إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۩ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۩ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ ۩ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ۩ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ۩ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۩ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ ۩ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ۩ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ۩ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة والأخوات:

أما قصة نبي الله يونس – عليه الصلاة وأفضل السلام – فهي كالآتي، هو يونس بن متى، ومتى هو أبوه على الصحيح، كما في صحيح البخاري، قال ونسبه – أي النبي عليه السلام – إلى أبيه يونس بن متى، وقال بعض العلماء بل متى هي أمه، ولم يُنسَب نبي إلى أمه إلا ما كان من عيسى ومن يونس، والله – تبارك وتعالى – أعلم، والأول أصح، لأنه مُصرَّح به في الصحيح، هو يونس بن متى، لكن بعد ذلك لا نعلم حقيقة نسبه، كل ما نعلم أنه مبعوث من ذُرية إبراهيم، وفي أعقاب إبراهيم، جاء بعد إبراهيم، في القرن الثامن قبل ميلاد المسيح – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهو من أنبياء بني إسرائيل، وبُعِث وأُرسِل أيضاً إلى بني إسرائيل المطرودين المأسورين الذين كانوا في آشور، في نِينَوى أو نَينَوى أو نَينُوى – ثلاثة وجوه لضبطها -، هذا الذي نعلمه.

وكتاب اليهود وهو التوراة والإنجيل أيضاً أو العهد الجديد يُسميانه يونان بن أمتّاي بتشديد التاء، يقولون يونان بن أمتّاي، وهكذا يُقال له في اللُغات الأجنبية، جوناه Jonah ولد أمتّاي Amittai أو the son of Amittai، هكذا اسمه، يونس بن متى – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

قصته عجيبة، وقد تناقض المُفسِّرون كثيراً في تفسير الآيات التي نزلت بصدد يونس أو بصدد قصة يونس أو بصدد حكايتها، حتى أن الشيخ الإمام الجليل والمُفسِّر النحرير ابن عاشور – رحمة الله عليه – تناقض في تفسير هذه القصة مع ما عُلِم عنه من التدقيق وتحرير الأقوال إلى الغاية القصوى – رحمة الله تعالى عليه -، وهو علم شهير جداً من أعلام المُفسِّرين في هذا العصر، ففي آخر ما توصَّل إليه حين فسَّر قصة يونس – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما وردت في سورة الصافات صادق على ما ورد في التوراة، تبنى تقريباً مُجمَل ما ورد في التوراة.

ومُجمَل ما ورد في التوراة – أيها الإخوة والأخوات – أن الله – تبارك وتعالى – أوحى إلى يونس لأول أمره – هذا أول عهده بالرسالة، أوحى إليه وكان في فلسطين، هو من أنبياء بني إسرائيل في فلسطين – أن يسير إلى المدينة العظيمة نِينَوى، لأن أهلها قد زاد واستطار شرهم، وبلغ عنان السماء، فأوحى إليه – تقول التوراة – أن يذهب إليهم، ويُنادي عليهم، بمعنى ماذا؟ أن يعظهم وأن يأمرهم وأن ينهاهم، وإلا يُوعِدهم حلول العذاب، فخشيَ من ذلك، يقول الشيح ابن عاشور – وهو هنا مُصادِق على ما ورد في التوراة – لأنه لم يكن ذا عصبية فيهم تحميه وتُقوّيه وتذب عنه، وهم بنو إسرائيل الذين كانوا في حماية الآشوريين، كانوا في حماية الآشوريين ونِينَوى مدينة آشورية، بناها الملك الآشوري الأول آشور Ashur سنة تسع وعشرين ومائتين وألفين قبل الميلاد، أي في الألف الثالثة قبل الميلاد، وما زالت بعد ذلك مُصطافاً لملوك آشور، وكان فيها مائة ألف من اليهود الذين ظلوا بعد دانيال Daniel – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

قال تعالى أَوْ يَزِيدُونَ ۩، واخُتلِف في هذه الزيادة، اختُلِف أيضاً في معناها، واختُلِف في مقدارها، قيل أَوْ يَزِيدُونَ ۩ زادوا عشرة آلاف، وقيل بل كانوا عشرين ألفاً، وقيل بل كانوا ثلاثين ألفاً، وقيل بل كانوا أربعين ألفاً، وقيل بل كانوا سبعين ألفاً، ونحن لا نتكلَّف الدخول في هذا الموضوع، المُهِم أنهم زادوا على مِائَةِ أَلْفٍ ۩، أَوْ يَزِيدُونَ ۩، قد يقول بعض الناس يُمكِن للإنسان أن يشك أو يتردَّد، لكن لا يليق ولا يُمكِن ولا يجوز أن رب العزة – عز وجل – يتردَّد، هل كانوا مائة ألف أو كانوا يزيدون؟ لماذا يقول إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ۩؟ فهنا قال بعضهم – وهذه طريقة الكوفيين، أعني نُحاة الكوفة – أَوْ ۩ هنا بمعنى بل، كقوله – تبارك وتعالى – وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۩، أي بل هو أقرب، فتأتي أَوْ ۩ بمعنى بل، وهذا موجود في فصيح شعر العرب، في شعر جرير وغيره موجود، المُهِم هذا كثير، هذه طريقة نُحاة الكوفة، حتى البصريون يقولون بها لكن إذا سُبِقت بنفي أو نهي، ولذلك يُصادِقون على أن معنى وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۩ بمعنى بل، لكن إذا ما كان ما قبلها مُوجَباً أو مُثبَتاً فلا، إلا بشروط، لم تتوفَّر في الآية، ولذلك يقول نُحاة البصرة إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ۩ في وهم المُتوهِّم، أي لو نظر إليهم إنسان منا أو لو نظر إليهم ناظر لقال هؤلاء يأتون مائة ألف وربما يزيدون، أَوْ يَزِيدُونَ ۩، لكن الله – تبارك وتعالى – يعلم الحقيقة، ولماذا؟ لماذا قال هذا؟ لماذا عبَّر بهذا التعبير؟

قيل المائة ألف كانوا من بني إسرائيل، أَوْ يَزِيدُونَ ۩ كانوا من الآشوريين، ويونس – عليه السلام – ليس مبعوثاً إلا لبني إسرائيل، لكنهم كانوا مُختلِطين، اختلط بعضهم ببعض، فإذن لابد أن يُوجَّه الخطاب إلى الجميع، كما فعل موسى، بعثه الله لاستنقاذ بني إسرائيل، لكن لما كان فرعون في البين وجَّه الخطاب إليه أيضاً، ودعاه إلى الله وإلى التوحيد، فهذا بطريق العرض، لا بطريق الأولوية، فقيل هؤلاء، وقيل غير ذلك، كلام كثير فيه تكلفات، وبعضها ركيك، إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ۩.

هو أشفق، بنو إسرائيل معروفة عادتهم وديدنهم وطريقتهم في جواب أنبياء الله ورُسله، هذا معروف، فخشيَ على نفسه، فأراد أن يهرب من هذه المأمورية، هكذا تقول التوراة، وهكذا صادق الشيخ ابن عاشور – رحمة الله عليه -، كأنه اقتنع بذلك، وهناك مُرجِّحات لهذا الفهم، هناك مُرجِّحات لهذا الفهم وسنرى بعضها بعد قليل، ما الذي ألجأ الشيخ الإمام أن يقول بهذه المقالة بعد أن قال في مواضع من قبل – في موضعين أو ثلاثة مواضع – ما يُوافِق فيه جماهير المُفسِّرين؟ سنرى – إن شاء الله – بعد قليل.

فركب سفينةً – تقول رواية التوراة – من يافا، من المرفأ في يافا، يُريد مدينة طرطوس، أي ترشيش كما تقول التوراة، هي طرطوس، وهي مدينة في الساحل المعروف، في الساحل الشامي، فركب السفينة، فلما ركبها هال البحر، واضطرب الموج واغتلم، وتقاذفت الأمواج السفينة، كأنها كرة في يد صبية، حتى خافوا عليها أن تغرق بمَن فيها أو تنكسر، فقالوا لابد أن نعرف سبب هذه البلية التي حاقت بنا، وضرع كل إلى إلهه، تقول التوراة هذا، كانوا مُشرِكين، كل إنسان له إله، ضرع كل إلى إلهه، وجعلوا يبحثون عن كل أحد، ويسألونه ويستفصلونه، وكان يونس – عليه السلام – نائماً في قعر السفينة، أي في أسفل السفينة، فأيقظوه وسألوه عن اسمه وعن قصته وحكايته ومن أين أتى، فأخبرهم، فقالوا أنت سبب البلاء الذي نحن فيه، الهارب من وجه الرب، يونان أو يونس الهارب من وجه الله، الهارب من مأمورية الله، مُتنصِّل! وهذا لا يليق بأنبياء الله، مثل هذا لا يليق أن يُنسَب إلى أنبياء الله – عليهم الصلوات والتسليمات أجمعين -، فنحن غير مُرتاحين لهذه الراوية ولهذا المسلك في تفسير القصة، هكذا تُسميه التوراة والإنجيل، الهارب من وجه الرب، وهو نعت نفسه أيضاً بهذا النعت، أنه هرب من وجه الرب – سُبحانه وتعالى -.

وهكذا قالوا نضرب القرعة، فَسَاهَمَ ۩، قال تعالى فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ ۩، قالوا نضرب القرعة، فضربوا القرعة، فخرجت عليه، قيل ثلاث مرات، فقالوا له ماذا ترى نفعل بك؟ قال ألقوني في البحر، وتشمَّر لخلع ثيابها، وخلعها ثم ألقى نفسه في البحر، فإذا بحوت قد أعده الله وأرصده لالتقامه، فَالْتَقَمَهُ ۩ مُباشَرةً، أي الحوت، التقمه وهدأ البحر، وسكنت العاصفة، وصارت السفينة أو عادت إلى الأمان، فعلموا أنه سبب البلية.

هذا كان ما ارتاح إليه أو استروح إليه الشيخ الإمام ابن عاشور في تفسيره، لكن جماهير المُفسِّرين يرون العكس، يرون أن يونس – عليه الصلاة وأفضل السلام – سار إلى أهل نِينَوى، وأمرهم ووعظهم وخاطبهم بخطاب الله – تبارك وتعالى -، إلا أنهم تأبوا عليه وعتوا وعصوا وتمرَّدوا، حتى ضج منهم، وملأوا قلبه قيحاً وهماً وغضباً، فخرج مُغَاضِبًا ۩، يقول – تبارك وتعالى – في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ ۩، أي اذكر صاحب الحوت، النون هو الحوت، اذكر يا محمد صاحب الحوت، لماذا سماه الله بهذا الاسم؟ لماذا لقَّبه الله بصاحب الحوت؟ وَذَا النُّونِ ۩، وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ۩ في القلم، وهنا قال وَذَا النُّونِ ۩، ذو بمعنى صاحب، مِنْ ذَاكَ ذُو إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا، يقول ابن مالك في الألفية:

مِنْ ذَاكَ ذُو إِنْ صُحْبَةً أَبَانَا                          وَالْفَمُ حَيثُ الْمِيمُ مِنْهُ بَانَا.  

قال كَصَاحِبِ الْحُوتِ، وقال وَذَا النُّونِ ۩، تبارك وتعالى، حسنٌ، لماذا؟ لأنه بقيَ في جوفه مُدةً معلومةً، هي قليلة، ليست بالكثيرة، يقول الشيخ الإمام أبو إسحاق الإسفراييني – رحمة الله تعالى عليه – فهذا حوت – دابة – لبث نبي الله في جوفه أيام قلائل، فصار صاحبه، فكيف بمَن عبد الله سبعين سنة؟ ترون ذلك يضيع عنده – تبارك وتعالى -؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا ۩، مَن صاحب الله بالعبادة والتقوى والذكر والإنابة عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستين أو سبعين سنة هل يضيع يوم القيامة؟ إن شاء الله لا يضيع، لأنه لقَّبه بأنه صاحب الحوت وما صحبه إلا أيام وربما ساعات قلائل، ربما صحبه ساعات قلائل فقط على رواية الإمام عامر بن شراحيل الشعبي – رحمة الله تعالى عليه -، وسيأتي في وقته – إن شاء الله تعالى -.

المُهِم فخرج مُغَاضِبًا ۩، قال وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ۩، مُغَاضِبًا ۩ لمَن؟ قال ابن مسعود والإمام الشعبي وسعيد بن جُبير والحسن البِصري مُغَاضِبًا ۩ لربه، مُغَاضِبًا ۩ لربه على أن اللام هنا ليست اللام التي يُوصَل بها إلى المفعول كما يقول النُحاة، ليست هذه اللام التي يُتوصَّب بها إلى المفعول، وإنما هي لام التعليل، كما يُقال كل هذا الغضب لفلان! أي لأجل فلان، كل هذا الغضب والغيظ لفلان! أي لأجل فلان، قال – تعالى – كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۩، أي كدنا من أجل يوسف، من أجل إكرامه، كِدْنَا لِيُوسُفَ ۩، اللام هنا تعليلية، مُغَاضِبًا ۩ لربه أي مُغاضِباً قومه لأجل ربه، أليس كذلك؟ وهذا دأب الأنبياء، لا أن تُفهَم مُطلَقاً وبتةً كما هو ظاهر التوراة، مُغَاضِبًا ۩ لربه أي أنه غاضب ربه وغضب الله عليه، أعوذ بالله، هذا نبي، لكن اليهود قوم بُهت، وهذه عادتهم في بهت الأنبياء في توراتهم – والعياذ بالله تبارك وتعالى – أبداً، هو لم يُغاضِب ربه، إنما غاضب قومه، لأنهم لم يُؤمِنوا وتأبوا على دعوته، ولم تلن مقاداتهم له – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فخرج مُغَاضِبًا ۩ قومه لأجل الله – تبارك وتعالى -.

لكن خرج بغير إذن من الله، خرج بغير إذن من الله وهذا غير لائق، ليس ذنباً صريحاً، هو أمرهم ونهاهم وربما طال لبثه بينهم، ولكن بعد ذلك لما استشعر اليأس منهم تركهم، وانصرف – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ظاناً أن الله – تبارك وتعالى – لن يُضيِّق عليه بعتاب أو بعقوبة أو بشيئ من ذلك، وهذا معنى فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ۩، لا يُمكِن أن يجول بالخاطر والبال أنه ظن أن الله – عز وجل – لن يقدر عليه بمعنى أنه يُعجِز ربه، أعوذ بالله، لو ظن هذا واحد منا لكفر، لو ظنه واحد من سفلة لكان به كافراً، أي بهذا الظن، فكيف بنبي كريم؟ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۩، بل كيف برسول عظيم؟ والنبي قال ما ينبغي لأحد أن يقول إني – وفي حديث آخر أنا – خير من يونس بن متى، نبي عظيم، له الكرامة الكاملة، فما معنى فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ۩؟ هذا ليس من القُدرة، إنما من القَدر، والقَدر هو التضييق، القَدر هو التضييق! قال – تبارك وتعالى – اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۩، ما معنى وَيَقْدِرُ ۩؟ ويُضيِّق، رزق واسع ورزق مُضيَّق، فهو ظن أن الله لن يُضيِّق عليه، وسنرى التضيق في ماذا؟ ما هو مُتعلَّق التضييق؟ وقال – تبارك وتعالى – وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۩، ما معنى وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ۩؟ ومَن ضُيِّق عليه رزقه، ومَن قُتِّر عليه في رزقه، هذا معنى القَدر، وأيضاً هذا أحد معاني ليلة القَدر، قيل ليلة القَدر هي ليلة الضيق، لماذا هي ليلة الضيق؟ لأن الذين يعلمونها ويُكاشَفون بها ويُوافونها على الحقيقة قلائل، فالعلم بها ضيق جداً بين المُوحِّدين، وقيل ليلة القَدر ليلة الضيق لأن الأرض تضيق بالملائكة النازلة الكثيرة فيها، تنزل ملائكة كثيرة جداً جداً، حتى تضيق الأرض بهم وتضيق عليهم، فسُميت ليلة القَدر، هذا معنى القَدر.

وقد ذكر الإمام الزمخشري المُعتزِلي – رحمة الله عليه – في كشّافه أن مُعاوية بعث إلى ابن عباس، وقال له لقد خُضت ليلة أمس في بحر كتاب الله، فضربتني الأمواج حتى كادت تُغرِقني، وليس لي إلا أنت، أنت حبر القرآن وترجمان القرآن، قال ما هو؟ قال قوله – تبارك وتعالى – فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ۩، فكيف يظن نبي أنه يُعجِز الله؟ قال ليس من القُدرة، إنما من القَدر، وفي رواية قال له وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۩، فأزال إشكاله، هكذا! فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ۩، هذا معنى الآية، لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – كما قلنا لم يأمره بالبقاء، لو كان مأموراً بالبقاء لبقيَ، لكن لم يُؤمَر بالبقاء، هو أُمِر فقط بعد الإرسال أن يدعوهم، حتى إذا استشعر اليأس خرج، وكان اللائق به – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يستعلم الله فيما ينوي فعله، لكنه لم يفعل، ظن أن الله لن يُضيِّق عليه ولن يُؤاخِذه، وقيل لن يُضيِّق عليه – وهو اختيار الشيخ الإمام ابن عاشور – بإيجاب الإقامة وإلزامها بين هؤلاء القوم المُعانِدين الطاغين، قيل هكذا، خرج فكان من شأنه ما قص الله علينا في سورة الأنبياء والصافات، وأطول سياق لقصة يونس هو ما ورد في سورة الصافات.

ركب هذه السفينة، وطبعاً الظاهر من سياق القصة ومن سياق التاريخ أن ذلك كان بشواطئ المُتوسِّط، وليس بشاطئ دجلة كما غلط فيه بعض المُفسِّرين، إنما بشواطئ البحر المُتوسِّط، أي بحر الروم كما كان يُدعى ويُسمى، ركب السفينة وحدث ما حدث، كما قلنا هال البحر واغتلمت الأمواج واضطربت وحدث للسفينة ما حدث، وكان من عادتهم أن يقترعوا على مَن يرمونه، وظلت هذه العادة حتى بين المُسلِمين أحياناً، لكن الشرع لا يُقِرها، هي عادة جاهلية، هنا صلاح الدين الصفدي في الغيث المسجم في شرح لامية العجم أتى بشيئ ربما أذكره في درس من أعجب ما يكون في هذا الاقتراع وكيف يكون بحيث أنهم كانوا يصطنعون طريقةً إذا اقترعوا وفقها لا تخرج إلا على كافر، وينجو المُسلِمون دائماً، ربما نذكر هذا في درس، حتى لا نُطوِّل الآن، فلا يبقى وقت كثير، لكن على كل حال هذه شرعة جاهلية، وليس في القرآن ما يُؤكِّد إقرارها.

فَسَاهَمَ ۩، ما معنى ساهم؟ أي ضربوا بالأقداح وبالأزلام، وأصل المُساهَمة من السهم، والسهم هو عود النبل، هي الأقداح وهي الأزلام تُرمى ويُرى بعد ذلك على مَن تخرج، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ ۩، من الإدحاض وهو الزلق، أي كأن رجليه – عليه الصلاة وأفضل السلام – زلقتين، ليستا ثابتتين على الأرض، استعارة لماذا؟ للمغلوبية والخسار، خسر! خسر المُساهَمة، خسر القُرعة، كانت تخرج عليه – قيل – ثلاث مرات، فلم ير بُداً من أن يُقذَف في البحر – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

يقول – تبارك وتعالى – فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ۩، مُلِيمٌ ۩ اسم فاعل، مُلِيمٌ ۩ اسم فاعل من اللوم، هو الذي ألام قومه عليه أو هو الذي ألام أهل السفينة عليه، ألامهم عليه، لماذا ألامهم عليه؟ لما عرفوا أنه هو السبب فيما حدث لهم ربما لاموه، إذن أنت السبب، أنت السبب في المُصيبة بهذا الشيئ الذي فعلته، هذا معنى وَهُوَ مُلِيمٌ ۩، لأنه اسم فاعل.

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ۩، الحيتان كما تعلمون – لأن بعض الناس قد يعترض بجهل – نوعان، الحيتان نوعان! الآن المحصي منها علمياً من خمسة وسبعين نوعاً إلى ثمانين، هذا أكثر شيئ، هذه الأنواع تنقسم أو تتوزَّع على مجموعتين رئيستين، مجموعة عديمة الأسنان، وهي المعروفة بالبالين Baleen، هكذا في اللُغات الأجنبية، معروفة بحيتان البالين Baleen، عديمة الأسنان، وهي عشرة أنواع فقط، ومجموعة أُخرى المُسنَّنة، أي ذوات الأسنان، وهي خمسة وسبعون، ويبدو بل هو الظاهر أن الحوت الذي التقمه هو من حيتان البالين Baleen، لماذا؟ لقوله فَالْتَقَمَهُ ۩، لأن الحيتان المُسنَّنة لا تلتقم، إنما تعض بأسنانها أولاً، ثم بعد ذلك تتجوَّف أو تستجوف ما عضته، أي تُدخِله في جوفها، تستجوف ما عضت عليه بأسنانها، إذن هو – والله أعلم – من حيتان البالين Baleen، لقوله فَالْتَقَمَهُ ۩، وهي أعظم الحيتان.

في حيتان البالين Baleen من هذه المجموعة ما يُعرَف بحوت العنبر الأزرق، وهو أعظم الدواب وأعظم المخلوقات على وجه الأرض بالإطلاق، حتى قيل أعظم من الديناصورات حتى المُنقرِضة، أعظم دابة خلقها الله، يبلغ طوله ثلاثين متراً، شيئ مهول ومُخيف، موجود إلى اليوم، لكن نادر، يُوشِك أن ينقرض، حيتان العنبر الزُرق أو الزرقاء هي من فصيلة أو مجموعة البالين Baleen، وتبلغ أطوالها أحياناً ثلاثين متراً، أعظم المخلوقات على وجه الأرض، وهو حيوان ثديي، على كل حال يطول الكلام في الحيتان، وتُشاع عن أقاصيص وأساطير وخُرافات، لأنه حيوان عجيب فعلاً، لأنه أضخم الحيوانات، تُشاع هذه لكونه أضخم الحيوانات، ومَن أراد أن يقرأ تُحفة أدبية – هي موسوعة – في الحيتان والتحويت – التحويت هو صيد الحيتان – وكل ما يتعلَّق بالحيتان فهي رائعة الأدب العالمي قاطبةً موبي ديك Moby Dick، للروائي الأمريكي الشهير هرمان ملفيل Herman Melville، رائعة الأدب! حدَّثتكم عنها مرة في خُطبة، والتي قال فيها جورج برنارد شو George Bernard Shaw يعجز العقل البشري أن يأتي بمثلها، رائعة عجيبة جداً جداً، كلها عن صيد حوت وعن التحويت بشكل عام.

المُهِم فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ ۩، وفي الحديث الصحيح – في صحيح البخاري – خرج الصحابة مرة، المُهِم وكانوا بشاطئ بحر، فرأوا بقية حوت، وكان حوت عنبر، شيئ عجيب جداً، فدخل رجل في مُوق عينه، رجل كامل دخل في المحجر الذي كانت عينه فيه، حوت ضخم جداً جداً، نصبوا ضلعين من أضلاعه، وركب أطولهم على أطول الجمال، ومشى من تحته دون أن يمسه، فهذا كان حوت العنبر، وهذا وقع للصحابة، والنبي أفتاهم بحل طعامه، عليه الصلاة وأفضل السلام، هذا حديث طويل وعجيب.

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ۩، طبعاً – كما تعلمون – باطن الحوت ليس كله ماءً، قليل فيه الماء، وفيه عوالق بحرية كثيرة، تبلغ من ثلاثين إلى أربعين في المائة من وزن الحوت، بعض الناس يقول كيف بقيَ في بطن الحوت؟ إذن مات! لكن هذا غير صحيح، هو يتخيَّل أن بطن الحوت ليس مُجوَّفاً وأنه كله مليء بالماء، هذا غير صحيح، هو مُفرَغ، باطن الحوت يكون مُفرَغاً وفيه عوالق وشيئ من الماء، لكن أثَّر على يونس – عليه الصلاة وأفضل السلام – لأنه كان قد تجرَّد من ملابسه، وهناك عُصارات وأحماض وأشياء كثيرة بالحري في باطن الحوت، فيبدو أنها سلخت جلده، يبدو أنها سلخت جلد يونس، وهذا يتوقَّف أيضاً على طول مُكثه في باطن الحوت، قال الشعبي بعض يوم، أخذه ضُحىً ولفظه عشيةً، وقال بعضهم ثلاثة أيام بثلاث ليال، قاله قتادة بن دعامة السدوسي، وهذا ما زعمته التوراة، التوراة في سفر يونان – هناك سفر بهذا الاسم، في التوراة موجود، اسمه سفر يونان، من أربعة إصحاحات فقط، في أربع صفحات – تقول إنه مكث في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، وبعضهم قال سبعة أيام، وبعضهم بالغ وقال أربعين يوماً وليلة، وهذا بعيد جداً، هذا بعيد جداً! لعل الأمثل أنه بقيَ بعض يوم، أو ربما أقل، الله أعلم بحقيقة ذلك.

طبعاً يبدو أنه حين التُقِم أُغشيَ عليه، روى البيهقي وغيره عن الحسن البِصري فظن أنه قد مات، هو – يونس نفسه – ظن أنه فارق الحياة، فحرَّك أطرافه فتحرَّكت، بعد الغشي – والله أعلم – تحرَّكت، فقام ساجداً لله وقال ربي قد عبدتك في مكان لم يعبدك فيه أحد قبلي، نبي! عليه الصلاة وأفضل السلام، نبي عظيم جداً، سجد لله في باطن الحوت، وعلم أنه الآن أكرمه بأن يعبده في مكان ما عبده وربما لن يعبده فيه أحد إلى يوم القيامة، في جوف الحوت! سجد لله، وعبد الله – تبارك وتعالى -.

ثم عاد إلى الله – تبارك وتعالى – بالإنابة والضراعة، وقال مُبتهِلاً ضارعاً مُقِراً مُعترِفاً – والإقرار أو الاعتراف كما يُقال يهدم الاقتراف – لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩، اعترف بأنه ظلم نفسه، ولكن هذه السيئة التي أتاها يونس ليست سيئة، عند التحقيق ليست سيئة، إنها هي من باب حسنات الأبرار سيئات المُقرَّبين، هي خلاف الأولى، هي خلاف الأولى وخلاف الأولى ليس بسيئة، ولكن هي خلاف الأولى، كان عليه مُنبغياً أن يسأل ربه وأن يستعلمه فيما ينوي فعله، لكنه لم يفعل، فضيَّق الله عليه بما ابتلاه به، لكرامته ولإظهار مُعجِزة باهرة من معاجز القدرة الإلهية، أنه جعل باطن الحوت حبساً وسجناً له بقدرة الله – تبارك وتعالى -، لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩.

روى الإمام ابن جرير في تفسيره والبزّار في مُسنَده عن أبي هُريرة عن رسول الله، قال قال – صلى الله عليه وسلم – إن الحوت لما التقم أو ابتلع يونس – عليه الصلاة وأفضل السلام – نادى ربه من جوف الحوت لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩، فبلغ صوته أعالي السماء، فقالت الملائكة يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، لم تعرف من أين جاء هذا الصوت، بلغ عرش الرحمن! قالت صوت ضعيف، ضعيف تعبان مريض عليل سقيم، من بلاد غريبة، لكنه معروف، نعرفه، كنا نسمع هذا الصوت دائماً يبتهل ويدعو إلى الله ويذكر الله ويُسبِّح بحمده، قال أولا تعلمون مَن ذاك؟ قالوا لا، قال عبدي يونس قالوا يونس الذي لم يزل تصعد إليك منه كل يوم وليلة دعوة مُتقبَّلة وعمل صالح؟ قال نعم، قالوا يا رب أفلا ترحمه لما كان يأتيه في الرخاء فتُنجيه مما هو فيه من البلاء؟ قال بلى، تبارك وتعالى، فشفعوا فيه، فقبل الله شفاعتهم.

أنا أدخلت سياق البزّار وابن جرير مع سياق رواية عن أنس مرفوعة أيضاً عند ابن أبي حاتم حتى لا أُطوِّل عليكم، فشفَّعهم الله ورحمه، فأمر الحوت أن يقذفه، قال – تعالى – فَنَبَذْنَاهُ ۩، لم يقل فنبذه الحوت، لماذا؟ لأنه ما نبذه أصلاً وما التقمه أولاً إلا عن أمر الله، بأمر الله! كله بأمر الله، مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، لذلك قال ماذا؟ قال فَنَبَذْنَاهُ ۩، أي أمرنا الحوت بنبذه، وهذا فعل الله – تبارك وتعالى -، تم هذا بالهام الله، بأمر الله، وبوحي الله – تبارك وتعالى – إلى هذا الخلق المُدهِش العجيب، أي الحوت، فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ ۩.

وبالمُناسَبة هذه الدعوة دعوة عظيمة جداً، شدوا أيديكم بها، وأنتم تعلمون طبعاً هذا بلا شك، بل حسبما روى ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص – سعد بن مالك، أحد العشرة – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال اسم الله – يُريد الأعظم – الذي إذا دُعيَ به أجاب وإذا سُئل به أعطى دعوة أخي يونس في باطن الحوت لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩، قال فقلنا يا رسول الله أهي ليونس خاصة أم للمُؤمِنين عامة؟ قال ليونس خاصة وللمُؤمِنين عامة إذا دعوا بها، قال – تبارك وتعالى – وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ۩، فهذه عادتنا وهذا صنيعنا وهذا دأبنا مع أحبابنا وأوليائنا من المُؤمِنين إذا عادوا إلينا وإذا أنابوا وتابوا وإذا دعوا وضرعوا وابتهلوا، نُنجيهم كما أنجينا عبدنا يونس – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ومن هنا قال النبي ليونس خاصة – لأنه يبدو أنه أول مَن دعا بها، هو أول مَن دعا بهذه الصيغة – وللمُؤمِنين عامة إذا دعوا بها، لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩.

ولذلك روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي – أظن النسائي في عمل اليوم والليلة وليس في السُنن – عن سعد بن أبي وقاص الحديث العجيب، قال مررت على عثمان بن عفان وهو جالس في المسجد، فطرحت عليه السلام، فملأ عينيه مني ولم يرد علىّ السلام، فقلت أحدث في الإسلام شيئ؟ طرح السلام سُنة ورده واجب، ما الذي حدث؟ قال فغدوت إلى أمير المُؤمِنين أو فأتيت إلى أمير المُؤمِنين عمر بن الخطاب، فقلت يا أمير المُؤمِنين أحدث في الإسلام شيئ؟ قال لا، لِمَ؟ قلت لا، إلا أنني مررت بابن عفان، فطرحت عليه السلام، فملأ عينيه مني ثم لم يرد علىّ، فأرسل إليه، ثم قال له يا عثمان ما الذي منعك أن ترد على أخيك السلام؟ قال ما فعلت، قلت بل فعلت، قال فقال وقلت حتى حلف وحلفت، ثم قال استذكرت وأستغفر الله وأتوب إليه، لقد مررت علىّ إذ مررت علىّ وكنت أُحدِّث نفسي بحديث سمعته من رسول الله، لا والله ما حدَّثت نفسي به إلا تغشى قلبي وبصري غشاوة، أَغيب أو أُغيَّب، أؤخَذ عن الناس وعن كل ما حولي، انظروا إلى الأعجوبة، فقال له سعد بن أبي وقاص أنا أُنبئك به، هذا الحديث أنا أعرف قصته، يعرف! قال كيف؟ أنبئنا.

قال كنا جلوساً مع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فقال لنا ألا أُخبِركم بأول دعوة؟ والمعنى – والله أعلم – أي ماذا؟ بأجدر دعوة أن تُجاب، هذا معنى أول، وإلا طبعاً الدعوات كثيرة قبل يونس، بأول دعوة أي بأجدر دعوة، أي أول دعوة مرتبةً ومقاماً، أخطر الدعوات، أخطر الدعاء! فقلنا بلى يا رسول الله، فجاء أعرابي فشاغله حتى ذهب معه، قال سعد – عثمان طبعاً ذهبت عنه هذه المعلومة وعن بقية الصحابة، فهذا الذي يجعله دائماً تتغشاه هذه الغشاوة، من الهم ومن التهمم بأمر هذه الدعوة، ما هي؟ قال سعد الآتي، لكن سعد لم تفته، رضيَ الله عنه وأرضاه – فاتبعت رسول الله، حتى تركه الأعرابي، وخشيت أن يسبقني إلى منزله، فضربت الأرض بقدمي، والنبي تعلمون ما كان يلتفت برأسه أبداً، معروف! ما التفت قط برأسه، وإنما يلتفت ببدنه كله، وهذه من علامات الشجاعة، النبي هنا لم يلتفت، وقال مَن؟ أبو إسحاق – سعد -؟ يعرف النبي، يرى مَن خلفه، مِن كراماته ومِن مُعجِزاته – عليه السلام – أنه يرى مَن خلفه كما يرى مَن أمامه، فقال مَن؟ أبو إسحاق – سعد -؟ فقلت نعم يا رسول الله، قال مه؟ ماذا تُريد؟ قلت يا رسول الله ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء الأعرابي وشغلك عنا، قال نعم دعوة أخي ذي النون يونس بن متى وهو في جوف الحوت، ما دعا بها عبد في شيئ إلا أعطاه الله إياه، لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ۩، دعوة خطيرة جداً، وللصالحين والأولياء قصص وحكايا مع هذه الدعوة، لا نُطوِّل أيضاً بذكر بعضها.

على كلٍ نعود إلى ما كنا فيه، الله – تبارك وتعالى – أمر الحوت أن ينبذه، أي أن يُلقيه، إلى العراء، ما هو العراء؟ الأرض التي لا يُغطيها لا نبات ولا شجر، أرض عارية، هذا العراء! أرض عارية من النبت والشجر، ليس فيها شيئ، وَهُوَ سَقِيمٌ ۩.

(تقدَّموا بارك الله فيكم أيها الإخوة، وأفسِحوا لإخوانكم، جزاكم الله خيراً).

فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ ۩، ما معنى سَقِيمٌ ۩؟ قال عبد الله بن مسعود سَقِيمٌ ۩ كالفرخ ليس عليه ريش، أي مسلوخ الجلد، مسلوخ الجلد! ليس عليه ريش، وقال عبد الله بن عباس سَقِيمٌ ۩ أي كالوليد، يكون ضعيفاً ويكون بدنه يتحسَّس، معروف في علم الطب الآن والولادة أن الطفل صراخه يكون بأسباب، يكون من الصوت، يكون من النور، وأكثر ما يكون – يقول أطباء التوليد – من اللمس، حين تلمسه الأم أو المُمرِّضة بيديها، اليد تكون خشنة جداً على بدن الوليد المسكين، البدن يكون ناعماً، في مُنتهى النعومة، فيتحسَّس فيبكي ويضج من لمس الناس الكبار له، يقول ابن عباس كالوليد، كان جلده حسّاساً، وهذا تفسير علمي، لأنه حين كان في باطن الحوت ربما فعلاً بفعل العُصارات والهضائم والأشياء الأُخرى انسلخ جلده عنه، انسلخ جلده عنه وخرج ضعيفاً – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

يقول – تبارك وتعالى – وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ۩، العُرف – عُرف العوام – يُخصِّص الشجر بما كان له ساق، وهذا غير صحيح، بالعكس! والصحيح والفصيح وأفصح الفصيح أن الشجر ما كان له أرومة، كل مَن كان له أصل وأرومة فهو شجر، سواء كان بساق أو بغير ساق، وقد قال أفصح مَن نطق بالضاد شجرة الثوم، وسماها شجرة، فلا يقل جاهل أو مُتعاقِل بين يدي الله – تبارك وتعالى – كيف سماها شجرة واليقطين ليس له ساق؟ غير صحيح، هو شجر، في فصيح اللُغة بل في أفصحها هو شجر.

وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ۩، وهو الدُباء، أي القرع، ومنه نوعان، قرع الكوسة والقرع الأصفر والأحمر الكبير، والمُراد القرع الأصفر والأحمر الكبير، وليس قرع الكوسة، وإن كان أيضاً هناك مُناسَبة أيضاً والتقاء كبير بين النوعين، شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ۩، لماذا اليقطين بالذات؟ لأن ورقه كبير وظليل وحسن الملمس، ناعم جداً كالحرير، لا يُؤذيه، ومن عجائب اليقطين أنه لا يقع عليه الذباب، أي على ورقه، وطبعاً لو وقع الذباب على يونس يُؤذيه جداً، ولذلك ظلله الله بشجرة من اليقطين، بيقطينة ظللته، وأيضاً حليبه أو لبنه كما يُقال يشد القلب ويُقوي العضل.

والآن اكتُشِف في الأبحاث الحديثة في التسعينيات أن اليقطين بالذات فيه مادة البيتا-كاروتين Beta-Carotene بشكل زائد جداً، أكثر من الجزر وأكثر من مواد أُخرى، وهذه المادة – أي البيتا-كاروتين Beta-Carotene – تُفيد جداً في ماذا؟ تُفيد كعامل وقائي ضد أنواع من السرطانات، الكاروتين Carotene نفسه هو الذي يُشغِّل فيتامين إيه Vitamin A، ويتكوَّن من أيضاً فيتامين إيه Vitamin A، أي ألف، هذا الفيتامين Vitamin أكثر ما يعمل في ماذا؟ في ترميم الجلد، أكثر ما يعمل في ترميم الجلد، لا إله إلا الله! ولذلك يونس احتاج إلى ما يُرمِّم به جلده، فأنبت الله عليه شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ۩.

هناك إضافة لطيفة، لا بأس، وقد تكون صحيحة، يبدو أنه حين أخذ منها نهمته في أيام أو ليال وارتفق بظلها وارتفق أيضاً بغلتها ولبنها وثمرتها تصوَّحت، أرسل الله عليها دودة، فأكلت أصلها، ثم ريحاً شرقيةً – كما يُقال خُماسيةً -، فتصوَّحت اليقطينة، فحزن واهتم، ولفحته الشمس، فأوحى الله إليه اهتممت وحزنت من أجل يقطينة ما ربيتها ولا زرعتها ولا خلقتها، أفلا أهتم أنا من أجل مائة ألف أو يزيدون؟ أتتركهم للعذاب هكذا دون أن تأخذ إذني؟ لا إله إلا الله! هذه زيادة مقبولة، وهي واردة في التوراة، وقد قال بها نفر من الصحابة والتابعين، فعاد إليهم.

حين خرج من بين ظهراني قومه أوعدهم العذاب إلى ثلاث، وفي التوراة إلى أربعين يوماً، في التوراة قال لهم العذاب سينزل بعد أربعين يوماً، ولكن المروي عن الصحابة والتابعين وأئمة التفسير أنه أوعدهم العذاب إلى ثلاث، أي إلى ثلاثة أيام أو ثلاث ليال، وفعلاً حين ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ۩ أظلتهم سحائب سود، سحائب سوداء داكنة جداً، واختلف عليهم الجو، ورأوا أن هذه مُقدِّمات العذاب، وسألوا ذوي أسنانهم وعلمهم ورأيهم، فقالوا هذا العذاب الذي أوعدكم نبيكم، فتوبوا إلى الله، وضجوا بالدعاء، وعودوا بالإنابة والتوبة، فعادوا جميعاً حتى الملك، ولبسوا المسوح، أي الخلقان من الثياب، الثياب البالية! وفرَّقوا بين الأمهات والأطفال الرضع والأطفال الصغار، وبين البهائم أيضاً وفصلانها وحملانها وأثوارها، وخرجوا جميعاً، وتحلَّل بعضهم بعضاً، يقول ابن مسعود حتى بلغ من توبتهم أن الرجل كان يعمد إلى حجر وضعه في أساس بنائه أخذه غصباً أو سرقةً أو خلسةً من جاره فينقض البناء أو ينقض الحائط ويُخرِج الحجر ويُعيده إلى صاحبه، توبة صادقة حقيقية، تابوا جميعاً بكاملهم وعن آخرهم، مائة ألف أو يزيودون! فتقبَّل الله توبتهم وكشف عنهم العذاب، العذاب لم ينزل، لكن لاحت ماذا؟ علائمه وبوادره، لو نزل لما ارتفع، وهذا هو الأرجح، لكن هو لم ينزل، والله أعلم! قد يقول بعضهم لكن الله قال كَشَفْنَا ۩، لا! هنا استُعير الكشف، الكشف هنا استُعير استعارة، لماذا؟ لأن القريب جداً كالواقع، القريب جداً كالواقع، وقد كان العذاب اتصل سببه بهم وأظلهم من فوق رؤوسهم، فكأنه وقع فعلاً، فقط ساعات قلائل أو يوم أو ليلة، لكنهم تابوا، فنفعهم إيمانهم، وتابوا عن آخرهم، يقول الحق – سُبحانه وتعالى – فَلَوْلا كَانَتْ ۩، لولا هنا كهلا، أي تحضيضية، وفيها معنى العتب، فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ۩، قال المُفسِّرون فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ۩ بكاملها، الكل يُؤمِن، ليس يُؤمِن بعض ويكفر بعض، لا! وإنما تُؤمِن كلها، فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ۩.

معنى وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ۩ أي حتى حين انقضاء آجالهم المكتوبة في علم الله – تبارك وتعالى -، وكُشِف عنهم العذاب، وعاد إليهم نبيهم سعيداً بهم، وقد سعدوا به، وقد آمنوا عن آخرهم جميعاً، فهذه القصة فيها عبر كثيرة، للأسف يضيق الوقت عن ذكر بعضها، لكن فقط أردت أن أُنوِّه أن التوراة قالت ما ذكرت، وكما قلنا اليهود قوم بُهت، والعياذ بالله منهم، زعموا أن يونس لما كُشِف العذاب عن قومه بعد أقل من أربعين غضب جداً، غضب على ربه، وقال له هذا القول الذي قلته وأنا في أرضي لا أزال بعد، أي في أرض فلسطين، لأنني أعلم أنك رب رؤوف رحيم، يغضب لأن الله رؤوف رحيم! لماذا؟ يُريد أن يكون مُصدَّقاً في القوم، أنذرهم العذاب فلابد أن ينزل العذاب، وخرج مُغاضِباً ربه، وأنبت الله عليه شجرة بعد هذه المُغاضَبة، كلام فارغ، لا معنى له – والعياذ بالله -، انتقاص من أنبياء الله، وافتراء أيضاً وافتئات على رب العالمين – تبارك وتعالى -، لكن هذا هو صنيع الله، مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ۩، صدق الله العظيم.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه غفور توّاب رحيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُحسِنين المُجاهِدين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أطلقته.

اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُوحِّدين، واخذل مَن خذل المُسلِمين، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم، واشكروه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(12/12/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: