إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

قبل أيام سألني أحد إخواني عن رجل من المُسلِمين يقول إنه يعبد الله – سُبحانه وتعالى -، يُصلي له مثلاً لمُجرَّد أن الله – سُبحانه وتعالى – أمر بذلك، ولولا أنه أمر بذلك ويأمر به ما صلى ولا عبد، قال هذا هو تصوره للعبادة، وهذا هو تصوره للدين، فهل عليه من إثم؟ هل عليه من حرج وبأس فيما يرى ويعتقد ويتصوَّر؟ المسألة يا إخواني أكبر من مُجرَّد حرج وبأس وإثم، إنها مسألة الإيمان ذاته، مسألة الإيمان كله، مسألة طبيعة الإيمان، وفي هذه الحالة الإيمان بالله – سُبحانه وتعالى -، هذا الفهم أو هذا التصور يحكي فقراً مُدقعاً في الجانب الروحي علاوة وفضلاً عما يُشتَم من هذا القول أو من هذا الفهم من رائحة سوء الأدب بل انعدام الأدب مع الله – سُبحانه وتعالى -، أعني أن يقول قائل أنا أعبده لأنه أمر، لولا أنه أمر ما عبدته، أستغفر الله العظيم، فعلاوة عن سوء الأدب بل انعدام هذا الأدب مع الله – سُبحانه وتعالى – هذا الفهم أو هذا التصور يُترجِم عن ويحكي فقراً مُدقعاً في الجانب الروحي، وضحالة مُريعة في التصور الإيماني، ومعنى التصور الإيماني أي كيف نعتقد؟ كيف نتصوَّر معبودنا – سُبحانه وتعالى -؟ ما هو عندنا؟ ما هو في ظننا؟ ما هو في وهمنا؟ ما هو في اعتقادنا؟ هذا هو، هذه المسألة خطيرة جداً.

طبعاً كما تعلمون الأمد بيننا كبشر من جهة عامة وبيننا كمُسلِمين من جهة أخص قصي وبعيد جداً، التفاوت مُذهِل بين المُسلِمين، لا أقول بين البشر عموماً فقط، وإنما حتى بين آحاد المُسلِمين، تفاوت مُذهِل بينهم في تصورهم لله، في إيمانهم بالله – سُبحانه وتعالى -، قد يظن العوام أننا نُؤمِن به على نحو واحد ونتصوَّره على نحو واحد، غير صحيح بالمرة، وفي لحظة يقظانة وفي لحظة مُفعَمة بالتجلي والاستبصار قد يبدو للواحد منا أنه مُنخرِط في تصورات أنسانية لله – سُبحانه وتعالى -، تجعل الله إنساناً بمقاس أعظم، بعضهم يجعله أمه، لكن بمقاس أعظم، وفي نهاية المطاف لو حاسب نفسه بوعي – وهذا أصعب ما يكون – سيجد أنه يتعاطى مع الله كما لو كان أماً مُعظَّماً، أماً مُكرَّمةً، هذا ليس الله – تبارك وتعالى – ولا بأي حال من الأحوال، الله ليس هكذا، هذا رب معبود، ليس أماً ولا أباً ولا صديقاً ولا شيخاً ولا أستاذاً ولا رسولاً ولا نبياً، إنه الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، إنه الذي ليس لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩ أبداً! ليس ثمة ما يُكافئه ولا ما يُناظِره، ومَن زعم أنه يتعاطى ويتعامل مع الله – تبارك وتعالى – على أنه يعرف ذاته أو يعرفه في ذاته فهذا جاهل الجهل كله، بارئ من أدنى درجات المعرفة بالله – تبارك وتعالى -.

معرفة الإنسان عموماً تخضع للمُقارَبات والمُقايسات، لا تستطيع أن تحكم على شيئ من الأشياء إن تعلَّق الأمر بالحسيات أو على معنى من المعاني إن تعلَّق الأمر بالمعنويات، بالمَدرَكات، وبالمُجرَّدات، إلا من طريق المُقايَسة، فما الذي يُقاس عليه الله؟ ومَن الذي يُقاس على الله؟ لا أحد، لا شيئ، الله لا يُقاس على شيئ، ولا يُقاس عليه ولا به شيئ مُطلَقاً، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، ولذلك ما عرف الله تمام المعرفة إلا الله، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، يقول النبي المُكرَّم – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لا أُحصي ثناءً عليك، لا أستطيع! أنت كما أثنيت على نفسك، لا يستطيع! محمد لا يستطيع، صل الله على محمد وآله وأصحابه وسلم، لا يستطيع، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

وهكذا سيجد كل واحد منا أو أحدنا نفسه مُنخرِطاً في تصورات أشبه بالتجديف، أشبه بتصورات الجهلة البُعداء القصيين عن الله – تبارك وتعالى -، مع أنه يرى نفسه مُؤمِناً، وربما شيخاً، وربما عالماً من علماء الدين في الإسلام وغير الإسلام، والأمر بعد ذلك وفوق ذلك بمراحل لا يعرف مداها إلا هو – سُبحانه وتعالى -، القضية خطيرة!

ومن هنا أعتقد أن هذا سبب خوف الأنبياء وخوف الصُلحاء والعُرفاء، نتحدَّث عن فئات مُمتازة تماماً، ومعنى مُمتازة أي مُتميِّزة، مُتفرِّدة بشكل غير قياسي، بشكل استثنائي حقيقي، ونتحدَّث عن الأنبياء، عن العُرفاء، عن الصُلحاء، وعن صفوة عباد الله، الذين أيضاً لا يدري نسبتهم في البشر وهي نسبة جد ضئيلة إلا الله – تبارك وتعالى -، جد ضئيلة! وكما نقول دائماً التدين الحقيقي امتياز، قد يظن الناس أن أكثر الناس مُتديِّنون، هذا ما نظنه، وهذا ما نراه، لكن في الحقيقة التدين الحقيقي أن تُؤمِن بالله، أن تُتاجِر الله، وأن تُعامِل الله، امتياز حقيقي لفئة قليلة جداً جداً، جعلني الله وإياكم منها، جداً! أقل مما نظن، وأخشى ما أخشاه أن يكون وراء هذا الزعيق باسم الروح وهذا الصراخ باسم الدين الآتي، الآن هذا الزعيق يعلو، ليس في مُجتمَعات المُسلِمين فقط، وفي مُجتمَعات النصارى واليهود والهنادكة والبوذيين، زعيق عالٍ، يتخذ شكلاً تجييشياً وتعبوياً، يُريد أن يُشعل الأرض حروباً وصراعات، وهنا يجد الدين والمُتديِّن الواعي نفسه لو أدرك واستبصر ضحية التمول المادي الذي يُريد أن يتوسَّل الدين نفسه ورجاله ومقولاته من أجل إعلاء مصالح طبقات مُعيَّنة، من أجل تكريس هيمنة لجهات مُعيَّنة، ولكن رجال الدين المساكين المُغفَّلون والمُغفِّلون أو المُستغفِلون لا يدرون شيئاً، ويمضون في الطريق على أن هناك صحوة، صحوة روحية! روح ماذا؟ نخشى أن يكون أنه لا يكمن خلف هذا الزعيق وهذا الصراخ إلا التشويش والتضليل وقطع الطريق على السلّاك وعلى السالكين إلى رب العالمين – لا إله إلا هو -، ويبقى الدين أيضاً امتيازاً ضئيلاً جداً جداً لفئة منزورة، فالقضية جد، القضية جد والقضية حسّاسة تماماً.

ووا أسفاه ووا حسرتاه على تلكم الثمار التي ظلت في أكمامها لما بل لم تتفتَّق، وعلى تلكم الأجنة التي أُجهِضت وابتسرت، ولم تدخل طور الإنسانية، مَن هي هذه الثمار؟ مَن تلكم الأجنة المُبتسَرة؟ أنا وأنت وهي وهم وهن، هذا السيل البشري الهادر، نلج إلى هذه الحياة، ندلف إليها وأمامنا فُرصة وفُرصة وحيدة بطول عمر أحدنا أو واحدنا، ماذا؟ أن يتبيَّن، أن يعرف الله – تبارك وتعالى -، أن يتكامل إنسانياً، أن يعرف نفسه، هنا! ولا تستطيع أن تعرف نفسك إلا بمعرفة الله – سُبحانه وتعالى -، نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، مَن ضل عن الله ضل عن نفسه بالحري والأولى حتماً.

إذن تأتي إلى هذه الحياة مُجرَّد بشر، وتخرج منها إذا أسعدتك الحظوظ والقسم إنساناً، إنساناً مُتألِّهاً ربانياً عارفاً، بسعة الكون وأوسع، بعمق الوجود وأعمق، تخرج الإنسان الذي لأجله فعلاً وليس خطابةً وبلاغةً كما ابتذلناها على المنابر وفي الكتابات خليفةً لله، محل ثقة الله، كما قال أحد الحكماء خلق الله النباتات لبساطتها، والحيوانات لبراءتها، وابن آدم ليكون خادمه، عجيب! هل الحيوانات بريئة؟ نعم، الحيوانات بريئة، والإنسان فقط هو الكائن غير البريء، الحيوانات بريئة، حتى السباع وحتى الضواري، الحيوانات بريئة، ولذلك هي غير مُكلَّفة، ليس عليها حساب وعذاب، خلق الله النباتات لبساطتها، والحيوانات لبراءتها، وابن آدم ليكون خادمه، لتكون خادماً لله، خليفةً لله – سُبحانه وتعالى -، لو أدركت! هنا لا يُقال قد رشَّحوك، إنما قد رشَّحتك السماء، قد رشَّحك الملك العلي الأعلى – لا إله إلا هو -، لأمر ويا له من أمر!

لكن – كما قلت – ووا حسرتاه ووا أسفاه على هاته الثمار التي لم تتفتَّح وبقيت في أكمامها، أجنة أُجهِضت، أين هي مرتبة الجنين المُبتسَر من مرتبة الإنسان الواصل الحكيم العارف المُتصِل؟ هذا مشروع، وهذا إنجاز حقيقي، مَن منا صار إنجازاً؟ مساكين نحن، مساكين حقاً، مساكين! سر هذه المسكنة، سر هذا الفقر، سر هذه الضحالة، وسر هذه المحرومية أن فهمنا معكوس ومنكوص للدين، فهم غريب.

أود من رجال الدين – مسيحين ويهوداً ومُسلِمين – أن يقفوا ويفعلوا الآتي، لم يفعلها في ظني وبحسب علمي واحد إلى الآن، لم يفعلها واحد منهم! لم يحصل أن رجل دين عندهم أو عالم دين لدينا وقف واعتذر من أتباعه، نعم! بعد أن استهلك من أعمارهم ربما عشرين أو ثلاثين سنة وهو يزعق فيهم ويصيح بهم ويصرخ ويُخاطِبهم من على الورق ومن على المنابر ومن على شاشات الفضائيات، يقف في لحظة تجلٍ أيضاً واستبصار وتوبة، لحظة متاب صادق، براءة مع الله – تبارك وتعالى – وصدق مع النفس والآخرين، ليقول لهم أُناشِدكم الله – تبارك وتعالى – أن تضرعوا وأن تبتهلوا مُستغفِرين لي، سامحوني، أطلب أن تستغفروا الله لي، أنتم سامحوني، أسقِطوا حقوقكم عني، لأنني أجرمت في حقكم.

رجال الدين يحصل – خاصة الآن في الغرب في الفترات الأخيرة – أن يعتذروا من أُناس حرَّقوهم أو قتلوهم ظلماً، وربما من شعوب انتهكوا حُرمتها وأرخصوا دماءها، مُمكِن! لكن أن يعتذروا من جماهيرهم ومن أتباعهم فهذا ما لم يحصل، وهذا أول ما ينبغي أن يحصل، على علماء الدين ورجال الدين من كل الفئات أن يعتذروا من الناس، لأنهم ضلَّلوهم، لأنهم أبعدوهم عن الإمساك بجوهر الدين وبروح الدين، خلق الطقوسيات والشعائر والشكليات والكموم المركومة الهائلة من الوعظيات والنصوص، كم ذا تسمعون من أحاديث تُنسَب إلى رسول الله – صحت أو لم تصح، ليس هذا الشأن، ليست هذه القضية -! كم هائل جداً جداً جداً، كان الله قادراً – سُبحانه وتعالى – لو أراد أن يجعل كتابه العزيز هذا يملأ صحائف ومهارق مائتي مُجلَّد أو ثلاثمائة مُجلَّدة، لا تُوجَد مُشكِلة، لكن جعله محدوداً ومحدوداً جداً، يُقرأ في عشر ساعات، في عشر ساعات يُقرأ ويُرتَّل ترتيلاً، بطريقة الحدر تستطيع أن تأتي عليه، لكن في كم سنة تستطيع أن تقرأ السُنة النبوية – مثلاً -! عشرات آلاف، مئات آلاف من الأحاديث، مئات آلاف! وهذا لم يُكتف به، مئات آلاف الآثار عن الصحابة وعن التابعين وتابعي التابعين والأئمة والصُلّاح والعُرفاء وفلان وعلان وزيد وعمرو من الناس، وقصص وحكايا! وكل هذه يُصاح بها باستمرار بطريق تواتري، تترى! نصوص كثيرة على المنابر، وفي نهاية المطاف ترى تدين أحدنا ضحلاً جداً جداً جداً، بشكل مُريع ومُخيف، أسهل شيئ على المُسلِمين أو على الناس الآن الحلف، وأنا ما يعنيني هم أهل ديني وأهل مِلتي، المُسلِمون هم مَن يعنونني الآن، يقف هذا المُسلِم ويُقسِم بالله يميناً مُعظَّمة على كتاب الله، على ستة آلاف ومائتي وست وثلاثين آية، أنه ما فعل، والله يعلم أنه فعل، وأن هذا حق له، والله يعلم وهو يعلم أن هذا ليس حقاً له، أين الدين؟ أين الأشكال؟ أين الطقوس؟ أين الصلوات؟ أين الجُمع؟ أين الجماعات؟ أين آلاف النصوص من الترغيب والترهيب؟ أين فعلها؟ لا شيئ، لا شيئ من هذا! أمام ماذا؟ هل هذا أمام قطع رأس؟ لا، أمام شيئ بسيط جداً جداً، ربما بضع مئات من اليوروات أو حتى بضعة آلاف، ذهب الدين، وضُحي بالله الآن، شيئ مُخيف وخطير!

كيف يُمكِن أن نكون هكذا؟ كيف يُمكِن أن ننحدر؟ أين هي العصمة؟ العصمة في الجوهر المُضيَّع، في جوهر الدين المُضيَّع، ليس عندنا، لم نشعر به، تماماً كهذا الشخص المسكين الذي كان صادقاً مع نفسه، لكن صدقه يحكي فقره، فهو فقير جداً، يحكي حرمانه، فهو محروم جداً، يحكي ضحالته، فهو ضحل جداً، يحكي بُعده، فهو بعيد جداً من الله، يحكي انقطاعه، فهو قصي مُنقطِع من الله – تبارك وتعالى -، حين قال أنا أُصلي وأعبد لأنه يُريد هذا، كأنه يُلبي حاجةً لله، انتبهوا! ما يقوله هذا الكلام لهذا المحروم الضحل الفقير فقراً مُدقعاً هو إن الصلاة أو العبادة تُلبي حاجةً لله، أستغفر الله العظيم، هُوَ الْغَنِيُّ ۩، قال يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩، مَن قال لك إن صلاتك تُلبي شيئاً له؟ يا عبادي لو أن إنسكم وجنكم وأولكم وآخركم اجتمعوا على ضري لن يضروني، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، لا أحد ينفع الله، لا أحد يضر الله، ولا أحد! ولا أي نبي، ولا محمد – صلى الله عليه وسلم -، أبداً! وحاشاه – صلى الله عليه وسلم – من هذا، يجرؤ أحد أن يتكلَّم على لسانه وباسمه، يقول محمد قدَّم خدمةً لله – أعوذ بالله -، عمل شيئاً لله، أي يُلبي حاجةً لله، انتبهوا! حين نقول هذا لله، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۩ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩، وصل لله، يكون هذا بمعنى ماذا؟ بمعنى باسم الله، مُخلِصاً عملك لله، لكن هذا العمل يُلبي حاجة مَن؟ حاجتك أنت، حاجة المُجتمَع، حاجة الخلق، ليست حاجة الخالق، لأن الله غني، وأنتم الفقراء، أعوذ بالله! لكن هذا الجهل، هذا التصحر العجيب والضحالة في فهم الدين، لا أدري من أين تأتي، والشاب هذا أكاديمي، أنا سُئلت عن شاب أكاديمي، ولست أعتب عليه، قبل أن أعتب عليه لابد أن أعتب على علمائنا، على مَن يتكلَّم، على مَن يكتب، وعلى الاتجاه العام في فهم الدين يا إخواني، شيئ مُخيف! وعلى الاتجاه التربوي، كيف نُربي أنفسنا وأبناءنا وبناتنا؟ كيف نتعاطى؟

طبعاً بعض الناس يقول يا رجل أنت مُنفعِل وتتكلَّم بحماس، هذه طريقة عاطفية، ما المُشكِلة؟ انتهى! لحظة زلل، لحظة ضعف وهوي نفساني، لم أستطع أن أُضحي فيها – مثلاً – بخمسمائة يورو وحلفت يميناً، سأُكفِّر، ما المُشكِلة يا أخي؟ سأُكفِّر، سأصوم ثلاثة أيام، وحتى الكفارة هو لا يفقهها، وكأنه لم يقرأ القرآن الكريم مرة في العمر، مع أنه يقرأه كل رمضان، مُباشَرةً يعمد إلى ما يراه أسهل عليه، أسهل عليه أن يصوم ثلاثة أيام من أن يُطعِم عشرة مساكين أو يكسوهم من أوسط ما يُطعَم الأهلون، لا! هو لا يُريد، لا يُريد أن يدفع، هو من أجل هذا – أي من أجل هذا النقد أو من أجل هذه النقود – باع الله – تبارك وتعالى – بيمينه الكاذبة، ولذلك هو يصم أُذنيه، كأنه ما عرف، ما عرف كفارة اليمين، الإطعام أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام، مُباشَرةً يعمد إلى الصيام، ما شاء الله على الفقه، ويظن أنه أرضى الله، انتهى الأمر، انتهى! هو أبرأ ذمته وأفرغها من حقوق العباد، وهذا كلام فارغ، كلام فارغ! 

الدين إذا فُهِم بهذه الطريقة فعدمه خيرٌ من وجوده، ألا تكون مُتديِّناً أحسن بكثير من أن تكون مُتديِّناً، هل تعرف لماذا؟ سيُصبِح الدين بهذه الطريقة ووفق هذا الفهم شبكةً تُصطاد بها حقوق العباد، سيُصبِح مُخادَعةً ومُخاتَلةً، سيُصبِح سكيناً حاميةً ماضيةً حادةً لذبح الضمير الإنساني، الله خلق كل البشر، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩، قال وَنَفْسٍ ۩، لم يقل ومُسلِم، والواو واو القسم طبعاً هنا، قال وَنَفْسٍ ۩، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، معنى هذه التقوى المُلهَمة لكل نفس منسومة ومخلوقة مُبرأة هو الضمير، الضمير! إنها قضية الضمير، الدين هنا يُصبِح سكيناً حادةً ماضيةً تذبح الضمير، لا يُوجَد ضمير، لماذا؟ باسم الدين وباسم الفقه أُكفِّر، أنا آكل أموال الناس وأُكفِّر.

ومن هنا إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ۩، يا رب لكن هو اشترى مليار دولار، ليس ملياراً وإنما الدنيا وما فيها وما عليها، إذا وُضِعت في كفة ووُضِع اسم الله – لا إله إلا الله – بجلاله وعظمته في كفة، اسم الله أثقل والثمن قليل، انتبهوا لنفهم القرآن، كل ثمن يُباع اسم الله إزاءه ثمن قليل، ليس لو كان آلاف اليوروات أو رئاسة وزراء أو مُلكاً في دولة أو مُلك العالم، أُقسِم بالله! والله ثمن قليل، إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ۩، انظروا الآن إلى الوعيد المُزلزِل المُدمدِم، أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۩، انتهى! لن يطمع هذا الذي يحلف بالله كذباً لكي يتحصَّل ويتغوَّل بعض الحقوق وبعض ما ليس له، لن يطمع في شيئ يوم القيامة، لَا خَلَاقَ لَهُمْ ۩، لا نصيب له، وذكرها الله هكذا مُنكَّرة، لَا خَلَاقَ ۩، لا نصيب، في أي شيئ!

ولذلك ذهب فأكَّد – لا إله إلا هو – بطريقة عجيبة ونادرة في كتابه، أن يتوعَّد الله بمثل هذا الوعيد، هذا نادر، قال وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، بالنسبة إلى الكلام هم لا يُكلَّمون من الله، بالنسبة إلى النظر لن ينظر إليهم، بالنسبة إلى التزكية لن يزكيهم ولهم عذاب إليم، الله أكبر! بعض الناس يقول نعم يا شيخ أيضاً، لا تُثرِّب أكثر من هذا، وربما هذا في مئات الآلاف أو في الملايين ربما أو في المليارات، سارق الملايين سيقول لا، أكيد هذا في المليارات، انتبهوا! سارق مئات الآلاف سيقول هذا في الملايين، سارق عشرات الآلاف سيقول هذا في مئات الآلاف، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كما أخرجه الإمام مُسلِم في صحيحه مَن اقتطع حق امرئٍ مُسلِم بيمينه لقيَ الله يوم القيامة وهو عليه غضبان، قال العلّامة الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي وليس العسقلاني، قال ومَن عبَّر بالمُسلِم فإنما عبَّر باعتبار الأغلب، كل قواعد الشريعة ونصوص الشريعة تجعل حقوق غير المُسلِم المعصومة كحقوق المُسلِم المعصومة، لا يُوجَد فرق، بغض النظر عن أن هذا مُسلِم أو يهودي أو مسيحي أو أياً كان، ما دام هذا حقه وهو معصوم – ليس في حالة حرب وقتال، الأمور سائلة – فليأخذه، لا يُمكِن غير هذا، نفس الشيئ، مثل المُسلِم! 

قال مَن اقتطع حق امرئٍ مُسلِم، انتبه ولا تقل لي نعم، هذا جيد، الحديث قال من المُسلِم، وأنا سأسرق من اليهود أو النصارى هنا في الغرب، علماً بأن بعض الناس يُفتون بذلك، شيئ فظيع، أنا أخجل من هذا، أُقسِم بالله! ولأول مرة أشعر بالخجل الحقيقي الآن في هذا المقام، نحن الآن نُريد أن نتنزل من سابع سماء، من سماء الملأ الأعلى، من مُقارَبة حقيقية لروح الدين وسمو الدين ولطافة وعظمة الدين وكرامة الدين، إلى سفالة بعض المُسلِمين، بعض مَن يتكلَّم باسم الدين، ويُصدِرون فتاوى بإباحة أموال هؤلاء الناس، يقولون لك أنت في الغرب، وهذا الغرب مُحارِب، شن الحرب على الإسلام، اسرق الــ Billa والــ Hofer والــ Bipa والــ Libro، ولن تُوجَد مُشكِلة، ويفعلون هذا! وبعضهم من غير أن نُؤكِّد له لحى عظيمة، ليست كالعثنون، هناك ما يُقال له العثنون، أي لحى صغيرة هكذا، تخيَّل! ويكتبون هذا، انظر إلى المسخرة، هذه مسخرة باسم الدين، ما هذه اللصوصية؟ ما هذه القباحات؟ وما هذه السخافات؟ دين مثل هذا أنا أحتقره، أنا مُسلِم وأنا أحتقر مثل هذا الدين، مُستحيل! إذا هذا الإسلام فلا نُريده، مَن ذا يُريده؟ غير المُسلِم هل يُريده؟ المُسلِم يحتقر هذا الشيئ، المُسلِم يخجل أن يُمثِّل بهذه الأمثال أو بهذه الأمثلة، شيئ مُخجِل، يجعل الجبين يندى، لكن هناك مَن يقول نعم، النبي قال من امرئٍ مُسلِم، أنت فقيه كبير، علّامة أنت، قرأت للعلماء، وعرفت كيف فسَّروا الأحاديث يا جاهل، العلماء قالوا لا، هذا جارٍ على الأغلب، لأن أغلبية المُجتمَع كانوا مُسلِمين، فالنبي عبَّر بالمُسلِم، لكن الأمر واحد سواء هذا مُسلِم أو غير مُسلِم، باتفاق المذاهب – اتفاق المذاهب المتبوعة المعروفة – مَن سرق مال يهودي أو نصراني معصوم المال قُطِعت يده، كمال المُسلِم! لا يُوجَد كفرق، تُقطَع يد المُسلِم هذا التي تُكبِّر باسم الله كل يوم خمس مرات، الله أكبر! تُقطَع هذه اليد الخبيثة، هذه اليد الرخيصة النذلة تُقطَع، نعم! لماذا؟ الأمر واحد سواء هو يهودي أو نصراني أو بوذي أو هندوسي أو حتى ماركسي، المُهِم أن يكون معصوم المال، لسنا في حالة حرب يا حبيبي، نحن في حالة مدنية حديثة، كيف تسرق أموال الناس أنت؟ من أين لك هذا؟ فعلاً شيئ عجيب وغريب.

مَن اقتطع حق امرئٍ مُسلِم بيمينه لقيَ الله يوم القيامة وهو عليه غضبان، تفضَّل هذا، تفضَّل، قال غضبان، وهنا يأتي السؤال، يا رسول الله – صلى الله على رسول الله وآله وأصحابه ومَن والاه – كم؟ كم يا رسول الله؟ كم؟ ملايير أو ملايين أو مئات الآلاف؟ جزى الله الصحابي الذي سأل، قال يا رسول الله وإن شيئاً يسيراً؟ أي حتى ولو كان في شيئ بسيط – مثلاً – هكذا مثل جاكيت Jacket أو قيمص أو كذا؟ بماذا أجاب المُعلِّم الأكرم – صلى الله عليه وسلم -؟ قال وإن قضيباً من أراك، أتعرف القضيب من أراك؟ السواك الصغير هذا، كل عشرة بريال في السعودية، في غير موسم الحج طبعاً، كل عشرة بريال! هذا السواك الصغير، هذا لو أخذته بيمنك وكنت تقول والله هذا لي ستلقى الله وهو عليك غضبان، نعم!

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مرةً ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم ولا يُكلِّمهم يوم القيامة ولا يُزكيهم ولهم عذاب أليم، هذه الآية السابعة والسابعون من سورة آل عمران، النبي يتأوَّلها، كأنه يتلوه، ولذلك قال أبو ذر – راوي الحديث، رضوان الله تعالى عليه وعنه – فتلاها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ثلاث مرات، أو قال ثلاث مرار، أي ثلاث مرات، تلاها ثلاث مرار! قال فقلنا يا رسول الله خابوا وخسروا، مَن أولئك؟ أبعدهم الله، هذا الخُسران المُبين! وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – المنّان، الله أكبر! المنّان؟ حتى المنّان، نعم! يُعطي ثم يبدأ يمن، أنا أعطيت، أنا عملت، أنا سويت، أنا لي عليه فضل هذا، أنا فضلي يُغرِّقه من رأسه إلى أخمص قدميه، ما هذا؟ لمَن أعطيت أنت؟ إن أعطيت باسم الله ولله فما هذا المنّ يا رجل؟ ما هذا الكفر بالنعمة؟ ما هذا التشويه للعمل الصالح؟ أصبح هذا – أي عملك – مقبحة، أصبح جدرياً في وجهك مع كل منّ، المنّانون يُبغِضهم الله جداً، ليس لهم تزكية عند الله، لماذا؟ هذا امتحان الإيمان، المنّان ليس مُؤمِناً حقيقياً، هو أقرب إلى الكذّابين والمُنافِقين، لا يستطيع الانتظار، لا يُشبِعه، لا يُسكِّنه، ولا يجعله ساكناً راضياً أن يعمل لله ويرضى بما أعد الله، لا يستطيع! يُريد أجره الآن وهنا كما يقولون، الآن وهنا منك ومني، من الناس أن يمدحوه وأن يقولوا ما شاء الله، مُحسِن عظيم، جواد كريم، ما أبسط يده بالعطية والنوال! ما أسخاه! ما أكرمه! يُريد هذا المسكين، ليس مُؤمِناً حقيقياً هذا، هذا مُؤمِن فقير محروم كذّاب.

قال المنّان، والمُسبِل، أي والمُسبِل إزاره، والآن لا تُوجَد أُزر، نلبس البناطيل حتى ولا تُوجَد مُشكِلة، ولكن يُمكِن بالبنطلون أيضاً تكون من هؤلاء، أي بالبنطال، وكذلك بالجاكيت Jacket، إذا جعلت هذا الزي واتخذته شارة على الكبر، تُحِب أن تُترجِم به عن كبرك، طبعاً! ولذلك مَن ركب مركوباً يُباهي به كبراً كان مِن هؤلاء، مَن لبس لبسةً أياً كانت في نظر الناس يُريد أن يُترجِم بها عن كبر نفسه وتميزه كان مِن هؤلاء طبعاً! لكن في القديم كانوا يُسبِلون الأُزر، يجرونها على الأرض هكذا، تمسح القاذورات، كبراً! لا يُمكِن هذا.

فإذن المنّان والمُسبِل، قال والمُنفِّق سلعته بالحلف الكاذب، الله أكبر، قال المُنفِّق، هذا التاجر، أو حتى ليس التاجر فقط، أنا وأنت، عند أحدهم سلعة ويُريد أن يبيعها الآن، فيبدأ يحلف، والله قامت علىّ بكذا، والله دُفِع وأُريد مني بكذا، دُفِع إلى كذا وأُريدت مني بكذا، والله! وهذا كله كذب، أنت من الثلاثة يا مسكين، واحد الآن سيقول لي وربما يكون من نقدة الحديث – بعض الناس عنده جراءة أن ينتقد حتى القرآن والأحاديث من غير علم ومن غير تقعيد ومن غير تأصيل – أنا في شك من أمر هذه الأحاديث كلها وأمثالها، لماذا يا عبد الله؟ سيقول لأن الله لم يتوعَّد حتى السرّاق الذين يسرقون الأموال الطائلة أحياناً بمثل هذا الوعيد، قال وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ۩، وطبعاً قطع اليد سيكون هذا عقاباً يسيراً جداً جداً جداً إلى أبعد حد إذا ما قورِن بماذا؟ بألا يُكلَّم من الله ولا يُنظَر إليه ولا يُزكى وله عذاب أليم، هناك الخُسران المُبين، هذا هو الخُسران المُبين، قطع اليد سيغدو رحمة في جانب هذا العذاب الأليم، وأقول له لا، أنت ما وضعت الهناء موضع النقب، لم تُحسِن فهم القضية، أنا في ظني وفي فهمي البسيط – وقد أكون مُخطئاً، وهذا من نفسي ومن الشيطان، الله بريء من ذلك ورسوله – أن السارق الذي يسرق وقد يُضبَط مُتلبِساً بجُرمه وتُقطَع يد خيرٌ في الدنيا وخيرٌ في الآخرة عند الله وخيرٌ في نظر مَن فهم الدين بالنظر الصحيح من ماذا؟ من الرجل يحلف كذباً على حق ليس له، على شيئ ليس له، فهذا أحسن، السارق أحسن طبعاً، ووعيد الله في حقه أخف، وعذابه أيسر، نعم! لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ المسألة هنا ليست فقط يُنظَر إليها أو ينبغي أن يُنظَر إليها من زاوية الحقوق – أي حقوق العباد -، مع أنها طبعاً هذه مبنية على المُشاحة، حقوق العباد مبنية على التضييق الشديد، وحقوق الله مبنية على المُسامَحة، لكنها مسألة الإيمان كله، مسألة الإيمان كله!

صحيحٌ أن حياتنا يا إخواني وأخواتي هي امتحانات وابتلاءات من الله – تبارك وتعالى – مُتوالية مُتصِلة، سلسلة من الاختبارات المُتصِلة! ولكن في مُنعرَجات، في مواقف، وفي لحظات مُعيَّنة من حياتنا نُبتلى بامتحانات واختبارات فارقة، فارقة! فإما هلكنا وإما نجونا، إما ارتفعنا وإما تسفلنا في أسفل سافلين، وهناك ابتلاءات دون ذلك، قد تُوجِب غضب الله دون لعنته، هناك غضب وهناك لعنة أيضاً، لكن هذا غضب، ومنها ما قد يُوجَب الغضب واللعنة والعذاب المُقيم، انتبهوا! شيئ مُخيف جداً، امتحانات هذه، وهي ليست للكفّار فقط، حتى للمُسلِمين، حتى للمُؤمِنين، حتى للعلماء، حتى للمشايخ، للكبار، وللصغار، لكل أحد! هذه الابتلاءات الفارقة، أنا أقول لكم الدين مُمتاز وسهل إذا تجاوزنا هذه الابتلاءات وهذه الامتحانات الصعبة بالذات، أسهل شيئ! الدين مُمتاز وسهل على كل الناس، سيغدو طقوساً وشكليات وكلاماً وخُطباً ودعاوى وأنا وحصل لي ورأيت وكذا و… ما شاء الله! كل واحد عند نفسه من الصُلّاح.

أنا لم أُكمِل المعنى، قلت الأنبياء والصُلحاء والعُرفاء أكثر شيئ يخافون منه وقطع ويُقطِّع نياط قلوبهم، هل تعرفون ما هو؟ ماذا لهم عند الله؟ عن ماذا سينجلي الحجاب والستر؟ عن ماذا؟ ما معنى هذا؟ ما معنى قول عمر – رضي الله عنه وأرضاه، فاروق الأمة، مُلهَم الإسلام – لو أن لي ما في السماوات وما في الأرض ومثله معه لافتديت به من هول المُطلع؟ ما هو المُطلع؟ حين تزول نفسه من بدنه – أي الموت، هذا ساعة الموت – يطلع ويُشرِف على مصيره مبدئياً، على مكانته عند الله وعلى مصيره، قال هذا شيئ مُخيف، أنا يُمكِن أن أفتدي بأي شيئ دون هذه اللحظة، حتى لا أحضر هذه اللحظة، الله أكبر! هذا عمر، ومثله الأنبياء بل هم أكثر منه في هذا، النبي مات وهو يبكي خشية مكر الله، هذا رسول الله محمد، انتبهوا! جبريل كان ينزل عليه ويبكي معه، وأوحى الله الله إليهما مرة نعم أن هكذا فكونا، ابكيا من خشيتي وخوف مكري، لا تأمنا مكري، المُؤمِن لا يأمن مكر الله، ولكن المُنافِق وضعيف الإيمان والفقير والمحروم والضحل والمُتصحِّر – بالعكس – هو في أمان، شيئ عجيب! ليس عنده حتى تهمم أو تشكك أن يقف مرة ويُراجِع نفسه، يضع المرآة لينظر.

أصعب شيئ يا إخواني وأخواتي أن يُكوِّن الإنسان صورة موضوعية صادقة عن ذاته، كلنا نكذب على أنفسنا بلا استثناء، كلنا نُخادِع أنفسنا، كلنا – كما قلت – ننخرط في تصورات لله وللدين ولمكانتنا ولسلوكنا بطريقة خاطئة، إلا مَن رحم ربي وقليلٌ ما هم، على تفاوت طبعاً، لكن كلنا مُنخرِطون في هذه المُشِكلة وفي هذا الخطر الكبير، كلنا عند نفسه صالح أو صالح إلا قليلاً، ليس ينقصه إلا القليل فيلتحق بموكب الصالحين الكبار – إن شاء الله -، كلنا هكذا، شيئ عجيب!

أما الصُلحاء الحقيقيون والعُرفاء والأنبياء والرُسل فلم يكونوا هكذا عند أنفسهم، دائماً كانوا يظنون بأنفسهم أنهم كذبة وأنهم مُنافِقون وأنهم ضعاف وأنهم… وأنهم… ويخافون من ساعة ماذا؟ كشف الحساب، يخافون من هول المُطلع، تقطَّعت نياط قلوبهم، لماذا؟ هذا يدل على أن لديهم وعياً غير عادي، زوَّدني الله وإياكم به أو بقليل منه، بماذا؟ بذواتهم، ليسوا مخدوعين بأنفسهم، بالعكس! كانوا كثيري وعميقي التفتيش لأنفسهم، يسأل الواحد منهم نفسه في كل شيئ، في الظاهر والباطن، فيما يأخذ وفيما يدع، وفيما يقول وفيما يسكت عن قوله، لِمَ قلت هذا؟ لِمَ فعلت هذا؟ ما هو الدافع الحقيقي؟ ولا يُقنِعه الجواب السريع الذي تُسوِّله له نفسه أو ربما شيطانه إن كان غير نبي، بأن هذا لوجه الله، أمر بالمعروف ونهي عن المُنكَر، فسل نفسك إذن، هذه القضية ذاتها أو هذه القضية نفسها غداً أنت تختلف مصلحتك فيختلف موقفك منها، وتبدأ تنظر إليها من زاوية أُخرى، طبعاً! أنت اليوم ليس عندك مصلحة مع فلان، ستنظر إليه لأن مصلحتك مع عدو فلان وتقول الآتي، ستنظر إلى فلان وتقول موضوعياً يا أخي الرجل فيه مثالب كثيرة، لنكن موضوعيين، بغض النظر عن أي شيئ، أنا لا أُريد الغيبة ولا النميمة ولا التنقيص ولا البهت، ولكن هذه حقائق موضوعية، ألم تروا أنه فعل كذا وكذا وكذا وقال كذا؟ كأن هو معصوم، لكن هو ليس نبياً، هو عنده نقائص، وأنت ماذا عنك يا صاحب النقد والفلسفة؟ هل أنت كامل ما شاء الله؟ كما قال عيسى – عليه السلام – يرى أحدهم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عين نفسه، ينظر إلى عينيه ويرى القذاة، في حين أن هناك خشبة في عينيه لكنه لا يراها، قال وينسى الجذع في عين نفسه، انظر إلى الذنوب التي في عينيك، انظر إلى مسيرتك، انظر إلى الأرشيف Archive الخاص بك، ماذا فيه؟ ما شاء الله! لكنه لا يفعل، يقول الآن لنكن موضوعيين يا أخي، هذا من مصلحة المُسلِمين، مصلحة الجماعة، مصلحة الإسلام، ومصلحة الحق، لابد أن نُقوِّم هذا الرجل، جميل! غداً تنقلب الأمور، يُصبِح هذا في منزلة المُعطي والواهب، فيقول حقيقةً يا إخواني وفعلاً لسنا كاملين، وفلان مع احترامنا له – وهو أخونا وأستاذنا – ليس كاملاً، لكن الله يُحِب الإنصاف، لو وضعنا حسناته وهي كثيرة جداً ووضعنا سيئاته لذابت سيئاته القليلة في بحر حسناته، والنبي يقول أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، اختلفت الفلسفة، فلسفة جديدة الآن، الله أكبر! أين أنت من هذه الفلسفة أمس يا حبيبي؟ ولذلك تقوى المرء تُعرَف في أمثال هاته المسائل، أسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، إذا رضيت أو غضبت فلابد أن تحكي بما يُرضي الله، مصلحتي عندك ولن أُجامِلك، أنا لا أُحِبك وليس عندي مصلحة وسأُنصِفك، في الحالتين لست أحمق ولست درويشاً، في الحالتين لأنني أتقي الله، أُقدِّر لنفسي حساباً بين يدي الله، أخطر شيئ أن ننطلق في حياتنا وتعاملاتنا وأخذنا وعطائنا فعلاً ونحن لا نُراعي الله، هذا الخطر الأكبر؟

أستطيع أن أزعم – أيها الإخوة والأخوات – والله العظيم أن مُشكِلات الدنيا والبشرية انعكاس للمُشكِلة الرئيسة الأولى، ستقولون لي من قبيل مُشكِلة البيئة؟ نعم، من قبيل مُشكِلة البيئة، من قبيل المُشكِلة المالية – الأزمة المالية هذه Finanzkrise -؟ نعم، من قبيل المُشكِلة المالية، من قبيل المُشكِلة الأخلاقية والمسلكية؟ نعم، من قبيل المُشكِلة الأخلاقية والمسلكية، من قبيل المشاكل الاجتماعية واتساع الهُوة والفجوات بين مَن يملكون ومَن لا يملكون؟ نعم، من قبيل مُشكِلة الهيمنة والاستعمار والشمال والجنوب والشرق والغرب والمُهيمن والمُهيمن عليه؟ نعم، كل هذه المشاكل انعكاس للمُشكِلة الرئيسة الأولى، الحقيقية، والأكثر أصالةً وحقيقيةً، أعني مُشكِلة الإيمان بالله والعلاقة مع الله.

هذا نفهمه يوم يأتي رئيس – مثلاً – كالرئيس الأمريكي الراحل نيكسون Nixon ويقول الآتي، لما ساءت الحال تماماً في حرب فيتنام أشار عليه بعض العسكريين بأن يحل المُشكِلة نووياً، أي بالقنابل النووية وينتهي كل شيئ، ينتهي! ماذا كان الجواب؟ هذا رئيس، رئيس أعظم دولة وإمبراطورية، لم يقل هذا عمل غير أخلاقي، أين أنا من الله؟ ماذا سأقول لله عن ذبح ملايين من البشر؟ هذا ليس في وارده، وهنا الخطورة، لذلك الإنسان خطير جداً جداً، الإنسان! وبالذات كلما تحضَّر، أعني تمدَّن، أي أصبح يقتدر مدنياً وتقنياً على وسائل إفناء، مشاكل أكثر – والعياذ بالله – وحشيةً، يُصبِح خطيراً جداً جداً، مُخيف هذا الإنسان! هذا ليس في وارده، لا يخطر بضميره خوف الله، ليس في حسابه، لأنه لا يُؤمِن بالله حقاً ولا باليوم الآخر، لا يرجو لقاء الله، لا يرجو لله وقاراً، لا يرجو اليوم الآخر هذا، طبعاً! لكنه يخاف ويرجو شعبه، أمته! في الحقيقة هو لا يخافهم ولا يرجوهم، هو ما يخاف عليه وما يرجوه الانتخابات، أي الــ Elections، الانتخابات! هذا ما يخاف عليه حقيقةً، أي حتى لو كان يخاف شعبه لقلنا هذا إنسان مُتحضِّر، لكنه ليس هكذا، ليس كذلك هو، ليس هناك، هو يخاف على الانتخابات، انظروا إلى الأنانية الفظيعة جداً جداً، ولذلك هو لو علم أن هناك إمكانية لأن يُضحي بفيتنام وبنصف شعبه وشعبه سيرضى ولن يُطوِّح به سيفعل هذا، ما رأيكم؟ هم يفعلونها! هتلر Hitler تسبَّب في قتل ملايين من شعبه، نفس الشيئ، بماذا أجاب نيكسون Nixon؟ أجاب بجواب وحشي مُخيف، يذكرونه في الأدبيات هناك وكأنه شيئ عادي، لكن نحن نرفضه كأُناس محسوبون على الروح أو على الاتجاه الروحاني الديني، نحن أمل البشرية أو المفروض أن يكون أمثالنا أمل البشرية، أعني أصحاب المنطق الروحي، ليس السياسة، ليس الاقتصاد، ليس الفكر، ليس الفكر، وليس الفلسفة، إلى آخر هذا الكلام الفارغ، أصحاب الروح! لا نجاة لهذه البشرية إلا بالعودة إلى القيم الدينية الإلهية الحقيقية.

كتب يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الأمريكي الشهير روبرت بيلا Robert Bellah – صاحب كتاب الثورة الدينية المشهور جداً، هو الذي عرَّف به – كتبت في السبعينيات – بالضبط في ألف وتسعمائة وسبعين – أقول مُتحدِّثاً عن عالم ما بعد النواميس الدينية، أما اليوم فأنا أعتقد أن النواميس الدينية الجوهرية الحقيقية هي ما يُمكِن أن يجعل العالم مُمكِناً أصلاً، لا إمكان للإنسان ولا إمكان للعالم بلا دين، هذا هو!

ألفريد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead يقول أيضاً التربية في جوهرها أن تكون دينية، أنت تتحدَّث معي عن تربية وأخلاق ومسالك من غير دين، لكن هذا غير موجود، كلام فارغ، فعلاً هو فارغ حتى فلسفياً، وهذا وايتهيد Whitehead، معروف مَن هو وايتهيد Whitehead وماذا كتب هو بالذات في موضوعات العلم والدين والحياة المُعاصِرة، من أعمق الفلاسفة على الإطلاق، قال التربية في جوهرها أن تكون دينية، إذن أو لا تكون، لن تكون تربية، لن يكون هناك أخلاق حقيقية.

أجاب نيكسون Nixon – هذا المُهِم – بقوله كلا، كلا، لو فعلت سأجد أمةً من الناس ضدي في الشوارع، أي سأخسر الانتخابات، هذا الذي أخشاه، ما يقوله نيكسون Nixon بطريقة أُخرى غير مُباشِرة وهو كلام خطير جداً لو رضيَ شعبي بهذا لأبدت فيتنام بالنووي، لا تُوجَد مُشكِلة، لو هو يرضى! لكن أنا خوفي على شعب أو خوفي على الكرسي بالأحرى، انتبهوا إلى هذا.

وهذا أيضاً يقول رسالة أكثر عمقاً وأشد خطورةً، على الشعوب أن تبقى واعيةً يقظانة إزاء حكّامها ونُظمها وقياداتها حتى الروحية الدينية الغافلة والمُغفِّلة أو المُستغفِلة، لكي لا تُصبِح هذه الشعوب قُطعاناً تُسيَّر دون أن تدري، يُشار إليها فتُهرَع إلى المرعى الوبيل، إلى المهلكة، إلى نهايتها، وإلى مجزرتها، على الشعوب أن تكون يقظة جداً جداً إزاء هؤلاء، إزاء كل مَن يتكلَّم باسمها، وإزاء كل مَن يدّعي أنه يستطيع أن يُوجِّهها، من رجال الدين، إلى رجال السياسة، إلى رجال الفكر، إلى الجامعيين، وإلى الرؤوساء، إلى الكل، الكل! يجب أن نكون حذرين جداً أمام هؤلاء، أُقسِم بالله! أمام كل سُلطة وكل مَن عنده سُلطة يجب أن نكون حذرين جداً.

أحياناً أتساءل وأنا أسمع بعض الخطابات، خطابات غريبة، خطابات كأنها تُريد أن تنتقم من الناس، خطابات انتقامية باسم الدين وباسم الإسلام، انتقام! يُحِب الواحد منهم أن يُشعِر الناس أنه ينتقم منهم، لكن في الحقيقة الدين ينتقم منهم وليس هو، أقول ما المُشكِلة؟ المُشكِلة هي في سوء استخدام السُلطة، عنده – أي هذا المسكين – سُلطة أن يخرج على المنبر فيسمع له بضعة آلاف، وهو يُسيء استخدامها، ولا أحد يقول له قف عندك، أنت تُسيءاستخدام هذه الأمانة، أنت تخونها، ما دليلك؟ ما مُستنَداتك؟ ما هو عُمقك في مثل هذا الفكر العجيب الغريب الذي تُقدِّمه إلينا؟ هو يُريد أن يشق المُجتمَع، أن يُسطِّح الإنسان، وأن يجعله شبه آلة جاهزة للعنف، للقتل، للذبح، للتكفير، لمُعاداة المُجتمَع، لمُعاداة الناس، ولإشعال الدنيا حروباً وحرائق، شيئ غريب، وشيئ مُخيف يا إخواني.

على كل حال نعود إلى ما كنا فيه، إذن هناك الذي يأتي ويحلف يميناً كاذبة، النبي سماها صابرةً أو يمين صبر أو يميناً مصبورةً، لماذا؟ لأنه في الحقيقة هو المصبور وهو الصابر، فهذا مجاز طبعاً، ليست هي الصابرة ولا المصبورة، هو المصبور وهو الصابر، لأنه يُصبَر أي يُحبَس، يُحبَس عليها ليُؤديها، هكذا طبعاً، لا يُوجَد عندنا مثل هذا، نحن الآن الواحد منا – ما شاء الله – بعُمق الإيمان العجيب الذي عندنا يُعطيك خمسين يميناً في لحظة، ورب الكعبة وحياة كذا وكذا والقرآن العظيم ومحمد كذا وكذا، بكل بساطة وبكل استسهال، لأن لا تُوجَد خشية من الله، لا تُوجَد علاقة حقيقية مع الله.

الآن انظر إذن إلى مَن يتعاطى مع قضية اليمين، وهي قضية – أعني اليمين –  امتحان ماذا؟ قضية امتحان الإيمان كله، ما هو الله عندك؟ كم يُساوي الله في ظنك يا حبيبي؟ يُساوي فضيحتك، يُساوي مصلحتك، يُساوي هذا الحق الذي أخذته، يُساوي ذاك المنصب الذي تصبو إليه، كل هذا – نعم – في كفة، والآن اليمين في كفة، ما معنى اليمين إذن؟ الله، الله عندك في كفة، هنا امتحان حقيقي، هذا من الامتحانات الفارقة في حياة البشر، لذلك مَن يرسب فيها هذا مغضوب عليه، لا يُزكى، لا يُكلَّم، لا يُنظَر إليه، وله عذاب أليم، النبي يقول في حديث آخر لقيَ الله وهو أجذم، أي مُقطَّع الأطراف، نتن الرائحة، كرائحة المجذوم، تخيَّل! هذا عبد كان في الدنيا ربما شيخاً أو عالماً أو رجلاً من أهل المساجد، لكنه سيُبعَث يوم القيامة مُقطَّع الأطراف ومُجدَّعاً، هذا معنى أجذم، أجذم أي مُقطَّع الأطراف، لأن الجُذام يُصيب الإنسان بتقطع أطرافه، نتن الرائحة، يتقذَّره الخلائق في المحشر، يُقال هذا لماذا؟ لأنه حلف يميناً غموساً، اسمها اليمين الغموس، قال عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كنا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – نرى أن اليمين الغموس لا كفارة لها، قالوا وما الغموس؟ قال يُحلَف بها  – والعياذ بالله – على غير حق، ليأخذهم أحدهم حقاً ليس له، ليأخذ حق غيره، اسمها الغموس!

الإمام أبو بكر بن المُنذِر – رحمة الله تعالى عليه – في الإجماع والإمام ابن عبد البر – رحمة الله عليه – في الاستذكار وغيرهما ذهبوا إلى أن الصحابة عن آخرهم أو من عند آخرهم مُتفِقون على أن اليمين الغموس لا كفارة لها، إذن انتبه يا صاحب (الحلفان)، يا صاحب الأقسام، كل يوم تُقسِم وتأخذ حقوق غيرك ثم تقول سأُكفِّر، سأصوم ثلاثة أيام، لن ينفعك هذا، اليمين الغموس ليس لها كفارة وإن خالف في هذا الأوزاعي والشافعي، وحجتهما في نظري قياساً إلى هذه الحُجج النصية ضعيفة، قال الأوزاعي والشافعي لا، صاحب اليمين الغموس إلى التكفير عنها من صاحب غيرها، ثم لا تضره الكفارة وإنما تزيده خيراً، لا! هذا الكلام وزنه خفيف إذا جُعِل في إطار النصوص الواردة، هناك حديث رواه الحاكم على ما أذكر عن رسول الله، ذكر فيه الرسول أن هذه اليمين لا كفارة لها، هذا لا يُقبَل، لا يُقبَل! لن تُكفَّر، وتوعَّد الله عليها بما تلاه علينا – سُبحانه وتعالى -، بما أنزل علينا في سورة آل عمران، إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ۩، واحد سيقول لي هلكنا يا رجل، ما هذا؟ كيف وأنا حلفت – والعياذ بالله – في قضية عرض، هتكت بها عرض أُناس؟ ذهبت في ستين داهية يا حبيبي، ما هذا؟ ماذا أفعل لك؟ ذهبت! كيف وأنا حلفت في قضية ذهبت فيها رؤوس ودماء؟ ذهبت بسببها في مليون داهية، لن أُجامِلك، سيقول لي لماذا إذن؟ هل أكفر؟ لا، أقول لك ابك على نفسك إلى أن تموت، تُب إلى الله ليل نهار، ليس توبة في ثلاثة أيام، ثم تبدأ تأكل وتشرب فترتاح بعد ذلك، ليس هكذا، لا يُوجَد لعب، كما أقول دائماً لا تلعبوا مع الله، مع الله لا يُوجَد لعب، هذا الله – لا إله إلا هو -، ليس أباك، ليس أمك، ليس شيخك، وليس أستاذك، هذا رب العالمين – لا إله إلا هو -، مُختلِف تماماً عن كل شيئ، علينا ألا نُخادِع أنفسنا، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۩، نفتري أشياء ثم نُخدَع بها ونُصدِّق، ونعيش هكذا خارج دائرة الدين، ونرى أنفسنا أننا مُتديِّنون، ونقول سنُكفِّر، لا تُوجَد كفارة، لا تُوجَد كفارة! هذه اليمين الغموس لا كفارة لها.

لذلك انظروا إلى هذا الأثر مثلاً عن جُبير بن مُطعِم – رضيَ الله عنه وأرضاه، الصحابي الجليل المعروف، ابن مُطعِم بن عدي الذي مات كافراً، المُهِم هذا جُبير بن مُطعِم -، جُبير يقول افتديت يميني مرةً بعشرة آلاف، رضيَ الله عنه، عجيب! كيف هذا؟ كيف افتديت يميني؟ كانت هناك قضية فيها نزاع وفيها خصومة، وطُلِب إليه اليمين، لا تُوجَد بيّنة، إذن يُوجَد يمين، فقال لا، اليمين لا، لا أحلف بالله وما إلى ذلك، ثم قال ورب الكعبة لو حلفت لكنت صادقاً، وإنما هو تعظيم لربي، ولذلك دفعت عشرة آلاف، لا نعرف عشرة آلاف دينار أو عشرة آلاف درهم، لم يقل، لكن هذه عشرة آلاف، حتى لو هذه عشرة آلاف درهم فضي هذا مبلغ طائل يا حبيبي، عشرة آلاف هذه، بعض العلماء يقول يكفيني في السنة اثنا عشر درهماً، لكل شهر درهم، وهذا عشرة آلاف دفعها مرة واحدة، وقد تكون عشرة آلاف دينار، لئلا يحلف، قال لا، لا أحلف، ثم قال ورب الكعبة لو أقسمت لكنت صادقاً، وإنما هو تعظيم لربي، الله أجل من أن أحلف باسمه في كل شيئ، حتى وأنا مُحِق، الله أكبر!

قال أبو عبد الله الشافعي إن صحابياً آخر افتدى يمينه مرةً بكم؟ بسبعين ألفاً، هذا عشرة آلاف، صحابي آخر افتدى بسبعين ألفاً، يقول افتديت يميني بهذا، هؤلاء مُؤمِنون، هؤلاء حقاً يتحرَّكون ويعبدون، ينامون ويستيقظون وهم يرون الله قبل كل شيئ ومع كل شيئ وفوق كل شيئ، نعم! قال يا عبد – في مُخاطَبات الإمام العارف بالله العراقي محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري – ليس بيني وبينك بين، هذا إذا عرفت مَن هو الله حقاً، مَن هو الله؟ هذا هو، ليس بينه وبينك لو عرفته بين، يا عبد ليس بيني وبينك بين، يا عبد ليس بيني وبينك أنت، يا عبد إن كففت عن السُكر بالسوى أريتك نفسي، اترك السوى، اترك كل شيئ عداني، أتجل لك أنا، ستراني، أنا! لكن لا بهذه العين، بالبصيرة، بالروح، بالنفس الطاهرة المُطهَّرة، اللهم أعطنا من ذلك وحلنا به يا رب العالمين، قال يا عبد لولا صمودي ما صمدت، لولا دوامي ما دُمت، افهم مَن أنت.

أنا أرى الآتي في هذا المنطق المحروم الضحل الفقير جداً يا إخواني في فهم الدين، أرى أنه يتعاطى على أن العلاقة بين ذاتين مُستقِلتين تقريباً تماماً وإن تكن إحدى هاتين الذاتين أعلى وأقدر وأعلم وأكبر وأجل وأعظم، لكن هما ذاتان مُستقِلتان، وهذا باطل، لا والله، لا والله! لسنا ذوات بإزاء ذات الله – لا إله إلا هو -، انتبهوا، لسنا كذلك، حاشا لله، أبداً أبداً! قال هذه ذات وهذا ذات، ونُريد أن نخدمها هذه الذات، نخدمها – قال – بالعبادات، هي أرادت هذا، طلب شيئاً فنحن نفعله له، لا! ليس هكذا يا مسكين، يا مسكين انظر إلى النفري وإلى ما قاله، قال لولا صمودي ما صمدت، لولا دوامي ما دُمت، لولاي ما كنت، مَن أنت؟ ما أنت يا أيها الظل؟ ما أنت أيها الوهم؟ ما أنت يا مَن لا يعرف أنت؟ هل تعرف ما أنت؟ لا أحد يستطيع أن يقول أعرف أنا، أعرف نفسي، ولا واحد! ونسأل الله أن يكون ما يبدو لنا يوم القيامة خيراً – بإذن الله تبارك وتعالى -، وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ۩، شيئ مُخيف، لا تعرف أنت ذاتك! 

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ۩، لست أنت فقط، بل الكون كله – هذا السحيق الطويل العريض العميق المُخيف البعيد -، هذا الكون ممسوك بلُطف الله ومدده المُتصِل، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۩، لو انقطع مدده لُحيظة تفنى من فورك، تلج إلى العدم من فورك، من ساعتك، من لحظتك، في أقل من نفس! وتُعامِل ربك على أنك ذات في مُقابِل ذات إذن وتقول إنك ذات صغيرة وهو ذات عظيمة؟ ليس هكذا، ليس هكذا بالمرة، يجب أن تُطيل الفكرة، يجب أن تُطيل الفكر دائماً في هاته المواضيع، وذلك حين تنام، حين تصحو، حين تحلم، حين تتخيَّل، حين تطمح، وحين تُفكِّر، يقول النفري – قدَّس الله سره الكريم، رحمة الله تعالى عليه – كُن لي – كُن لي وتجرَّد لي – أكن لك حين تنام، وأكن لك حين تستيقظ، وأكن لك حين تموت، وأكن لك حين تُبعَث، وأكن لك حين تُنشَر، أنا ! كما كنت لي، كُن لي، لا تنسني، لا تكونن سطوة شيئ على ضميرك قبل وأعظم من خطوة الله، انتبه! لا يُوجَد شيئ كهذا، لا يُوجَد! لا يُوجَد شيئ في العالم وفي الكون كله جدير بأن يكون أسطا على ضميرك من سطوة إيمانك بالله – تبارك وتعالى -، انتبه! وصدِّقني أعظم ما يسطو على ضمائر الناس حاجاتهم هم أنفسهم، حاجاتهم النفسي الصغيرة، الرغبة في التشفي، الرغبة في الانتقام، الرغبة في التكافؤ، هو عاملني هكذا وأنا سأُريه كيف تكون المُعامَلة، مسكين أنت، مسكين! أإلى اليوم وجهك إلى العباد أنت؟ وهل كل اهتمامك بالعباد – ماذا قالوا وماذا فعلوا وكيف عاملوا وكيف كذا – أصلاً ؟ ما هذا؟ اجعل وجهك لله، وقل على العباد – كل العباد – السلام، السلام عليكم، كل العباد، هكذا!

يجب أن نُعيد النظر في إيماننا، في طريقة فهمنا لهذا الإيمان، أعتقد هذا هو الذي يُفسِّر لنا أن صاحب اليمين المصبورة أو اليمين الغموس له كل هذا الوعيد من الله – تبارك وتعالى -، دون السارق الذي يسرق المال، السارق سارق لأنه ضعيف، لأنه عاصٍ فاسق، لكنه لم يحلف باسم الله.

أنا في حياتي اختبرت مرةً رجلاً تخاصم مع رجل في سرقة، سرقة مال طائل، وكنا طلّاباً حينها، كنا طلّاباً في الجامعة، وأدركت من وجه المُتهَم أنه فعلاً مُتلبِّس، من وجه الرجل ظهر هذا، هو أخطأ وزلت به القدم، فقال أنا ما سرقت، وألح! قال له الآخر يا رجل اتق الله وما إلى ذلك، فقال ما سرقت، فقال له انتهى، تحلف على كتاب الله، فقال لا، لا أحلف، على المُصحَف لا أحلف، يُوجَد إيمان! أرأيتم؟ قال له تحلف المُصحَف، باللُغة العامية يقولون تحلف المُصحَف، هناك عندنا – أي في بلاد الشام – يقولون تحلف المُصحَف، قال له تحلف المُصحَف، فقال لا، لا أحلف المُصحَف، فهكذا! وجعل المسكين يتراجع، وبعد ذلك سالت دموعه، فقلنا له انتهى يا أخي، غفر الله لك، وكانت هناك تسوية بعد ذلك، أي تسوية حقوقية، منعه تقواه!

عبد الله بن مسعود في صحيح مُسلِم والبخاري وأصحاب السُنن إلا النسائي جلس مرة هكذا بين جماعة من أتباعه وإخوانه، يقول لهم قال – صلى الله عليه وآله وسلم – مَن حلف على يمين يقتطع حق أخيه لقيَ الله يوم القيامة وهو عليه غضبان، فريع الناس، فجاء الأشعث بن قيس وقال بماذا حدَّثكم أبو عبد الرحمن؟ قالوا حدَّثنا بكذا وكذا، يقول كذا وكذا، وهذا شيئ مُخيف، يمين هذه، انتهى! فقال صدق أبو عبد الرحمن، لقد اختصمت إلى رسول الله أنا ورجل في أرض، فقلت يا رسول الله أرضي، هذه أرضي، قد غصبني إياها هذا الرجل، وهو يزرعها، فقال الرجل يا رسول الله هي أرضي، ورثتها عن أبي، وأنا أزرعها، رجل مُتبجِّح هكذا، بجح! قال هي أرضي، ورثتها عن أبي، وهذا كذب، قال فقال لي النبي شاهداك أو يمينه، لم يقل شاهديك، أي ائت بشاهديك، قال شاهداك، أي أين شاهداك؟ أو شاهداك يشهدان، ولذلك هي على الرفع، قال شاهداك أو يمينه، قلت يا رسول الله ليس لدي شاهد، ليس عندي شاهد، لا تُوجَد بيّنة، بالنسبة إلى البيّنة ليس هناك بيّنة، قال يمينه، يحلف! قال – صلى الله عليه وآله وسلم – في الحديث الصحيح المشهور عن ابن عباس مرفوعاً لو يُعطى الناس بأيمانهم لادّعى قومٌ أموال قوم ودماءهم ولكن البيّنة على المُدّعي واليمين على المُنكِر، وفي رواية البيّنة على مّن ادّعى – شاهدان، هذه بيّنة – واليمين على المُدّعى عليه، واليمين على مَن أنكر، قاعدة هذه، علماً بأنها كانت موجودة في الجاهلية وهي موجودة في الإسلام، قلت يا رسول الله ليس لي من شاهد، ليس عندي بيّنة، ليس عندي أي شاهد، لكن هذه أرضي وهذا معروف، قال إذن يحلف، قلت يا رسول الله إذن تضيع أرضي، تضيع أرضي! الرجل يحلف، قالوا للكذّاب احلف قال جاءك الفرج، هذا أسهل شيئ عنده، هناك مَن يظن أن هذه مسألة سهلة، لكن هي أصعب شيئ، أصعب شيئ! فقال – صلى الله عليه وسلم – مَن حلف على يمين ليقتطع حق أخيه المُسلِم لقيَ الله يوم القيامة وهو عليه غضبان، في رواية كانت نفس الحكاية هذه بين رجلين، أحدهما حضرمي والآخر كندي، وفي حديث أبي موسى – في هذه الحكاية المشهورة بين الحضرمي والكندي – حدث نفس الشيئ واختصم الرجلان في أرض، قال أبو موسى قال – صلى الله عليه وسلم – الآتي، تهيأ الكندي ليحلف، الحضرمي هو المُدّعي، الكندي المُدّعى عليه، وكان سارقاً فعلاً، أي كان مُغتصِباً للأرض، فذهب وتهيأ ليحلف، ربما لابد أن يتوضأ أو أن يجلس بطريقة مُعيَّنة ثم يحلف أمام الناس، أي هذا ليس أي كلام، له هيئة مُعيَّنة، فتهيَّأ لهذا، ذهب هذا الرجل وتهيَّأ ليحلف، فقال النبي إن حلف على باطل – والعياذ بالله – ليلقين الله يوم القيامة وهو عليه غضبان، غضب إلهي لا تقوم له السماوات والأرض، إذا غضب الرب فلن تقوم له السماوات والأرض، ولا محمد ولا موسى ولا عيسى ولا حملة العرش، ولا أحد!

في حديث الشفاعة في الصحيحين حين يُراد من الأنبياء أن يشفعوا عند رب العالمين يتأخَّرون، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، والكل يتأخَّر، لماذا؟ يقولون إن ربكم غضب اليوم غضبة لا يقوم لها شيئ، مَن يُكلِّمه؟ مَن يتكلَّم؟ الكل يتراجع، حتى الأنبياء! غضب هنا، فكيف بك وأنت لست كإبراهيم أو موسى؟ أنت عبد الله المسكين، ستلقى الله هو عليك غضبان، ماذا تفعل يا مسكين؟ ولا تُوجَد أيمان، ولا يُوجَد (حلفان) كما في الدنيا، هذه طريقة المُنافِقين، فَيَحْلِفُونَ لَهُ – يحلفون لله عز وجل – كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ۩، هم يحلفون لكم – والعياذ بالله -، هذا لم يعد موجوداً، انتهى!

المُهِم قال أبو موسى الأشعري فلما سمع الرجل بذلك – أي الكندي – ورع، وقال هي أرضه يا رسول الله، فضوح الدنيا ولا فضوح الآخرة، يأتيك الشيطان ويقول لك لا، هذه فضيحة، كيف هذا وأنت دكتور؟ كيف هذا وأنت شيخ؟ كيف هذا وأنت معروف بين الناس؟ فضيحة! ماذا سيقولون عن أهلك وعن أولادك؟ لا يا حبيبي، مليون فضوح في الدنيا ولا غضب الله في الآخرة، فلتذهب الدنيا ومَن فيها، سأجلس في بيتي إلى أن أموت ولا أُغضِب الله، هذا الإيمان لو هناك إيمان، انتبهوا! هذا الإيمان.

لذلك كانوا يفتدون أيمانهم وهم صادقون، فرضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، هذا هو الخوف الحقيقي منا لله، فالقضية ليست قضية أموال وعشرين درهماً ومُقابِل السرقة، لا! القضية قضية امتحان الإيمان، ماذا يُساوي الله عندك؟ يقول أحد الحُكماء وللأسف هو مسيحي – هذا ليس مُسلِماً – الآتي، تعرفون مَن هو؟ حدَّثتكم عن قبل أسابيع، توماس مور Thomas More، الفيلسوف الإنساني، الــ Humanist هذا، ليس رجل دين وإن كرَّسته الكنيسة الكاثوليكية قبل عقود فقط قدّيساً، صار عندهم Saint، قالوا إنه Saint، أي قدّيس، وقد حدَّثتكم عنه هذا، هو الذي قال له أحدهم لابد أن تشهد الشهادة الباطلة هذه طلباً للرفقة، فقال له تعساً، قال له اللعنة، قال له غداً نموت، تذهب أنت يا صاحبي إلى الجنة لأنك اتبعت قناعاتك، ويُصار بي إلى الجحيم لأنني خالفت ضميري، فهل ستأتي معي لمُجرَّد الصُحبة؟ هل ستُصاحِبي في جهنم؟ قال له، كان عظيماً هذا، أي توماس مور Thomas More.

هذا فقد رأسه في النهاية، كان أعظم شخصية بعد هنري الثامن Henry VIII، أعظم شخصية بعده في بريطانيا، لم يُرِد أن يُنافِق بكلمة، هي كانت كلمة، فقط توقيع، وكل الناس وقعت، البرلمان وقع، رجال الدين كلهم وقعوا، كل الدنيا وقعت، إلا هو، كان عنده ضمير صاحٍ، ولم يكن رجل دين، قال له أحد رجال الدين – أكبر رجال الدين – يا رجل أنت بمثل هذا الضمير كان حرياً بك أن تكون رجل دين، قال له مثلك؟ لا، انظر إلى الجواب، انتبه! هذا يعني أن هناك على ما يبدو رجال دين كثيرين بلا ضمير، وأن هناك ذوي ضمائر وليسوا من رجال الدين، وهذا صحيح دائماً، دائماً صحيح وهو في كل الأمم، حتى في الإسلام، انتبه! قال له مثلك؟ أي رجل دين مثلك؟ لا، أنا أبقى هكذا، أنا علماني وهذا خيرٌ لي، لكن عندي ضمير، عندي ضمير!

فقد رأسه، قُصِلت، ضُرِب بالساطور، قالت له ابنته – وهي مثله عالمة علمانية – يا أبتِ أقسم، هل يطلب منك الرب أن تُفقِدنا ذاتك وحياتك من أجل قسم؟ قال لها يا بُنية، ما تعلَّمته – وسأختم بهذا، وهو شيئ عجيب، يا ليت يفهم هذا المُسلِم، وهذا مسيحي علماني، وهو Humanist، قال لابنته الآتي – أن الإنسان حين يقف ليُقسِم باسم مجد الله – لا إله إلا هو – إنما يضع نفسه كالماء بين أصابعه، هكذا! اختبار قاسٍ، لو انفرج شيئ من أصابعه ضاعت ذاته ولن تعود إليه إلى الأبد، الله أكبر! حقيقةً – لا أكذب عليكم – هذه الجُملة هي التي بعثتني على هذه الخُطبة، قلت يا ويحنا ونحن مُسلِمون، إن لم يكن لدينا مثل هذا الفهم ومثل هذا التعمق ومثل هذا الغور الروحي في فهم ديننا فيا ويحنا ويا ويلنا، وهل تصدق علينا تُهمة بعض الآخرين من غير المُسلِمين، أن المُسلِمين شكليون وطقوسيون وشعائريون، وليس عندهم تعمق روحاني؟ أخشى هذا أن يكون صادقاً على بعض المُسلِمين، إلا أنه يصدق على أكثر من ذلك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                  (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

جاء أعرابي وسأل النبي، يا رسول الله ما هي الكبائر؟ قال الإشراك بالله، قال ثم أي؟ قال اليمين الغموس، تحلف بالله كاذباً لتأخذ حقاً ليس لك، قال العلّامة المُحدِّث العظيم عبد العظيم المُنذري (زكي الدين)، قال سُميت اليمين الغموس غموساً لأنها تغمس صاحبها في الدنيا في الإثم، وتغمسه في الآخرة في نار جهنم.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اهدِنا واهدِ بنا يا رب العالمين، اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك، وارزقنا عملاً بكتابك واتباعاً لسُنة نبيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً -.

اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.

اللهم إنا نسألك ونضرع إليك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(6/3/2009)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: