إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۩ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۩ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ۩ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۩ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

فيما أخرج الإمامان البخاري ومُسلِم في الصحيحين وغيرهما، من حديث عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أن هذه الآية الجليلة من سورة الأنعام لما نزلت؛ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۩، شق ذلك على الصحابة جداً، لأن ظاهرها أن الأمن والهداية لا يُنعَت بهما ولا يتحققان إلا لمَن لم يشب إيمانه شائبة ظلم، صغيراً كان هذا الظلم أو كبيراً، بحسب الظاهر! فحُق لهم أن يشق الأمر عليهم للغاية. فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إنه – أي الأمر – ليس كما تظنون. لا يجوز ولا يسوغ أن يُحمَل تأويل أو تفسير الآية على ما ذهبتم إليه، أو على ما ذهب إليه وهلكم. قال – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – بل هو كما قال لقمان لابنه، أو قال العبد الصالح؛ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۩.

إذن الظلم المقصود في هذه الآية هو الشرك. هذا مفهوم وواضح لمَن قرأ التفاسير، وهو الذي عليه ابن عباس ومُجاهِد وابن جبير وقتادة وأكثر المُفسِّرين في سائر الأزمان. لكن اللافت في هذه الآية الجليلة أن فيها إشارةً مُعجِبةً جداً، وهي أن الله – جل وعز – سمى الشرك بالله ظلماً، سمى الشرك بالله ظلماً! وهنا يثور سؤال؛ ما المقصود بهذا الظلم؟ أهو ظلم النفس، أم ما يعم ظلم النفس وغيره؟ واضح أنه ما يعم ظلم النفس وغيره. وهنا اللفتة المُعجِبة جداً في الآية الجليلة الكريمة؛ كأن الله – تبارك وتعالى – يقول ما لم يتحقَّق العباد بحقيقة التوحيد، فسينجر من هذا وجوه من وجوه الظلم والتظالم. سينشأ الظلم! هذه الآية حُق لها أن تكون آية مفتاحية وتأسيسية في فلسفة الأخلاق الإسلامية.

إخواني وأخواتي:

القرآن العظيم لم يُعن ولم يحتف ولم يحتفل كثيراً بحقيقة أن الله موجود، ولم يُؤكِّدها على أنها الحقيقة الأهم، وقد تكون الحقيقة الأكثر تأسيسة، لا شك! الحقيقة الأكثر تأسيسية هي حقيقة وجود الله – تبارك وتعالى -، أن الله موجود، القرآن لم يحتفل كثيراً بهذه الحقيقة، ولذلك لا تجدون في كتاب الله كثير أو كبير مُجادَلات حول هذه الحقيقة. لكن الذي جعله القرآن في الاعتبار الأول والمثابة الأسمق الأعلى: التوحيد. وليس وجود الله – تبارك وتعالى -، وإنما توحيد الله – تبارك وتعالى -.

وبحسب القرآن العظيم، فتوحيد الله – تبارك وتعالى -، لم يترك جنبة من جنبات الوجود، إلا طبعها بطابعه، كل حقائق الوجود! القرآن يُؤكِّد لنا أن هذا الوجود المادي، العلوي منه والسُفلي، مُنسجِم مُتسِق مع هذه الحقيقة، فما شيء في العوالم كلها، إلا وهو ساجد لله، مُسبِّح بحمده – لا إله إلا هو -، خاضع لأمره، غير خارج عن أمره. إذن توحَّد الكون، توحَّد الكون!

وكما نلفت باستمرار، وسمعتم هذا غير مرة، أن العلماء يطمحون باستمرار – أعني علماء الطبيعة – إلى الوصول إلى القانون المُوحِّد، المُعادَلة الوحيدة المُوحِّدة لكل ظاهرات الوجود. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على وحدة الصانع – لا إله إلا هو -، وإنه لكذلك. ولذلك؛ وفي كل شيء له آية، كل شيء على الله آية، وفي الله – تبارك وتعالى – آية، أي في مضمار الاستدلال عليه – لا إله إلا هو -.

الآن القضية قضية الإنسان، الإنسان أيضاً أمامه سبيلان، أمامه سمتان؛ إما أن يتوحَّد – ليس فقط مع الكون الخارجي، ومع عالم الطبيعة، وإنما يتوحَّد أيضاً على نفسه ومع نفسه، يلم شعثه، يجمع شمل نفسه -، وإما أن يتشظى ويتشعع. مُشكِلة الإنسان أنه كائن مُزدوَج، فيه لياقة وقدرة أن يُخالِف القانون الإلهي، أعني القانون الشرعي، وإن لم طبعاً يستطع أن يُخالِف قانونه القدري. ولذلك هو يدخل أيضاً مرةً أُخرى من بابة أن كل شيء خاضع لله، مُسلِّم له طَوْعًا وَكَرْهًا ۩. لكن لديه قدرة أن يُخالِف عن الأمر الشرعي، وبهذا يتشظى عن نفسه، يتباعد عن نفسه. لماذا يتباعد عن نفسه إخواني وأخواتي؟ لأن المرجعية النهائية للإنسان، في ذات الإنسان، هي ذلك العُنصر الإلهي فيه، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩. الأمر ليس طوع بنانك، الأمر ليس كما تشتهي وتُريد. أنت تُريد كإنسان مادي، كإنسان مُلحِد، كإنسان مُتشكِّك مُتشوِّش، أن تعتبر نفسك جُزءاً حقيقياً ونهائياً من أجزاء الطبيعة، ولا تستطيع. ووالله لو كنت كذلك، لانسجمت تماماً مع الطبيعة، ولسلكت كما يسلك أي حجر أو قطعة خشب أو أي حيوان بهيم، دون أن تشعر بأي مُنازَعة من نوع آخر، من نوع ميتافيزيقي، ولكنك باستمرار لا تفعل. والدليل على أنك لا تفعل الجانب الأخلاقي فيك، رغم كل مُحاوَلات الماديين والملاحدة واللادينيين، مهما اتسع الاطلاع عليها أو ضاق عند هذا أو ذاك من الناس، تفشل كل المُقارَبات المادية، أن تُؤسِّس الأخلاق البشرية على أساس من المادية الواحدية، أن كل ما هو هناك هو المادة وكفى. كلها فاشلة! حاولوا وفشلوا، أذكى الماديين، أذكى الماديين حاولوا وأرادوا أن يُبرهِنوا على أن كل صور الإيثار والغيرية، التي يتكشف عنها النُبلاء الأخلاقيون من البشر، من المُلحِدين قبل المُؤمِنين، وهذا الذي يهمهم، إنما يُمكِن أن تُفسَّر مصلحياً، وأن تُفسَّر حيويا، بقوانين حتى التطور، بقوانين التطور!

الذي نُجادِل فيه، وفعلناه أكثر من مرة – ولا نزال؛ لأننا ننحاز إلى الحقيقة التي تفرض نفسها علينا، وتُلقي بثقلها علينا جميعاً، على الرغم منا أيضاً مرةً أُخرى، فهذا الذي فعلناه ولا نزال ندأب في فعله إخواني وأخواتي – هو البرهنة على أن الأخلاق البشرية، التي يتكشف عنها مُلحِد ومُؤمِن ومُتشكِّك، صالح وطالح، عالم وجاهل، كبير وصغير، أحمر وأصفر وأسود وأسمر، كل هذه المنظومة الأخلاقية تتجاوز الحيوية، تتجاوز قانون الأحياء، وتتجاوز قانون الاجتماع، وتتجاوز قوانين السياسة، بل تتجاوز المصلحة الشخصية، انتهى! يُمكِن أن تأتي بألف ظاهرة، وتُفلِح في تفسيرها، على أنها تخدم مسألة حيوية، وهذا مفهوم، كما يفعل الماديون التطوريون، مفهوم، وأنت ستنجح إلى خطوات مُحدَّدة فقط، ثم تُخفِق إخفاقاً ذريعاً، وسنُثبِت هذا بسرعة. ويُمكِن أن تُثبِت أيضاً أن أشكال التعاون والإيثار والتراحم والتكافل بين البشر في المُجتمَع الواحد، تفرضها طبيعة الاجتماع، الهيئة الاجتماعية! إذا أرادت أن تُخدَم، فاخدم. إذا أردت أن يُحَك لك، فحُك لغيرك. أي Tit for tat كما يقولون، واحدة بواحدة! مفهوم، ويُمكِن أن تأتي بأمثلة كثيرة على هذا. ولكنك ستفشل فشلاً ذريعاً أمام ألوف، بل ملايين الحالات، التي يجد الإنسان فينا مُؤمِناً كان مرة أُخرى أو مُلحِداً نفسه، مُتوجِّهاً نازعاً، بل مُضطِراً مُندفِعاً، إلى أن يُؤثِر بشراً أو خلقاً ينتمي إلى دائرة حضارية مُختلِفة، إلى دين مُختلِف، إلى ثقافة مُختلِفة، إلى لُغة مُختلِفة، بل إلى أمة مُعادية، تُناصِبه العداء، وتُريد أن تجتثه من جذوره وتُبيد خضراءه، إلى أعدائه! وقد يُضحي نفسه أو شيئاً من نفسه وبدنه، في سبيل إنقاذ طفل العدو هذا، أو هذه العجوز للعدو، أو هذا الشيخ الكبير الواهن للعدو. فسِّر هذا! هنا لا يُفلِح أي مادي أن يُفسِّر، لا قوانين الاجتماع، ولا قوانين البيولوجيا Biology، ولا قوانين السياسة، ولا المصلحة الشخصية، ولا أي شيء. والكل يجد نفسه في هذا الموقف بطريقة أو أُخرى.

بعض المُلحِدين الشرسين القُساة – إن جاز التعبير، القُساة، أي الــ Cruel – يُحِبون أن يُثبِتوا أننا مُنسجِمون تماماً مع نموذجنا المادي الإلحادي، نحن لا نُحِب ولا نسمح للرحمة والإيثار وهذه المعاني الضعيفة، التي ابتدعها الضعفاء من البشر، وأرادوا على طريقة نيتشه Nietzsche أن يخدعوا بها الأقوياء والأغنياء والمُتنفِّذين، قالوا لن نسمح لشيء منها، أن يتطرق إلى ساحة نفوسنا. ونقول لهم الآتي؛ لن نقول كذبتم، نُريد أن نكون مُتأدبين، نقول لهم أخطأتم، تجدون أنفسكم المرة تلو المرة مُضطَرين أن تكونوا لُطفاء ودعاء، مع آبائكم وأمهاتكم وأنسبائكم وأرحامكم وأقربائكم وأصدقائكم. وهنا طبعاً يُسقَط في أيديهم، ويُكشَفون أمام أنفسهم، يُفتضَحون، ويرون على المكشوف، عياناً بياناً، جهاراً نهاراً كما يُقال، أنهم لا يعيشون بنموذج واحد.

إذن يستحيل أن تعيش بهذا النموذج المادي ومُقتضياته، يستحيل! أنت تُريد أن تسلك – أو يُريد أن يسلك هذا البعيد – كحيوان، وحش! ولا تستطيع، أو كذئب شرس، لا يعرف مبادئ للأخلاق ولا للتعامل الرفيع اللطيف، ولا تستطيع، تفشل يا رجل، لأن طبيعتك تفرض عليك شيئاً آخر، الطبيعة المُؤسَّسة على النهائي فيك! وهل تعرف ما هو النهائي؟ ما لم تصل إلى تقرير هذا النهائي، ستبقى دائماً في تعب وفي نصب، في لغوب مُستمِر، النهائي: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، فيك عُنصر مُفارِق، فيك عُنصر من الهنالك، ليس من الهنا، يفرض نفسه باستمرار. والآن لم يبق بين يديك، إلا هذا، لكي تلتم على نفسك، تجمع شعثك وشملك، لكي تكون وحدة واحدة، لكي تستقر عقلياً ونفسياً، وبالتالي سلوكياً. وعلى فكرة تعريف العبد الفقير للصحة النفسية هو هذا، أن يكون الإنسان جميعاً، أن يُنسجَم فيه المُكوّن العقلي والعاطفي مع المُكوّن الظاهري السلوكي. إذا السلوك التأم بــ وانسجم واتسق مع العقل والعاطفة والقناعة والشعور والأحاسيس، يكون الإنسان مُستقِراً نفسياً وعقلياً، يُؤتى الحكمة، يكون حكيماً بمعنى من المعاني، يكون ثابتاً قاراً، لا تُزعزِعه الزعازع ولا تُقلقِله القلاقل يا إخواني، يكون سعيداً على فكرة، يكون سعيداً!

بقدر ما تكون كذلك، تكون مُستقِراً وسعيداً. بقدر ما تخفى عليك هذه النظرية، بل هذه الحقيقة العُظمى، وتفشل في تحقيقها وتمثيلها في حياتك، بقدر ما تنهشك التعاسة والبؤس والشقاء، وبقدر ما تُصبِح هشاً وضعيفاً، وأقرب إلى التحلل العقلي والشعوري، أي يُمكِن أن تُجَن. وعلى فكرة هناك أُناس كذلك؛ أستاذ جامعي وهو مجنون، بمقاييس الطب النفسي يكون مجنوناً، وهو أستاذ جامعي، فانتبهوا إذن، مجنون! ويعيش المسكين حياة جنون، ويشقى به مَن حوله، مِن أهله وأدنى الناس إليه وأمسهم به رُحمى وقُربى، وهو في الحقيقة مجنون، وهو يظن نفسه غير ذلك، هذا أستاذ جامعي يا أخي، وعنده شهادات عُليا، هذا مجنون، مجنون! غير مُتسِق، السكين مُتشظٍ، مُمزَّق، يُريد أن يعيش بأكثر من نموذج، وهذا صعب. هو طبعاً يفعلها، ولكن صعب أن يفعل ذلك وأن يكون ماذا؟ مُتسِقاً وواحداً ومُستقِراً، لن يكون، سيكون غير جميع، سيكون جذاذات وهتامات مُتنازِعة، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ۩، انظر، انظر إلى هذا التعبير، شيء عجيب، إشارات أكثر من عجيبة! الله يقول هذا هو المُشرِك، المُشرِك مُمزَّق. ليس مُمزَّقاً بدنياً، هو جميع، هو بدنياً جميع، وها هو مُجتمِع، لا! مُمزَّق في مُستوى النفس والروح، في مُستوى الخيال، في مُستوى العقل والتعقل، مُمزَّق المسكين يا إخواني!

وهذا أكثر ما يهمنا في قضية التوحيد يا إخواني، أن يتوحَّد البشر، يتوحَّد الإنسان! يتوحَّد الإنسان بهذا المعنى. وبالضبط هذا سيكون أحد أكبر أهداف الدين، وأحد الجواهر الأساسية في الدين وفي التدين. وما لم نُحقِّق هذا ونأتي نعبث بالدين ونُعيد تأويل الدين، كما فعل اليهود والنصارى والمُسلِمون، وكل أهل الأديان، أعني بالذات السماوية أو الشرائع السماوية، ستعود الأديان أو الشرائع السماوية لعنةً على أصحابها وعلى العالمين. سنُعيد تأويل الشرائع الإلهية، القول الإلهي، النص الإلهي، لكي يخدم ماذا؟ لكي يخدم نسبياتنا الصغيرة، التي مزَّقت البشر، لكي يخدم النزعات القومية، والوطنية، واللونية، والعرقية، والأهوائية، والمصلحية، والأيديولوجية. وهذا ليس الدين، هذا يكذب مَن يزعم أنه الدين، لأن الدين يزعم – هذه دعوى الدين – أنه من عند الله، أنه من عند رب العالمين. هيا أثبت لنا أنه رب العالمين حقاً، ليس رب المُسلِمين وحدهم، ليس رب اليهود وحدهم، ليس رب المسيحيين وحدهم. وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ۩، وطبعاً ليس كل اليهود قالوا هذا، وليس كل النصارى قالوا هذا، لم يقل هذا موسى، ولم يقله عيسى – عليه السلام -، ولم يقله الخلصان من أتباعه والصادقون من أنصاره، أبداً! وإنما قاله البعض، والقرآن على طريقته يُمكِن أن يُعمِّم بهذه الطريقة، ولكن المعنى واضح. وفي إنجيل متى ماذا يقول السيد المسيح – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟ يقول فلا تفتكروا في أنفسكم. أي لا تُفكِّروا، هذا هو معناها، لا تُفكِّروا، وطبعاً هذه ترجمات ركيكة على فكرة، ترجمة الــ Bible ركيكة جداً جداً جداً، التي تمت في القرن التاسع عشر بالذات، للأسف! لأن هذه فضيحة، فضيحة في الترجمة، وفضيحة حتى في العمل الديني، لأنهم أرادوا وأصروا على أن تكون الترجمة الكتابية – أي الــ Biblical – بعيدة عن ما أسموه الجُملة القرآنية، لا يُريدون. فليكن! الجُملة القرآنية أرقى جُملة عربية، أفصح وأبلغ جُملة. أرادوا أن يبتعدوا عنها طوعاً، فجاءت مثل هذه الترجمات! فلا تفتكروا في أنفسكم. أي لا تقولوا في أنفسكم، وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ ۩، فلا تفتكروا في أنفسكم، تقولون إبراهيم لنا أباً. أي حال كونه كذلك، نحن ندعوه ونعترف به، حال كونه كذلك. الترجمة كلها رقيقة، وهذا واضح، تقرأ باللاتيني! تحتاج إلى ترجمة عربية لهذا اللاتيني. فلا تفتكروا في أنفسكم، تقولون إبراهيم لنا أباً؛ لأني أقول لكم إن الله قادر على أن يُخرِج من الحجارة أولاداً لإبراهيم. كلام في مُنتهى الجمال، كلام في مُنتهى الجمال! يلتقي تماماً مع قول موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ۩، العلاقة بين الله وبين عباده ليست علاقة وعد؛ أنتم أحبابي وأولادي وعيالي، وانتهى! ومهما فعلتم، تبقى الجُملة خبرية؛ ابنك ابنك، لا تستطيع أن تتبرأ من أبوتك، ولا يستطيع أن ينتزع نفسه من بنوته لك، مسألة خبرية، مسألة خبرية وليست إنشائية، ليست كمسائل القانون، ربط هذا بهذا مواضعة، أي مواضعة قانونية. موسى قال لا، هذا الكلام غير صحيح، إياكم أن تظنوا هذا، إياكم! والقرآن أكذبهم، نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۩، قال كذب، لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد بنوة لله لأحد، لا يُوجَد الكلام هذا، كلام باطل، هذا الكلام باطل، غرهم فيه مجازهم، فجرهم إلى حقيقة وثنية كاذبة، فرَّغت الدين من جوهره وحقيقته، فــ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ ۩…

ولكن العلاقة بين الله وعباده علاقة عهد وميثاق، يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ۩، يُوجَد عهد، يُوجَد ميثاق. العهد بين الله وبين عباده معروف، وهو التزام من الجهتين كلتيهما؛ التزام من العباد إزاء الله، والتزام من الله إزاء عباده. أتدري يا مُعاذ ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ الحديث الصحيح! عهد وميثاق، وليس وعداً، وعداً بالمحبة والتفضيل، ووعداً بكذا وكذا، غير صحيح! لا تُوجَد علاقة وعد بين الله وبين عباده، وإنما هي علاقة عهد. موسى قرَّر هذا، السيد المسيح – عيسى عليه السلام – قرَّر هذا، ومحمد قرَّر هذا بأكثر من طريقة وبأجلى وأصرخ وأوضح وأفقع صورة. يا فاطمة سليني من مالي ما شئتِ، اعملي لنفسك، أنقذي نفسك من النار، لا أُغني عنكِ من الله شيئاً. والله هذا العظيم هذا الكلام حق في حق في حق في حق، أوله وأوسطه وآخره حق، وهو روح قرآنية. لن يُغني محمد – صلوات ربي على محمد وآله – عن فاطمة – عليها السلام – شيئاً، لو لم يُغنِها عملها. لكن لو أحسنت العمل، انتفعت بالنسب، بلا شك! أهلاً وسهلاً، شفيع! لكن لو أساءت العمل – على مُستوى ماذا طبعاً؟ على مُستوى الأًسس طبعاً، وليس الصغائر، على مُستوى الأُسس -، لن ينفعها. يا سيدي يكفيكم أن تقرأوا آخر المائدة – وأختم، للأسف لم نكد أن ندخل في الخُطبة -.

يكفيكم أن تقرأوا آخر المائدة، والله هذه الآية مَن قرأها ثم لم يبك قلبه قبل أن تبكي عيناه، في غفلة، في غفلة عن الأمر العظيم والجد الخطير؛ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ۩، الله يسأل أنبياءه ورُسله، بماذا رجع إليكم أقوامكم؟ حين أبلغتموهم دعواتكم، ماذا قالوا لكم؟ بماذا ردوا عليكم؟ كيف كانت استجاباتهم؟ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۩. الموقف مُخيف، الموقف مُفظِع، غاب عنهم الجواب. وما أعجب وقوع هذا من شخص مثل نوح – عليه السلام -! حتى نوح لن يعرف. أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ۩، هذه الــ أَلْفَ سَنَةٍ – أياً كان تفسيرها – إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ۩ لم تشفع له ليستحضر الجواب، ليقول له يا ربي كفروا وما آمن معي منهم إِلَّا قَلِيلٌ ۩. ينسى هذا! قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ۩. قال السادة المُفسِّرون من شدة هول الموقف. واليوم تأتي وأنت مُعتمِد على حُبك لشيخك وحُبك لجماعتك وطائفتك وحُبك لأهل البيت وحُبك للصحابة، وتُريد أن تدخل الجنة ركضاً بذنوبك ومعاصيك. غلبان، وهمان، ولا تعرف شيئاً. أنت من جماعة الوعد، ولست من جماعة العهد والميثاق. اقرأ كتابك من جديد.

أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُفقِّهنا في الدين، وأن يُعلِّمنا التنزيل.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. اللهم استر عيوبنا، واحفظ غيوبنا، وبيِض نواصينا، وثقِّل موازيننا، ويمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا.

اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن. اللهم اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك، وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم هذا الدعاء، ومنك الإجابة، وهذا الجُهد، وعليك التوكلان، وأنت المُستغاث، وبك المُستعان. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

تكملة لموضوع الخُطبة

 

أُريد أن أُكمِل بعض النقاط المُتعلِّقة بالخُطبة اليوم؛ حتى تُصبِح واضحة – إن شاء الله تعالى -، أو تزداد وضوحاً.

تكلَّمت عن موضوع النهائي؛ النهائي في الإنسان، والنهائي في الحقيقة الوجودية. النهائي في الحقائق الوجودية كلها، بل هو الحاكم على نهايات الوجود كلها، أنه لا إله إلا الله. الله موجود، وهو الإله والرب الواحد الأوحد، لا إله إلا هو، لا رب سواه. لا خالق، لا مُدبِّر، لا صانع، لا مُقنِّن للقوانين الكونية، إلا هو، لا إله إلا هو! هذه الحقيقة الأكثر نهائيةً. وهذا التعبير قرآني؛ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَى ۩، عجيب! هذا التعبير الآن فلسفي، ويقولون لك ماذا؟ الحقيقة النهائية، أي الــ Ultimate. وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَى ۩، الله يقول هذه أكثر الحقائق نهائيةً.

وكل مَن لم يُصِب هذه الحقيقة، وكل مَن لم يبلغ هذه الحقيقة، لم يبلغ النهائي. ولذلك لن يستقر، لن يستقر! لن يقتنع، ولن ينسجم مع الحقيقة، التي لم يُصِبها إلى الآن، لأنه لم يُصِب قلب الحقائق وأم الحقائق، أنه لا إله إلا الله. ولذلك كانت دعوة الأنبياء جميعاً، أنه لا إله إلا الله، أن: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۩، لا إله إلا هو.

النهائي في الإنسان – يُوجَد نهائي فينا نحن أيضاً – هو وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩. هذا النهائي فيك. ما لم تفهم هذا، لن تستقر، لن تجتمع على نفسك، لن تسعد، ولن تتصالح مع الحقيقة.

والآن الصيغة الأكمل والأوحد أيضاً للانسجام العقلي والنفسي، لانجماع الإنسان، هي أن ينسجم النهائي فيه، مع النهائي في الخارج، مع نهائي النهائيات. أي تُعطي الروح فيك حظها من لا إله إلا الله. وحظها قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، كل وجودي لله، لأن هذه الحقيقة، هذه الحقيقة! الروح فيك تطلب هذا، تطلب أن يكون التوجه كاملاً لله.

أخطر ما يكون، بل أخطر ما يُنازِع هذا التوجه التام الكامل، هل تعرفون ما هو؟ أن يتوجه الإنسان إلى ذاته، وإلى هواه. الله يُريد هذا، وأنا لا أُريده. الله يُحِبه، وأنا لا أُحِبه. انتهينا ووقعنا في الوثنية! وثنية النفس ألعن الوثنيات. ألعن وثنية، أكبر هُبل، أكبر لات، أكبر فرعون عُبد مع الله ومن دون الله؛ النفس والهوى. انتبه! ليس فقط الآلهة الخارجية والأوثان، وحتى أوثان الأيديولوجيات، لا! وثن النفس، هناك الذي: اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ۩، والعياذ بالله، ولذلك يضل ولا يهتدي، أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۩، كأن الله يقول كل انتقاص من جناب التوحيد، يُؤدي إلى العكس من هذا.

وكيف يكون الانتقاص من جناب التوحيد إذن؟ كيف؟ ليس فقط بدعوى أن ثمة آلهة مع الله أُخرى، ليس هذا فقط! هذا انتقاص فظ وقاس وجاف وخشن وواضح ومُباشِر، لا! كل انتقاص من التسليم لله – أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ۩ -، كل انتقاص من التسليم للواحد. بما أنه هو الواحد، هناك مُقتضى لواحديته وآحاديته – لا إله إلا هو -، وهو توحيد المعيار، توحيد المعيار! أو – إن شئت – توحيد المعايير، أي الــ Norms، توحيد المعايير! فيصير الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرَّمه الله، والرضا ما رضيه الله، والسخط ما سخطه الله، أليس كذلك؟ هو هذا.

طبعاً لا يُوجَد واحد يُسلِّم هذا التسليم كله، إلا الأنبياء طبعاً والمُرسَلون، ومَن أسعده الله من كبار الصدّيقين والعارفين، تسليم حقيقي، قدراً وشرعاً. في القدريات والشرعيات يُسلِّم تماماً. وهؤلاء هم المُؤمِنون الكملة، هم العارفون حقاً بالله. ولكن نحن مساكين، (غلابة)، على باب الله هكذا. كمَّلنا الله وتمَّمنا وأنعم علينا وهدانا وأعطانا الأمن والتصالح. نحن ننتقص أشياء، بقدر انتقاصنا من التسليم، أشياء لا نرضاها! ولذلك فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا ۩،  ثُمَّ ۩ حرف عطف طبعاً، ولذلك هنا عندك مجزوم، حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ ۩، قال حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا ۩، منصوب إذن، أو مجزوم إذا أعربتها الإعراب الثاني، فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ ۩، قال وَيُسَلِّمُوا ۩ أيضاً، الإعراب نفسه! تَسْلِيمًا ۩.

الحرج حتى لا بد أن يكون منفياً في ساحة النفس، في الداخل؛ لأن القضية قضية إيمان، ليست قضية تطويع للناس في الظاهر، تسلط على الناس، إرغام للناس على الاحتكام إلى شرع الله، ليست هذه القضية، ليس هذا المُهِم. تستطيع أن تفعل هذا بالحديد وبالنار، ليس هذا المُهِم! الدين يُريد شيئاً آخر، الدين لا يُريد منك إذعان الظاهر، هذا إذعان المُنافِقين، إذعان المُنافِقين! الدين مداره كله على إذعان ماذا؟ الباطن. ولذلك أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ۩، قال له هذا غير مُتصوَّر، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، لا! نُريد أن يُذعِن الباطن. ولذلك لا بد أن يُسلِّم الباطن أيضاً بأمر الله، بحُكم الله، وبقضائه الشرعي والقدري. وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۩… الآية! هو هذا. قال هذا،  مَا كَانَ ۩، أي لا يُتصوَّر، الله يقول لا يُتصوَّر، ليس هذا الإيمان، ليس هذا من حقيقة الإيمان في شيء، أنك تسخط وترد بعض ما قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۩، أبداً! المُؤمِن يُسلِّم بالكامل. وهذا الذي تحقَّق بالتوحيد، وهذا الذي يتصالح مع الحقيقة، وبالتالي مع نفسه، تصالحاً تاماً، وهذا هو الآمن، والأمن بكل المعنى أيضاً، كما أن الظلم بكل المعنى؛ ظلم النفس، وظلم الآخرين، أيضاً الأمن بكل المعنى؛ أمن النفس، أمن الفرد، أمن المُجتمَع، والأمن في الدنيا، والأمن في الآخرة، وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ۩، والأمن في الآخرة أيضاً، في الدنيا وفي الآخرة! كما أن الأجر أجر في الدنيا، وأجر في الآخرة، وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۩، حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۩، لأن أجرها أيضاً وثمارها في الدنيا، قبل الآخرة. لا بد أن نفهم الدين بهذه الطريقة، جميل جداً!

إذن كل انتقاص من التسليم، هو انتقاص من جناب التوحيد. هذا هو، فانتبهوا! التوحيد ليس حقيقة فلسفية تُقرَّر لسانياً، أي أن يُقال لا إله إلا الله والله الوحيد وما إلى ذلك، ليس هذا هو، وإنما تُعاش. الحقيقة تُعاش، الحقيقة معيشة، تُعيد جوهرة النفس، ترتيب النفس، ترتيب أولويات الهوى، لا يُؤمِن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به. وهذه الصيغة أيضاً صيغة جوهرية في الدين، هذا هو الدين! الدين يُريد أن يصل بك إلى أن تتحقق بالحقيقة، وما الحقيقة؟ أن النهائي فيك يطلب الانسجام والتسليم للنهائي الخارجي. هو هذا! الروح تُريد هذا، والدين يُعطيك هذا. الدين هو سبيل تحقيق هذا، ويقول لك هذه هي أحسن السُبل وأقصر الطرق وأضمنها وآمنها وأكفلها وأوفاها بتحقيق هذا الغرض. هناك الشرع الإلهي، الدين الإلهي، الأوضاع الإلهية، جميل! جميل جداً. لا إله إلا الله، هذا من مُقتضى رحمته، أنه وفَّر علينا كل هذا العناء. ولولا هذا، لكان من المُستحيل أن يستقل العقل بمعرفة هذه التفاصيل، وهذه الطُرق، على اختلاف شعوب العقل ومذاهبه وأهوائه وأمياله وترجيحاته. مسألة لا أول لها من آخر، فلله الحمد والمنّة.

جميل، على ذكر المرجعيات وكلمة نهائي، أُريد فقط أن أُنبِّه أحبتي – إخواني وأخواتي – إلى مسألة أن المرجعية النهائية، لا تعني بالضرورة المرجعية الوحيدة. الوحيدة، إذا تعلَّق الأمر بالنهائي، لكن هذا ليس شرطاً. يُوجَد خلط كبير في الفكر الإسلامي المُعاصِر بين المعنيين، على بُعد ما بينهما، أن هناك مرجعية وحيدة، وهي تعني المرجعية النهائية، لا! المرجعية النهائية ليس بالضرورة أن تكون وحيدة، في غير ما يتعلَّق بالنهائية. هناك مرجعيات وسيطة كثيرة، ودعونا نأخذ أمثالة، بالمثال يضح المقال.

حقيقة من حقائق التوحيد؛ إِنَّ اللَّهَ هُوَ – وانظر إلى هُوَ ۩، هذه من أجل التأكيد – الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ۩. أي الرزّاق مَن هو؟ الله – تبارك وتعالى -. ولكن أيضاً أنا أرزق، أنا أرزق أولادي. سوف تقول لي لا، أشركت. كيف أشركت؟ الله قال وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ۩، هذا تعبير قرآني، دعونا من الوعظيات، هناك أُناس يأخذون فقط بالوعظيات، يسمع أحدهم قصة فيها عرفت زوجي كسّاباً، ولم أعرفه رزّاقاً. الله قال وَارْزُقُوهُمْ ۩، أطال الله في عمرك، أطال الله في عمرك، دعك من الوعظيات، هذا الآن علم، علم كلام هذا، نقوله كموعظة، حتى نحن نقوله كموعظة، لكن عند تحقيق الحقائق في علم الكلام وعلم العقيدة، لا بد وأن نكون دقيقين، لا يُمكِن أن نقعد لكي نغمز عقائد الناس وما إلى ذلك دون أن نفهم.

نعم، أنا أرزق، أنت ترزق، مُعلِمي يرزقني، صاحب العمل عندي يرزقني، وصاحب العمل عندك يرزقك. لكن هل هو رزّاق أيضاً بصيغة نهائية، أم بصيغة وسيطة؟ بصيغة وسيطة. ولذلك النبي ماذا قال؟ دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض. أي بعضهم يرزق بعضاً، بماذا؟ بالواسطة، بقانون الله. والله أصلاً يُريد هذا، لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ۩.

إذن حتى في قضية الرزق، نعم هناك هذا، هناك رزّاقون كثيرون، وسائط كلهم! لكن الرزّاق النهائي وبالمعنى الأتم المُطلَق، هو – لا إله إلا هو -. وكذلك الذي يتوفى الأنفس، الذي يتوفى الأنفس هو الله – تبارك وتعالى -، لكن هناك مَن يتوفى كوسائط، وذكرنا هذا مئات المرات، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ۩، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ۩، اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ۩. نعم، الله أكبر! مَن الذي يتوفى؟ نعم، الله. قال لك الملائكة تتوفى، وملك الموت يتوفى، وأنا أتوفى. مَن المُتوفي على الحقيقة؟ رب العالمين. ملك الموت يتوفى مَن يتوفاه، بأمر مَن؟ بأمر الله. الملائكة تُساعِده وتُسعِده في التوفية، بأمر مَن؟ رب العالمين. إذن المُتوفي على الحقيقة النهائي رب العالمين. وهم مُتوفون بالوسائط، موجودون؛ ملك الموت، والملائكة. مثل الرزّاقون بالوسائط، موجودون!

وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۩، مَن العلّام؟ ومَن العليم؟ ومَن الذي يُعلِّم عباده؟ لا إله إلا هو. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۩، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ۩. الله – تبارك وتعالى -، كمعنى نهائي. لكن بالوسائط مُعلِّمي أيضاً علَّمني، أبي علَّمني، أمي علَّمتني، الكتاب علَّمني. كلها بالوسائط، وتعود إلى الله – تبارك وتعالى -.

إذن انتبهوا، ليس بالضرورة أن المرجعية تُوصَف بالنهائية، أنها وحيدة. ولذلك يقول لك ماذا؟ لا مُشرِّع مع الله، وكفر التشريع. يا رجل، دع هذه الخطابيات، نُريد علماً، خاصة فيما يمس جناب التوحيد وعقائد الناس. تصف بالكفر أو الإيمان؟ انتبه! ابتعد عن الصيغ الإنشائية والخطابية والوعظية. العلم! نُريد علماً دقيقاً، لأنكم ورطتمونا في أشياء رهيبة، تورطنا في تكفير مُجتمَعات وبشر وقتل أُناس.

ولذلك أنت تجد شخصاً كافراً ومُلحِداً، يسير على تشريع، حين تُعيِّره، ترى أنه ينسجم مع مقاصد الشريعة، بل أحياناً مع مُفرَدات الشريعة بالضبط. كما قرَّرت الشريعة، هو قرَّر في هذه القضية، مع أن مرجعيته النهائية ليست الشريعة، وإنما العقل والمصلحة، أليس كذلك؟ أصاب هنا، وأخطأ في مرات أُخرى، أهلاً وسهلاً! لا نُتابِعه فيما أخطأ، ولكنه أصاب هنا، جميل؟ فأنا لو وافقته فيما أصاب، لا بأس علىّ، لا بأس علىّ ولا تُوجَد مُشكِلة، تُوجَد نُدحة في هذا الموضوع، لأن الهدف ماذا؟ الهدف هو المقصود، وليس الصورة فقط. الهدف أنني آخذ بهذا الحُكم، وأُحقِّق أيضاً هذا الغرض، الذي أمر الشارع بتحقيقه، والأيلولة إليه، أن نصير إلى تحقيقه. وحصل هذا!

فيُمكِن إذن أن يكون عندنا مرجعيات في التشريع، هذه مرجعيات وسيطة، لكن ليست نهائية. فإذن ما الفرق؟ الفرق أن هذه المرجعيات الوسيطة إذا تعارضت أو تناقضت مع المرجعية النهائية، لا قيمة لها، تسقط، تسقط مُباشَرةً، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لكنها موجودة على كل حال، لكنها موجودة! فهذه النُقطة كان لا بد منها، وهناك نُقطة أخيرة، والموضوع طويل، ولن نقول إنه عميق، ولكنه موضوع مُهِم.

يا إخواني:

الإنسان لا بد أن يتوحَّد مع ذاته، وقلنا هذا أحد الأهداف الكُبرى لتوحيد الله، ينعكس هذا التوحيد – أي توحيد الله – في ماذا؟ في توحيد الإنسان نفسه. لا بد أن يتوحَّد همه وقصده ونيته. هو هذا! وهذا الدين الخالص، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۩. فالله حين أمرنا بأن نُخلِص له الدين، وأن نعبد اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۩، إنما أراد ماذا؟ إنما أراد أن يُصالِحنا مع أنفسنا، مع حقيقتنا النهائية، لكي نسعد ونرضى ونستقر. ولذلك ماذا قال؟ قال أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ۩. أي الصيغتين أبلغ: هذه الصيغة، أو لو قال أولئك هم الآمنون؟ لأ، الأولى. قال أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ۩، أكيد هذه الصيغة أبلغ بكثير. أولاً هل قال أولئك الأمن لهم؟ لا، لم يقل هذا، قال أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ۩، أي مُختَص بهم، يُوجَد اختصاص، أي هم الآمنون وغيرهم غير آمن، تخيَّل! مُبالَغة، أي هم وحدهم من دون أو من سائر الخلق هم الآمنون، لماذا؟ لماذا صار الأمن خصيصة موقوفة عليهم ومحصورة فيهم؟ لأنهم لم يقعوا في براثن الشرك، لم يشوبوا إيمانهم الخالص، بشيء من شوائب الشرك. ولذلك قال أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ۩. وكما قلت الأمن بكل معانيه المفتوحة، أي حتى الأمن المُجتمَعي، حتى الأمن – والله – بين الأقوام وبين الشعوب. وهذه على فكرة حاجة البشر إلى دين الله – تبارك وتعالى -.

وأقول بين قوسين مرة أُخرى (إياك أن تتكئ على وتستند إلى التطبيق الخاطئ، والفهم الخاطئ، لبعض المُسلِمين لإسلامهم، إياك! أي كما يفعلها اليوم الجهلة بالدين وأعداء الدين، في الشرق والغرب، من المُسلِمين، وطبعاً من غير المُسلِمين من باب أولى. يقول أحدهم انظروا، انظروا إلى داعش، انظروا إلى مَن يذبحون الناس. ومَن قال لك إن هذا الإسلام يا حبيبي؟ ولماذا أنت اختزلت الدين في هؤلاء، الذين اكتوى المُسلِمون قبل غيرهم بنيرانهم وبجنونهم؟ نحن أكبر ضحاياهم، فهل هذا الإسلام عندك؟ ولكن هو فرحان، وقال لك لا، هذا هو الإسلام. لماذا؟ لماذا هذا الاجتزاء؟ كذب، هذا كذب! ولو حاكمت حتى هذا الواقع القصير، لعلمت هذا. فها هو انتهى، انتهى كل شيء، عود ثقاب هذا، في التاريخ هذا عود ثقاب، عشر سنوات أو عشرون سنة ليست بشيء، هذه لا شيء في تواريخ الأمم، لا شيء! أليس كذلك؟ المُسلِمون حكموا في الأندلس ثمانمائة وثنتين وثلاثين سنة، وكأنهم لم يكونوا، مَن كانوا في إسبانيا ولا كأنهم كانوا، غير موجودين، ذهبوا! وهذه قُرابة ألف سنة، ذهبت هكذا، فما وزن عشرين سنة وداعش وغير داعش؟ كلام فارغ هذا. ويقول أحدهم إن هذا الإسلام! والله؟ فرحان أنت، وتُريد هذا. ليس هذا الإسلام، ولم يكن الإسلام يوماً ليكون هكذا. هل هذا واضح؟ فلا تتكئ على التطبيق الخاطئ، والفهم الخاطئ. إذا أردت أن تكون موضوعياً، فاذهب بنفسك واقرأ القرآن. اقرأ الإسلام وحدك، وأنت سترى شيئاً مُختلِفاً تماماً عن كل هذا العبث).

لماذا أقول هذا؟ أقول هذا لأنني حين أتصفح كتاب الله وحين أتأمله، أرى أن القرآن يُؤسِّس لنا يا إخواني منظومة أخلاقية، تتسق في مبدئها ومُنتهاها مع الحقيقة التي نحن بصدد الكشف والحديث عنها اليوم؛ حقيقة النهائيات هذه في القرآن الكريم. كيف إذن؟ هذا مُهِم لكي أُوضِّح، حتى لا يكون الكلام كلاماً تنظيرياً.

فالقرآن حين يأمر دائماً مثلاً بإعطاء المُحتاجين والمعاويز، هل يُقيِّد هذا بالضرورة في كل موضع، بل حتى في مُعظَم المواضع، بأهل المِلة والدين، أم يتحدَّث عن ابن السبيل، وعن الفقير، والمسكين، بالمُطلَق؟ بالمُطلَق. والآن تأتي قضية فقهاء يُريدون أن يتكلَّموا طبعاً؛ هل المقصود الفقير المُسلِم، أم غير المُسلِم؟ قضيتكم أنت هذه، القرآن لم يقل هذا، القرآن تحدَّث عن الفقراء، والمساكين، وأبناء السبيل، أليس كذلك؟ وعن الجار بالمُطلَق، والصاحب بالجنب، و… و… و… بالمُطلَق! كما قال وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ۩.

وعلى فكرة أنا مبدئياً – كضرب من ضروب التأويل الآن – لدي الآن احتمالات تأويلية، أي هناك Interpretations كما يُسمونه هنا، أي التأويل أو التفسير التاويلي. أنحاز إلى ماذا؟ واضح أنني سأنحاز إلى ما هو أعم. لماذا إذن؟ لن أنحاز إلى ما هو أخص؛ أي أن المقصود هو الفقير المُسلِم، ابن السبيل المُسلِم، المسكين المُسلِم، الجار المُسلِم، لا! سأنحاز إلى ما هو أعم؛ الجار بالمُطلَق، مُسلِم أو غير مُسلِم، حتى ولو مُلحِد، والفقير والمسكين وابن السبيل بالمُطلَق، الناس بالمُطلَق، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ۩، بالمُطلَق، كمبدأ!

لماذا؟ لأن – كما قلنا في الخُطبة اليوم – هذا القرآن يدّعي – أي Claims – الآتي، هو هذه دعواه! هو يدّعي أنه من عند الله، وأنه كلمات الله، والله حين عرَّف بنفسه في أول الآيات قال لك رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩. حلو، أُريد أن أرى هذا، هل تشريعاته تنسجم مع هذه الحقيقة؛ أنه رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، وليس رب المُسلِمين؟ والله تنسجم، نرى هذا من أوله إلى آخره تقريباً، هو هذا! يقول النَّاسِ ۩، يتحدَّث عن الناس، الفقير، المسكين، وابن السبيل، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ ۩، آدم وحواء، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ۩، خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۩، قال وَالْأَرْحَامَ ۩، ليست الأرحام المُسلِمة فحسب، وَالْأَرْحَامَ ۩، كل الأرحام. وحين جاء يُفرِّع طبعاً – هناك حالات تفرض نفسها بسؤالها وبظروفها واشتراطاتها – قال لك وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۩، لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ۩. يتحدَّث عن كفّار، تخيَّل! عن كفّار لم يُسلِموا، لم يُسلِموا ولم يُؤمِنوا، ولكنهم ليسوا مُعادين، لم يتغولوا علينا، لم يضطهدونا في حرياتنا. الله قال أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۩. ليس فقط حاسنوهم، بروهم وأقسِطوا إليهم. أعطوهم من أموالكم أيضاً، وخذوا بسكة المعدلة معهم، خُذوا بخطة المعدلة معهم! الله أكبر، وهم كفّار، وثنيون، عبّاد لغير الله! قال خلوهم، هذا الفصل فيه يوم القيامة.

هذه عظمة القرآن الكريم، إذن واضح أن القرآن من أوله إلى آخره ينسجم مع حقيقة دعواه؛ أنه من عند رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، ليس رب المُسلِمين فقط. هو رب المُسلِمين وغير المُسلِمين! هذا الدين ليس قومياً، هذا الدين ليس أقوامي، هذا الدين ليس عرقياً، هل هذا واضح؟ وحتى ولو بُرّرت هذه القومية وهذه النظرة الضيقة بالمِلة والدين، هذا مرفوض، لا! لأنه فعلاً دين رب العالمين، دين الذي خضع له مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ۩ – لا إله إلا هو -. شيء جميل، جميل! وهكذا ينبغي أن يُفهَم الدين، ليس أن نذهب ونترك القرآن بخُطته العامة وفلسفته الإلهية الواضحة اللاحبة الناهجة، ثم نأتي لكي نأخذ فتوة من هنا وكلمة لفقيه وتأويلاً لمُفسِّر، ثم يقول أحدنا لا يا أخي، المُفسِّرون قالوا هذا. ما هذا؟ أطال الله في عمرك، أنت عندك القرآن، ما معنى أن المُفسِّرين قالوا؟ يتعارض مع خُطة القرآن هذا، يتعارض مع الخط العام للقرآن، يتعارض مع المبادئ العامة الكُلية. القرآن فيه كُليات، كيف تضرب هذه الكُليات بتأويل لفقيه؟

ولذلك لما تأثم بعض الصحابة، أنهم كانوا يُعطون الكفّار – كانوا يُعطونهم صدقات وأشياء ومُساعَدات -، وبعد ذلك قالوا هؤلاء اتضح أنهم كفّار وما إلى ذلك. الله قال لا، كل هذا أجره على الله، مقبول. لا إله إلا الله! وابن عباس ذكر هذا، والطبري رواه في تفسيره، هناك آيات البقرة! قال أنتم تُنفِقون لوجه الله – تبارك وتعالى -. وهذا يعني أن وجه الله يتسع لغير مَن عبد الله. يا سلام على القرآن! وما أجمله! وجه الله يتسع لرحمة وإعطاء وإكرام مَن لم يعرف الله، ومَن لم يعبد الله، ومَن ألحد في الله؟ قال لك نعم، نعم وعندك أجر أيضاً، وعندك أجر! شيء جميل، هذه سعة القرآن.

نرجع ونُجيب عن سؤالنا، ونقول إذن أنت لا بد أن تُوحِّد القصد والتوجه والغاية والنية. وهذه حقيقة الإخلاص؛ إخلاص الدين لله. تجعل القصد واحداً، النية واحدة، الغرض واحداً. والجميل في هذا الشيء – كما قلنا وختمنا الآن – أن هذا يتسع للبشرية، للآدمية، ليس محصوراً في المُسلِمين فقط، لا! للكل، لكل إخوانك في البشرية، تُحسِن إليهم. وكما قال النبي تقرأ السلام على مَن عرفت، وعلى مَن لم تعرف. سلِّم على الناس، كل الناس. لا أعرفه؟ سلِّم عليه. ربما يكون عابد وثن؟ أيضاً سلِّم عليه، أعطه السلام. والسلام ليس شعاراً بدون معنى، كما يفهمه الجهلة اليوم والقتلة، يأتي أحدهم ويُسلِّم عليكم ويصف معك في المسجد، ثم يُفجِّر نفسه فيك. ما شاء الله على المُجرِم! ما شاء الله! هذا ليس مُسلِماً، هذا ليس مُسلِماً وليس له علاقة بالإسلام، هذا مُجرِم. الإيمان قيد الفتك. لا يفتك مُؤمِن. النبي قال، لكل غادر لواء يوم القيامة. يُقال هذه غدرة فلان ابن فلان. يا غدّارون، يا غُدر! الدين يقول لك لو أعطيت كافراً السلام، انتهى الأمر، هو في الأمان. بمُجرَّد أن تقول له السلام عليك، ينتهي الأمر، هو في الأمان، “راحت عليك”، ولا تقدر على مسه، هذا سلام. وليس أن تدخل معه في المسجد وتصف، ثم تُفجِّره، ما شاء الله عليك! وتقعد معه وتُسجِّل له، ثم تُرسِل ذلك للمُخابَرات ولجهات ثانية، تُسجِّل أشياء عليه وأنت قاعد معه. يا غُدر! هذه ليس لها علاقة لا بالأخلاق البشرية – لأن هذه مرجعها الروح – ولا بالأخلاق القرآنية الدينية. الأخلاق القرآنية الدينية مُختلِفة.

كما قال الأول يا إخواني توحيد المقصد هذا، توحيد النيات، توحيد الهم، كم يُريحك! كم يُعطيك الاستقرار والسعادة والأمان والهداية! وقلت لك القرآن لا يُوجَد ما هو أجمل منه، أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ۩، الآية تقول هذه أحسن خُطة، تُريد أحسن خُطة في إدارة الاجتماع البشري؟ هذه الخُطة. عجيب! تُريد أحسن خُطة في إدارة القانون الدولي أيضاً، والعلاقات – كما قلت ولكنني لم أُوضِّح – أيضاً بين الدول؟ هذه هي أيضاً. هذا ممنوع، العدوان ممنوع. والغدر ممنوع أيضاً، بينك وبينهم مُعاهَدة، وهم أعداء، أرادوا أن يُبيدوك، وبعد ذلك تصاغروا؛ لضعفهم ربما وقوتك وصعود نجمك… إلى آخره، وتأخَّروا، وصار هناك مُعاهَدات. الله قال لك افعل الآتي، إن آنست منهم رغبةً في الغدر، ولا تُوجَد حكاية تغد بهم قبل أن يتعشوا بك، لا! لكن هذا غير موجود. الله قال لك تنبذ إليهم. تقول لهم انتبهوا، يُوجَد بيننا عهد، أليس كذلك؟ عهدكم إليكم، لا نُريده، توقفنا عن الالتزام به، نحن الآن رجعنا إلى حالة الحرب. وبعد ذلك الحُرب خُدعة طبعاً، تأتيهم من حيث لم يحتسبوا، وهذا شيء ثانٍ، لكن لا يُوجَد غدر هكذا ابتدائي، تأتي وتغدر! الله قال فَانبِذْ إِلَيْهِمْ ۩، قال وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ۩. ما المقصود بــ  فَانبِذْ إِلَيْهِمْ ۩؟ المفعول به محذوف، لأن السياق دل عليه. فَانبِذْ إِلَيْهِمْ ۩ عهدهم، قل لهم الذي بيننا انتهى، الصُلح والموُادَعة والمُعاهَدة انتهت، رجعنا إلى حالة الحرب الطارئة. هذا هو!

عَلَىٰ سَوَاءٍ ۩، ما معنى عَلَىٰ سَوَاءٍ ۩. نبذاً يستوي في العلم به أنت وهم. انظر، القرآن ما أجمله! أي بشكل واضح. لا تقل نحن أطلقنا تصريحاً في الجريدة الرسمية، وهم لم يفهموه. لا يُوجَد الكلام هذا، لا يُوجَد التصريح، لا تقل نحن أطلقنا إشارة في المُؤتمَر الصحافي الرئاسي وأفهمناهم، لا! لا يُوجَد هذا، لا بد وأن يكون هذا بشكل واضح؛ يا جماعة العهد الذي بيننا انتهى، رجعنا إلى حالة الحرب، هل فهمتم؟ فهمنا. القرآن هكذا عنده، دين لا يُمكِن أن يُمرِّر الغدر والكذب والالتواءات، دين! لأنه دين رب العالمين، الغني عن العالمين، والذي بيده النصر وبيده الهزيمة – لا إله إلا هو -، فلا يُمكِن أن تتحيل على قدر الله بما يُسخِط الله، لن تقدر! كمَن يتحيل على الرزق، يُريد أن يأتي برزق مما يُسخِط الله، فيتعامل بالحرام ويغل ويسرق ويخون ويغش! والله العظيم لن تأخذ إلا أقل من المكتوب لك أيضاً، وانظر، ها أنت حلفت لك، ما تأخذه ليس المكتوب، وإنما أقل من المكتوب؛ لأن العبد يُحرَم الرزق بالذنب يُذنِبه. لو كنت عملت غير هذا، كان سيأتيك رزقك كاملاً، وربما كان سيزداد بالأمانة والوفاء. لكن بالغلول وبالسرقة وبالخيانة وبالغش وبأخذ المال من حِله وحرامه، سيحدث العكس، أنت ستُبخَس حظك من الرزق، وأنت يداك أوكتا وفوك نفخ. هكذا الدين، وهكذا يُعلِّم أصحابه.

فعلى كل حال، أحسن مَن عبَّر عن هذا المعنى، هو ذاك الصوفي الأول، وبصراحة هو الحلّاج، حين قال:

كانت لقلبي أهواء مُفرَّقة                     فاستجمعت مُذ رأتك العين أهوائي.

كانت لقلبي أهواء مُفرَّقة! الإنسان يا إخواني الذي ليس عنده الثقة الكاملة بالله، التعويل الكامل على الله، التوجه الكامل إلى الله، ماذا يحدث له؟ يتعدَّد تعويله؛ يُعوِّل على هذا، وعلى هذا، وعلى هذاك، وعلى هذاك، وعلى المُدير، وعلى ذلك، وعلى الواسطة، وعلى المُخابَرات، وعلى سوّاق الوزير، وعلى غُلام الوزير، وعلى… وعلى… وعلى… الدنيا كلها تصير آلهة له، وضاع عليه الأمر، أليس كذلك؟ ويصير يؤمَّل في هذا، وذاك، وذلك، و… و… و… باستمرار! تمزَّع وضاع بسببها للأسف، ويصير عبداً لهذا، وهذا، وهذا، و… لكي يُحقِّق ما يُريد، ضاع، ضاع وتشظى وتمزق!

فالحلّاج يقول :

كانت لقلبي أهواء مُفرَّقة، فاستجمعت، أي أهوائي، فاستجمعت مُذ رأتك العين أهوائي. أهوائي فاعل، فاستجمعت أهوائي، صارت هوىً واحداً. أيهما أحسن: أن تعبد ألف إله، أم إلهاً واحداً؟ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ۩. وبعد ذلك انتبه، انتبه! ليس فقط أن تعبد إلهاً واحداً وأن تتوجَّه إلى إله واحد أريح وأحسن، بل وأنجح وأنجع. أتُريد أن تشتغل الخُطة؟ لا بد من واحد. لماذا؟ لأن الطبخة التي يطبخها أكثر من واحد تشيط وتخرب، أليس كذلك؟ هذا مثل إنجليزي، يقولون لك Spoil، أي هي “تروح”، الإنجليز يقولون هذا، “تروح”. ونحن نقول تشيط. والمركب – المصريون يقولون – التي عندها ربانان تغرق، أليس كذلك؟ هو هذا، أي التي عندها ريسان أو ملاحان تغرق. وهذا صحيح ومضبوط، ولا يُمكِن أن يتواجد رأسان في طاقية، أليس كذلك؟ جميل! فقال لك الأنجح والأنجع: واحد. والقرآن دل على هذا المعنى، الذي قررته كل هذه الأمثال الشعبية. ماذا قال؟ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ۩. لا إله إلا الله! قال مع إلهين يفسد الكون. وهذا هو طبعاً، هذا يُريد اليمين وهذا يُريد اليسار، فيحصل ماذا؟ التمزق. وكذلك في ساحة النفس، مع إلهين، تخرب. ويا ليت هناك إلهان فقط! هناك خمسون ألف إله، وكما قلت لكم كل واحد يصير إلهاً، كل واحد إله! ورضا زوجته شيء ورضاه هو شيء، ورضا أولاده شيء ورضا زوجته شيء، ورضا صديقه شيء ورضا أمه شيء، ورضا أمه شيء ورضا زوجته شيء، ورضا أبيه شيء ورضاه شيء، وقصة! وهو يُريد أن يُرضي الكل، هو غير مُهتَم بالشرع الإلهي، هو مُهتَم بأن يُرضي الكل! لن يُرضي أحداً، سيُسخِط الكل، وهو نفسه سيتمزَّق. فإذن حتى في ساحة النفس وجود أكثر من إله، يُفسِد ماذا؟ عالم النفس، أرض النفس، خلافة النفس. لَفَسَدَتَا ۩. الله يقول.

كانت لقلبي أهواء مُفرَّقة                       فاستجمعت مُذ رأتك العين أهوائي.
فصار يحسدني مَن كنت أحسده           وصرت مولى الورى مُذ صرت مولائي.
تركت للناس دنياهم ودينهم                          شُغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي.

الله أكبر، فلا أروع من هذا التعبير، عن انجماع الهم، وانجماع القصد، وانجماع الغاية، وانجماع الوكد، وانجماع العمل، وانجماع التوجه، على مَن؟ على الله وحده – لا إله إلا هو -. هذا يُعطيك الأمن ويُعطيك الهداية. يقول لك أمنت وأنجحت. سوف تنجح، وسوف تشتغل الأمور، الأمور سوف تشتغل وكل شيء سوف يضبط، والله العظيم! وأي أمر لمَن تحقَّق بالتوحيد، وتحقَّق بالعبودية لله، بهذا المعنى الحق – هذا ليس لعباً، بحق، بحق -، أي أمر بعد ذلك يكبر عليه، يعضل به، يحل به، ينوبه – الحل عنده موجود، ولا يُوجَد ما هو أسهل منه، هو أسهل من فُرجة عقال -، يُلقيه بباب الله وفي وجه الله. يقول له أنت مُدبِّر أموري ولا علم لي، أنت المُدبِّر، وأنت دبَّرت أموري وأنا في بطن أمي، أليس كذلك؟ ولم يكن عندي لا علم ولا بصر ولا سمع ولم أك أفهم شيئاً، دبَّرت أموري بطريقتك، ألا تُدبِّر أموري الآن في هذه الدين، في هذه المُصيبة، في هؤلاء الذين تألَّبوا علىّ ومكروا بي، في هذا الشر الذي نزل بي، وفي هذا الذي أساء لي؟

فقط قل له هذا، وهو سهل جداً. فقط ألقها بوجه الله وفي باب الله، وسوف ترى النتيجة. لا أُريد أن أحكي قصصاً؛ حتى لا ندخل في القصص، ولكن أُعبِّر عن هذه القصص كلها التي أعرف أن الأقل منها مُزلزِل، هذا أكيد؛ لأن الواقع فيه الأكثر بكثير، لكن هذه ليست قصص كُتب، لا! هذه قصص أعرفها عن أُناس كما أعرفكم، قصص حقيقية، وأقول أُشهِد الله – تبارك وتعالى – فوق سبع سماوات، أُشهِد الله أن بعض هذه القصص لو تسمعونها كما حصلت بحذافيرها، لبعد وصعب وشق جداً أن تُصدِّقوها، لأنها أشبه بالمعاجز أو بالخيال، أمور مُخيفة، لا تكاد تُصدَّق. كيف دُبِّرت؟ كيف وقعت؟ رب العالمين، دبَّرها الله. وهذه ليست صُدفة كما يظنون الملاحدة، وكما يُحِبون أن يظنوا. هم يُحِبون أن يظنوا هذا، ويُحِبون أن يُصدِّقوا هذا، ويقولون إن هذه صُدفة. هذه ليست صُدفة، هل تعرف لماذا؟ لأن كان فيها تباشير، عن طريق مثلاً الرؤيا الصادقة أو الإلهام، وهذه الرؤيا أو هذا الإلهام لم يأت مرة ولم يأت مرتين، وإنما أتى عبر ست ليال، يُقال سيصير هكذا، سيصير هكذا، سيصير هكذا… هل من المعقول أن سيصير هكذا؟ هذا شيء كبير، فوق ما يُمكِنكم تخيَّله، كبير، كبير فعلاً، شيء لا يكاد يُصدَّق. نعم، سيصير هكذا، سيصير هكذا، الله يُريد أن يفعل هذا. وفقط بعد ست ليال صار هذا. لا إله إلا الله! هذا حال مَن يتعامل مع الله.

بعض الناس مساكين، ضُحك عليهم وأفهموهم فقط أن عصر النبوة انتهى. أكيد انتهى، أكيد! لا يُوجَد أنبياء، ولا يُوجَد رُسل، مُستحيل! أُغلِق هذا الباب. ولكن بنوا عليه مبان باطلة، واستنتجوا منه واستلوا منه لوازم باطلة،وهي ماذا؟ قيل يا أخي بما أنه انتهى عهد الأنبياء وعهد الرُسل، فإذن انتهى الأمر، و”فكوا علينا” كما يقول أهل تونس، و”لا تغلّبونا” في حكاية الإلهام والرؤيا والكرامات والأولياء. حلو، حلو! كُن هكذا، أنا أرثي لك، محروم! أنت محروم إذن، أنت محروم. لأن الذين يعيشون في هذا الظل وفي هذا العطاء الوارف الرباني، تُحل مُعضَلاتهم – وليس مُشكِلاتهم – في أقل من لحظة. وأنت مُشكِلتك صغيرة جداً وتُدمِّرك، تبقى معك عشر سنوات، وتنتهي إلى إفقارك وضياعك وتعاستك، وربما تُصاب بمرض نفسي وباكتئاب، وربما تفشل في كل شؤونك، وأنت لا تعرف كيف تخرج منها. وأخوك هذا خرج من مُشكِلة قدها ألف مرة – من غير مُبالَغة، ألف مرة قد مُشكِلتك – في أقل من لحظة؛ لأن يوجد عنده عبودية حقيقية لله، لم يأت لكي يتبجح بها أمامك وأمامي، لم يأت ليكتبها أو ليصنع بها مقطعاً على اليوتيوب YouTube، كما يحدث الآن، سخافات اليوم! لو عطس أحدهم، يقول أنا عطست اليوم مع زوجتي. ما شاء الله عليك! ماذا نحتاج من هذا العطس؟ في كل شيء هكذا، أي يتصرفون وكأنهم يفعلون شيئاً مُهِماً، شيء غريب، لا! هو يعيش في هذا، وكما قلنا هذه صيغته في المحبة الإلهية، صيغته في مُعالَجة مُشكِلاته، صيغته في تدبير شؤونه يا حبيبي. أنت تتكلَّم عن مُؤمِن، ليس عن شخص مُلحِد، وليس عن شخص خبير في التنمية البشرية و”الهجص” الفارغ والهرف الفارغ هذا، والله العظيم! يُريدون أن يُعلِّموك كيف تصير ملياديراً وتصير أحسن شخصية في العالم، ويُريدون أن يُعطوك السر، وسر السر؛ سر الــ Secret هذا، سر السر! وأن تُحضِر ما تُريد. ولن تُحضر شيئاً، ولن يشتغل هذا، وكله كلام فارغ وكذب، كذب! لو كان هذا الكلام صحيحاً، وكان يقع، لانتهى الأمر ولأصبح كل الناس أغنياء، أليس كذلك؟ ولنجح كل الناس، ولركبوا جميعاً رولز رويس Rolls-Royce وما إلى ذلك، ولركبوا طائرات خاصة، تُحاوِلون تمرير هذا الهبل على مَن وأنتم قاعدون؟ يضحكون على الناس. وهذا يُضيع على الناس الطريق الصحيحة، طريق ماذا؟ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى  اللَّهِ ۩، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۩. وأين هذا؟ ضحكوا عليك، وللأسف تجد منهم مشايخ ودكاترة أيضاً، ويتحدَّثون عن التنمية البشرية ويقولون اعمل كذا وهناك الــ Secret وهناك قانون الجذب وهناك قانون الكذا والكذا. ما هذا الهبل الذي أنتم فيه؟ أضعتمونا وأضعتم أولادنا.

اذهب وعلِّمه الإيمان يا رجل، دع عنك الكلام الفارغ هذا كله، هذا كلام مادي، هذا كلام مادي! لما هؤلاء الماديون والكفرة والملاحدة بتوا صلتهم بالسماء، وقطعوا حبلهم مع الله – تبارك وتعالى -، طبعاً ضاعوا، فصاروا يحتاجون ماذا؟ مصادر للتموين النفسي، للإغناء النفسي، للراحة. فابتدعوا هذه المصادر الوهمية، التي لا تشتغل. أي يكذبون على الناس، وإن اشتغلت، فهي في حدود دنيا بسيطة جداً جداً جداً، لا تستحق أن تُسمى علماً، هل فهتم قصدي؟ هذا هو بصراحة، وأُريد أن أكون واضحاً معكم. وبدأوا يُوهِمون الناس! والمُكتسِب أو المُتكسِّب الرابح منها، هل تعرف مَن؟ هم سادة تعليم هذه الأشياء، لأنهم يتكسَّبون من مُحاضَراتهم ومن كُتبهم، يأتون بالملايين، فقط هي هكذا. لم يتكسَّبوا منها نفسها، هل فهمت قصدي؟ ما دمت أستاذاً – ما شاء الله – وألَّفت كُتباً وما إلى ذلك، دع عنك الناس، لماذا تعقد دورات وما إلى ذلك؟ اذهب واستخدم أسرارك هذه، اذهب وائت بالمليارات والملايين، أليس كذلك؟ وائت بالعلوم وبالمعارف. ودعك منا يا سيدي، أليس كذلك؟ هو قاعد وملتزم مع كل الدنيا وعنده تلاميذ وما إلى ذلك! وهات وادفع، ادفع الأموال، وأنت تحتاج إلى دورة من يومين، ودورة من شهرين، وادفع وادفع. ويُكوِّنون الأموال ويضحكون على الناس، والله العظيم! نوع من الدجل، وفي طبيعته هذا الدجل – أي في جوهره – أيضاً مسألة روحية، ولكن هذه روح زائفة طبعاً، وتلبية زائفة للروحي فينا، ليس هذا هو. ونحن عندنا الصيغة يا جماعة الخير، عندنا كتاب الله، أضعناه ووضعناه خلفنا، ثم أتينا لكي نتفلسف على الناس.

أنا أحزن على المُسلِمين، الذين بدأوا يدخلون في هذه المداخل، وقد تركوا كتاب الله – تبارك وتعالى -، تركوه وبدأوا يسخرون، يسخرون! يقولون لك هل هو هكذا؟ هل هو هكذا إذن؟ وهل تُحل المشاكل؟ لأن الواحد منهم لم يُجرِّب، صار عمره خمسين سنة ولم يُجرِّب ولو لمرة أن يكون عبداً حقيقياً لله وأن يتحقَّق بالعبودية. وضُحك عليه وقيل له فقط إن النبوة انتهت. نعم النبوة انتهت، ولكن الصدّيقية لم تنته، والولاية لم تنته، والعبودية لله لم تنته، وكلها مطلوبة، أليس كذلك؟ وأنت لا بد وأن تجعل وكدك وأملك، ليس فقط في أن تعبد الله وأن تُصبِح من أولياء الله – الولاية العامة – فقط، لا! قل لا، ما هذا؟ هذه معناها أن همتي ستكون همة صغيرة ضعيفة – أي هذه يُسمونها همة ساقطة خاملة -، لا! أُريد همة قعساء قوية، ماذا تُريد؟ الصدّيقية. المُتاح اليوم ما هو؟ النبوة سُكر بابها، ما أقل شيء بعد النبوة مُباشَرةً؟ الصدّيقية. أُريد الصدّيقية، أُريد أن أعمل لأصل مرتبة الصدّيقية. يا أخي ولكن نحن نقول لك هذه صعبة جداً. حتى ولو كانت صعبة! لا بد وأن تُمسِك لسانك، وقلبك، قبل حتى بصرك، هذا القلب لا بد وأن تُمسِكه. سأُحاوِل، سأُحاوِل وأكيد بعد سنة، سأكون في مكان مُتقدِّم، يختلف عما أنا فيه اليوم، وبعد عشر سنوات، سأكون في مكان مُتقدِّم جداً جداً جداً، غير الذي كنت فيه قبل تسع سنوات.
وابق على هذا، تصل – بعون الله تعالى -، أليس كذلك؟ سوف تصل في يوم من الأيام، وسوف تُحصِّل الصدّيقية. وإن لم تُصِب الصدّيقية، فستكون تاخمتها، شارفتها، اقتربت منها. شيء شريف جداً جداً جداً، ومن ثم سوف تُصبِح شبه نبي، ولست بنبي – بإذن الله تعالى -، لأن الصدّيقية هذه أول مقام بعد النبوة، فأنت اقتربت حتى من النبوة، لكن النبوة انتهى أمرها، باب مسكّر، وهذا أمر الله.
هكذا يجب أن نُفكِّر كمُؤمِنين وكأُناس صالحين، نُحِب أن ننتفع وأن نسعد بإيماننا. وغير هذا لا ينفع.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 6/12/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: