الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله قبلة السلام، وبارئ الأنام، والداعي إلى دار السلام بالإسلام، سُبحانه رفع منار الإيمان بشهادة التوحيد الذي أوجبه على الخاص والعام، وعزَّز جانب الإسلام بدعائم الصلاة والزكاة وحج بيته الحرام في كل عام وصوم رمضان من كل عام، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، شهادة تشفي الأوام، وتقشع الظلام، وتكون لنا العُدة الواقية في حشرجة الأنفس وسكرات الحمام، وأشهد أن سيدنا ومولانا وحبيبنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، النبي العربي الأُمي، الذي كرَّم بني آدم بنعمة الإسلام، وجنَّبهم عبادة الأصنام، وسنَّمهم من التوحيد نعمة دائمة لا تريم، وذروة عالية لا تُرام، النبي الذي تمخَّض لظهوره الكون قبل أن تلج الأيام في الليالي والليالي في الأيام، والرسول الذي بلغت به الرسالة أمدها الأقصى، فانطوت من بعده الصُحف الإلهية وجفت الأقلام، ولا جرم، فليس وراء توحيد الله – سُبحانه – مذهب، ولا بغير حُبه هُيام، صلى الله – تعالى – عليه صلاة لباسها الدوام وشعارها اللزام، وسلم عليه سلاماً نفحه الرند ونشره الخُزام، ورضيَ الله – تعالى – عن آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُحسِنين، وأنصاره الذين ألزمهم كلمة التقوى وكانوا بها أحق الأنام، وعلينا وعلى المُسلِمين معهم أجمعين.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله تعالى ذكره:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، فيقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

بُشراكم أيها المُسلِمون، بُشراكم، قد أظلكم هذا الشهر العظيم المُبارَك، قد أظلكم شهر الصيام، عيد هذه الأمة السنوي، يمتد ثلاثين يوماً، شهراً كاملاً، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩، وقد شاء الله – سُبحانه وتعالى – أن يُكرِمنا بأن يُوافِق أول يوم منه يوم عيد آخر، يوم الجُمعة، وذلكم قران السعدين والتقاء السعادتين، فلله الحمد في الأولى والآخرة.

قد أظلكم شهر عظيم مُبارَك، تُفتَح فيه أبواب الجنان، وتُغلَق فيه أبواب النيران، وتُصفَّد وتُغَل فيه الأبالسة والشياطين، ويُنادي مُنادٍ في كل ليلة يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.

قد أظلكم شهر يُضاعِف الله – سُبحانه وتعالى – فيه الحسنات ما لا تُضاعَف في غيره، قد أظلكم شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النيران، اللهم إنا نبتهل إليك ونضرع إلهنا ومولانا رب العالمين، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين، أن ترحمنا وأن تغفر لنا وأن تعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وأحبائنا وكل مَن له حق علينا من نار جهنم يا رب العالمين، اللهم آمين.

شهر هو بُرهان من البراهين على أن أمة محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – بخير، وأن فيها إمكاناً عظيماً للتغيير، وأن فيها تعرضاً لنفحات الله ورحماته وفيوضاته – سُبحانه وتعالى -، شهر يستحيل فيه العالم الإسلامي إلى مسجد كبير، إلى مهرجان للعبادة، وإلى مضمار للتلاوة، تشتعل فيه مجامر القلوب، وتفوح فيه روائح الإخلاص، ويتنافس فيه المُتنافِسون، قد جعله الله – سُبحانه وتعالى – مضماراً للمُتسابِقين، ومرقاةً للمُصعِدين، وميداناً للمُتقين، ولهو أجدر وأولى العبادات أن يُحقِّق العبد به تقوى الله – سُبحانه وتعالى -، فقد ذكر الله غايته في أول سياق آيه حين قال لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، ثم ذكر في آخر سياق آيه كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، فلهو أجدر العبادات أن يُحقِّق الإنسان به أو بها تقوى الله – سُبحانه وتعالى -.

شهر أكرم فيه محمداً وأمة محمد ما لم يُكرِم نبياً قبله ولا أمةً قبلها، شهر الذكريات الأطايب الكُثر، فيه نُبيء نبينا – عليه الصلاة وأفضل السلام، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته -، وفيه أُنزِل القرآن، فهو شهر القرآن، وللقرآن اختصاص برمضان لا يخفى على مُسلِم، وفيه كانت غزوة بدر، وفيه كان الفتح الأعظم، فتح مكة، وفيه – أي في شهر رمضان – فُتِحت بلاد الأندلس، وفيه حرَّر صلاح الدين مع جنوده المُوحِّدين القدس الشريف من أيدي الصليبيين الملاعين، وفيه وقعت عين جالوت، وفيه ذكريات طيبات كُثر كُثر، لا تخفى على مُتتبِّع.

أكرم الله هذه الأمة بكرامات عظيمة في رمضان، لا يهلك معها على الله إلا هالك، ولا يُحرَم في رمضان من رحمة الله – سُبحانه وتعالى – إلا المحروم، الذي لا يتوب في رمضان متى يتوب؟! الذي لا تنفتح مغالق قلبه لفيوضات الله – سُبحانه وتعالى – ولا تتعرَّض لنفحاته متى تتعرَّض ومتى تتفتَّح؟! وقد أمَّن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – على دعوة جبريل، بأن مَن أدرك رمضان ولم يُغفَر له لا غفر الله له، وأبعده الله، أبعده من رحمته، فقال النبي آمين، فنسأل الله أن يغفر لنا وأن يُغيِّرنا، رمضان هو الإكسير Elixir العجيب، هو الطب الغريب، الذي له خاصية تغيير الجواهر، يتغيَّر فيه جوهر الإنسان، في هذا الشهر يحس كثير منا بأن طبيعته قد استحالت شيئاً آخر – بحمد الله تعالى -، حتى أنه – وذكرت هذا مراراً – ما أن يتولى رمضان ونستقبل أول أيام عيدنا حتى نحس التغير في قلوبنا والله، لصباح أول أيام العيد، فقد ذهب رمضان وتولاه بنفحاته وعطاءاته وفيوضاته.

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنت أن يكون العام كله رمضان، ليس شهراً واحداً، وإنما يكون اثني عشر شهراً، لتمنت أن يكون العام كله رمضان.

روى الإمام البيهقي بإسناد مُقارِب عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أُعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم يُعطهن نبي، ولم يقل أمة، لم يُعطهن نبي قبلي، حتى الأنبياء ما أُعطوا هذه الخصال التي شرَّف الله بها كل واحد من أمة محمد، هي خمس خصال! قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أما واحدة – أي أولاها – فإنه إذا كان أولُ ليلة من رمضان نظر الله – تبارك وتعالى – إليهم – أي إلى أمة محمد – فغفر لهم، ومَن نظر الله إليه لا يُعذِّبه، لا يُعذِّبه أبداً! في أول ليلة، بماذا استحققنا هذا الثواب وهذا الشرف الكبير؟ برحمة الله وفضله، لا بأعمالنا ولا بنوايانا.

وأما الثانية فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، فنحن نقضي سحابة نهارنا صائمين، تستغفر لنا الملائكة، ونُقضّي أويقات أو أوقات ليلنا قائمين مُتهجِّدين، لا نائمين هاجعين، فتستغفر الملائكة أيضاً لنا، وأما الثالثة فإن خلوف أفواههم – أي تغير روائحها من أثر الصوم – حين يُمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الرابعة فإن الله – تبارك وتعالى – يأمر جنته، يقول لها تزيني واستعدي، تزيني واستعدي لعبادي، فقد أوشكوا أن يستريحوا من نصب الدنيا وتعبها إلى داري وكرامتي، اللهم أحللنا دار الرضوان ودار المُقامة من فضلك، لا نُعاني فيها نصباً ولا لغوباً، إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ۩.

قال فقد أوشكوا أن يستريحوا من نصب الدنيا وتعبها إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة فإنه إذا كان آخرُ ليلة – وكان هنا تامة، لذا رفعنا آخر وأول في أول الحديث – من رمضان أعتق الله – سُبحانه وتعالى – فيها مثلما أعتق في الشهر كله، وغفر لهم، فقال رجل يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كلا، ليست بليلة القدر، ليلة القدر لها شأن آخر، ولها مثابة أُخرى، قال كلا، ليست بليلة القدر، أما ترى العمّال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وُفوا أجورهم؟! فنحن فرغنا من أعمالنا على مدى شهر بطوله، فحقيق برحمة الله وفضله وحتم أن نُوفى أجورنا.

شهر رمضان شهر عز لهذه الأمة ولآحادها ما أقاموه، لا يخزون أبداً، إلا أن يتركوه وينتهكوا محارمه، فقد روى الطبراني في الكبير، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا تخزى أمتي أو إن أمتي لا تخزى ما أقاموا شهر رمضان، فقال رجل يا رسول الله وما خزيهم في شهر رمضان؟ وهذا من حُسن سؤاله، ومن بلاغته في الحديث، يعني وكيف لا يُقيمون شهر رمضان فيخزون؟ قال وما خزيهم في شهر رمضان؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – انتهاك محارمه، لا يخزى إلا مَن انتهك محارم رمضان – والعياذ بالله -، نسأل الله السداد والتوفيق والسعادة.

قال انتهاك محارمه، ومَن زنى فيه أو شرب خمراً لعنه الله والملائكة إلى مثله من الحول، تستمر عليه لعنة الله والملائكة أجمعين عاماً بطوله، وإن مات قبل أن يُدرِك رمضان – أي القابل، أي الثاني – لقيَ الله وليس عنده حسنة يتقي بها النار، انتهى! يحبط عمله جميعاً، لا تبقى له حسنة واحدة.

لذا قال الإمام شمس الدين الذهبي قد وقر في حس المُسلِمين – وهذا معنى كلامه – مُنذ القديم أنه لا يتجرأ على انتهاك محارم رمضان إلا مَن يُعتقَد فيه الزندقة والانحلال وذهاب الدين بالكُلية – والعياذ بالله -، شهر رمضان بالذات، مع أن هذا الركن العظيم ليس أعظم من ركن الصلاة، الصلاة أعظم وأخطر وأجل بكثير من صيام رمضان، لكن لما تواتر التكليف بالصلاة في كل يوم وليلة خمس مرار استسهل الناس تركها، وهي من أول عُرى الدين التي حُلت.

فقد روى الإمام أحمد يُنقَض هذا الدين عُروة عُروة، فأول العُرى نقضاً الصلاة، وآخرها الحُكم، العدل على جميع المُستويات! نحن نعيش في هذه الفترة الكئيبة البئيسة، نعيش نقض الحُكم، نعيش نقض العدل على جميع المُستويات، لكن رمضان يأتي في السنة مرة واحدة، فيُعظِّمه المُسلِمون لذلك، وهو يُمثِّلأ روح الجماعة وروح الاجتماع، لذا لا تتساهل الجماعة المُسلِمة في حق رجل أجرم وانتهك شيئاً من حُرمات هذا الشهر بالإفطار عمداً في نهاره، لا يتساهلون في موقفهم منه، ويعتقدون فيه ما قاله إمامنا الذهبي – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وهذا حق، وقد ورد في بعض الأحاديث أن مَن ترك رمضان بغير عُذر فهو كافر حلال الدم، عن ابن عباس مرفوعاً – رضيَ الله عنهما وأرضاهما -. 

قال انتهاك محارمه، ومَن زنى فيه أو شرب خمراً لعنه الله والملائكة إلى مثله من الحول، أي إلى رمضان الآخر، في الحول القادم أو الجائي، وإن مات قبل أن يُدرِك رمضان لقيَ الله وليس معه حسنة يتقي بها النار، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في آخر هذا الحديث ألا فاتقوا الله، ألا فاتقوا الله في رمضان، فإن الحسنات تُضاعَف فيه، ما لا تُضاعَف في سواه، وكذلك السيئات، حتى السيئات تُضاعَف، السيئة لا تُكتَب سيئة في رمضان بحسب هذا الحديث، تُضاعَف وتُضخَّم، مع أن الله لا يُضاعِف السيئات عموماً، بل يُضاعِف ويُثمِّر الحسنات، إلا في شهر رمضان، وفي الأماكن القدسية المُبارَكة كالحرم المكي، تُضاعَف هناك، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۩، عن ابن عباس أنه تُضاعَف فيه السيئة إلى عشر أضعاف – والعياذ بالله -، إلى عشر سيئات، هذا في الحرم الشريف.

وأما مُضاعَفة الحسنات في رمضان فأمر مشهور مُقرَّر ومعروف، فقد سُئل – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما عند الترمذي في سُننه يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال صدقة في رمضان، وفي الصحيحين قال – عليه الصلاة وأفضل السلامم – عُمرة في رمضان تعدل حجة، وفي بعض الروايات معي، أي حجة معي، كأنك حججت بيت الله الحرام مع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، عُمرة في رمضان ليست كباقي العُمر، عُمرة في رمضان كحجة، تعدل حجة، وفي رواية معي، أي مع النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

قال الإمام إبراهيم النخعي ركعة في رمضان تفوق ألف ركعة، أي فيما سواه، وتسبيحة في رمضان بألف تسبيحة، وآية في رمضان أفضل من ألف آية، أي تقرأها وتتلوها، فمَن ختم القرآن على هذا القول ووفقه في رمضان مرة كأنما ختمه ألف مرة في غير رمضان، فيما سوى رمضان، تُضاعَف فيه الحسنات!

وفيه ليلة خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۩، خير من اثنتين وثمانين سنة أو من ثنتين وثمانين سنة، وهي ليلة القدر، مَن صلى العشاء في جماعة طوال هذا الشهر فقد أخذ بحظه من ليلة القدر، بعض الناس ربما يعتريه مرض ويعتريه سقم أو تعرض له سفرة اضطرارية فلا يقوم ليلة القدر مع مَن يقومها، النبي أراد أن يُطمئننا وأن يُهدئ بالنا وأن يجبر خواطر هؤلاء المكسورة خواطرهم فقال في حديث رواه الإمام البيهقي، قال إن مَن صلى العشاء في رمضان جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر، فكيف بمَن صلاها جماعة وشفعها بصرة القيام – أي التراويح من رمضان – جماعة؟ أجره لا يعلمه إلا الله.

وفي الحديث الصحيح – في الصحيحين، في البخاري ومُسلِم – مَن صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً – ومعنى احتساباً أي مُخلِصاً لا يطلب إلا وجه الله، يحتسب أجره عند الله، لا يُريد قولاً من الناس ولا مُراءةً ولا تسميعاً – غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، وعند بعضهم كأحمد وأظن الطبراني أيضاً بزيادة وما تأخَّر، أي غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.

فالتكفير أيها الإخوة الأحباب في شهر رمضان، فأكثروا فيه من الصلاة ومن التسبيح والاستغفار والتحميد والذكر عموماً، ومن تلاوة الكتاب العزيز، في شهر رمضان بالذات! النبي كان يقرأ القرآن في شهر رمضان قراءة مُضاعَفة، ضعف ما يقرأ في غير شهر رمضان، وكانوا يقومون الليل بالمئين، بالمئين من الآي، كانوا يقومون مع رسول الله وبعد رسول الله، حتى إنهم ليخافون أو ليخشون أن يُدرِكهم الفلاح، أي السحور، إلى قريب من وقت السحور، وهم في صلاة القيام، ونحن لا نُكلِّف أنفسنا، ولا نُجشِّم هذه الأنفس الضعيفة المهزولة – ضعيفة الإيمان واليقين – إلا ثماني ركعات في كل ليلة، لا تعرف المُجاهَدة الحقة في الله – سُبحانه وتعالى -، لا نُكلِّفها إلا ثماني ركعات في كل ليلة، ننشط إليها في أول الشهر، حتى إذا انتصف الشهر قل العدد، حتى إذا بقيَ ثُلثه الأخير قل العدد جداً، لماذا؟ الله الله في أنفسكم، الله الله في أنفسكم، وفوا ربكم العمل ليوفي لكم الأجر، أننشط في أوله وفي بعض وسطه ثم نكسل ونفتر في آخره – أي في أوقات العتق من نار جهنم -؟! هذا شيئ عجيب، أطال علينا هذا الشهر بأيامه الثلاثين أو لياليه الثلاثين؟! كلا، الله الله في أنفسكم.

وعلينا أن نُوسِّع في النفقة، تصدَّقوا ما وسعكم الكرم وطلب الأجر في هذا الشهر، الصدقات فيه مُضاعَفة، هو شهر الصدقات، النبي كان أجود الأجواد، وقد سمعتم شيئاً في ذلكم، أجود الأجواد! أجود من حاتم، وأجود من عُروة بن الورد، أجود من جميع أجواد العرب، إلا أنه كان في رمضان يكون كالريح المُرسَلة حين يُعارِضه جبريل بالقرآن، يُعطي عطاءً عجيباً، كالريح المُرسَلة، يُعطي كل شيئ عنده، في شهر رمضان بالذات! فلا تقبضوا أيديكم فيقبض الله عنكم عطاءه وأجره، ابسطوها بالخير والنفقة.

روى الإمام الديلمي عن ابن مسعود – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قد أظلكم شهركم، فأحسِنوا فيه النية، أروا الله من أنفسكم صدق النوايا، قال فأحسِنوا فيه النية، ووسِّعوا فيه النفقة، وشهر رمضان هو أنسب الأوقات أن نُحدِث فيه توبةً نصوحاً صادقةً، أن نُقلِع عن ذنوبنا، كل واحد منا تتملكه ذنوب، كل واحد منا تعيبه معائب، بل يُصاب بمصائب في أخلاقه وفي سلوكه، شهر رمضان أنسب الأوقات أن ننزع عن هذه الذنوب، لماذا؟ لأنه لا شياطين، لا أبالسة، ليس إلا النفس، فإياكم أن تغلبكم نفوسكم، مَن غلبته نفسه في رمضان فهي له في غيره أغلب، أي فهي له في غير رمضان أغلب، وعليه أقوى وأشق، النفس فقط، ليس إلا النفس الأمّارة بالسوء، فاغلبوها في رمضان، اتركوا الذنوب.

مَن كان عنده ذنب وأراد أن يتوب منه وأن ينزع عنه فليُحدِث هذه التوبة في رمضان – إن شاء الله تعالى -، الذي لا يُصلي ليبدأ الصلاة في رمضان، أنا أعجب – والله الذي لا إله إلا هو – من إنسان وأعجب لإنسان يبدأ الصلاة في شهر رمضان حتى إذا تولى رمضان تركها، يا عبد الله أما وجدت شيئاً من حلاوة العبادة؟! أما قرت عينك بمُناجاة الله في هذا الشهر العظيم؟! لا إله إلا الله! أما وجدت شيئاً قد تغيَّر في نفسك؟! ما الذي زهَّدك في هذه العبادة حتى تركتها؟ ما زهَّدك فيها إلا أنك لست من المقبولين، لو قبلك الله لوجدت حلاوة وطمأنينة وقرة عين ورضا، لا تستبدلها بالدنيا وما فيها، لا تُبدِّلها بالدنيا وما فيها.

يُصلون في رمضان وإذا انصرف رمضان وتصرَّم تصرَّمت عباداتهم أيضاً، لا يصلون ولا يعطون، بالعكس! نبدأ من رمضان.

يا ذا الذي ما كفاهُ الذنبُ في رَجبٍ                    حتى عَصَى ربَّهُ في شـهر شعبانِ.

لقـد أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَـا                           فلا تُصَيَّرْهُ أيْضـاً شَهْرَ عِصْيانِ.

وَاتْلُ الْقُرآنَ وَسَبِّـحْ فيه مجتَهِـداً                               فَإنه شِـهرُ تسبيحٍ وقُـرْآنِ.

كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ                       مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ.

أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـو                      حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي مِنْ الدانِي.

ومُعْجَبٌ بثيابِ العيدِ يَقْطَعُهَا                               فأصبحتْ في غدٍ أثوابَ أكفانِ.

حَتَّى مَتَى يَعمرُ المَرْءُ مَسكَنه                                 مَصِير مَسكَنه قَبْرٌ لإنسانِ.

قال:

ومُعْجَبٌ بثيابِ العيدِ يَقْطَعُهَا                               فأصبحتْ في غدٍ أثوابَ أكفانِ.

وقد رأى الناس هذا، ورأوا منه الكثير الكثير، فأصبحتْ في غدٍ أثوابَ أكفانِ.

حَتَّى مَتَى يَعمرُ المَرْءُ مَسكَنه                                 مَصِير مَسكَنه قَبْرٌ لإنسانِ.

اللهم إنا نسألك مُوجِبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، وأن تغفر لنا.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                 (الخُطبة الثانية)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وقرة عيوننا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك النبي الأُمي، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته وخير ما جزيت رسولاً عن رسالته يا رب العالمين، اللهم شفِّعه فينا، اللهم احشرنا تحت لوائه، واسقنا بيده الشريفة الكريمة شربة لا نظمأ بعدها حتى ندخل الجنة.

وقف النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ذات يوم مُخاطِباً أصحابه، يقول ماذا يستقبلكم؟ وماذا تستقبلون؟ في أول رمضان! يقول ماذا يستقبلكم؟ وماذا تستقبلون؟ ماذا يستقبلكم؟ وماذا تستقبلون؟ ماذا يستقبلكم وماذا تستقبلون؟ ثلاث مرات، فقال الفاروق عمر – رضيَ الله عن عمر – يا رسول الله وحي نزل؟ قال كلا، قال عدو حضر؟ قال كلا، قال فماذا؟ قال إن الله – تبارك وتعالى – في أول ليلة من رمضان يطلع على عباده فيغفر لجميع أهل هذه القبلة، كل مَن استقبل قبلتنا – أي صلى صلاتنا من المُسلِمين – يغفر الله له في أول ليلة، وكان رجل جالساً بين يديه، فجعل يهز برأسه ويقول بخٍ بخٍ، كلمة مدح واستحباب وثناء، تُقال عند الرضا بالشيئ وتعظيمه، وقد كثر مجيئها في الحديث النبوي الشريف، قال بخٍ بخٍ، فنظر إليه النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وقال ضاق به صدرك يا فلان؟ أضاق صدرك بهذه البشارة أو بهذا القول؟ قال كلا يا رسول الله، ما ضاق صدري، ولكن ذكرت المُنافِق، أن تقول للجميع، لكل أهل هذه القبلة، وفينا مُنافِقون، يستقبلون قبلتنا نفاقاً، وهم في دواخلهم زنادقة ملاحدة، يتحدَّث عن نفاق العقيدة، ليس نفاق العمل، إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، هذا نفاق العمل، وأكثرنا لا ينجو منه، ونسأل الله العصمة، لكن نفاق العقيدة إظهار الإيمان وإبطان الكفر، هذا نفاق، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ۩، نفاق مُختلِف، هذا كفر.

قال ذكرت المُنافِق يا رسول الله، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن المُنافِقين هم الكافرون، وليس للمُنافِقين في هذا من شيئ، ليس لهم من شيئ يلحقهم من هذه البُشرى ومن هذه البُشريات، فقط للمُوحِّدين، للمُسلِمين، اللهم أمتنا على شهادة التوحيد، واختم لنا بخاتمة السعادة يا رب العالمين.

وقد أخرج الإمام أحمد في مُسنَده والإمام ابن خُزيمة في صحيحه والإمام البيهقي في سُننه عن أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – قد أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله – أي والله، بالذي يحلف به رسول الله، وهو الله، قال بمحلوف رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام – ما مر بالمُؤمِنين شهرٌ خيرٌ لهم منه، بمحلوف رسول الله وما مر بالمُنافِقين شهرٌ شرٌ لهم منه، كيف يكون هذا الشهر شراً بل شر الشهور على المُنافِقين والمُلحِدين؟ كيف؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وذلكم أن المُؤمِن يُعِد فيه القوت من النفقة – والقوت لُغةً هو ما يُقيم الأود، ليس مخازن الطعام والشراب، أكثر المُسلِمين جعلوا شهر رمضان شهر أكل وموائد وعزائم وتفنن، وتزداد أوزانهم في شهر رمضان، هؤلاء عكسوا ونقضوا حكمة الصيام، كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ۩، يُتعبِون أنفسهم سحابات النهار، ثم بعد ذلك يأتون ويُضيِّعون حكمة الصيام وقت الإفطار والتسحر، كلا! الصيام جُعِل رياضةً، وسيكون حديثنا إن شاء الله تعالى في ذلك المساء عن بعض أسراره وحكمه وفلسفته، إن شاء الله تعالى – للعبادة.

قال وذلكم أن المُؤمِن يُعِد فيه القوت من النفقة للعبادة، وقد قال قبلها – أستغفر الله، قال صلى الله عليه وسلم الآتي قبلها – بمحلوف رسول الله إن ليكتب أجره وذُخره قبل أن يقدم، قبل أن يدخل رمضان، الله – عز وجل – يأمر الملائكة فتكتب أجر كل واحد منا، هذا له كذا وكذا، وهذا معتوق من النار، وهذا مرحوم، وهذا مغفور له، وهذا له من الدرجات كذا وكذا، قبل أن يدخل رمضان! وبمحلوف رسول الله إن الله ليكتب إثمه وإصره قبل أن يُدخِله، كيف يا رسول الله؟ قال وذلكم أن المُؤمِن يُعِد فيه القوت من النفقة للعبادة، إذن قدَّم النية، المُؤمِن أقبل عليه رمضان وهو مُستحضِر أحسن العزائم، عزيمتي أن أتوب من ذنبي جميعاً، عزيمتي أن ألتحق بموكب الصالحين، بمهرجان المُتعبِّدين، وأن أموت على ذلكم – إن شاء الله تعالى -، والله هو المُيسِّر إلى كل خير، فبهذه العزيمة يُكتَب أجرك ويُذخَر لك هذا الأجر عند الله، قبل أن يُدخِل الله رمضان.

وذلكم أن المُنافِق – والعياذ بالله، نعوذ بالله من النفاق ومن باطن الإثم وظاهره – يُعِد فيه اتباع غفلات المُؤمِنين واتباع عوراتهم، فغنم يغنمه المُؤمِن، ونقمة على الكافر، أي على المُنافِق، فماذا إن كان يا رسول الله في بعض المُؤمِنين مَن هذا وصفه؟ يأتي رمضان ويزداد غيبةً ونميمةً وحقداً على الناس وسباً وشتماً وأذيةً ومعصيةً! ما هذا؟ هذا رجل قريب من المُنافِقين، قريب – والعياذ بالله -، المفروض أن الإنسان في شهر رمضان لا يكون هكذا أبداً، يرعوي وينزع عن كل هذه الخلائق السيئة.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك أن تُعيننا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نعوذ من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، ومن الخوف إلا منك، ونعوذ بك أن نقول زوراً أو ان نغشى فجوراً، اللهم إنا نعوذ بك من شماتة الأعداء، ومن عضال الداء، ومن خيبة الرجاء.

اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، ولا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.

اللهم اجعل حُبك أحب إلينا من أهلينا وأموالنا وأنفسنا، واجعله أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ الشديد، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراء مُضِرة، ولا فتنة مُضِلة.

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً، اللهم إنا نسألك أن تُحسِن لنا أمورنا كلها وأن تعصمنا من كل سوء، اللهم ألهِمنا رُشدنا وأعذِنا من شر نفوسنا، نسألك صلاح ديننا ودنيانا، اللهم إنا نسألك أن تُصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن تُصلِح لنا دنيانا التي فيها زدانا وبلاغنا إلى أُخرانا يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 (1997)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: