الدرس الحادي والعشرون
تفسير سورة المائدة من الآية الثانية عشرة إلى الآية الرابعة والثلاثين

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علَّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً.

۞ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ۞

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

يقول الله – تبارك وتعالى – وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۩، النقيب هو العريف، عريف القوم أو الجماعة يُقال له نقيب، وتعلمون في بيعة العقبة اصطفى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أيضاً اثني عشر نقيباً من الأنصار، ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج، وكانوا هم نُقباء الأنصار ليلة إذ، هنا نفس الشيئ، وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۩، ما قصة هؤلاء النُقباء الاثني عشر؟ هنا – كما تعلمون – البعث ليس بعثاً شرعياً كبعثة الأنبياء والرُسل، وإنما هو بعثٌ قدري، أي بعثٌ كوني، يسَّر الله – تبارك وتعالى – على يد نبيه وكليمه موسى اصطفاء هؤلاء العُرفاء، هذا معنى البعث هنا، كما قال بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ۩،  أي هؤلاء جنود، كيف بعثهم؟ هذا بعث قدري، اسمه البعث القدري! الآن لو يسَّر الله – تبارك وتعالى – وبعث جُنداً من جُند المُسلِمين على الإسرائيليين الصهاينة – مثلاً – فسنقول هؤلاء جُنود الله بعثهم على الكفّار، هذا ليس البعث الشرعي كبعث الأنبياء والرُسل، إنما هو البعث القدري أو البعث التكويني أو الكوني.

وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۩، القصة باختصار أن موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – لما أمره الله – تبارك وتعالى – أن يأمر قومه بالمسير إلى الأرض المُقدَّسة التي كتب الله لهم وهي أرض فلسطين وعلى وجه الخصوص بيت المقدس، وموسى – عليه السلام – اصطفى منهم – أي من الأسباط – نقباء، تعرفون أن أسباط بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطاً، وسبق تفسير كلمة أسباط، والأسباط في نسل يعقوب كالعشائر في نسل إسماعيل كما قدَّمنا، أي كالقبائل والعشائر في نسل إسماعيل، عليهم الصلوات والتسليمات أجمعين وآل كلٍ وأصحابه، فموسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – اصطفى من كل سبط نقيباً، إذن كم كانوا؟ كانوا اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۩، أي اثني عشر عريفاً، فمن كل سبط اصطفى عريفاً أو نقيباً بحسب تعبير كتاب الله تبارك وتعالى، وبعثهم ليتحسَّسوا أخبار الأرض المُقدَّسة، هذا سيأتي بعد قليل إن شاء الله تبارك وتعالى، سيأتي موقفهم وما كان منهم بعد قليل!

وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۩، كيف مَعَكُمْ ۩؟ بالنصر والتأييد، الله مع عباده الصالحين بالنصر والتأييد، طبعاً لله – تبارك وتعالى – صنوفٌ من المعية، المعية من حرف مع، لله – تبارك وتعالى – صنوفٌ من المعية، المشهور منها اثنان: المعية العامة، فالله مع جميع خلقه مُؤمِنهم وكافرهم، بماذا؟ بعلمه، بتدبيره، بقهره، وبسُلطانه، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً، كل شيئ داخل تحت علم الله، تحت إرداته، تحت قهره، وتحت قبضته، هذه معية عامة تشمل الجميع، وهناك معية خاصة، تكون لمَن؟ لأولياء الله، للعباد الصالحين، جعلني الله وإياكم منهم، ولأولياء الله المُقرَّبين، قال لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ۩، ما معنى مَعَكُمَا ۩؟ لموسى وهارون معية خاصة، تُوجَد معية خاصة هنا، إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ۩، هذه معية خاصة، غير معيته مع سائر الخلق، إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا ۩، معية خاصة، يكون معهم بالكلاءة، بالحفظ، بالنُصرة، بالإحساب، بالكفاية، بالتأييد، بـ… بـ… بـ… إلى آخره! هذه المعية الخاصة، وهذه تزداد مهما ازداد العبد من ماذا؟ من التقرب إلى الله، من العبادة، من البُعد عن المعاصي، ومن التمحض عبوديةً لله وطاعةً له ولجلاله سُبحانه وتعالى.

وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ۩، إذن قال لَئِنْ ۩، اللام هنا لام ماذا؟ القسم، الله يُقسِم هنا: لَئِنْ ۩، أتى باللام ثم قال ماذا؟ إن، وإن هذه شرطية، إذن هذا شرط مسبوقٌ بالقسم، وبحسب قواعد النحو دائماً ماذا سيكون الجواب؟ سنحذف جواب ما تأخَّر، دائماً إذا اجتمع شرطٌ وقسمٌ – كما قال ابن مالك – فحذف ما تأخَّر مُلتزَم، قال ابن مالك في الألفية:

واحْذِفْ لَدَى اجْتماعِ شرْطٍ وقَسَمْ                جَوَابَ ما أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ.

لابد من هذا، إذن الجواب هنا – لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ۩ – هو جواب ماذا؟ جواب القسم سد مسد جواب الشرط، لا تقل جواب الشرط هذا، لماذا؟ لأن اجتمع قسم وشرط، فدائماً جواب المُتأخِّر محذوف، يسد مسده ماذا؟ جواب المُتقدِّم، إذن هذه لام القُسِم، يُقسِم الله إذن هنا، هذه ليست مسألة عادية، فالله يُقسِم، ليس فقط اشتراطاً وإنما يُقسِم! يُقسِم قائلاً لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ۩، انظروا إذن إلى مثابة الصلاة وخطورتها وشرفها وأهميتها، مُهِمة جداً، فوق ما نتصوَّر! دائماً الأنبياء والأمم وطلّاب النصر وطلّاب العز يهتمون بالصلاة، الصلاة شرط أساسي، قال لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ۩، ووردت معنى هذه الآية في تلاوة الليلة من سورة الأعراف أيضاً، آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ۩، التعزير هو ماذا؟ هو النُصرة والإجلال، أي تنصره وتُجِله وتُعظِّمه، فهي ليست نُصرة محضة فقط، هي نُصرة مع إجلال وتوقير وتعزيز.

وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۩، كيف يكون إقراض الله تبارك وتعالى؟ بالإنفاق في محابه، اليهود قالوا مرة لرسول الله يا محمد نرى ربك قد افتقر، يستقرض عباده! فأنزل الله ما سبق ذكره في سورة النساء.

لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ۩، هذا جواب القسم الذي سد مسد جواب الشرط، وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ۩، إذن قال جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ۩، يُقال أنهار الجنة بلا أخاديد، فسُبحان الخلّاق العظيم، سُبحان المُبدِع العليم، تجري الأنهار في غير أخدود، في غير مجرى، هكذا في الهواء تجري! وأنهار من لبن وأنهار من عسل وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من ماء أيضاً، قال الله فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ۩، شيئ عجيب! هكذا قال تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ۩، تجري من تحت القصور في غير أخاديد، لأنه عالم آخر غير محكوم بقانون الجاذبية، أليس كذلك؟ نشأة أُخرى، كلها نشأة أُخرى، العالم هناك عالم آخر والإنسان نفسه يكون في نشأة أُخرى لا يعلمها الآن، أي أنها غريبة بالكامل.

في يوم من الأيام أحد اليهود أيضاً – عدد من اليهود كانوا جالسين يُحدِّث بعضهم بعضاً في سوق من أسواق بغداد – قال محمد يضحك على أصحابه ويستغفلهم، قالوا كيف؟ قال يزعم محمد أن أصحاب الجنة لا يتغوَّطون – لا يخرج منهم غائط – ولا يتبولون، كيف يكون هذا؟ فأين يذهب الطعام؟ فجاءهم واحد من صبيان المُسلِمين – صبي صغير – وقال لهم بعد أن استمع إلى مقالتهم هل يُمكِن أن أُجيبكم؟ قالوا أجب إذا كان عندك جواب، قال أكل ما تأكلونه تُخرِجونه؟ قالوا لا، يخرج بعض ويبقى بعض، قال فأين يذهب الذي لا يخرج؟ قالوا يبقى في الجسم، قال الذي قدر – تبارك وتعالى – على أن يُذهِب البعض ويُبقي البعض قادر على أن يُبقي الكل، قالوا تباً لك ما أذكاك! أفحمهم، هذا من غبائهم، هذه قدرة الله تبارك وتعالى، هل أنت تقيس النشأة الآخرة على النشأة الدنيوية؟ هذا غباء طبعاً وبله، هناك نشأة وهناك نشأة مُختلِفة تماماً، القوانين مُختلِفة أصلاً!
فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ۩، الآية واضحة.

۞ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۞

فَبِمَا ۩، أي بسبب، نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ۩، بسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم، أي أبعدناهم من رحمتنا وطرنادهم وأضللناهم عن سُبل الهُدى ومناهج الرشاد، وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۩، هذه الآية مُهِمة هي وأمثالها، مُهِمة جداً، لماذا؟ معنى ذلك أن الإنسان إذا عاهد الله عهدا مُوثَّقاً مُغلَّظاً – والعياذ بالله تبارك وتعالى – ثم نقضه – والعياذ بالله – وخاس فيه يقسو قلبه، هذا يتأدى – والعياذ بالله – إلى ماذا؟ يتأدى إلى عقوبته بقسوة القلب والعياذ بالله تبارك وتعالى، يُصبِح قلبه جافياً جافاً غليظاً قاسياً، إذن سبب قسوة القلب ما هي؟ نقض الميثاق مع الله، وهنا قد يقول لي أحدكم هؤلاء بنو إسرائيل لكن نحن لسنا كذلك، وهذا غير صحيح، يُمكِن أيضاً أن يُعاهِد أي فرد منا الله ثم ينقض عهد، وهذا يحدث كثيراً من بعض الناس، يتحمَّس الواحد منهم ويقول يا رب إني أُعاهِدك عهداً مُؤكَّداً وأُقسِم بعزتك وكذا وكذا وكذا لئن فعلت لي كذا وكذا وكذا وصرفت عني من وجوه الأذى كذا وكذا وكذا لأفعلن كذا وكذا وكذا، والله يُعطيه ما طلب – يُعطيه ما طلب ويُعطيه أكثر مما طلب – فيلتزم قليلاً ثم يعود في حافرته والعياذ بالله، هذا شيئ خطير! والله لم يقل لك افعل هذا، لم يقل لك أحد أُقسِم الأيمان ووكِّد العهد والميثاق أبداً، اجعلها نية صالحة إن شاء الله، فإن استطعت كان بها وإن لم تستطع فالله غفور رحيم، لكن لا تُوثِّق العهد هكذا ثم تنقض عهدك مع الله، هذا ليس لعباً، فهذا يُمكِن أن يتأدى إلى قسوة القلب وجفافه وجفائه والعياذ بالله تبارك وتعالى.

وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۩، سبقت غير مرة، وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ۩، إذن حتى نسيان حظ من شرع الله – نسيان حظ أي قسم، قسم أو نصيب مُعيَّن من دين الله – هو عقوبة إلهية، وهذا يحصل الآن للأمة في مجموعها – وقد يحصل للأفراد – لكن ليس في جميعها، انتبهوا! يُمكِن أن يحصل للأمة في مجموعها لكن لا يحصل لها في جميعها، بمعنى أن هذا الحظ المنسي والذي جُعِل كشريعة منسوخة يُمكِن أن يقوم به بعض الناس – إن شاء الله – على وجهه، لكن لا تقوم به الأمة في الجُملة للأسف الشديد، لا تقوم به الأمة في الجُملة ويقوم به بعض الأفراد، فيُمكِن أن يقع للأمة في مجموعها وليس في جميعها، ويُمكِن ان يقع لأفراد كثيرين، لا يُحصيهم إلا الله عداً سُبحانه وتعالى، هذا نسيان الحظ، ونسيان الحظ ليس شيئاً يسيراً، وسوف نرى بعد قليل أيها الإخوة أن سبب الفُرقة والبغضاء والشنآن الذي ضُرِب به النصارى بعضهم ببعض – والعياذ بالله – هو نسيان حظ أيضاً من شرع الله تبارك وتعالى، الآن الأمة الإسلامية عليها أن تُفتِّش نفسها، لأنها نسيت أو تناست حظوظاً من شريعة ربها تبارك وتعالى، الكثير من الحظوظ منسية الآن، وهذا لا يجوز!

قال وَلاَ تَزَالُ ۩، أي يا محمد، تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ۩، ما معنى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ۩؟ قال مُجاهِد يعني ائتمارهم برسول الله ومكرهم به، أي تألبهم على رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، وهذا يعم كل خيانة، وشر خياناتهم فعلاً هو تألبهم على رسول الله ومكرهم به لقتله والقضاء عليه صلى الله عليه وسلم.

قال إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ۩، مَن هم هؤلاء القليل؟ الذين أسلموا، الذين آمنوا واهتدوا، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۩، قيل هذه الآية منسوخة، منسوخة بآية الجزية، استغربت لبعض قال منسوخة بآية السيف، غير صحيح! لا مدخل لآية السيف في مُعامَلة الكتابيين، هذا خطأ من بعض المُفسِّرين، قالوا منسوخة بآية السيف والجزية، غير صحيح! آية السيف في حق الوثنيين والمُشرِكين، لكن آية الجزية في حق أهل الكتاب، أليس كذلك؟ لأن آية السيف تجعل الخيار ثنائياً بين الإسلام وبين الموت، وبالعكس آية الجزية الخيار ثنائي فيها بين الإسلام أو الجزية، ليس شرطاً إذن، فيُمكِن أن تُقبَل منهم الجزية على أن يبقوا على دينهم ومِلتهم، وهذا الصحيح، إذن هذه الآية منسوخة بآية الجزية التي في سورة التوبة، حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ۩، هذه غاية القتال!

قال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩.

۞ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ۞

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ۩، نفس الشيئ، نسيانهم حظ – قسم أو نصيب – مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ۩ ترتَّب عليه: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩، وهذا شيئ عجيب! النصرانية عبر تاريخها – سُبحان الله – فرق مُتحارِبة، أليس كذلك؟ فرق وطوائف ومذاهب مُتناحِرة ومُتحارِبة، أسوأ حروب مرت بها أوروبا في العصور الوسيطة – ذهبت بعشرات إن لم يكن بمئات الملايين – هي الحروب الدينية، وبالعكس هذه الحروب الدينية كانت هي الأساس الرئيس الذي جعلهم يُعمِلون تفكيرهم عميقاً حتى يتوصَّلوا إلى صيغ وإلى طروحات يُمكِن أن تُوحِّد بينهم، وللأسف هذه الصيغ والطروحات كانت مُبتناة على نبذ الدين من الإطار العام، فكأنهم نسخوا دينهم، وإلا هذا الدين نفسه إذا أُعمِل في الحياة وفي كل ميادينها دائماً يتأدى بهم إلى الاصطراع والاحتراب، تاريخهم يقول هذا، الله قال إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩، هذا موجود وسوف يبقى موجوداً، والسبب ما هو؟ نسيان حظ من شرع الله تبارك وتعالى.

قال وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ۩.

۞ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ۞

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۩، من هذا الكثير الذي أخفوه حد الرجم، وهناك أحاديث كثيرة مشهورة عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – ألزمهم الرسول فيها الحُجة وبيَّن لهم أن حد الرجم كان مكتوباً في كتابهم، في توراتهم! وليس بالمنسوخ، وكان معمولاً به، لكنهم حرَّفوه ولووا به ألسنتهم على عادتهم ودأبهم، ومن هنا قال حبر الأمة ابن عباس – هذا خطير، كما أخرجه الحاكم في المُستدرَك وقال صحيح على شرطهما ولم يُخرِّجاه، أي على شرط البخاري ومُسلِم – مَن أنكر حد الرجم فقد كفر بالقرآن وإن لم يعلم، عجيب! ثم قرأ هذه الآية وقال وكان مما أخفوه الرجم، ماذا يُريد ابن عباس؟ ابن عباس يقول حد الرجم كان مكتوباً في التوراة، وجاء القرآن ليفضح هذه الحقيقة وليُبرهِن لهم – وقد برهن لهم رسول الله – أن هذا الحد حد شرعي إلهي، أي أنه ذو مصدر رباني، والقرآن كشف هذه الحقيقة، أن النبي فضحهم! أذن بهذه الطريقة غير المُباشِرة القرآن يدل على الرجم، فابن عباس يقول انتبهوا، لا تُنكِروا، مَن أنكر حد الرجم فقد كفر بالقرآن وإن لم يعلم، لأن في الحقيقة لم يُصرَّح بحد الرجم في القرآن هكذا صراحةً لكن دُلَّ عليه بهذه الطريقة، فابن عباس يُحذِّرنا من إنكار هذا الحد حتى لا نكفر بالقرآن ونحن لا نعلم والعياذ بالله تبارك وتعالى، قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۩، هذه طريقتهم، يُبدون أشياء ويُخفون أشياء أكثر منها، نفس المعنى!

قال وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۩، ما معنى وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۩؟ أي يتسامح فلا يتعرَّض إلى فضحكم فيه، أمور ربما تكون من فروع التشريع اليسيرة أو الميسورة، فالنبي أُمِر ألا يتعرَّض لها، قيل له اترك هذا، وإنما كان يُدقِّق في الأشياء الكبيرة، في الأمهات، أي في المسائل الأمات.

قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ ۩، هو القرآن، وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ۩، ويجوز في اللُغة العربية عطف الشيئ على نفسه، لأن عطف الشيئ على نفسه أحياناً ماذا يكون مردوده؟ تبيان مزيد من صفاته ومزيد من كواشفه، قال نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ۩، هو أيضاً مُّبِينٌ ۩، لأن طبيعة النور هي الإبانة والكشف والإيضاح.

۞ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۞

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، الآية واضحة.

۞ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞

لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ۩، إذن المسيح هو عبدٌ مقهورٌ وإنسانٌ مأمورٌ بأمر الله تبارك وتعالى، لا يخرج عن قبضة قهره، لا هو ولا أمه، والدليل على ذلك أنه كان يُخوَّف وقضى حياته سياحةً فاراً بنفسه وبدينه من بلدة إلى بلدة هو وأمه لأنه بشر ضعيف، الإله لا يُستضعَف ولا يخاف ولا يُخوَّف، ثم بعد ذلك يزعمون أنه صُلِب وأنه استغاث بأبيه ولم يُغِثه، فما هذا الإله الذي يُغلَب على أمره ويُصلَب ويستغيث ويصرخ بأعلى صوته يا أبي لِمَ تركتني؟ لِم تركتني؟ مُستحيل! أغبياء هؤلاء الناس، مُستحيل! فمثل هذه الصفات تجعل الموصوف دائماً يكون كائناً مخلوقاً وليس خالقاً.

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء ۩، تعريض بماذا؟ بأن عيسى من مخلوقات الله أيضاً، قال يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩.

۞ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ۞

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۩، هذه فيها وجهان من وجوه التفسير، ما معنى أَبْنَاء اللَّهِ ۩؟ وَأَحِبَّاؤُهُ ۩ معروف معناها، أي وأوداؤه، فكلمة وَأَحِبَّاؤُهُ ۩ تعني وأوداؤه، لكن ما معنى أَبْنَاء اللَّهِ ۩؟ على جهة المجاز، لم يدّع اليهود أو النصارى أنهم هم حقيقةً أبناء الله، إنما ادّعى بعض طوائف اليهود في يعقوب أنه ابن الله وبعض طوائفهم في عُزير أنه ابن الله، ففي توراتهم أن الله – تبارك وتعالى – دعا إسرائيل ابنه، هكذا قالوا دعا إسرئيل ابنه، أي ابناً له، وطبعاً في مذاهب النصارى أن عيسى كان يقول إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقالت أيضاً اليهود عزيرٌ ابن الله، قال الله وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۩، فمعنى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ ۩ أي نحن أتباع أو تبعٌ لأنبياء الله الذين هم بنوه وله بهم عناية ولهم به – تبارك وتعالى – اختصاص، هذا معنى أَبْنَاء اللَّهِ ۩، وقيل أَبْنَاء اللَّهِ ۩ أي مقامنا منه مقام الأبناء من أبيهم، أن يُحِبنا كما يُحِب الأب أبناءه، وبالمُناسَبة التعبير هذا بأن الرب – تبارك وتعالى – أبٌ وأن الخلق عياله وأبناؤه تعبير دارج في كل الأديان، في اليهودية والنصرانية والزرادشتية وحتى في الإسلام، هناك بعض الأحاديث يقول فيها النبي – وهذا مشهور جداً جداً – الخلق عيال الله، أليس كذلك؟ الخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وهذا ليس فيه محظور، لا يُوجَد محظور أبداً في أن يُقال إن الخلق عيال الله أو أبناء الله، لكن على جهة ماذا؟ المجاز، أليس كذلك؟ النبي في أحاديث صحيحة كثيرة يقول دائماً لله أرحم بخلقه أو بعباده من الأم الرؤوم بولدها أو برضيعها، هناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى، كثيرة ومعروفة! فهذا موجود ولا يُنكَر، وهناك بروفيسور Professor كبير جداً – ربما تحدَّثت عنه مرة من أمد بعيد وهو علّامة – مُتخصِّص في المذاهب اللاهوتية المسيحية وفي تاريخ الكنيسة وهو شارل جنيبير Charles Guignebert، كان رئيس قسم اللاهوت في السوروبون Sorbonne، عنده كتاب اسمه نشأة المسيحية، كتاب رائع! من أروع الدراسات في هذا الباب، وهو درس مُقارَنة وعكف عليها سنوات بعيدة مُتطاوِلة، انتهى باختصار إلى ماذا؟ إلى أن فعلاً هذه الألفاظ كانت موجودة في لُغة المسيح عليه السلام، وكان يُعبِّر عن ذلك، أي بأنه ابن لله، لكن أيضاً وإلى اليوم في إناجيل النصارى المسيح كان يُعبِّر أيضاً أنهم هم أيضاً أبناء الله، ولذلك كان يقول إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، هو أبو المسيح وأبو أيضاً العباد الآخرين، هذا واضح حتى في الأناجيل المُحرَّفة، وهذا لا محظور فيه ولا شائبة شرك فيه أيضاً، لكن ما المُشكِلة؟ البروفيسور شارل جنيبير Professor Charles Guignebert وضَّح أو بيَّن أنه بعد ذلك لدى الترجمة من اللُغة الآرامية – اللُغة كانت آرامية – إلى لُغات الشعوب الأُخرى كالرومان وغيرهم حدث خطأ جسيم، أي فجوة في الترجمة وسقطة كبيرة جداً، ما هو؟ أن هذه الألفاظ والتعابير المجازية نُقِلت على أنها حقيقية وصير إلى التعبير بالأب بمعنى الأب البيولوجي والابن بمعنى الابن البيولوجي أيضاً والصُلبي، ومن هنا بدأ التحريف، أي كان خطأ ترجمة في البداية، وللأسف أصبح مذهباً دينياً.

الإمام الغزّالي سبق شارل جنيبير Charles Guignebert، أبو حامد الغزّالي – رحمة الله عليه – قرأت له أيضاً قبل سنوات طويلة كُتيباً لطيفاً جداً جداً في حوالي مائة صفحة، اسمه القول الجميل في الرد على أصحاب الإنجيل، يذهب فيه نفس المذهب ويقول لا تُوجَد أي شُبهة ولا أي غضاضة ولا أي مُشاحة إذا قلنا إن الخلق هم أبناء الله والله بمثابة الأب تبارك وتعالى، قال أبو حامد هذا ليس فيه أي شيئ، وهكذا كان النصارى، نفس ما لخَّصته لكم قال به أبو حامد الغزالي رحمة الله عليه، وأن هذا كان من خطأ اعتبار المجاز حقيقة، ودرج هذا الخطأ بعد ذلك – للأسف الشديد – وانتشر وشاع، هذه هي المسألة!

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۩، بعض المُفسِّرين قال أي لِمَ سيُعذِّبكم في النار بذنوبكم، لكن هذا حتى في الدنيا، الآيات القرآنية كثيرة جداً في أنهم قضوا حياتهم في نفي وتشريد وتذبيح وتقتيل، أليس كذلك؟ ليس على يد فرعون فقط وإنما على يد ملوك بابل أيضاً وملوك آشور وغيرهم وغيرهم، وإلى اليوم هم كذلك، وفي سورة الأعراف وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۩، بالعكس! إذن هم يُعذَّبون في الدنيا وأما في الآخرة فلهم أشد العذاب وأخزاه وأبقاه والعياذ بالله.

سأل أحد العارفين أحد الفقهاء، قال له أين في كتاب الله أن الحبيب لا يُعذِّب حبيبه؟ علماً بأن هذا من كلام الصوفية، قال له لا أدري، فاستشهد بهذه الآية، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۩، هم قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۩، لو كانوا أحباءه وأوداءه لما عذَّبهم لأن الحبيب لا يُعذِّب حبيبه.

بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ۩، الآية أيضاً واضحة.

۞ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ ۩، النبي بعثه الله عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ ۩ وطموسٍ من السُبل وانقطاعٍ من الهُدى وعمى وصمم وبكم – والعياذ بالله – في خلق الله، حتى أنه – عليه السلام – قال الآتي في الحديث الصحيح المشهور وهو من الأحاديث الجليلة الشريفة جداً، أخرجه الإمام مُسلِم في صحيحه وغيره من حديث صاحب رسول الله عياض بن حمار المجاشعي رضيَ الله عنه وأرضاه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قام فيهم يوماً فخطبهم خُطبةً وقال فيها إن الله أمرني أن أُعلِّمكم في مقامي هذا مما علَّمني، إلى أن قال وإن الله – تبارك وتعالى – نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل، وهذا لفظ أحمد، وأما لفظ مُسلِم إما بقايا من أهل الكتاب، بنو وإسرائيل هم أهل الكتاب، اليهود والنصارى! قال في لفظ أحمد إلا بقايا من بني إسرائيل وفي لفظ مُسلِم إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم المُستمسِكون بعروة صحيح الدين، أي بعروة صحيح دينهم الذي لم تطله يد التحريف والتغيير والتشويه، هكذا! فالنبي بُعِثَ عَلَى فَتْرَةٍ ۩، ما معنى عَلَى فَتْرَةٍ ۩؟ هي من عيسى عليه السلام – وهذه هي الفترة المشهورة – إلى محمد عليه السلام، وهي زُهاء ستمائة سنة، بالتحديد هي خسمائة وستون سنة، هذه الفترة خلت من جميع الأنبياء والرُسل، فليس بين عيسى – صلوات ربي وتسليماته عليه – وبين محمد – صلوات ربي وتسليماته عليه – نبيٌ ولا رسولٌ، وأما المشهور عند بعض المُفسِّرين وبعض الذين كتبوا في كُتب العقيدة والكلام على جهة التوسع والترف أن هناك نبياً عربياً بُعِثَ بينهما ويُدّعى خالد بن سنان فهذا كلام لا يصح، هذا كلام غير صحيح وليس فيه لا آية قرآنية ولا حديث يصح عن المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُسنَداً، موجود في كُتب التفسير، في البداية والنهاية، في كُتب التأريخ، وفي كتب العقيدة الكلامية أن خالد بن  سنان هو نبي عربي بعثه الله إلى أهل الرس، والرس هي البئر، الرس البئر ويُقال اسمها، أي اسم البئر بئر الرس، الله أعلم، المُهِم أنهم قتلوه، إلى آخر القصة، هذا الكلام لا يصح، غير صحيح! يُمكِن أن يكون خالد بن سنان أحد المُصلِحين، أحد الدُعاة، أحد المُوحِّدين، لكن ليس بنبيٍ، لماذا؟ لأن في الصحيحين عن أبي هُريرة قال – صلى الله عليه وسلم – إن أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنا، ليس بيني وبينه نبي، واضح جداً، هذا مُصرَّح به، هذا في الصحيح، فكيف نقول خالد بن سنان نبي؟ غير صحيح، إذن ليس بين عيسى وبين محمد من نبي.

انتبهوا الآن! رسول الله هو أولى الناس بعيسى، ورسول الله هو نبينا، إذن نحن أولى الناس بعيسى، هذا صحيح! إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۩، حقيقة عيسى وأم عيسى ونبوة عيسى ورسالة عيسى وطبيعة عيسى يحتكرها مَن؟ المُسلِمون، أي هذه الأمة، وقد تاهوا عنها، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۩، أليس كذلك؟ فنحن أولى بعيسى حتى من النصارى، هذا كان أولاً، ثانياً إبراهيم مَن أولى الناس به؟ هذه الأمة أيضاً، أي محمد وأتباعه، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ۩، إذن نحن أولى به، ثالثاً موسى – عليه السلام – مَن أولى الناس به؟ هذه الأمة أيضاً، وفي الصحيحين من حديث صيام عاشوراء – في قصة صيام عاشوراء – نحن أولى بموسى منكم وأمر بصيامه، إذن نحن أولى بموسى، لماذا؟ لأننا لم نعب موسى ولم نرمه بفاحشة ولا بكبيرة ولا بصغيرة، ولا نفعل هذا مع أحد من الأنبياء، ومَن فعل هذا أو بعضه في حق واحدٍ من الأنبياء فقد كفر وخرج عن الملة، وهو خالد مُخلَّد في نار جهنم، فموسى عندنا نبيٌ كاملٌ معصومٌ وهو أحد الخمسة أولو العزم من الرُسل، وعيسى مثله وإبراهيم ومحمد ونوح وبقية الأنبياء والمُرسَلين، فصح أننا أولى الناس بإبراهيم وأولاهم بموسى وأولاهم بعيسى، فالحمد لله على نعمته التامة العامة، وله الفضل والمنّة تبارك وتعالى.

إذن هذا معنى عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ ۩، الآن يُوجَد مبحث عقدي طويل جداً، ما حُكم أهل الفترة؟ ما حُكم الناس الذين كانوا بين رسولين ولم يُبعَث إليهم فيهم منهم رسولٌ؟ ما حُكمهم؟ هذه مسألة طويلة جداً جداً، أعتقد قبل سنوات أنا ألقيت فيها مُحاضَرة من جُزئين، كانت عن حُكم أهل الفترة في إطار موضوع العُذر بالجهل، فهذا مبحث عقدي وفقهي طويل.

أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ۩، أن تقولوا كان آخرهم عيسى وعيسى كان رسولاً فقط لقومه، وصحيح أنه فقط لقومه، الآن المسيحية تعتبر نفسها ديناً تبشيرياً وديناً له رسالة عالمية، ولكن هذا ليس من صُلب رسالة عيسى، وعيسى صرَّح أكثر من مرة في أكثر من موضع أنه لم يُبعَث إلا للخراف الضالة من نسل يعقوب أو من نسل إسرائيل، ليس مبعوثاً للأُميين، ونسبوا إلى عيسى وحاشاه وكلا – صلوات ربي وتسليماته عليه – كلمات في شنآن غير الإسرائيليين، وقالوا سماهم ونعتهم بنعوت غير لائقة، مُستحيل عيسى أن يقول هذا، عيسى ليس نبياً قومياً ولا عنصرياً، صحيح هو مُرسَل لقومه لكن ليس عنده نزعات قومية ونزعات عنصرية بحيث يحتقر الأقوام الأُخرى، هذا الكلام غير صحيح!

قال فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩.

۞ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ۞

الآن نبدأ قصة موسى التي وعدنا قبل قليل بأن نخوض فيه، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء ۩، ما معنى وَإِذْ قَالَ مُوسَى ۩؟ ذكرنا هذا عدة مرات، أي واذكر يا محمد أو احك لهم أو اقص عليهم يا محمد حين قال موسى، لأن إذ معناها ماذا؟ حين، فالواو هذه بينها وبين إذ يُوجَد محذوف، ما هو؟ احك، أي واحك أو قص أو اسرد أو قل لهم أو ذكِّرهم وهكذا، لك أن تُقدِّره بشيئ من هذه الأشياء، واحك لهم يا محمد أو قص عليهم يا محمد حين قال موسى لقومه، هذا معنى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ۩، فمعناها حين قال موسى لقومه، يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ ۩، أي حين جعل، فِيكُمْ أَنبِيَاء ۩، معروف – كما قلنا – أن كل الأنبياء من بعد إبراهيم إلى رسول الله من نسل إبراهيم، أي من نسل يعقوب وإسماعيل، وما بُعِثَ بعد إبراهيم باستثناء رسول الله نبيٌ إلا وهو من نسل إسرائيل، كلهم! لكن محمد من نسل إسماعيل، فالكل من نسل إبراهيم، ليس من نسل إسرائيل وإنما من نسل إبراهيم، قال إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء ۩، كلما هلك نبي قام نبي، علماً بأن كلمة هلك كلمة غير سيئة، تستطيع أن تقول هلك نبي، هذا عادي وليس فيها أي شيئ، ليس فيها شائبة مسبة أو غضاضة، يُمكِن أن تقول هلك، مثل هلك رسول الله، هذا عادي وليس فيه أي شيئ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ ۩، كلما هلك أو مات نبي قام نبي، هكذا باستمرار، وفي أحايين كثيرة كان يجتمع فيهم عشرات الأنبياء في نفس الوقت وفي نفس البلدة، هذه  نعمة كبيرة، هؤلاء أنبياء! لكن هذا يدل على ماذا؟ يدل على أن ميراثهم صعبٌ جداً وأن مقادتهم لا تسلس بيد كل نبي، لم تسلس حتى في يد أي نبي، ولا حتى موسى عليه السلام، ولذلك هم يحتاجون إلى أنبياء كُثر!

وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ۩، كيف مُّلُوكًا ۩؟ يُمكِن أن يُقال جعل فيكم الملوك، لما في صحيح البخاري أيضاً، قال – صلى الله عليه وسلم – كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، وبعد ذلك ساستهم الملوك، وقد سبق أن ذكرنا قصة النبي صموئيل مع طالوت حين أرادوا واستبعثوه ملكاً، استبعثوه ملكاً أي طلبوا أن يبعث الله على يديه ملكاً يقودهم إلى قتال أعدائهم واسترداد مجدهم الغابر، لكن ابن عباس وغير ابن عباس كثيرون فسَّروا الملوكية هنا بماذا؟ قال المرأة والخادم والبيت، أي جعل لكم بيوتاً تأوون إليها ونساء أيضاً تأوون إليها وخدماً، قال قتادة بن دعامة السدوسي كان بنو إسرائيل أول مَن اتخذ الخدم، وأشك في ذلك، تاريخ الحضارات طبعاً يُكذِّب مثل هذا القول، هذا اجتهاد من عنده، لكن معنى الملوك ماذا؟ الإنسان الذي عنده بيت وعنده زوجة يأوي إليها وعنده خدم هو ملك، وهنا قد يقول لي أحدكم لا يُوجَد الآن خدم، لكن يُوجَد الآن ما هو أفضل من الخدم بكثير، الثلاجة والغسالة والمكنسة وما إلى ذلك، خدم ماذا؟ هذه الأشياء تقوم مقام عشرة من الخدم، فالآن نحن كلنا ملوك وسنُسأل يوم القيامة عن جزيل هذه النعم أيها الإخوة، نعم كثيرة جداً جداً، وفي الحديث المشهور مَن أصبح مُعافىً في بدنه آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها، ماذا تُريد أكثر من ذلك؟ عندك بيت ومُعافى وعندك قوت اليوم وآمن، لست مطروداً ولا مُخوَّفاً ولا مُفزَّعاً، ماذا تُريد أكثر من ذلك؟ حيزت لك الدنيا.

سأل رجل ذات مرة عبد الله بن عمرو بن العاص، قال له أأنا من فقراء المُهاجِرين؟ يظن أنه فقيراً، قال أأنا من فقراء المُهاجِرين؟ قال له هل عندك زوجة؟ قال له نعم عندي، أنا مُتزوِّج، قال له عجيب، مُتزوِّج! قال له هل عندك دابة تركب؟ قال له عندي دابة وعندي خادم، قال له أنت من الملوك، لست من الأغنياء فقط بل أنت ملك، ولا زال يتساءل هل هو من الفقراء فتجوز عليه الصدقة أم ليس منهم، قال له أنت من الملوك، لست من الأغنياء فقط بل من الملوك.

وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ۩، قال الصحابة كابن عباس وغيره مِّن الْعَالَمِينَ ۩ أي من الذين كانوا بين ظهرانيهم، ماذا يقصد؟ أي من عالمي زمانكم، فبنو إسرائيل ليسوا أفضل العالمين عالمي كل زمان، مُستحيل! بدليل أن أمة محمد أفضل من بني إسرائيل، خير أمة! النبي قال أنتم تُوفون أو مُوفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تبارك وتعالى، أحاديث كرامة أمة محمد وأنها أفضل الأمم وخير الأمم مُتواتِرة، وقدَّمنا هذا، أحاديث مُتواتِرة ومن طرق عديدة كثيرة جداً جداً فلا يُكابَر عليها، إذن ما معنى مِّن الْعَالَمِينَ ۩؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور من عالمها، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إن هذا صحيح طبعاً، ولذلك حتى مريم بلا شك هي أفضل نساء عالميها، خديجة أفضل نساء عالميها، كل واحد له عالم، الأفضل بالإطلاق يعلمه الله في خصوص الأشخاص أو يأتي به نص.

۞ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۞ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ۞

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩، ما معنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩؟ أي على لسان يعقوب عليه الصلاة وأفضل السلام، أي على لسان سيدنا إسرائيل أو يعقوب، هو الذي بشَّرهم – وهذا مذكور في التوراة أيضاً – بأن هذه الأرض ستكون وراثةً لمَن صلح منهم، إذا صلحوا واستقاموا فسوف يُورِثهم الله هذه الأرض وهي أرض فلسطين، الأرض المُقدَّسة التي بارك الله فيها وفيما حولها، هذا معنى  كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۩، أي على لسان إسرائيل عليه الصلاة وأفضل السلام.

وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۩، موسى – كما قلنا قُبيل قليل – اصطفى اثني عشر عريفاً – اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۩ – من الأسباط، عن كل سبط عريفاً، ثم بعثهم يتحسَّسوا ويتسقَّطوا الأخبار، فجاءوا وأمرهم ألا يُذيعوا سره، فقط – قال لهم تأتون وتقولون ما ترونه – لي وحدي، لا تقولوا هذا لأي أحد، هو قائد ويعرف ما يُريد، فماذا فعلوا لما جاءوا؟ أنتم تعرفون طبعاً أن هذه الأرض كانت لبني إسرائيل في تلك الحقبة – حقبة يعقوب – ولما جاء يوسف وكان من أمره ما كان – طبعاً يوسف قبل موسى – وانتقل يعقوب بأسباطه إلى مصر ومكثوا في مصر فترة طبعاً مُتطاوِلة مديدة غلب على أرض فلسطين العماليق، غلب عليها العماليق من بقايا عاد، العرب البائدة، ليس العاربة أو المُستعرِبة وإنما العرب البائدة، فغلبوا عليها! فلما جاء هؤلاء بعد أن أنجاهم الله من فرعون وقومه وموسى أمرهم بدخول الأرض المُقدسَّة تسقَّطوا فوجدوا فيها فعلاً رجالاً ذوي خِلقٍ مهولة وقوى شديدة، شيئ عجيب، عمالقة فعلاً! أي أنهم أُناس جبارون ذوو خِلقٍ مهولة وقوى شديدة، رجال شديدو الأسر وعظيمو البنيان، فخافوا! وأفشوا السر، قالوا إنهم عمالقة وجبّابر وهناك شيئ لا يُقادَر وكذا وكذا، إلا اثنان منهم لم يُفشيا السر، على عهدهم مع موسى، لم يتكلَّم اثنان، وهما المذكوران بعد قليل: قَالَ رَجُلانِ ۩، هما هذان اللذان لم يتكلَّما، وقيل هما مَن؟ هما يوشع بن نون عليه السلام – وهذا يُؤكِّد أنه من أبناء الأسباط، الله أعلم – وواحد آخر اسمه كالب بن يوفنا، والله أعلم، إذن كالب ويوشع، (ملحوظة) سأل أحد الحضور عن تفسير آخر فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذا موجود، هذا تفسير ثانٍ، نحن نتحدَّث الآن عن الاثنين اللذين لم يُفشيا السر وهما يوشع وكالب بن يوفنا، فعادوا وقالوا ما قص الله تبارك وتعالى، ماذا قالوا له؟ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا ۩، سُبحان الله! المعاصي والأفكار حتى وفلسفات الجُبناء في الحياة مواريث، إلى اليوم لا يزال هذا ميراثهم، مثل الذين قالوا وشاعوا في العالم أنها أرضٌ بلا شعب، لماذا؟ هناك أُناس قالوا دعايا سياسية، لكن هذا أيضاً لإغراء أبناء دينهم، لكي يُغروا اليهود في العالم ويقولوا لهم لا تخافوا لن يكون هناك قتال ولا نضال ولا كفاح، سوف تأخذونها باردة، غنيمة باردة! فهلموا، هلموا معشر يهود من أنحاء العالم – يا شذاذ الآفاق – وسوف تأخذون أرض فلسطين غنيمة باردة، لأنها أرض بلا شعب، أليس كذلك؟ نفس المنطق، قال حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا ۩، أي العمالقة سيتبرَّعون لنا ويخرجون من أرض فلسطين هكذا وبعد ذلك سوف نتفَّضل بدخولها، منطق غريب جداً، منطق الجُبناء هذا، وهذا المنطق تابعهم ولاحقهم حتى في القرن العشرين، يُقال أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وهذه أُسطورة كُبرى طبعاً وافتُضِحَت بعد ذلك، لأنها كانت فضيحة لا يسترها الذيل ولا يطويها الليل، وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ۩.

۞ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞

قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ ۩، لا تخشوهم ولا تكعوا عن كفاح أعدائكم، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ ۩، إذا غالبتوهم على الباب – باب المدينة – بإذن الله يُكتَب لكم النصر والظفر، قيل هما اللذان حفظا السر وقيل موسى وهارون، هذان تفسيران!

فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩، الآية واضحة.

۞ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ۞

قَالُواْ يَا مُوسَى ۩، لم يقتنعوا أبداً، إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا ۩، مهما اقنعتنا ومهما سقت من الحُجج، فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ۩، انظر إلى هذا، يُوجَد نوع من السخرية ومن الهزؤ بالله تبارك وتعالى، فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ۩، لأن الله ليس بحاجة إلينا ولا نُصرتنا، إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ۩، استمعتم أمس إلى مثل هذا وتعرفون ماذا كان قول الصحابة لرسول الله، قالوا لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل.

۞ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۞

قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي ۩، ليس لي حُكم نافذ إلا على نفسي وعلى أخي هارون، هؤلاء لا حُكم لي عليهم، لا يسمعون! غِلاظ الرقاب وقُساة، فَافْرُقْ ۩، ما معنى فَافْرُقْ ۩؟ فاقض واحكم، احكم بيني وبين قومي، فَافْرُقْ بَيْنَنَا ۩، أي موسى وهارون، وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۩، أي الخارجين عن الطوع، الخارجين عن الطاعة.

۞ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۞

قَالَ – تبارك وتعالى – فَإِنَّهَا ۩، أي الأرض المُقدَّسة التي كتبها الله لهم إن صلحوا واستقاموا ولم يكونوا كذلك، مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۩، التحريم هنا قدري أو شرعي؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور إنه تحريم شرعي، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، كيف يكون شرعياً؟ مُستحيل! قدري، هذا تحريم قدري وهناك دليل، كيف؟ لو قلنا إنه تحريم شرعي لكان معنى ذلك أن الله يقول لهم حرام عليكم أن تفعلوا ذلك لكن من المُمكِن أن يفعلوه ويُخالِفوا الشرعية، فمُستحيل! ليس هذا المقصود، المقصود أنها ممنوعة ولن يستطيعوا التمكن من دخولها، وهذا ما حصل فعلاً، ولذلك ضُرِبوا بالتيه والضلال في الأرض أربعين سنة، يدورون ولا يستطيعون أن يخرجوا من التيه، شيئ غريب عجيب جداً، لم يستطيعوا! هذا يعني ماذا؟ أن الأمر كان كونياً قدرياً وليس شرعياً، أي أنه ليس مُحرَّم تحريماً شرعياً، بمعنى أنه حرام وإذا فعلته فأنت آثم، لا! هو مُحرَّم تحريماً قدرياً، كما قال – تبارك وتعالى – وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ۩، ما معنى وَحَرَامٌ ۩؟ مُمتنِع، مُمتنِع على أي قرية أُهلِكَت وبادت أنها لا تُبعَث للحساب يوم القيامة، هذا معنى الآية من سورة الأنبياء، ما معنى وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ۩؟ من المُمتنِع ومن المُستحيل – الله يقول – إن قرية أهلكناها ودمَّرناها بذنوبها أنها بادت وانتهت، بل سُتبعَث يوم القيامة للحساب والسؤال، هذا معنى وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ۩، إذن مُمتنِع! فالله يقول هذه الأرض ممنوعة عليهم، لن يستطيعوا دخولها أربعين سنة، إذن هذا تحريم قدري، انتبه! نحن دائماً ما نُنبِّه عليها، من أجل قواعد فهم النص الديني وخاصة القرآني أن تُفرِّق بين القدري والشرعي، انتبه! مُهِم جداً جداً، هناك تحريم قدري وهناك تحريم شرعي، وسبق أن تحدَّثنا عن كلمة التحريم أيضاً قبل أيام، قلنا يُمكِن أن يكون التحريم تحريماً شرعياً وتحريماً قدرياً، في أي آية؟ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ۩، كيف يكون معنى هذه كما قلنا؟ يُمكِن أن يكون حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ۩ تحريماً شرعياً على لسان الأنبياء بما أوحينا إليهم أن هذا حرام وهذا حرام وهذا حرام، أليس كذلك؟ ويُمكِن أن يكون تحريماً قدرياً، أي أننا خلينا بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين تحريف الكتاب والزيادة واللي فيه بحيث تأدى بهم الأمر إلى أنهم حرَّموا ما رزقهم الله وحرَّموا ما أحل الله عليهم تضييقاً عليهم، والله لم يُصحِّح هذا الخطأ، فليكن! فليُحرِّفوا حتى يزيدوا في تعذيب أنفسهم، فهذا يكون تحريماً قدرياً، وعلى الأول يكون تحريماً شرعياً.

البعث اليوم ذكرناه أيضاً، هناك بعث قدري وهناك بعث شرعي، اليوم أتينا بمثال عن البعث القدري، فهذا بعث قدري، بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا ۩ بعث قدري، هذا ليس بعثاً شرعياً، لكن بعث الأنبياء والمُرسَلين ليس كذلك، وهناك إرسال قدري وهناك إرسال شرعي، الإرسال الشرعي معروف، إرسال الأنبياء والرُسل، أليس كذلك؟ الإرسال القدري مثل أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ۩ في مريم، كيف أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ ۩؟ هل هذا إرسال بالوحي؟ لا، معناه سلَّطناهم عليهم، هذا تسليط قدري، مُهِم جداً أن نُفرِّق بين القدري والشرعي، وكذلك في القضاء، هناك قضاء شرعي وهناك قضاء قدري، وهكذا، هذا موضوع طويل جداً.

قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ ۩، وفعلاً – سُبحان الله – هلك أول جيل وجاء جيل آخر ومات موسى وهارون – عليهما الصلوات والتسليمات – في التيه، وقيل لم يخرج موسى من التيه ولا مرة وقيل خرج مرة واحدة عند لقاء الخضر في مجمع البحرين، قيل الله يسَّر له أن يخرج فقط للقاء العبد الصالح، وعدا هذه المرة لم يتسن لموسى أن يخرج من التيه، ومات في التيه موسى الكليم عليه الصلاة وأفضل السلام.

قال فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ۩.

۞ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۞

ثم قال وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ۩، أي مُلتبِساً بِالْحَقِّ ۩، كيف بِالْحَقِّ ۩؟ هذه التلاوة أو هذه الحكاية مُلتبِسة بِالْحَقِّ ۩، فأنت تتلو الحق وعلى وجه حق دون تزيد أو نُقصان، وبالمُناسَبة هذا له نظائر كثيرة في كتاب الله، قال ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ۩، نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ۩، إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، وهكذا! نظائر كثيرة، قصص بالحق، حكاية بالحق، سرد بالحق، كله مُلتبِس بالحق، ليس فيه لا زيادة ولا نُقصان أبداً، فهنا نفس الشيئ، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ۩، يا محمد، نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ۩، لكن هل من وجه مُشابَهة وعلاقة بين قصة بني إسرائيل مع الأرض المُقدَّسة وبين قصة ابني آدم؟ طبعاً، العصيان! هذه قصة العصيان الأول بالقتل وأيضاً هذه قصة عصيان الأمة بإزاء أوامر الله على لسان نبيه، كل هذه قصص العصيان والتمرد، وعاقبة العصيان والتمرد الخُسر – والعياذ بالله – والنكاد  الشديد في الدنيا الآخرة، يُمكِن أن يود بعض الناس أن يعرف كما يُقال ذيل القصة، هنا لم تُذكَر في كتاب الله، لم تُذكَر هنا! لكن ذيل القصة باختصار أنهم بعد التيه وبعد أن هلك الجيل الأول أو أكثره وجُله وبقيَ بعضه جاء الجيل الثاني، وطبعاً عبارة التوراة أن الجيل الأول هلك ونبت جيل جديد، هذا الجيل الجديد نشأ في جو مُختلِف وجو بعيد عن التمرد والعصيان وعن المواريث القديمة، فكان مُستأهِلاً لكرامة فتح الأرض المُقدَّسة، مَن الذي قادهم؟ القائم بالأمر بعد موسى عليه السلام، وهو يوشع بن نون عليه السلام، وقد كان قائماً بالأمر بعد موسى عليه الصلاة وأفضل السلام.

يوشع بن نون أمره الله – تبارك وتعالى – أن يسير بهذا الجيل من بني إسرائيل ليفتح الأرض المُقدَّسة، التوراة تقول هي أريحا، لكن روايات المُسلِمين – قول مُؤرِّخي المُسلِمين وهذا هو الصحيح – تقول هي بيت المقدس، وهي أشرف من أريحا، أليس كذلك؟ لا تُوجَد مُقايَسة بين أريحا وبين بيت المقدس محلة الأنبياء والمُرسَلين، فالصحيح أنها ليست أريحا كما تقول التوراة وإنما بيت المقدس، فسار بهم يوشع – وهم انصاعوا لأمره وذهبوا معه بلا شك – وحاصرها في يوم جُمعة، إلى أن تضيَّفت الشمس للغروب، ما معنى تضيَّفت للغروب؟ أوشكت أن تغرب، كادت أو قاربت أن تغرب، الآن تُوجَد مُشكِلة كبيرة ليوشع ومَن معه، لماذا؟ لأنهم قد يثبتون وإذا ثبتوا فسوف ينتهي الأمر، لن يكون هناك قتال، فهذا يُمكِن أن يكون نفساً طويلاً لأعدائهم فتكون الكرة لهم، مُشكِلة! لأن جُمعة هذه، بعد ذلك سوف يأتي السبت، فرفع يوشع – عليه السلام – يديه للسماء وقال إنكِ مأمورة – يُخاطَب مَن؟ الشمس – وأنا مأمور، اللهم احبسها علىّ، فحبس الله الشمس، حبسها فوقفت، وهذا يعني أن هذه الساعة التي بقيت أو الساعة إلا ربع ربما استمرت إلى خمس أو ست أو سبع ساعات، حتى تمكَّن من فتحها بإذن الله تبارك وتعالى، وأمرهم  – انتبهوا، هنا الآمر ليس موسى، مَن الذي أمر هنا؟ موسى تُوفيَ إلى رحمة الله، فمَن الذي أمر؟ يوشع بن نون، هذا مُهِم لتفسير الآيات الأُخرى، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ۩، هذا مذكور في أكثر من سورة مثل النساء والأعراف والبقرة، ذُكِر هذا في مواضع – أن يدخلوا بيت المقدس سجداً وأن يقولوا حطة، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ۩، اللهم حُط عنا ذنوبنا، فماذا قالوا؟ قالوا حبة في شعرة أو في شُعيرة أو حنطة في شُعيرة والعياذ بالله، فلعنهم الله بذلك، ودخلوا يزحفون على أستاههم، أي على مقاعدهم، هو قال لهم ادخلوا سجداً وقولوا حطة – وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ۩ – فدخلوا يزحفون على أستاههم يقولون حبة في شعرة، هكذا كان منهم، ولما فتحها يوشع – عليه السلام – وجد فيها من الأموال والكنوز واليواقيت ما لا يطاله الوصف، شيئ عجيب! تركة مَن؟ العماليق هؤلاء، شيئ عجيب! فوضعه كله لكن النار لم تقربه، أي نار؟ وما القصة؟ 

تعلمون أيها الإخوة أن في الأحاديث المُخرَّجة في الصحيحين من رواية جابر بن عبد الله الأنصاريين – رضيَ الله عنهما – قال صلى الله عليه وسلم – فُضِّلت على الأنبياء بخمس وفي روايات أُوتيت خمساً لم يُؤتهن أحدٌ من قبلي، منها ماذا؟ وأُحِلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، كل الأنبياء قبل مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – كانت الغنائم مُحرَّمة عليهم، إذا جاهدوا وما إلى ذلك فإنهم بعد ذلك يحتازون الغنائم فيُكوِّمونها كومةً كبيرة أو أكثر من كومة ويتركونها فتأتي نار من السماء بقدرة الله فتحرقها، وممنوع أن يأكلوا أي شيئ، فما الذي حصل؟ لما رأوا هذه الكنوز الكبيرة كوَّموها في كومة كبيرة لكن لم تقربها النار، فقال يوشع – عليه السلام – فيكم الغلول، أي هناك سرقة! قال فيكم الغلول، فمَن غل شيئاً فليُرجِعه، لكن لم يُرجِع أحد شيئاً، فأتى بعُرفاء الأسباط وبايعهم فلصقت يده بيد أحدهم، قال الغلول عندك، أخرجه! فأخرجه فإذا هي رأس بقرة كبير من ذهب وعيناها من الياقوت وأسنانها من اللؤلؤ، أي أن قيمتها عالية جداً جداً، فوضعوها على الغنائم فأتت النار فأحرقتها جميعاً، أي أن هناك خيانة حتى في مثل هذا الموقف، دائماً هناك خيانة وهناك طمع، والحمد لله أمة محمد لما فتحت مثل هذا المُلك وربما أعظم منه لم تتطمع، لو قرأتم التاريخ – كتاريخ الطبري – فسوف تجدون وصفاً أيضاً لتركة فارس في القادسية، شيئ عجيب جداً، كان فيها حباب – ما معنى حباب؟ جمع حب وهو الزير – كبيرة مليئة – وهذا لا يزال شيئاً بسيطاً – بالمجوهرات والذهب واليواقيت والأشياء الثمينة، حباب! أي أشياء قيمتها بمليارات المليارات،  وأعظم شيئ كان سوارا كسرى، كان فيهما يواقيت وأشياء وأحجار كريمة لا يُقدَّر قدرها، وجاء بهما العربي البدوي سُراقة بن مالك بن جعشم المُدلِجي، من بني مُدلِج، جاء بهم وأنتم تعرفون القصة، سيدنا عمر بكى وقال إن قوماً أدوا هذا لأمناء، هذه أمة أمانة، أمة عظيمة، رجل عربي فقير يأتي بسواري كسرى! فقال له سيدنا عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – يا أمير المُؤمِنين أمنت فأمنوا ولو رتعت لرتعوا، أي أنك رجل أمين ولذلك هم أمناء، ولو أنك رتعت وتخوَّضت في مال المُسلِمين لرتعوا وتخوَّضوا، وبالمُناسَبة هذا شيئ عجيب، الآن لا تكاد الأمة بشكل عام – لا أتحدَّث عن الشباب الواعين من أمثالكم وإنما الأمة بشكل عام، الأمة هكذا في مجموعها، مليار وثُلث المليار – تفهم هذه المعاني، بل لا تكاد أصلاً تسمعها، فعلاً إذا كان الرئيس أو القيادة أو القائد الكبير صادقاً ومُخلِصاً فإن نفساً منه يسري في أمته بإذن الله تبارك وتعالى، لا يكادون يفهمون هذا، والعكس صحيح! إذا كانت القيادة التي نسمع لها ونُطيع وصادقنا عليها وعلى إمرتها وعلى قيادتها خائنة ومُتخوِّضة في أموال الأمة وأحياناً في حريات ودماء الأمة هذا يسري منه أنفاس مسمومة إلى آحاد الأمة فيُفسِد عليها جُل أمرها وشأنها، هذا الشيئ لا نكاد نفهمه، وحين نسمع قصة عمر بن عبد العزيز ونسمع كيف كان هذا الرجل نعجب، كان شاباً صغيراً، أصغر مني وأصغر من كثير من الشباب، هو لما تُوفيَ كان عمره تقريباً أربع وثلاثين سنة، هذا الرجل في سنتين وأربعة أشهر أصلح أمة محمد بشكل عام، لأن هناك صدقاً، كان عنده صدق عجيب جداً جداً، لا يستحل نقير تمرة من مال أمة محمد، حتى أمن الراعي الذئب على غنمه، وهذا فعلاً ما حصل، هذه قصص حقيقة كانت تحصل، كان الراعي يُعطي الذئب بنفسه، يقول له خُذ، هذا نصيبك، توكَّل على الله، أمان غريب وقع! لأن الله رمى بالبركة بين الناس، رمى بالأمن، بالطمأنينة، وبالرخاء، هذا هو! لماذا؟ لبركة الإمام، لبركة القائدة هناك علاقة – سُبحان الله – عجيبة جداً سارية بين الإمام وبين الأمة أو بين الإمام وبين الرعية، نسأل الله أن يُيسِّر لنا إمام خير ورشد وصلاح يُصلِح به أمورنا، فهذه تقريباً بقية القصة على جهة الاختصار إن شاء الله تبارك وتعالى.

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، ما هي قصة هذا القُربان؟ طبعاً ابنا آدم معروفان، هما قابيل وهابيل، والقصة كانت باختصار أن حواء – عليها السلام – كانت تحمل في كل بطن توأمين، وبالمُناسَبة لا يُقال في اللُغة على الاثنين توأم، انتبهوا لأت الواحد هو توأم، الواحد! لكن الاثنان يُقال لهما توأمان، في اللُغة العامية نقول توأم، هذه المرأة حملت بتوأم، هذا غلط، غير صحيح! هي حملت بتوأمين، وكلٌ منهما توأم لأخيه أو أخته، فهذا توأم وهذا توأم، هذا توأم هذا وهذا توأم هذا، فالاثنان اسمهما توأمان، فحواء كانت تحمل في كل بطن بتوأمين، ذكر وأُنثى، سُبحان الله! لضرورة الحال، هؤلاء كانوا أول الخلق، وإلا كيف كانت ستستمر الحياة والذُرية؟ لضروة الحال، الله هكذا رتَّب هذا الوضع، فكانت تحمل في كل بطن بتوأمين، ذكر وأُنثى، فكان الذكر من هذا البطن يتزوَّج وينكح أخته من البطن الآخر، ولا يجوز في شرع آدم أن ينكح أخته من نفس البطن، فكانت توأمة قابيل أجمل وأحسن، توأمة قابيل الذي كان معه كانت أجمل وأحسن من توأمة هابيل، إذن توأمة قابيل من نصيب مَن؟ من نصيب هابيل، وتوأمة هابيل – وهي ليست بالحسناء الجميلة – ستكون من نصيب مَن؟ قابيل، فلم يرض بذلك قابيل، قال لا، حسده! نفس عليه أن يتزوَّج توأمته وهي أجمل بكثير، قال لا، هذه لي! فقال آدم لا، ليست لك، حرام هذا في شرع الله، إلا أن تُقرِّبا قُرباناً، فمَن تُقبِّل قُربانه من الله – تبارك وتعالى – تزوَّجها، هذه سوف تكون إشارة من الله تعني أن الله أذن بذلك، وهذا درءاً لهذه الفتنة بين الأخوين، فقالا فليكن، وكان قابيل صاحب زرع وكان هابيل راعياً، فجاء هابيل وقرَّب أحسن كبش وأملحه من كباشه، عنده كباش كثيرة فبحث عن أحسن كبش وكان سميناً ورافاهاً وقرَّبه إلى الله، وجاء قابيل المُزارِع وقرَّب حزمةً من رديء زرعه، أخذ حزمة وقال سأُقرِّبها لله، هدية قال، فلم تأكلها النار وأكلت قُربان هابيل، فحسده مزيد حسد، أنت ستأخذ أختي وقرُبانك أيضاً تُقبِّل، هذه علامة على أنك رجل تقي وطيب، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۩، وهو أصلاً لا يعرف القتل، هو لا يعرف كيف يقتله، لكن شيئ هكذا أُلقيَ في روعه من الشيطان، قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۩، قَالَ – أي هابيل – إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، لماذا أنت زعلان؟ قال له، الله تقبَّل مني، الإنسان إذا كان تقياً وكان قلبه صالحاً وسريرته كانت صالحته فالله يتقبَّل منه!

روى عبد الرزّاق الصنعاني في المُصنَّف عن أبي الدرداء – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال لأن أعلم أن الله تقبَّل مني ركعتين خيرٌ لي من الدنيا وما فيها، لماذا؟قال لأن الله يقول إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ۩، فاطمئن – إن شاء الله – أنني من المُتقين، لكن كيف أعرف أنه تقبَّل مني ركعتين، انظر إلى أبي الدرداء، الصحابي الجليل لا يظن أن الله تقبَّل منه في حياته كلها ركعتين، أليس كذلك؟ رضيَ الله عنهم وأرضاهم.

۞ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۞

لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۩، لن أُقابِلك بمثل ما قابلتني به، وكما قال أسلافنا خيرُ ما قابلت به مَن اعتدى عليك أن تُطيع الله فيمَن عصاك فيه، هو عصى الله فيك – مثلاً – بالعدوان، بالسب، بالشتم، بالأذية، بالحسد، بالحقد، بأي شيئ! أنت تُطيع الله فيه، أي تُقابِله بماذا؟ بطاعة الله فيه، تعفو عنه، تصفح، تدعو له، تبذل له الخير، وتُساعِده، أحسن شيئ هذا بإذن الله تعالى، فما شاء الله هذا موقف مَن؟ موقف هابيل، قال له لا، أنا لا أُريد هذا، قال عبد الله بن عمرو بن العاص – رضيَ الله عنهما – والله إن كان لأشد الرجلين، مَن هو؟ هابيل، قال هابيل كان الأقوى، كان أقوى وأكثر عنفواناً، ولكن منعه التحرج، ما معنى التحرج؟ الورع، ورعه وخوفه من الله منعه أن يبسط يده إلى أخيه بالضرر أو القتل، هو كان يقدر أن يفعل هذا لكنه لم يفعل، هابيل كان أقوى من قابيل، فلم يكن ضعيفاً أو مُستضعَفاً أو مسكيناً، لا! لكنه كان رجلاً ورعاً، قال والله إن كان لأشد – أي لأقوى – الرجلين، ولكن منعه التحرج، عليه السلام، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ۩، ما المانع هنا؟ التحرج، خوف الله تبارك وتعالى، منعه خوف الله، النبي قال الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مُؤمِن، المُؤمِن لا يفتك بغير حق، أليس كذلك؟

۞ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ۞

إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ۩، كيف إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ۩؟ بِإِثْمِي ۩ أي بإثم قتلي وَإِثْمِكَ ۩ أي تجمع إثم قتلي على إثمك الذي أثمت به من قبل، من المُؤكَّد – قال له – أنك فعلت أشياء كثيرة سيئة، لأن الله حتى لم يتقبَّل منك قُربانك، أي أنك رجل غير صالح، فعندك آثام سابقة، والآن أنا أُريد أن تجمع إثم قتلي على إثمك السابق، فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ۩.

بالمُناسَبة هنا يُوجَد شيئ لابد أن يُبحَث، قال إِنِّي أُرِيدُ ۩، هنا هذا لابد أن يُفسَّر تفسيراً دقيقاً، هل فعلاً هابيل كان يُحِب أن يدخل أخاه النار؟ أبداً، لا بالعكس! هذا التعبير فيه مجاز أيضاً والعلماء شرَّحوه، والمعنى ما هو؟ معناه ببساطة وباختصار وبتوضيح إذا كان الله – تبارك وتعالى – قضى بذلك وقدَّره ولا مناص منه فأنا الذي أختاره – قال له – في هذه الحالة أن أكون أنا المظلوم وليس الظالم، هذا معنى الآية، فليس معناها أنا أُحِب وأُريد وأهوى أن تكون ظالماً فتدخل جنهم وينتقم منك الله، لا! أعوذ بالله، هذا لا يقوله إنسان صالح ولا يقوله إنسان مُتقٍ، وإنما المعنى كما ذكرت لكم، إذا كان هذا أمراً محتوماً وقضاءً لازماً ولابد منه وقد سبق في علم الله وهو حاصل أن يموت أحدنا على يد أخيه فلا، فأنا سأختار أن أكون المظلوم وأن أُبعَث مظلوماً ولا أُبعَث ظالماً، وهذا في معنى الحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من رواية أبي ذر لما قال له يا رسول الله فإن دَخَلَ علىّ بيتي وفي رواية فإن دُخِلَ علىّ بيتي؟ قال إن خشيت أن يبهرك شُعاع سيفه فألق ثوبك على رأسك هكذا وكُن ابن آدم القتيل، وفي حديث آخر بلفظ وكُن كخير ابني آدم، نفس الشيئ! أي إذا المسألة أصبحت مسألة محتومة كُن المقتول ولا تكن القتال، أنت حتى جلست في بيتك – النبي يقول – ولا تُريد الفتنة فدُخِل عليك بيتك وفُرِضَ الأمر، في هذه الحالة ارض أن تكون المظلوم ولا ترض أن تكون الظالم، أرأيتم؟ هذا الحديث يُفسِّر لنا هذه الآية أيضاً، يُفسِّر لنا الآية فهي ليست كما تفلسف بعضهم، أنا قرأت كُتيباً صغيراً جداً عن هذا لواحدة لا هي من علماء اللُغة ولا علماء الدين، وهذا شيئ حقيقة يسوء، نحن لسنا ضد الاجتهاد، كل إنسان يُمكِن أن يجتهد، لكن قبل أن تجتهد استكمل الآلة، أليس كذلك؟ العلماء قديماً كانوا يسخرون مِمَن تزبَّب قبل أن يتحصرم، أي أنه صار زبيباً ولم يصر حصرماً، أليس كذلك؟ فلا يُمكِن أن تصير مُفسِّراً وتتكلَّم في كتاب الله وأنت لم تقرأ في كُتب العلم إلا من خمس سنوات، هذا لا يكفي! أليس كذلك؟ لابد أن تقرأ عشرات السنين ولابد أن تقرأ باجتهاد وبنهمة علمية حقيقية ولابد أن تتوفَّر على فهم الآلات التي تُمكِّنك من فهم النص سواء القرآني أو النبوي، فهناك امرأة من الشام – بارك الله فيها وغفر الله لها – كتبت كتاباً من أسوأ ما يكون، والمسكينة فرحانة به جداً جداً، وهو كُتيب صغير يُلخَّص كله في خمسة أسطر، ما قصتها؟ تعتبر ولأول مرة في التاريخ – ما شاء الله اجتهادت جديدة – أن المُخطيء هو هابيل، وقابيل لابد أن نتعاطف معه، الله! ما هذا؟ قالت لأن الذي استفزه ودفعه إلى القتل وجعل صدره يمتلأ بالحقد وبالنفس غير الشريف هو أخوه هابيل، لأنه قال له إِنِّي أُرِيدُ ۩، أنا أريد أن تكون كذا وكذا، هي غير قادرة على أن تفهم الآية ولا أن تفهم جو النص، وأين هذه الأخت المسكينة – غفر الله لها وهداها – من حديث رسول الله؟ روى أبو داود من حديث ابن مسعود قال – صلى الله عليه وسلم – لا تُقتَل نفسٌ إلى يوم القيامة إلا وكُتِب على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها، لأنه أول مَن سن القتل، مُجرِم هذا والعياذ بالله، أكبر مُجرِم في التاريخ هذا، ويأتي يوم القيامة على أنه أكبر قتّال وأكبر ذبّاح، كل الناس الذين ماتوا من ذلك الوقت أو تلك الساعة إلى يوم الدين هو سيأخذ أيضاً مثل آثام قاتلهم، أكبر مُجرِم هذا، أتتعاطفين معه أنتِ؟ لا يُوجَد وعي للأسف، ألَّفت كُتيباً ونشرته وفرحت جداً به، هي لم تفهم جو النص للأسف!

۞ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۞

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ۩، تُفسَّر دائماً كلمة فَطَوَّعَتْ ۩ بسوَّلت، لكن يُوجَد تفسير أدق من سوَّلت، فَطَوَّعَتْ ۩ هنا ما معناها؟ فسهلَّت، يُقال طاع الأمر إذا سهل، وهو فعل لازم، ليس مُتعدياً! طاع الأمر إذا سهل، أي أصبح سهلاً ميسوراً، وطوَّع أي سهَّل ويسَّر، إذن هنا فَطَوَّعَتْ ۩ بمعنى فسهَّلت ويسَّرت، قالت له هذا إثم بسيط، هذه مسألة بسيطة جداً جداً، ستقوم بحركة أو حركتين وينتهي الأمر، فهذه ليست مسألة كبيرة، لن يكون القتل ذنباً كبيراً والعياذ بالله!

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ۩، بعد الموعظة! بعدما وعظه أخوه وما إلى ذلك سهَّلت له نفسه أيضاً القتل والعياذ بالله، خُتِمَ على بصيرته! قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، كيف قتله؟ قيل جاء يهمز رقبته ولا يستطيع، لا يعرف كيف يقتله، يهمز رقبته ورأسه وما إلى ذلك ولا يعرف، فجاءه إبليس، قال هل تُريد أن تقتله؟ قال نعم، ولا أعرف! إبليس كان معه دابة فوضع رأسها على حجر ثم أتى بحجر آخر فرضخ به رأسها – أي رأس الدابة – فشدخه فزهقت روحها، ففعل قابيل نفس الشيئ، أخذ أخاه – وأخوه لا يُريد أن يُقاوِمه، لم يُقاوِمه وهو أقوى منه، هكذا أمر لابد منه – وشدخ رأسه بحجر فمات، رحمة الله تعالى عليه، وحين مات لم يعرف ماذا يفعل به، ماذا بعد؟ فذهب إبليس – لعنة الله عليه – إلى أمه حواء، قال لها يا حواء أدركي أدركي ولديكِ، فقد قتل قابيل هابيل، قالت له ويحك! ما معنى قتل؟ قال لها قُتِل هابيل، هابيل مقتول، قالت له ما مقتول؟ قال لها لا يتحرَّك، لا يأكل، ولا يشرب، قالت له هو الموت إذن! قال لها نعم هو الموت، هذا الذي سمعته به، قال لها اذهبي إليه، فهو لا يتكلَّم، لا يتحرَّك، لا يأكل، ولا يشرب، هذا هو المعنى، لأول مرة يحدث هذا، أول شيئ يحدث في تاريخ البشر وفي تاريخ الدين، قالت له هو الموت إذن، فقال لها نعم هو الموت، فصاحت، أي رنت! تعرفون كيف تصرخ النسوان، فصاحت فجاء آدم وقال ما هنالك يا حواء؟ ما هنالك؟ فسكتت، قال ماذا جرى؟ لمرتين أو ثلاث، وهي تصيح! قال عليكِ الصيحة وعلى بناتك، وأنا وأبنائي منها برءاء، وسُبحان الله إلى اليوم لا تجد رجلاً يصرخ كالنساء، مُستحيل! لا يُمكِن، لكن النسوان عندها الشيئ هذا، حتى أحياناً المُلتزِمات عندهن هذا الشيئ، سُبحان الله من يوم حواء إلى اليوم وهي تصرخ وتصيخ، الأجنبية تفعل هذا والمُسلِمة تفعل هذا، الكل! عندهن الصيحة هذه، ترن الواحدة منهن بصيحة عجيبة جداً، استغاثتها صيحتها، أليس كذلك؟ قال لها عليكِ الصيحة وعلى بناتك، وأنا وأبنائي منها برءاء، رواه ابن ابي حاتم.

۞ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ۞

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا ۩، لم يعرف ماذا يفعل بأخيه الآن، تركه هكذا في العراء، أي ترك رمته أو جُثته في العراء، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ ۩، أي يحفر بمنقاره أو بأظفره، لماذا؟ هما غرابان يقول العلماء، بعث الله غرابين يقتتلان، قال بعضهم كانا أخوين، لا تُوجَد مُشكِلة، المُهِم قتل أحدهما الآخر ثم جعل يبحث في الأرض ثم واراه التراب، فماذا قال هنا قابيل؟ يَا وَيْلَتَى ۩، كلمة تحسر! قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ۩.

(ملحوظة) قال أحد الحضور إنه ندم على دفنه، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، قال ابن عباس فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ۩ أنه لم يهتد إلى دفنه، ليس من النادمين على قتله، ابن عباس يقول فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ۩ على أنه لم يهتد إلى قتله وتركه – الله أعلم تركه كم، تركه ليوم أو يومين أو ثلاثة أو أكثر – في العراء، وربما أكلت منه سباع الطير، فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ۩ على أنه لم يهتد إلى مُوارته التراب، قال ابن عباس وليس على قتله، ولو ندم على قتله لكانت توبة.

وعندنا في الحديث الضعيف الندم توبة، وهذا الحديث لا يصح، انتبهوا! هذا الحديث – الندم توبة – لا يصح، ليس بصحيح، وإن كان معناه صحيحاً بشروط، الندم توبة بشروط، لأن من خصائص التوبة المقبولة الندم، أليس كذلك؟ التندم على ما حدث، لكن الندم وحده لا يكفي، أليس كذلك؟ لابد من الندم، لابد من ترك المعصية، لابد أيضاً من التكفير – إذا كان هناك تكفير – باستغفار أو بذكر أو بصدقة أو بكفّارة، ولابد من العزم على عدم المُعاوَدة أبداً، لابد أن يكون عندك هذا العزم، من المُمكِن أن تعود لكن العزم على ألاتعود أبداً، لا تقل سأتركه وبعد شهرين أو ثلاثة سوف أرجع، هذه ليست توبة، هذا كذب، هل هذا واضح؟ فربما أيضاً أصبح من النادمين فقط هذا الندم الذي لم يستكمل شرائطه، فليس بمقبول أيضاً!

(ملحوظة) ذكر أحد الحضور قولاً عن ابن عباس، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم نعم هذا ما رواه ابن جرير عن ابن عباس، الله أعلم! لكن ذكرت القول الثاني وهو قول ابن العربي في أحكام القرآن، وابن العربي أصلاً لم يتعرَّض لقول ابن عباس، يبدو أنه استضعفه أصلاً، وقال ابن العربي لأن حديث الندم توبة ليس صحيح، هو حديث ضعيف أصلاً، أليس كذلك؟ فكيف نُصحِّح نحن أثراً موقوفاً على ابن عباس وهو أصلاً مرفوع لا يصح؟ فقال ابن العربي قال إذا كان حتى الندم توبة فيكون ذلك بالشرائط المذكورة، فلعله ندم لكن دون أن يستوفي الشرائط المذكورة فليست بتوبة، ولذلك النبي صرَّح في الحديث الذي ذكرته لكم عند أبي داود أن كل نفس تُقتَل إلى يوم القيامة على ابن آدم الأول كفل من دمها والعياذ بالله، فعلى كل حال هو لم يُتَب عليه والعياذ بالله تبارك وتعالى.

قال – صلى الله عليه وسلم – أيضاً في حديث آخر ما من ذنب أجدر أن تُعجَّل عقوبته في الدنيا من البغي وقطيعة الرحم، وقد اجتمع كلاهما في مَن؟ في قابيل، بغى على أخيه واعتدى وقطع رحمه وهو أمس الرحم، الأخوة! أليس كذلك؟ معروف أن الأخ أمس الرحم.

۞ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ ۞

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ۩، أو بغير فسادٍ في الأرض، من غير فسادٍ في الأرض، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩، لا يُوجَد في شريعة مثل هذا المعنى، قتل نفس واحدة كقتل البشر جميعاً، وإحياء نفس واحدة أو التسبب في إحيائها كإحياء الناس جميعاً، لماذا؟ ما معنى هذه القاعدة العجيبة؟ معناها أن الحياة قدسيتها مُتواطئة، ليست مُشكَّكة كما يقول المناطقة، ما معنى مُتواطئة؟ قيمة الحياة واحدة في جميع الخلق، في الأسود، في الأبيض، في المُؤمِن، في الكافر، وفي كل معصوم الدم، هل هذا واضح؟ إلا أن يكون دمه غير معصوم، إذا كان دمه غير معصوم – سواء كان مُسلِماً أو كافراً – فهذا شيئ ثانٍ، لكن كل معصوم الدم – مُسلِماً كان أو كافراً، مِلياً أو غير مِلي، أسود، أحمر، أبيض، كبير، صغير، ذكرـ أُنثى، حر، عبد – لا يُقتَل، قيمة الحياة واحدة، ومَن قتل أي نفس معصومة فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ۩، ومعروف حتى سيكولوجياً أن الذي يعتدي – والعياذ بالله – ويقصد إزهاق النفس هكذا – ليس في حالة جنون مثلاً أو غضب أو في حالة خطأ وإنما هكذا عن عدوان والعياذ بالله – يكون لديه بعد ذلك استعداد لمُتابَعة سلك القتل، هو مُستعِد لأن يقتل باستمرار!

بالمُناسَبة أتوا مرة في التلفزيون النمساوي على ما أعتقد برجل ألماني قتل تقريباً ستة وثلاثين نفساً والعياذ بالله، شيئ عجيب! وكان بارداً جداً، يتكلَّم ببرود غريب جداً جداً، لم يكن خائفاً وما إلى ذلك، قال له مَن يُحدِّثه كيف هذا؟ قال له كان هذا صعباً مع أول نفس، أول تجربة كانت صعبة، حين قتلت لأول مرة كان ذلك صعباً لكن بعد ذلك أصبح مثل شرب الماء، أي أنه سهل جداً، وهذا صحيح، إذن هذه هي، مَن يقتل أول مرة عن عمد – انتهى الأمر – يكون مُستعِداً بعد ذلك لأن يُمارِس القتل إلى ما لا نهاية والعياذ بالله، فشيئ خطير هذا!

وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۩، يُروى عن أبي هُريرة أنه جاء إلى خليفة المُؤمِنين وأميرهم عثمان بن عفان ليلة الدار – ما المقصود بليلة الدار؟ ليلة الحصار، حين حاصروه في القصر واستُشهِد – وقال له يا أمير المُؤمِنين جئت لأدفع عنك وأنصرك وقد طاب الضرب  يا أمير المُؤمِنين، قال يا أبا هُريرة ارجع، لا حاجة لي بنُصرتك، أيُسعِدك أن تكون قتلتني وقتلت هؤلاء جميعاً؟ أتُحِب أن تُبعَث يوم القيامة وعليك إصر وإثم قتلي وقتل كل هؤلاء؟ قال لا يا أمير المُؤمِنين، لا يُسعِدني، قال مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ۩، قال فرجعت غير مُقاتِل، انظر إلى هذا الرجل العظيم، سيدنا عثمان لا يُريد هذا، لا يُريد حتى أن يقتل هؤلاء الثوّار الخوارج المُجرِمين البُغاة ولو حتى دفاعاً عن نفسه، لا يُحِب أن يتسبَّب في قتل أي إنسان مُسلِم، وضحى بنفسه وقضى شهيداً سعيداً على أن يُسفَك بسببه محجمة من دم مُسلِم – فرضيَ الله عنه وأرضاه – مُستشهِداً بهذه الآية.

۞ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞

هذه الآية قبل الأخيرة – إن شاء الله – في هذا اليوم، (ملحوظة) سأل أحد الحضور عن سبب ذكر الله بني إسرائيل وذلك في قوله مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم مُجيباً معروف لماذا، نحن ذكرنا هذا عدة مرات، لأن القتل فيهم – والعياذ بالله – شائعٌ فاشٍ، هم قتلة الأنبياء وقتلة بعضهم البعض، وقد أخذ الله عليهم العهد والميثاق كما في سورة البقرة ألا يقتلوا أنفسهم وألا يُخرِجوا أنفسهم من ديارهم، لكن ظلوا بعد ذلك – والعياذ بالله – دائماً يُعمِلون السيف في إخوانهم، وكما قلنا الأوس والخزرج وكان مع هؤلاء قبائل ومع هؤلاء قبائل، وباستمرار يقتل بعضهم بعضاً من أجل نُصرة حلفائهم الأوس والخزرج، ففيهم القتل، هذا هو! نحن قلنا هذا وهو معروف، أصلاً ما المكتوب؟ أَنَّهُ مَن قَتَلَ ۩، مَن ۩ عامة، لكن لماذا قال عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩؟ لماذا خصَّصهم إذن؟ لماذا خصَّصهم بالذات بهذا الشيئ؟ لكي يُفهِمنا أنهم أعرق في القتل والجريمة من غيرهم، وإلى اليوم هذا بالمُناسَبة، انظر إلى الحروب والعياذ بالله، أكثر الحروب مَن الذي يُؤجِّجها؟ هم هؤلاء اليهود، سُبحان الله العظيم، هذا معروف في الغرب هنا، يُقال فتِّش عن اليهود، والله قال كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ۩، هم الذين يُزكون نيران الحروب في كل مكان، يُحِبون هذا بشدة، بالمُناسَبة في الأول مَن قاد منطقة المافيا Mafia من إيطاليا إلى أمريكا؟ مَن كانوا رؤوساء وعمدة المافيا Mafia أو المافيوس Mafiosi هذه؟ اليهود، أكبر زعماء المافيوس Mafiosi كانوا في أمريكا، هم الذين فعلوا الشيئ هذا، اليهود أيضاً! قاموا بالتصفية وما إلى ذلك ثم انتشر هذا في غيرهم، فمعروف أن فيهم هذا النزوع، انظر الآن إلى ما يحدث فلسطين من قتل للأطفال وغيره، كم تقريباً نسبة الأطفال الصغار الذين قُتِلوا؟ حوالي سبع وثلاثين في المائة، تم قتل البرءاء والنفوس البريئة، يقنصون الرضع وأطفال المدارس ومَن مثلهم عن عمد والعياذ بالله، عندهم حُب للقتل وحُب لإزهاق الأرواح والعياذ بالله تبارك وتعالى، وهم أشد الناس حرصاً على حياة.
إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، هذه اسمها آية الحرابة وأنتم تسمعون بها، الحدود في الإسلام خمسة أو ستة، الحدود! أي الذنوب ذوات العقوبات المُحدَّدة، منها حد اسمه حد الحرابة، هذه الآية هي أصل في حد الحرابة، وهي الآية الوحيدة في حد الحرابة بشكل واضح، هي هذه الآية من سورة المائدة، ما معنى الحرابة؟ أي حرب الله ورسوله والسعي في الأرض فساداً، الحرابة بشكل عام تكون بالكفر، أي أن الردة تدخل فيها، وهذا أولاً، ثانياً تكون بقطع الطريق، بإخافة السبيل، مثلاً باغتصاب الأعراض، أُناس يهبطون على آخرين ويغتصبون الأعراض، يغتصبون العفيفات الشريفات، وكذلك اغتصاب الأموال، كقطّاع الطريق – مثلاً – أو الذين يأتون حتى إلى البيوت، هذه كلها أنواع من الحرابة، وكل ما شاكل ذلك يُعتبَر حرابةً، أي نوع من الفساد الغليظ في الأرض، ليس فساداً بسيطاً بالغيبة أو النميمة أو الكذب، لا! نوع من الفساد يتناول الأعراض والأديان والأرواح والمُهج، هذا يُسمى الحرابة، ويُوجَد كلام كثير في تعريف الحرابة، الله يقول ما هو جزاؤهم؟ يقول جزاؤهم – والعياذ بالله – أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ۩، واختُلِف في آية الحرابة: هل نزلت في المُشرِكين أم في المُحارِبين عموماً؟ يُوجَد خلاف كبير وحقيقةً الأدلة أنا رأيتها شبه مُتكافئة، أي أن مَن قال بهذا عنده أدلة قوية جداً جداً جداً ومَن قال بالرأي الآخر عنده أدلته القوية أيضاً، مَن قال هي فقط في المُشرِكين عنده أدلة من أقوى ما يكون ومَن قال هي عامة – في المُشرِكين وفي المُحارِبين المُسلِمين – عنده أيضاً أدلة أُخرى، على كل حال لا نُريد أن نُطوِّل في هذا الشيئ.

يُوجَد حديث مُخرَّج في الصحيحين وفي غيرهما أيضاً هو أصل في عقوبة المُحارِبين، تطبيق لهذه الآية، أن نفراً من عُكل وفي رواية أيضاً في الصحيحين أن نفراً من عُكل وعُرينة – اختُلِف: هل هم من عُكل أو من عُكل وعُرينة؟ ما هما عُكل وعُرينة؟ قبيلتان من قبائل العرب، قبيلة اسمها قبيلة عُكل وقبيلة اسمها قبيلة عُرينة – قدموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المدينة وأسلموا بين يديه – كانوا كفّاراً مُشرِكين وأسلموا، أسلموا بين يديه – ثم إنهم استوخموا المدينة، ما معنى استوخم الإنسان المدينة أو المكان؟ لم تُوافِق مزاجه، أي في الأكل والشرب والهواء وما إلى ذلك، فمرض واعتل وأُصيب بأدوائه في بطنه وفي معده، فيُقال إنه استوخم البلد، أي لم تُوافِق مزاجه، أي المزاج البدني وليس المزاج النفسي، فهي لم تُوافِق مزاجه، الأطباء العرب يُسمونه المزاج، يقولون مزاج بلغمي أو مزاج دموي أو مزاج رطب أو مزاج حار، هذا اسمه المزاج، فهذا مُصطلَح طبي قديم، إذن لم تُوافِق مزاجهم فاستوخموا المدينة واجتووها – أُصيبوا بأمراض – وذكروا ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوصف لهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – أبوال الإبل وألبانها، قال لهم اخرجوا مع راعي – النبي كان عنده راعٍ يرعى إبل وماشية الصدقة الخاصة ببيت مال المُسلِمين – فأصيبوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا! وظلوا يشربون – وهذا دليل على أن بول ما يُؤكَل لحمه طاهر، بول مأكول اللحم طاهر، وإلا كيف يُوصَف دواءً؟ حتى صحوا بإذن الله، ولما صحوا – أي نقهوا من مرضهم – قتلوا الراعي وطردوا الإبل، ما معنى طردوا الإبل؟ أي طردوها أمامهم، ساقوها وأخذوها معهم، فطردوها لا تعني أنهم نفَّروها، فهم قتلوا الراعي وطردوا الإبل بمعنى ساقوها أمامهم، ودرى النبي بذلك، غضب عليهم غضباً شديداً، فأمر بهم أن يُدرَكوا، قال لابد أن تأتوا بهم، فأُحضِروا! مُجرِمون يا أخي، ما هذا الإجرام؟ بعد أن استقبلناكم وضيَّفناكم وفعلنا كل شيئ من أجلكم أهكذا تفعلون؟ كيف تقتلون هذا الرجل المسكين الضعيف؟ قتلتوه وأخذتم حتى أموال المُسلِمين، هذا يعني أنهم مُحارِبون في الأرض، هؤلاء يسعون في الأرض فساداً، فطبَّق عليهم حد الله، بماذا أمر بهم النبي؟ أمر بهم فقُطِّعوا من خلاف، يد ورجل ويد ورجل، الكل! وسمر – وقيل سُمِرت – أعينهم، وبعضهم يقول باللام سمل، ما معنى سمر عينه؟ كحلها بالمسمار المُحمى على النار، تأتي بمسمار وتضعه على النار وحين يصير كالجمر تُكحِّل به عينيه ليذهب بصرها، سُمِرت أعينهم – والعياذ بالله من هؤلاء الملعونين – ثم تُرِكوا دون أن يُحسَموا، ما معنى دون أن يُحسَموا؟ لم يصبوا عليهم الزيت الحار، تُركِوا ينزفون، فكانوا في بعض الروايات يُستسَقون فلا يُسقَون، ممنوع! حتى ماتوا، في بعض الروايات بزيادة قال قتادة – قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل – فكان النبي بعد ذلك يأمر بالصدقة وينهى عن المُثلة، كأنه لا يرضى حتى بهذا، ما هذا؟ أين صارت المُثلة؟ في تسمير الأعين، لكن قطع الأيدي والأرجل من خلاف في كتاب الله، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ ۩، هذا حد إلهي، النبي لا يتنازل عنه، وبالمُناسَبة هذا الحديث من لطائفه أن أنس بن مالك وهو راويه – الذي روى الحديث طبعاً أنس بن مالك – كان يُحذِّر من أن يُحدَّث بهذا الحديث أمام الحجّاج، لأنه لو علم به لكانت مُصيبة، هذا المُجرِم الفاسق لو سمع بهذا الحديث لقال النبي فعل هذا، فهل سأكون أرحم من النبي؟ أُريد أن أفعل مثله، فقال لهم احذروا من هذا، لا يسمع هذا المُجرِم به، النبي فعل ذلك ومعروف أن هناك حداً شرعياً في المُحارِبين، الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۩.

الآن تُوجَد مُشكِلة، الله يقول ماذا؟ أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ۩، قال أَوْ ۩، عندنا أربعة أنواع من العقوبة، وهنا هل هي على التخيير أو التفصيل؟ قولان، منهم مَن قال على التخيير وهذا قول عطاء ومن قبله ابن عباس ومُجاهِد والحسن البِصري أيضاً وجماعة، قالوا هو على ماذا؟ على التخيير، قياساً على نظائره في كتاب الله، فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۩، إذن قال أَوْ أَوْأَوْ ۩، هذه يُسمونها ماذا؟ خصال الفدية، أليس كذلك؟ وعندنا آية في كفّارة الصيد، وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۩، أيضاً قال أَوْ أَوْ… ۩، نفس الشيئ، تخيير! عندنا في كفّارة اليمين لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۩، إذن قال أيضاً أَوْ أَوْ… ۩، فقالوا هذا نفس الشيئ، فيطرد الحُكم هنا أنه على التخيير، كما قلنا هناك بالتخيير – وهذا قوي بالمُناسَبة، يتوجَّه ويتأيَّد جداً – فهنا أيضاً على التخيير، فللإمام أن يختار إما القتل وإما التصليب وإما التقطيع من خلاف وإما النفي، وسنقول ما معنى النفي أيضاً، هذه الآية فيها تفسيرات وفيها كلام كثير جداً للفقهاء، أي أنها موضع نزاع، والآخرون قالوا بماذا؟ بالتفصيل، وهذا رأي الجمهور، رأي جماهير العلماء التفصيل، ويُروى أيضاً عن ابن عباس – وذكرناه – وأيضاً عن الحسن البِصري يُروى ويُروى عن قتادة ويُروى عن الإمام الشافعي وجماعة من العلماء والمُفسِّرين أنه على التفصيل، وهو كلام حسن، سوف يحسن لديكم الآن عند سماعه، لكن كيف يكون على التفصيل؟ قال حبر الأمة – ولعل هذا يصح عنه أكثر – إن كان هذا المُحارِب في الأرض المُفسِد المُحاد لله ورسوله قتل فيُقتَل، وإن كان قتل وأخذ المال فيُصلَّب، وإن كان أخذ المال وحده فيُقطَّع من خلاف، وإن كان أخاف السبيل دون أن يقتل ويأخذ المال فيُنفى من الأرض، كلام دقيق! فيه نوع من المعدلة، أي من العدل والقسط إن شاء الله.

إذن نُعيد حتى نحفظ التفصيل هذا، إذن كان قتل فقط فيُقتَل، هذا واضح! إن كان قتل وأخذ المال فيُصلَب، والله قال حتى يُقتَّل ويُصلَّب، لماذا قال هذا هنا؟ لماذا؟ للمُبالَغة، تصليب شديد وتقتيل شديد طبعاً، انظر إلى هذا، فحتى ربنا مُتغيِّظ عليهم، لعنة الله عليهم، هذا هو طبعاً، أنت في مُجتمَع آمن، وفَّر لك كل سُبل الحماية وكل سُبل الرفاه في المُجتمَع المُسلِم، أهكذا تفعل في الآمنين؟ ثم إن المُحارِب غير القاتل، الإنسان حين يقتل – مثلاً – في ثورة غضب – وقع سوء تفاهم أو قضية عرض أوقضية شرف وكلام يتعلَّق بالسب والشتم وما إلى ذلك فقتل – تُقتَل نفس بنفس، لكن الذي يقتل لشهوة القتل وترويع الآمنين وزعزعة دعائم الأمن في المُجتمَع لابد أن يُنكَّل به، لابد أن يُقتَل قِتلة فيها عبرة، الله قال هذا، ليست قِتلة عادية وإنما قِتلة فيها عبرة لغيره، قِتلة نكال! وهذا معنى الآية، إذن وإن كان أخذ المال وحده فيُقطَّع من خلاف، وإن كان أخاف السبيل دون أن يقتل وأن يأخذ المال فيُنفى من الأرض.

نأتي الآن إلى المسألة الثانية، ما معنى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۩؟ فيها أربعة أقوال، وبالمُناسَبة هذا التفصيل الذي ذكرته – قلت كيف التفصيل – هو وجه، وفي ذكر كيف يكون التفصيل وبم سبعة أقوال، الذي ذكرته أحسنها وهو واحد منها، مَن أراد أن يقف عليها مُستوفاة فليعد إلى أحكام القرآن لابن العربي فقد ذكر سبعة وجوه في التفصيل، قال هناك تخيير وهناك تفصيل والتفصيل فيه سبعة أقوال، بدأ بما ذكرت وهو أحسنها وأقوالها، علماً بأنه مشهور، وهو قول الشافعي في الأم وفي غيره رحمة الله عليه.

أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۩، فيها أيضاً أربعة أقوال لا أدري هل أستحضرها كلها أم لا، المُهِم أن القول الأول هو يُنفى من الأرض بحيث يُطرَد من بلد إلى بلد إلى بلد داخل الدولة الإسلامية هكذا أبداً، لا نُعطيه استقراراً، نُغلِّبه من مكان إلى مكان، كلما ذهب إلى والٍ يقول له اطلع من هنا، فيذهب إلى ثانٍ فيقول له اطلع من هنا، فيذهب إلى ثالث فيقول له اطلع من هنا، وهكذا باستمرار، هذا أولاً، ثانياً – القول الثاني – أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۩ أي يُطلَبوا إلى الحد، فهذا يُحدِث لهم الخوف والفزع، فيهربوا من بلد إلى بلد حتى إذا أُدرِكوا أُقيم عليهم الحد، أي المقصود هذا الترويع، ثالثاً – القول الثالث – أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۩ المقصود به السجن، أي يُودَعوا السجن، هذا نفي، أليس كذلك؟ قال:

ﺧَرَﺟْﻧَﺎ ﻣن اﻟدﱡﻧْﻳَﺎ وَﻧَﺣْنُ ﻣن أَﻫْﻠِﻬَﺎ                   فَلَسنا مِنَ الأَحياءِ فيها وَلا المَوتى. 

إذَا ﺟَﺎءَﻧَﺎ اﻟﺳﱠﺟﱠﺎنُ ﻳوم ﻟْﺣَﺎﺟَــﺔِ                                    ﻋَﺟِﺑْﻧَﺎ وَﻗُﻠْﻧَﺎ ﺟﺎء ﻫذا.

طبعاً السجين كأنه منفي، يقول:

ﺧَرَﺟْﻧَﺎ ﻣن اﻟدﱡﻧْﻳَﺎ وَﻧَﺣْنُ ﻣن أَﻫْﻠِﻬَﺎ                   فَلَسنا مِنَ الأَحياءِ فيها وَلا المَوتى. 

إذَا ﺟَﺎءَﻧَﺎ اﻟﺳﱠﺟﱠﺎنُ ﻳوم ﻟْﺣَﺎﺟَــﺔِ                                    ﻋَﺟِﺑْﻧَﺎ وَﻗُﻠْﻧَﺎ ﺟﺎء ﻫذا.

هذه من أبلغ الأبيات التي تُصوِّر حال السجن والمسجونية، ما معنى أن تكون مسجوناً؟ أنت منفي من الدنيا، أنت لست في الدنيا، في عالم آخر أنت، في قعر من قعور الدنيا، فهذا أصعب حتى من النفي، النفي في جزيرة جيد بالنسبة إليه، هناك بعض الحيوانات وبعض الأوانس وبعض الأوابد وبعض الأشياء، فهذا أصعب من النفي، أي السجن! وهذا قول الإمام أبي حنيفة – قال أَوْ يُنْفَوْا ۩ أي يُسجنوا، السجن! تضعه في السجن وتُغلِق عليه – وقول عامة فقهاء الكوفة، وهو المشهور من ظاهر مذهب الإمام مالك، إذن قال به إمامان جليلان – مالك وأبو حنيفة – وكل فقهاء الكوفة، عامة فقهاء الكوفة، قالوا النفي هو السَجن، السَجن وليس السِجن لأننا نتحدَّث عن المصدر، النفي هو السَجن، طبعاً النفي نفسه هو مصدر، يُقابِله مصدر آخر هو السَجن، النفي هو السَجن، والسِجن هو المكان أو الاسم، أي السَجن في السِجن، فالنفي هو السَجن، والله أعلم بالمُراد من ذلك.

هناك قول رابع لا أتذكره الآن، قال ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، هذا الشطر الأخير من الآية أو الآخر من الآية دليلٌ لمَن قال هذه الآية في المُشرِكين، في الكفّار! لماذا؟ لأننا نعلم من قواعد أهل السُنة والجماعة – وهذا قول أهل السُنة والجماعة في العموم – أن المُسلِم – إذا كان الفرد مُسلِماً – إذا أُقيم عليه الحد من أي جريمة يكون هذا كفّارةٌ له، أليس كذلك؟ في صحيح مُسلِم من حديث عُبادة بن الصامت قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمَن وفى منكم فأجره على الله – بيعة النساء في آخر المُمتحِنة، لن نذكرها لأن لا يُوجَد وقت عندنا – ومَن أصاب من ذلك شيئاً فأُقيم عليه الحد فهو كفّارةٌ له، انتهى! لن يُوجَد عذاب، الله لن يأخذه يوم القيامة بعقوبة، انتهى! كأنه ما عمله إن شاء الله تعالى، ومَن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه، وهذا حديث صحيح في مُسلِم، واضح جداً أن الحدود هي كفّارات، أي جوابر ولسن مُجرَّد زواجر، كفّارات أي جوابر، فهي تجبر كأن شيئاً لم يحدث، وأيضاً أخرج ابن ماجه والإمام الترمذي في سُننهما عن الإمام عليّ بن أبي طالب – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – قال: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إذا أذنب العبد فعُوقِب بذنبه في الدنيا فإن الله أكرم من أن يُثنّي على عبده العقوبة، إذا نال العقوبة في الدنيا ينتهي الأمر، لا تُوجَد عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة، وإذا أذنب العبد فستره الله وعفا عنه – هكذا ذكر، ذكر الستر والعفو، فلا ندري كيف عفا الله عنه، يبدو أن قصده هو ستره وعفا عنه بحيث يظهر من سلوكه بعد ذلك أن الله تاب عليه، أي أنه فعل الذنب أياً كان وبعد ذلك صلحت سريرته وعلانيته والحمد لله، فيشعر أن الله عفا عنه وتجاوز، وإلا كيف نعرف أن الله عفا عنه؟ لا يُوجَد نبي لكي يُخبِرنا، فهذا هو المعنى والله أعلم – فإن الله أكرم من أن يعود على عبده في ذنب ستره عليه، هو ستره عليك وعفا عنك فهل يوم القيامة سيُذكِّرك به؟ لا، انتهى الأمر إن شاء الله، إذن متى يُؤخَذ الإنسان؟ بذنبٍ افتُضِح به أو بذنبٍ لم يشعر أن الله غفره له، ظل – والعياذ بالله – مُتعثِّراً، كما قال ابن قُتيبة المُؤمِن بخير ما لم يعثر، فإذا عثر لج به العثار، ما معنى لج به العثار؟ يظل يتخبَّط، يفعل الذنب الكبير ثم – والعياذ بالله – تبدأ سلسلة الذنوب ويشعر كأنه يتردى من جبل أو يقع في بئر والعياذ بالله، كل يوم يرتكب ذنباً، فهو شاعر بأنه ليس في عناية وليس مِمَن غفر الله وتجاوز عنه، يشعر بالكلام هذا، فهذا المسكين إذا مات يُؤاخَذ بذنوبه إلا أن يشاء الله ربنا شيئاً.

قال وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩.

۞ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۞

قال إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، ما معنى إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ۩؟ إذا نزلت هذه الآية كما قال بعضهم في المُشرِكين فهي على وجهها، ظاهرة جداً جداً، أي مُشرِك مُحارِب أفسد في الأرض وسرق وقطع وأخاف السبيل وإلى آخره إذا تاب وأصبح مُسلِماً وتاب من هذا الذنب أو من هذه الذنوب لا يُطالَب بأي شيئ، لذلك كان يقول الحسن البِصري كما روى عنه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً في تفسيره نزلت في المُشرِكين، ومَن تاب منهم تاب الله عليه وليس لنا عليه من سبيل، لكنها لا تُحرِز – يقول الحسن البِصري – مُسلِماً أتى ذنباً مثل القتل، مثل الزنا، مثل إخافة السبيل، أو أي ذنب كبير على سبيل المُحادة لله ورسوله، لا تُحرِزه! فهذا إن أُدرِك يُقام عليه الحد حتى لو تاب، هذا كلام مَن؟ الحسن البِصري، ولكن هذا الكلام ليس قوياً جداً، بالعكس! في رأي علماء يقفون مع ظواهر حتى النصوص هو ضعيف، قالوا بالعكس، ظاهر الآية إذا قلنا إنها في المُؤمِنين وليس فقط في الكافرين – إذا قلنا إنها في المُؤمِنين أيضاً – أنه إذا تاب قبل أن نقدر عليه فأيضاً – إن شاء الله – ليس لنا إليه أو عليه من سبيل، انتهى! مَن تاب تاب الله عليه، وإن شاء الله يكون هكذا، إن شاء الله! بعضهم قال مَن تاب سقط عنه حد التقتيل والتصليب وتقطيع الأرجل، واختُلِف في الأيدي: هل تُقطَع أو لا تُقطَع؟ وظاهر الآية أن الكل يسقط، حتى تقطيع الأيدي وليس فقط الأرجل والأشياء المذكورة، الكل يسقط! وسوف نذكر لكم بعض الآثار على جهة السرعة ونختم بها.

يُحكى أن رجلاً – أعتقد كان اسمه حارثة بن بدر التميمي، من بني تميم – كان من المُحارِبين – ليس من المُحارِبين بمعنى Kämpfer، وإنما من المُحارِبين الذين يُطبَّق عليهم حد الحرابة، وفهمنا كيف يكون حد الحرابة، أي من الذين يقطعون الأرض ويُخيفون السبيل وما إلى ذلك، فهو كان مُجرِماً مُحترِفاً، كان من المُحارِبين، أي من أصحاب الحرابة – وتاب بعد ذلك وأراد أن يستأمن لنفسه، فجاء إلى الحجاز – هو كان في العراق – وكلَّم الحسن بن عليّ وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس، فكلَّموا له أمير المُؤمِنين وهو الإمام عليّ، عليّ كان في الكوفة، لا أعرف هل كان في زيارة أم أنهم ذهبوا إليه، المُهِم كلَّموا له الإمام عليّاً عليه السلام، وربما هم كانوا هناك أيضاً، فابن عباس كان في البصرة والياً، فهذا مُمكِن، على كل حال كلَّموه فلم يُعطه الأمان، قال لا، إن أدركته لأُقيمن عليه الحد، فأتى إلى رجل آخر اسمه سعيد بن قيس الهمداني، ويبدو أنه كان من وجهاء البلد، فخلفه في أهله، قال له سأظل هنا وسأحرس بيتك واذهب أنت إلى الإمام عليّ وتكلَّم في قضيتي، فجاء قيس هذا – وهو من الوجهاء – وكلَّم عليّاً، قال له إن كان رجل مُحارِباً ثم تاب إلى الله – تبارك وتعالى – وأصلح وندم ونزع عما كان فيه وتلا عليه الآية إلى قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩، فكتب له أماناً الإمام عليّ، قال له هو التميمي، قال له هذا الرجل هو حارثة بن بدر التميمي، في البداية لم يقل له مَن هو، بعد ذلك قال له هو هذا، فانتهى الأمر وأُمِّن، فهذا يدل على أنه لو تاب يتوب الله عليه.

أبو موسى الأشعري جاءه رجل أيضاً آخر – أبو موسى كان أميراً على البصرة في خلافة عثمان الآن، أي في هذه القصة كان أميراً عتلى البصرة في خلافة سيدنا عثمان، وفي النهاية طبعاُ عُزِل والقصة معروفة – وقال يا صاحب رسول الله كان من شأني كذا وكذا، كان أيضاً من قطّاع الطريق المُحارِبين، قال وتبت إلى الله تبارك وتعالى، وقد قال تعالى إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ۩، فقال له نأخذك بظاهر أمرك، وباطنك إلى الله تبارك وتعالى، وإن عاودت الذنب ليأخذنك الله بذنبك، أي انتبه! فهذا بحسب نيتك، فأقام الرجل على توبته ما شاء الله – لا نعرف هل كان صادقاً أم لا، لا نعرف! المُهِم أنه أقام على ذلك ما شاء الله – ثم أخذه الله بعد ذلك بذنوبه، رجع وعاد يُمارِس الحرابة فأُقيم عليه الحد، لكن موضع الشاهد أين هو؟ أن أبا موسى أيضاً أمَّنه.

والأثر الثالث والأخير أن رجلاً اسمه عليّ الأسدي – من بني أسد، رحمه الله ورضيَ الله عنه وأرضاه – كان أيضاً مُحارِباً – يقطع الطريق ويُخيف المُسلِمين ويُخوِّف السبيل – حتى كان ذات يوم فسمع تالياً يتلو قوله – تبارك وتعالى – قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩، فقال كيف قلت؟ أعدها علىّ، المسكين كان جاهلاً ومُجرِماً، فأعادها فاستشعر التوبة والندم، وجاء في ظُلمة الليل إلى مسجد المدينة المُنوَّرة – وهناك كان من الصحابة خلق كثير متواجدين منهم أبو هُريرة، وهذا في خلافة مُعاوية بن أبي سُفيان، وكان والي المدينة مَن؟ مروان بن الحكم – وجلس، أُذِّن للصلاة فصلى مع الناس حتى إذا بدأ النهار يتبيَّن قليلاً عرفوه، قالوا هذا قاطع طريق، قال لا سبيل لكم إلىّ، لقد تبت إلى الله وقد قال تعالى إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ۩ يا أبا هُريرة، فأخذه أبو هُريرة إلى مروان بن الحكم، قال هذا كان من شأنه كذا وكذا وكذا، قال اتركه، انتهى الأمر! تاب الرجل وجاء كأنه يُسلَّم نفسه، تاب الرجل وصلى معكم في المسجد فاتركه، فتُرِكَ الرجل حتى كانت وقعة بين المُسلِمين وبين الروم في البحر – وقعة بحرية – فرمى بنفسه على سفينة الروم فهربوا منه إلى الجهة الأُخرى، أي أنه رجل شجاع، كان قاطعاً للطريق، فهربوا منه بالسفينة إلى الجهة الأُخرى، ثم إنها غرفته بهم وبه – رضيَ الله عنه وأرضاه – فمات شهيداً، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: