إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ. وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا. مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له. وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ. صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته. كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سُبحانه ومُخالَفة أمره، لقوله جل من قائل:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۝.

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ۝ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ۝ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ۝ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ۝ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ۝ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ۝ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ۝ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ۝ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ۝

صدق الله العظيم، وبلَّغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۝، استفهام تقريري، توجه به الحق – سُبحانه وتعالى -، إلى هذه النشأة وهذه الخِلقة، مُعنوناً لها بعنوان بَنِي آدَمَ ۝، تذكيراً لهم بعداوة الذي اتخذ أباهم عدواً مُبيناً، لئلا يركنوا إليه، ولئلا يستنيموا، ولئلا يغتروا بوساوسه وزخرفاته وتسويلاته وتزييناته، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝.

أَنْ لَا تَعْبُدُوا ۩، أصل العبادة كما تعلمون، أو تعريفها في المشهور، غاية الذل بغاية المحبة، غاية الذل مع غاية المحبة! إذن مَن يعبد الشيطان بهذا المعنى؟ كثيرٌ جداً من الناس، كثيرٌ جداً من الآدميين، مع أنه قد يبدو الأمر بعيداً وغريباً في التصور والتخيل، ولذلك قال الآتي دالاً على هذا المعنى – وقوع، انجرار، وتورط الكثيرين في عبادته – دل عليه بقوله وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۩، قال جِبِلًّا كَثِيرًا ۩، وفي قراءة جُبُلاً كَثِيرًا ۩، وفي ثالثة جُبْلاً (بتسكين الباء) كَثِيرًا ۩، والجِبِل أو الجُبُل أو الجُبْل الجمع العظيم، أصله من الخِلقة، أصله من الخلق، جَبَلَ أي خَلَقَ، أي خلقاً عظيماً. ويؤيده ما في سورة سبأ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۩، عجيب، عجيب! ولذلك أكثر مَن في الأرض – أكثر مَن في الأرض والعياذ بالله، بحسب القرآن الكريم – ضلّال، إن استهديت بهم، لن يهدوك إلا إلى طريق نحس، إلا إلى طريق مشؤوم – والعياذ بالله تبارك وتعالى -. أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۩، إذن غاية الذل بغاية أو مع غاية المحبة.

هذه الخُطبة – إخواني وأخواتي – نوع من الإيقاظ والإلماع، إلى ما يتورَّط فيه كلنا، ولن أقول أكثرنا أو بعضنا، وإنما كلنا، من طاعة الشيطان – والعياذ بالله -، على وجه يُشبِه أن يكون عبادة، دون أن يفطنوا لذلك، أو دون أن يفطن مُعظَمهم لذلك.

ضابط العبادة – كما قلنا – أنها غاية الذل، والذي يتحقق بغاية الذل، لا يكون مُناكِفاً ولا يكون جدلاً ولا يكون خصماً ألد، بل يُطيع مُباشَرةً، دون أن يدخل في مُجادَلة. هذا هو العبد، وهذا هو العابد. الآن الذين يُطيعون الشيطان في بعض تسويلاته ووساوسه دون أن يُجادِلوها، ودون أن يُسائلوها، إنما يعبدونه، هذه طريقة العابد تماماً، كما شاع بين السادة الصوفية – باركهم الله وبارك الله ذكر الصادقين منهم وفيهم – كُن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل. وبين قوسين أقول – وهذا حتى من باب إحقاق الحق – (هذه العبارة لن تقعوا عليها في تراثات السادة الصوفية على الأقل في القرون الخمسة الأولى، إطلاقاً! غير موجودة، الموجود كُن بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل. وهي عبارة لسهل بن عبد الله التستري، أوردها الإمام عبد الكريم القُشيري في الرسالة، وأوردها الإمام الغزّالي على أنها من كلامه، لدى كلامه على التوكل، وليست من كلامه، بل هي من كلام سهل بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، حين درَّج التوكل ثلاث درجات، وجعل ثالثتها وأعلاها هي هذه الدرجة؛ درجة أن يكون المُتوكِّل بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل، لا حيلة ولا تدبير، يتقلَّب كيف قلَّبته الأقدار). على كل حال هذا هو، على أن هذه العبارة شاعت بين المُتأخِّرين. الآن هناك مُريد الشيخ، وقد يكون الشيخ صادقاً ودالاً وهادياً مهدياً، وهناك مُريد إبليس، يترك نفسه بين يدي إبليس كالمُريد بين يدي شيخه، فشيخه إبليس، شيخه إبليس! لا يُسائله.

لماذا وطأت بهذه التوطئة وقدَّمت بهذه المُقدَّمة؟ لكي ألج إلى موضوع خطير جداً، لم يزل يُؤرِقني، ولم يزل يُقلِقني، وهو انصراف كثير من المُسلِمين والمُسلِمات، وبالذات في هذه الحقبة الأخيرة من حياة الأمة الإسلامية المرحومة عن الصلاة، على أنهم مُسلِمون وادعون، طيبون، مُهتَمون بشأن دينهم، مُوحَّدون، مُوحِّدون غير مُلحِدين، وحتى غير شاكين، ويصومون رمضان من كل عام، على أن الصلاة ليس لها كبير شأن لديهم، يُصلون أحياناً، وبعضهم مَن لا يُصلي بالمرة، فإذا فاتشته وفتشته، تكشَّف لك عن مثل هذا المنطق؛ الصلاة من أجل ماذا كانت؟ من أجل أن تُبيِّض قلوبنا، وتُقوِّم مسالكنا، وتهدي خطونا، والحمد لله أنا كذلك، وأنا أعمل على ذلك، وأنا راضٍ بمقامي وما حصَّلته من نتيجة. مبدأ إبليسي على طول الخط، والله الذي لا إله إلا هو، وأنا على منبر رسول الله، ما ألقى هذا ولا يُلقيه إلا إبليس – لعائن الله عليه مُتتابِعة إلى يوم القيامة -.

(وعلى فكرة – أقول هذا بين قوسين – كل منا له إبليسه، وأيضاً من إلقاءات إبليس أن إبليسك يقول لك الآتي. يأتي إبليسك، ليقول لك أنا إبليسك الصغير، البيبي Baby، الكيوت Cute، الجميل، أنا غير الذي أغوى أباك، ذاك خطير بقرون، أما أنا، فأنا مسكين، من ذريته. انتبهوا! الذي يترجَّح لي – والله تبارك وتعالى أعلم – ان كل إبليس وكل شيطان هو كأبيه الأصل الأساسي في القدرة والمعرفة والمكر والدهاء، بمعنى يترجَّح لدي هكذا – والله تبارك وتعالى أعلم بحقيقة الحال – أن لإبليس الأب الذي أغوى أبوينا قدرة – قدرة بإقدار الله له على ذلك، والعلم قرَّب هذه القدرة واللياقة جداً في هذه الفترة الأخيرة – على أن ينقل لأصغر أبنائه وبضربة واحدة كل ما ورثه من خبرات ومعارف وتكتيكات ووسائل وطرائق، بضربة واحدة! الآن يجري الحديث كيف يُمكِن أن يُصنَع وكيف يُمكِن أن يُدرَّب ويُخرَج العقل المُتعلِّم – أي الــ Learned mind -، هناك شريحة واحدة، تُوضَع في ذهن الطفل، وينتهي كل شيء، يصير لديه كل المعلومات التي لدى كبار علماء نوبل Noble، بضربة واحدة! إبليس حتماً – والله أعلم، هذا يترجَّح لدي – لديه هذه القدرة، ولذلك كل إبليس مهما ظننته صغيراً وناشئاً فطيراً بسيطاً، هو إبليس الأول، الشيء نفسه! بلا فرق، انتبه، بلا فرق! ولا تستطيع أن تصرعه بمثل هذا الظن الحسن فيه أبداً، بل هو يصرعك، وهذا من إلقائه، وهذا من تلبيسه عليك).

يدل له ويُشير إليه أنه كان لديه القدرة أو الاقتدار على أن يُوسوِّس لأبوينا، حتى بعد أن أُخرِج من الجنة وأُهبِط منها، وسوس إليهما! وليس بالضرورة أنه كان معهما وجهاً لوجه وفماً لأُذن، لا! عن بعيد، وهو يُوسوِّس عن مبعدة. فإذا كان يُوسوِّس ويبلغ منا ما يبلغ ويصل إلى أعماقنا، على أنه من نشأة غير نشأتنا ومن خِلقة غير خلقتنا – من أصل ناري، ونحن من أصل طيني -، فكيف بإمكانية وصوله إلى أبنائه وذريته، من الخلقة نفسها؟ سهلة جداً، مُباشَرةً كل إبليس يُولَد، يتأبلس في ساعة واحدة، ومن ثم يكون كأبيه. فانتبه، وإياك أيضاً أن تُخدَع من هذه الزاوية.

لماذا أقول هذا؟ أقول هذا لأن المُتأمِّل في كتاب الله – تبارك وتعالى – بادئ التلاوة يجد الآتي. فقط لو أنك مررت على كتاب الله وتلوته لمرة واحدة، لوجدت للصلاة شأناً عظيماً، لعله الأعظم بعد توحيد الله – تبارك وتعالى -، شيء غريب! الصلاة في كتاب الله شأنها أعظم مما يتخيَّل هؤلاء الذين جعلوا أنفسهم مُريدين لإبليس، يأخذون بإلقاءاته ويُسلِّمونها تسليم المُريد لشيخه الهادي المهدي، على أن الشيخ هنا أضل الضلّال، وأفجر الفجّار، وأكفر الكفّار؛ إبليس – لعائن الله عليه مُتتابِعة إلى يوم الدين، بل إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين -.

الصلاة في كتاب الله – في أول كتاب الله، في سورة البقرة – هي من أو في رأس نعوت وأوصاف المُتقين المُهتدين المُفلِحين، الم ۩ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۩، قال هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۩، هداية لأهل التقوى، مَن هم؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ۩. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩ في آخر خامسة الآي، في آخر خامسة هذه الآيات الافتتاحية. إذن الصلاة في رأس نعوت المُهتدين المُتقين المُفلِحين، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۩، هذا أول نعت، أول نعوت المُفلِحين المُنجحين أنهم يقيمون الصلاة ويخشعون فيها، ولم يقل يُصلون، قال يُقِيمُونَ ۩، الإقامة التي أُمِر بها النبيون المهديون وأتباعهم من الصدّيقين والصالحين، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۩ والمُخاطَب محمد، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ۩ والقائل إبراهيم، وأوصى الله بها كل النبيين والمُرسَلين، وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۩، على أنهما – عليهما الصلوات والتسليمات – كانا بين يدي عدو قادر باطش غاشم، وكانا منه بمسمع وبصر، لكن هذا لم يكن علةً لأن يتركوا هذا التكليف العظيم، الذي هو غُرة العبادات، ورأس الطاعات، وأحد مباني الدين المُهِمة، فقد بُنيَ الإسلام على خمس، ومن هذه المباني الخمس إقام الصلاة.

حين ذكر الله – تبارك وتعالى – ما كان من شان إبراهيم وابن أخيه لوط بن هارون، ثم ذكر أنه وهب له إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ۩، وقال وَجَعَلْنَاهُمْ ۩، والمُراد هنا إبراهيم وابنيه، أو حتى يُمكِن ضم لوط، والله أعلم، على كل حال الطبري ذهب إلى أن المُراد إبراهيم وإسحق ويعقوب، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ ۩، قال وَإِقَامَ الصَّلاةِ ۩، عجيب! كل الأنبياء أُمِروا بها. عيسى مُحيي الموتى، روح الله وكلمته، يقول حين أنطقه الله في المهد صبياً وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ۩، يبدو أن الأنبياء والمُرسَلين جميعاً لم يكونوا – وأقول هذا على سبيل السُخر- من الطُهر والصفاء والنقاء والتمحض بتلك المنزلة التي سوَّل بالتحقق بها إبليس لمُريديه من المُسلِمين المساكين المُستغفَلين، يقول أحدهم لا، أنا لا أحتاج، نفسي طاهرة، نفسي رضية، قلبي أبيض، سلوكي حميد مُستقيم. نعم، أنت لا تحتاج، لكن الأنبياء المذكورين جميعاً كانوا يحتاجون، لكن الأنبياء المذكورين هم يحتاجون! لأنك أصفى وأطهر وأحسن منهم. 

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۩، الصلاة إنما كانت لأنها أعظم الذكر لله. صل، إذا أردت أن تذكر الله، و: بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ۩، والمُؤمِن لا يزال لهجاً بذكر ربه – لا إله إلا هو – في جميع أحواله وعلى جميع أنحائه، لكن أعظم ما ذُكر وما يُذكَر به الله الصلاة، الصلاة! ولذلك هنا قال ماذا؟ قال وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ۩. إذن قال وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ۩. وهنا قال وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ ۩. يقول أن يُذكَر الله بالصلاة أعظم أيضاً من هدف وغاية أنها تَنْهَىٰ – وإنها لكذلك – عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۩، أعظم ما يُذكَر به الله الصلاة، ولذلك إن تركت الصلاة، تركت باب الذكر الأعظم، فاستبدت بك الشياطين، احتوشتك الشياطين، قال – عز من قائل – وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۩، هو هذا! لأنك تركت الصلاة يا مسكين، احتوشتك الشياطين. وبعد ذلك تبدأ دون أن تدري تصدر عن تسويلاتهم وعن أفكارهم وعن تزييناتهم، وأنت لا تدري، بل تظن نفسك مُفكِّراً وفيلسوفاً وعارفاً وذكياً وألمعياً وأنه لا يوجد مَن هو مثلك، لا يُوجَد مَن هو مثلك! وهذه مُجرَّد نُسخ شيطانية صغيرة تافهة، القرآن يكشفها بآية واحدة، فضلاً عن عشرات الآي التي رفعت الصلاة هذه المرتِبة، وجعلتها بتلكم المثابة، التي سمعتم بعضاً من نعتها وبعضاً من خطرها وعظيم وكبير قيمتها.

إخواني وأخواتي:

هذا شيء مُخيف. الصلاة مكفرة الذنوب، كان أبو بكر الصدّيق – رضوان الله عليه – إذا أُذن للصلاة، ثم أُقيمت، يقول قوموا، قوموا إلى ناركم التي أشعلتموها، فأطفئوها. أطفئوا النيران. أطفئوا نار الحقد والغضب والكذب والغش والنظر المُحرَّم والقول المُحرَّم والنفس الشاهية والأفعال الآثمة، أطفئوها بالصلاة. قال – عز من قائل – وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ۩. أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه – أو قال فيه – كل يوم خمس مرار، أي خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا كلا يا رسول الله. قال فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها – أو قال بهن – الخطايا. في صحيح مُسلِم، هو هذا! الصلوات الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضان إلى رمضان مُكفِّرات لما بينهن، إذا اجتُنبت الكبائر. 

الصلوات تكفير الذنوب، كيف تُكفَّر ذنوبك يا معصوم؟ هل أنت معصوم، لا ذنوب لك؟ حتى لو كنت معصوماً، ستُخاطَب بمثل ما خوطب به عيسى؛ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ۩. وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ۩، أي إسماعيل – عليه السلام -، الرضي المرضي، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ۩. الصلاة هي الباب الأكبر لذكر الله، الصلاة هي الباب الأعظم لتقويم النفس والسلوك وتعديلهما، أي تعديل النفس وتعديل السلوك، والتنائي والتجافي عن الغرور وعن المآثم والمغارم، قال – عز من قائل – إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۩، وقال – تبارك وتعالى – فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ ۩، أي من بعد الأنبياء المذكورين في مريم، فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ۩، ولما أضاعوها، وقعوا في ماذا؟ أغرقوا في الشهوات. هذا القرآن! القرآن يُصادِق بعضه بعضاً، يُساعِد ويؤازِر بعضه بعضاً، ويُسعِد بعضه بعضاً، لمَن تأمَّله بأدنى تأمل. فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ۩، وقد ذكر الله – تبارك وتعالى – الآتي من بين خصال، بل جرائم المُجرِمين المسلوكين في سقر؛ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۩، في جهنم! قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۩، هذه أول فعلة، أول فعلة! على أنه ليس بعد الكفر ذنب، وليس بعد الشرك ذنب. الشرك أعظم الذنوب، أليس كذلك؟ هذا هو، فكأن الآية تقول أعظم الذنوب بعد الشرك ترك الصلاة، وهذا مذهب أحمد بن حنبل. مذهب أحمد أن ترك الصلاة أعظم من قتل النفس. ولذلك وردت الأحاديث الصحاح أو الصحائح القوية، التي لا مطعن فيها، أن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ونحن لا نذهب مذهب أنه كفر حقيقي، مُخرِج عن المِلة، مُحبِط للعمل كله، ولكن سماه المعصوم الصادق المصدوق الأبر الأطهر كفراً، تشنيعاً وتبشيعاً لهذه الجريمة؛ جريمة ترك الصلاة. أيها المعصومون، الذين يرون أنهم لا يحتاجون الصلاة، لأنهم كملة، أي Perfects، ما شاء الله كملة! مرة ثالثة حتى لو كنتم كلمة، تحتاجونه، والقرآن يُؤكِّد هذا.

كيف له – لعنة الله تعالى عليه – أن يُغر وأن يُضل وأن يُذل أبناءنا وبناتنا بهذه الإلقاءات؟ ما عساه يُلقي إليهم؟ أول ما يُلقي إليهم – والله أعلم، والأمر واسع – أن يلفتهم إلى ميكانيكية الصلاة، فيقول لأحدهم أو إحداهن انظر في صلاتك، أنت صليت أربع أو خمس سنوات أو عشر سنوات، ماذا استفدت؟ ماذا أجدت عليك الصلاة؟ ماذا أجدت عليك – يُقال أجدى عليه وأجداه – الصلاة؟ ماذا أجدتك أو أجدت عليك الصلاة؟ ها أنت كما أنت، ولعلك أسوأ مما كنت، على أنها تُرهِقك وتنتزعك من فراشك في الليلة الباردة الزمهرير، وأنت كما أنت، مكانك تُراوِح، مكانك سر، لم تستفد منها شيئاً. وهذا إلقاء بادئ الرأي قد يبدو وجيهاً، ولا وجاهة فيه بوجه، لماذا؟ لأن هذا المسكين يظن أن حركاته الببغاوية التكرارية الميكانيكية هي الصلاة، لا! أبداً، والله لم يأمرنا بالصلاة، الله أمرنا بإقام الصلاة. هذا لم يُقم الصلاة، هذا لم يطعم ذوق الصلاة أصلاً يوماً، هو لم يعرف الصلاة، ويظن أن هذه الحركات الببغاوية، هي الصلاة. وصدق إبليس هنا حين وصفها بأنها حركات ميكانيكية، ببغاوية، قردية، تكرارية، فقط! صحيح، فعلاً هي كذلك، لكن هل أراداها الله لتكون كذلك؟ هل الصلاة التي تُقرِّب من الله، وهي أعظم الذكر وأعظم وصلة بالله – تبارك وتعالى -، والتي تنهى صاحبها عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۩، هي هذه الببغاوية؟ مُستحيل. إذن هذا لم يُصل. والنبي في أحاديث كثيرة صحيحة نبَّه على هذا المعنى بأكثر من طريق وبأكثر من أسلوب وصيغة، ومن ذلك ما رواه أحمد في مُسنَده وأبو داود، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الرجل لينصرف من صلاته، ولم يُكتَب له من صلاته إلا عُشرها، إلا تُسعها، ثُمنها، سُبعها، إلا سُدسها، إلا خُمسها، إلا رُبعها، إلا ثُلثها، إلا نصفها. هكذا بالتدريج، النبي بدأ من العُشر إلى هذا، هل هذا واضح؟ 

ولذلك قال عبد الله بن عباس – وليس بحديث مرفوع، هذا حديث مرفوع، هذا قاله عبد الله بن عباس، رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها! المُطلَق يُراد به الكامل، الله إذا قال صل أو أقِم الصلاة، يُريد ماذا؟ الصلاة الكاملة، التي أرادها كما أرادها، لا الصلاة التي رأيت ربما شيخك أو أستاذك أو صاحبك أو أباك أو أمك يُصلونها، صلاة ببغاوية، لا تُغني شيئاً. وفعلاً أنت تشعر أنها لم تُغن عنك شيئاً ولم تُجد عليك شيئاً، بالعكس! أنت تُصلي، وبعد أن تُصلي، تفرغ إلى الكلام في الناس، وتنقص الناس، والغيبة، والنميمة، والكذب والغش، والدجل، والكلام الفارغ، وفعل المُحرَّمات. لم تستفد منها شيئاً، لأنك لم تُصلها كما أراد الله أن تُصليها، بلا التفات، البدن لا يلتفت. قال – عز من قائل – وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ۩، قنوت! والقنوت هنا انقطاع، انقطاع عن الحركات، وانقطاع الكلام في الدنيا، وأيضاً في العُمق والباطن انقطاع جولان القلب واسترسال النفس مع الأماني والشهوات والشؤون الدنيوية قدر المُستطاع، و: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۩، لكن لا بد من المُجاهَدة، لا بد من المُجاهَدة! 

كان عبد الله بن الزُبير إذا قام في صلاته، كأنه عود، كأنه خشبة، وهذا الخشوع. رأى سعيد بن المُسيب – وليس بحديث، هذا من كلام سعيد – رجلاً يُصلي وهو يعبث بلحيته، فقال لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارجه. هذا ليس خاشعاً، هذا لا يُصلي، هذا يُكرِّر، ببغاويات! أين هذا؟ وما هذا اللعب؟ بعض الناس يحك وما إلى ذلك، وبعضهم يعد نقوده، وبعضهم ينظر في ساعته. والله رأيت مرة شخصاً – وكان شخصاً كبيراً، هدانا الله وإياهم أجمعين، والله هذا في صلاة، في رمضان، رأيته هكذا – يُجيب عن رسائل عبر الهاتف، مستعجل! في الصلاة! شيء عجيب، شيء عجيب، وكأنه عادي، وكل مَن حوله يرون هذا، وفي كل ركعتين يُجيب، ويصدر الهاتف أصواتاً، مستعجل، مستعجل! شيء غريب، هو قال لك إنه صلى. وأين هذا؟ أي صلاة؟ أي صلاة؟

ولذلك روى الإمام أبو القاسم الطبراني في المُعجَم الكبير، عن أبي عبد الله الأشعري – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – رأى رجلاً يُصلي، لا يُتِم الركوع – مُباشَرةً يقف، لا يُتِم الركوع -، وينقر السجود، نقر الغراب الدم، بسرعة، بسرعة! فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُعلِّقاً لو مات هذا على هذه الحالة، مات على غير مِلة محمد. هذه ليست مِلتي، وهذا ليس ديني. الله لم يبعثي بهذا العبث، هذا اسمه عبث. هذه ليست صلاة، وهذه ليست عبادة. أنت تظن أن الله يُريد منك هذه الصور؟ الله يُريد ما يُصلِح باطنك وظاهرك، الله يُريد ما يُعطيك مناعة ضد ضعف النفس وضد تسويلات إبليس يا رجل، أنت ما عرفت أن تُصلي! قال لو مات هذا على هذه الحالة، مات على غير مِلة محمد، إنما مثل هذا كمثل الجائع – كمثل رجل جائع – أصاب تمرةً أو تمرتين، فلم تُغنيا عنه – أي من جوعه – شيئاً. تمرة أو تمرتان مع شخص جائع لم يأكل من يومين لا تنفع! فالنبي يُشير إلى ماذا؟ إلى أن الصلاة غذاء الروح، طعام الروح.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

وفيما أخرجه الإمام أحمد – رضوان الله عليه – في مُسنَده، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته. هذا حديث أبي سعيد! يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال لا يُتِم ركوعها ولا سجودها. سرّاق هذا! أنت سرقت صلاتك، أفسدت صلاتك بهذه السرقة، أو نقصتها حظها، نقصتها حظها!

روى عبد الله بن المُبارَك في كتاب الزُهد له، عن الحسن البِصري – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال إنما مثل المكتوبات، كمثل الميزان، فمَن أوفى، استوفى. إنما مثل المكتوبات، أي الصلوات الخمس المكتوبة، الفرائض الخمس، كمثل الميزان، فمَن أوفى، استوفى. تُريد أن تأخذ أجر الصلاة تاماً وافياً؟ ائت بصلاة وافية تامة. تُريد أن تعود بأهداف ومقاصد وغايات وأثمار – أي ثمرات – الصلاة، فتنهاك عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۩، وتُقرِّبك من الله، وتُليِّن قلبك، وتُقرِّب دمعك، وتُقوِّم سلوكك، وتهدي نفسك، وتُبصِّرك رُشدك؟ ائت بها كاملة. لا أستطيع؟ اجتهد، ما لا يُدرَك كله، لا يُترَك جُله. ائت بالجُل يا أخي، ائت بالمُعظَم، إن لم تكن قادراً ولم تستطع أن تأتي بالكل، جاهد! جاهد نفسك. فمثلها كمثل الميزان، مَن أوفى، استوفى.

وروى أيضاً أحمد وأبو داود – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا غرار في صلاة ولا تسليم. لا غرار! الغرار هو النقص، من غارت الناقة، أي نقص لبنها، نقص حليبها. لا نقص! ينهانا، هذا نفي يُراد به النهي، كما يقول البلاغيون، نفي يُراد به النهي، أي لا تنقصوا صلواتكم، ائتوا بها تامة كاملة، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ۩. الله أمرنا أن نُقيم الصلاة، والنبي أُمِر بأن يُقيم الصلاة، و: أَقِمِ الصَّلَاةَ ۩، إبراهيم الخليل قال رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ۩. النبي يقول لا تنقصوا الصلاة، بأن تنقصوا من قيامها أو ركوعها أو سجودها أو طمأنينتها أو خشوعها. 

ولذلك في الصحيحين، في حديث المُسيء صلاته، أمره النبي مرتين أو ثلاث مرار، قال له عُد، فصل، فإنك لم تُصل. وهو نقر كما ننقر، صلى بسرعة! ما هذه الصلاة؟ قال له عُد، فصل، فإنك لم تُصل. كأنه يقول له هذه الصلاة غير مقبولة، هذه الصلاة غير مقبولة! لم تُسقط بها فريضة الله – تبارك وتعالى -، عُد. فعاد الرجل. عُد، فصل، فإنك لم تُصل. في مرتين! قال والذي أرسلك، أو بعثك بالحق، لا أُحسِن إلا هذا. فعلَّمه كيف يُصلي، وعلَّمه كيف يُتِم الأركان، وكيف يطمئن، وكيف يخشع ويُقبِل على الله بكُليته، في الصلاة. قال له هذه الصلاة التي بُعِث بها النبيون وأُمِر بها المُرسَلون، وعقدوا عليها بالنواصي، واهتموا بها. هو هكذا يا إخواني وأخواتي.

على كل حال يأتي الشيطان مرة أُخرى – الوقت أدركنا -، ليقول لهؤلاء المساكين – هدانا الله وإياهم أجمعين بهدايته – الآتي، هو يأتي ليقول لهم الآتي! والصلاة نور على فكرة، الصلاة بحد ذاتها نور، مَن حافظ على الصلوات، وأقامها، واستزاد منها، زاد نوره. لا يُوجَد إنسان يُصلي صلاة حسنة ولا يقوم الليل، مُستحيل! لأنه يغدو عاشقاً للصلاة – والله العظيم -، وعاشقاً لليل، ينتظر مقدم الليل انتظار العاشق لمعشوقه، أرحنا بها يا بلال، راحة، نعيم، والله نعيم وفردوس، أُقسِم بالله! فمُستحيل أنه يكتفي بالخمس الصلوات. لو قال لك أحدهم أنا أكتفي بها، فاعلم أنه لا يُصلي جيداً. الذي يُصلي خمس صلوات فقط لا يُصلي جيداً. هل هناك إنسان يكتفي من المال؟ مُستحيل، يجري خلفه، ووالله لو عنده عشرة مليارات، وأمامه ألف يورو، يذهب ويجري وراءها أيضاً، يقول عندي عشرة مليارات، لكن هات الألف. هذه ألف، وأنت عندك عشرة مليارات، عندك عشرات الآلاف مثلها؟ يقول لك وما المُشكِلة؟ الألف يورو جيدة وحلوة، هات. فماذا عن الصلاة؟ ألم تجدها حلوة لذيذة طيبة؟ فلا، ولذلك أنت لا تستزيد. أما الذي يُحافِظ على الصلوات، ويعود بهذه اللذة وبهذه الغنيمة، فيستزيد. عنده ضُحى، وعنده صلاة الأوابين، وعنده صلاة القيام بالذات، صلاة الليل لا يُفرِّط فيها، كأنها مفروضة، ولها لذة خاصة، وهي سيما الصالحين، وأبداً عالمة فارقة لأولياء الله المُتقين – جعلنا الله وإياكم منهم -.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت. ربنا اجعلنا مُقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، اللهم آمين، واجعلنا فيها من المُطمئنين الخاشعين المُقبلين بكلياتنا عليك يا رب العالمين، وعُد علينا بأفضل عوائدك، وزِدنا نوراً وتنويراً وهدايةً واهتداءً برحمتك يا أرحم الراحمين. اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

تكملة لموضوع الخُطبة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً، اللهم آمين.

أيها الإخوة:

إن شاء الله في رُبع ساعة أو عشرين دقيقة، نُكمِل موضوع الخُطبة – إن شاء الله -، على جهة الاختصار. 

على جهة الاختصار – بإذن الله تعالى – نقول تقريباً وقف بنا الكلام في الخُطبة الثانية عند موضوعة أو مسألة أو نُقطة الأثر الروحي للصلاة. والذي كُنت أُريد أن أُفضي إليه أن من إلقاءات الأبالسة – والعياذ بالله – إلى المُوحِّدين وإلى العابدين، أن الأثر الروحي ليس بالضرورة أن يكون مُقيَّداً بحركات بدنية. هذه الحركات تُناسِب ضعاف العقول، الصغار، المساكين من الناس، لكن الذين يتوفَّرون على لياقة تجريدية عالية، وإرادة حديدية، وهمة قعساء كما يُقال -، لا يحتاجون إلى هذه الحركات الشكلية الطقوسية البسيطة، ما الذي نحتاجه من هذه الحركات؟ المُهِم الجوهر الروحاني – وتسمعون هذا الكلام كثيراً -، الجوهر المعنوي، الغاية، الهدف من الصلاة، ونحن هذا الهدف نصير إليه من طُرق أُخرى، ليس بالضرورة هذه الحركات وفي الأوقات المُحدَّدة وبهذه الطريقة المُتعِبة الميكانيكية. هذا – والعياذ بالله – تسويل شيطاني، قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ۩.

أولاً هذا التسويل الشيطاني الجهول، يتجاهل حقيقة أكثر من واضحة، وهي العلاقة المُتواشِجة القوية جداً، بين البدني والمعنوي. وهذه إحدى بدهيات علم النفس، بل إحدى بدهيات علم الأعصاب – النيورولوجي Neurology -. هناك علاقة غير عادية، نحن لسنا ملائكة، لسنا أرواحاً مُجرَّدة. لو كنا أرواحاً، لكان هذا شيئاً آخر. ولذلك الجنة ليس فيها تكاليف، على أنها نشأة أُخرى، هل هذا واضح؟ الجنة ليس فيها تكاليف، ولكن أنت هنا في الدنيا روح في بدن. فرق كبير بين روح مُجرَّدة، وبين روح في جسد، روح في بدن! هيا أقنع نفسك، فضلاً عن أن تُقنِع غيرك، أن الصلة والتآثر مقطوع بين الروح والبدن. غير صحيح بالمرة، أنظر إليك، فأعلم مُباشَرةً -فأعلم أو أعرف – أنك راضٍ أو غاضب، قلق أو مُطمئن، سعيد أو مُكتئب. كيف عرفت هذا؟ هذه أحوال معنوية، هذه أحوال النفس! مُباشَرةً تُترجِم نفسها وتنعكس في ماذا؟ في أحوال بدنية. أليس كذلك؟ العكس صحيح أيضاً، العكس صحيح! الحالات البدنية تُؤثِّر في الحالات المعنوية والنفسانية، وسأُثبِت هذا. 

هناك الحالات الأولى، الحالة النفسية، الحالة الروحية، الحالة العقلية، تُؤثِّر على البدن. أنت ما تُفكِّر! ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius – الفيلسوف الرواقي الكبير، والإمبراطور، الإمبراطور الفيلسوف – كان يقول أنت ما تُفكِّر. فكِّر بكآبة، تُصبِح كئيباً. فكِّر بانفتاح، تُصبِح مُنفتِحاً. فكِّر بضعة، تُصبِح مُتضِعاً. فكِّر بقوة، تر نفسك قوياً. أنت ما تُفكِّر! التفكير له أثر غير طبيعي، المعنوي أثره غير عادي على المادي. وأنت يوجد عندك علم كامل اسمه علم الطب النفسجمي، أي السيكوسوماتيك Psychosomatic، وسيكو Psycho معناها النفس بالإغريقية، وSoma معناها البدن، وهناك الــ Somatic cells، أي الخلايا البدنية، هذا السيكوسوماتيك Psychosomatic، أي هناك الأمراض الجسمية ذات المنشأ النفسي، جسمية! أمراض جسم، وحين يذهب المريض إلى الطبيب، يفحصه ويقول لا يُوجَد يا أخي شيء، لا يُوجَد منشأ جسمي واضح لهذه الأمراض. الطبيب العادي يحتار! يأتي طبيب نفسي، تعلَّم جيداً، ويقول له لا، هذه أمراض سيكوسوماتيك Psychosomatic، أي Psychosomatic diseases، هذه أمراض نفسجمية. هذه جسمية، لكنها منشأ ماذا؟ نفسي، نفسي! هذه أمراض خطيرة، وهذا علم كامل.

إذن هذه معناها أن المعنوي عنده تأثير لا يُنكَر في ماذا؟ في المادي. وهذه بديهية. لكن هل المادي – أي كيف أُصلي؟ وكيف أتخشع؟ – له تأثير في المعنوي؟ جداً جداً جداً. انتبهوا، هذه قضية من أهم القضايا، والله! وسوف تعرفون خطورة وأهمية هذه المُلاحَظة، وهي حقيقة، وليست مُلاحَظة، هذه حقيقة، حقيقية!

الآن تعال وتعامل مع والدك أو مع والدتك أو مع أستاذك بأدب، انحن له قليلاً، قبِّل يده، وما إلى ذلك. أنت سترى نفسك مدفوعاً، ولديك طاقة زائدة، لكي تُعظِّم احترامك لوالدك. أي أنك أحببت الشيء هذا، وتُريد أيضاً المزيد، تشعر به وتزداد. تعال وتعامل مع والدك بنوع من الاستخفاف، كأن تقول له السلام عليك، كيف حالك يا حاج؟ كيف حالك يا (ختيار)؟ كيف حالك يا (ختيار) اليوم؟ أنت سترى من نفسك أيضاً أنك أصبحت ذا طاقة زائدة للاستخفاف بهذا الرجل الكبير، الذي هو أصل وجودك ومنشأك، أيها المغرور الجهول! تقول له يا (ختيار)، يا كبير، يا شيخ، كيف حالك أنت؟ وتُحرِّك له أصابعك هكذا، وأنت ترى من نفسك أنك أصبحت منطقياً، وبحسب هذا المعنى ستقول للناس هذا عادي، لماذا؟ هل لا بد وأن أُقدِّسه؟ هذا أبي، وهو علي عيني وعلى رأسي، أُطعِمه وأسقيه، ولكن هل لا بد وأن أُقدِّسه إذن؟ فتبدأ تضع من احترامه! الحركات أملت عليك هذا.

هذا الآن باب جديد في النيورولوجي Neurology، أي باب جديد في علم الأعصاب، وهو خطير جداً. مَن حضر للعبد الفقير – ربما هذا قبل سنتين – خُطبتي التوبة العصبية، يعلم أن هاتين الخُطبتين من أهم الخُطب، اسمهما التوبة العصبية، كيف نقوم بتوبة عصبية؟ نحن دعَّمنا فيهما أو في هاتين الخُطبتين واستندنا فيهما على الحقيقة العصبية الجديدة، وهي أن البدن – البدن بكل آلياته، الجهاز العصبي المركزي والبدن عموماً – لا يستطيع أن يُميِّز بين الحقيقي وبين الافتعالي. أنا مُنزعِج، مُنزعِج حقيقةً، لأن هناك ما أزعجني، تُوجَد مُثيرات مُزعِجة. أنا مُنزعِج، تمثيلياً. أنا أضحك، من كل قلبي، من صماصيم قلبي كما يقول السوريون والمصريون، وكذلك وأنا أضحك مُتضاحِكاً، مع أنني زعلان. المُخ لا يستطيع أن يُميِّز أنك مزعوج حقيقةً أو تمثيلياً، ولا أنك تضحك وأنت مبسوط حقيقةً أو تمثيلياً، هو سيُصدِّق أنك تضحك حقيقةً، لا يقدر على أن يُميِّز. وسيبدأ في أن يُفرِز الإندروفينات Endorphins كما يُسمونها، وهي المُبهِجات، هذه أفيون المُخ، أفيون طبيعي رباني. وسترى نفسك بعد رُبع ساعة أو نُصف ساعة، أصبحت سعيداً حقاً، وستضحك من قلبك، مع أن فعلاً هناك مُصيبة حلت على رأسك قبل ساعات، وجعلتك كئيباً. المُخ لم يُميِّز، أنت حاولت أن تتضاحك، قال لك انتهى، سأُعامِلك على أنك تضحك. 

إذن معناها التأثير البدني في الروحي ثابت أو غير ثابت؟ ثابت. إذن إبليس الجهول، الذي قطعاً يعلم هذه الحقيقة، ها هو يجهل عليك، يجهل عمداً؛ لكي يختدعك ويُضِلك. يقول لك ما هذه الحركات؟ الحركات! مُهِمة جداً، هذه ليست للروح المُجرَّدة. لو كنا أرواحاً مُجرَّدة، لكانت هذه الحركات لا معنى لها. الروح المُجرَّدة تُدرِك الحقائق بتجريد وبالمُواجَهة وبحدسها، شيء عجيب! لكن هذه روح في بدن، لا! تتأثَّر بحركات البدن، وتتأثَّر باللامُجرَّد وبالمحسوس. فحين أقف مُستقبِلاً القبلة، وأُحاوِل أن أستحضر الهيبة وخشوع المقام، وأرفع يدي، وأرمي الدنيا خلفي، وأقف خاشعاً، ثم أقول الله أكبر وسُبحان الله، هذه الوضعية البدنية تُحدِث خشوعاً حقيقياً في الروح، أو في النفس. وزائد يُعطي زائداً، إضافة تُعطي إضافة باستمرار، إلى ما لا نهاية.

احفظوا هذه الحقيقة الروحية العلمية المُهِمة جداً؛ لو كنا أرواحاً مُجرَّدة، لن نحتاج إلى ماذا؟ إلى الحركات البدنية. لكن نحن أرواح في ماذا؟ في أجساد، في أبدان. نحتاج إلى الحركات، نحتاج إلى الركوع والسجود والقيام، وإلى القنوت في الصلاة، هل هذا واضح يا إخواني؟ وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. أتُريد أن تُلبى دعوتك؟ اجعلها في سجود. أتُريد أن تُلبى دعوتك؟ اجعلها عقب صلاة، قبل السلام. من أكثر المواطن وأحراها أن تُجاب فيها الدعوة بعد أن تُنهي إنك حميد مجيد، ادع، والنبي قال ادع بما تُحِب وترغب. لماذا؟ لأنك الآن تغشيت بغاشية عظيمة من الرحمة، طبعاً! أنت الآن فرغت وقضيت أهم عبادة في العبادات إطلاقاً، أهم من الصوم ومن الحج ومن الزكاة، هذه الصلاة، وصليتها بإقبال وقنوت حقيقي. قبل أن تُسلِّم، ادع الله، قل ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك. دعاء مُهِم هذا، لكي ننجو من الأبالسة، ننجو من شياطين الإنس والجن، ننجو من أن نكون ضحايا لهذه التسويلات اللعينة، التي قطعتنا من الله، أي عن الله، قطعتنا عن الله – تبارك وتعالى -، أو من الله – سُبحانه وتعالى – وهي الأفصح.

نحن ضُحك علينا، إبليس ضحك علينا، سنون مرت وهو يضحك علينا، يقول لك ماذا تُريد من الصلاة؟ الصلاة كذا وكذا. وهذا ليس صحيحاً أبداً، وأفقدنا أهم مورد من موارد الروح – لعنه الله -، والنبي قال لنا، قال مثلما التمر والطعام غذاء للبدن، الصلاة غذاء للروح. تمرة وتمرتان لا تُغنيان جائعاً، أضرت به المسغبة، شيئاً. لا تُغنيك! أنت لم تأكل من يومين، فماذ تفعل بتمرة وتمرتين؟ وكذلك صلاة مثل هذه، نقر سريع، في ثلاث دقائق تكون انتهيت من أربع ركعات، فما الصلاة هذه؟ إذن جرِّب، جرِّب – وأنا قلت لكم هذا في رمضان وأجري على الله وأُفتي بهذا – أن تأخذ الهاتف الذكي – السمارت فون Smartphone – الخاص بك، وأنزِل عليه أي نُسخة من نُسخ المصحف، وأنا أنصح بنُسخة بيت التمويل الكويتي، مُمتازة ورائعة جداً، لها شكل المُصحَف ولون المُصحَف، وفيها مزايا وخصائص – Features – غير طبيعية، وتستطيع أن تُنزِّل تفسير الطبري والقرطبي وابن كثير والصابوني، شيء مُمتاز بصراحة، وفيه أيضاً القرآن متلواً مُجوَّداً ومُرتلاً، هناك عبد الباسط والمنشاوي والحذيفي وغيرهم، شيء عجيب جداً، مُصحَف أمامك! افتح وقُم بالقراءة حين تُصلي المغرب والعشاء. أنت تقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩ كل يوم، كل يوم، كل يوم! حتى مللت، وما عُدت تخشع معها، لا! افتح وقل أنا – بعون الله – سأقرأ في الصلوات الجهرية الكثير، وهذا مُمكِن حتى في صلواتك السرية أيضاً، ولكن في السر طبعاً، الأمر يختلف. قل سأقرأ من بداية المُصحَف، حتى آتي على آخره – بإذن الله تعالى -، كل يوم سأقرأ ما تيسَّر، بدل أن أقرأ بــ  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩ والكوثر وما إلى ذلك في الركعة الواحدة، أُريد أن أقرأ صفحة على الأقل، سوف أبدأ بصفحة! جميلة الصفحة، أي هي قريبة من الثُمن، أو هي بالأحرى أقل من ثُمن. أقرأ بثمن مثلا، وفي الركعة الثانية أيضاً اقرأ بثمن، هاتان صفحتان، وهذا مُمتاز. والعشاء شرحه، والفجر شرحه، والظهر شرحه، والعصر شرحه. وانظر إلى المُتعة العجيبة، والله العظيم! وأنت تتلو كتاب الله – تبارك وتعالى – ستستمتع. 

حين ترى أن هناك آية لم تفهمها، يُمكِنك بعد أن تُنهي الصلاة، أن تضع مُباشَرةً كلمة تفسير، في النُسخة نفسها، ومن ثم ستفهم تفسيرها. لا تأت وتنتظر عدنان إبراهيم يوم الجمعة، ماذا تُريد من عدنان؟ هناك المُفسِّرون العظام أمامك، اسألهم ولا تسألني، اقرأ التفسير، الطبري يُفسِّر لك الآية. فهمتها، تلوتها، تذوقتها، تنعمت بها، وها هو التفسير، ما أجمله! أنت لست ماهراً في القراءة، لا تعرف أحكام التجويد وما إلى ذلك، لا تعرف هذه كيف تُقرأ، هل تُكسَر أو تُضَم وما إلى ذلك؟ هل هذه همزة وصلة أم لا؟ هل الراء تُفخَم أم تُرقق؟ اسمع، هذا موجود عندك، قبل أن تُصلي، إن كان عندك وقت، فاسمع مُجوَّداً، هناك عبد الباسط وغيره، إن لم يكن عندك وقت، فاسمع مُرتلاً، هناك المنشاوي والحذيفي، أو أي واحد غيرهما، اسمع مُرتلاً، حتى تتعلَّم كيف تقرأ بشكل صحيح. وبهذا تكون استفدت كثيراً، فتشعر بأن الصلاة أجدتك. أنت تشعر الآن بأنك تُصلي وأنك مُهتَم بالصلاة وأنك تقوم لكي تُقيم عبادة حقيقية، وليس هيا نُصلي سريعاً ثم نعود للفيلم – الموفي Movie – ونعود إلى الكلام في التليفونات Telephones، لا! أنا أقوم للصلاة، أنا أقوم لها فعلاً، ومُتهيء لها وأُحِبها. والله تبدأ ترى ما معنى الصلاة، تتنعم بها، والله!

وبعد ذلك مُستحيل أن تقرأ صفحة فقط، انس حكاية صفحة هذه، تأتيك أيام تصير تُحِب فيها أن تقرأ في الصلاة الواحدة جُزءاً كاملاً، في الركعة الأولى تقول سأقرأ ثنتي عشرة صفحة، وسيتبقى ثماني صفحات، لأن كل جُزء فيه مُكوَّن من عشرين صفحة، في طبعة مُصحَف الملك فهد، وفي الركعة الثانية – لأن السُنة أن تكون دائماً أقل وأقصر – ثماني صفحات، ومُتعة! وتود لو أن الزمن يمتد بك. وبعد فترة – أي بعد شهرين أو ثلاثة أشهر – سوف تقول لا، هذا لا يكفي، ادخل يا ولد في قيام الليل الآن. ومن ثم سوف تصير تقوم (على كيفك)، هنا الفردوس، قبل الفجر تقوم بساعة ونصف، (على كيفك). اقرأ ورتل وابك وادع، يا الله، ما أحلاها! يا الله، ما أحلاها! 

وسوف ترى بعد ذلك أهمية الصلاة، التي لم تكن مُدرِكاً لأهميتها، لأن اللعين صرفك عنها، وضحك عليك، وقال لك قلبك أبيض وثوبك أسود وما إلى ذلك. دع عنك هذا الكلام الفارغ الخاص به – لعنة الله عليه -، دع عنك هذا! ثم إننا قلنا إذا العبادة هي غاية الذل مع غاية المحبة، فهل من شأن العبد أن يُناقِش؟ هل يُمكِن لعبد – أي عبد حقيقي، عبد بمعنى Sklave – أن يُناقِش سيده؟ ما أحلاه حين يُناقِش سيده! لو سيده قال له يا ولد تعال – وهو عبد -، تعال وخُذ هذا الزنبيل أو هذه السلة أو هذه القفة، خُذها ولا تفتحها، واذهب بها إلى آخر القرية، وعلى الضفة الأُخرى من النهر انتظر ثلاث ساعات، حتى يأتيك رجل نعته وصفته كذا وكذا، أعطه إياها. لن يتكلَّم، ولن يقول لماذا بعد ثلاث ساعات؟ ولماذا أذهب الآن؟ لماذا لا أذهب بعد ثلاث ساعات إذن؟ والنهر قريب، والمسافة لن تستغرق أكثر من ربع ساعة! لا يتكلَّم، يأخذها، ليصدع بالأمر، ثم يذهب، ويبقى ينتظر ثلاث ساعات، لأنه عبد.

ونحن عبيد يا حبيبي، نحن لسنا أرباباً، نحن عبيد لرب، لا يُريد إلا خيرنا وسُعدنا ومصلحتنا – لا إله إلا هو -، إذا قال لك صل، فلتصل. وهذا الصحيح على فكرة، أنتَ طالب جامعي، وأنتِ طالبة جامعية، نفترض أنك مثلاً تدرس هندسة المعلومات أو تدرس الأحياء أو الطب أو أي شيء آخر، ما أحلاك حين تأتي يوم الامتحان وتقول لهم والله أنا أُحِب الطب جداً، أنا أُحِب مادة الهستولوجي Histology هذه، أي النُسج، مادة النُسج حلوة جداً، ولكنني أُريد أن أمتحن بشرطي أنا! سيقولون لك هذا حلو والله، راسب من الآن يا ابننا، راسب من الآن. لا يُمكِن لواحد أن يدخل الامتحان بشرطه هو، بل يدخل الامتحان بشرط مَن؟ بشرط المُمتِحن. هذا ليس بشرطك، ولا تنفعك هذه الديباجات الصبيانية، من أمثال أنا أُحِب الهستولوجي Histology جداً، أُحِب جداً المادة هذه، هذه المادة حلوة جداً جداً، وأساسية في الطب، وسوف تُفهِمنا أشياء كثيرة، وأنا عندي فيها مراجع كثيرة، وأُحِبها جداً، وأُحِب طبعة كذا، وأُحِب مُؤلَّف فلان الإنجليزي في الهستولوجي Histology، و… و… و… لكن أنا أُريد أن أمتحن فقط في الفصل – الــ Chapter – الأول. راسب من الآن، أضمن لك الرسوب الأحمر، لا تقدر!

مع رب العزة الأمر على هذا النحو. الذي خلقك هو الله، والذي خلق الجنة والنار هو الله، والذي أرسل المُرسَلين هو الله، والذي أمر ونهى هو الله، و: لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۩، وقال لك أنت ستدخل الابتلاء – لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩ – بشرطي أنا، ولي بشرطك أنت. أليس كذلك؟ قال لك أتُريد أن تنجو؟ أتُريد أن تُفلِح وتنجح؟ لا بد وأن تُصلي، وهذا ضمن أشياء أُخرى كثيرة، لكن من أهمها الصلاة. لا تقل له أعرف هذا، أعرفه، ولكن أنا يا ربي بصراحة لا أُريد، أنت هدفك كذا وكذا. ومَن قال لك هذا؟ هو قال لك أنا أُريد الصلاة، والصلاة لها أهداف ومقاصد، لا تتحقق إلا بالصلاة. فلا تتفلسف، أأتيت لكي تتفلسف على الله؟ أأتيت لكي تُعلِّم الله؟ أستغفر الله العظيم، شيء غير معقول يا أخي.

أنت تقرأ في كتاب الله كفّارة اليمين، أليس كذلك؟ وتجد أن فيها التخيير، كذا أو كذا أو كذا، أليس كذلك؟ هذا هو، خيَّرك. ألم يكن – لا إله إلا هو – قادراً على أن يُخيِّرك في الصلاة، كأن يقول لك أنا بصراحة هدفي تحقيق مقولة ثوبك أسود وقلبك أبيض، وهناك أشياء كثيرة، يُمكِنك أن تختار منها ما تراه؟ ألم يكن قادراً على أن يعمل لك هذا؟ ومن ضمن المُخيرات الصلاة، حين تُحِب أن تُصلي، صل. وحين لا تُحِب، أنت حر، اعمل أشياء أُخرى. هل هو قال لك هذا؟ لم يقل لك هذا. قال لك أَقِمِ الصَّلَاةَ ۩، وقال لك الصلاة هذه تُؤدى بهيئات مُعيَّنة. بعث جبريل وعلَّمها للنبي بالضبط، علَّمه كيف يُصلي وكيف يكون القيام والركوع والسجود وما إلى ذلك، وفي الأوقات المُحدَّدة، وجاءه في مرتين، لكي يُعلِّمه أين أول الوقت وأين آخر الوقت، لأن الأوقات أربعة؛ وقت الاختيار، وقت الاستحباب، وقت الضرورة، ووقت القضاء. الصلاة عندها في الفقه الإسلامي أربعة أوقات، علَّمه المواقيت، وقال – عز من قائل – إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۩. ليس (على كيفك) يا ابني. قال لك عندي شغل في الــ Pizzeria (مطعم Pizzeria). خرَّب الله بيت Pizzeria، عندك شغل في الــ Pizzeria! قال ماذا؟ والله العظيم قال لا بد وأن أقوم مُبكِّراً، فلم أصل الصبح. نعم! قال لك فالحمد لله، ولكن الله أقدرني – لأن قلبي أبيض – على أن أُصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء معاً، أُصليهم كلهم مرة واحدة عند الساعة الواحدة ليلاً. ما شاء الله عليك، فيلسوف أنت، رهيب أنت، واستفدت – والله – وصليت وأحسست بقيمة الصلاة؟ من أبشع الصلوات هذه، وتشعر بأنها ثقيلة على قلبك مثل رطل الملح، لأنك تُريد أن تنتهي منها، تقول انتهينا والحمد لله من الظهر، ولكننا لم نصل إلى العصر. فتُصلي سريعاً! أي صلاة هذه؟ هو قال لك أَقِمِ الصَّلَاةَ ۩، و: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۩، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ۩. لا بد وأن تقوم لكي تُصلي وتقرأ في الفجر، هذه صلاة الفجر. وبعد ذلك هو قال  فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ۩ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ۩، مواقيت الصلاة! قال أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۩، خمس مواقيت فرعية، أجملها في ثلاث رئيسة. أي هو حدَّدهم لك، وجاء النبي وذكر هذا بالتفصيل، عن جبريل، عن ربه. وأنت من عندك تقوم بالجمع وتضع لي هذا مع هذا؟ ما هذا الكلام الإبليسي؟ إبليس هذا يضحك عليك، والله العظيم! وهذه ليست صلاة طبعاً، ومن المُؤكَّد أنك لم تستفد منها، ومن المُؤكَّد أنها ثقيلة جداً جداً على قلبك وعلى قلبي، حين أتكلَّم عنها، أعلم أن هذه ليست صلاة. فإياك وهذا! فلست أنت منَ يقترح على الله، لو كان يُريد أن يُخيِّرك، لخيَّرك، مثلما خيَّرك في كفّارة اليمين، أليس كذلك؟ هكذا أو هكذا أو هكذا مثلا، ولكنه لم يُخيِّرك، قال لك أَقِمِ الصَّلَاةَ ۩، لا بد وأن تُصليها، وأنت نبي لا بد وأن تُصليها، أنت تُحيي الموتى ولا بد وأن تُصليها يا عيسى، وكذلك أنت يا موسى، ويا إبراهيم، ويا محمد. وأنت لا تحتاج إليها؟ اقطع. العبد عبد والرب رب، والعبودية مبناها الأدب، والأدب ألا يُناقَش الرب فيما أمر، خاصة في الأمور التعبدية، هذه أمور تعبدية!

الآن مَن الذي يُنكِر منا أو منكن – إخواني وأخواتي، أحبابي -، من الذي يُنكِر منا أو من الناس، أن جهاز الإندوكراين – أي الــ Endocrine System -، هذا الجهاز يُسمونه الغُدد الصُم، أي الغُدد الصماء، التي تُفرِز هرموناتها في الدم مُباشَرةً من غير قنوات، جهاز لا قنوي – هذا ينشط في أوقات مُحدَّدة وبطرق مُختلِفة؟ هذا هو طبعاً، لا يُفرِز الكميات نفسها في الأوقات كلها، لا! في أوقات مُحدَّدة، وبعضها يكون في الليل، ينشط في أوقات مُحدَّدة بعض هذه الغُدد اللا قنوية، أو الغُدد الصُم كما يُسمونها، تنشط في أوقات مُحدَّدة. ولذلك قال لك انتبه، في هذه الأوقات ينبغي أن تكون نائماً، وفي جو مُظلِم، لكي تنشط هذه الغُدد وتُعطي مفعولها. إذا أضعتها في السهر وفي الأضواء، فسوف تُضِر بنفسك وتُضِر بصحتك. أي حتى النشاطات والفعاليات الجسمية عندها أوقات مُحدَّدة، لِمَ لا نُسلِّم أيضاً أن للروح أوقاتاً مُحدَّدة، تكون مُهيأةً فيها، لاستقبال عطايا الغيب وفتوح الغيب، وتُفتَح لها أبواب السماوات؟ وهذا معنى مواقيت الصلاة، ما رأيك؟ لست أنا مَن يُحدِّد، المِفتاح ليس بيدك، هل بيدك المِفتاح؟ قل لي والله هذا عندي. ولا بيد أي واحد فينا، المِفتاح بيد الفتّاح – لا إله إلا هو -، وقال لك أنا أفتح هذه الأبواب في أوقات مُحدَّدة، وهي أوقات الصلوات، كِتَابًا مَّوْقُوتًا ۩. ولكي يرحمك قال لك يُوجَد وقت اختيار، ويُوجَد وقت ضرورة. أليس كذلك؟ وخيَّرك، أي هناك وقت، بين الظهر والعصر انظر كم هي المُدة! هناك مسافة، والله! فصل، ولكن ليس قبله وليس بعده، ليس قبله وليس بعده! قبله تكون الصلاة باطلة، لأنها قبل دخول الوقت، وليس لها أي معنى، وبعده تكون هذه قضاء. افعل هذا إذا عندك سبب مُوجِب للقضاء، وإلا تأثم، وتكون قد ارتكبت معصية في باب من أبواب الكبائر، تأخير الصلاة من غير ضرورة ومن غير علة يا حبيبي، أنت تنام عنها، فاصح، لأن هذه ليست لعبة، ليست لعبة! وأنت حرمت نفسك، حرمت نفسك من هذا.

وبعد ذلك فكِّر يا حبيبي، يا أخي، يا أختي، فكِّروا بالله عليكم – هدانا الله وإياكم جميعاً – في الأمر. والصلاة باب التنوير على فكرة، إذا كنت تنويراً حقيقياً في عقلك وفي روحك وفي مسلكك، فعليك بالصلاة. لماذا إذن؟ اقرأ آية المشكاة، من أجمل ما في كتاب الله، وكله جمال، ولن أقول لك جميل، كله جمال وجلال وعطاء وكرم ونوال، اقرأ من  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ۩، إلى قوله لك فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ ۩. وأين هذا التنوير؟ وأين هذه المشكاة وما إلى ذلك؟ قال لك فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ۩ رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ ۩. الله أكبر، مرة أُخرى وَإِقَامِ الصَّلاةِ ۩، لا تجارة، لا بيع، ولا صفقات. أهلاً وسهلاً بكل هذا، تاجر واعقد صفقات وما إلى ذلك، ولكن لا يُلهينك شيء من ذلك عن ماذا؟ عن صلاتك أن تُصليها في وقتها، على الأقل في وقت الاختيار. جميل! 

لماذا؟ قال لك هذه من أوسع أبواب وأسبابا التنوير، نور إلهي! يصير هناك نور في ساحة النفس – بإذن الله تبارك وتعالى -، هل هذا واضح؟ نور كبير! ففكِّر، يا أخي الحبيب، يا أختي الكريمة الفاضلة، فكِّروا – بالله عليكم – جميعاً وجمعاوات في هذا، أليس ثمة فرق هائل بين ما منك وما منه؟ ما الكلام هذا؟ والآن نحن نُريد أن نُجيب عن شُبهة إبليسية جديدة على فكرة. هذه فلسفة إبليس – لعنة الله عليه -، نحن نُحاوِل أن نتفلسف عليه، ونحن نُحاوِل أن نفهمه. وعلى فكرة من أعظم ما يُشقيه ويُتعِسه ويُبطِل مُخططاته أن تفهمه، أن تفهمه! طبعاً والفهم هنا على مراتب، ما الأسهل: أن تفهم أهداف إبليس، أم وسائل إبليس؟ أهداف إبليس. كل واحد فينا يعرف أهداف إبليس البعيدة والمُطلَقة والكبيرة، هذا سهل، صحيح أن أهدافه الوسيطة والقريبة من الصعب جداً أن تُفهَم، وسوف نرى لماذا، لكن وسائله أصعب على الكل أن تُفهَم، وسائله هي الأصعب، أهدافه البعيدة واضحة، يُريد أن يُكفِّرنا! هو هدفه الحقيقي – الحقيقي فعلاً – أن نكفر بالله، يُريد منا أن نكفر ونُشرِك، لكي نُخلَّد في جهنم معه – لعنة الله عليه -، هذا أعظم هدف. إن لم يقدر على أن يُحقِّقه، فإنه يرضى بما هو دونه، من كبائر المعاصي، يُريد الكبائر؛ القتل والزنا والسرقة وترك الصلاة وترك الزكاة وترك الصوم وترك… هذه مباني الإسلام، ما أحلاك حين تفهم أن ترك الصلاة من الصغائر! ما أحلاك! بإجماع الأمة من أكبر الكبائر، بالإجماع! أتحدى أن يقول لي أحدهم هناك عالم لم يقل هذا. لكن انتبه ولا تأت لي بواحد من هؤلاء المُعاصِرين التائهين، هؤلاء الهلافيت، احذر من هؤلاء الهلافيت، يظهرون في قنوات التلفزيون Television، ويقولون إنهم يُجدِّدون الإسلام. وقسماً بالله بعضهم لا يفهم أين يضعه الله أصلا، لا يفهم أي شيء. بالأمس استمعت إلى أحدهم، والله لا يفهم شيئاً، أُقسِم بالله! لا يفهم حتى مادة عَبَدَ ولا يعلم ما هي، يتكلَّم وهو لا يفهم شيئاً، والأمر لم يكن يُكلِّفه أكثر من أن يرجع إلى مُعجَم مقاييس أبي الحسين بن فارس، أي مُعجَم مقاييس اللُغة، لو رجع إلى مادة عَبَدَ وأصل عَبَدَ، لفهم ما معنى عَبدَ وما الفرق بين عَبْد وعابد، وبين العبادة والعَبْد والعَبَدة، لفهم ذلك! ولكنه يتفلسف ويدّعي أن عنده فلسفة، وهو ليس له علاقة باللُغة، ويتصرَّف وكأنه شيخ المُصلِحين، شيء غريب، ويُزهِّدك في الصلاة، يقول لك الصلاة كذا وكذا. شيء غريب يا أخي هؤلاء الناس، شيء غريب، إياك أن يكون هذا شيخك، عندك القرآن الكريم، عندك كتاب الهداية، عندك كلام ربك، وليس كلام أبالسة الإنس والجن، دعك عنهم، دعك! لأن على فكرة الشياطين لها تنزلات أيضاً، فهي تتنزل، مثلما جبريل ينزل على قلوب الأنبياء، الشياطين تنزل على قلوب أوليائها. أوليائها؟ طبعاً، لأن الشياطين لها أولياء، وهذا شيء يُخيف، تخيَّل! هناك أولياء الرحمن – اللهم اجعلنا منهم يا ربي -، مِن الناس مَن هم أولياء الرحمن، ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ۩، اللهم اجعلنا منهم، الله ولينا، والولاية ما هي؟ القُرب والمحبة. هناك القُرب! أي حين يكون الله وليك، يعني هذا أنه قريب منك، وأنت قريب منه، وهو يُحِبك وأنت تُحِبه، وهو يرضى عنك وأنت ترضى عنه، لا إله إلا الله! شيء عجيب وجميل، إذن القُرب والمحبة. ليليني منكم أولو الأحلام والنُهى، أي ليقفوا ورائي. في أول صف وراء الرسول يقف الناس الذكية، الذين يحفظون القرآن، والذي يفهمون العلم، حتى يفتحوا على النبي، لو حصل أي شيء، يقولون له، هل هذا واضح؟ ليليني، على الولي، جاء بعده مُباشَرةً، كما نقول تلاه، ما يلي، أجب عما يلي، أي ما يأتي مُباشَرةً بعد الخط، هذا أجب عنه. ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت – وفي رواية الفرائض -، فلأولى رجل ذكر. أي حتى هذه الولاية معنوية وحسية، أليس كذلك؟ ويقولون لك هذا المعنى أقرب، إذن أولى، وأنت أولى بكذا. ما معناه؟ ثم إن هذا أولى من هذا بهذا. لماذا؟ لأنه ابن عمه، وهذا ابن خالته، فهذا أولى. أليس كذلك؟ وهذا ابن ابن عمه، وذاك ابن عم مُباشَرة، وهذا أخوه، فهو أولى من ابن عمه، فلأولى رجل ذكر، والولاية هي هذه، القُرب! القُرب والمحبة. فالشياطين لها أولياء، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۩، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ۩، إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ۩، آيات قرآنية كثيرة! عنده أولياء ويتنزَّل عليهم، يقول هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ ۩، أي تتنزَّل، عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ۩،  تَنَزَّلُ ۩، أي تتنزَّل، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ۩ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ۩، في آخر الشعراء، عندها تنزلات، وعندها وحي، تُوحي! فلا تظن دائماً أن كل ما لديك من أفكارك، انتبه، قف وقل هذا الكلام الذي جاءني، هل هذا إلقاء ملكي، خاطر وإلهام رباني، إم إنه إلقاء شيطاني إبليسي؟ وكيف ستعرف إذن؟ سهلة جداً، ما أسهلها! وما أحلاها! اعرضه على كتاب الله، وسُنة مُصطفاه، ما صح منها، ثم انظر. إذا أقرك القرآن وقال لك هذا صح، والنبي قال لك هذا مضبوط، فإذن هذا من الله. إذا القرآن قال لك لا، هذا غلط، عُد. مثل موضوع اليوم أو خُطبة اليوم، كل ما يتعلَّق بتزهيدك في الصلاة وتكريهك في الصلاة وتقليل قيمة الصلاة في نظرك وبخسها حظها، اعلم أنه من وحي الشياطين؛ شياطين الإنس، وقبلهم شياطين الجن.

إياك أن تصيخ إليه، إياك أن تستمع إليه، والله ليس لك عُذر عند الله، أي الله سيقول لك ما شاء الله، لم تهتد بستة آلاف ومائتي آية، واهتديت بشيء وقع في قلبك أو سمعته من شياطين الإنس والجن؟ ليس عندك عُذر، وأنت أضعت نفسك، أضعت نفسك! فهي عندها تنزلات، وعندها وحي. وهناك أولياء الرحمن، الله وليهم وهم أولياؤه، والملائكة أولياؤهم، وبعضهم أولياء بعض، اللهم اجعلنا منهم، انظر، ما أحلاها! الله أكبر، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّه لَا خَوْف عَلَيْهِمْ ۩، هم أولياء الله، والملائكة تتولاهم، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۩، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ ۩، محمد – عليه السلام -، وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ۩، كلهم أولياؤه، أليس كذلك؟ ولذلك المُؤمِنون بعضهم أولياء بعض، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۩، في التوبة، هو هذا. فإياك أن تكون من أولياء الشياطين، كُن دائماً مِن أولياء مَن؟ مِن أولياء الرحمن، وأولياء المُؤمِنين والمُرسَلين. هذه الخُطة السليمة، وعندك الدستور؛ القرآن الكريم، انتهى كل شيء، الأمور واضحة، وعندك السُنة النبوية الصحيحة، اللهم أنهجنا في نهجها وثبِّتنا في مسارها وطريقها المُستقيم يا رب العالمين.

فنرجع يا إخواني، نرجع إلى موضوعنا الرئيس. إذن موضوع الآثار المعنوية للصلاة، وارتباطها بالحركات المادية، أمرٌ لا نقاش فيه، وارتباط ذلك بأوقات مُحدَّدة، أمرٌ لا نقاش فيه، ومفروغ منه، لأن مثلما الجسم عنده فاعليات بدنية في أوقات مُحدَّدة، الروح عندها أيضاً ماذا؟ عندها لياقات وفواعل مُعيَّنة بأوقات مُحدَّدة، أشارت إليها قضية أوقات الصلاة، وكذلك حتى مع الصيام في وقت مُحدَّد من السنة، وحتى مواقيت الحج كذلك، و: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۩، و: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۩، و: أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ۩، التشريق! أرأيت؟ كله مُحدَّد، والله يعرف لماذا، نحن لا نعرف بالتفصيل، لكننا نعرف بالإجمال، أن له حكمة.

ووقفنا عند نُقطة ميِّز بين ما منك، وما منه. وهذه نُقطة جميلة اليوم، من أجمل نقاط الدرس أيضاً. ميِّز بين ما منك، وما منه – لا إله إلا هو -، بمعنى ماذا؟ انتبه، هذا جواب عن شُبهة إبليسية كبيرة ضخمة. إبليس يقول لك ما دام هدف الصلاة التنقية والاستقامة والنهي عن الفحشاء والمُنكَر، فأنت – ما شاء الله عليك – مُهتدٍ، وأنت مُمعِن في هذه السبيل، وها أنت لا تسرق، لا تكذب، لا تزني، لا تقتل – ما شاء الله عليك -، نعم تنقصك هذه الحركات، لكن أنت لست في حاجة إليها، أنت مُستقيم، وأنت مُنوَّر، وأنت طاهر مُطهَّر، (فل على فل)، أليس كذلك؟ هذا خطأ، انتبه.

فرق كبير بين المعنى الذي أُوهِم نفسي بالتحقق به – أي أنا هكذا، أنا طاهر ومُستقيم ومُمتاز ومُمتلئ روحياً باجتهادي وبشطارتي وبالأشياء التي أفهمها بالتفصيل -، وبين شيء الله ضمن لك نتيجته عبر الأسلوب والصيغة التي اختارها هو. هو قال لك إن كنت تُصلي الصلاة التي أمرت بها الأنبياء والمُرسَلين، فهذه الصلاة ستُجديك جدوى عظيمة من باب كذا وكذا وكذا. الآن أنت تضمن ماذا أكثر: الوعد الرباني بهذه الجدوى، أم الوهم النفساني؛ أنني صار عندي هذا؟ لا، طبعاً الأول يا حبيبي، هذا فرق كبير جداً جداً جداً، والله العظيم! هل تعرف هذا مثل ماذا؟ أنا سأقول لك. مثل واحد أتى لكي يدرس هذه المادة، أي مادة علمية، ولنفترض أنها الفلسفة، وليس عنده أي علاقة بالفلسفة الميتافيزيقية، أي الــ Metaphysics، هو لا يعرف أي شيء فيها، وهي صعبة جداً. جاء لكي يدرس عند فيلسوف، درس لمُدة ستة أشهر، وبعدها قال له بعد غد الامتحان. الآن هناك سبيلان: السبيل الأولى أن يقول لنفسه والله أنا درست، وراجعت، وشعرت بأنني فاهم، ودخلت على عدة أسئلة لها علاقة بهذا الباب من الفلسفة، وأجبت عنها، ووجدت من نفسي أنني أُجيب بشكل مُمتاز مثل أستاذي، إن لم يكن أحسن منه. وهذا من غرور الإنسان وهبله كما تعرف أنت، هو درس ستة أشهر، وهذا من ستين سنة وهو في الفلسفة، وظن أنه تجاوزه! وهذا الهبل عندنا، هذا هو، وهكذا هم البشر، عندهم الغرور هذا والهبل. وهناك السبيل الثانية التي سيقول له فيها الأستاذ تعال، أتُريد نصيحتي؟ ركز على الموضوعات الفلانية، تأكَّد من أنك حذقت المسائل العلانية أو الكذائية؛ هناك واحد واثنان وثلاثة وعشرة، والآن سوف اختبرك وما إلى ذلك. أيهما أضمن: الخُطة الثانية في النجاح أم الخُطة الأولى؟ لا، الخُطة الثانية. الخُطة الثانية؛ لأنك تأخذ من النبع، من أستاذ المادة، الخبير فيها. 

إذن هذا هو، ولله المثل الأعلى، الله يقول لك هذه صيغة النجاة، قَدْ أَفْلَحَ ۩، هذه صيغة الفلاح، هذه صيغة النهي عن الفحشاء والمُنكر، هذه صيغة البُعد عن الغي وعن الويل وعن الثبور، أن تعمل كذا وكذا. وأنت تقول لنفسك لا، أنا أُحقِّق الأهداف هذه بطريقتي، اجتهدت، قرأت لبوشكين Pushkin، قرأت لتشارلز ديكنز Charles Dickens، قرأت للفيلسوف مونتين Montaigne، وقرأت علم النفس التربوي. ما شاء الله عليك! وأقرأ المقبوسات الكثيرة الموجودة في الإنترنت Internet والله، والحمد لله أستفيد منها، وأنا صرت إنساناً عظيماً. ابق في الوهم هذا، وأقول بين قوسين بالعامية (وبالهبل هذا وبالهلفتة هذه)، ابق هكذا، وسوف تهلك، وربما ينتهي بك الأمر – والعياذ بالله – شيئاً آخر، وكم رأيناً أُناساً بدأوا مُصلين، لم يضيعوا حتى صلاة واحدة، وانتهوا مُلحِدين! يُوجَد خطأ رهيب حصل، لماذا؟ كيف إذن؟ وأتحدى، واذهب واسأل أي مُصلٍ، يعشق الصلاة، وقل له هل ترى أنك مع الزمن تقترب من  الله؟ وسوف يقول لك اقترب ماذا؟ هل أنت أهبل؟ أنا سنة عن سنة، وحتى يوم عن يوم، لي أحوال – بفضل الله تبارك وتعالى – ولطائف وإكرامات ربانية، لا أقدر على أن أحكيها، خل عني واذهب، أعطاك الله كما أعطانا ويُعطي الكل. هو لا يقدر على أن يحكي، وهذه فتوحات حقيقية يا حبيبي، فتوحات حقيقية يا أخي في الله، والله العظيم! أنت لم تُجرِّب، أنت محروم، ولذلك تُنكِر، وأنت غير قادر على أن تتخيَّل، وتقول ها هذا ألحد. ألحد؛ لأنه لم يُصل، ولم يفقه كيف تكون الصلاة، ولعب عليه إبليس هذه اللُعبة؛ هكذا وهكذا، وهكذا وهكذا، وهكذا وهكذا. وصدَّق، فضاع بسببها. لا تكن كذلك، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۩، وكُن مُتواضِعاً، تواضع العبد للرب، تواضع العبد! والله أنت أمام أستاذ – كما قلنا – له ستون سنة في درس المادة، المفروض أن تكون شديد التواضع، وخاصة في البداية، أي أنك لم تصر أستاذاً إلى الآن، شديد التواضع! فكيف بالتواضع أمام خالق السماوات والأرضين، خالق الأكوان – لا إله إلا هو -؟ انظر إلى هذه الأكوان كلها، هذه كلها بميزان، واقفة هكذا على سن إبرة، بميزان! الذي يقدر على أن يُمسِك السماوات أن تقع على الأرض إلا بإذنه – لا إله إلا هو -، ألا يعرف ما الصيغة الأكثر اتزاناً وضبطاً لإصلاحك يا رجل؟ هل أنت أهبل؟

قال لك وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩. هذا العُنصر الذي يُسمى الروح بالذات، اليوم العلم المادي – أي الــ Science هذا – ليس له علاقة به، كافر به، ويقول لك لا أراه. هل يُمكِن وزنه؟ لا يُمكِن وزنه. هل يُمكِن قياسه كماً؟ لا يُمكِن قياسه كماً. هل يُقاس بالطول وبالعرض وبالأونصة وما إلى ذلك؟ يُقاس؟ لا، لا وزن ولا مقدار. قال لك هذا كلام فارغ، وغير موجود. أنت حر، هذا علم أهبل، العلم نفسه من المُفترض ألا يقول هكذا، هل تعرف لماذا؟ لأن العلم المادي قال لي أنا مُتخصِّص في دراسة المادة. فأقول له هذا مُمتاز، وأنت على رأسي من فوق، والزم حدك، إياك وأن تفتي فيما وراء ذلك، ليس لك علاقة به حتى تقول لا يُوجَد شيء خارج المادة. ومَن قال لك هذا أيها العلم الأهبل؟ والله العلم هنا أصبح أهبل، مَن قال لك هذا؟ أنت أصلاً مصنوع، أنت صنعة بشرية، أنت لست شيئاً مُقدَّساً على فكرة. أي العلم لم يأت كشيء مُقدَّس، خارق للعقل. هناك العقل، والعلم هو منهج اصطنعه العقل، ابتكره العقل، أليس كذلك؟ بناه العقل، ويُعيد بناءه، أي هناك Reconstruction، يعمل له إعادة بناء، العقل نفسه! من أجل ماذا؟ من أجل أن يُمعِن في دراسة عالم الشهادة، عالم الحس، فقط! إلى هنا يجب أن يعرف العلم حده، لا ينبغي أن يتكلَّم فيما عدا هذا.

وعلى فكرة حتى دعاوى العلماء وقولهم لا، هذا غير مفهوم اليوم، وسوف نعرفه ولو بعد ألف سنة، تُعَد كذباً، هذه الدعوى ممنوع أن يقولها العلم، هل تعرف لماذا؟ لأنها غيبية. مَن قال لك إنك سوف تعرفها بعد ألف سنة؟ هذه غيبية، إحالة على الغيب! مفهوم الغيب بحد ذاته مفهوم ديني، من المُفترَض ألا يتكلَّم العلم، أي العلم المُرشَّد – يُسمونه الترشيد الآن – أو المُعقلَن, العلم المُرشَّد حقاً يقول لك أنا أتكلَّم في حدود ما ظهر لي، وفي حدود ما أثبته وبرهنته، فقط! ما سيحصل غداً أو بعد غد، لا أتكلَّم فيه، ولا أعرفه، ليس لي علاقة به، هذا غيب، وهكذا يكون العلم مُرشَّداً. لكن العلم يقول لك لا، سوف نعرف، سوف نعرف هذه الأشياء. ومن ثم سوف أقول له أنت كذّاب، أنت الآن أصبح ديناً، أصبحت علماً وديناً، وهذا غلط، هذا خلط منهجي، لا تقدر على أن تعرف، لا تقدر! سوف تقول لي ولكنني عرفت أشياء كثيرة. وبدوري سوف أقول لك وهناك أشياء كثيرة لم تعرفها، أتضحك علينا؟ العلم من قديم وعد بأنه سوف يعرف أشياء كثيرة، ولم يعرفه. 

نحن حين كنا صغاراً – وربما كلنا، أو على الأقل كل أبناء جيلي – شاهدنا مُسلسَلاً مُتلفَزاً، كان يُتابِعه ملايين حول الأرض، اسمه الفضاء 1999، الذي فيه مايا Maya وما إلى ذلك. كل فكرته وأهم شيء فيه كان مبدأ الــ Teleportation، وبحسب 1999 هذا الــ Teleportation سيكون فُرغ منه بعد عشرين سنة، أي سيكون هذا انتهى، بمُجرَّد أن تدخل في كبسولة، تُصبِح في المريخ. بمُجرَّد أن تدخل في كبسولة، تُصبِح في المشتري. بمُجرَّد أن تدخل في كبسولة، تُصبِح في أمريكا اللاتينية. في لحظات! هذا نقل آني، النقل الآني للمادة، ليس للطاقة، وإنما للمادة. وها نحن دخلنا في سنة ألفين وعشرين، ولم يُوجَد لا Teleportation ولا غيره، هو لا يُوجَد حتى الآن، ولم يقتربوا منه، بالكاد يدرسونه. فالعلم على فكرة عنده أوهام كثيرة، ويعد بأشياء ولا ينجح فيها، ويعد بأشياء وينجح في بعضها، لكن كل هذه محاولات لمُناوَشة الغيب، ولكن العلم المُرشَّد لا يتكلَّم في الغيب، ممنوع أن يتكلَّم فيه، هل هذا واضح؟

فإذن العلم ليس له صلاحية بالمرة لأن يتكلَّم عن الروح، ويقول لي الروح موجودة أو غير موجودة، لأنها لا تنتمي إلى عالم المادة. بحسب الدعوى الدينية، القرآن يقول لك وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩. هذا شيء ينتمي إلى الله، ليس من المادة، ليس من الذرة، ليس إلكتروناً Electron، وليس بروتوناً Proton. ونحن كمُؤمِنين نُصدِّق بهذا، هذا الإيمان، ونحن صدَّقنا بهذا – الحمد لله – وآمنا. وحين نُطالِع أنفسنا، نحس بفاعلية هذه الروح. ولن ندخل الآن في موضوع الروح، وهذا موضوع ثانٍ على فكرة.

على كل حال فإذا آمنت كمُؤمِن بوجود عُنصر الروح فيك أو بوجود الروح – هذا المعنى العجيب الإلهي -، فيجب بالتبع أن تُؤمِن أن للروح هذه طرائقها التي لا يعرفها دارسو البدن، عندها حاجاتها، عندها غذاؤها، عندها جوعها، عنده سُبلها. مَن أحسن واحد ومَن أحسن مصدر يقدر على أن يُفيدنا فيما يتعلَّق بالروح وشؤوناتها؟ الدين، الدين وليس كلام المُتصوِّفة وما إلى ذلك، لا! أول شيء الوحي الإلهي نفسه، مَن خلق الروح نفسها ومَن خلق البدن يأتي ويقول لك اعمل هذا ولا تعمل هذا، وهذا كذا وهذا كذا. يُعطيك قوانين للروح، فما أسعدنا – والله – بهذه القوانين، حين نأخذها نستفيد منها! هل هذا واضح يا إخواني؟ إياكم أن يُضحَك عليكم، هذا هو فقط، فخذوها وأنتم راضون.

ولذلك يُوجَد فرق كبير – وأُعيد؛ لأنني أعرف كم هذه الفكرة مُهِمة وخطيرة – هنا، فرق بين المعنى الذي تتوهَّم أنك حصَّلته بقناعاتك وأساليبك واجتهاداتك وطرقك والأشياء التي تقرأها هنا وهناك، وبين الشيء الذي ضمنه الوحي لك عبر أساليبه، قال لك هذا يُؤدي إلى هذا، هذا يُؤدي إلى هذا، وهذا يُؤدي إلى هذا، انتهى الأمر! هذا أضمن مليار مرة، وهذا ليس مضموناً، ولذلك:

يُقضى على المرء في أيام محنته               حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن.

نسأل الله ألا يخذلنا وأن يوفقنا. هل تعرفون ما الخذلان؟ الخذلان أن تضعف ثقتك في وحي الله، وتعظم ثقتك في أوهامك وأهام البشر الذين هم مثلك، أنت مخذول، مخذول! ولذلك اجعل دعاءك كدعاء النبي، ادع مثلما كان يدعو النبي دائماً، دائماً كان النبي يدعو بهذا – أي يدعو كثيراً بهذا الدعاء -؛ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك، وفي روايات ولا إلى أحد من خقلك. لا تكلني إلى دوكنز Dawkins، ولا إلى بوشكين Pushkin، ولا إلى أينشتاين Einstein، ولا إلى عدنان، ولا إلى الغزّالي. لا تكلني إلا إليك، أنت ربي، اهدِني. وطبعاً أهم هذا كله؛ لا تكلني إلى نفسي. وكم كانت هناك أشياء، اكتشفنا الضر فيها – نحن بأنفسنا، أنا وأنتَ وهي، وكلنا – حين هدانا الله، وقلنا يا ويلنا، كنا نراها حلوة وطيبة وصحيحة، وحين هدانا الله الهداية الحقيقية، علمنا أنها مُهلِكات مُرديات! أليس كذلك؟
أنت ترى العاصي، وترى الفاسق، وهو يُفلسِف لك كل معاصيك، والله العظيم! أنا رأيت هذا حتى في الزناة، يزني – يرتكب الفاحشة، والعياذ بالله – ويُفلسِفها لك أيضاً، ويقول لك هذه مُمكِنة لو كانت بالتراضي وما إلى ذلك، وهناك مُخادَنة ومُساكَنة. وظهر عندنا من مُجدِّدي الإسلام المُعاصِرين – ما شاء الله -، مَن قال لك هذه مُساَكنة حلال. تباً لكم، تباً لكم، ما أقبحكم! ما أنتنكم! شيء ناتن – والعياذ بالله -، شيء غير طبيعي، قال لك هذا عادي، يُمكِن أن يكون هناك واحد مع واحدة وما إلى ذلك. ما هذا؟ يلتفون على كل شيء، ويهدمون كل شيء، باسم التجديد والإصلاح وما إلى ذلك، ليس هكذا! نحن أُناس لا نرضى بهذا. وانظر؛ على فكرة في عين دعواهم تجديد الدين يُضيِّعون الدين وينسفونه من جذوره ومن أُسسه، هل تعرف لماذا؟ لأنهم لا يفهمون أصلاً ما الدين. هل تعرف ما الدين؟ الدين لم يكن أبداً – وهذا غير مطلوب منه – فلسفة اقتصادية أو زراعية أو تصنيعية أو صيغة في  التنمية المادية أو البشرية. ليس هذا، هذا يفعله غير الدين، وانظر، الصين اليوم مُلحِدة، أليس كذلك؟ دولة مُلحِدة، ها هي الوحيدة التي تُسامي أمريكا، وربما ستُعرِّضنا إلى حرب عالمية، بسبب أنها تُريد أن تتجاوز أمريكا، وسوف تقدر. وهم ملاحدة كفّار، لا يُؤمِنون لا بغيب ولا بدين، وها هم – ما شاء الله – مُتفوِّقون، فلا تقل لي دينهم وخرافاتهم جعلتهم مُتأخِّرين أو مُتقدِّمين. هذا ليس له علاقة، يُمكِن أن يكون عندك دين مثل الهباب، وتكون مُتقدِّماً، ويُمكِن أن يكون عندك دين مثل الورد – مثل ديننا -، وتكون مُتأخِّرنا. إذن الدين ليس مطلوباً منه هذه الأشياء، الدين بصفة أساسية مطلوب منه شيء آخر. هل تعرف ما الذي يُطلَب منه؟ هداية الروح إلى باريها – لا إله إلا هو -، صلة الإنسان بمصدره وأصله، بربه. هذا الأساس في الدين. أأتيت لكي تعمل لي تجديداً وإصلاحاً في الدين، بحيث تنسف لي العبادات فيه، وتنسف لي الجانب الروحاني، وحتى الجانب الأخلاقي المتين، وتقول لي هذا إصلاح وتجديد للدين؟ أي إصلاح هذا؟ أنت لم تفهم الدين أصلاً، وواضح من كلامك ومن اجتهاداتك ومن نظرياتك أنك لا تُصلي، أليس كذلك؟ وأكيد في الباطن تستخف بالصوم، وربما ترى الحج وثنية أيضاً، أليس كذلك؟ وثنية وحجرية، وما شاء الله عليك! وتحكي عن تجديد الدين، أي دين؟ أي دين؟ واضح أنك تُريد أن تنسف هذا الدين كله، مُقابِل ماذا؟ مُقابِل أن تعطينا صيغة الفلسفة المادية أعطتنا ما هو أحسن منها بحسب هذا المعنى، أحسن من أفكارك هذه، وها هم الناس الكفّار والملاحدة يُحدِثون تنمية رهيبة جداً جداً جداً، وغلبوا أمريكا، وأنت لن تكون أكثر شطارة منهم، فهذا مُقابِل ماذا؟ لم نستفد منك لا في دنيا ولا في دين، أضعت لنا ديننا، والصيغة التي تُريد أن تُفعّلها من أجل تحديث الدنيا، لن تشتغل، هذا كلام فارغ، أنت تُمارِس الهبل علينا، ليس هذا الباب، ليس هذا الباب! هل هذا واضح؟ 

هذا الكلام أقوله بانفعال، ولكن واضح عندي ما الذي يحدث، الذي يحدث هو هذا ببساطة، من دون أن ندخل في مُصطلَحات وفنيات وتقنيات منهجية، الأمور هكذا تجري، فانتبهوا يا إخواني، هدانا الله وإياكم إلى سواء السبيل. هذا الموضوع طويل وكبير، لكن نكتفي بهذا القدر – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

 

(انتهت التكملة بحمد الله)

فيينا 13/12/2019

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: