إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سبحانه ومخالفة أمره، لقوله جل من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه الكريم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ * لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *

بلى 

أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأخواتي/

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ *، أنه تبارك وتعالى في وحدانيته وفي قدرته هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ *، وما يتوهمون، هُوَ الْبَاطِلُ *. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *، كما ألمعنا غير مرة، عدول عن سبيل البُرهان الأول، إلى بُرهان ثان، حقيق أن يكون وقفا على العارفين بالله، الذين لهم ذوق عرفاني وشهودي خاص. 

أما الأول، البُرهان الأول عنيت، فهو بُرهان مبذول بآياته المنصوبة للخلق طرا، للخلق جميعا! سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ *، آفاق السماوات والأراضين، وَفِي أَنفُسِهِمْ *، واضحة. طبعا وللسادة المُفسرين أقوال عدة، في معنى الأُفْق أو الأُفُق، بتسكين وبضم، وأيضا في معنى وَفِي أَنفُسِهِمْ *، لكن لنبقى على الظاهر، من معنى الألفاظ الجليلة. الآفَاقِ * هي الآفاق الكونية، آفاق السماوات وآفاق الأراضي. والأنفس هي الأنفس البشرية المخلوقة لله تبارك وتعالى، إن على جهة أو من جهة خلقتها، وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ *، أو على جهة تصاريف الأقدار فيها، ما يعرض لها من أحوال الصحة والمرض والابتلاء والتشوش والصفاء والراحة والتعب، إلى آخره! قولان يجمعان شتيت أقوال السادة المُفسرين – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.

حتى لا أطول بالمُقدمات، أحبتي؛ إخوتي وأخواتي، خُطبة اليوم تلبية لوعد قطعته على نفسي قبل أسابيع، أن أتحدث عن مسألة تُعرف في الأدبيات العقدية أو الثيولوجية المُعاصرة، بمسألة تخفي أو استتار الله تبارك وتعالى! Divine hiddenness، تخفي الله! بعضكم قد يقول ما هذا؟ ما هذا التعبير؛ استتار، تخف؟ لا، هذه تعابير عقدية وموجودة في الأديان التوحيدية جميعها، لدى اليهود ولدى المسيحيين ولدى المسلمين.

في مُناجاة العارفين بالله تبارك وتعالى، ليس من النادر، بل من الكثير جدا، أن نقع على أنواع من المُناجاة التي تُعبر عن البخوع والخضوع لحقيقة الاحتجاب الإلهي والاستتار الإلهي، المعنى العائد إلى غيبية الله. نحن نؤمن بالغيب، الله ليس مُجرد غيب عادي، بل هو غيب الغيوب، كما يُعبر العارفون بالله، هو غيب الغيوب! كيف لا وهو القائل لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ *؟

وذكرنا قُبيل أسابيع يسيرة، أن من شرط الإدراك، ومن شرط الوعي بالشيء، التباين! أن يكون هناك تباين. ولا تباين بغير مُقارنة، والله لا يُقارن بشيء، ليس مثله شيء، ولا هو مثل أي شيء، لا إله إلا هو! لَيْسَ كَمِثْلِهِ *. للأسف كثير من المُفسرين درجوا على أن الكاف هنا صلة، أي زائدة. ليست بزائدة، حتى وإن كانت زائدة نحويا، إلا أنها معنويا، دلاليا، ليست بزائدة. وهذا توفيق جيد بين مدرستين أو نزعتين من نزعات النُحاة؛ بعضهم يرفض الصلات أو الزيادات في ألفاظ الكلام الإلهي الجليل، وبعضهم يقبلها، يقبل أن تكون صلة، أي زائدة! لكن التوفيق أن نجعل هذه الصلة، هذا اللفظ، أو هذه الكلمة، أو هذا الحرف الزائد، أن نجعل وجودَه – بدل – ليس كعدمه، بل وجوده له رسالة دلالية، سيمانيكية، معنوية، هائلة، كبيرة جدا! 

وطبعا لا يخفي على صاحب الذائقة العربية الأصيلة القحة، الفرق المهول بين قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ *، وبين ما لو قال ليس مثله. أيهما أبلغ؟ طبعا القيل الإلهي أبلغ بمراحل. لَيْسَ كَمِثْلِهِ *! العامي من غير أن يخوض ضروسا في المعاني والبيان، يفهم ابتداء أنه لو فُرض – (قاعدة فلسفية عقلية: فرض المُحال ليس مُحالا. فرض المُحال ليس بمُحال) – له مثل، فهذا المثل المفروض، وهو مُحال، ليس له مثل، فكيف بالرب، لا إله إلا هو؟ الأصل، أصل كل شيء، مصدر كل شيء، ينبوع كل شيء، لا إله إلا هو!

إذن شرط الإدراك بالشيء، شرط الوعي للشيء، التباين. التباين شرطه المُقارنة، بل يتقوم بالمُقارنة، حقيقته المُقارنة! التباين حقيقته المُقارنة، وأي مُقارنة؟ الله كما أقول دائما ليس منه اثنان، هو واحد أحد، لا إله إلا هو! ولذلك لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ  *، وهو غيب الغيوب.

قد يأتي مُتنطع ويقول إذا كان ربكم – لا إله إلا هو -، الذي تؤمنون به وتوحدونه، غيب الغيوب، ولا يُمكن أن يُدرك بمُقارنة؛ لأن شرط التباين مرفوع، غير موجود، كيف إذن آمنتم به؟ سهلة! هذا سؤال ليس سؤالا صعبا جدا. وبالمُناسبة بعض كبار الفلاسفة المؤمنين بالله تبارك وتعالى، أعرب عن أن من المُستحيل، من غير المُمكن، إقامة بُرهان على وجود الله. ابن سينا فعل ذلك. بعضكم قد يقول ماذا؟ ابن سينا؟ وللأسف! لا، هو عبر عن هذا، أنه لا يُمكن إقامة بُرهان على وجود الله، على أنه في أكثر من كتاب، وخاصة في الإشارات والتنبيهات، أقام بُرهان الوجوب والإمكان، المعروف ببُرهان الإمكان، ثم عاد فجرد منه بُرهانا أقوى منه، اعتز به كثيرا، سماه بُرهان الصديقين. قد أشرح البُرهانين على عجل – إن شاء الله -.

إذن كيف قال إنه لا يُمكن إقامة البُرهان؟ الجواب يسير، لمَن يحذق الفلسفة ومُصطلحات القوم. الفلاسفة أحيانا إذا أرادوا أن يتكلموا عن البُرهان في أقوى صوره، لم يعتمدوا إلا البُرهان اللمي. ولا يعتدون حينها، في هذه الحالة، بالبُرهان الإني. ما الفرق؟ البُرهان اللمي هو الذي يستدل بالعلة على معلولها أو معاليلها. هذا أقوى أنواع البراهين! لماذا؟ لأنه إذا كان السير من العلة إلى المعلول، تعين أن يكون المعلول معلولا لهذه العلة، وليس العكس! إذا أردت أن تستدل بالمعلول على العلة، لا يندر أن يكون هذا المعلول معلولا لعلتين أو لأكثر من علة، فلا يتعين أن يكون معلولا لهذه العلة التي ظننت. لذلك البُرهان الإني – هو هذا الثاني – أضعف من البُرهان اللمي، السير من العلة إلى معاليلها، أقوى البراهين! 

ابن سينا يقول لا يُمكن إقامة بُرهان لمي على وجود الله. هذا تخريج كلامه، لا يُمكن أن يتخرج إلا على هذا؛ لأن الرجل مؤمن، وأقام براهين قوية، بعضها لم يُسبق إليها حقيقة. فبُرهان الصديقين، هو سماه بُرهان الصديقين، ولم يُسلم له صدر المُتألهين؛ مُلا صدرا الشيرازي، محمد – رحمة الله عليه -، قال لا، بُرهان الصديقين أنا الذي أقمته. قبل أنسلم من كانتربري Anselm of Canterbury! هنا الغربيون يتبجحون كثيرا، يقولون هذا البُرهان الأنطولوجي، البُرهان الأنطولوجي! قبل ديكارت Descartes، أنسلم Anselm، القديس أنسلم من كانتربري Anselm of Canterbury. 

لا، أنسلم Anselm مَن؟ مُلا صدرا أقام هذا البُرهان على قواعد غير مسبوقة، ومن أقوى ما يكون. لم يلحق به قديس كانتربري Canterbury؛ أنسلم Anselm، لم يلحق به، ولا ديكارت Descartes، ولا الذين أتوا بعد ذلك، وحتى الإيرادات التي أوردها إيمانويل كانط Immanuel Kant على البُرهان الوجودي، هو لم يتعرض له بالصيغة التي أقامها أنسلم Anselm، وهي أفضل من جهات مُعينة من الصيغ التي أقامها غيره، مثل ديكارت Descartes، هو تعرض وصرح بهذا للأمانة العلمية – أي كانط Kant -، أنني أتعرض لصيغة ديكارت Descartes. لا، كل هذا ضعيف مُتهالك، لكن هذا موضوع ثان، لا نُريد أن ندخل في الفلسفة الآن.

على كل حال، ابن سينا بُرهانه؛ بُرهان الصديقين، جُملة واحدة، شيء عجيب! عقل جبار هذا الرجل. قال كل موجود – فكر في الوجود هو، وقال كل موجود -، إما أن يكون مُمكنا، وإما أن يكون واجبا. وهذه مُقدمات بدهية في الفلسفة، لمَن يفهم، لماذا؟ كلمة مُمكن تنحل إلى مفهومه، أي في نهاية المطاف أنت حين تذهب تُعطي تعريفا للمُمكن، هذا التعريف ليس ضروريا وليس مطلوبا، لماذا؟ لأنه موجود في قلب كلمة أو Concept أو مفهوم مُمكن، إذا فهمته. أي ال Contingent، المُمكن هو Contingent. العرضي، المُمكن، ليس اللازم، ليس الضروري. هذا معنى مُمكن باللغة الفلسفية. فهذه مُقدمات بدهية، البُرهان يكون قويا جدا جدا.

كل موجود، إما أن يكون مُمكنا، وإما أن يكون واجبا. فإن كان مُمكنا، فهو مثل كل هاته المخلوقات، كل الكون بكل ما يحويه من أشياء، من عرش الرحمن إلى أدنى شيء في الفرش، كل هذه الكوائن والعوالم، ما نعرف وما لم نعرف منها، كلها مُمكنات. المُمكن – يقول ابن سينا – يعود إلى الواجب. مُستحيل! هذا إذا فهمت ما هو المُمكن، وهذا موضوع آخر أيضا، إذا فهمت ما هو المُمكن بالضبط! والمُمكن لا يُمكن أن يصير موجودا، إلا إذا وجب وجوده، وهو وجوب بالغير. فالمُمكن لا يُوجد، ما لم يجب. قاعدة فلسفية أُخرى، شرحتها أيضا في دروس الجُمع الأخيرة غير مرة! المُمكن لا يُوجد، ما لم يجب. ووجوبه ليس بذاته؛ لأنه مُمكن، وإنما وجوبه بماذا؟ بالغير. ما هو هذا الغير؟ مَن هو هذا الغير؟ هو الواجب بالذات، الذي وجوده من نفسه، لا إله إلا هو!

قال إذن الموجودات، إما مُمكن وإما واجب. المُمكن يعود إلى ماذا مُباشرة؟ إلى الواجب. والواجب قائم بنفسه. انتهى كل شيء! لا إله إلا الله! إذن الله موجود. الله! هذا يحتاج إلى ساعات. لكي نشرح هذا، ونُثبت أن هذا بُرهان من أقوى البراهين على الإطلاق، ويصعب إلى حد الاستحالة نقضه، يحتاج إلى ساعات. ويقولون لك لا يُوجد إله! هم لا يفهمون شيئا، لا في فلسفة، ولا في غيرها، ويتكلمون! مساكين. هذا ابن سينا، كلمتان! الموجود، إما مُمكن وإما واجب. المُمكن عائد إلى الواجب، في وجوده أو انوجاده. والواجب قائم بنفسه. انتهى كل شيء! هو الواجب! انتهى! إذن وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ *، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *، أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ *، لا إله إلا الله! هو المبدأ، وهو الغاية، لكل شيء، سُبحانه وتعالى!

فإذن ابن سينا حين قال لا يُمكن إقامة بُرهان، عنى هذا. انتبهوا؛ لأن بعض الملاحدة مِمَن شدا من العلم حروفا يشغب بهذا. يسرقون العلم والفلسفة! كلمة من هنا، كلمة من هنا، ويقولون لك حتى ابن سينا، فيلسوفهم الكبير العقلاني، قال الله لا يُمكن إثباته بالبُرهان. مساكين! هو تحدث عن ماذا؟ عن البُرهان اللمي. على أنه قدم بُرهانا، ظنه بُرهان الصديقين، وجاء مُلا صدرا، قال هذا ليس بُرهان الصديقين. بُرهان الصديقين فعلا استدلال بالله على كل ما عدا الله، وهو بُرهان لمي. أي أفلح مُلا صدرا، فيما أخفق فيه ابن سينا. وهو المُشار إليه بقوله تبارك وتعالى أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *، لا إله إلا الله! 

الله يقول يُمكن أن تصلوا إلي بطريقين؛ بطريق البُرهان الإني، وبطريق البُرهان اللمي. ما البُرهان الإني؟ الاستدلال بالآيات المنصوبة في الآفاق وفي الأنفس، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ *، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ *، وإن…وإن…وإن…! هذا هو البُرهان الإني. هذه حيلة هكذا، حيلة على فكرة، ليست فلسفية؛ فإذا اختلط عليك أمر الإني باللمي، فتذكر دائما أن الإني يُمثل له بمثل قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ *، قالوا هذا هو، هذا الإني. هم لم يفعلوا هذا، لكن أنا أعطيتكم هذه هكذا حيلة، خديعة؛ حتى لا يختلط عليكم الأمر. 

هذا اسمه البُرهان الإني، سير من المعلول إلى علته. وعكسه، وأقوى منه؛ البُرهان اللمي، سير من العلة إلى معاليلها. إذن سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ * بُرهان إني. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * بُرهان لمي. لا إله إلا الله! وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ  *، لا إله إلا الله! الله قال لك هذا البُرهان، أنا شهدت. شهدت على أني موجود، والملائكة يشهدون وأولو العلم – اللهم اجعلنا منهم -، العارفون، الصديقون، الراسخو القدم في العلم والتحقيق والمعرفة والعرفان والفلسفة! ليس الخفاف، الهوائيين، الذين يعومون ويغرقون في شبر ماء، باسم الفلسفة مرة وباسم العلم مرة! كلام فارغ. 

هذا هو البُرهان اللمي. ولذلك يقول سيدنا ابن عطاء الله السكندري – قدس الله سره – الله تبارك وتعالى غير محجوب – الله لا يكون محجوبا، أعوذ بالله -، بل أنت المحجوب عن النظر. إذ لو حجبه شيء، لستره ما حجبه. ولو كان له ساترا، لكان لوجوده حاصر. وكل ما هو لغيره حاصر، فهو له قاهر، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ  *. الله! ابن عطاء الله – قدس الله سره – يقول لا، الله ليس محجوبا، أنت المحجوب. 

فعلا، انتبهوا! حين تقرأون كلمة استتار الله، حجاب الله، انتبهوا، الإضافة لأدنى مُلابسة. في اللُغة العربية، في النحو؛ الإضافة لأدنى مُلابسة. وقد تكون إضافة فاعلية، وقد تكون إضافة مفعولية. لا بُد أن تُحقق. أي هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ *، ما معنى هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ *؟ مخلوق الله. إضافة مفعولية، الشيء الذي خلقه الله، مخلوق لله، أليس كذلك؟ هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ *. وهناك إضافة فاعلية. إذن هنا حين نقول حجاب الله، ما معنى حجاب الله؟ الذي يحجب الله، أم الذي يحجبنا عن الله؟ الذي يحجبنا عن الله. الله لا يحجبه شيء – أعوذ بالله -؛ لأنه لو حجبه، لستره. ولو ستره، لحصره. والحاصر للمحصور به قاهر. الله؛ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ  *، لا يقهره شيء. إذن الله لا يحجبه شيء، لا يستره شيء، لكن نحن نُحجب عنه. نُحجب عنه بذنوبنا، نُحجب عنه بظُلمتنا، نُحجب عنه ببلادتنا، بغباوتنا. لو صح لنا وعي، وصحت لنا روح ونفس حقيقية، لرأيناه شهيدا على كل شيء، بل لعرفنا كل شيء به. وقلت لكم قريبا هذا المعنى الذي أستروح إليه، ويلذ لي، يشوقني، من معنى العارف بالله!

العارف بالله ليس العارف الذي عرف الله، الذي عرف كل ما عدا الله بالله. هو يرى الله قبل كل شيء، وبعد كل شيء، ومع كل شيء، وفوق كل شيء. ويرى كل ما عدا الله، بالله. ولولا وجود الله، لما وُجد شيء، لما ظهر شيء. مرة أُخرى؛ يقول ابن عطاء الله السكندري – قدس الله سره الكريم – كيف يُتصور – كيف يُتصور؟ أي كيف يصح في الخيال؟ سواء كان خيال المؤمن العادي، أم خيال الفيلسوف المُحقق، أم خيال العالم النحرير، أم المُتكلم، المنطيق، الفيلسوف، بغض النظر! كيف يُتصور؟ – ألا يظهر – لا إله إلا هو -، وأن يُحجب، وأن يستتر، وهو الذي ظهر بكل شيء، وهو – يُعيد نفس العبارة – الذي ظهر لكل شيء، وهو الذي ظهر في كل شيء، وهو أظهر من كل شيء، وهو الظاهر قبل كل شيء؟ فعلا، لا إله إلا هو! كيف يستتر هذا؟ كيف يُحجب؟ كيف يُستر؟ حاشا لله.

روى الإمام مُسلم بن الحجاج، صاحب الصحيح، في صحيحه، بإسناده عن صاحب رسول الله أبي موسى الأشعري، عبد الله بن قيس – رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قام فينا رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه والمسلمين والمسلمات أجمعين إلى يوم الدين – بخمس كلمات. انظر النبي، انظر المُعلم، أعظم مُعلم في تاريخ البشرية! ليس مثلنا، نقف نتكلم ساعة أو ساعة ونصف، خمس كلمات! خُطبة خمس كلمات؛ لأنه مُعلم، يُريد أن يُلقي كلاما وأن يُحفظ، وصلنا اليوم، لا إله إلا الله! جزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وخير ما جزى رسولا في رسالته، إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، في كل لمحة وحين، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، جزاءات من الله وأثوبة، صلوات ربي وتسليماته عليه. وصلتنا اليوم، نستدعيها اليوم، شيء عجيب! وواضح عليها بهاء النبوة وجلالها. خمس كلمات! 

قال إن ربكم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام. لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ *، كيف القيوم أن ينام؟ هو اسمه قيوم، فيعول، من القيام. أي القائم بنفسه، واجب الوجود، قائم بنفسه، موجود بذاته، لا إله إلا هو! وبه وُجد وقام كل ما عداه؛ المُمكنات! فلو أخذته سنة من نوم، ما الذي يحصل؟ ستقول لي يُدمر الكون؟ لا، ما أصبت، ولا قربت. يُتداعى المعمار الكوني؟ ولا عرفت. يعود إلى العدم، عدم! لا شيء، انتهى! كل شيء قائم بالله، لا إله إلا هو! شيء مُخيف! لا إله إلا الله! اللهم عرفنا بك. كل شيء قائم به، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ  *، لا إله إلا الله! وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۗ  *، يوم القيامة سيأذن لها أن تقع، لكن لن تفنى؛ لأنه لم تؤخذه سنة. فرض المُحال ليس بمُحال مرة أُخرى، لو أخذته سنة، لعاد الوجود من حيث أتى. من أين؟ العدم. عدم، Nothingness، لا شيء، Nihil، لا شيء! ولذلك إن ربكم لا ينام – يقول -، ولا ينبغي له أن ينام. 

يرفع القسط ويخفضه. ما هو القسط؟ القسط هو الميزان، القسط هو الميزان ويُكنّى به عن العدل، تُعرف به موازين الأشياء، أقدار الأشياء، عجيب! كلمة قسط كلمة قرآنية وكلمة نبوية، وهي أصل الكلمات اللاتينية والأجنبية الحديثة، التي تتحدث عن ال Justice، Just! جسط، Just، هي نفسها! وهم يعترفون بهذا. يقول أصل Justice قسط. جسط، Just، هكذا. تحريف! مثل غول، كحول Alcohol. كلمات كثيرة، مئات الكلمات، في الحقيقة ألوف الكلمات، من أصل عربي، أيام ما كان لنا حضارة وفكر وفلسفة وعلم وإبداع. 

اليوم نحن مساكين. الله يمن علينا، يمن علينا، ونرجع نحب العلم ونحب الفكر، ونترك الكسل والبلادة التي نحن فيها، والله العظيم! لأن من أكبر أسباب ما نحن فيه من صنوف البلايا الجهل، الجهل! أعطني مُتعلما، أعطني دارسا، أعطني صاحب فكر، أُعطك حلا لكل شيء. أعطني جهلا، أولد لك كل الشرور، كل الكوارث والبلايا والمآسي والأوجاع والأوصاب والأمراض والفُرقة والإحن والمحن، كل ما تتخيل وما لا تتخيل!

ولذلك أول ما نزل اقْرَأْ *، لا إله إلا الله! الله لم يقل في أول ما نزل آمن، وحد، اعبد، اركع، اسجد. اقْرَأْ *، أول كلمة في آخر رسالة؛ اقْرَأْ *! لأن الله يعلم أنك إن قرأت، عرفت، وإن عرفت وفهمت ووعيت، وضحت لك الطريق. العلم دين، خذوا العلم دينا، أي علم! خذوا العلم دينا، تعبدوا الله بالعلم! بالفيزياء وبالكيمياء والفلسفة والمنطق والتاريخ والسياسة والجيوسياسة والفقه والأصول والتصوف والتفسير والحديث والعقيدة والمُصطلح، وكل العلوم! دينية ودنيوية، كلها! خذوها عبادة، دينا، من أعظم ما يكون! من أعظم العبادات والله، ومن أبركها آثارا.

على كل حال، يرفع القسط ويخفضه. قالوا الميزان. ما المقصود برفع القسط وخفضه؟ قالوا كناية عن أعمال العباد الصاعدة، هذه تُرفع، وعن أرزاق الله النازلة لعباده، هذه تُنزل عليهم. وقيل القسط هنا كناية عن الرزق، وخفضه تقديره، ورفعه توسعته. الله يبسط ويقدر، لا إله إلا هو! يبسط لمَن شاء في الأقدار، ويقدر، يُضيق قليلا، رزقه فيه ضيق، فيه ضيق، تقتير، لحكمة يعلمها، لا إله إلا هو، يُدبر عباده بلُطفه وحكمته، وهو اللطيف العليم الخبير، لا إله إلا هو! معان كثيرة. يرفع القسط ويخفضه. 

يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. خمس كلمات! بقي كلمتان. هذه ثلاث كلمات، بقي كلمتان. يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل. قليلا حار فيها المُفسرون! قالوا عمل الليل قبل عمل النهار، الذي ذلك النهار – قال لك قبل – بعده إذن، وعمل النهار قبل عمل الليل، الذي ذلك الليل بعده، بعد النهار! لم يتفطنوا إلى أن فيه إشارة من أروع ما يكون إلى حقيقة كروية الأرض، وأن الأرض لا يُزايلها ليل ونهار، دائما فيها ليل ونهار! هنا ليل وهنا نهار، هنا ليل وهنا نهار، باستمرار! ولذلك الرفع مُستمر، الرفع لا يتوقف، عروج الملائكة بأعمال العباد لا يتوقف. ستقول لي من أين أتيت بها هذه؟ ما هذا؟ أنت من جماعة الإعجاز العلمي؟ لا يا حبيبي، التعبير واضح، ثم الله قال يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ *. 

وقلت لكم مرة هنا، في خُطبة عن كروية الأرض والعقول المُسطحة، العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن حزم – شيخ الإسلام، إمام أهل الظاهر، رحمة الله عليه -، في الفصل في الأهواء والملل والنحل، احتج بهذه الآية على أن القضية تقريبا مقطوع بها، ونسب إلى كل إمام يُعتد برأيه أنه قال ماذا؟ بكروية الأرض. الله أكبر!

إذن آخر كلمات؛ الرابعة والخامسة. حجابه النور. هذه رابع كلمة! وفي رواية النار. النور أوفق، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ *. حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. لا إله إلا الله! ما انتهى إليه بصره من خلقه، من هنا ليست تبعيضية. لو قلت إنها تبعيضية، لكفرت. لماذا؟ لأن معناها أنه يرى بعض خلقه، ولكن بعضه الآخر البعيد بعيد لا يراه، كأن الله مُجسم محدود وقار في مكان وتبعد عنه الأشياء جدا، فلا يراها! كفرت، تهورت في مهوار التجسيم وال Anthropomorphism، وأنت لا تدري! حولت ربك إلى وثن، دون أن تدري. من هنا بيانية! لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، أي كل خلقه، كل ما عداه! لاحترق كل ما عداه. الله أكبر! لو كُشف حجاب النور.

ستقول لي هذا يُذكرني بقوله تبارك وتعالى للكليم – عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء والرُسل الصلوات والتسليمات والتشريفات والتبريكات – لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ *! في حديث ثابت البُناني، عن أنس بن مالك – رضي الله عنهم وأرضاهم -، عن رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه -، ما تجلى ربه للجبل إلا هكذا؛ وهكذا فعل النبي، بالإبهام والسبابة. أي مقدار حلقة صغيرة، بقُطر تقريبا ثلاثة سم. الجبل ماذا؟ تدكدك، انماع! الجبل! لا إله إلا الله! وتجل بسيط جدا، لا إله إلا الله! 

اللهم دلنا على عظمتك يا رب بالقدر الذي ترحمنا به في الدنيا والآخرة! لأن إذا عرفت الله، ببعض ما ينبغي له من معرفة، حجزتك هذه المعرفة عن كل ما لا يُرضي الله، وحملتك على كل جميل وطيب مما يُرضي الله تبارك وتعالى. أما إذا لم تعرفه، فأنا أقول لك ذرة من عمل من عارف بالله، تعدل أمثال الجبال من عملك! لأن عملك لمَن لم تعرف، توجهت به لمَن لم تعرفه، لا إله إلا هو! لمَن لم تعرفه، لمَن لم تعرف! لا قيمة له، أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ  *. أما الذي عرف الله، أخلص له الدين والعبادة. لذا الذرة منه، تعدل بمثاقيل الجبال من أعمال غيره، مِمَن لم يعرفوا الله تبارك وتعالى. إذن هذا الموضوع حقيق…ماذا أقول لكم؟ أنا نبذل فيه النفس والنفيس؛ لكي نقترب من الله حقا، عرفانا. لعل الله أن يكشف عنا الحُجب؛ حُجب النفس والذنوب والأغيار وغيوم الأغيار، ويحصل لنا نوع شهود! أن تعبد الله كأنك تراه. نوع شهود، هذا مقام الشهود. فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. مقام ماذا؟ مقام المُراقبة. أنت تُراقبه، لا إله إلا هو! لا تشهده.

على كل حال إذن، هذا الحديث النبوي أيضا من أعظم شواهد مسألة ماذا؟ الاحتجاب. يقول لك ماذا؟ ال Divine hiddenness. الاحتجاب الإلهي! قبل أن أُجيب عن هذه المسألة وأخوض فيها – وهذا موضوع خُطبة اليوم. كل هذا مُقدمات، لكن كان لا بُد منها -، قد يسألني سائلكم ما المُراد بمُشكلة الاحتجاب الإلهي؟ باختصار يا إخواني وبكل تبسيط مُمكن مُشكلة الاحتجاب الإلهي؛ لِمَ لَمْ يشأ الله أن يجعل نفسه أكثر وضوحا لنا كبشر؛ حتى نؤمن به؟ غير مفهوم! ما المقصود؟ ليس واضحا هو؟ 

الذي يقول ليس واضحا، سيقول لك هو قال لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ *، أنت قلت ينعتونه بغيب الغيوب، هو ضمن الإيمان بالغيب، رقم واحد – لا إله إلا هو -! النبي قال حجابه النور، الحديث! ما معنى سُبحات الوجه؟ أنواره وبهاؤه ولألاؤه وجلاله! جمع سُبحة، النور والبهاء واللألاء. لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. هو قال، والعارفون يقولون! لا إله إلا هو. وهو قال أيضا إنه الباطن، أليس كذلك؟ الظاهر والباطن، الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ  *! لكن في المُقابل قال ماذا؟ الظاهر. لا إله إلا الله! حرنا! أليس كذلك؟ قال ظاهر. قال سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا *. أبو العتاهية قال في كل شيء له آية. الله جعل السماوات والأراضين مُجرد آيات دالة عليه. لا إله إلا الله! لم نعد نفهم! ظاهر أم باطن؟ واضح أم خفي؟ ما القصة؟ أول وآخر، ظاهر وباطن، لا إله إلا هو! بحسب زاوية النظر. سنبدأ نُبسط أكثر!

مُشكلة التخفي أو الاحتجاب أو الاستتار الإلهي طبعا لها صيغ، أنا هنا أتناول صيغتها الجدلية Polemical، الصيغة الجدلية، هكذا تُسمى! الخلافية، التي تقول – انتبهوا، هذا هو أهم ما فيها – لا شك أن هناك بشرا، لا تستطيع أن تُنكر وجودهم! طبعا بعض رجال الدين يأخذ بالأسهل؛ يُنكر وجودهم، ويُشكك في نواياهم! يقول كذبة، غير صادقين، لو صدقوا الله، لو صدقوا الله في طلبه وطلب الاهتداء إليه، لدلهم عليه، لكنهم كاذبون، والله أعلم ببواعثهم! ويريح نفسه. غير صحيح! لأنك ستُبتلى يا رجل الدين، يهوديا كنت أم مسيحيا أم مسلما، بمَن يقول لك أنا رجل – مثلا نفترض – أكاديمي، أنا فيلسوف، أنا عالم، لي كذا وكذا سنة أبحث عن الله، لا تتهم نيتي، أنا أعلم بنيتي منك. طبعا أنت ستُبلس، سيُسقط في يدك. إياك أن تقول له لا، أنا أعلم بنيتك منك! ما هذا؟ دخلنا في مُهاترة. لا شك أن هذه الحالة موجودة! ولذلك بليز باسكال Blaise Pascal، هذا العبقري الكبير، والمؤمن العميق، في خواطره أو تأملاته – بحسب الترجمة -، اعترف على مدى خواطره بها. أي مرات كثيرة يتحدث عن مُشكلة الاحتجاب الإلهي، ودائما يُسلم بها، أنها موجودة، وتُشكل مُشكلة. بمعنى ماذا؟ أن الله كان يُمكن، لو شاء – لا إله إلا هو -، أن يجعل نفسه أكثر تجليا، أكثر وضوحا، وبالتالي الطريق إليه أكثر ماذا؟ لحوبا! أكثر وضوحا!

الحاصل أن هناك فلاسفة كبارا وعلماء خطيرين مُقتدرين، يُعربون عن أنهم يبحثون عن الله من سنوات، بكل نية صادقة وبكل جدية، وما تركوا حجرا إلا قلبوه، وما تركوا بحثا إلا طالعوه، على أنهم إلى الآن لم يصلوا إلى ذاك البُرهان الذي يؤكد لهم وجوده، لا إله إلا هو! ما زالوا مُحتارين! ولذلك الذين صاغوا هذه المُشكلة لاحتجاب الإله الخلافية، مثل الفيلسوف الكندي المُعاصر جاي. إل. شلينبرج J. L. Schellenberg، عنده كتاب كامل، نشره في الثلاثة وتسعين، عن موضوع ماذا؟ التخفي الإلهي Divine Hiddenness !

Divine Hiddenness and Human Reason، هكذا سماه! Divine Hiddenness and Human Reason، التخفي الإلهي والعقل الإنساني. كتاب مشهور جدا، وأصبح أشهر رجل في هذا الباب هو مَن؟ الكندي جاي. إل. شلينبرج J. L. Schellenberg. قال مثل هذا الكفر، أنا أسميه – يقول هو – الكفر المعقول. هذا كفر معقول Reasonable unbelief . يقول هذا كفر معقول. بحث واستفرغ وسعه، ولم يستطع أن يؤمن، لم يجد. 

فبرتراند راسل Bertrand Russell الذي أضرب به المثل كثيرا؛ لأنه كان فيلسوفا خطيرا، و Mathematiker، عقلية تحليلية رياضية! وفيلسوفا أيضا من طراز فريد، ومُجتهدا! كتب مئات الكتب! قضى حياته دون أن يؤمن بالله. قال أنا بحثت. وقال يوم يبعثني، إذا كان موجودا، أنا – قال – سأحاكمه إلى نفسه. سأقول له يا رب، أنا عندي الحُجة عليك. أستغفر الله، أنا طبعا لا أُصدق الكلام هذا، وسوف ترون لماذا. 

لماذا يا برتراند راسل Bertrand Russell؟ قال سأقول له لِمَ لَمْ تُقم البُرهان الذي يُقنعني وأمثالي؟ أنت تُقنع العوام، الناس (الغلابة) هؤلاء! أي كلام! بعرة وبعير وخُطى ومسير والسلام عليكم! أنا برتراند راسل Bertrand Russell، مُخي مُركب، أنا فيلسوف و Mathematiker كبير، لم أقتنع بك. لماذا لم تُرسل لي بُرهانا يُقنعني؟ 

أنا قلت لكم قبل حوالي خمس عشرة سنة أنا غير مُقتنع بكلام راسل Russell هذا. لماذا؟ تعرفون لماذا؟ لأن برتراند راسل Bertrand Russell لم يُخصص كتابا واحدا حتى بحياله للإلحاد والإيمان. أي لم يُقدم لنا أطروحة في مئتي صفحة أو ثلاثمائة صفحة عن الإيمان والإلحاد. تناول المسألة باستخفاف، نعم! لذلك وضعه خطير. أمره إلى الله طبعا، نحن لا نحكم له لا بجنة ولا بنار، أمره إلى الله، الله أرحم الراحمين، وهو أعلم بعباده، لا نتدخل، أعوذ بالله، لا نتدخل أبدا! لكن أنا أقول بحسب ما يظهر لي يا برتراند راسل Bertrand Russell أنت لم تُقنعني جيدا. تعرفون لماذا؟ سأضرب لكم مثلا سريعا واحدا، والأمثلة على فكرة كثيرة منه، لكن مثلا سريعا واحدا.

برتراند راسل Bertrand Russell عنده كُتيب صغير، يُمكن أن تقرأه في جلسة واحدة، اسمه لماذا لست مسيحيا؟ يذكر فيه أنه بقي مؤمنا، بالطريقة المسيحية، حتى تقريبا سن السادسة عشرة، حينئذ وقع في يده كتاب لجون ستيوارت مل John Stuart Mill، العبقري الإنجليزي الكبير! وعلى فكرة، جون ستيوارت مل John Stuart Mill، وأبوه، وأستاذه جيرمي بنثام Jeremy Bentham، كانوا أصدقاء لجده اللورد راسل Lord Russell. اللورد راسل Lord Russell كان ال Prime minister، كان الوزير الأول، رئيس وزراء! في بريطانيا، في وقته، عائلة كبيرة! فهناك علاقة حتى عائلية.

فقرأ هو كتاب جون ستيوارت مل John Stuart Mill. ومل Mill، هذا العبقري الكبير، قال في كتابه أنا بقيت أو ظللت مؤمنا حتى تقريبا سن السابعة عشرة أيضا أو الثامنة عشرة، ثم طرأ لي سؤال! رأيت أن علماء العقيدة، الثيولوجيين، يُقيمون الأدلة على وجود الله تبارك وتعالى، الأدلة المعروفة! بُرهان الحدوث، وبُرهان الإمكان، والبُرهان الأنطولوجي، إلى آخره! وقال وجدت دائما مفهوم السببية حاضرا. مفهوم السببية! كل شيء له سبب، لا يُوجد شيء من ذاته هكذا! قال فأنا تساءلت؛ جميل، إذن حتى الله مَن سببه؟ مَن علته؟ إذا كل شيء له علة، فإذن الله لا بد وأن يكون معلولا لشيء، ما هو هذا الشيء؟ أنتم قلتم لا، غير معلول. فلا، انتهى! إذا هو غير معلول، وآمنتم به، نحن نأخذ طريقا أقصر. Parsimony principle يُسمونه! مبدأ التقتير، Occam’s razor، أكيد أنتم سمعتم بهذا المبدأ كثيرا جدا جدا، في العلوم الاقتصادية والجدالات الفلسفية! يقول لك ماذا؟ نصل أو موسى – (الموس)، موسى أو نصل – أوكام Ockham، ويليام الأوكامي William of Ockham فيلسوف Scholastic مشهور في القرن الثالث عشر. دائما مبدأ الاقتصاد بالتفسير؛ شيء يُفسر بخطوتين، لا يُوجد داع لأن نُفسره بثلاث خطوات. الخُطوة الثالثة هذه زائدة! Parsimony،Parsimony  البخل، التقتير! Parsimony principle، مبدأ التقتير، أو مبدأ نصل أوكام Ockham.

جميل، قال بهذا النصل، نأخذها من قصيرها كما تقول العامة، ونقول إن الكون نفسه ليس له سبب. داخل الكون هناك شيء سببا لشيء، لكن الكون كله على بعضه ليس له سبب، مثلما الله عندكم ليس له سبب. مُقنعة، أليس كذلك؟ قال له راسل Russell والله مُقنعة، توقفت عن الإيمان، أنا كافر. نعم؟ مَن قال لك يا جون ستيوارت مل John Stuart Mill، ومَن قال لك يا برتراند راسل Bertrand Russell، إن ثمة قاعدة فلسفية تنص على أن لكل شيء سببا؟ غير صحيح. هذه القاعدة ما قررها إلا جاهل، هذه القاعدة ما قالها إلا رجل لم يعرف يوما القراءة النظامية للفلسفة العقلية، بدءا من أرسطو Aristotle، وانتهاء بالعقلانيين الإسلاميين في القرن التاسع عشر والعشرين أيضا، ما رأيكم؟ ستقول لي ماذا؟ نعم، طبعا. هذا ليس كلام خطابة، هذا كلام فلسفة، تحقيق!

فما هي القاعدة؟ القاعدة تقول كل مُمكن له علة. كل مُمكن له سبب. ليس كل شيء! لأن في نهاية المطاف الله شيء، قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ  * في الأنعام، الله شيء، لكن لا كالأشياء، وهو مُشيىء الأشياء، لا إله إلا هو! أليس كذلك؟ وأصعب سؤال في الفلسفة، كما قال مارتن هايدجر Martin Heidegger؛ لِمَ كان الشيء؟ كان التامة طبعا هنا، لِمَ كان الشيء؟ لِمَ وُجد الشيء؟ لِمَ لَمْ يبقى اللاشيء لا شيئا، العدم عدما، وانتهى الأمر؟ كيف؟ إذن جوابه الوحيد؛ واجب الوجود أعطاه شيئيته، لا إله إلا هو!

إذن القاعدة كل مُمكن، يا برتراند راسل Bertrand Russell، ويا جون ستيوارت مل John Stuart Mill، له علة وسبب، وليس كل شيء! من أين أتيتم بها؟ هذه لم يقلها أي فيلسوف على فكرة، هذه من قلة دراسة الفلسفة بطريقة نظامية حقيقية. وفرق كبير بين كل مُمكن له سبب، وكل شيء له سبب، كما بين السماء والأرض! وهذا يحتاج أيضا إلى شرح. ولماذا كل مُمكن له سبب؟ هذا يحتاج أيضا إلى شرح. واضح يا إخواني؟

أيضا خطر لي؛ برتراند راسل Bertrand Russell من ضمن التشغيبات التي شغب بها على الناس وخدعهم بها، أنه اتكأ كثيرا على مُغالطة التركيب، التي اتهم بها الميتافيزيقيين، أي المؤمنين بالذات، وطبعا يُمكن أن تكون ميتافيزيقيا وحتى مُلحدا. هو لا، اتهم الميتافيزيقيين * من أهل الإيمان. قال هؤلاء يتورطون في مُغالطة التركيب. ما هي يا سيد راسل Russell؟ قال لك مُغالطة التركيب أنك تقول هذا إنسان له أم، هذه إنسانة لها أم، وهذا…وهذا…وهذا…! إذن البشرية – أي ال Humanity – لها أم! غير صحيح، البشرية ليس لها أم. ومضبوط، البشرية ليس لها أم، لكن كل إنسان له أم.

قال مُغالطة التركيب أنك تُريد أن تُطبق قاعدة تنطبق على أفراد المجموعة، على المجموعة ككل. لا، لا تنطبق، لا تنطبق! غير صحيح. هذه مُغالطة تركيب! هذا الشيء له سبب، وهذا الشيء له سبب، وهذا الشيء، وكل ما في الكون من ظاهرات ومن أشياء لها أسباب، كل منها له سبب، إذن الكون له سبب؟ قال غلط، لا، ليس بالضرورة. يُمكن أن يكون الكون كله بلا سبب، مثل البشرية كلها بلا أم. (تخبيص)، فرحان في نفسه برتراند راسل Bertrand Russell! مع أنه فيلسوف عميق ودقيق، ورياضياتي! كلامه هذا (هبل). خلني أقولها بالعامية هكذا على طريقتي؛ (هبل)، لا يقوله فيلسوف. لماذا؟ 

ببساطة لو خرج له طفل صغير، وقال له يا سيد راسل Russell ذرة السُكر هذه حلوة، وذرة السُكر هذه حلوة، والباوند Pound هذا، رطل السُكر هذا، كله من ذرات، وهو حلو أيضا! اشتغلت القاعدة، It works. هناك لم تشتغل، مُشكلتك! يرجع راسل Russell ويقول لك انتبه! انتبه! انتبه! انتبه! هذا الحائط مُكون من أشكال مُثلثية، لكنه ليس مُثلثا. صح، لم تشتغل. ستقول لي تخربطنا! ما الذي يقع؟ نعم، ما دام تخربطنا، فمعناها برتراند راسل Bertrand Russell هو مخربط أصلا، وقع في شيء هو لم يُحققه، أليس كذلك؟ أتى لي بمثال ومثالين، وذهب يجري، فرحان هو! لم يُحقق المسألة فلسفيا، على أن الفلاسفة من قبل ومن بعد حققوها، ولم يتورطوا هذا التورط، ما رأيكم؟

الفلاسفة الذين درسوا هذه المسائل ميزوا بين نوعين من الصفات. لذلك يا إخواني، خذوها من أخيكم الصغير أو الكبير: (الفطانة البتراء أضر من الجهل. إياكم أن تتعلموا أو تتثقفوا بطريقة المجلات والمقالات والخُطب والمُحاضرات والإنترنت Internet! تعلموا نظاميا، ادرسوا كل شيء من الألف إلى الياء دراسة حقيقية. اللعب هذا لا ينفع، لا يجعلكم لا مُتعلمين ولا فلاسفة ولا مُفكرين ولا مُتدينين، تظلون هكذا هباء، وأي واحد يُحرككم ذات اليمين وذات الشمال، أليس كذلك؟ إن تعلمت جيدا، لم يضحك عليك، ليس أمثالي، أمثال برتراند راسل Bertrand Russell نفسه، الفيلسوف العظيم والعقل الهائل الكبير! لا يضحك عليك، أليس كذلك؟)

الآن مُربع، أحضر لي مُربعا. المُربع أضلاعه مُتساوية! ضع جنبه، عارضه بمُربع، المجموع مُستطيل. لم يبق مُربعا، صحيح! معناها كلام راسل Russell صحيح. طاوله بمُربع، المجموع مُستطيل. لم يبق مُربعا، كلامه صحيح! ما الحكاية؟ أنت سترد عليه وتقول له قطرة ماء مائعة، قطرتان مائعتان، لتر من الماء مائع. صحيح، اشتغلت. لم نعرف! 

نعم، الفلاسفة ميزوا بين نوعين من الصفات والمُضافات – ال  Attributes-. قال لك هناك أنواع من الإضافات، إذا أُضيفت، تتماحى، تضمحل، تتبدل، تتغير. هذه تكون نسبية! ويُوجد منها إضافات مُطلقة، غير نسبية، مهما أضفتها، تبقى مُمتدة أو مُتمددة، لا يُلغي بعضها بعضا، بل يُعزز بعضها بعضا. صحيح! مثل مائعية الماء، مثل سُكرية السُكر، حلاوة السُكر، ملوحة المِلح، إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره! هذا جواب الفلاسفة، وخاصة الغربيين، ولا يُرضيني كثيرا! تعرفون لماذا؟

لأن الخلط في مُستوى قبل ذلك، الخلط عند راسل Russell في مُستوى قبل ذلك! هو يتكلم في قضايا ذات طبيعة مادية، تتعلق بالأشكال والحجوم والصلابة والمرونة والميوعة والمسامية و…و…و…إلى آخره! ونحن حديثنا في مبدأ عقلي، حاكم على كل ظاهرة، بما فيها الظواهر الذهنية. بمعنى في نهاية المطاف أن مبدأ العلية، مبدأ السببية، وبرتراند راسل Bertrand Russell في عين مُحاولة التشكيك فيه عندى مُستوى مُعين، مُستوى تطبيق ما يصح على الأفراد على ما يصح على مجموعتهم أو فئتهم، ماذا يفعل؟ يحتج به. أي كل مُحاجة في قلبها السببية. خذوها مني قاعدة؛ كل مُحاجة، أي نوع من المُحاجة! مع الله، ضد الله، مع الأنبياء، ضد الأنبياء، مع العقيدة! أي نوع من المُحاجة، مهما كانت مُفككة، في قلبها السببية. كل مُحاجة في قلبها ماذا يكمن ويجثم دائما؟ السببية. لا معنى للمُحاجة أصلا بلا ماذا؟ بلا تسليم بمبدأ السببية! لأن المُحاجة ما معناها إذن؟ أنها حُجة للإقناع. سببية! لا تستطيع!

أنت تُناقش مبدأ عقليا – بالنسبة لكانط Kant مبدأ أولي هذا، Priori، أي هذا سابق على التجربة -، بالقياس على خواص المواد؟ ما الخربطة هذه عند راسل Russell؟ خربطة رهيبة! وبرتراند راسل Bertrand Russell عنده نظرية يُسمونها نظرية الأوصاف، أي Descriptions.

Theory of descriptions، الأوصاف! والمثال الذي فيها، المثال الشهير؛ ملك فرنسا الحالي أصلع The Present King of France is Bald! وعمل لك قصة! وتنظر كيف كان عطاء الفلسفة الإسلامية الحقة، وكيف نُجيب عنه بمُصطلح القضايا اللا بتية، التي هي لا حملية ولا شرطية، ولم يفقه فيها شيئا هو، لكن العقل الإسلامي الضخم تكلم فيها من خمسمائة سنة، القضايا اللا بتية! سبقت كل تحقيقات راسل Russell، وجعلتها خلفها بعشرات الكيلومترات.

فهذه القضايا انتبهوا لها! أرجو ألا يختلط الأمر، خاصة على أبنائنا وبناتنا في كل مكان، ويُسلسوا قيادهم للإلحاد والتشكيك في وجود الله تبارك وتعالى؛ لأن راسل Russell قال ومل  Millقال. انتبهوا، المسألة أعمق من هذا، وأكثر صرامة وجدية مما تظنون، ولا تلعبوا بدينكم!

نعود إلى موضوعنا؛ موضوعنا احتجاب الله الجدلي أو الخلافي، أي أن الله تبارك وتعالى لم يشأ أن يجعل ذاته العلية أكثر وضوحا، أكثر تكشفا، أكثر تجليا، مما فعل، بحيث نتج عن ذلك أن بعض الصادقين الجادين في البحث عنه، لم يُسعفهم الزمن ولا عقلهم ولا ذهنهم، في ماذا؟ في الوصول إلى الإيمان به تبارك وتعالى. شلينبرج Schellenberg يُسمي هذا الكفر المعقول Reasonable. قال هذا كفر معقول، فعلوا ما عليهم! في نهاية المطاف مصيرهم إلى جهنم. ما ذنبهم؟ لِمَ لَمْ يشأ الله أن يجعل نفسه أكثر وضوحا؟ 

نبدأ الآن في الجواب الذي سيمتد طبعا إلى ما بعد صلاة الجُمعة، للأسف أنا ظننت أنني أفرغ في خُطبة واحدة، لكن نحتاج إلى مُحاضرة أكيد بعد الصلاة، لكن أبدأ بسرعة؛ 

نحن يُمكن أن نُجيب بطريقتين كما تعلمنا؛ الطريقة النقضية – النقضية، نقض وليس نقدا، أي Critique، لا – والطريقة الحلية. الطريقة النقضية؛ لا نُسلم بها بالسؤال أصلا. لا نقول إن الله مُحتجب، والله مُستتر! وهذا الكلام! نقول الله أظهر من كل شيء، لا إله إلا هو! وبه ظهر كل شيء، وهو شهيد على كل شيء، أي بالمزاج والذوق العرفاني الشهودي – أذاقنا الله من هذا الذوق، ما يُلحقنا به بكبار أوليائه وبكبار صالحيه، اللهم آمين -. والطريقة الحلية؛ هي التي سنُفصل – إن شاء الله – بعد صلاة الجُمعة، والله تبارك وتعالى يتولى هُداي وهداكم، وهو تبارك وتعالى يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ *.

أستغفر الله، فاستغفروه، فيا فوز المُستغفرين!

 

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

قبل أن نمضي، إخوتنا، إلى الدعاء ثم الصلاة، أُريد فقط أن أُسجل أو أُعلق مُلاحظة مُهمة؛

أستمحيكم عُذرا، وأستميح مَن يسمع هذه الخُطب حول العالم عُذرا؛ لأن بعض الناس تميل نفسه إلى نوع من الخُطب، إن شاء الله يأتي وقته، يكون أكثر سلاسة، أكثر بساطة، أكثر وضوحا، أكثر وعظية ربما وترقيقا للقلوب، بطريقة واضحة، كخُطبة الجُمعة المُقبلة؛ لأنها خُطبة رمضان – إن شاء الله تعالى -، لكن أرجو، أرجو دائما ألا نغفل عن مُلاحظة أمرين اثنين:

الأمر الأول؛ كما قال تبارك وتعالى قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ *، الذي لا يهمك الآن، من وجهة نظرك الحالية، يهم غيرك، أكيد مُهتمون به جدا! ويقول لك الحمد لله، طُرحت هذه المسألة، كانت تؤرقني من سنين. وهذا يحصل مع كل خُطبة على فكرة في التعليقات، لمَن يُراقب التعليقات. هذه واحدة، فلنكن مُتواضعين، لا نُريد أن نُعيد تشكيل العالم على أنفسنا، لا! أبدا. 

شخصيا، العبد الفقير، لا تأتي جُمعة إلا وأنا في أشد الحيرة مما أختار أن أتكلم فيه! أمامي يكون بضعة عشر موضوعا على الأقل، ثلاثة عشر أو أربعة عشر أو خمسة عشر أو ستة عشر موضوعا! إذن أتكلم في هذا أم في هذا؟ وأحيانا قبل أن أصل إلى المسجد، تكون النية معقودة أن أتكلم في الموضوع الفلاني، ثم – سُبحان الله! – يشاء الله شيئا آخر، يُغلق الباب، أنشرح للكلام في موضوع ثان، وأبدأ فيه، لا إله إلا الله! أمر إلهي، هناك حكمة إلهية لكل شيء، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً *.

ثانيا، وهذا الأهم؛ الآن، أنت في وضعك الحالي، ظرفك الزمني الحالي، هذا الموضوع لا يهمك. مُمكن بعد شهر فقط، أو سنة، أو عشر سنوات، يهمك، ويهمك جدا! متى؟ حين تقرأ في الموضوع، وتختلط عليك المذاهب والآراء والأقوال! أو حين يأتيك ابنك أو ابنتك أو حفيدك أو حفيدتك، تقول لك (بابا أو دادي أو سيدو أو جدو)؛ موضوع كذا…كذا…كذا…! هل عندك من جواب؟ تقول لا إله إلا الله! هذا الموضوع تكلم فيه فلان، ولم أعبأ به ذلك الحين.

انتبه، لا يُوجد علم، لا يُوجد فكر، لا يُوجد نقاش جاد، ليس له أهمية. كل شيء له أهميته! لا يهمك الآن، قد يهمك بعد الآن. فلذلك علينا وصلا بدروس الجُمعة السابقة ألا نكون مُشوشين. حالتنا العاطفية الآن، حالتنا الاهتمامية الآن، تُشوشنا، وتجعل حُكمنا على الخُطبة وموضوعها مُشوشا، مُشوشا! غير عادل، غير سليم، ليس في مكانه! واضح؟ فعلينا أن نتحرر من هذا؛ لنكون أقرب إلى ال Justice، إلى القسط، إلى العدل! أن نكون أقرب إلى العدل. الله يُحب القسط والعدل، لا إله إلا هو!

الذي أتى اليوم مثلا، بعد مُلاسنة مع زوجته، كان يتمنى أن يكون الموضوع عن النساء الخيتعورات الشيطانات الإكسنتيبات، بنات وبنات وبنات! ويا ليت الشيخ تكلم وقسّى الكلام! مُنحاز ومُشوش. أي يُريد الموضوع هذا، أليس كذلك؟ الذي أتى اليوم، وأمس لم يستطع النوم، أي لم يذق للنوم طعما، لم تغتمض عيناه بنوم ولا بسنة! لماذا؟ لأن ابنه (طلع روحه) كما نقول بالعامية، أشقاه، أتعبه! ابنه المُراهق، ابن تسع عشر سنة، أشقاه وأتعبه، لا يأتي له إلا بالمشاكل! فيُريد خُطبة عن ماذا؟ عن التعامل مع هؤلاء الأوغاد المُراهقين. وعدنان يُكلمنا عن راسل Russell ومُلا صدرا وابن سينا! ما هذا؟ طبيعي، هذا يحدث مع الكل.

لذلك مزيدا من التواضع، مزيدا من الواقعية، مزيدا من العدل؛ حتى لا نُضيع على أنفسنا ماذا؟ فُرصة الاستفادة مما نسمع ومما نقول. عودت نفسي مُذ كنت صغيرا – بفضل الله تبارك وتعالى -، ألا أحتقر أي معلومة. والله الآن وأنا أعود، على مبعدة قريبة من خمسين سنة، أتذكر الأوراق التي كنت أملأ بها غُرفتي، شيء لا يكاد يُصدق! ألوف الأوراق، ألوف…ألوف…ألوف…ألوف…! في الموسيقى، في الفن، في التاريخ، في أي شيء، في كل شيء! أُريد أن أفهم كل شيء، لا أُريد أن أُضيع أي معلومة! في التلفزيون Television، في الراديو Radio، من أستاذ، من مجلة، من كتاب. وكنت دائما أشعر أن كل هذا سأحتاج إليه وسيُحتاج إليه، وهذا صحيح! ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل – انظر – قل أن نظر أحد في كتاب، إلا ونفعه الله به. حتى لو كارل ماركس Karl Marx وبرتراند راسل Bertrand Russell. 

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا. اللهم اهدنا إلى محابك من العقائد والأقوال والأعمال. حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما جنينا على أنفسنا وما أنت أعلم به منا، برحمتك يا أرحم الراحمين. لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين. ربنا آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير مَن زكاها، أنت وليها ومولاها. 

نعوذ بالله من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن علم لا ينفع، ومن دعوة لا تُسمع، ومن عمل لا يُرفع، ومن الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة.

اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هُداة مُهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، سلما لأوليائك وعدوا لأعدائك، نُحب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك. اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التوكلان، وأنت المُستغاث وبك المُستعان، ولا حول ولا قوة إلا بك.

وفر لنا من أحسن ما قسمت لعبادك الصالحين، من خيري الدنيا والآخرة. نسألك العفو والعافية والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعزتك وعظمتك أن نُغتال من تحتنا.

يا رحمن، يا رحيم، ادرأ الحروب والغلاء والوباء والبلاء عن البشرية جمعاء، برحمتك يا أرحم الراحمين. نبوء إليك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، وأقم الصلاة.

(25/3/2022)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: