أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ۩ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ۩ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۩ قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ۩ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ۩ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۩ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ۩ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً. اللهم آمين.

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات: 

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، درسنا اليوم أيها الإخوة سيكون الحلقة الثالثة والأخيرة من حديثنا عن الهندوسية، وأيضاً سنجتزئ بوقت – بإذن الله تعالى – لكي نصل هذا الدرس بشيئٍ من حديث وتفصيل نُوضِّح به بعض ما غمض في خُطبة أمس، لأن بعض الناس طلب إلىّ هذا، قال لي هناك أشياء كانت مُهِمة جداً في آخر الخُطبة ولطيفة لكن نُريد أن نتعمَّق فيها أكثر، طبعاً بلا شك كانت كتعليق وتغليق – خاتمة – للخُطبة، نُريد أن نُوضِّح بعضها، وهي بلا شك أهم من هذا الدرس وأهم حتى من الموضوع الرئيس للُخطبة وأهم من كل شيئ، أنا عندي ما يتعلَّق بالله – تبارك وتعالى – وحُسن تنزيهه وتقديسه ومعرفة تسبيحه على وجهه – إن شاء الله نكون من أهل تسبيحه على وجهه أو بعض وجهه الذي يرضاه – خيرٌ من الدنيا وما فيها، وكما قلت في الدرس السابق لا أجل ولا أفخم ولا أجمل ولا أحسن ولا أكرم من الحديث عن الله تبارك وتعالى، الإنسان لا يمل من هذه الموضوعات .

على كلٍ – كما وعدناكم أيها الإخوة – سنتناول اليوم – مثلاً – موضوع المراحل الأربعة للحياة في التصور الهندوسي، طبعاً هذه المراحل تخص أساساً وأصالةً طبقة البراهمانيين، سيأتي بعد قليل الحديث عن الطبقات، أربع طبقات! وهناك طبقة المنبوذين وهي طبقة بحيالها لا تدخل في التقسيم الطبقي، أي في الــ Caste system، لا تدخل! لكن سنتحدَّث عنها بعد هذه النُقطة مُباشَرةً إن شاء الله تعالى، فأساساً هذا التقسيم للحياة يخص البراهمانيين، لكن يُمكِن لأبناء الطبقة الثانية المُحارِبين – الكشاتريا Kshatriyas – مثلاً – أن يأخذوا بهذا، وكذلك الحال مع طبقة الفيشيا Vaisyas – أي طبقة المُنتِجين، من الصنّاع والزرّاع والعُمّال المهرة والفلّاحين المهرة أيضاً، يُمكِن! وحتى الشودرا Sudras يُمكِن أيضاً أن يأخذوا بهذا، المهاتما غاندي Mahatma Gandhi – مثلاً – لم يكن من البراهمة Brahmins، لكنه وصل إلى أعلى درجة يُمكِن أن يصل إليها البراهماني، السنياسي! أي الــ Sannyasin بالإنجليزية، فهو كان من أهل هذه الخبرة الروحية، والمهاتما Mahatma لقب وليس اسماً، يُساوي السنياسي، يقولون السنياسي أو المهاتما Mahatma، فهذا يُمكِن!

ونظامهم أيضاً الفكري وعاداتهم وتقاليدهم الفكرية تُوجِب على جميع أبناء الطبقات أن يحترموا مَن اكتسب هذه الخبرة الروحية حتى وإن كان من الشودرا Sudras، هذه الحالة لا، انتهى! يُوجَد – مثلاً – شخض براهماني لم يكتسب هذه الخبرة ولم يصل، فعليه أن يخضع وأن يحترم وأن يُبجِّل الشودري، وهو من أدنى الطبقات، هؤلاء العبيد والخدم تقريباً، خدم! لم يُوجَد استعباد حقيقي لكن بعض العرب يُترجِمون هكذا، هذا الذي في رُتبة الخادم والتابع الذليل يُصبِح الآن أعلى، هذا استثناء جيد، وهذا يُلطِّف من جمود ومن قسوة وفظاعة النظام الطبقي، موجود هذا حتى نكون دقيقين، وحتى جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru في كتابه العظيم اكتشاف الهند – الكتاب الذي قرَّضه ألبرت أينشتاين Albert Einstein – كتب محلوظة بهذا الخصوص عن المهاتما غاندي Mahatma Gandhi  وكيف أن هذا الشخص الذي ليس من هذه الطبقة استطاع أن يُصبِح القائد الأعلى – على حد تعبير نهرو Nehru – للهند وأن يُحرِّك قلوب الملايين – وهذا صحيح – بدون قوة أو إكراه أو موقع رسمي وبدون حيازة مال، إنسان فقير بوزن ستة وثلاثين كيلو جرام بلا مال، بلا بيت، بلا قصر، بلا مجد، وبلا خلفية اجتماعية أبداً، لذلك هذه الأمم عندها قسمات عظمة، نحن ينبغي علينا أن نتعلَّم أن نكون هكذا من ديننا، ديننا يحث على هذا، لكن أين؟ أين نحن من هذا؟ الآن انظروا في الناس حولكم، هم لا يُبجِّلون تبجيلهم مَن أوتيَ سُلطة أو مالاً العلم والمعرفة والخبرة الروحية والولاية، هذا آخر شيئ، هذا كلام فارغ، وتُطلَب هذه الأشياء من أجل أن نتوصَّل بها سُلماً إلى المال والسُلطة والتنفذ، يا ليت يا مولانا تدعو لي أن أربح الصفقة هذه، أعطنى خُطة سحرية حتى أو خُطة ولائية تقوائية حتى أُصبِح في موقع مُتنفِّذ كبير، سخافة! لا يُوجَد عندنا نضج، لا روحي ولا نفسي، سخافة للأسف، وهذا الآن يكتسح الأمة، المزاج المادي الجِلف الغليظ الفاسد المُتعفِّن هذا يكتسح الأمة، لكن انظروا إلى أمة كالهند، هذه لا تزال أمة عظيمة، بلا شك هذه أمة عظيمة مهما حاولنا أن ننقص منها، أمة تحترم شخصاً وتخضع له وتبخع له هذا الخضوع والبخوع من أجل أنه صاحب خبرة روحية وفكرية عميقة جداً جداً هي أمة عظيمة، إنسان فقير مسكين ليس من الطبقة الأعلى وليس عنده مظاهر جمالية حتى ولا قسمات ولا وسمات ولا أي شيئ، ونهرو Nehru صفيه وحواريه يعترف بهذا، يقول لعل هذا يُشكِّل اختباراً جيداً للوقوف – يفتخر بثقافته طبعاً وحُقَّ له – على الخلفية الثقافية للأمة – يقول الأمة الهندية! حتى تعرفوا ثقافتنا ما هي، ثقافة تُبجِّل المعرفة وتُبجِّل العرفان، إنسان مُتروحِن وإنسان عنده معرفة حقيقية بالحياة وبأسرارها، اكتنه أسرارها – ومعرفة توجهها الشعوري واللاشعوري وللإجابة على سؤال لأي نوع من القادة تمنح هذه الأمة ولاءها؟ قال أنتم الآن سوف تعرفون وهذا صحيح، أمة عظيمة! والله تحتاج هذه الأمة مثل هذا.

انظر ماذا يحدث الآن، يحدث ما قاله عليّ عزت Alija رحمة الله عليه، لكن هذه بالمُناسَبة ليست مقولة عليّ عزت Alija، هي مثل فرنسي، مثل فرنسي في الحقيقة يقول لا يُوجَد شعب يستحق خيراً من زعمائه، لا يُوجَد! لا نُريد أن نُسمي الآن، الشعب الفلاني والشعب العلاني، كل شعب هو يستحق هذا الزعيم الذي يجلس على أكتافه، كل شعب! أياً كان، وما شاء الله ما أسعد الشعوب العربية بزعمائها! لا تستحق أكثر منهم، أنا أقول لكم لا تستحق، لو استحقت لنالتهم، لكن الاستحقاق لا يكون هكذا، أستحق ليست بمعنى أنني أُحِب، كلام فارغ! أنت تُحِب ولو أُوتيت السُلطة ستكون مثله، أنت تُحِب السُلطة، كلام فارغ! أنت تُحِب الكلام، غير مُستعِد لأن تدفع ضريبة حتى بقول كلمة حق واحدة، كلام فارغ! هذا كله كلام فارغ، ذبح الأمة هذا، ولذلك لا يُوجَد شعب يستحق خيراً من زعمائه، هذه ثقافة!

نرجع أيها الإخوة، هذا كان بسبب موضوع غاندي Gandhi، واليوم يحز في نفسي الكلام هذا، أقرأه في كتاب نهرو Nehru ويحز في نفسي، قلت هذا زعيم كبير – كان رئيس وزراء Prime Minister – يفتخر بأمته وعنده الحق، انظروا إلى أينشتاين Einstein ولكيفية تقريضه للكتاب، أينشتاين Einstein قرَّض الكتاب جُزئياً، عالم الفيزياء النسبية قرَّض كتاب في ألف صفحة في تاريخ الهند، أعني كتاب اكتشاف الهند! أينشتاين Einstein قرأه! أينشتاين Einstein انظروا إلى كُتبه مثل العالم كما أراه The World as I See It – كتاب فلسفي – أو أفكار وآراء Ideas and Opinions، هذا كتاب ثانٍ لأينشتاين Einstein وهو فلسفي وعميق جداً جداً، وتجدون دكتوراً عربياً كبيراً في الفيزياء لا يستطيع أن يتكلَّم كلمتين في فلسفة العلم، أُقسِم بالله! في فلسفة الفيزياء لا يُحسِن أن يُرتِب كلمتين، يتحدَّث عن الفيزياء، مُعادَلات وأرقام وما إلى ذلك، رجل حافظ! لكن يا أخي تكلَّم لي عن فلسفة الفيزياء وفلسفة العلم، لا يعرف ولا يقدر، هذا ليس شُغله، هو يهتم بالشهادة التي يأكل بها، هو أستاذ جامعي فقط، كلام فارغ كله! لكن هؤلاء ليسوا كذلك يا إخواني، تجدون عالماً في البيولوجيا Biology ويكون فيلسوفاً في نفس الوقت، تجدون عالماً في علم الوراثة – Genetics – ويكون فيلسوفاً رهيباً.

كارل ساغان Carl Sagan قديماً لا نستطيع أن نقول رحمه الله، لكن كيف كان كارل ساغان Carl Sagan؟ كان مُدهِشاً ومُحيِّراً، مات هذا الرجل وعمره ثلاث وستين سنة، كان مُدهِشاً! كان عالماً في الفلك، من أكبر علماء ناسا NASA، كان مسؤولاً عن أشياء إبداعية في علم الفضاء بالذات، انظر يا أخي إلى كُتبه وإلى رواياته التي يكتبها، انظر إلى الكُتب نفسها، مثل بلايين وبلايين Billions and Billions، تنانين عدن The Dragons of Eden، نُقطة زرقاء باهتة – عن الأرض – Pale Blue Dot، والكون Cosmos، فهو ألَّف عنه كتاب، غير طبيعي بالمرة الرجل! غير عادي، ساحر أُقسِم بالله! ليس عندنا مثل هذا الطراز، لأن هذه أمة لا تحترم العلم ولا تعرف قدر العلم والثقافة، فنهرور Nehru يُعلِّق على هذا الموضوع بالذات يا جماعة، الهند كانت – يقول – ولا تزال ترفع العلماء والعُرفاء مرتبة خاصة، لا يرتفع فوقها لا ملك ولا سواه، يقول المُلك والمال يُثيران الرهبة والرغبة والخوف، قال لكنهما ليسا كالمعرفة، المعرفة تُثير الاحترام والإجلال عندنا قال، كنا وما زلنا هكذا! وقال ها نحن في القرن العشرين جلعنا رجلاً مثل هذا رئيساً علينا، كان زعيمنا الكبير، جائع وحافٍ ومسكين ولا يمتلك شيئاً، غاندي Gandhi – قال – هو زعيمنا، ونرفع رأسنا به، لأن هذه أمة تعرف قدر الفكر والعلم، أقول سُبحان الله العظيم يا أخي، أُقسِم بالله! الأمة الأولى التي كان من المفروض أن تكون بهذه المثابة أمة محمد، لا هند ولا صين، الأمة الأولى التي كان لابد أن تكون هكذا أمة محمد، الأمة الأولى! لأنها أمة اقْرَأْ ۩، أليس كذلك؟

نهرو Nehru نفسه هذا عنده كتاب ثانٍ قرأته قديماً وأنا صغير يافع اسمه لمحات من تاريخ العالم في جُزء واحد، وهو في حجم هذا الكتاب، جميل جداً! كتاب في التاريخ، تاريخ العالم كله يُلخِّص لك إياه، هذا تاريخ الهند في مُجلَّدين، لكن نهرو Nehru هذا، تخيَّل! وكان يُناقِش كثيراً، ناقش الناس الكبار الغربيين ومَن مثلهم، كان عجيباً! وأعربوا عن إعجابهم الشديد بفكر الرجل، كان يُناقِش شخصياً، أي أن هذا ليس أي كلام، ليس مثل عبد الناصر الذي كتب عشرين صفحة وقال هذا الميثاق، يدّعي أنه يفهم، الميثاق! هذه سخافات، كُتيب سخيف حقير لا يُساوس فلساً مثل الكتاب الخاضر الخاص بالقذّافي، كلام فارغ! وجعلوه رباً، كأن عبد الناصر رب الفكر، وهو لا يفهم رأسه من رجليه.

هؤلاء المُفكِّرون، زُعماء مُفكِّرون على مُستوى غير طبيعي يا أخي، على مُستوى غير عادي، لأن هناك صدقية، نحن أمة دعاية – أُقسِم بالله – ونفخ، هكذا خلقنا الله في الفترة هذه، فهو قال في لمحات من تاريخ العالم كل الأمم – ولم يستثن أمته الهندية، يعتز بها جداً، كل الأمم قال – تحتاج في مراحل نهوضها إلى ثلاثة أجيال، جيل أول للاستيقاظ من السُبات والغفلة، جيل ثانٍ لاكتساب العلم، جيل ثالث للتمثل والاستيعاب، الجيل الأول المُتعلِّق بالإيقاظ يُحاوِل أن يُهيء لاحترام العلم ووجوب طلبه، هذه لا تزال تهيئة! في جيل ثانٍ يبدأ اكتساب العلم، في الجيل الثالث يبدأ التمثل والاستيعاب، وبعد ذلك سوف يبدأ طبعاً الإبداع، قال إلا الأمة الإسلامية، انظروا إلى هذا، هو فيلسوف أيضاً، ليس مُؤرِّخاً فقط، هو فيلسوف تاريخ أيضاً، جواهر لال نهرو Jawaharlal Nehru قال إلا الأمة الإسلامية، في جيلين – قال – بضربة واحدة اختصرت المراحل هذه، في جيلين فقط! قال لماذا؟ قال لأنها تتمتع بكتاب مُقدَّس، كتاب عجيب – قال – هذا، لا يُوجَد كتاب يحث على المعرفة والعلم بقدر هذا الكتاب، فلم تحتاج إلى فترة كاملة قد تصل إلى ربع قرن لكي تهيء وتقول احترموا العلم وأحبوا العلم بالله عليكم وما إلى ذلك، لا! لم تحتاج إلى هذا من أجل تقرير العلم ورثاء الجهل، لا! من أول يوم كانت كذلك، وفعلاً رأينا الصحابة الذين كانوا شيئاً عجباً، شيئ غير طبيعي يا أخي! حُب العلم والمعرفة عندهم أصبح مسألة غير عادية.

صحابي يُسافِر من بلد إلى بلد من أجل أن يسمع حديثاً واحداً، تخيَّلوا هذا بالله عليكم، والله العظيم شيئ لا يُصدَّق! يُسافِر من بلد إلى بلد لكي يسمع حديثاً واحداً، ولم يُوجَد صحابي واحد فقط بل وُجِدَ أكثر من صحابي، ولم يُوجَد تابعي واحد فقط بل وُجِدَ أكثر من تابعي، وأما الأئمة الذين أتوا بعد التابعين فهم كُثر جداً جداً جداً، كانوا يُسافِرون في أقل  من ذلك، ما رأيكم؟ بعضهم سافر في كلمة، هل تعرفون هذا؟ في كلمة سافر، سفر من بلد إلى بلد! لكي يرى كلمة واحدة بالضبط ويعرف ما وجهها وما ضبطها، كيف قيلت هذه الكلمة؟ هذه كلمة وليست حديثاً واحداً يا جماعة، قد يقول لي أحدكم هل أنت تتحدَّث عن أساطير؟ لكن هذه ليست أساطير، هذه أمة عظيمة، كل مَن يعشق العلم ويعرف العلم يعرف صدق هذه الأشياء!

أنا ذات مرة قضيت ليلة كاملة – كانت ليلة جُمعة والله العظيم – هنا في Kochgasse – قضيت ليلة كاملة إلى أن انبلج الصباح – وأنا أبحث عن تحقيق بيت شعر واحد، عادي! لم أر أنني خسرت، ليلة كاملة! مئات الكُتب أنزلتها، مئات الكتب في ليلة كاملة! أُحِب أن أُوثِّق كل شيئ وأن أعرف كل شيئ على وجهه، لا أُحِب التخليد! كأن يُقال هذا قاله أحدهم وينتهي الأمر، لا يُوجَد هذا في العلم، العلم ليس فيه هذا، العلم فيه تحقيق، فهذا عادي!

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – قدَّس الله سره – صاحب أضواء البيان قال ذات مرة – هذا في تحقيق مسألة لم يعرف وجهها – جلست إلى الصباح، ضربتني الشمس وأنا جالس لكي أُحقٍّق، وقال في هذا شعراً، هؤلاء هم العلماء، هذا هو العلم، مُقدَّس! كما قلت هذا شوق إلهي، شُعلة ربانية، لكن انظروا إلى هذه الأمة الميتة الآن، والله العظيم لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد هذا بشكل عام، ونحن رأينا كلنا العرب والمُسلِمين حول الأرض، مُتعَبون ولا يُحِبون حتى الخطاب العلمي والتحقيقي، يُحِبون الهبل! هناك مَن  يُمزِّع شعره ويصرخ ويخبط في الدنيا، قصص وأحاديث وحواديث! حواديث وخُرافات وهبل، يُحِبون هذا، أما العلم وما إلى ذلك لا يُحِبونه، يقولون يا أخي هذا يتفلفس، يقولون يتفلفس! لا يقولون حتى يتفلسف وإنما يقولون يتفلفس!

نحن نحتاج إلى هذا، انظروا إلى نهرو Nehru، فهو شهد إلى هذه الأمة، لكن كانت هذه الأمة، الآن الوضع اختلف، لسنا منها على ما يبدو، لسنا أخلاف هؤلاء، أين؟ نحن الآن نُريد قنبلة ذرية لكي تُحِّببنا في العلم على ما يبدو، العلم العلم وليس الشهادت، انتبهوا! كم يحمل الواحد من الشهادات وهو مسكين لا يُساوي – أُقسِم بالله – بصلة! لا شيئ، لكنه يصل إلى كذا وكذا، بعضهم يصل إلى رئيس وزراء – كان لي بأحدهم معرفة شخصية – وليس عنده أي شيئ، لا يعرف رأسه من رجليه، رئيس وزراء في بلده صار، كلام فارغ! وهو لا يعرف شيئاً، فنحن نُريد العلم الحقيقي.

المُهِم نأتي أيها الإخوة إلى المراحل الأربعة، وقلنا هذه من حيث الأصل مُخصَّصة للبراهمانيين، يُمكِن لغيرهم بلا شك أن يعتمدها، هم رأوا – أي الهندوس يا إخواني وأخواتي – أن الإنسان يمر فعلاً بمراحل، وهذا من حيث الأصل صحيح، أساساً هذا صحيح، الإنسان يمر بمراحل تختلف فيه قدراته ولياقاته وتطلعاته، فهو لا يمر فقط، لا! يختلف كل هذا، يحدث تغيير كيفي في شخصيته، في مزاجه، في لياقاته النفسية والشعورية، وحتى لياقاته الحسية تختلف من فترة إلى فترة، وتحدَّثنا – قلنا هذا عدة مرات فلن نقوله هذه المرة – عن الحياة الدنيا في القرآن، كيف الله شبَّهها باللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر فعلاً، هذا يعني وجود مراحل، تُوجَد مراحل مُعيَّنة! فهم قالوا ماذا؟ هذا نوع – كما لاحظ إيضاً نهرو Nehru نفسه – من التوليف بين المُتناقِضات، لأن الفكر الهندوسي هذا حيَّر العلماء، كتاب شفايتزر Schweitzer الذي اقتبست منه في المرة السابقة – فكر الهند – كتاب عظيم جداً، هذا الكتاب عقده ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer – المُفكِّر الألماني والروحاني والإنساني الكبير – لكي يُناقِش فقط مسألتين، المسألة الأولى دور الأخلاق في الفكر الهندي بشكل عام سواء الجيني أو البوذي أو الشاماني أو الهندوسي نفسه، كله! والمسألة الثانية الموقف من العالم، قبول العالم أو نفي العالم! مسألة مُهِمة هذه جداً، الفكر الهندوسي نفسه حيَّر الناس.

بالمُناسَبة إلى الآن مَن يقرأ عن الهندوسية بالذات يحتار، هو نفسه يحتار لأنه يجد معلومات مُتناقِضة لدى كبار المُفكِّرين، يُوجَد تناقض! لماذا؟ لأن التعرف عليه تم قريباً، أي أن عمره لا يزيد على مائة وعشرين أو مائة وعشرين سنة، أعني التعرف على الفكر هذا، ولا يزال هذا فكر كبير وعريق ومُتنوِّع وشديد التنوع وهائل الاتساع،هناك تناقضات! وهم يعون الشيئ هذا، فكل واحد من منظوره يقول هذا كذا وكذا وهذا أحد التقسيمات وهذا أحد الأقوال، وكما قلنا يُوجَد تطور ويُوجَد نماء وتُوجَد حيوية وديناميكية في هذا الفكر، أنت تأخذه من منظور – مثلاً – ديكروني أو سينكروني؟ مسألة عويصة، عرضت لها في أول الدرس في المرة السابقة، فالمُهِم تُوجَد مسألة الموقف من العالم، هناك أُناس قالوا لا، الهندوسية رافضة للعالم وهذا واضح، هذه الديانة ترفض العالم، لكننا سوف نرى من خلال فلسفة المراحل الأربعة للحياة أنها لا ترفض العالم، هناك أُناس قالوا لا، هي تقبل العالم وتُؤكِّده، لكن هناك أشياء أُخرى تُؤكِّد أنها لا تقبله، نهرو Nehru قال لا، هي ولَّفت بين الموقفين المُتشاكِسين، من خلال ماذا؟ من خلال فلسفة المراحل، التحقيب! هذا يُمكِن أن أسميه بتحقيب الحياة الفردية، تحقيب الحياة الفردية يعني جعلها حقباً مُتوالية، فالمرحلة الأولى تبدأ من لحظة تعميد، عندهم نوع من التعميد مثل تعميد المسيح، وطبعاً أنتم تعرفون ما معنى التعميد عند المسيحيين وما فلسفته، ما فلسفته؟ الولادة الثانية، ولادتك الأولى هي ولاددة اسمية، لكن الآن أنت وُلِدت ولادة ثانية حقيقية، ابدأ حياتك الروحية، نفس الشيئ يُوجَد في الهندوسية، والتعميد هذا يبدأ في حوالي السنة الثامنة من حياة الطفل! وتمتد هذه الفترة زُهاء ثنتي عشرة سنة، أي من الثامنة إلى الثانية عشرة يُمكِن أن يتعمَّد، فهو يبدأ من الثامنة ويُمكِن أن يُؤخِّر هذا أهله إلى الثانية عشرة، فهي تمتد من الثامنة إلى الثانية عشرة ويُمَد إلى ثنتي عشرة سنة أُخرى، أي في حوالي عشرين أو أربع وعشرين أو خمس وعشرين، هذه المرحلة الأولى، هذه اسمها مرحلة ماذا؟ مرحلة التعلم، التلمذة، الدراسة! يجعلون الطفل هذا يلتحق بأحد النُسّاك المُعلِّمين الذين عندهم خبرة روحية ومعرفة، يصير هذا أباه الروحي، يُصبِح أباه الروحي بعد أن يلتحق به، ويبيت في العادة مع أبيه في البيت، إما أن يكون بيته الشخصي أو بيت التدرس، هو وغيره من الزملاء طبعاً، ولقاء العلم الذي يتلقاه على يد أستاذه يُقدِّم ماذا؟ خدمات  للأستاذ، يخدمه ويذهب ويجيء ويفعل من أجله أشياء، خدمات – خدمات شخصية – فقط، لا يدفع مالاً، خدمات لقاء التدريس، لأن هذا العالم لابد وأن يتفرَّغ له، هذا العارف أو الناسك يتفرَّغ لك ولذا لابد أن تُفرِّغه أيضاً، لابد أن تُفرِّغه! علماً بأن الشعوب عموماً كانت – وربما بعضها لا يزال يفعل هذا – تُسميهم قديماً المُستبصِرين أو الرائين، أي الذين يرون، هؤلاء الذين يرون لابد وأن يُفرَّغوا قالوا، لكي يقدر الواحد منهم على أن يرى بشكل سليم، لا ينبغي أن تُشتِّت عقله واهتمامه بأشياء مُبتذَلة يومية كأن يغسل ويطبخ ويأتي بالرزق ويشتغل، ممنوع! هذا كل شيئ لابد أن يُحضَّر له وأن يُيسَّر له، لكي يكون عنده نوع من الاجتماع والتركيز، فيقدر أن يُفكِّر ويقدر أن يتعمَّق في الأشياء ومن ثم يقدر أن يُعلِّمنا ويُعطينا، وهذه فكرة سليمة من حيث الأصل، لابد أن يُفرَّغ بطريقة أو بأُخرى، فهو يُلازِم أستاذه – كما قلنا – إلى آخر هذه الفترة.

الجميل في هذا الشيئ أنهم يُؤكِّدون ليس الهدف الحصول على معلومات، هذا شيئ مُهِم جداً عندهم، ليس الهدف أن تُحصِّل معلومات، ليس المُتعلِّم في الثقافة الهندوسية هو الذي يُحصِّل معلومات أكثر، فالفكرة الغربية – تحصيل العلم للعلم والمعرفة للمعرفة – لا تعترف بها الهند ذات الفكر التحليلي العميق جداً والخارق للعادة، الهند عندها قدرة تحليلية في كل شيئ بشكل غير طبيعي فعلاً، تقول ما الفائدة؟ يُمكِن أن يقوم الآن – مثلاً – كتاب موسوعي محل هذا الكائن الحي المسكين، يُمكِن أن يقوم الآن قرص مُدمَج يا حبيبي أو دي في دي DVD محل أكبر عقل، الآن هناك أقراص يُمكِن أن تتسع إلى نصف مليون كتاب، تفضَّل! لا أحد فينا مهما عاش يستطيع أن يحمل في رأسه معلومات وردت في نصف مليون كتاب، ما الفائدة منك؟ ماذ هذا؟ هل نحن نُريد منك أن تُصبِح موسوعة حية؟ هل أنت ستُصبِح موسوعة تمشي على رجلين؟ ماذا سنحتاج منك؟ ليس هذا هو! فالهند من يوم يومها كما يُقال – من ألفي سنة قبل الميلاد كانت تفهم هذا – تقول لا، ليس الهدف تحصيل المعلومات والمعرفة، لذلك – أنا نبَّهت عدة مرات على هذا – ترى أن عندنا الآن مثل هذا، حتى عندما تحدث نهضة علمية وما إلى ذلك، يُقال عندنا نهضة دينية ونهضة كذا وكذا أو صحوة إسلامية، أي نهضة؟ انظر حتى إلى العلم الذي يُعطي على المنابر وفي التلفزيون Television، علم معلومات كله، لا يُوجَد تعمق! لا تُعطني مائتي حديث في جلسة يا أخي مع سبعين بيت من الشعر مع عشرين قصة، ليس هذا العلم يا رجل، ائتني بقضية واحدة عن مفهوم غامض، مفهوم غير واضح، مفهوم اعتاد الناس أن ينظروا إليه من زاوية مُعيَّنة، ثم أبرز لهم كيف يُمكِن النظر إليه من زوايا أُخرى جديدة تُثريه وتُغنيه وتُثمِّنه وتُخصِبه، تُشعِر الناس حتى بأنهم كانوا في غفلة عن هذا المفهوم، مع أنهم يتناولنه ويمضغونه عبر حياتهم من أربعين سنة، هم لا يفهمونه، يتكلَّمون في شيئ لا يفهمونه، هذا العلم وهذه المعرفة، لكي يكون عند الإنسان قدرة اختبارية، فيختبر هذه الأشياء روحياً.

العجيب طبعاً أن الهند تُؤمِن بهذا، نعم كما قلنا في يوجا Yoga المعرفة – الچنانا يوجا Jnana yoga  – لابد وأن تستفيد من خبرة القدّيسين والنُسّاك ومَن مثلهم لكن لا يُكتفى بها، تخيَّل! لابد أن يعيش كل واحد هذه الخبرة إذا أراد، أنت لن تجدها في كتاب، لماذا؟ لأن في نهاية المطاف العلم الحقيقي والمعرفة الحقة المحض لا تُوجَد في كتاب، لماذا؟ لأنها لا تُقال بلسان، ليس لأنها سر أو سرية للغاية Top secret، لا! اللُغة تعجزعنها، لا تُوجَد لُغة تطالها، اليوم حين نُعقِّب – إن شاء الله – على موضوع خُطبة أمس سوف نرى أن الأمر لا يتعلَّق باللُغة حتى فقط، الفكر البشري الخاص بنا أيضاً – صعب – لا يقدر على أن يحوم حول حمى القدس الأقدس، لا إله إلا هو! لا يقدر، هو هكذا، ليس لأنه قاصر فقط ومن رُتبة أقل، لا! من ناحية فلسفية يُوجَد شيئ أعمق من هذا، لأنه مُختلِف تماماً، ليس لأنه قاصر أو لأن الحكاية تتعلَّق بالاختلاف في الدرجة وليس في النوع، الاختلاف في النوع! انتبهوا إلى هذا، لأنه مُختلِف، هو مُختلِف ومن ثم انتهى الأمر، مسألة صعبة جداً، سوف نرى كيف هذا وسوف نُعمِّقه اليوم – إن شاء الله – ببعض الأمثلة وبعض الإيضاحات، فعلى كلٍ هذا شيئ جميل في الهند.

حين كنت يافعاً وفي أكثر فترة شبابي كان أكثر ما يُؤرِّقني ويغيظني لماذا الله – عز وجل – قدَّر علينا النوم؟ كطالب علم طبعاً مُجتهِد كنت أكره النوم هذا، كنت أكرهه بشكل كبير وأتمنى أن أتخلَّص منه، قرأت ذات مرة عن رجل بريطاني سقط من طائرة تقريباً وكان جُندياً أو ضابطاً فأُصيب بمرض لم يعرف الأطباء تشخيصه بالضبط، وهذا المرض أفقده الحاجة إلى النوم أربعين سنة، ولم يكن يظهر عليه أي تعب أو إحمرار عيون ولا أي رغبة في النوم أبداً، قالوا يُمارِس حياته بشكل طبيعي على مدار الأربع والعشرين ساعة، وكنت أشعر بغيرة شديدة، لماذا لا أكون أنا؟ يا رب يحدث لي نفس الشيئ هذا! وبعد ذلك حين بدأنا نكبر وننضج قليلاً فهمت أن هذا غير صحيح، حكمة الله أحسن من كل التمنيات الفارغة هذه، لماذا؟ هذا اليوم سأحكي لكم عنه، منظوري الأول كان منظور معرفة، أُريد معلومات، أُريد أكبر قدر من الكُتب لكي ألتهمها في دماغي وفي عقلي، لكن الآن الوضع مُختلِف، كبرت وفهمت أولاً أن هذا مُستحيل، لا تستطيع هذا! الأمر لا يتعلَّق فقط بعدم النوم، لو عشت لبليون Billion سنة لن تنتهي من المعرفة، وخاصة أن المعرفة الآن تتضاعف كل بضع سنوات، قبل حوالي عشرين سنة – قالوا – كانت تتضاعف كل ست سنوات، الآن كل كم؟ تتضاعف بشدة، لا أعرف كيف! يُمكِن بعد مائة سنة أو مائتي سنة تتضاعف كل أربع وعشرين ساعة وربما كل ست ساعات، المعرفة كلها! هذا شيئ يُجنِّن، فمتى سوف تُحصِّل المعرفة هذه؟ مُستحيل!

هذا يُسمونه الطموح الهيجلي، نسبة إلى الفيلسوف الألماني هيجل Hegel الذي أحب أن يعمل مُخطَّطاً لكل المعرفة البشرية وشرح أشياء، لكن هذا كلام فارغ! الكثير من الأشياء التي حكاها كما وصفها ويل ديورانت Will Durant كانت من التهويمات، قال الرجل كان يُهلوِس، يظن أنه أتى بالمُخطَّط، قال كان يُهلوِس ويقول كلاماً أهبل، ما هذا؟ الفكر ليس هكذا، أشياء مُعيَّنة كانت كلاماً فارغاً، اتضح أنها كلام فارغ فعلاً، أنت لا تقدر على فعل هذا! لذا فهمنا على كبر حين رشدنا ونضجنا أن الأمر لا يتعلَّق بحجم المعلومات وحجم المعارف وإنما بنوع المعرفة التي اكتسبت، ما هي المعرفة التي احتزتها؟ في نهاية المطاف الإنسان حين يضع رأسه ينتظر لحظة الوداع – لحظة مُفارَقة هذا العالم وهذه الدُنا – فعلاً سيطرح على نفسه هذا السؤال: بأي شيئ أخرج؟ ما الروح التي أخرج بها؟ ما حجم المعرفة كيفياً التي يُمكِن أن أخرج بها؟ ما الذي عرفته في هذا العالم؟ ما الذي سيهمني حين أعرف كل المعلومات الدقيقة في علم الإلكترونيات Electronics أو كل الدقائق في علم النبات أو كل أصناف القرود والشِمْبانزِي Chimpanzee وما إلى ذلك؟ ما هذا؟ هذا كلام فارغ! وأنت لا تعرف لماذا أنت خُلِقت ومن أين وإلى أين وكيف ولماذا، ولا تعرف شيئاً عن السر الأعظم، لا إله إلا هو! لم تُفكِّر فيه يوماً جيداً وبعمق.

أنا الآن في آخر أشهر أو في آخر حتى سنوات اجتاحتني مشاعر عجيبة لم أخبرها في حياتي، في حياتي! أنا مُتأكِّد من هذا، السن مع الطلب المُستمِر – طيلة حياتي أُفكِر باستمرار وأتفلسف وأقرأ، لا أدع شيئاً – بدأ ينضج، ونفسياً الإنسان تأهل طبعاً، بعد الأربعين! حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۩، بدأ الإنسان لأول مرة يُفكِّر هكذا، في حياتي لم أُفكِّر على هذا النحو، الفكرة التي كنت اصطحبها عن رب العزة كانت فكرة تافهة جداً جداً جداً، كنت أظن أنها شيئ كبير، وهي فكرة علماء وأئمة وفكرة موجودة في الكُتب بالمُناسَبة، لكنها تافهة جداً، وجدتها بسيطة ساذجة طفولية وصبيانية، أُقسِم بالله! فكرة في مُنتهى التفاهة ولا تُثير الروعة، الآن الروعة التي تأتي إلىّ في بعض المرات تُشعِرني أنني سوف أنسحق تحت جلال الله، أُقسِم بالله أشعر بأنني سأذوب أو أطير أو أتبخَّر، شيئ مُخيف! وأهرب من التفكير وأشعر بأنني سأُجَن، يحصل تقريباً هذا معي كل يوم والثاني، لم يحدث هذا معي أبداً من قبل، لماذا؟ الرب الذي كنت أتعبَّد له وأدعوه وأبكي له وأتباكى وما إلى ذلك كان رباً كبيراً يجلس على كرسي والأمر منتهٍ، هو فوق! شيئ مثل هذا أو قريب من هذا، لكن الآن اختلف الأمر، هذا الرب وجدته شيئ مُحيِّر، مُحيِّر جداً جداً جداً، ما سر كل الدنيا يا أخي؟ ليس الهند فقط وما إلى ذلك، كل العُرفاء في العالم  وكل الصُلحاء – كل هؤلاء – أكبر هم عندهم وأكبر حُزن وأكبر مأساة في حياتهم البحث عن الله، يعرفون أنه موجود، هم يعبدونه لكنهم يُحاوِلون أن يبحثوا عنه، كيف هم؟ إن جاز التعبير ما طبيعته؟ ما كُنهه؟ وما سره؟ لا إله إلا هو! كيف هو؟ ما علاقته بنا؟ كيف هي علاقته بهذا الكون الذي أبدعه؟ وما علاقة الكون به؟ أشياء مُحيِّرة وتُجنِّن الإنسان.

حين تُفكِّر في عظمته التي أحاطت كل شيئ وهي أكبر من كل شيئ وكل شيئ من إبداعاتها البسيطة تنسحق تحت وطأة الجلالة، أُقسِم بالله! تعتريك روعة غير عادية، شيئ مُخيف، لا يُوصَف حتى تذوقه وحتى تشعره، مُستحيل أن يصف لك أحد إياه، مُستحيل! شيئ يُمكِن أن يُذهِب بعقلك، كما قلت لك أقل شيئ أن تشعر بأن ذهنك سوف يعزب عنك في لحظة، سوف تُجَن! صرت أخاف من الأشياء هذه، أقول هذا مُمكِن، يُمكِن وأنا في لحظة ما أن يقولوا جُنَّ، مُمكِن وعادي! الحمد لله هذا سوف يكون أسعد جنون، عادي! جنون شريف هذا، جنون ماجد هذا، ليس جنوناً تحت ضغوط الحياة وحُب المادة والجنس والشهوات والمال، لا! هذا جنون في الله عز وجل، شيئ كبير! هذا متى يصل إليه الإنسان؟ بعد مُعاناة أيضاً، فالأمر لا يتعلَّق بالمعلومات ولم أجد هذا في كتاب، لم يُعلِّمني أحد إياه، لا! هذا أتى بالمُعاناة الدائمة والتفكير الدائم، أرأيت؟ مُحاوَلة طرح أسئلة مُتواصِلة، البساطة الساذجة التي كانت تُشعِرنا بالهناء والطمأنينة حين كنا شباباً وما إلى ذلك ذهبت، زايلتنا وانتهى الأمر، لم تعد موجودة للأسف.

قديماً حين كنت شاباً أيضاً قرأت قصة أبي حامد الغزّالي ولم أفهم عمقها، لماذا؟ ما الذي حيَّر هذا الرجل؟ هل كانت قضايا فلسفية معرفية إبستمولوجية؟ لها حل هذه في الإبستمولوجيا Epistemology، أليس كذلك؟ لكن ليس هذا هو، هو بدأ بهذا، بدأ بالمدخل الإبستمولوجي وانتهى بالسر الأعظم، الذي حيَّره وكسَّر له رأسه السر الأعظم، الله عز وجل! لكن بدايته كانت مع الإبستمولوجيا Epistemology، هذا صحيح! السؤال الذي عقد عليه برتراند راسل Bertrand Russell كتاباً كاملاً، ونقدر أن نقول هو جوهر إلحاده وجوهر فكره الفلسفي، هو ندب نفسه طيلة حياته وخاصة في الشطر الأخير من حايته من أجل أن يُجِيب عن هذه الأسئلة، هل نحن مُؤهَّلون أن نعرف أصلاً؟ برتراند راسل Bertrand Russell هذا مُلحِد للأسف، وطبعاً هذا زل حماره العلمي في الطين كما يقولون، زل وضل المسكين! ثم ما هو القدر المُمكِن والمُهيأ لعقولنا أن تستوعبه؟ وبأي وسائل؟ وما الضمانات؟ هذه الإبستمولوجيا Epistemology! هذه علم المعرفة وفلسفة المعرفة، أبو حامد بدأ هكذا، وجد أن الحس لا ثقة به، لا! الحس لا يُوثَق به، ماذا عن العقل إذن؟ وجد أيضاً أن العقل لا ثقة به، لا تقدر على أن تثق به إلى آخر المشوار، وهذه مُصيبة! وهذا العقل يحكم على ماذا أيضاً؟ على أدلة الشرع، هو الذي يتلقاها! فإذن ما الذي بقيَ بين أيدينا إذا العقل نفسه بدأنا نفقد الثقة فيه؟ هذه ورطة شك كبيرة جداً جداً، لكن كان جوهر هذا الشك هو السر الأعظم طبعاً في البحث عن الله، وهذا واضح من كل سيرة حياته، فمسألة صعبة هذه، مسألة كبيرة جداً جداً، ولا تزال هكذا، سُبحان الله العظيم!

فإذن جميل من هؤلاء أنهم لاحظوا هذا قبل آلاف السنين، قبل زُهاء أربعة آلاف سنة لاحظوا أن ليس المُهِم المعلومات، ليس المُهِم الحذلقة والزخرفة العلمية، المُهِم هو نوعية المعرفة، فقالوا في هذه الفترة يُطلَب من هذا التَلميذ معرفة من نوع ما يُؤهِّله أن يكون زوجاً صالحاً ومُواطِناً راشداً وإنساناً يضبط شهواته ويضبط سلوكه، قالوا نُريد معرفة من هذا النوع، طبعاً يستحيل أن يُعلِّم هؤلاء الحُكماء الأطفال الصغار الأسرار العُظمى، مُستحيل! لا يقدرون لأن الواحد منهم لا يزال غير مُهيأً، وعنده شهوات يُريد أن يستكملها، يُريد أن يُجرِّب، هناك شهوة الزواج وشهوة المطاعم والمشارب وشهوة الإنجاز والنجاح الدنيوي، أليس كذلك؟ وبعد ذلك سيُريد أن يُجرِّب شيئاً آخر وهو خدمة المُجتمَع، أن يكون مُواطَناً صالحاً، هو إلى الآن لم يُجرِّب الأشياء هذه، فقالوا دعوه، إذن هذه أول مرحلة!

المرحلة الثانية يا إخواني مرحلة رب الأسرة، أنهى مرحلة التعليم بعد ثنتي عشرة سنة والآن له الحق أن يتزوَّج، لأن عنده حاجات فطرية، أرأيتم هذا الفهم؟ هذه نظرية توليفية تقبل العالم، إلى الآن هي تقبل العالم، لا ترفضه، لا تتخلى عنه إلى الآن، صحيح! فإذن لا يُقال الهندوسية ترفض العالم، كيف ترفضها؟ تفضَّل، مُستحيل! هذا التعليم الأول ليس تعليماً عرفانياً في أرقى درجة، لا! بالعكس هو تعليم يُؤهِّل لإصلاح المُجتمَع بإنشاء أسرة صالحة، وهذا مُمتاز! هذه بداية المُجتمَع على رأي أوجست كونت Auguste Comte، أول وحدة – قال – ليست الفرد وإنما الأسرة، هذا يُؤهِّله أن يُنشئ هذه الأسرة، فيُصبِح زوجاً صالحاً بما اكتسبه من خبرة ومن تعليم، فيُربي أولاده تربية راشدة مُنضبِطة، ويُعطيهم بعض ما عنده، قالوا هذا شيئ طيب، وفي نفس الوقت يُلبي حاجاته الحسية الشهوانية، مطلوب! هذه حاجات لديه، وطبعاً قالوا في الأربعة والعشرين فعلاً يكون الشاب في ذروة قواه الإحساسية، وهذا صحيح! عنده جموح وما إلى ذلك، هذا جيد ومن ثم سنُعطيه ما يحتاجه، تفضَّل تزوَّج، ليس عيباً وليس غلطاً، هكذا تقول الهندوسية، جرِّب! يُجرِّب ويعيش حوالي ثنتي عشرة سنة أيضاً، كل فترة تمتد زُهاء ثنتي عشرة سنة، بعد ذلك لابد وأن ينسحب، الآن هنا تتناقض الكُتب الكُبرى!

هوستن سميث Huston Smith هذا أنا أثق فيه، لأن هذا هذا من كبار علماء الأديان في العالم على الإطلاق وقد حدَّثتكم عنه في مرة أو مرتين، كتابه وزَّع ملايين النُسخ حول العالم، الرجل ناسك، أي أنه يُحاوِل أن يكون صورة أُخرى من راما كريشنا Ramakrishna، راما كريشنا Ramakrishna في القرن التاسع عشر – أكبر ناسك وقدّيس هندوسي – جرَّب الوصول إلى الله عبر الطرق الديانية العالمية المُختلِفة، فحاول أن يصل إلى الله عن طريق التجسد في شخص المسيح، دخل التجربة هذه كريشنا Krishna، وحاول أن يصل إلى الله اللاشخصي، الكامل التجرد الذي تُملي الاعتقاد به التعاليم القرآنية، وحاول أن يصل إلى الله عبر طريقته التقليدية الهندوسية، تجسد في آلهة وخاصة في كريشنا Krishna نفسه! هذا اسمه راما كريشنا Ramakrishna، لكن كريشنا Krishna نفسه هذا كان قبل الميلاد، وفي النهاية قال وجدت النتيجة دائماً واحدة، الله هو الله، هذه كلها طرق مُختلِفة إلى قمة الجبل، مُختلِفة قبل الوصول إلى القمة، وحين تصل إلى القمة تندمج الطرق كلها، وأنا سأرد عليه طبعاً، أنا لا أعتقد بهذا، بحسب ديننا لا أعتقد بهذا، طبعاً هو صادق في أنه وصل إلى نفس النتيجة، هذا صحيح بلا شك طبعاً، هذا صحيح! في النهاية سوف يصل الإنسان إلى أن نفس النتيجة، والمسيحي العارف العميق – أنا أقول لكم – سوف يصل إلى الله، وأن المسيح هذا هو تجلٍ لله، وسوف يرفض فكرة أن المسيح هذا جُزء من الله، أي جُزء حقيقي مادي، سوف يرفضها المسيحي! وكثير من العُرفاء المسيحيين يرفضونها، ما رأيك؟ أي أنهم يمشون على خط التوحيد الإسلامي الصحيح، لكنهم يقبلون فكرة تجسد الله بمعنى آخر – شيئ مُعقَّد – في شخص المسيح، مثلما تقبل الهندوسية التجسد في شخص كريشنا Krishna وغير كريشنا Krishna طبعاً، ما الفرق؟ سوف ترون، سوف أُعلِّق على المسألة هذه وسوف نرى ما مزية الاعتقاد الإسلامي، وطبعاً هنا لست مُتبجِّحاً ولست مُخاطِراً بفكري، هل تعرفون لماذا؟ أنا لا أتكلَّم عن موقف شخصي، بالعكس! أنا أتكلَّم باسم كتاب إلهي، هو الذي يُعطينا هذا الموقف، أنا لا أنتصر لهذه العقيدة، أنا أعرضها وأنا مُؤمِن بها تماماً، وهي الأنقى وبعون الله الأبقى والأخلد، هذه العقيدة الكل لابد وأن ينتهي إليها، فقط هذا هو! وفيها مزية اقتصادية، هذه العقيدة الإسلامية فيها مزية اقتصادية – هذه تُعجِب الدكتور كمال – لأنها ستُوفِّر على الناس في الاقتصاد، سوف تُوفِّر على الناس مجهودات وسلوك طرق مُتشعِّبة قد لا تُوصِل وقد يهلك الإنسان قبل أن يصل، ففيها مزية اقتصادية إن جاز التعبير.

نرجع، رب الأسرة إذن هي المرحلة الثانية، المرحلة الثانية! في المرحلة الثالثة يختلف الأمر، فسميث Smith – مثلاً – في كتابه يرى أن المرحلة الثالثة مرحلة الاعتزال، يُمكِن أن أُسميها الغابية، يُوجَد جُزء من الأوبنشاد Upanishad – طبعاً بعض الناس يقولونها بالإنجليزية يوبنشاد، لا تُوجَد مُشكِلة في هذا – يُسمونه الغابيات، هناك تراتيل وترانيم دينية اسمها الغابيات، تتحدَّث عن التراتيل والتعوذات والأدعية الخاصة بهؤلاء النُسّاك الذين اعتزلوا المُجتمَع والأسرة في الغابة، ولذلك يُسمونها الغابيات، نسبة إلى الغابة! هذا الأرجح، آخرون يقولون لا، مَن هؤلاء؟ منهم نهرو Nehru نفسه، نهرو Nehru – تخيَّل – قال لا، المرحلة الثالثة ليست المرحلة الغابية، هذه غير موجودة! لم يذكرها بالمرة أصلاً هو، دمجها في الرابعة، ولذلك قلت لك أنت تستغرب من وجود تناقضات، هناك أشياء غير واضحة إلى الآن في الفكر الهندوسي، المعرفة به قريبة وهو هائل الاتساع والتنوع، من الصعب أن تضبطه في قوالب دقيقة جداً، صعب جداً جداً! وبالمُناسَبة احذر من الموسوعات الأجنبية، فيها غرور الأجانب، تُحاوِل أن تُعطيك انطباعاً خاطئاً، عندي موسوعة ألمانية تتحدَّث عن الهندوسية بطريقة – ما شاء الله – مُفصَّلة بالملليمتر، متى نشأ هذا ومتى انتهى هذا ومتى كذا وكذا، وكل هذا كلام فارغ، مُضلِّل إلى أحد ليس بعيداً بل أبعد من بعيد، لا يُوجَد خبير في هذه الأشياء يقولها، لا أحد! صعب جداً جداً أن تقول هذا، لكن هذا غرور عندهم، الغربيون عندهم شغف غير طبيعي للاستحواذ، عقلية استحواذية! يُريد الواحد منهم أن يستحوذ على كل شيئ ومن الصعب أن يترك مجالاً مفتوحاً، يقول لا! خاصة إذا كان يخص الغير، يقول نحن نعرف أحسن منه وسوف نُعلِّمه.

هذا الكتاب العظيم – أرقى كتاب قرأته عن الفكر الهندوسي، وهو كتاب للعارف الكبير رينيه جينو René Guénon الذي حدَّثتكم عنه، أي عبد الواحد يحيى – اسمه النظريات التراثية والهندوسية بوجه خاص، عجيب! كتاب عجيب، طبعاً رينيه جينو René Guénon كان تقريباً رقم واحد في الغرب الذي عرَّف الغرب بالتراث الهندوسي على وجهه لأول مرة، والكتاب أُهجية مُتفاوِتة الشدة والنظرات من أوله إلى آخره للموقف الغربي المُتغطرِس المُتعنجِه، كل الكتاب من أوله إلى آخره! بين الحين والآخر يهتبل كل فرصة لكي يقول أرأيتم إلى أي درجة هم جهلة؟ ومع ذلك يدّعون العلم، لا تسمعوا إليهم، هم كذّابون ولا يفهمون شيئاً، كبار الغربيين مثل جونز Johns وماكس مولر Max Müller وغيرهما، هؤلاء أُناس يدّعون العلم، قال هؤلاء لا يفهمون شيئاً، هؤلاء كذبة لا يفهمون شيئاً، وقال في النهاية الكتاب هذا ليس كتاباً تعليمياً وليس كتاباً أكاديمياً مدرسياً لكي أُعلِّمك وأُعرِّفك بالهندوسية ومتى نشأت وما كُتبها وما إلى ذلك، لا! هو ليس تعليماً، وفعلاً هو ليس تعليمياً وقد استمتعت بقرائته، هذا الكتاب عنده هدف واحد، يُريد أن يُعلِّمك من أي مدخل وبأي ذوق تقرأ الهندوسية، فقط هذا هو! حتى لا تقع ضحية الغرور الغربي والعُنجهية، يقولون نحن نعرف كل شيئ، نحن أحطنا بكل شيئ، وكل شيئ قولبناه في قالب علمي وأكاديمي مدرسي أيضاً، كلام فارغ قال، هذا كلام فارغ! وأتى بأدلة كثيرة جداً جداً على جهلهم وغرورهم، فهذه أُهجية صعبة وصلدة ضد هؤلاء المُستشرِقين، هو سماهم بالمُستشرِقين طبعاً، المُستشرِق ليس قارئاً للإسلاميات فقط، فهناك الهنديات أيضاً، الاستشراق الهندي هذا كبير جداً جداً، وكذلك الحال مع الصيني أيضاً.

المُهِم هناك تفاوتات، نهرو Nehru قال المرحلة الثالثة مرحلة الخدمة العامة، أي المُواطِن الصالح، ليس الرجل الصالح وإنما المُواطِن الصالح، سيمث Smith وغيره قالوا لا، وأكثرهم حقيقةً قالوا هذا، عجيب! أكثرهم لم يقولوا كنهرو Nehru، قالوا لا، المرحلة الثالثة فعلاً مرحلة الانسحاب من الحياة الأسرية، وطبعاً من باب أولى من الحياة الاجتماعية، الذي ينسحب من أسرته ينسحب من الحياة الاجتماعية، ينسحب من الحياة الأسرية إلى الغابة.

الآن جاء وقت التخصص، ما معنى جاء وقت التخصص؟ نحن قلنا هناك خمس وعشرين وسنة سيُضاف إليها ثنتي عشرة سنة، إذن حوالي خمس وثلاثين أو سبع وثلاثين سنة، أي تقريباً في مُنتصَف الحياة، قالوا جاء وقت التخصص، كل ما سمعته، كل ما تعلَّمته، وكل ما حذقته من معارف عرفانية – كل هذا – يمس القشور، ويدور في المدار البعيد، ليس في المدار المركزي القريب، عليك الآن أن تتخصَّص، أول شرط لهذا التخصص العُزلة، تبتعد عن الطاحونة الاجتماعية هذه، في العُزلة لا ينظر الإنسان إلى أضواء القرية كما يقول المثل الأمريكي، بل ينظر إلى ما وراء النجوم، العُزلة تُعطيك فرصة لأن تُفكِّر في الأشياء الحقيقية.

طالما أنت مُنخرِط في المُجتمَع ستُفكِّر – كما قلنا – في الطبيخ والنفيخ والمرأة زعلت وهذا زعل وهذا قال لي وهذا اغتابني ومديري ورئيسي ومرؤوسي وما إلى ذلك، أشياء تافهة! أكثر ما ستندم عليها حين تموت، سوف تقول يا للخسارة لأنني أضعت حياتي في أشياء تافهة، هذه أشياء تافهة! هناك مُدراء مساكين وهُبل على هذا النحو، تجد مُديراً فوق الستين يقول كل يوم نفس القصة في المكتب ومع زوجته، يقول ابن كذا وكذا جنَّنني، لا يهتم بالدوام ولا يُوجَد انضباط ويعمل كذا وكذا، كل يوم نفس الأُهجية! ما هذا؟ أين أنت؟ أين أنت يا بابا؟ هل أنت مخلوق لكي تتحكَّم في هذا المسكين الذي عندك؟ هل هذه قصتك فقط؟ هل هذا هدف حياتك ولذا تسبه دائماً؟ ما هذا الأهبل؟ أهبل! عنده دكتوراة من كامبردج Cambridge لكنه لا يفهم رأسه من رجليه، هنا ترى جلال الهنود، ولذلك الهند تختلف، مَن الذي عبَّر عن هذا؟ ويل ديورانت Will Durant في قصة الحضارة قال هذه القارة – هي شبه جزيرة أو قارة – حظيت بأكثر من حظها من أولئك الرجال الذين وكدهم واهتمامهم ليس المشاغل المُبتذَلة التافهة لنا بل معرفة الأسرار الكُبرى للوجود والحياة، قال هذا أكثر من اللازم عندهم، وهذا صحيح فعلاً، هؤلاء الناس عندهم هذا بشكل كبير، لذلك لا يملك الإنسان إلا أن يحترم هذه الأمة ويحترم هذه القارة، ليست شيئاً عادياً بالمُناسِبة، شيئ غير عادي! علماً بأن الغرب الآن – لا أعرف كيف أقول لك هذا – يشعر بالصدمة وبشيئ من العار – Shame – لأنهم كانوا يجهلون هؤلاء الناس، اتضح أن هؤلاء ليسوا كما ظنوا، أين هذا يا بابا؟ قال نحن كنا نظن أننا استعمرناها – بريطانيا – واتضح أنهم أحكم منا وأذكى منا، هذه شخصيات غير عادية!

غينون Guénon هنا لاحظ ربما في ثلاثة مواضع من كتابه – هذا الكتاب قرأته من فترة قريبة جداً – أن الشرقيين عندهم هذا المزاج، أن يتركوا الغربي بتعالٍ، تعالٍ منهم! لأنهم يرون أن لا فائدة فيه ولا أمل منه، ميؤوس الشفاء الغربي هذا، وصحيح هو مغرور، عنده غطرسة غير عادية الغربي هذا، فيتركونه! قال لكي يعيش ويتشرنق في غروره ويتعايش مع فكرة أنه أحسن منهم وأرقى منهم، فهم سُذج لا يفهمون شيئاً، وفي الحقيقة هم الذين خدعوه، قالوا اتركوه، هذا أجهل منا ولن يقدر على أن يفهمنا، اتركوه! فهو لا يتكلَّم معك، تُحدِّثه عن نفسك وما إلى ذلك فيقول لك هذا مضبوط دون نقاش، أي أن الهنود يُكبِّرون عقلهم، وكذلك الحال مع الصينيين، يقولون اتركوا هذا الغربي الذي لا يفهم رأسه من رجليه! وبالمُناسَبة لم يُصابوا بعُقدة كالتي أُصيب بها العرب، لا! إلى الآن هذا لم يحصل، انظر حتى إلى الزي، تجد الواحد منهم أصبح رئيساً للوزراء ومع ذلك يرتدي الزي الخاص بهم، أليس كذلك؟ سواء الباكستاني أو الهندي، عادي! والصين تعتز بتراثها أيضاً، نفس الشيئ! وهناك استمرارية طبعاً، للأسف العالم الإسلامي فقدها ليس إلى حد بعيد بل أبعد من بعيد، تاريخ الصين مُختِلف.

طبعاً الدرس القادم لن يكون عن البوذية لكي نقوم بعمل تنويع حتى لا تملوا، سوف انتقل من الهند إلى الصين، علماً بأنه عالم مُختلِف إلى حد بعيد عن الهند، لكن هناك قسمات قليلة مُشترَكة، أكبر قسمة مُشترَكة بين الهند وبين الصين الاستمرارية والدوامية! اليوم تقدر على أن تضع يدك في أي مكان في الصين لكي تقول هذه الحضارة الصينية وأنا أمسكها بيدي، موجودة ومُستمِرة بتقاليدها وعاداتها، شيئ غريب! الهند على نفس النحو وبل وأكثر قليلاً، هذا موجود! هناك دوامية أذهلت العلماء، كيف؟ كيف احتفظوا بحضارتهم وتقاليدهم الروحية إلى هذه الدرجة وبهذه الحيوية إلى اليوم؟ لم يحصل انكسار حقيقي، هذا غير موجود! لكن العالم الإسلامي ليس كذلك للأسف، صُدِمنا صدمة مُروِّعة وغير عادية، أعتقد أكبر سبب لهذا الاستبداد السياسي في بلادنا الذي خلق النفاق لدى العلماء وخلق الانسحاب لدى المُتروحِنين، انسحبوا من المُجتمَع بالكامل، مثل هؤلاء الصوفية ومَن مثلهم، وهذا الانسحاب طبعاً تميَّز بعد ذلك إلى مذاهب وما إلى ذلك، فالمُجتمَع اختلت تركيبته بالكامل، وفُقِدَ الإنسان السوي، في العالم الإسلامي أين هو الإنسان السوي؟ الطاغية لا يكون إنساناً سوياً أبداً، والذي يرضى بأن يكون عبداً يُذبَح كل يوم لا يكون أبداً إنساناً سوياً، أليس كذلك؟ لذلك بصراحة الحالة العادية التي صارت عندنا هي حالة التلون والوجهنة، بوجهين ليكون عند الله وجيهاً، كل واحد فينا بأربعين وجهاً، وأنا لاحظت هذا وقلته من قبل، ما السر في أن تجد إنساناً مُحترَماً أمامك – قد يكون طبيباً أو مُهندِساً أو شيخاً أو إنساناً مُتعلِّماً وما إلى ذلك، وقد يكون رجل أعمال ناجح – يُعطيك وجهاً ويُعطيك وعوداً وكلمات – إنسان مُحترَم هذا يا أخي وليس طفلاً صغيراً – ثم يرجع ويلتقي بآخر فيُعطيه عكس ما أعطاك تماماً ويبيعك له؟ هذا لضعف الشخصية، الهشاشة القيمية التي عندنا، الهشاشة الروحية، وعدم النضج النفسي بالكامل! ترى شخصاً عنده شنبات وما إلى ذلك ويحمل دكتوراة وهو رجل أعمال كبير واعٍ أو طبيب أو شيخ بلحية لكنه على هذا النحو، كلام فارغ! هذا المسكين ليس عنده هذا، شخصية غير سوية! الشخصية السوية عندها نوع من الثبات والدوامية، أليس كذلك؟ هذا رأيي وهذا موقفي، أعجبك أو لم يعجبك أنت حر، أعجبكم أو لم يُعجِبكم أنتم أحرار، هو هذا ولن أُغيِّره، سوف أُغيِّره فقط حين أقتنع، أنا شخص أحترم نفسي – مثلاً – ولابد أن نكون جميعاً كذلك، لكنك لا تجد هذا، تجد مَن يقول هذا مضبوط ووالله كلامك صحيح، فتُجَن وتقول ما هذا؟ ثم يبدأ يتكلَّم بعكس هذا، هل يجب على كل الناس أن يكونوا هكذا؟ هذا المسكين ليس إنساناً بهذه الطريقة، هذا شخص ضائع وتائه! ليس عندنا دوامية، أنا أقول السبب الرئيس في هذا السبب هو الاستبداد السياسي الذي أرعب الناس وجعل هؤلاء المساكين مُنافِقين وكذّابين وبخمسين وجهاً رُغماً عنهم، أو هم ليسوا مساكين بصراحة، لا! إلى حد بعيد هذا رُغماً عنهم لكن عندهم خيار وينبغي ألا يُضيَّع، أما الشعوب هذه فليست كذلك، عندها الاستمرارية الحضارية، وهذا إلى اليوم يا جماعة.

نرجع، اللهم صل على سيدنا محمد، إذن المرحلة الثالثة مرحلة التخصص، وهذا السياق – سياق أن الشرقي يترك الغربي يفرح بنفسه ويتشرنق في غروره وما إلى ذلك – يُذكِّرني بالحوار الذي جرى بين ألبرت أينشتاين Albert Einstein وبين طاغور Tagore – الشاعر الهندي العظيم روبندرونات طاغور Rabindranath Tagore – عن الموسيقى، لكن الجميل أن أينشتاين Einstein ذكر هذا، أنا قبل ستة أيام – وإن كنت أعرف هذا الحوار من مُدة وذكرته أيام مسجد الهداية – وقعت على مقالة كاملة لأينشتاين Einstein كتبها وذكر فيها هذا الحوار، هذه أمانة من ألبرت أينشتاين Albert Einstein حقيقةً، هذا تواضع العالم! فقال كنت أُناقِش طاغور Tagore عن الموسيقى، وعرضت له أن معرفتي بالموسيقى الشرقية تجعلني لا أكون مُعجَباً من هذه الموسيقى، أين هي من عمق الروح في الموسيقى الغربية؟ أين كذا وكذا؟ قال فالشاعر الكبير ضحك ثم قال هذا مرضكم، ترون أنفسكم على أنكم مركز الكون ومركز العالم ومركز الأذواق، وكل شيئ تُحاوِلون أن تُطابِقوه مع مركزهم هذا، لستم كذلك! مُشكِلتكم تمثل في الغرور القاتل، وأنتم أقل بكثير مما تظنون، هذا صحيح طبعاً! رجل مثل طاغور Tagore بعقله وروحانيته العظيمة يختلف عن أي أحد، مَن هو؟ انظر حتى إلى أينشتاين Einstein، فهو قزم بالنسبة إليه، قزم! أنت تعرف بعض الرياضيات والفيزياء، ما الذي تفهمه؟ هؤلاء أُناس يفهمون أشياء بشكل غير طبيعي، وهذا الشيئ تشعر أنه سحق رينيه جينو René Guénon، أنا شعرت بأن الرجل المسكين كان مسحوقاً، كان مسحوقاً تحت تأثير الفكر الهندي وهو مُسلِم، فهذا الكتاب نُشِر تقريباً في سنة ألف وتسعمائة وأربع وعشرين، رينيه جينو René Guénon كان مُسلِماً! تقول أهذا مُسلِم ويكتب الكتاب هذا؟ وهذا حتى نظام الطبقات السيئ الذكر، وهذا الشيئ الوحيد الذي وجدت أنني مُختلِف حتى النهاية مع جينو Guénon – رحمة الله عليه – فيه، لأن جينو Guénon حاول أن يُبرِّره هنا، فشعرت أنه كالمسحوق، هل تعرفون لماذا؟ ليس مسحوقاً بضعف، هذا رجل عملاق، عقله عملاق بشكل غير طبيعي ونفسيته غير عادية، الرجل عنده نفسية عارف مُكاشَف، كان إنساناً استثنائياً رحمة الله عليه، لكنه شعر بأن هذه الميتافيزيقا – Metaphysics – الشرقية بالذات والهندية بشكل خاص غير عادية، هي لُب المعرفة الحقة، ومَن لم يصل لها لا يفهم أي شيئ، سواء كان مُسلِماً أو مسيحياً أو يهودياً، وهي نوع من المعرفة الكُلية التي لا يُمكِن أن تتأطَّر في شيئ أصغر منها، ولا يُمكِن أن يكون غيرها مرجعاً لها، وهي لا تقبل التقسيم، شيئ عجيب! مُذهِلة هي، وطبعاً هو فهمها وقال هذا، لا يُعبِّر عنها أيضاً بالكلام، هذا صعب جداً، لا تستطيع! لها منطقها الخاص، وهذه الهند تُعلِّمها يا جماعة، لكن ليس في الكُتب، لا! تُعلِّمها كمنهج مُعيَّن وبعد ذلك أنت بنفسك تخبرها معيشياً، هو خبرها – أي جينو Guénon – فسحق، شعر بأن هذا عالم غير عادي! 

أنا عندي نُقطة هنا تُعَد كسباً للإسلام غير عادي، وهي كسب لنا أيضاً لأنها ستُعطينا طمأنينة، نحن شخصيات صغيرة، لسنا كهؤلاء العمالقة، فهذا ليس عملاقاً كفيلسوف، هو عملاق كعارف، كنفس غريبة، نفس صافية لا تقبل الخطأ ولا تقبل الوثنية ولا تقبل الإلحاد، شيئ غير عادي! المكسب الذي لنا يكمن في أن هذا الرجل انتقل إلى الإسلام بعد هذه المعرفة وبقيَ عليه ومات وهو مُسلِم في مصر، هذا يعني أن الإسلام فيه شيئ أعمق مما نتخيَّل يا جماعة، الطرح الإلهي – نحن حين نقول الطرح القرآني نعني الطرح الإلهي – للمسائل يبدو أنه أعمق بكثير مما ذهب إليه أي مُفسِّر أو صوفي عادي مسكين، بكثير! لكننا لا نقدر على الوصول إليه، نحن مساكين، نُناوِش من مكان بعيد، نلعب ونتصابى ونتساخف، فهذا يُعطينا إيقاظات فقط.

إذن المرحلة الثالثة في المشهور هي مرحلة الاعتزال في الغابة للتخصص طلباً للمعرفة الحق، تخفف من كل شيئ الآن، تقريباً شبه استغناء عن كل حاجات الجسد، أياً كانت! لا يعمل – ممنوع أن يعمل – ولا يمتهن أي مهنة، يأكل ما تيسَّر في الغابة، إلى آخره! يأكل أي شيئ، يأكل الحشيش أو الحيوانات – إذا كان هذا مسموحاً في عُرفهم – أو أي شيئ، هذه مرحلة العُزلة.

آخر شيئ يأتي عندهم معرفة المُعتزِل بالحقيقة النهائية الكُلية التي بها تُشرِق وتستنير ساحة النفس أو الروح ويصل إلى هذه المعرفة النهائية الكُلية، وقلنا يُسمونه في هذه المرحلة ماذا؟ السنياسي، أي الــ Sannyasin بالإنجليزية! الــ Sannyasin تعني بالعربية السنياسي، هذا السنياسي هو المُستنير بالمعرفة الكُلية، تُعرِّفه المصادر الهندية بأنه الذي لا يُحِب شيئاً ولا يكره شيئاً، مثل بعض الصوفيين الكبار عندنا، صار في حالة لا يرضى ولا يسخط معها، إنما يرضى ما يُجريه، ما يفعله الله هو الخير، يُسلِّم نفسه بالكامل! يُسلِّم نفسه لله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأن صار عندهم نوع الآن من الاندماج، يُسمونه الاندماج بالكُلي، فحين يندمج الواحد منهم بالكُلي ينتهي كل شيئ، لا تُوجَد مسافة Abstand، لا تُوجَد مسافة – Abstand – لكي يحكم فيقول هذا جيد وهذا غير جيد أو هذا أُريده وهذا لا أُريده، انتهى! وخاصة فوق نظرية الهنود في الخلق والكون وطبيعة علاقة الله بكونه، اليوم سوف نعرض لها عرضاً آخر أيضاً من منظور جديد، منظور الثنائي واللاثنائي، يهمنا هذا!

هذا تقريباً اختصار سريع لموضوع المراحل الأربعة، في هذه المرحلة الرابعة الأخيرة يا إخواني أبعد ما يكون هذا السنياسي الذي غدا لا يُحِب شيئاً ولا يكره شيئاً ولا يطلب شيئاً ولا يفتقد شيئاً عن الفردية، عنده راحة عجيبة وراحة مُطلَقة، لا يهمه شيئ، سواء عمرت أو خبرت أو حُرِقَت أو قامت لا يهمه أي شيئ أبداً، لكن هل يبقى مُعتزِلاً في الغابة؟ لا، هو الآن حر أن يبقى في الغابة أو يعود بين مُجتمَعه، أينما أراد يذهب، لأن الآن يُوجَد تحرر كامل، أي أنه بلغ مرحلة التحرر هذه، طبعاً بلغها! ما اسمها مرحلة التكرر؟ الموكتي Mukti، الانطلاق يُسمونها أو التحرر، الموكتي Mukti! أي مرحلة الموكتي Mukti التي شرحناها، والموكتي Mukti هذه هدف ماذا؟ هدف كل اليوجات Yogas، حين تكلَّمنا عن اليوجا Yoga قلنا كل اليوجات Yogas الأربعة هذه ما هدفها؟ تُوصِّل السالك أو المُريد إلى الموكتي Mukti، يتحرَّر من كل الحدود ويمخر عُباب اللانهائي، ألم نقل هذا نحن؟ وجود لانهائي، معرفة لانهائية، سعادة لانهائية، هذا الموكتي Mukti، هذا السنياسي وصل إلى الموكتي Mukti، وهو أبعد ما يكون عن الفردية.

يُعلِّق ويل ديورانت Will Durant في قصة الحضارة عن الشرق الهندي قائلاً مثل هذه الأفكار بالذات ما كان للغرب أن يقبلها، مُستحيل! قال نحن من المُستحيل أن نقبل هذه الأفكار، قال نحن فكرنا كله يقوم على الفردية، جون ديوي John Dewey المُلحِد المُتعلِّق بالبراجماتية – هذا الأمريكي كان مُلحِداً طبعاً – عنده كتاب فلسفي قرأته اسمه الفردية، هم يُقدِّسون الفردية هذه، هي فلسفة حياتهم، وبالمُناسَبة هي فلسفة مكذوبة عملياً، أين فردية هذا الغربي المسكين؟ في أضيق النُطق، أُقسِم بالله! في أضيق النُطق البهيمية، ما تُريده أن تفعله في جسمك الشخصي افعله، في غير هذا – في الثقافة أو في السياسة أو في الأدب أو في الأخلاق العامة وما إلى ذلك – ليس لك أي شيئ، أُقسِم بالله! وهذا حتى في العمل، يعمل الواحد منهم كالدابة، كحمار الساقية على مدار الأربع والعشرين ساعة، المسكين يعمل من الصباح إلى الساعة الثامنة ليلاً، ليس عنده أي شيئ! وحتى ماله ليس عنده أي نوع من الاستقلالية في التصرف فيه، هلكه الإعلام، إعلام التسوق – Shopping – وما إلى ذلك، فالمسكين غير قادر! غير قادر على التقاط نفسه لكي يعرف ماذا يفعل في ماله، يضحكون عليه ويبتزونه، ثم يتحدَّثون عن الفردية ويقولون له أنت عندك استقلال، كيف؟ لا يُوجَد استقلال، أي استقلال هذا؟ لكنهم يضحكون عليهم!

فديورانت Durant قال لا، نحن هذه الأفكار بالذات لا نقبلها، نحن أصحاب فلسفة الفردية، الغرب ما كان له أن يقبل هذا مُطلَقاً، لكنه قال مَن الذي يقول هذا؟ مَن الذي يقول الكلام هذا؟ يأتينا رجل مثل شوبنهاور Schopenhauer في النهاية ينعى الفردية لأنه تأثَّر بالأوبنشاد Upanishad، قرأها وتأثَّر بها، سحقته! وهو الذي قال أعظم ما قرأت وأعظم ما يهدي إلى السلوك النبيل المثالي الأوبنشاد Upanishad، قال لقد كانت سلوى حياتي، وبعد مماتي ستكون سلوتي، الأوبنشاد Upanishad قال! لا يُوجَد غيرها قال، أعظم شيئ قرأته في حياته! هذا شوبنهاور Schopenhauer طبعاً، وهو مِن أكبر مَن عرَّف الغرب هنا ما الأوبنشاد Upanishad، شوبنهاور Schopenhauer تعقَّد بعد أن قرأ الترجمات وقرأ أجزاء من الأوبنشاد Upanishad وليس كلها.

بعد ذلك هناك رالف والدو إيمرسون Ralph Waldo Emerson، رالف والدو إيمرسون Ralph Waldo Emerson هذا زعيم الفردية، شخص مُصلِح طبعاً ومُفكِّر وفيلسوف أمريكي عظيم، صاحب المقالات، يُنهي حياته بنعي الفردية، تأثراً بالفكر الهندوسي، قرأ فانسحق أيضاً تحته، وهذا يعني أن هذا الفكر مُخيف، خطير وليس سهلاً، لذلك أنا أشعر أحياناً طبعاً بالرثاء حين أقرأ صفحات – أربعين أو خمسين صفحة – لكُتّاب عرب بُسطاء جداً جداً جداً، لم يفهموا شيئاً في الهندوسية حقيقة، لم يفهموا شيئاً أبداً، ترجموا مشروعات وكُتباً تعليمية في ثلاثين صفحة، في صفحات يسيرة يتحدَّث الواحد منهم ويُبسِّط هذه الفلسفة أو هذه الديانة، هل الهندوسية ديانة أم فلسفة؟ أيضاً هذا مشروع إشكالي، بالنسبة إلى جينو Guénon – وهذا رأيه ولابد أن يُحترَم في أي شيئ لأنه ليس سهلاً – قال لا هي فلسفة ولا هي دين، الهندوسية شيئ آخر، ليست فلسفة – قال – وليست ديناً، وطبعاً هنا برهن برهاناً غير عادي، أتى إلى موضوعة الدين، ما هو تعريف الدين؟ قال، وناقش كل التعريفات الشهيرة للدين، أبطلها بضربات سريعة جداً وسحاقة، وقلت لكم قبل ذلك ما قيل عنه بشأن أن هذا الرجل حُجته لا تُنقَض، رينيه جينو René Guénon – قال – من الصعب أن تُناقِشه، عقل غير عادي! قال حُجته غير قابلة للنقض، فظيع الرجل هذا، غير طبيعي! لأنه إنسان فعلاً عنده مصداقية، ما شاء الله! فهو قال لا هي فلسفة ولا هي دين، إذن هي ماذا؟ لم يُعرِّفها، لكن طبعاً واضح من كتابه هذا كلها أنها ميتافيزيقا Metaphysics، ميتافيزيقا – Metaphysics – كاملة كُلية، ورينيه جينو René Guénon مُقتنِع بها بالتمام والكمال، مُقتنِع بها بشكل غير عادي، ويُوجَد – كما قلنا – أشياء يُمكِن أن نُعلِّق عليها فيما بعد.

فهذا السنياسي إذن يا جماعة أبعد ما يكون من الفردية، إيمرسون Emerson ختم حياته – كما قلنا – بنعي الفردية للأسف، نعاها وهجاها! وهذا أقض مضجع الذين يُقدِّسونها على حد تعبير ديورانت Durant في نقله لهذا النعي، فالسنياسي هذا أبعد ما يكون عن الفردية، وذكرت لكم مرة – أعتقد في خُطبة أو في درس – أن السنياسي يصل إلى درجة فعلاً ينسى هويته الأولى معها، حقيقةً ينسى! تسأله ما اسمك؟ فيقول لك لا أعرف اسمي، أنا سنياسي فقط، تقول له اسمك ما هو؟ فيقول لك لا أعرف، تقول له أبوك مَن؟ أمك مَن؟ وأين هما؟ فيقول لا أعرف، نسيَ! هو عاش حياة أُخرى كأنه وُلِد ولادة أُخرى فعلاً جديدة، نسيَ كل شيئ، أي شيئ تسأله عنه لا يعرفه، بعضهم كانوا أطباءً كباراً، بعضهم كانوا مُحاميين، بعضهم كانوا وزراء، ثم أصبح الواحد منهم سنياسي ونسيَ كل هذا، ولذلك يقول هوستن سميث Huston Smith أمر أكثر من مُروِّع هذا، غير عادي! قال بضربة واحدة – تصوَّر هذا القرار – تُكنَس كل النياشين والأوسمة والألقاب التي يُزخرِف بها الإنسان شخصيته، كلها كُنسِت! صار مُجرَّد عارف مُستظهِر المعرفة الحقيقية وفقط! لا يهمه لا مال ولا علم ولا شهادات ولا منصب ولا أبوه ولا أمه ولا قريته ولا ناسه، لا يهمه أي شيئ، مسألة خطيرة جداً هذه، ما هذا؟ وطبعاً شيئ مُروِّع هذا، نحن لم نُجرِّبه ولم نر أُناساً جرَّبوه، لكن في الهند يُوجَد الكثير على هذا النحو، الكثير! مَن هؤلاء الناس؟ مَن هذا الشعب يا أخي؟ هذا يعني أن هذا الشعب عاشق للحقيقة، أليس كذلك؟ فعلاً والله العظيم، هذا يعني أن هناك شيئاً في الروح الداخلية لهذا الشعب، لِمَ لا يكون هذا الشعب هو أصل الشعوب البشرية كلها؟ هذا الاحتمال أطرحه الآن لأول مرة، لِمَ؟ قديماً كانوا يظنون أن حضارته مُتأخِّرة قليلاً، أليس كذلك؟ بعد ذلك جاء السير جون مارشال Sir John Marshall الذي كان مسؤولاً عن الهنديات لحوالي عشر سنوات في المعهد المشهور – المُهِم أن جون مارشال John Marshall هذا مشهور – واكتشف طبقات – خمس طبقات – تحت الأرض، حضارة كاملة هندية كاملة عجيبة جداً جداً في تنظيمها، هناك قنوات للري وقنوات للصرف في المُدن وفي البيوت – قال – وفي الشوارع، حضارة من أرقى ما يكون! ولا تُقارَن بها حضارات أُخرى كثيرة في ذلك الوقت، تخيَّل! 

أيام عمل خوفو Cheops الهرم الأكبر الخاص به كانت هذه الحضارة في ذروتها، واستمرت إلى كم هذه الحضارة؟ حياتها كم؟ ثلاثة آلاف خمسة، وتخيَّلوا أن هذا كله كان مجهولاً، إلى قبل ألف وتسعمائة وأربع وعشرين لم يكن أحد يعرف عن هذا شيئاً، فجأة اكتشفوا هذا! بعد ذلك بدأ علماء الأركيولوجيا – Archaeology – يقولون لو نحن نبشنا فعلاً ونكتنا أرض الهند كما نبشنا ونكتنا أرض مصر الله أعلم ما الذي سيخرج لنا من الهند هذه، لأن هذه قارة كبيرة، قد بريطانيا أربعين مرة، تخيَّل! قد بريطانيا أربعين مرة وهي ثلاثة أرباع أمريكا، لا أعني طبعاً الولايات المُتحِدة الأمريكية وإنما القارة الأمريكية، فهذه إلى الآن لم نفعل فيها شيئاً، من المُؤكَّد أن هذه أرض تحتضن أسرار مُحيِّرة كثيرة جداً جداً، وربما لا يزال فيها الكثير من الحضارات، نحن لا نعرف! سوف نرى، فربما تكون هذه مهد الإنسان، روح الإنسان الحقيقية التي نزل بها من العالم العُلوي موجودة في هذا الأرض، لأن يُوجَد عشق غير طبيعي، وهذا غير موجود عند المُسلِمين أو عند اليهود أو عند المسيحيين، عشق بشكل غير طبيعي وبأعداد غير طبيعية كما قلنا، أي أكثر من حظهم الطبيعي، لماذا؟ ما السر في أن هؤلاء الناس عندهم عشرات الألوف من هؤلاء العارفين؟ يتخلى الواحد منهم عن حياته كلها بضربة واحدة لأنه يُريد أن يعرف السر ويُريد أن يعيش مع السر ويُريد أن يندمج فيه، مَن هذه الناس؟ وكيف يقدر الواحد منهم على فعل هذا؟ قد أجد مُسلِماً في النهاية – سر ماذا؟ – يتخلى عن ربه وعن دينه من أجل ألف يورو، اسكت يا رجل! وقد يحلف الأيمان الكاذبة، شيئ يُجنِّن، أين هذه المُستويات؟ شيئ مُحزِن، أين نحن؟ نظن أننا أفضل، لا! إلا أن نعود إلى ديننا الحقيقي كما أراده الله، وإلا نحن لسنا هناك بالمرة، اتضح أننا جهلة، ليس عندنا هذا! هناك مَن يبيع، على التلفزيون Television يبيع نفسه للرئيس أو للملك، يبيع نفسه! وهو مُفتٍ كبير وشيخ وصل عمره إلى السبعين، يبيع نفسه ويُنافِق! ما هذا؟ ما الأمة الفقيرة هذه؟ نحن روحياً فقراء، نحن صفر على الشمال، صفر!

أنت تنظر حتى إلى التصوف الهندي وإلى العلماء المُسلِمين الهنود وتجد أنهم غريبون يا أخي، والله العظيم! أنا أعشقهم، والحمد لله أُجمِّع عنهم مراجع من عشرين سنة، أعشقهم من يوم تعرفت عليهم وعلى تراثهم، وفي مكتبتي – بفضل الله – عندي كُتب حتى مطبوعة في الهند، طبعات هندية وباكستانية لا تجدها عند العلماء العاديين، لا يعرفونها! لأنني أعشق هؤلاء الناس، وحين تقرأ كتاب نُزهة الخواطر للعلامة الندوي تُدهَش، أبو مولانا فخر الدين طبعاً، أبو الحسن الندوي أبوه اسمه عبد الحي الندوي وهو علّامة كبير، علّامة ومُؤرِّخ، عالم في الحديث، شيئ غير طبيعي، الكتاب هذا كله عن تاريخ علماء وصُلّاح الهند، تقرأ قصصاً عجيباً، ليس لها نظير عند العلماء المُسلِمين الآخرين، أُقسِم بالله تعشق هؤلاء الناس وتعشق كُتبهم، لكن هذه الهند وهذه طبيعة الهند!

حدَّثتكم مرة عن أحد هؤلاء العلماء الذي كان يعيش على ما أعتقد في ولاية بنجاب، أي في أرض الأنهار الخمسة، كان يعيش هناك وجاء الملك على أساس أن هذا الرجل صالح وقال له مولانا أنا أريد فقط أتشرَّف بأن أُهديك شيئاً فتفضَّل بقبوله، والهند بالمُناسَبة الأرض الوحيدة التي عندهم مئات القصص عن تقبيل الملوك – ملوكهم – لأيدي وأقدام العلماء، ينزل الملك ويُقبِّل قدم العالم، عندهم هذا! لأن الهند نفسها هكذا، كما قال نهرو Nehru تُقدِّس العلم والعرفان، الدرجة الأولى للعالم والعارف، ليس الملك وليس السياسي، العالم! الإسلام الهندي هكذا، إلى اليوم تُوجَد قصص كثيرة جداً، يقولون نزل الملك المغولي وقبَّل كذا وكذا، غير عادي! لكن هذا موجود، وحدَّثتكم مرة بقصة عن ملك مغولي، وهذه حكاها مَن؟ ابن بطوطة، هو وصل إلى هناك، طيَّب الله روحه، هذا الرجل – ما شاء الله عليه – وصل إلى هناك، قال رأيت شيئاً لم أر في حياتي طبعاً مثله، لا في الحجاز ولا في مصر ولا في المغرب العربي، مُستحيل أن يراه هناك، لكنه رآه في الهند، ماذا رأى؟ رأى طبعاً مسجداً يغص بآلاف الناس، كان مسجداً ضخماً جداً جداً ومهولاً، والسُلطان ظل واقفاً، هل أُقيمت الصلاة؟ لا، لم تُقَم الصلاة، حتى أتى الشيخ – شيخ من الصُلّاح – من آخر المسجد، وانتظروه إلى أن وصل فأقام الصلاة وصلى بالملك، وبعد ذلك الملك أخذه وقبَّل يديه، قال له يا ابن بطوطة حين تعود إلى بلدك قل لهم هذا، قل له أنا وجدت بلداً الملوك يخضعون فيها للصُلحاء والعُلماء، كانوا يُقبِّلون أيديهم وكانوا يأخذون حتى بالعصا على رأسهم، كانوا يُضرَبون، يأتي العالم ويأخذ العصا ثم يضرب الملك أمام الناس، تخيَّل! شعب الروح هذا وهو شعب عظيم والإسلام سعيد فيه، وطبعاً نحن من خيبتا كعرب – ما شاء الله – وكمُسلِمين عموماً أننا نجهل تقريباً كل تاريخ الإسلام في الهند، وهو يُشكِّل على الأقل ثُلث التاريخ الإسلامي، ما رأيكم؟ ثلاثون في المائة من تاريخنا في الهند، حضارتنا وأدبنا وعلومنا وحديثا، الثُلث! هذا الثُلث لا نكاد نعرف عنه شيئاً.

المرحوم عليّ الطنطاوي – الأديب والعلّامة السوري الكبير – حين ذهب إلى الهند انصعق، انصعق ثم صار يصرخ، قال لا، نحن جهلة، يجب أن ندرس الهند وتاريخ الهند قال، قال ثُلث تاريخنا هناك، لكننا لا نعرف شيئاً عنهم، أُناس رائعون جداً جداً، تخيَّلوا! أكثر من رائعين لكننا لا نعرف عنهم شيئاً ونتشرنق على أنفسنا، فهم عندهم على ما يبدو – لا أعرف – هذا الاتجاه الروحي الغريب في هذا الشعب العظيم، هذا موجود! هل يكون هذا الشعب الأول؟ هل يكون مهد البشرية هناك؟ أنا – والله – لا أستبعد هذا، لكن هذا يحتاج إلى إثباتات علمية دقيقة ودراسات، ليس مُجرَّد كلام، والله أعلم.

نأتي الآن إلى الطبقات يا إخواني، هم يُسمونها الكاست Caste وهذا غريب، قد تقول لي كيف وهنا يُسمونها Die kaste؟ والــ der Geist im Kasten هي الروح الطبقية، والــ das Kastensystem هو النظام الطبقي، لأن هذه لُغة هندو أوروبية، أعني الألمانية! أليس كذلك؟ طبعاً، وهذه أيضاً لُغة سنسكريتية هندوأوروبية طبعاً، بالعكس! هم الآن حين يبحثون عن جذور الكلمات في اللُغات الهندوأوروبية يعودون إلى السنسكريتية، نفس الكلمات! بالألماني يقولون Atmen بمعنى يتنفس، أليس كذلك؟ والأتمان Atman كلمة هندية تعني النفس والروح، وهي طبعاً سنسكريتية، نفسها! فهذه يُسمونها الكاست Caste وهنا يُسمونها Kaste، الكاست Caste هي نظام الطبقات، حتى أبو الندوي هنا يُسميها الكاست Caste، هكذا! هي الكاست Caste، كلمة سنسكريتية تعني الطبقة، أي الــ Schicht بالألمانية أو الــ Class بالإنجليزية، هذا الكاست Caste، أي الطبقة أو نظام الطبقات، ما سر نظام الطبقات هذا؟ ما قصته؟ ما أصله؟ متى تنشأ؟ قضية خلافية كبيرة جداً جداً، لكن يُرجِّح أكثر الدارسين أن هذا النظام نشأ وبزغ مع الهجمة الآرية التي اختلفوا فيها، هل هي هجمة – أي فتوحات Conquests – أم هجرة؟ هناك أُناس لطَّفوا – وخاصة من الأوروبيين – وقالوا ليست هجمة، هي هجرة! يُحِبون أن يقولوا هذا، على كل حال هذه هجرات الآرية وقد تحدَّثنا عنها في الحلقة الأولى، وفيها ثلاث نظريات لكننا لن نعود إليها، فالذي حصل أن هؤلاء الآريين لاحظوا الفرق بين قاماتهم الممشوقة الطويلة وأنوفهم العالية وبين الآخرين، إلى اليوم حكاية الأنف العالي – كما يقولون – ظلت عند الشعوب، صورة الأنف العالي! يقول: كريمَة أحسابُهُمْ، شُمُّ الأنوفِ! الهند إلى اليوم تقول شُمُّ الأنوفِ، أوروبا نفس الشيئ، يتحدَّثون عن الأنف العالي، عندهم نفس الشيئ، هذه أسطورة من قديم من أيام الآريين، رأوا أن أنوفهم عالية وألوانهم فاتحة وقاماتهم طويلة وشعرهم سبط، حتى الهنود الآن إلى حدٍ ما طبعاً شعرهم هكذا، لكن هؤلاء ليسوا كذلك، فهم أقصر وغامقو الألوان وأنوفهم ليست عالية، فقالوا نحن أقلية، مُهاجِرون أو فاتحون! وهؤلاء أكثرية، ما شاء الله! الهند دائماً فيها تناسل، فإذا تركنا الأمور تجري وفق السنن الاجتماعي ذوبنا، يتم استيعابنا وتمثلنا في ظرف مائة سنة أو مائة وخمسين ومن ثم سوف نضيع بالكامل، وهذا صحيح طبعاً، كان يُمكِن أن يضيعوا، فلهذه الاعتبارات العملية قالوا لا، لابد أن نعمل نوعاً من التحديد، نحن وهم! نمنع التزاوج معهم، لا نأخذ منهم ولا نُعطيهم.

هذه كانت البداية الأولى يُقال لنشوء نظام الطبقات، مَن تسبَّب فيها؟ الآريون، المُهاجِرون أو الغُزاة، الله أعلم! يُوافِق على هذا مُعظَم المُؤرِّخين.

هل بدأ هذا النظام الطبقي بنفس الصيغة؟ لا، بدأ بصيغة مُختلِفة وظل يتحرَّك، مرن هو وحيوي! واختلفت أشكاله، فويل ديورانت Will Durant في قصة الحضارة يزعم أن في البداية كان أعلى الطبقات على الإطلاق المُحارِبون، المُحارِبون كانوا هم الأعلى، أي الكشاتريا Kshatriyas، الكشاتريا Kshatriyas هم المُحارِبون، وهؤلاء منهم طبعاً القادة والملك، الملك لا يكون من البراهمة Brahmins طبعاً، ممنوع! لأن البراهمة Brahmins بشكل عام ممنوع عليهم السُلطة الزمنية، من المُمكِن أن هذه المُلاحَظة هي التي جعلت فويل ديورانت Will Durant افترض هذا، افترض أن الكشاتريا Kshatriyas كانوا هم الطبقة رقم واحد وكانوا ينظرون باحتقار وبازدراء – وعنده طبعاً بعض الأدلة أو القرائن – لطبقة البراهمة Brahmins، وهم الروحانيون ورجال الدين، أي الكهنة والرائون المُستبصِرون، نظروا إليهم باحتقار! أتى ببعض الأبيات من الكُتب المُقدَّسة الفيداوية التي فعلاً تُؤكِّد – وخاصة في الأعياد والقرابين – أن الكشاتري كان المُهيمن أما البراهمي كان يُنظَر إليه باحتقار، أتى بهذا! هناك أدلة عليه بسيطة، لم تكن كثيرة، لكن الأمر مُمكِن، لماذا؟ بحسب ديورانت Durant طبعاً المُجتمَع في تلكم الحقبة من التاريخ كان يصطرع بحروب سواء داخلية وسواء مع الفاتحين، فطبعاً في مثل هذه الحالة لابد أن يكون القدح المُعلى للمُقاتِلين والجنود المُحارِبين، حين استقر المُجتمَع وغلب عليه السلم اختلف الوضع، في السلم الناس يُهرَعون أكثر إلى الكهنة والسحرة والشمانات، ويُريدون الدين، يُريدون ديناً طقوسياً ودين معابد واحتفالات وقرابين، أي أنه مُهيكَل بدقة، هنا بدأ الدين يأخذ دوراً أعظم، بدأ يتعاظم دوره فتقدَّم البراهمي وتأخَّر الكشاتري لكنه كان في المرتبة الثانية، لأن الجُندي – الكشاتري – والملك ومُدراء النواحي والمُحافَظات – إن جاز التعبير – الكُبرى وما إلى ذلك هم أيضاً من الكشاتريا Kshatriyas.

الطبقة الثالثة كانت طبقة الفيشيا Vaisyas، الفيشيا Vaisyas نقدر أن نقول هي طبقة المُنتِجين عموماً، طبقة المُنتِجين! لكننا نقصد المُنتِجين الاختصاصين المهرة، الزارع المُختَص وليس أي زارع، الفلّاح الشاطر، الصانع، التاجر، وأمثال هؤلاء! هؤلاء مُنتِجون، هؤلاء هم الفيشيا Vaisyas، الطبقة الثالثة!

الطبقة الرابعة – وهي الأقل والأدون لكنها داخلة ضمن النظام الطبقي أيضاً – هي طبقة الشودرا Sudras، الشودرا Sudras بمعنى الأعوان والخدم، بعض العرب يُترجِمونها إلى العبيد، وهذه ترجمة غير دقيقة حقيقة، مثل أحمد شلبي وغيره، غلط! لماذا؟ بالعكس الهند تفخر بأنها لم تعرف يوماً على مُستوى جماعي نظام الاستعباد، لم يعرفوا لا نظام الاستعباد ولا نظام حتى قنانة الأرض، ما رأيكم؟ وهذا شيئ جميل فعلاً، قنانة الأرض يعني ماذا؟ عبيد الأرض، ليسوا عبيداً كاملين، لكنهم تسعة أعشار عبيد، يشتغل المسكين الفقير منهم ثماني عشر ساعة في أرض سيده الإقطاعي – مثلاً – وفي النهاية يكون هذا بملء أرضه، ويُلهَب ظهره بالسوط، هذا كأنه عبد، ما هذا العبد؟ ما حالته هذه؟ هذه يُسمونها عبودية الأرض أو قنانة – عبيد – الأرض أو أقنان الأرض، لكن الهند لم تعرف هذا بفضل الله، غريب! رغم  أن عندها هذا النظام الطبقي لكنها لم تعرف هذا، لم تعرف نظام العبودية – الرق والاسترقاق – مثلما حدث عندنا، كأخذ الحريم وآلاف الأموال، إلا طبعاً في العهد الإسلامي مع ملوك المغول للأسف الشديد، هذه بثور في تاريخنا، هم يرفضون هذا، يقولون لا، لا يُوجَد عندنا الشيئ هذا، فترجمة الشودرا Sudras بالعبيد غالطة، هؤلاء ليسوا عبيداً، هؤلاء أعوان! أحسن ترجمة لها الأعوان، خدمة يُمكِن أن تُقدَّم، يخدمون بحسب وضعيتهم.

طبعاً هذا النظام بحسب ما يقول الكل – مثل نهرو Nehru ونحن رأينا ديورانت Durant ورأينا سميث Smith وغيرهم – هو نظام تاريخي وتطوَّر – كما قلنا – وتحرَّك، هو مرن! وهذا لكي يتواءم، نهرو Nehru ينظر إليه من زاوية مُعيَّنة ويرى أن فيه إيجابيات، قال هذا النظام لولاه لكان من المُمكِن أن تقع كوارث، يُحاوِل أن يُبرِّر! كيف؟ قال كانت العادات أن الغُزاة والفاتحين يعملون على استئصال الشعوب الأصلية، أي الــ Natives هؤلاء، وطبعاً هذا لكي يقدروا على الاستقرار، هم يُريدون أرضاً، يُريدون أرضاً بخيراتها بالكامل، أي مثل الاستعمار الإسرائيلي اليوم، استعمار إحلالي استيطاني وليس استعماراً إدارياً كالذي قامت به بريطانيا في الهند، لا! هذا مُختلِف، هذا الاستعمار الإداري يُريد المال ويُريد أن يُمرِّر صفقاته وشركاته، لكن الاستعمار الإحلالي الاستيطاني يُريد أن يذبحك وأن يأخذ أرضك، وهذا طبعاً بأموالها وبخيراتها وبكل شيئ، بسمنها وعسلها! هذا أسوأ أنواع الاستعمار، فهكذا كان الاستعمار القديم، ذبح! قال لكن هذا النظام منع من حصول مثل هذه الكوارث، انتهى! أنتم عيشوا ونحن سنعيش، لكننا سنتزايل وسنتمايز، نحن وحدنا وأنت وحدكم، ونحن لنا طبعاً في كل شيئ الحظ الأوفر والقسم الأعظم، قال هذا النظام بالطريقة هذه له ميزة، وهذا لا يعني أن نهرو Nehru يُؤيِّد هذا النظام، بالعكس! نهرو Nehru تكلَّم بلُغة مُرة وقاسية ومُباشِرة ضد نظام الطبقات هذا، وقال هذا يُعتبَر كالعار والفضيحة في حق الهند وفكر الهند وشعب الهند، نحن لا نُريد هذا، ولابد أن نتخلى عنه، لذلك – الحمد لله – نظام النبذ – النظام المُتعلِّق بالمنبوذين – انتهى طبعاً من الهند، بفضل الله انتهى! هذا الذي كتب عنه العلّامة التونسي عبد العزيز الثعالبي كتاب مسألة المنبوذين في الهند، عنده كتاب كامل ودارسة عنه، هذا غير إنساني بشكل كبير، غير إنساني وغير رحيم وغير أخلاقي لذا انتهى، لكن طبعاً نهرو Nehru أيضاً له رأي في النظام نفسه الرباعي، وهو ليس رباعياً وسوف نرى هذا، هو بالآلاف!

على كل حال – كما قلنا – الموقف الأسوأ – والآن سوف نُناقِشه – لجينو Guénon، كان يُبرِّره ويُبرِّره مبدئياً، وسوف نرى كيف كان هذا مبدئياً! طبعاً جاءت بعد ذلك الأسطورة لكي تُبرِّر هذا النظام، انتهى! في البداية هو كان تحت دواعٍ تاريخية، نشأ هذا النظام بتأثير دواعٍ تاريخية مفهومة، أي لأسباب مُعيَّنة ونحن عرضنا بعضها، لكن بعد ذلك اختلفوا الأمر، قالوا لا، هذا نظام إلهي، الله الذي فرضه والله أراده، وللأسف جينو Guénon اقتنع بهذا، قال لابد أن يكون الأمر هكذا، هذا الصحيح وغيره لا يصلح، فقالوا ماذا؟ الإله حين خلق خلق الناس من أنحاء مُختلِفة من جسمه، أستغفر الله العظيم! انظروا إلى الخُرافة السخيفة، قالوا فخلق البراهمة Brahmins – هذه الطبقة الكهنوتية – من فمه، ولذلك هم يُعبِّرون عن ماذا؟ عن الفكر والروح، الكلمة! في البدء كانت الكلمة، خلقهم من الفم واللسان، وخلق من أكتافه وصدره الكشاتريا Kshatriyas – من اليدين ما شاء الله، خلقهم من الكتف والعضل فضلاً عن الصدر – المُحارِبين، وخلق من فخذيه الفيشيا Vaisyas، أي طبقة المُنتِجين، ولذا لها علاقة بالتناسل، لأنها أتت من هنا، وخلق مما ينتب تحت القدمين – للأسف في أكثر الترجمات العربية يقولون من قدميه وهذا غلط، ليس مكتوباً من قدميه، لا! مكتوب مما ينبت تحت القدمين، أي أنه ليس جُزءاً منه – الشودرا Sudras، الحشيش – الــ Grass بالإنجليزية أو الــ Gras بالألمانية – الذي ينبت، هذا منه خلق الله ماذا؟ الشودرا Sudras، لا علينا من هذا، هذه المسألة لابد أن تُحفَظ كما هي، انتهى! هذه إرادة إلهية والمسألة عنصرية، ما معنى أنها عنصرية؟ هذا مخلوق من فم الإله ولذا هو أعلى شيئ، وهذا مخلوق من الفخذين، وهذا مخلوق من جزء غير إلهي، مخلوق من شيئ تحت القدمين، وطبعاً كل شيئ في نهاية المطاف عند الهندوس هو إلهي، لكن فرق بين أن يكون إلهياً بشكل مُباشِر وأن يكون إلهياً بشكل فيه توسيط، لأن حتى الحشيش طبعاً في النهاية فيه روح إلهية، وحدة الوجود! لكن هذه أسطورة وواضح أنها خُرافة لكي تُبرِّر هذا النظام القاسي اللاإنساني، وتُوجَد له مُخفِّفات كما قلنا، من مُخفِّفاته ما ذكرنا عند مراحل الحياة الأربعة، إذا شخص من الشودرا Sudras تروحن وخبر واكتسب الخبرة المعرفية المُمتازة فإنه يفرض احترامه على الجميع، حتى على البراهمي الذي ليس عنده مثل خبرته، وهذا أولاً وهو جيد.

ثانياً من المُخفِّفات التي قالوها أنه لم يحدث عندنا نظام استعبادي، هؤلاء يخدمون! وصحيح أنهم يخدمون، فهذا البراهمي لا يشتغل، هذا ممنوع من أن يشتغل، ممنوع من أن يشتغل، هو يجلس فقط لكي يُفكِّر ويتأمَّل، لكن يا أخي هل هناك طبقة كاملة تُفكِّر وتتأمَّل؟ هل هذه طبقة رُسل أم طبقة ماذا؟ ما القصة هذه؟ هل هناك طبقة كاملة تُفكِّر وتتأمَّل؟ ومسموح لها أن تتزوَّج وأن تتناسل، عادي! تخيَّلوا طبقة تُفكِّر وتتأمَّل على أساس أن الطبقات الأُخرى ستشتغل، ولذلك في قوانينهم الظالمة أن الفيشيا Vaisyas حتى – ليس الشودرا Sudras وإنما الفيشيا Vaisyas – يُحذَرعليه أن يتملَّك أكثر من اللازم وإن كان قادراً، ممنوع أن تشتغل بشكل زائد لكي تُحصِّل أكثر، لأن هذا يُؤذي مشاعر البراهمي، لأن البراهمي على ما يبدو في نهاية المطاف لابد وأن يكون حتى مُتميّزاً مالياً، هو الأغنى وعلى حسابك، والبراهمي يمتلك أي شيئ، لأن هو المُعزَّز، هو من فم الإله مخلوق، ولذا يمتلك أي شيئ، فإذا افتقر حل له مال الشودرا Sudras أن يأخذه وليس للملك أن يُجازيه على ذلك، يأخذ من الشودري كل ماله، يأخذه هو ويغتني به، فيعود فقيراً ويصير هو غنياً، مسموح! ما الظلم هذا؟

ديورانت Durant طبعاً أسلوبه ساخر جداً وجميل، في قصة الحضارة ظل يُعلِّق على هذا، تحدَّث عن الذهب وما إلى ذلك ثم قال يبدو أن هذا الذهب له تأثير روحاني خاص في الكهنة، يُحِبونه كثيراً ويُؤثِّر على روحانيتهم والحمد لله قال، ذهب! موجود هذا في كل الأديان للأسف الشديد، هذه نفس الطبقات! نهرو Nehru قال هذه الطبقة – طبقة البراهمة Brahmins – ليست بدعاً من الطبقات، لقد نالها ما نال كل الطبقات التي تُحاوِل أن تتميَّز من سائر المُجتمَع من العفونة – قال – والفساد، وإن بقيت في الجُملة لها احترامها وقداستها، لماذا؟ بفعل مَن؟ بفعل القدّيسين العِظام والعارفين الكبراء الذين تُنتِجهم فعلاً، منهم أُناس – ما شاء الله – جيدون، فيظل لها احترام، لكن أفرادهم مَن هم؟ أُناس أنجاس، ليس عندهم خبرة روحية، وليسوا أهل تأمل، خبثاء! يستغلون وضعهم الطبقي لكي يسمنوا وينتفخوا على حساب مَن؟ الفقراء والمساكين من الفيشيا Vaisyas ومن الشودرا Sudras، فنهرو Nehru يعترف بهذا، وهو مُتألِّم منه جداً جداً، قال ما الكلام الفارغ هذا؟ لذلك هو ضد هذا الشيئ، هل هذا واضح.؟

هذه بعض المُخفِّفات، الأشياء السيئة الكارثية الأُخرى مثل القوانين التي سنذكر بعض الأمثلة منها الآن، القوانين! من ضمن – مثلاً – هذه القوانين – ما قلنا قبل قليل، الملوك لا يُنصَّبون إلا من طبقة الكشاتريا Kshatriyas، والملك مُقدَّس ومُبجَّل لأنه الصورة الإنسانية التي يتجلى فيها الله، لكن الملك المفروض ألا يقطع أمراً إلا بعد مُشاوَرة البراهمة Brahmins، حتى وإن كانت القضية عنده واضحة وما إلى ذلك، لابد وأن يُشاوِر دائماً البراهمة Brahmins، وطبعاً هذا في الطور النهائي لتطور نظام الطبقات، في البداية – كما قلنا – كان يُوجَد العكس، الكشاتريا Kshatriyas كانت رقم واحد والبراهمة Brahmins كانت رقم اثنين، لكن الآن انعكست القضية، حدث نوع من الانتقام التاريخي، فلابد وأن يرجع إليه في كل حاجة.

بالنسبة إلى وظائف الملك وشروطه ذكرناها في الدرس السابق في موضوع منو سمرتي Manusmṛti أو قوانين منو Manou، بالنسبة إلى الشودرا Sudras المساكين وحتى الفيشيا Vaisyas إذا واحد منهم مد يده أو علا بيده أو بآلة – سواء بيده أو بآلة، كأن يرفع خشبة أو حجر أو أي شيئ – رأس واحد من البراهمة Brahmins تُقطَع يده، تخيَّلوا! القطع مُباشَرةً، شيئ ظالم جداً، أما إذا رفسه – كما يرفس الحمار أكرمكم الله – برجله فتُقطَع رجله، رفسة هكذا! وإذا كلَّمه باسمه أو باسم طائفته – كأن يقول له يا براهماني مثلاً أو يا فلان، يا شانكارا Shankara مثلاً، اسمه هو شانكارا Shankara، فقال له يا شانكارا Shankara، لم يقل له يا سيدي أو يا أيها المُبجَّل وما إلى ذلك، حدَّثه باسمه مثلما نقول يا محمد أو يا عدنان أو يا كذا – فالقوانين تأمر بإدخال قضيب من الحديد المحمي – طوله اثنا عشر قيراطاً، لماذا اثنا عشر؟ لماذا ليس أحد عشر؟ لا أعرف، المُهِم قوانين إلهية هذه، طوله اثنا عشر قيراطاً وهو محمي، أي نصل! قضيب من حديد أو نصل كسيف أو شيئ كهذا، طوله اثنا عشر قيراطاً وهو محمي على النار إلى درجة الإحمرار – والمُلوَّث الطرف – لابد وأن يكون مُلوَّثاً، وُضِع في النجاسة لكي تُلازِمه مُصيبة طيلة حياته – في فمه، أي يُدخَل في فم مَن تجرأ على هذا، أف! صعبة جداً جداً القوانين هذه، لماذا؟ هل هو إله؟ هم يعتبرونه كأنه إله، هذا من فم الإله وأنت أقل منه، ممنوع! تخيَّلوا هذا، ممنوع أن تحتاز ثروة حتى – كما قلنا – بشكل زائد عن اللزوم، ممنوع! حتى لا تُؤذيه، فهذا نوع من الظلم، ظلم سخيف جداً جداً، وأمثال هذه التشريعات طبعاً موجود للأسف الشديد، موجود أمثال هذه التشريعات!

من البشائع الأُخرى أن نظام الطبقات لم يبق مقصوراً على أربع طبقات، لا! بل صار هناك نوع من التفرع والتشعب داخل الطبقة الواحدة، الآن – الآن في القرن الواحد والعشرين – عدد الطبقات في الهند كم؟ ليس أربعة وليس أربعين وليس أربعمائة، ثلاثة آلاف! ولكم أن تتخيَّلوا، ثلاثة آلاف طبقة أو كاست Caste، ومُتفرِّعة كلها من الطبقات الأربعة، تُوجَد طبقة خامسة غير المنبوذين، وهي الكاندلاس Chandalas كما يُسمونها أو الكاندلا Chandala، الكاندلا Chandala هذه طبقة أُخرى أقل حتى مِن الشودرا Sudras، مَن هؤلاء؟ الذين تولَّدوا من أم براهمية وأب من الشودرا Sudras، هذا عندهم غير مُستحَب لكنه حصل، ذهبت امرأة براهمية غلطت وعصت فتزوَّجت رجلاً شودرياً، وهذا الابن أو الابنة الذي يأتي يُسمونه الكاندلا Chandala، هذا أقل من الشودرا Sudras، فهذه ليست طبقة وحدها، هم لا يعترفون أصلاً بها، لكن موجودة الكاندلا Chandala، وبعضهم يقول الكاندلاس Chandalas، موجودة! هل هذا واضح؟

طبعاً هناك المنبوذون – كما قلنا – وهم الباريا Pariahs، حتى بالإنجليزية يُسمونها الباريا Pariahs كما هي لكن هذه كلمة هندية، المنبوذ المسكين ليس له علاقة بالطبقات كلها، هذا خارج الطبقات! يعتبرونه نجس، هذا نجس والعياذ بالله، لعنة إلهية! هذا لا يُقترَب منه، قد تقول لي موضوع الاقتراب هذا في الطبقات الأربعة وحتى مع الكاندلاس Chandalas هل فيه عنصرية؟ للأسف، للأسف حتى مع هؤلاء – أي بين الطبقات الأربعة – ممنوع الأكل المُشترَك، كل أبناء طبقة يأكلون وحدهم، ممنوع أن يأكل واحد من الفيشيا Vaisyas مع الكشاتريا Kshatriyas، ممنوع! أو الشودرا Sudras – مثلاً – مع البراهمة Brahmins، ممنوع! كل واحد يأكل مع طبقته، وهذا مما قلقل وأقلق وأربك التواصل الاجتماعي، التواصل الاجتماعي بينهم أصبح مُرتبِكاً بالكامل، هذا أيضاً نعى عليه نهرو Nehru بلهجة قاسية جداً، كيف هذا؟ أهذه دولة عصرية وعندها الأشياء هذه؟ إلى أي مدى نحن ذهبنا في هذا؟ هذا غير مقبول بالكامل!

طبعاً بعض الناس حاول أن يقول هناك مُخفِّفات أُخرى، وهذه تبريرات فلسفية وليست واقعية، قالوا أيهما أحسن وأيهما أسهل: أن تُضمَن حقوق الإنسان ضمن طبقة أم يُدافِع الإنسان عن نفسه وعن حقوقه ضمن مُجتمَع مُتنوِّع مثل هذا؟ هذا المُجتمَع كثير الأعراق، كثير الأديان، مُختلِف الأصول، وكثير اللُغات، شيئ غريب الهند هذا، مُتحَف! مُتحَف عجيب جداً جداً جداً، أستغرب كيف هم يتعايشون، وعملياً هم مُتسامِحون جداً في الأفكار والنظريات، الفكر الهندي مُتسامِح بشكل غير طبيعي، حين تسأل الهندوسي وتقول له ما موقفك من الإسلام؟ يقول لك الإسلام دين إلهي يُوصِّل إلى الحق، عادي! طريق مُمتاز هذا، وحين تسأله عن المسيحية يقول لك نفس الكلام، هي تُوصِّل إلى الله – يقول لك – مائة في المائة، لا كلام في هذا! وكذلك الحال مع اليهودية والزرادشتية حين تسأله عنهما، والهندوسية – يقول لك – تُوصِّل أيضاً، لكن عنده موقف من البوذية لأنهم يعتبرونها زندقة وهرطقة Heresy، وسوف نتحدَّث عن هذا حين نتحدَّث عن البوذية، لأن هذه انشقت، البوذية انشقت عنها – هي انشقاق – لكنها نُفيت من الهند، وسوف تستغربون من هذا، الهند ليس فيها بوذية، ليس فيها بوذية الهند بالمرة! ذهبت إلى الصين وإلى التبت وإلى اليابان، الهند ليس فيها بوذيون، فشلت البوذية بالكامل، لماذا فشلت؟ هذا سر كبير يحتاج إلى دراسة إن شاء الله، وموجود جواب عنه لدى مُؤرِّخي الديانات، فهو يقول لك كل هذه الأديان طرق، أي أنهم مُتسامِحون، لكن في الأعراق والتقاليد وفي الميدان الحياتي العملي ليسوا مُتسامِحين بالمرة، عندهم تعصب عجيب!

يقول نهرو Nehru من عجائب شعبنا أنه الشعب الأول الأكثر تسامحاً حول العالم في الأفكار والعقائد – مُتسامِح جداً جداً جداً – وهو الشعب الأكثر تعصباً وجموداً في العادات والتقاليد والمواريث العملية الخاصة بنا، مع بعضهم عندهم تعصبات، قد تقول لي كيف تتحدَّث عن الهندوسية والهندوسيون هم الذين دمَّروا مسجد بابري؟ طبعاً هم دمَّروا وقتلوا المُسلِمين وحرقوا القرى وما إلى ذلك، فهم عملياً مُتعصِّبون، وهم ينعون على هذا التعصب، السنياسيون والمُعلِّمون الكبار والكُتب الفيدائية والأوبنشاد Upanishad ينعون هذا!

أعتقد في الأوبنشاد Upanishad – في واحدة منها – تُوجَد قصة العابد المُتعصِّب الذي أُصيب بداء عياء ليس له شفاء، مُتعصِّب! فدائماً يُقدِّمه قرابينه إلى الإله المُدمِّر، وهو مَن؟ شيفا Shiva، يُقدِّم القرابين إليه، هو يُحِب الإله شيفا Shiva المُدمِّر، لا يُقدِّمها لا إلى فيشنو Vishnu ولا إلى براهما Brahma، يُقدِّمها إلى شيفا Shiva فقط، لا يُقدِّم إلى غيره، ونحن قلنا وفقاً لتعاليهم ينبغي أن يُقدِّم إلى الكل، يُقدِّم إلى كالي Kali وإلى ساراسواتي Saraswati وإلى الكل! أي إله يُمكِن أن تُقدِّم إليه حتى لو كان في المعبد الآخر، هم عندهم هذا! لكن هذا مُتعصِّب حتى داخل الهندوسية، فبرز له هذا الإله المُدمِّر بنفسه – أي شيفا Shiva – وقال له أيها العابد المُحِب لِمَ أنت مُتعصِّب إلى هذا الحد؟ نحن الآلهة يُحِب بعضنا بعضاً ولا نُحِب هذا التعصب، تقرَّب لغيري، فقال له لا، عاند مع الإله، عاند معه فتركه! ثم خطر له بعد بضعة أيام – أي شيفا Shiva – وقال له أنا أقول لك للمرة الثانية عليك أن تُقرِّب القرابين إلى غيري، هذا يُسعدِني – وأن تتخفَّف من وطأة تعصبك، لكنه قال له لا، لا أُريد هذا، أنت وفقط! في المرة الثالثة خطر له بشكل ثنائي مُزدوَج، نصفه الأعلى شيفا Shiva ونصفه الأدنى فيشنو Vishnu، أي الإله الحافظ، إله الحياة والعطاء والنماء والخيرات، قال له أرأيت؟ نحن مع بعضنا في النهاية، هذه تجليات لإله واحد! فكان نصف سعيد ونصف مُستاء، أعني العابد! كان سعيداً وحزيناً في نفس الوقت، ثم قدَّم إلى الجُزء الأعلى فقط، قال أنا أُقدِّم القربان إلى شيفا Shiva وليس إلى فيشنو Vishnu، قدَّمه إليه فقط! فتركه ثم خطر له للمرة الأخيرة وقال له قد ظهرت لك أكثر من مرة، وأتيتك في ثالث المرات بهذا الشكل الثنوي المُزدوَج لكي أُخفِّفك من أبهاظ غلوائك وتعصبك ولكن يبدو أن تعصبك داءٌ ليس له دواء، وتركه! قال له لا فائدة منك، فكأن الهند تقول بحسب الأدبيات هذه سوف تجدون صنفاً من الناس لا ينفع معهم الدواء، لا أمل! ميؤوس من علاجهم، حالة ميؤوس منها! وهذا صحيح وهو موجود في كل الأمم بالمُناسَبة، ليس في الهند فقط وإنما في كل الأمم، يُوجَد أُناس على هذا النحو، الواحد منهم عنده تعصب جنوني، تعصب غير عادي!

طبعاً هذا يتبع ضيق العقل وضيق النفس، لأنه عقله صغير، لا تجد مُتعصِّباً حقيقياً ويكون عقله كبيراً، مُستحيل! لابد من وجود صغر في عقله، هل تعرف لماذا؟ لأن التعصب نفسه من بين ربما عشرات التعريفات له نحن نتبنى تعريفاً واحداً له، مَن يقول له لي وقد ذكرته عدة مرات؟ التعصب ذكرت له تعريفاً واحداً ينطبق على كل حالات التعصب والشوفينية هذه كلها، دينية كانت أو قومية أو غير ذلك، كلها! التعصب أن تُوجَد في موقف لا تستطيع تبريره، إذا برَّرته فأنت لست مُتعصِّباً، قد تقول لي لماذا أنت مُسلِم؟ لماذا لا تكون مسيحياً؟ هل أنت مُتعصِّب؟ لا!سوف أقول لك لماذا أنا مُسلِم وسوف أُناقِشك وأُفحِمك، إذن أنا لست مُتعصِّباً، لكن لماذا أنت تضع يديك مع أخيك وتضرب الناس رُغم أن أخاك هو الذي اعتدى عليه؟ سوف تقول لأنه أخوك، هذا ليس تبريراً، أخوك ظالم، يُوجَد شيئ أعلى من أخيك وأعلى من حقيقة كونه أخاك، فهذا ظالم وينبغي أن تأخذ على يديه، لأن الحق أحق أن يُتبَع، لكنك تقول لا، هذا أخي وسيظل لحمي ودمي!

سأعطيكم هنا مبدأ مُهِم جداً لكي تُطبِّقوه وهو فكرة مُهِمة جداً في الاجتماع، كل فكرة إذا أمكن تعميمها أثارت الانقسام والظلم والتهارج والخطأ مُستحيل أن تكون صحيحة في ذاتها، هذه الفكرة هل تقبل التعميم؟ حين يكون أخي أو ابن عمي أو صاحبي أو أبي أو شيخي هو المُخطئ سوف أذبح الدنيا من أجله، الكل سوف يفعل هذا ومن ثم سوف تصير الدنيا حرباً ولن ننتهي منها، انتهى الأمر، أليس كذلك؟ انتهى! سوف يُصبِح المنطق منطق الأقوى، أليس كذلك؟ منطق السيف وما إلى ذلك، سوف نُذبَح، هذا لا ينفع! لكن ماذا لو عممنا الفكرة الثانية؟ قلنا الحق أحق أن يُتبَع والظالم لابد أن يُؤخَذ على يديه أياً كان ولو كان ابني، هل ينفع أن تُعمِّم هذه الفكرة؟ طبعاً، هذا أجمل شيئ! وسوف تستقر بها الحياة، أليس كذلك؟ ابن الشيخ أو ابن الملك أو ابن النبي أو ابن الولي أو ابن البغي أو ابن كذا وكذا، أي أحد ظالم لابد أن يُؤخَذ على يديه، هل يُمكِن تعميم الفكرة هذه؟ يُمكِن تعميمها، فكرة جيدة هذه!

فكرة الحرية عندنا نحن – عندك الحق في أن تدخل الإسلام لكن إذا أردت أن تخرج فسوف نقص لك رأسك، علماً بأنني ذكرت هذا من قبل – هل يُمكِن تعميمها؟ قد تقول يُمكِن تعميمها، لكن ما النتيجة التي ستحدث؟ ستحدث مُصيبة، كل مسيحية نمساوية أسلمت سوف يقصون لها رأسها، أختنا المُسلِمة ذُبِحت للأسف، رحمة الله عليها، سوف يطخها أهلها لأنها كفرت، وكل يهودي يتحوَّل إلى الإسلام سوف يُقتَل، كل هندوسي يتحوَّل إلى المسيحية سوف يُقتَل، إلى آخره! لكن هذا الفكر الإسلامي العجيب الأعوج الأعور لا يفهم شيئاً، ليس فكراً أصلاً هذا، هذا ليس فكراً ولا يُمكِن أن يقبله العالم، يقول الواحد منهم هؤلاء نحن مُتسامِحون، ما شاء الله على تسامحه! يفهم بشكل جيد، يقول نحن مُتسامِحون! لكنني أقول له هل تقبل أن يصير الهندوسي أو المسيحي أو البوذي – إلى آخره – مُسلِماً؟ سوف يقول نعم طبعاً، وهو أخونا له ما لنا وعليه ما علينا ونُرحِّب به وليس هناك من فرق، مُمتاز! هذا جيد، لكنه هنا لم يُفكِّر في مشاعر أهله ودينه وعزوته وقرابته، عادي! عنده الحق في أن يصفعهم جميعاً وأن يتخلى عنهم لأن هذا خياره، هذا خيار يا أخي، خياره الشخصي! هذا المُسلِم الآن أو الذي أصبح مُسلِماً بشكل رسمي يُريد أن يتحوَّل إلى دين آخر – يُريد أن يصير يهودياً أو مسيحياً أو ماركسياً – فماذا عنه؟ يقول سأقطع رأسه، لماذا تقطع رأسه؟ يقول لا، سمعت شيخاً – هذا علّامة مصري ومُحدِّث كبير عنده مُؤلَّفاته – يقول دخول الحمام ليس كالخروج منه، أُقسِم بالله! قال هذا في التلفزيون Television، فقلت حمام ماذا؟ اذهب وتغسَّل يا أخي، اذهب وتغسَّل من أفكارك المُعفَّنة هذه، هل الإسلام صار حماماً؟ هل صار  WC و Bad؟ ما الهبل هذا؟ أهذا فكر تُواجِه به العالم؟ كيف تقول دخول الحمام ليس كالخروج منه؟ هل ستقول للعالم – لليهود والمسيحيين والبوذيين والهنادكة وغيرهم – دخول الحمام ليس كالخروج منه؟ سوف يقولون لك نحن نبصق عليك وعلى تفكيرك، سوف يبصقون علينا! سوف يقولون أنتم هُبل ومسطولون، لا! ولذلك لا يُمكِن تعميم الفكرة هذه، مَن يتحوَّل عن دينه اقطعوا رأسه، لأن لن يدخل أحد الإسلام، سوف تُقطَع رأسه قبل أن يدخل دينك،  سوف يقطعون رأسه، أليس كذلك؟ لن تجد مُسلِماً مثل جينو Guénon تفرح به وتقول هذا علّامة كبير أسلم وهو عارف بالله فرحمة الله عليه، لأنهم كانوا سيقطعون رأسه في فرنسا من قديم، لكن هم ليس عندهم التعصب هذا، نحن أُصيبنا بالهبل، نحن صرنا أكثر تعصباً، غلط! لا يُمكِن ألا يقبل الفكر الصحيح والحقيقة التعميم، يقبل التعميم! لابد من قبول فكرة أن كل إنسان حر في أن يختار ما شاء، لكن الأمر يختلف إذا ترك الإسلام أو ترك حتى أي نظام آخر وتركه لهذا النظام العقدي جعله يُناوئ النظام السياسي وجعله يُحدِث قلاقل وضرب للرصاص وما إلى ذلك، فالكل يقول من حق الدولة أن تأخذ على يده، أليس كذلك؟ ونحن نقول بهذا أيضاً، نحن كنظام إسلامي – مثلاً – ودولة مُسلِمة إذا ارتد عندنا واحد وأراد أن يتسبب في إحداث قلاقل سياسية وكوَّن ميليشيات لأنه يُريد أن يقلب نظام الُحكم فسوف نقطع له رأسه، وهذا الحق مسموح لكل الدول، أليس كذلك؟ ليس تعصباً هذا، هذا شيئ ثانٍ، هذه مسألة ثانية ليس لها علاقة بحرية الاعتقاد، فخذوا بهذه الفكرة دائماً وطبِّقوها، هي صعبة لكن تطبيقها هو العدل، وأنا أقول لكم هذه ليست فكرتي، هذه يُسمونها الوسط الذهبي في الأخلاق ويُسمونها القاعدة الذهبية، قالت بها الهندوسية، قالت بها الشنتاوية، قالت بها البوذية، قالت بها اليهودية، قال بها إنجيل متى Matthew، قال بها القرآن، قال بها الرسول محمد، كونفوشيوس Confucius قال بها، إيمانويل كانط Immanuel Kant قال بها، الغرب الأهبل هنا عنده غرور، وصدق روجيه جارودي Roger Garaudy حين قال نحن في الغرب مساكين، نظن أننا البداية والنهاية، هنا ابتدأ الإنسان وهنا انتهى، قال نحن مُجرَّد حدث عرضي في تاريخ الدنيا، حدث عرضي – قال – نحن، كم عمرنا؟ ما الذي قدَّمنا؟ ومَن نحن؟ لا شيئ، نحن لا نفهم شيئاً قال، ولذلك جارودي Garaudy ظل عبر ثلاثين سنة يقرأ الحضارات، وأنشأ مركز كبير في مدريد اسمه حوار الحضارات! اقرأ البوذية والهندوسية واليابانية والصينية وحضارات الدنيا كلها، وسوف ترى أن هذا العالم الغزير والكريم عنده أشياء كثيرة يُقدِّمها إلى بعضه، ومن ثم سوف يحدث نفع مُتبادَل بيننا وبينهم، لا تظن أنك البداية والنهاية!

فالغرب هذا يظن أن كانط Kant هو أول مَن تكلَّم عن القاعدة الذهبية في الأخلاق، وهذا كلام فارغ! هو آخر مَن تكلَّم عنها، آخر مَن تكلَّم الغرب في المسألة هذه، ما رأيك؟ كل مَن ذكرتهم تكلَّموا قبله، وهذا يُمكِن أن أعقد من أجله مُحاضَرة أو حتى خُطبة جُمعية، وسأحضر لكم نصوصاً فيها لتعرفوا ما عند كل دين، ما جوهر القاعدة الذهبية؟ أن تأتي إلى الناس مثل ما تُحِب أن يأتوا إليك، لا يُؤمِن أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه، الذي تُحِبه لنفسك أحبه لهم وما تكره لنفسك اكرهه لهم، مُمتاز! بهذا تسير الحياة، أليس كذلك؟ لا تقوم بعمل استثناءات كأن تقول هم يدخلون ديني وإذا خرجوا من ديني فسأقطع رأسهم، غلط! ضد القاعدة الذهبية هذا ولن يقبله أحد من الناس، دينك لا يقبله إذا فهمت دينك جيداً، لكن غرك بعض الأحاديث التي لم تفهمها جيداً، لو فهمتها لعلمت أن ديننا ليس فيه هذا، وهو حر أيضاً على كل حال.

إذن هذه هي الطبقات، المنبوذون أو الباريا Pariahs ليسوا ضمن نظام الطبقات أصلاً، هؤلاء خارج هذا النظام على الإطلاق، بالنسبة إلى موضوع المُخفِّفات الذي كنت أُناقِشه قالوا فيه أيهما أسهل: أن يُدافِع الإنسان عن حقوقه في مُجتمَع شديد التنوع وكثير الاختلاف والتباين كفرد أم تُضمَن له هذه الحقوق ضمن طبقة؟ بلا شك قالوا ضمن طبقة أفضل، أليس كذلك؟ انتهى! أنت من الكشاتريا Kshatriyas وحقوقك معروف ما هي، أليس كذلك؟ لن تخوض ألف معركة لكي تأخذ حقك، لكن لو لم يُوجَد النظام الطبقي هذا – الكاست Caste هذا – لدخلت الأمور في بعضها، هذا الكلام كان يُمكِن أن يُقبَل في مرحلة من مراحل البحث لولا شيئ واحد، ما رأيكم؟ وهو أن هذه الطبقات الأربعة لم تبق أربعة، أصبحت كم؟ ثلاثة آلاف، ما معنى وجود ثلاثة آلاف طبقة؟ أن هذا بمُعدَّل تقريباً ثمانمائة طبقة أو سبعمائة وخمسين طبقة في كل طبقة، هذا يعني أن حتى حقوقي داخل طبقتي أيضاً أصبحت غير مُحدَّدة تماماً، أليس كذلك؟ سوف يُجنِّنونك.

انظر إلى القضاء هنا حتى يا سيدي، انظر إلى القوانين حتى الأوروبية النمساوية وغيرها، تكون مظلوماً تماماً، مُتعدى عليك وواضح حقك، تذهب يا بابا فيأتون إليك بتفريعات وأشياء وبعضها سخيف وصوري Formal، تعيس جداً جداً جداً يا أخي! شخص – مثلاً – باع لي هذا الشيئ ثم اتضح أن هذا الشيئ معطوب ولا يُؤدي وظيفته، يقولون لك هل كان يعلم بهذا؟ نعم، أنا اشتريت هذا منه، أليس كذلك؟ لابد أن يكون شغّالاً حين يبيع لي إياه، أنا أخذته على أساس أنه Funktioniert، أي أنه يعمل، يقولون لا، لا نحكم على النوايا، نُريد اعتراف منه، لابد أن يقول بلسانه كنت أعلم هذا، تفضَّل هذا الهبل، ضاع حقك، تفضَّل! لن يعترف، سوف يقول لا لم أعرف، والله العظيم لم أعرف، الآن نحن تورَّطنا في قضية مثل هذه، تفضَّل هذا القانون، قوانين بعضها من أغبي ما يكون، تشعر بوجود غباء فيها!

رجل عنده قطعة أرض وأجر لك إياها بثلاثة آلاف يورو في الشهر، دفعت له شهراً وشهرين وثلاثة وأربعة وثمانية، شيئ غريب! وأنت لكي تقوم بعمل إجراءات الاستئجار تتكلَّف ثلاثة وعشرين ألف يورو، وبعد ذلك يُقال لك لا، ممنوع! هذا ليس صالحاً إلا فقط لأهداف مُعيَّنة، غيرها لا! ترجع إلى الشخص فيقول لك لن أُعطيك أي شيئ، ما علاقتي بهذا؟ لكن يا أخي أنت خدعتني، أنت ضحكت علىّ وأخَّرتني، ثم تذهب إلى المحكمة فيُقال لك هل كان يعلم؟ ما شاء الله! هو المالك، هل يُوجَد مالك أرض دفع فيها مئات الألوف لا يعرف تصلح لماذا؟ يقولون لا، لابد أن يعترف بأنه لم يعرف، هذا كلام فارغ! فتخيَّل أنك تُوجَد في طبقة ضمن ثمانمائة طبقة وأنك لابد وأن تعرف كل تفاصيل القوانين داخل طبقتك، لأن وجود ثمانمائة طبقة يعني أن كل طبقة صار لها خصائص واختصاصات ومُميِّزات وقوانين تحكم العلاقات، ومن ثم سنضيع في خمسين داهية، لذلك أنا أستغرب، هذا نقدي الشخصي بالمُناسَبة، قرأت هذا لمُفكِّرين كبار تحدَّثوا عن الهندوسية وذكروه كمُخفِّف وقالوا مَن أفضل؟ قلت كلامكم هذا جميل – كتبت هذا – لو كان عندنا فقط أربع طبقات، يُمكِن أن يُقبَل نسبياً كخُطوتين في البحث، وليس ثلاثة آلاف طبقة، هذا كلام فارغ! كيف تُدافِع عنه؟ كيف تُدافِع عن هذا النظام؟

لا نُريد أن نُطوِّل ولذا لن نقرأ، لكن على كل حال رينيه جينو René Guénon – رحمة الله عليه – يُبرِّر، وهو أيضاً ينعى على الغربيين عجرفتهم وما إلى ذلك، ما هذا؟ حتى في هذه الأمور يُمكِن التبرير؟ نحن لسنا غربيين ونرفض هذا الشيئ، هذا لا إنساني! وهذا نظام غير عادل ومُقزِّز، ونهرو Nehru عنده الحق بصراحة وهو أولى بقومه وبهنديته منك يا جينو Guénon، أليس كذلك؟ الرجل كان ضد هذا، تكلَّم عنه مائة مرة ومعروف أنه حمل اللواء ضده، وحتى غاندي Gandhi رأى هذا، وألغوا نظام المنبوذين والحمد لله، ألغوا النبذ هذا! لم يعد هناك شيئ اسمه المنبوذ، الباريا Pariahs انتهت من الهند! أبشع شيئ في تاريخ الهند النبذ هذا ولذا ألغوه، شكر الله لهم، فهنا جينو Guénon يقول لا، قالوا هذه مسألة ليس لها علاقة بالأسباب التي يذكرونها، كالتاريخية والاجتماعية وما إلى ذلك، لا! هذه مسألة تتفق مع المبدأ نفسه، مبدأ ماذا؟ أي مع جوهر الهندوسية، وبدأ يُدافِع – وهذه طبعاً نبرة أرى أنها عنصرية وغير علمية – وقال هذا لأن الناس تختلف، حُجة جينو Guénon – رحمة الله عليه – يُمكِن نقضها، رُغم أنه عقل فعلاً لا تُنقَض حُجته لكن هنا من السهل جداً أن ننقضها في لحظة، لأن الحق أحق أن يُتبَع، انتبهوا! لذلك لا ينبغي أن يُتبَع إنسان على اسمه، أنا قرأت كتابه وتقريباً وافقت على كل شيئ فيه لكن هذا الشيئ لم أُوافِق عليه ولو لحظة، مُباشَرةً عرفت أن هذا خطأ، خطأ تهوَّر فيه، ولماذا تهوَّر؟ لأن فعلاً لا يُوجَد كتاب صحيح إلا كتاب الله، هذه كُتب بشرية، هذا اجتهاد بشري فلابد وأن يغلط، ما حُجته الرئيسة؟ أن البشر مُختلِفون، واللياقات والطاقات مُختلِفة، وهذا صحيح! ثم بدأ يقول مِن الناس مَن وُلِد وهو صغير وكان كذا وكذا ثم كبر وكان كذا وكذا ولم يكن مُهيئاً لأن يصير شيئاً آخر وما إلى ذلك، وهذا صحيح! هذا الكلام دائماً صحيح، لكنني أقول لكم هذا لا يُمكِن أن يُبرِّر نظام الطبقات، هل تعرفون لماذا؟ لأن نظام الطبقات أولاً وراثي، أي أن هذه وراثة اجتماعية، ثانياً اللياقات هذه لا يُمكِن أن تُفسَّر داخل الاختلاف الطبقي، كأن تقول لي أنا أثبت لك تجريبياً إمبريقياً أن طبقة الكشاتريا Kshatriyas كل أبنائها لابد وأن يكون لهم خصائص مًعيَّنة، مُستحيل! أنا سأحضر لك قرداً منهم، بل سأحضر لك قروداً من الكشاتريا Kshatriyas، وكذلك سأفعل مع البراهمة Brahmins كما لاحظ نهرو Nehru، من أخس الناس قال، من أفسد الناس قال، وليس عندهم أي خبرة ولا أي روحية ولا أي تأمل، ومع ذلك هم براهمة Brahmins قال، يعيشون على سُمعة آبائهم وأجدادهم والقدّيسين الكبار، هذا كلام صحيح! وسوف أحضر لك من الشودرا Sudras أُناساً من أرقى ما يكون، هم ذهبيو المعدن، أليس كذلك؟ أصحاب لياقات خطيرة جداً جداً، أليس كذلك؟ غاندي Gandhi لم يكن – كما قلنا – من البراهمة Brahmins، لكنه أحسن من أي براهمي ووصل وصار سنياسياً، أليس كذلك؟ 

هنا أرى منطق أرسطو Aristotle – أرسطو طاليس Aristotle Thales – أحسن، أرسطو Aristotle كان يقول إن الأب الذهبي قد يُنجِب ولداً فضياً، وإن الأب الفضي قد يلد وينسل ولداً ذهبياً، أرسطو Aristotle! لذلك – يقول أرسطو Aristotle – لابد من المرونة في التعاطي مع هذه النُظم، وهذا صحيح! مع أن أرسطو Aristotle أيَّد العبودية وأيَّد نظام الرق وأيَّد طبقية المُجتمَع الأثيني بالمُناسَبة للأسف الشديد، وقال في العالم كله يُوجَد شعب واحد مُتحضِّر وهو شعب اليونان، وماذا بعد؟ وفي الشعب المُتحضِّر هذا يُوجَد تقريباً مائتا فرد من نُبلاء الأعراق وشم الأنوف، مَن بعدهم كلهم رعاع، هذا أرسطو Aristotle، تخلف! هنا تهوَّر أرسطو Aristotle، لكنه كان مرناً أكثر من هؤلاء الهندوس وأكثر من جينو Guénon أيضاً، قال المسألة لابد أن نتعامل معها بمرونة، لأن الوقائع تقول إنها مرنة، يُمكِن أن يأتي الذهبي بالفضي ويُمكِن أن يأتي الفضي بالذهبي، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۩، ورأينا الكثير من العلماء والأولياء الذين خلَّفوا أُناساً – حاشاكم – من أسوأ عباد الله، ورأينا الكثير على العكس من هذا، (ملحوظة) ذكر أحد الحضور نموذجاً من القرآن، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، هذا القرآن وهذه عظمة القرآن، أرأيت؟ نوح أنجب ابناً كافراً، أليس كذلك؟ أبو لهب عم النبي ومن أرومة طيبة، خير عباد الله بنو هاشم، أناس طيبون جداً جداً، كانوا المُطعِمين وسدنة البيت وما إلى ذلك، أُناس – ما شاء الله عليهم – طيبون، لكنهم أنجبوا لنا هذا القرد، أعني أبا لهب لعنة الله عليه، تبت يداه في الجحيم مُخلَّداً، وعندنا عكرمة بن أبي جهل، انظروا إلى عكرمة رضيَ الله عنه، مَن عكرمة هذا؟ ابن أبي جهل عدو الله، عادي! أليس كذلك؟ ماذا عن بيئة فرعون؟ أكيد آسيا بنت مزاحم هذه كانت من أسرة فرعونية، من أسرة راقية، أهلها ملوك كفرة ومُتفرعِنين، لكن – سُبحان الله – بنى الله لها بيتاً في الجنة لأنها كانت إنسانة عظيمة جداً، عادي! وكذلك الحال مع مُؤمِن آل فرعون، كان من الفراعنة وصار مُؤمِناً، ويُقال أيضاً إنه لقيَ جزاءه شهيداً في سبيل كلمة الحق، يُقال! يُوجَد اختلاف حول مصيره، هناك أُناس قالوا نعم، قُتِل هذا الرجل، الله أعلم! يُوجَد احتمال لهذا، لكنه قال بالحق، هذا الصحيح! الحياة تقول هذا، لا تضحكوا علينا، لا تقولوا لي ما دمت من الفيشيا Vaisyas فسوف تظل في فيشيا Vaisyas، تُولَد وأنت مخلوق ومُبرمَج – Programmed – لكي تكون مُزارِعاً أو تاجراً أو كذا أو كذا، غير صحيح، بالعكس! أنا يُمكِن أن أولَد وأصير أحسن من رجل براهمي، عندي روحانيات وتفلسف وفكر وتجريد كامل، ورجل براهمي وُلِد هكذا لكن كل تفكيره في الحسيات واللذائذ ولا يقدر أبداً على أن يكون من البراهمة Brahmins بشكل حقيقي، ولذلك – هذا من المُخفِّفات – قالوا نحن علينا ألا ننتظر وألا نطلب ولا نتطلَّب من الشودرا Sudras ولا من الكاندلاس Chandalas الاستقامة الخُلقية على النحو الأمثل، لا! إذا غلطوا وسرقوا وخربطوا – لكن ليس من رجل براهمي، انتبهوا فالمقصود من بعضهم – فهناك عقوبات بسيطة جداً جداً، إذا نفس الأخطاء هذه أتى بها رجل من الفيشيا Vaisyas يُضاعَف له العذاب، العقاب يصير مُضاعَفاً، إذا أتى بها كشاتري يُضاعَف له العذاب ضعفين، إذا أتى بها براهمي قد يُضاعَف له العذاب – قالوا – أربعة أضعاف، ومع  ذلك يبقى البراهمي هذا استثناء، أي Exception بالإنجليزية أو Ausnahme بالألمانية، قالوا البراهمي هذا وإن أتى ذنوب العوالم الثلاثة – هكذا يُسمونها، عندهم عوالم ثلاثة، أي أنه لم يترك شيئاً إلا وفعله، السبعة وذمتها كما نقول – يُمنَع قتله، يُمنَع! ويُمنَع الملك أن يُلحِق به الأذى، له أكثر شيئ – أي أن يُوقَع به – إن رآه أن ينفيه من المملكة، دون أن يُصادَر شيئاً من ماله وأن يُلحَق به الأذى المعنوي أو المادي، يقول له اخرج من بلدي فقط، لكن لا يُقتَل، البراهمي لا يُقتَل وإن سفك كل دم حرام قال، لو قتل ممنوع أن يُقتَل، لماذا يا حبيبي؟ في حين أنكم قطعتم يد الولد وقطعتم رجل الرجل لأنه رفسه أو لأنه رفع يده عليه، ما هذا الظلم؟ نظام مُتعفِّن هذا حقيقة، نظام لا نقدر أن نُدافِع عنه، وهذه زلة من زلات العارف بالله جينو Guénon – رحمة الله عليه – حين دافع عن هذا النظام، ودفاعه هزيل ولا يُمكِن أن يُقبَل، لياقات الناس الوراثية لا يُمكِن أن تُفهَم على هذا النحو، أليس كذلك؟ وانظروا إلى بلادنا، انظروا إلى مصر – مثلاً – أو حتى إلى أي بلد آخر، انظروا إلى العباقرة! حتى الذي يحكم – وصل إلى الحكم – وكبار المُفكِّرين وكبار الأدباء والشعراء والشخصيات ذوات الحيثية والهيئة كلهم من الفلّاحين ومن صعيد مصر، أليس كذلك؟ ليسوا من أبناء العائلات والذوات في القاهرة، لا! في بلادنا تجد أن أبناء الفقراء – أليس كذلك؟ الفقراء المساكين الذين يعيشون على العدس – هم الأطباء والمُهندِسون والمُفوَّهون وما إلى ذلك، الحياة تصقل الإنسان بالمُعاناة، أليس كذلك؟ وكما قال أبو العتاهية:

إنَّ الشَبابَ وَالفَراغَ وَ الجِدَة                          مَفسَدَةٌ لِلمَرءِ أَيُّ مَفسَدَة.

والتاريخ يقول كل الشعوب الناهضة والمُتحضِّرة تدخل التاريخ بقسطٍ عظيمٍ جداً من المبادئ الخُلقية والقيمية وبقليل من المادة والمُحتازات، وتخرج من التاريخ – تخرج وتُقبَر – بكثير من المادة والإنجاز المادي وبقليل من الأخلاق والقيم، هذا هو! هذا المنهج الصحيح، لا يُمكِن أن نُدافِع عن الباطل وإن أتى في أي صورة، فانتهينا أعتقد من موضوع الطبقات الآن.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: