إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ۩ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ۩ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ۩ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

ذُكِر في سبب نزول هذه الآية الكريمة – الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩ – أن عبد الرحمن بن عوف – وكان ماله ثمانية آلاف – جاء بنصف ماله وجعله بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، فقال بعضهم – أي بعض المُنافِقين الموسومين في هذه الآيات الكريمة – ما أعظم رياؤه! إنه يُرائي، يتصدَّق بنصف ماله رياءً، ثم جاء رجل من الأنصار، من فقراء المُسلِمين، فتصَّدق بنصف صُبرة، والصُبرة هي الكومة من الطعام، يُجعَل بعضه فوق بعض بلا كيل ولا وزن، يُقال إنها صُبرة، جاء الرجل وتصدَّق بنصف صُبرة من تمر، من تمره! فقالوا إن الله لغني عن هذا، غني عن هذا وعن صدقته.

وفي صحيح مُسلِم من حديث أبي مسعود الأنصاري – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال أُمِرنا بالصدقة، فكنا نُحامِل – وفي رواية على ظهورنا، ومعنى نُحامِل أي نحمل الأثقال والأحمال على ظهورنا، بأُجرة لنتصدَّق، إلى هذه الدرجة! يُحامِلون حتى يتصدَّقون، قال فكنا نُحامِل ، وفي رواية على ظهورنا، أي فنتصدَّق -، فجاء رجل بمال كثير، فتصدَّق به، فقال بعض القوم ما فعل هذا إلا رياء، وجاء رجل آخر فتصدَّق بصاع، أي بأربعة أمداد من طعام، أي أقل من اثنين كيلو جرام، بصاع! فقالوا إن الله لغني عن صدقة هذا، فأنزل الله هذه الآية الكريمة.

أيها الإخوة:

اعتدنا أن نتناول هذه الآيات وهذا الصنف من الناس الموسوم بالمُنافِقين – والعياذ بالله من النفاق، ظاهره وباطنه – من زوايا مخصوصة، وفي الحقيقة القرآن يفتح آفاقاً أوسع بكثير، لتناول هذا النمط من السلوك، وهذه النماذج من الشخصيات، وهي موجودة في كل مُجتمَع، لا يخلو مُجتمَع منها.

طبعاً إذا كان هذا القول وصل إلينا الآن في القرن الخامس عشر الهجري فبلا شك أنه بلغ المُتصدِّق، عبد الرحمن بن عوف سمع هذا الكلام، الرجل الغني المُتصدِّق سمع هذا الكلام، أأسمعه أنا وتسمعونه أنتم وهم لم يسمعوه؟ قطعاً سمعوه!

ماذا يُريد هؤلاء؟ ماذا يُريد أمثال هؤلاء وهم موجودون في كل زمان؟ نسأل الله أن يشفيهم وأن يُعافيهم وألا يُكثِّر من أمثالهم، لأنهم مرضى، هؤلاء مرضى، يحتاجون إلى علاج حقيقي، وربما يحتاجون إلى تعاطف ورحمة أيضاً، ليس إلى سخط ونقمة فقط، يحتاجون إلى هذا أيضاً، على كل حال ماذا يُريد هؤلاء؟ يُريدون تحطيم الآخرين، وبلا شك هم يُساهِمون وينجحون في أغلب الأحيان في تحطيمهم، كل واحد فينا تحطَّم نسبياً وتهشَّش جُزئياً في حياته بكلمات ومواقف ونظرات وردود أفعال من أمثال هؤلاء الناس المُتمرِسين الأساتيذ، إنهم أساتيذ – أساتذة كما نقول أو أساتيذ – في فن تحطيم معنويات الناس، هل إلى هذه الدرجة نحن أيضاً ضعاف؟ طبعاً، الإنسان ضعيف، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩.

أُريد هنا أن أهتبل هذه الفُرصة لكي أقول هذه الكلمة، وأحسب أنها يُمكِن أن تكون صحيحة – إن شاء الله – في كل الأحوال، سرٌ كبير من أسرار الإنجاز والنجاح والتوفيق في الحياة على المُستوى الفردي والمُستوى المجموعي أن يُدرِك الإنسان حقيقة ضعفه، أعرف أنني ضعيف، وأعرف أنك أيضاً ضعيف، ليس هناك استثناء، الكل ضعيف، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ۩… جنس الإنسان، حتى الرسل والأنبياء أحياناً كان يتخونهم شيئ من يأس، ولذلك يقولون مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ۩، الرسول نفسه يقول هذا، مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ۩، يتخونهم شيئ من تردد، إلى متى؟ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ۩، هذا ضعف الإنسان، الإنسان ليس إلهاً يمتلك الزمان الأبدي، الله الأبد في قبضته، لذلك لا يعجل، مُمكِن أن يُؤجِّل الإنسان حتى مليون سنة، لا تُوجَد مُشكِلة! لكن بعد ذلك سيأخذه وسيُحاسِبه، لأن الأبد في مُلكه، لا إله إلا هو! نحن الزمان ليس في مُلكنا، أعمارنا قصيرة، قدراتنا محدودة، نطاقنا العقلي، الوجداني، والاحتمالي محدود، نطاق صبرنا محدود، لأننا بشر، وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ۩.

الذي يُكابِر ويقول لا، أنا لست الضعيف، لا شيئ يُحطِّمني، هذه أكبر نقاط ضعفه، أنه لا يُدرِك حقيقة ضعفه، لا يُريد أن يعترف بها ويُكابِر، ومثل هذا يُمكِن – مُرشَّح المسكين – أن يتحطَّم مرة واحدة، في النُقطة الحرجة بضربة بسيطة جداً جداً، التي تقسم ظهور البُعران وليس ظهور البشر أو بني آدم، يُمكِن أن يُقسَم ظهره بضربة بسيطة جداً جداً جداً، ويُصبِح عبرة إن كان هناك مَن يعتبر، لا! لابد أن أُدرِك أنني ضعيف، ضعيف وتلتبس علىّ حتى مشاعري، تختلط لدي مشاعر الحزن بالإحباط باليأس بالقلق بالاكتئاب، وهي مشاعر مُختلِفة إلى حد بعيد، تختلط علىّ ولا أعرف شيئاً، ولذلك أفقد الخيط كما يُقال، أفقد السبيل، أفقد الضوء أحياناً في آخر النفق، لأنني لا أستطيع أن أُميِّز، أحياناً يتعالى بعضنا على حزنه، ممنوع أن أحزن حتى لا أكون مُكتئباً، وهذا غير صحيح، الحزن غير الاكتئاب، الحزن شعور إنساني نبيل، الذي لا يستشعر الحزن هو إنسان فاقد شطر إنسانيته، خمسين فائة من إنسانيته.

ذاك الشخص الذي كان من جُملة أصدقائك، وفي آخر لقاء أسأت إليه، كسرت بخاطره كما نقول، أسمعته كلمة جارحة جداً، صفَّرت وجهه أمام الناس، لم تُلبه فيما طلب، ثم ذهب وجاءك النبأ بعد أسبوع أنه تُوفي، إن لم تشعر بالحزن وبالخسارة وبالفقد وبالكارثية وبالألم المُمض الذي لا زال يعتصرك فأنت فاقد لخمسين في المائة من إنسانيتك، لابد أن تحزن هنا بشكل مُتواصِل للأسف الشديد، لماذا؟ لأن هذا الموقف موقف فواتي، ومعنى موقف فواتي لا يُمكِن استدراكه، فوات! انتهى الأمر، أسأت إلى إنسان حيث كان يُمكِن أن تُحسِن إليه، وحيث كان هو ينتظر أن تُحسِن إليه، وأن تُلبيه وأن تُجامِله بكلمة أو بجُملة، ما الذي ينقصك لو جاملته، لو شجعته، ولو شددت على يديه؟ لماذا لم تفعل؟ تقول لأنني مريض على ما يبدو، مريض نفسياً، مريض وجدانياً، مريض في شخصيتي، لست كما يجب، وهذا صحيح، لست كما يجب، لكن عليك أن تُدرِك هذا تماماً، وعليك ألا يتكرَّر منك هذا، لأن هذا الموقف الفواتي قد يتكرَّر كثيراً، سيبقى مُؤثِّراً جداً.

فالحزن موقف نبيل جداً، لكن الحزن قد يبعث على اقتناص السعادة والبهجة في الحياة، الحزن! انتبهوا إلى هذا، أما الاكتئاب فهو الذي يقعد بنا عن كل شيئ، الاكتئاب يحطمنا، يشل قدرنا وإمكاناتتنا، الاكئتاب! الاكتئاب شيئ غير الحزن، يُمكِن أن أحزن ولست مُكتئباً، انتبهوا إلى هذا، أنا أحزن لأنني إنسان، هذا شيئ طبيعي، هذه نُقطة حتى من نقاط ضعفنا، لا نستطيع أن نُميِّز بين مشاعرنا، ولذلك لا نستطيع أن نُترجِم وأن نُعرِب عن رد الفعل الطبيعي السليم الإنساني إزاء الأحداث والمواقف السارة والمُسيئة المُحزِنة، لا نستطيع، لأن المشاعر مُلتبِسة، وهذا من ضعفنا.

إذن نُقطة قوة أن أُدرِك أنني ضعيف، أنا ضعيف، أحتاج إلى التشجيع، انتبهوا! أحتاج إلى كلمات الإطراء، أحتاج إلى المديح، يُعلِّموننا عكس هذا، ونحن نُعلِّم هذا أحياناً للأسف، لكن نُدرِك في أعماقنا أن هناك نقصاً وخطأً وتزويراً وغلطاً – بلُغة علمائنا الكلاسيكيين غلطاً – على الطبيعة البشرية، هناك غلط على الطبيعة البشرية، النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الذي عرَّف المُؤمِن في أحد الأحاديث المقبولة، قال المُؤمِن الذي تسره حسنته وتسوءه سيئته، قد يقول أحدهم لي هذا في النطاق الشخصي، لكن هذا غير صحيح، في حديث آخر قيل يا رسول الله المُؤمِن يعمل الحسنة فيتحدَّث الناس بها فيفرح، ويعمل السيئة فيتحدَّث الناس بها فيحزن، فقال في الأولى تلك عاجل بُشرى المُؤمِن، عمل حسنةً وأطلق الله ألسنة الخلق بالثناء عليه، ما أحسنه! ما أعظم خُلقه! ما أفضله! ما أتقاه لله! ما أورعه! ما ألطفه! وفرح بهذا، طبيعي أن يفرح، لا تقل لي لا، لا أفرح، أنا أستاء من هذا، أنت بشر، وأنت ضعيف، وأنت تحتاج إلى هذا، انتبه! أنت تحتاج إلى التشجيع، إلى الإطراء، وإلى المديح، لكن ليس إلى قاسم الظهر، لا تحتاج أن تُصبِح نبياً أو ملكاً بالكذب والزيف.

ومن هنا أيضاً نشعر بالمحبة وبالقُرب وبالدفء وبالحميمية إزاء نفر مُعيَّن أو مُعيَّنين  من الناس، إزاء طائفة من الناس، تُحسِن أيضاً ليس الابتسام والضحك وخفة الروح – وهذا مطلوب تماماً، في الطبيعة البشرية مركوز أيضاً -، وإنما تُحسِن أيضاً السخرية من نفسها، نشعر بهذا إزاء أولئك الذين يسخرون من أنفسهم، لماذا؟ لماذا نُعجَب بالذين يسخرون من أنفسهم – لكن ليس بشكل هزلي كوميدياني – أحياناً؟ ويكونون من كبراء الناس، أغنياء، علماء، أصحاب سُلطان، وأصحاب دين وتقوى، ولذلك الظرف – اسمه الظرف، أي التظرف واللطافة – في أهل الدين الحقيقيين أكثر منهم في غيرهم، لا تجد ولياً صالحاً أو عالماً تقياً ورعاً إلا وهو من أهل الظرف، النبي كان كذلك، العُرفاء من أصحابه كانوا كذلك كما قلت لكم، أليس كذلك؟

الإمام عليّ – عليه السلام – كان يُتهَم بأنه تلعابة، يمزح كثيراً ويتظرَّف، وهو العارف الذي لا يُشَق له غُبار، ولا يُطار له في مطار، طبعاً! والنبي كان هكذا، وكان يمزح مزحاً ربما الآن بلُغتنا يُعتبَر تعدياً للحدود، يمزح ويذكر حتى أشياء جنسية أحياناً، النبي يفعل هذا وهو رسول الله.

إذن الذين يسخرون أحياناً من أنفسهم – أحياناً – لماذا نشعر بالمودة معهم؟ لماذا نشعر بأنهم أسوياء أكثر منا، بأنهم أقوياء، ولا نشعر بأنهم ضعفاء؟ في نظري لسببين، السبب الأول نشعر إزاءهم بالحقيقة، هذه الحقيقة! تسخر من نفسك لأنك لست كاملاً، مَن لا يسخر مِن نفسه ويُريد أن يأخذ الأمور دائماً بجد ويُشعِرنا أنه كامل نعلم أنه يُؤدي دوراً تمثيلياً، لست الكامل، أي الرجال المُهذَّب؟ لماذا تزعم أنك كامل؟ نعلم أنك ضعيف، ونعلم أنك هش، ونعلم أنك تتداعى أحياناً، ونعلم أنك تُخلِد أحياناً إلى معصية وإلى صغيرة وإلى ذنب صغير، نعلم هذا! ونعلم أنك تفطر وتضعف، لماذا تُحِب أن تُصوِّر نفسك ذلك الكامل الذي لا يُنال منه والذي لا يتراجع؟ نشعر بالزيف، وإزاء الزيف لا نرتاح.

في لقاء قريب مع الفنّان العالمي الكبير عمر الشريف – طبعاً سيستغرب بعض الناس من هذا، أيضاً هذا مما أُتيحه لنفسي، أن أقتبس كل مَن أشعر بأنني تعلَّمت منه، بغض النظر شرقياً كان أو غربياً، مُلحِداً كان أو مُؤمِناً، هذه حرية العقل، قال أحدهم أُؤمِن بنوع واحد من الحرية، وهو حرية العقل، والصدق أيضاً، الحكمة ضالة المُؤمِن، نقولها نظرياً ونجفوها عملياً، لماذا؟ كل مَن استفدت منه حرفاً اذكره، اذكر هذا – سألوه سؤالاً، والرجل لطيف جداً وعجيب، أنا شعرت براحة حين استمعت إلى أشطار هذا اللقاء أكثر بكثير – وسأقول هذه الكلمة وستُسجَّل على المنبر – مما لو تابعت لقاءً مع عالم كبير أو ربما مُفكِّر أو فيلسوف، لماذا؟ الرجل كان على سجيته، كان طبيعياً تماماً، لم يزعم أنه عبقري، ولا أنه أوحد المُمثِّلين، بل قال أنا لست أدري لماذا يعتبرونني مُمثِّلاً عظيماً، وكل هذا الرزق الذي يأتيني أنا مُتأكِّد – قال – أنه يأتيني لأنني محظوظ، الله – تبارك وتعالى – خلقني وجعلني بشراً محظوظاً، لكن أنا في الحقيقة لا أدري لماذا يعطونني النقود – أي الفلوس – على التمثيل، ثمثيل ماذا؟ قال، هذا شيئ بسيط، وهذا دور تافه جداً، وفي الحقيقة هو فنّان عظيم بلا شك سواء أدرك هذا أو لم يُدرِكه، ربما عدم إدراكه له وعدم انتفاخه بالكثير الذي عنده سر عبقريته، سر نبوغ هذا الرجل!

على كل حال هذا الفنّان الكبير في هذا اللقاء تحدَّث عن نفسه – كما قلت – بطبيعية، على سجيته، لم يدّع الكمال، لم يُشِر إليه ولا من طرف خفي، بالعكس! قال لك أنا ذاك الشخص البسيط جداً، فقط محظوظ، الله أراد أن أكون محظوظاً، وتمنى على الله ألا يُعذِّبه في الآخرة، فقلت اللهم آمين، والرجل علَّم ابنه وحفيده القرآن واللُغة العربية في لندن.

نعود أيها الإخوة، الذين يسخرون من أنفسهم لماذا نرتاح إليهم؟ لأننا نشعر بأنهم ليسوا مُزيِّفين وليسوا مُزيَّفين، إنهم حقيقيون، هذا إنسان حقيقي، فسُئل عمر الشريف هل تُتابِع الأفلام؟ قال لا، من سنوات طويلة لا أُتابِع الأفلام، قيل له ولا أفلامك؟ قال أصلاً لا أُتابِعها أفلامي، قال أنا لا أحضر أفلامي – غير مُعجَب بها هو -، ولا أحضر حتى أي أفلام أُخرى، قيل له لماذا؟ قال لأنني لا أتمتع بها، فقيل له لماذا؟ قال أعرف كيف يصنعونها، مُزيَّفة! أنا أُدرِك الزيف من خلال ما يُقدَّم على أنه حقيقة مُمتِعة، نحن يغرنا الزيف ويستحيل الزيف إلى حقائق، وننفعل بشكل غير عادي مع الأفلام، هو فنّان وصانع لهذا الفن، من صنعة هذا الفن قال لا، أنا أعرف كيف يصنعونه، أعرف كيف يصنعون هذه اللقطة الدرامية التي تُبكيك، لكن بالنسبة له هي لا تُحرِّك فيه شيئاً، يُدرِك الزيف، الذي يُدرِك الزيف لا يتأثَّر، وحين نُدرِك أن الذين أمامنا مُزيَّفون لن نتأثَّر بهم، أليس كذلك؟ لن تأثَّر بهم مهما حاولوا أن يستكرهونا على مشاعر لا نجدها في أنفسنا، لسنا نجد هذه المشاعر، لماذا نكذب؟

طبعاً أكثر الناس يتأثَّرون بطريقة جمعية، أي بطريقة مجموعية، يرى أحدهم الناس يبكون فيقول لنفسه هذا عيب، هل أنت المُنافِق الوحيد؟ ويبدأ يتباكى، حتى يُقال إنه من القوم وهو معهم، لا يا أخي! إذا لم تجد بكاء فلا تبك، قال الفيلسوف الفرنسي العظيم هنري برجسون Henri Bergson دخل رجل على أبرشية، وجدهم يبكون وينتحبون، قال فلم يبك، فسأله رجل لماذا لا تبكي؟ قال لست من أهل هذه الأبرشية، الناس لا يبكون لما يُقال ولما يفهمون، يبكون لأنهم يبكون، لأن جماعتهم يبكون، هكذ! هكذا يفقد الإنسان استقلاليته، يفقد فرديته، ويفقد إعجازيته.

على كل منا أن يتعلَّم أنه مُعجِزة، أنا مُعجِزة، أنتَ مُعجِزة، هي مُعجِزة، هو مُعجِزة، هذا الطفل مُعجِزة، كل واحد من ستة ملايير من البشر هو مُعجِزة، خلقه الله خلقاً إعجازياً، عالماً لا يتكرَّر، بفردية لم يُنسَج على منوالها، ليس لها نظير، فلماذا أُصبِح قطيعياً – أعيش مع القطيع، بعقلية قطيع، إذا ضحكوا أضحك، إذا بكوا أبكي، وإذا اعتقدوا بشيئ أعتقده -؟ كل شيئ هكذا! طبعاً هذا الذي مزَّق البشرية، وأدخلها في حروب وويلات بالمُناسَبة، ومن الصعب – هذا من أصعب الصعب – أن تتخلى عن هذا للأسف الشديد، هكذا تكون المُجتمَعات، وهكذا تنشأ الجماعات، بهذه العقلية التي تجور على فردية الإنسان واستقلاله.

نعود أيها الإخوة، إذن لسببين، نحن نشعر بالدفء وبالتعاطف وبقوة الذين يسخرون حتى من أنفسهم، مُدرِكين ضعفهم، ونحن إلى الآن نتكلَّم عن إدراك الإنسان لضعفه والضعف في الآخرين، نُحِب هؤلاء ونشعر بقوتهم، لأنهم حقيقيون إذن، ليسوا مُزيَّفين، إذن هؤلاء خطيرون أيضاً وشرفاء، لماذا؟ هذا يوم يدّعي شيئاً تكون دعواه حقيقية طبعاً، حين يُبرِز شيئاً في شخصيته يكون هذا حقيقياً تماماً، ليس من أهل الزيف هذا، وأيضاً لمرونتهم، الذي يسخر من نفسه ما الذي حمله على وبعثه على السخرية من نفسه؟ هل تعرفون ما هو؟ خرج من الإطار المحبوك، ومن إطار الأنا، ونظر من زاوية جديدة، فوجد أن في شخصه ما يُضحِك، وجد أن في أفعاله ما يبعث على الرثاء، وجد أن في قضيته كلها ما يُثير السخرية أحياناً.

يقف الفاروق عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذا فاروق الإسلام بغض النظر عن أي شيئ، انتبهوا! عمر يبقى عظيماً بكل المعاني، لأنه شخص مُؤثِّر، وشخص كبير، وله آثار عظيمة، بعض الناس يُناقِش في أشياء أُخرى، لكن عمر يبقى عمر شئنا أو أبينا، الكل يعترف بهذا – ويقول هِيْ يا ابن الخطاب، أي ما أسعدك يا ابن الخطاب! كنت تُدعى عُميراً، ثم دُعيت عُمرَ، والآن تُدعى أمير المُؤمِنين، يسخر من نفسه، أمام الناس! مَن أنت؟ مَن أنت يا عمر؟ أتظن أنك شيئ كبير؟ إني لأذكرك وأنت ترعى إبلاً للخطاب في وادٍ كذا بمكة على قراريط، لماذا هذه السخرية المُرة من النفس؟ لماذا؟ إنها شارة القوة، مثل هؤلاء مملوءون ثقةً بالنفس، مملوءون قوةً، هؤلاء أشخاص حقيقيون، غير مُزيِّفين وغير مُزيَّفين، وشرفاء، فعلاِ شرفاء، ولهم تأثير في الآخرين، إنهم يُعدون الآخرين – هذه عدوى – بقوتهم وثقتهم وصدقيتهم.

إذن ببساطة البداية علينا أن نُدرِك ضعفنا وأن نُدرِك ضعف الآخرين، أليس مَن أمامك هذا رئيس؟ أليس هذا رئيس جمهورية؟ أنا أقول لك يحتاج منك الآتي حين لا تكون قلماً، حين لا تكون – أكرمكم الله – حذاءً، كأحذية السُلطة وأقلام السُلطة، حين تكون مُفكِّراً كبيراً أو صحافياً شرفياً أو عالم دين عظيماً صادقاً ورعاً – وعندك صدقية بالعلم حتى أيضاً، ليس باللحية وإنما بالعلم، يُوجَد علم وتُوجَد إمامة – أو فيلسوف مُحترَم، إلى آخره! هذا الرئيس وأنت واحد من رعيته التي تُعَد بالملايين يحتاج منك أن تقول له أيها الرئيس أشكر لك وأُقدِّر لك فعلتك الخيّرة في ميدان كذا وكذا وكذا، بارك الله فيك، زادك الله، يشعر بالدعم هذا، هل هو يحتاج دعمك؟ يحتاج، أنا أُؤكِّد لك، يحتاج! لكن ليس دعم الأقلام المُنافِقين، هؤلاء هو يسخر منهم، يحتقرهم، ولا يكاد يُلقي أُذناً إلى ما يقولون، فقط هو يأخذ الدراهم وينثرها عليهم، وهم ينصرفون غير مطرودين، يعرفهم! كذّابون وآكلون على كل الموائد، لكن هذا الفيلسوف المُحترَم أو هذا الصحافي صاحب المصداقية أو هذا الورع يزن كل ما يقول ويعلم أنه مسؤول عما يقول بين يدي هذا الحاكم المُسلَّط الكبير وقد يكون الجبّار، مثل هذا الحاكم ضعيف، يحتاج إلى هذه الكلمات من هؤلاء بالذات، ما رأيكم؟ يجب أن نُدرِك هذا.

ولذلك حتى هذا باب للدعوة، أن يكون لدينا علماء أجلاء كبار موزونون ولهم وزن وثقل ولهم رصانة وصدقية حقيقية، وأن يُثنوا أحياناً على الكبار، يقول الفيلسوف الإنجليزي الكبير توماس كارليل Thomas Carlyle الذي أثنى على رسول الله ثناءً عاطراً مجيداً طويلاً – شكر الله سعيه – في كتابه الأبطال وعبادة البطولة – كتب فصلاً من أروع ما يكون، في وقت لم تكن أوروبا مُتهيئة أصلاً أن تسمع كلمة إطراء واحدة عن رسول الله أو لرسول الله، كتب عبارة عجيبة جداً – ألا يشعر الرجل الكبير بسمو نفسه حين يُطري مَن هم أجل منه؟ بلى، الإنسان الكبير يعرف كيف يتواضع، ليس فقط كيف يتواضع وإنما أيضاً كيف يكون صادقاً، ويُلاحِظ التميز فيمَن سبقوه، ويُلاحِظ الرفعة فيمَن علوا عليه درجة أو درجات، يعترف بهذا، وهو اعتراف بتميز الآخرين في الوقت الذي يُدرِك فيه ضعفه وتأخره ولو نسبياً، هذا عظيم، هذا سيعلو، وسيرتقي باستمرار، انتبهوا! أما الجحود والكنود ومُغالَطة الحقائق ومُغالَطة الأشياء وكأنني أنا البداية وأنا النهاية وكل الصيد في جوف الفرا فليس كذلك، انتبهوا! هذا الشخص مُحطَّم، هذا الشخص هش، ليس عنده شيئ، يستحيل هذا أن يُؤثِّر حتى في أولاده تأثيراً إيجابياً، ما رأيكم؟

ولذلك سنجعل الكلام على مقامين سريعين، المقام الأول هام لكي نتعامل بإيجابية، الخُطبة اليوم عن الإيجابية والسلبية، انتبهوا! وقلت قبل أسابيع كلمة أود أن أستعيرها في هذا المقام إن شاء الله، قلت من السهل أن نكشف سريعاً عن أننا نعيش وتمضي الحياة بقدر قليل جداً جداً جداً من المعلومات في شتى الفنون والعلوم، وأحياناً بلا معلومات أصلاً، قلت أيامها ماذا تعرف أنت في الجيولوجيا Geology؟ ربما ولا شيئ، ماذا يعرف هو في علم الفارماكولوجي Pharmacology – علم الصيدلة -؟ ولا شيئ، ماذا أعرف أنا في علم مُقاوَمة المواد في الهندسة؟ ولا شيئ، ماذا يعرف ذاك عن الفلسفة؟ ولا شيئ، كل ما نعرفه معلومات محدودة جداً جداً جداً، كلٌ منا يعرفها في تخصصه فقط، آلاف التخصصات الأُخرى لا يدري عنها شيئاً، العجيب والمُدهِش أن الحياة تمضي، إذن بماذا تمضي الحياة؟ تمضي بفن آخر غير هذه العلوم، غير هذه الفنون حقيقةً، بفن التواصل والتعاطي مع الآخرين، بنوع من الذكاء الذي ميَّز الله به بني آدم، وللأسف ميَّز به الحيوانات أحياناً أكثر من الإنسان.

الإنسان حين لا يُحسِن استغلال هذا الذكاء تُصبِح الحيوانات أذكى منه، ليس ذكاء الحساب والرياضيات – الــ Mathematics – ووضع النظريات العلمية والفلسفية وما إلى ذلك، لا! إنه الذكاء الاجتماعي، أي الــ Social intelligence، الذكاء الاجتماعي هو معيار ومسبار وميزان لقياس ماذا؟ لقياس مدى نجاحنا في التعاطي مع الآخرين والاندماج بالآخرين.

أنا أقول لكم هذا سر النجاح في الدنيا، وسر الظفر والفوز في الآخرة، سر الصحة والمُعافاة الريانة، وسر العمر الطويل المديد، دينياً وعلمياً! وهذا شيئ عجيب، لا أستطيع الآن لضيق المقام ان أقتبس من التجارب العلمية المُوثَّقة في جامعات حول العالم، خاصة في الولايات المُتحِدة الأمريكية وفي ستوكهولم بالسويد، تجارب علمية – وهذه التجارب أصبحت الآن بالعشرات – كلها تُؤكِّد وتشترك في تقرير حقيقة واحدة، الأشخاص الأكثر ذكاءً اجتماعياً – الذين يُحسِنون التواصل مع الآخرين، المُتعاوِنون، المُحسِنون، المُبتسِمون، أصحاب الهشاشة والبشاشة، الإيجابيون وليسوا السلبيين، الذين ينظرون إلى الجانب المملوء من الحياة وليس إلى الجانب الفارغ من الكوب كما يقولون، إلى آخره – أطول أعماراً، دراسات استمرت ثلاثين سنة تقول هم أطول أعماراً، هذا أولاً، ثانياً هم أطيب حياةً وأصح صحةً وأعفى عافيةً – إن جاز التعبير -.

من المُؤشِّرات الجيدة الطيبة للقلب أن مُعدَّل ضربات القلب يتفاوت عبر الأربع والعشرين ساعة، ليس واحداً! كل إنسان صحيح مُعافى مُعدَّل ضربات قلبه يتفاوت في الأربع والعشرين ساعة، الأشخاص الذين لا يتفاوت مُعدَّل ضربات قلبهم يُسجِّلون حالات وفيات سريعة كثيرة بأمراض القلب، عجيب! هذا معروف في علم  الكارديولوجيا Cardiology أو في علم القلب، لكن انتبهوا، وُجِد في تجربة في ستوكهولم بالسويد أن الأشخاص الذين يتمتعون بشبكة علاقات اجتماعية دافئة وصادقة ومُتنوِّعة – ليس فقط مع المشايخ، مثل شيخ مع المشايخ، لا! المشايخ هؤلاء أهل مهنة، هذه أصبحت مهنة، أصبحت المشيخة مهنة، هذه مهنة! وليس التاجر مع التجّار أو الأستاذ مع الأساتيذ، لا! مع أهل المهنة، مع الجيران، مع الأصدقاء، مع الأقارب والأرحام، ومع معارف عامة، إلى آخره، تعلمون هذا، يُوجَد تنوع حقيقي، هذا تنوع الإنسان، انفتاح الإنسان على المُجتمَع، على الناس، على الآخرين، وعلى التجارب البشرية – يُسجِّلون تنوعاً جذّاباً في مُعدَّل ضربات قلبهم في الأربع والعشرين ساعة، وهم أطول أعماراً، وواضح وبدهي أنهم ماذا؟ أنهم أكثر سعادة من غيرهم، عجيب!

قال – صلى الله عليه وسلم – مَن أحب أن يُؤخَّر له في عمره – هل تُحِب أن يطول عمرك؟ – ويُبسَط له في رزقه فليصل رحمه، تواصل، لا تقعد وحدك، تواصل وكُن إيجابياً، لابد من الإيجابية، التقط الشيئ الجميل في الآخرين، تستطيع هذا، انتبه! كلما أردت أن تقع على القبيح وجدته أمامك، عادي! كلما أردت العكس وجدته أمامك، هل تُريد أن تبحث الخيانة؟ موجودة وبكثرة، هل تُريد أن تبحث عن الدعارة والعُهر؟ موجود بكثرة فظيعة، هل تُريد أن تبحث عن البُخل والشُح والحرص والأنانية؟ موجود بكثرة كاثرة، وهلم جرا! هل تُريد أن تبحث عن الوفاء؟ موجود بكثر كاثرة، هل تُريد أن تبحث عن الأمانة أو عن النُبل أو عن البطولة أو عن السخاء أو عن العبقرية؟ موجود بكثرة كاثرة، ما السر؟ لأن معرض الحياة أكثر غنىً مما نظن، الحياة أغنى بكثير مما نحسب، المشهد الرباني لا يُمكِن أن يُختزَل وأن يُبتسَر بتعميمات، تبقى الطبيعة والمشهد هذا الإلهي يبقى دائماً يطرح عليك استثناءات تُخرِّب عليك تعميمك، لأنه أغنى من كل التعميمات، أغنى من كل الأطر.

انظر إلى عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه -، أتى رجل من أهل الحجاز كان في الشام في زيارة استمرت لفترة طويلة نسبياً، فقال له كيف وجدتهم؟ قال والله في الحقيقة عندهم سيئات كثيرة وسلبيات والناس كذا وكذا، إلى آخره! قال صدقت، ثم جاء رجل آخر كان في الشام، فقال له كيف وجدتهم؟ قال ما شاء الله، لا يفترون عن ذكر الله، أهل عبادة، أهل مساجد، أهل قيام، أهل تجهد، أهل صدقات وإحسان، أرحم الناس بالضعيف والأرمل والمسكين، إلى آخره، إلى آخره! قال صدقت، أحدهم قال له يا عمر ما هذا؟ انظر إلى عمر، حكيم عمر وفيلسوف، حكيم حقيقي! قال له هذا وجد ما أراد وهذا وجد ما أراد، ولذلك انتبه واحذر، هذه نصيحة خطيرة، أنا أُعطيك إياها الآن، حين تجد رجلاً يقول لك الناس كلهم دعّار، كلهم عهّار، النساء لا شرف لديهم، الرجال كذا وكذا، اعرف أنه عليه علامة استفهام كبيرة بمقدار رأسه وجسمه، أين تذهب أنت؟ تختلط بمَن أنت؟ تجلس مع مَن أنت؟ أنت خطير، ولا أُريد حتى أن أقترب منك، سأنصحك، إن تبدَّلت فأهلاً وسهلاً، وإلا فأنت خطير، أنت خطير، وقد  يُحوِجك هذا إلى الافتراء، لكي يصح لك نموذج التعميم، النموذج الخاص بك، أي الموديل – Model – هذا، يُمكِن أن تُدخِلني فيه أيضاً أنا بالافتراء والكذب كما يفعل هؤلاء.

انتبه، هذه القصة عن الفاروق عمر تُماثِلها وتُعادِلها قصة من حكمة الشرق الأدنى، رائعة جداً جداً، لا تقل عنها روعةً، طالبان روحانيان كانا يُنشِدان السمو الروحي عبر رياضة النفس والروح والبدن، فأرشدهم أو فأرشدهما – أقل الجمع اثنان، لا بأس – مُرشِدهما إلى أن يقضيا ليالي ذوات عدد في قرى مُختلِفة مع أُناس مُختلِفين، وأن يُطبِّقوا – هذه Praxis – بعض ما تعلَّموه، فجاء أحدهما – وهما اثنان – وقضى ليلة بطولها في قرية، ثم تحرَّك باكراً قاصداً مُيمماً وجهه شطر القرية الأُخرى التي تبعد ثلاثين ميلاً، وفي الطريق مر على حكيم مُتزهِّد، فقير كما يقولون، باللُغة الهندية يقولون الفقير، حكيم صوفي جالس وحده هكذا، فأمطر الشاب طالب الحكمة والرقي الروحي والكمال النفسي، أمطر الحكيم الوابل من الأسئلة، عن مغزى الحياة ومغزى الكون ومغزى الإنسان وسر الحياة والماوراء والغيب والشهادة والقيم والأخلاق والعادات، كل شيئ! سأله عن كل شيئ، وكان الحكيم صبوراً جداً، وأجابه عن كل شيئ باقتضاب وبحكمة أيضاً، لأنه حكيم أجاب بكلمات يفهمها مَن يفهمها.

ثم قال له أيها الحكيم أسالك مسألةً يسيرةً، أنا مُيمم شطر القرية الفلانية، وأخذت وسلكت هذا الطريق، هل هذا الطريق صحيح؟ قال نعم، هو صحيح، قال له أهل القرية الفلانية التي أقصدها هل هم طيبون كرماء ووداعون؟ قال له قبل أن أُجيبك كيف وجدت أهل القرية التي كنت فيها؟ قال من أحسن الناس، إنهم كرماء وادعون وطيبون، لقد آثروني على أنفسهم بعشائهم اليسير المنزور وعلى أولادهم، ما أطيب عشرتهم! ما أحسن! وتمنوا علىّ لو أقضي ليالي أُخرى، ولكنني أبيت ذلك، قال أبشر، أهل القرية الأُخرى أيضاً طيبون مثل هؤلاء وأطيب، وستنعم بهم وينعمون بك، على بركة الله!

الطالب الثاني أيضاً قضى ليلةً في القرية، ووافى في مسيره الحكيم، نفس الشيئ! وأمطره أيضاً بوابل من الأسئلة، ولكن من زوايا مُختلِفة، وأجابه الحكيم، وسأله نفس السؤال، قال له كيف وجدت أهل القرية؟ قال والله وجدتهم سيئين جداً، أهل شُح وبُخل، لم يُقابِلوني بترحاب غامر ولا بحنان، وحتى منعوني قرى الضيف، وبت طاوياً، ولذلك تركتهم مُبكِّراً، قال أبشر، أهل القرية الأُخرى أسوأ منهم وألأم منهم، سوف تجدهم أسوأ بدرجات، فاذهب إليهم!

شكسبير Shakespeare بالغ طبعاً بطريقة شعرية، وهي طريقة سفسطائية عندية، السفسطائية العندية هذه نسبية، أول مَن أسَّس للنسبية الكاملة للأخلاق هي السفسطائية العندية، قال شكسبير Shakespeare – طبعاً هو شاعر، لا نلوم عليه، كاتب مسرحي، وعقل كبير ضخم – ليس هناك شيئ حسن، لا! هذه سفسطائية، هذه سفسطة، هناك ما هو حسن – وليس هناك شيئ سيء، نحن مَن يجعل الأشياء كذلك بنظرتنا.

أُريد أن أُصحِّح حتى لا نقع في السفسطة والنسبية أو حتى في النسبوية الأخلاقية، لا! هناك ما هو حسن وهناك ما هو سيء، يُمكِن أن نجعل الحسن أو نحن الذين نجعل الحسن أكثر حُسناً والقبيح أكثر قُبحاً بنظرتنا إليه.

عبد الله بن عباس – رضوان الله تعالى عنهما – لما فقد بصره جاء الناس يُعزونه، حبر الأمة، ترجمان القرآن، وموسوعة العلم، فقال شعراً، رضوان الله عليه، قال:

إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما                    ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ. 

قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ                وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ.

يقول أحد الحكماء الكبار ليست الشطارة – باللُغة العامية – أو ليست الحذاقة وليست البطولة أن تستثمر في مكاسبك، حتى البُله يفعلون هذا أحياناً، فالحكيم ليس هكذا فعلاً كما قال، أحياناً تجد شخصاً مليونيراً وهو أبله، من المُمكِن أن تكون مليونيراً وأنت أبله، لكن ليس مُمكِناً أن تكون شخصاً اجتماعياً ناجحاً وأنت أبله، لا تكون من أذكى الناس وأنت هكذا، هذا الذكاء الاجتماعي، هذا اسمه الذكاء الاجتماعي، ليس ذكاء الرياضيات – الــ Mathematics – والحساب، لا! انتبه، هذا الذكاء الاجتماعي، وهذا أيضاً الذكاء الديني، أنا – والله – ما قرأت شيئاً في هذا الباب – والله هذا ليس من باب الدعاوى – إلا وجدت الدين سبق إليه، لكن كيف نفهم الدين؟ كيف نفهم النص؟ كيف نستثمره؟ للأسف الشديد حين نُحوِّله إلى طقوس وشعائر يفقد دلالته.

نرجع، النبي – عليه السلام – أُتيَ برجل كان يشرب الخمر ويُجلَد دائماً ويُضرَب بالنعال، فقام رجل ولعنه، قال لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به إلى رسول الله! فقال النبي لا تلعنه، أنت لاحظت الجانب السلبي، أول شيئ هو إنسان، هو إنسان وله احترامه، لأنه إنسان مُكرَّم، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩، ثانياً هو مسلِم، ثم إنه أخوك بعد ذلك في البلد وفي الوطن، أليس كذلك؟ هذه الأُخوة أتت بعد أُخوة الدين، لاحظ أيضاً إيجابيات أكثر، النبي لاحظ الإيجابي، هذا لاحظ السلبي، أنه يسكر دائماً، لكن هناك إيجابيات أُخرى، النبي قال لا تلعنه، فوالله ما علمته إلا أنه يُحِب الله ورسوله، الله أكبر يا رسول الله! كيف لاحظت الإيجابية هذه؟ قال أنا لاحظتها أنا، تُوجَد إيجابية فيه، هذا سكيّر، لكنه يُحِب الله والرسول، فهنيئاً له، هذا سيكون مع رسول الله، المرء مع مَن أحب يوم القيامة.

انظر إلى الإيجابية في أخيك المُسلِم، انظر إلى الإيجابية في الناس كلها يا أخي، في الكافر حتى انظر إلى الإيجابية وإلى الحكمة التي عنده، خُذه منه وتعلَّمها، لكن هذا لا يُوجَد عندنا، بالعكس! نحن لسنا كذلك أبداً، هذا الشخص السلبي أو هذا الشخص الذي ليس عنده ذكاء اجتماعي، قد تكون فيك ربما تسع وتسعون إيجابية، فيرى فيك عيباً واحداً، يُهدِر تسع وتسعين إيجابية من أجل ماذا؟ من أجل عيب واحد، يقول لك لا، تعبان هذا، هذا ليس جيداً، هذا عمل كذا، وهذا قال كذا، يا رجل اتق الله!

عيسى – عليه السلام – مر مع جماعة من حواريه – أكرمكم الله – على كلب مفطس – كلب مُنتِن، ميتة! مُنتفِخ هكذا ورائحته نتنة وما إلى ذلك -، فقال أحدهم أف، ما أسوأ ريحه! ما كذا وكذا! قال ما أحسن بياض أسنانه! أسنانه ظاهرة، فقال ما أحسنها! يا روح الله أتقول هذا لكلب؟ قال لا أُحِب أن أُعوِّد نفسي إلا النطق بالخير، قال أنا شخص إيجابي، أنا ألتقط الإيجابي، وهو الذي قال لا تُقاوِموا الشر، عيسى قال لا تُقاوِموا الشر، لماذا إذن؟ هل نتركه يعيش؟ لا، عنده نظرية، نظرية فلسفية دينية إلهية، افعلوا الخير، يزل الشر، هذا هو! خيرٌ من أن تلعن الظلام ألف مرة أن تفعل ماذا؟ أن تُشعِل شمعة واحدة، أليس كذلك؟ لم نستفد شيئاً من اللعن، الظلام لم يتبدَّل بمُجرَّد لعنه، لكن إيقاد شمعة واحدة يُحدِث أثراً.

تسمعون بالأم تريزا Mother Teresa، هذه المُحسِنة الكبيرة المسيحية، هذه أخذت نوبل Nobel في الإحسان وما إلى ذلك، سألوها ماذا تفعلين أنتِ؟ تذهبين إلى الهند وجنوب إفريقيا وحدك، وأنت عجوز شمطاء كبيرة ضعيفة، تعتنين بعشرة أو بعشرين أو بخمسة، ما هذا؟ ماذا يفعل هذا في بحر من ملايير الفقراء – عندنا مليارات من الفقراء -؟ قالت أعلم أن الفقر والمُعاناة بحر، لكن جُهدي هذا يُقلِّل قليلاً ولو بمقدار قطرة، وأنا راضية بهذا، شيئ عجيب هذا! 

هذه إيجابية الإنسان، لست إلهاً، لا يُناط بي أن أُغيِّر الكون، مَن أنا؟ لا يُناط بكَ ولا بها أن تُغيِّر الأمة الإسلامية، هذا كلام فارغ، هذا تفكير حالم، تفكير أُناس مفصومين حتى، لا! ولكن يُناط بي أن أُغيِّر ما أستطيع تغييره، وسأفعل هذا، والله سيُجزِل لي العطاء يوم القيامة، أليس كذلك؟

النبي قال رأيت رجلاً يتقلَّب في الجنة – يضع رجلاً على رجل وهو سعيد في الجنة -، لماذا يا رسول الله؟ قال بتنحيته غُصن شوك من طريق الناس، قد يعثر فيه طفل وربما يجرحه، قال دعونا نقوم بإزالته من هنا ونحاه، فالنبي قال ماذا؟ رأيته يتقلَّب في الدنيا، بسبب هذا! فقط بسبب هذا، من المُمكِن أن صلاته لم تُقبَل، من المُمكِن أن حجاته هذه التي أخذ بها لقب الحاج وكان يغضب حين لا يقولون له يا حاج – كان يغضب، وحين يقولون له يا حاج ينبسط – لم تُقبَل، من المُمكِن أن كل هذه لم تُقبَل، هل أنت ذهبت لكي تأخذ لقب حاج؟ وكذلك صلاتك أمام الناس أو أي مسألة جماعية طقوسية، لكن هذه فعلها بدافع إنساني حقيقي، الله يُحِب هذا يا أخي، انفع عيال الله، دخل الجنة في غصن شوك يا جماعة.

امرأة أحبها الله وأدخلها الجنة لأنها قسمت تمرة كانت لها على ابنتيها الفقيرتين، أكلا تمرتيهما، وقالت حتى هذه لهما أيضاً، النبي قال هذه في الجنة، انتهى الأمر، يا سلام! إلى هذه الدرجة؟ هذه ابنتي، حتى لو كانت هذه ابنتك، أنت إنسان، النبي قال والشاةَ – والشاةَ منصوبة على ماذا؟ على التنازل – إن رحمتها رحمك الله، حين تذهب لكي تذبحها وتُريد أن تأكل لحمها وتبلعها ارحمها في الذبح، والله سوف يرحمك، ارحم كل شيئ، ارحموا مَن في الأرض يرحمك مَن في السماء، كُن إيجابياً، تعاط بإيجابية، ولا تحقر.

في أمريكا يا جماعة في الثالث والثمانين – أي قبل رُبع قرن تقريباً – كانت هناك حملة شهيرة جداً اسمها حملة تريفور Trevor، مَن تريفور Trevor هذا؟ هل هو فيلسوف كبير وما إلى ذلك؟ لا، هذا طفل، كان عمره ثلاث عشرة سنة، كان راكباً مع أبويه في السيارة في فيلادلفيا، وفي الطريق هكذا رمق رجلاً من هؤلاء الذين يُسمونهم الــ Homeless أو الــ Obdachlos، أي إنه إنسان مُتشرِّد ومُتسكِّع، ليس عنده بيت المسكين، ويلبس الأثمال وطالت لحيته وشعور رأسه، في حالة زرية، يُرثى لها! وكان الجو مطيراً، مطر وبرد والرجل يتوحوح، فرآه الطفل وتأثَّر، لما ذهبوا إلى البيت وجده أبوه محزوناً، قال يا تريفور Trevor ما بك؟ قال أشعر بحزن، أشعر بألم، قال من أجل ماذا؟ ماذا حصل؟ قال من أجل هذا الرجل، لماذا ليس عنده بيت؟ فشرح له أبوه، قال هل يُمكِن أن تقلني بالسيارة إلى المدينة مرة أُخرى وتسمح لي أن أتصدَّق عليه بوسادتي وبطانيتي الصفراء؟ قال حسناً تفعل، أبوه قال هذا، هذا خير، افعل هذا، انظر إلى هؤلاء، هؤلاء بشر وأُناس عندهم رحمة، هذان ربما قطعا ثلاثين ميلاً أو عشرين ميلاً، لا أعرف كم بالضبط، لكنه أخذه بالسيارة وتصدَّق على هذا، فجعل هذا يشعر بالامتنان، ظل يُعبِّر عن امتنانه ويدعو له، إلى آخره!

وبعد فترة يسيرة جداً قلَّده الصبيان والغلمان من لداته وأترابه، اتسعت الحملة، ألف ومائة مُتطوِّع، ثلاث شاحنات ضخمات تنقل المعونات، وبيت كبير يؤوي هؤلاء، وجاء التلفزيون Television وعمل لقاء مع تريفور Trevor الصغير – عمره ثلاث عشرة سنة، انظر إلى أي درجة بلغت الإيجابية، إيجابية! نحن سلبيون، نجلس دائماً، فقط نلعن الظلام، نلعن الشر، نلعن ولا نعمل شيئاً، لا! اعمل يا أخي، أقد شمعة -، فسألوه ما شعورك وقد اتسعت الحملة إلى النطاق الذي ترى؟ قال في الحقيقة لم أُفكِّر قط أن فعلتي يُمكِن أن تُصبِح حملة بهذه السعة، كل ما أردته أن أُحسِن في وقت ما إلى فقير ما، فقط! إحسان مُفرَد لشخص مُفرَد، وتوسَّعت بفضل الله تبارك وتعالى.

أنا أقول لك الآن الكلام الذي تسمعه ربما بعضه لا يروق لبعض الحاضرين، وربما بعضه يروق لبعضهم، ربما استمعت إلى جُملة واحدة فقلت هذه جُملة جيدة، قالها عدنان، أنا أحببت هذه الجُملة، فلا تكن سلبياً، خُذ هذه الجُملة وقلها لزوجتك، زوجتك ستقولها لصديقتها، صديقتها ستُسافِر غداً إلى لندن، ستقولها في لندن لواحدة، يُمكِن أن تُسافِر هذه الكلمة حول العالم، ما رأيك؟ كما قال شاعر أيضاً غربي كبير يُمكِن للبسمة أن تُسافِر حول العالم، وأنت خارج في الصباح لكي تفتح الجراج ابتسم، النبي قال لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً، ولو أن يلقى أخاه بوجه طلق، تبسَّم! ليس ضرورياً أن تُعطي مالاً، تبسَّم يا رجل، سعوا الناس بوجوهكم، تبسَّم! كُن دائماً هاشاً باشاً وتبسَّم، تبسَّم! لا يُوجَد ما يمنع ولن تخسر شيئاً، حين تفتح الجراج تبسَّم، سيراك شخص، وهذا الشخص قد يكون عاملاً في المطار، سيتبسَّم للزبون، سيُسافِر الزبون وستطير البسمة حول العالم، شيئ جميل جداً، ولك الفضل، ما رأيك؟ لك الفضل! مُمكِن هذه البسمة تحفظ أسرة من الدمار، والله العظيم! لأنك التقيت – مثلاً – وأنت مُسافِر مع عامل المطار هذا، هو ذهب ووصل إلى بيته، كانت زوجته تُريد الطلاق، وتنتظر على أحر من الجمر، دخل وهو يتبسَّم وقال لها أنتِ زوجتي العزيزة، أخذها بالأحضان وضحك وضحكت، فانتهى كل شيئ، أهذا ببسمتك أنت أمام الجراج؟ هذا ببسمتك أنت أمام الجراج.

إلى الدرجة هذه عالمنا عالم مُتشابِك وحيوي ومُتفاعِل وعالم سحري يا جماعة، الإيجابية الإيجابية الإيجابية، واتركوا السلبية، انظروا إلى الشيئ الجميل في الحياة، إذن أولاً يجب أن نكون إيجابيين إزاء أنفسنا، انظروا إلى هذه الكلمة العجيبة – والله أنا أخذت وقتاً وأنا أتأمَّل فيها، لم أفهمها في الأول، لا أكذب عليكم، لم أفهمها – لسنكا Seneca، الحكيم والخطيب الروماني العظيم سنكا Seneca هل تعرفون ماذا قال؟ لا يعدل العقل في عظمته حين يُملي فعل الخير إلا اعترافه بما فعل، ما الكلمة العجيبة هذه؟

قال العقل العظيم وبالتالي حامل هذا العقل – أي الإنسان العظيم – هو إنسان يُملي عليه عقله ووجدانه فعل الخير، ثم يُكافئه على ذلك بماذا؟ بالاعتراف، الحمد لله، أنا فعلت الخير، أنا فعلت هذا، وفعلت هذا لوجه الله، لم أفعله رياءً ولا لأصوات انتخابية ولا لدعايات ولا لكي يرد الناس علىّ الخير بالخير، فعلته لله، عبَّرت عن نفسي، استثمرت في شخصيتي أنا، أليس كذلك؟ كل فعل خير هو استثمار في الشخصية، أول مَن يلقى جزاء الخير هل تعرفون مَن هو؟ ليس الذي يتلقاه، الذي يُعطيه، اسمعوا هذه الآية العجيبة، سوف تتعجَّبون، مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ۩، كيف كنا نفهمها أو ما زلنا مُصِرين على أن نفهمها؟ من زاوية ماذا؟ الحسنات، هل سوف يكتب لي حسنات؟ سوف يكتب لك حسنات، لا تخف يا تاجر، تاجر أنت، تاجر! تُريد أن تنجح في التجارة، الله – تبارك وتعالى – سيُعطيك شيئاً مُباشَرةً، هل تعرف ما هو؟ أنه يسَّرك إلى فعل الخير، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۩، كونه يسَّرك لفعل الخير هذا يعني أنك إنسان خيّر، أنت إنسان عظيم، إنسان كريم بإذن الله، أليس كذلك؟ إنسان محبوب عند الله، كونك فعلت الخير معناه أنك خيّر، انتهى إذن، هذه أكبر مُكافأة، لذلك مُكافأة الخير هي فعله، وجزاء الشر هو ماذا؟ فعله، قال وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ۩، طبعاً! 

ولذلك قلت لكم ماذا يُريد هؤلاء؟ ماذا يُريدون؟ يُريدون تحطيمنا، الواحد منهم يُحِب أن يُحطِّمك، صحيح! ينجح كثيراً في تحطيمنا، لكن هل تعرف مَن أول المُتحطِّمين وأول الساقطين وأول الضحايا؟ والله العظيم هو نفسه، هو! هو نفسه مُحطَّم، الذي يود أن يُحطِّم الناس، يُعامِل الناس بسلبية، ويُذكِّر الناس بأخطائهم – أنا أقول لكم – هو أول المُتحطِّمين، ولن يُبدِع، وهو شخص غير مُبدِع، شخص جامد، هذا الشخص – واختبر كلامي هذا – أعطه نوعاً جديداً من الحلوى، لن يُجرِّبه، سوف يقول لا، لم أتعوَّده هذا، لا أُريد، قل له كُل هذه الملوخية، سيقول لك نعم نحن الملوخية يأكلونها عندنا في الشام على هيئة أوراق، لكن أنتم يا أهل فلسطين ومصر تأكلونها هكذا مهروسة، لا لن آكلها، هذا يُخوِّف، أي الشخص هذا، هذا جامد، شخص جامد، لا يُدرِك نفسه، لا يعي ذاته، لا يعي ماذا يفعل، لذلك نشعر نحن بالاغتياظ والحنق إزاء هؤلاء الناس، حين تقول له جرِّب هذه القطعة من الحلوى يقول لك لا أُجرِّب، ليس بسبب الحلوى أنا مُغتاظ وأنت، هل تعرف لماذا نحن مُغتاظون؟ لأن هذا نمط شخصية مُخيف، نمط جامد، لا يُحسِن المرونة والنظر إلى المسائل من زوايا جديدة، هذا يُخوِّف.

طبعاً أنا أعرف أن بعض الناس يقول لك نعم هذا مُمتاز، علينا أن نكون مرنين، وهو عينه على أن تكون مرناً بمعنى أن ترى الأمور من زاويته هو، وأقول له ماذا عنك أنت؟ كُن مرناً ورها من زاويتي أنا، ر الأمور من زاويتي أنا، أنت ما زلت جامداً، أنت ما زلت شخصاً جامداً، ستتحطَّم، الجامد يتحطَّم، لابد من المرونة والتعاطي من هذه الزوايا الأمور مع كل الأمور.

إذن إيجابية إزاء الذات أولاً، تنعكس مُباشَرةً إيجابية إزاء الآخرين، هناك تجربة لابد أن أذكرها لأنها مُؤثِّرة جداً، قام بها علماء النفس، أعطوا مجموعتين من طلّاب الجامعة كلمات لها علاقة بالفئات العُمرية، كالمُراهَقة، الشباب – مثلاً -، الكهولة، والشيخوخة، مجموعة منهم تلقت كلمات عن الشيخوخة، مثل الشيخوخة ما معناها؟ هي من سن كذا إلى سن كذا، ومعناها بياض الرأس، احدوداب الظهر، ظهور أمراض الكُليتين والقلب والأوعية وما إلى ذلك، الاكتئاب، عدم إدراك التقاط الحياة، تراجع الحواس، الشم وما إلى ذلك كله يتراجع، كله هكذا! وراقب علماء النفس هؤلاء الطلّاب، ومجموعة ثانية تلقت كلمات عن الشباب والقوة والحيوية والطاقة وما إلى ذلك، فلاحظوا أن مجموعة شباب الجامعة الذين تعاطوا مع الكلمات الكئيبة جداً هذه، وهم في الامتحان احدودبت ظهورهم – لا شعورياً، كلهم من غير أن يتفقوا – وانسلوا من القاعة، قالوا لكم كلهم كانوا مُنكِّسين رؤوسهم، وفي حالة سيئة جداً جداً، أجروا لهم اختباراً للذاكرة، ووجدوا أن الذاكرة تراجعت عندهم مُباشَرةً، في الاختبار الثاني كله تراجع! لماذا؟ تعاملوا مع كلمات سلبية، سيقول لي أحدكم أف، إذن ماذا عن الذي يسلك سلبياً؟ ماذا عن الذي يسلك بين الناس كإنسان شرير ومُنافِق وليس له أمان وليس موضع ثقة ولا يثق في أحد ويقول الناس كلهم هلكى – والنبي قال مَن قال هلك الناس فهو أهلكهم -، الناس كلهم مرضى، الناس كلهم غير جيدين والعياذ بالله، ابعد عنهم، واحترس منهم؟ أنا أقول لكم هذا شخص مُحطَّم، لا تنتظروا منه شيئاً، هذا يحتاج إلى علاج، المسكين هذا لابد أن نُعالِجه، لابد أن نُحاول نحن فعل هذا، هو ينتظر منا شيئاً، لابد أن نُحاوِل أن نُعالِجه يا جماعة.

فالإيجابية إذن، تعامل بإيجابية، قال لك إذا ضحكت أنت الجسم يُصدِّق أنك تضحك حقيقةً، ويُفرِز إندروفينات Endorphins وأشياء، وتبدأ المُعدَّلات ترتفع، مُعدَّلات المناعة – قال لك – ضد الأمراض النفسية والعضوية، وأنت جالس تمزح، تضحك هكذا عن كذب، اضحك عن كذب أيضاً، تصرَّف كما لو كنت إيجابياً، تصرَّف كما لو كنت كريماً، وأنت لست كريماً، أنت بخيل جداً، يُريد أحدهم مائة يورو، قل لعنة الله على المائة يورو، أعطها مرة واحدة هكذا، سوف تشعر بنشوة غير عادية، الله سماها العقبة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩، اقفزها، ما لك؟ أتخاف؟ اقفز العقبة هذه، ستقول غير مُتعوِّد أن أقفزها، هذه كبيرة، هذه مائة يورو، لكنها ليست كبيرة، اقفزها يا رجل مرة، اقفزها وسوف ترى النتيجة، سوف تتغلَّب على نفسك، سوف تشعور بشعور نبيل جداً جداً لم تتعوَّده من قبل، انظر إلى زاوية جديدة، يستحق أكثر من مائة يورو الفعل هذا، تاجر مع نفسك، أليس كذلك؟ يجب أن نُفكِّر بهذه العقلية.

أختم، أبراهام ماسلو Abraham Maslow في بحث له في علم النفس الإنساني أدهشني، يقول ماذا؟ يقول أنا طالعت تقارير الجمعية النفسية الأمريكية – الــ APA، أي The American Psychological Association -، وحين طالعت التقارير هذه – يقول – أذهلني الأمر، لكن أنا وصلت إلى تحليل لأول مرة، أدركت لماذا نحن علماء النفس في أمريكا لسنا مُبدِعين، كل الإبداع والإضافات في علم النفس جاءت من أوروبا، هورني Horney وإريك فروم Erich Fromm وأدلر Adler ويونج Jung وفرويد Freud وكل هؤلاء الجماعة، كلها من أوروبا! قال نحن مُجرَّد ببغاوات مُقلِّدة، هل تعرفون لماذا؟ موقف سلبي من الأبحاث العلمية نفسها، قال الــ APA أكثر ما تهتم به هو أن تقول استوفى البحث المعايير العلمية، التوثيق جيد، هذا صحيح، وانتبه حتى لا يكون وقع في خطأ، كلها منظورات سلبية للأشياء، قال هذا سر أننا لا نُبدِع.

كذلك أنت يا شخص حين ترى الحياة فقط وأنت تأخذ فقط موقفاً نقدياً منها ومن الناس، أنا أقول لك لن تُبدِع، لن تكون عندك المرونة والبهجة والقدرة والسيولة النفسية لكي تقدر على أن تُبدِع وتُضيف شيئاً جديداً، لذلك أنت مُمكِن تغرق في شبر ماء، هل تسمع بالمثل هذا؟ يُقال لك غرق في شبر ماء، مُمكِن تغرق في شبر ماء، مُشكِلة بسيطة مع ابنك المُراهِق أو زوجتك مُمكِن تُسبِّب خراب البيت، يهرب الولد أو تُطلَّق المرأة، لأنك شخص غير مُبدِع، لا تستطيع أن ترى الأمور من زوايا جديدة.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا وأن يُفهِّمنا هذه المرة في فن الحياة وفن العيش وفن التواصل، لكي نكون من المرحومين برحمته.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ارحمنا وارحم بنا، واهدنا واهد بنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

ربنا اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا وما جنينا على أنفسنا، اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالإحسان إحساناً، وبالإساءة غفراناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

اللهم ارحمنا في شهر رمضان، واغفر لنا ذنبنا كله في هذا الشهر الكريم، اللهم اعتق فيه رقابنا من نار جهنم، ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وقراباتنا ومشايخنا وأساتيذنا وكل مَن له حق علينا من نار جهنم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أنلنا فيه ليلة القدر، وأعظِم لنا فيها الأجر، برحمتك يا أرحم الراحمين، ولا تجعلنا من القانطين، فإنك عفو تُحِب العفو، فاعف عنا، يا عفو، يا كريم، يا غفور، يا رحيم، يا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(11/9/2009)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: