحد الفرقاء أو فريق من الفريقين يُلقي السلاح بغير شرط، هكذا! مُباشَرةً يُلقي السلاح، سيجد الآخر نفسه في موقف مُحيِّر جداً، يُصارِع مَن؟ لا يُوجَد صراع، ولا يُوجَد طرف للصراع، فتنتهي الحرب الأهلية، لابد من الكف، لابد من هذا، وإلا تؤكل الأمة، تُؤكل! ثم ستنتهي إلى نفس النتيجة، أن يكف الجميع، وأن يستعلنوا بالخطأ، يعترفوا بالخطأ من جديد! لماذا إذن الكُلفة العالية والباهظة في الأرواح والمُمتلَكات والأمن والاستقرار والتنمية؟! خطأ!

ولذلك روى الشيخان – البخاري ومُسلِم – في الصحيحين، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُهلِك أمتي هذا الحي من قريش، يُشير إلى بني أُمية، أي النبي، لأنه قال في الحديث الآخر عن أبي هُريرة هلاك أُمتي على يد أغلمة – وفي رواية أُغيلمة – من قريش، أولهم كان يزيد بن مُعاوية، غُلام! وقد فعل بالأمة ما فعل، عليه من الله ما يستحق، النبي يعلم هذا، وهذا في الصحيحين، ولذلك كان أبو هُريرة كما في مُصنَّف ابن أبي شيبة بإسناد حسن، كان يمشي في المدينة وهو أمير ويقول أعوذ بالله من إمارة الصُبيان، وأن تُدرِكني رأس الستين، رأس الستين تُولي أو وُلي يزيد بن مُعاوية، ومات أبو هُريرة سنة تسع وخمسين، واستجاب الله دعوته – رضيَ الله عنه وأرضاه -، كان يعلم ذلك!

على كل حال النبي يقول يُهلِك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال لو أن الناس اعتزلوهم، ما معنى كلمة لو أن الناس اعتزلوهم؟ المُقاوَمة السليمة، والآن نحن في وضع أشد تغولاً وأشد مركزيةً مائة مرة إذا لم يكن أكثر من وضع بني أُمية والعباس والمماليك والعثمانيين، كثير جداً! لماذا؟ لأن الدولة الحديثة ليست كالدولة القديمة السُلطانية، الدولة السُلطانية كانت تكتفي بجباية الضرائب والمكوس، وحماية الحوزة، أي الأمن القومي، أليس كذلك؟ والجهاد، أي جهاد العدو، هذا هو فقط، أما الدولة الحديثة فهي دولة مُتغوِّلة، التعليم والثقافة والإعلام والسياسة والأمن والمال أو الاقتصاد، كل شيئ بيدها! وعنفها بنيوي أو بنياني، هيكلي، ورمزي أيضاً، مع العنف الخشن المادي الواضح، تحتكر حتى كل أشكال العنف، أي الدولة الحديثة، ليس العنف المادي فقط، فهذه القضاء عليها أصعب بكثير، وأيضاً هذه لا تنسوا أنها دولة حداثية، أو تُريد وتحلم أن تكون حداثية، والحداثة تعني نسبية القيم، لا مُقدَّسات، لا عصمة للأرواح، ولا للشرع، ولذلك هؤلاء علمنوا حياتنا، أرادوا لنا حتى أن نُنتَخ وأن ننسلخ من ديننا، لأنه لا قداسة عندهم، لأنهم حداثيون، فهذه بركات الحداثة الغربية، التي يُراد لنا أن نأخذها دون قيد أو شرط، فالوضع مُختلِف تماماً، ولذلك يبقى الحل الصحيح هو الحل النبوي.

أخيراً – أختم بهذه الكلمة – ميكافيلي Machiavelli هو مُؤسِّس علم السياسة الحديث وصاحب الأمير، ميكافيلي Machiavelli قال كل الأنبياء والمُصلِحين كانوا فاشلين، إلا أولئك الذين حملوا السيف، العنف! العنف هو الذي يُؤسِّس الدول، هكذا يقول ميكافيلي Machiavelli، ونقول له هذا خطأ، هناك حالة استثنائية تُؤكِّد عدم صحة هذه المقولة، ليست صحيحة بالإطلاق، وهي ماذا؟ أن محمداً – عليه الصلاة وأفضل السلام – أسَّس لدينه، وأقام دولته، ورفع راياتها وأعلامها، دون أن يسفك قطرة دم واحدة، أليس كذلك؟ واقرأوا سيرة رسول الله وكيف فعل بمكة وكيف فعل حين كان بالمدينة، ونجح هذا النجاح كله، دون أن يتوسَّل بالسيف في سفك محجمة دم، من مُسلِم أو كافر في تلكم الفترة، أقام الدولة بذلك – عليه الصلاة وأفضل السلام -، إذن لابد أن نُفكِّر بطريقة أُخرى، والحديث له بقية. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك أن تُعيدنا إلى الإسلام عوداً حميداً، اللهم عُد بنا وبالمُسلِمين والمُسلِمات إلى دينك عوداً حميداً، وخُذ بأيدينا إلى ما فيه صلاحنا ورضاك يا رب العالمين.

اللهم انصر الإسلام وأعِز المُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم عليك بمَن ناوأنا وعادانا يا رب العالمين، اللهم مَن نصب للمُسلِمين المكائد ورتَّب لهم الفخاخ والشدائد، اللهم فاهتك ستره، وافتح قبره، واجعله للعالمين عبرة يا رب العالمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تُبق منهم أحداً.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(11/7/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: