اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما تُحِب وترضى، نعوذ برضاك من سخطك، ونعوذ بمُعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً. اللهم آمين.

أما بعد، أيها الإخوة الأحباب:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في الجُزء الأول وهو الأقصر بكثير – إن شاء الله – من درس اليوم سوف نستعرض نماذج سريعةً ويسيرةً من قانون منو Manou – منو سمرتي Manusmṛti – الذي تحدَّثنا عنه بإيجاز أيضاً شديد في الدرس السابق، وذكرنا أن المشهور أن منو Manou هذا هو أحد المُشرِّعين، طبعاً بعد ذلك نُزِعَ عليه لباس إلهي قدسي على عادة هذه الأديان الشركية والوثنية، ولكن الأرجح أنه كان بشراً عادياً كسائر البشر، وهو أحد المُشرِّعين.

وفي الأرجح أيضاً والمشهور أنه ينتمي إلى الفترة تقريباً في حدود القرن الثالث بعد الميلاد، هنا المُفكِّر والطبيب والفيلسوف الإنساني الألماني الكبير ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer في كتابه فكر الهند – وهو كتاب مشهور وتقريباً مُترجَم إلى أكثر من لُغة حية – رجَّح أن هذه القوانين قد جُمِعَت في الفترة بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد، أي في زُهاء أربعمائة سنة! وسوف نستعرض هذا في الدرس الأخير إن شاء الله في الحلقة المُقبِلة، فبحسب الشرائع البراهمية أو الهندوسية ينقسم المُجتمَع إلى طبقات أربع.

الطبقة الأولى هي طبقة رجال الدين الروحيين أو الروحانيين، البراهمانيون يُنسَبون إلى براهما Brahma، الإله الخالق المُوجِد، البراهمانيون! وهذه أرقى الطبقات، الآن سوف نستعرض شيئاً من قوانين منو Manou التي تُشرِّع لهذه الطبقة وطبيعة العلاقة معها، أي طبيعة علاقة الطبقات الأُخرى منها، الطبقة الثانية طبقة المُحارِبين، أي الكشاتريا Kshatriyas، طبقة الكشاتريا Kshatriyas أو طبقة المُحارِبين والجنود هي أرفع الطبقات بعد طبقة رجال الدين، الطبقة الثالثة هي طبقة الفعلة من الفلّاحين والصُنّاع والمُزارِعين وأمثال هؤلاء، طبقة الفعلة! الطبقة الأخيرة هي طبقة الخدم، طبقة الخدم الشودرية، طبقة الشودرية أو الخدم الذين خلقهم الإله المُوجِد لكي يخدموا الطبقات الثلاثة، أما المنبوذون فليسوا طبقة، وقد نبَّهت على هذا أعتقد مرتين، المنبوذون ليسوا ضمن الطبقات الأربعة، لأن هذه الطبقات في الأرجح تنتمي كلها إلى العرق الآري الغازي، وتحدَّثنا عن الغزوة الآرية في الدرس السابق، أما طبقة المنبوذون فيبدو أنها من الساميين، من الذين ينحدرون من أصول سامية، وهم سُكان الهند الأصليون، هؤلاء صاروا منبوذين، لا وزن لهم ولا قيمة لهم.

الآن سنستعرض بعض التشريعات من قانون منو Manou، يقول الدكتور ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer وقد نُصِّب البراهمانيون بحسب قوانين منو Manou على يد الإله براهما Brahma – الله الذي أعطاهم هذه المزايا والخصائص – أسياداً على العالم كله، فينبغي تكريمهم على قدم المُساواة مع الكائنات الإلهية، ويمتلك براهمانيٌ ليس له من العمر إلا عشر سنوات سُلطةً أبوية على واحدٍ من الكشاتريا Kshatriyas له من العمر مائة عامة – قلنا الكشاتريا Kshatriyas هم طبقة المُحارِبين، الجُند وأهل الحرب -، ومهما اقترف البراهماني من جرائم لا يُحكَم عليه بالموت بل يُكتفى بالنفي، وأكبر خطيئة يُمكِن أن يرتكبها إنسانٌ هي أن يقتل واحداً من البراهمانيين، أعظم خطيئة! وليس لها كفّارة إلا واحد من اثنين، القتل – الموت – أو الحُكم عليه بأن يُمسَخ في بدن حيوان مُفترِس – هم يعتقدون بهذا، وطبعاً هم لا يستطيعون أن يمسخوه، لكن يعتقدون أنه إذا لم يُقَم عليه القصاص بالقتل فهذا في الحياة أو في الدورة المُقبِلة من حياته سيُمسَخ في بدن حيوان مُفترِس، هذا طبعاً موضوع التناسخ، وموضوع التناسخ سنعرض له أيضاً إن شاء الله في الحلقة المُقبِلة -، وكل مَن يُمسِك براهمانياً من شعره ينبغي أن تُقطَع يده – إلى هذه الدرجة! إذا أمسك براهمانياً من شعره تُقطَع يدك! (ملحوظة) سأل أحد الحضور هل يحدث هذا لمُجرَّد الإمساك؟ فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا، على سبيل الأذية -، وكل مَن يسرق له بقرة يجب أن تُبتَر قدمه – شيئ عجيب -، وإذا مات أحدٌ دون وريث – دون وريث طبيعي سُلالي دموي، مَن يرثه؟ البراهماني، يرث أي واحد من الطبقات الأُخرى، له خصائص – يرثه البراهماني، وإذا وجد – طبعاً هذا مُهِم أن نقف عليه، لماذا؟ لكي نرى كيف كانت تُستخدَم وتُستثمَر الأديان أو ما يُسمى أدياناً بطريقة سُلطوية، بطريقة انتهازية، بطريقة مصلحية، لصالح طبقات دون طبقات، للأسف هذا تقريباً جرى في كل الأديان، أبعد الأديان من هذا الاستخدام الإسلام، لكن لم ينج الإسلام التاريخي والإسلام الأنثروبولوجي وإسلام المُمارَسات وخلق الطبقات من بعض هذه اللوثات، وإلا الإسلام النصوصي بحمد الله في القرآن والسُنة هو الأبعد بالمُطلَق عن هذا، لا يُمكِن أن نجد نظيراً للإسلام في هذا الباب، في باب المُساواة بين البشر! ليس بين المُسلِمين وإنما بين البشر، وهو يتحدَّث عن مُساواة طبيعية وليس مُساواة قانونية أو تشريعية، فرقٌ كبيرٌ بينهما، هنا قد يقول لي أحدكم كيف هو ليس تشريعياً؟ لكن هو يكشف عن الأصل الطبيعي، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ۩، الناس ولد آدم وآدم من تراب، هذا أصل طبيعي، هذه مسألة طبيعية، أي أن هذه مقولة خبرية كما أقول دائماً وليست مقولة إنشائية، لأن القانون والتشريع ينتمي إلى المقولات الإنشائية، لكن هذه مقولة تقريرية خبرية تكوينية، تتحدَّث عن أصل تكويني، هذه هي القمة – براهمانيٌ كنزاً مخبوءاً فيستطيع أن يمتلكه وحده، أما إذا وجد هذا الكنز ملكٌ – ملكٌ من الملوك لكنه ليس براهمانياً طبعاً، لأن البراهماني لا يُصبِح ملكاً، هذا من رجال الدين، أي من طبقة رجال الدين، أي أنه من الكهنة أو شامان أو ما أشبه ذلك – فينبغي عليه أن يتقاسمه أو يشرك معه فيه براهمانياً، حتى الملك King، ممنوع!

بعد ذلك يتحدَّث ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer عن المراحل الأربعة لحياة البراهماني حديثاً مُقتَضباً جداً ومُخِل في الحقيقة لأن الكتاب مُختصَر، ولكن نحن سنُرجئ الحديث عن هذا بشكل أطول أيضاً إلى الحلقة المُقبِلة بإذن الله تعالى.

ثم بعد ذلك يقول أما المَلك – تشريعات منو Manou فيما يتعلَّق بالمَلك والمُلك – فينغي أن يكون مُكرَّماً مُوقَّراً كإله يرتدي شكل بشر، ومُهَمته هي أن يُحافِظ على الحق ويحمي الضعفاء من الأقوياء… إلى أن يقول ولكن العقاب لا يكون مُجدياً إلا إذا أوقعه ملك فاضل، وحده الملك الذي انتصر على غرائزه يستطيع أن يحفظ رعاياه في طاعته، فليتجنَّب إذن الصيد ولعب النرد والنوم في النهار والاغتياب والنساء وإدمان الخمر والرقص والغناء والأصفار التي ليس من ورائها فائدة – آداب الملك -، وليتعلَّم الملك من الشيوخ البراهمانيين كيف يكون مُتواضِعاً وليتجنَّب العُنف ولا يستولي على مال رعاياه بغير وجه حق، وليتصرَّف ببطولة في المعركة، وإذا كان خصمه أعزل أو مهزوماً أو مُستسلِماً لرحمته فينبغي عليه ألا يضربه، وعليه ألا يستعمل سهاماً مسمومة ولا خُدعاً حربيةً غير مشروعة.

نترك هذا، ثم يقول كما عالج قانون منو Manou مسائل قضائية تتعلَّق بالقروض والتعاقد والتجارة والإهانات والسرقة والجروح الجسدية والزواج والطلاق والزنا – الأحوال الشخصية أيضاً – وحق الميراث والمسئولية وواجبات الطبقة والخلافات الطبقية.

أما السرقة فقد عُوقِبت بقسوة، فسرقة الجواهر أو اغتصابها جزاؤهما الموت، ويُعاقَب أفراد الطبقات الدُنيا – طبعاً مَن الذي يمتلك الجواهر؟ هم الأغنياء، إذن هذه تشريعات يُلاحَظ فيها ماذا؟ وعينها على ماذا؟ على الطبقات الراقية، واضح! لماذا الجواهر بالذات؟ المفروض أن يُخفَّف في سرقة الجواهر وأن يُشدَّد في سرقة الخُبز مثلاً رعايةً للمُستضعَفين، لكن هكذا عندهم، القانون للأسف والدين في صالح المُستكبِرين للأسف الشديد، طبعاً هناك ربما منظور إشكالي لهذه المسألة، بعض الناس يقولون كيف؟ لم نعد نفهم، هل الدين فعلاً يُستخدَم كحيلة من الضُعفاء لخداع الأقوياء كما زعم نيتشه Nietzsche أم أن الدين خُدعة ابتدعها الأقوياء كما زعم ماركس Marx؟ نيتشه Nietzsche زعم هذا، نيتشه رفض الدين من حيث أو بلحاظ أن الدين خُدعة، تشريعاته وقوانينه وأخلاقياته خُدع يصطنعها ويفتجرها الضُعفاء وهم الذين ينبغون في تنميقها وزخرفتها لكي يُبرِّروا وضعهم المهزول الضعيف الفاشل الخائب أمام نجاح الأقوياء، نيتشه Nietzsche طبعاً يُؤمِن بالقوة، بأخلاق السادة لا بأخلاق العبيد، وشن حرباً شعواء ضروساً على أخلاق العبيد، ولذلك هاجم الدين، إذا كان هذا حقاً فما بال ماركس Marx يزعم العكس؟ ماركس Marx طبعاً سابق بقليل على نيتشه Nietzsche، نيتشه Nietzsche مُتوفى سنة ألف وتسعمائة، ماركس Marx كان يزعم العكس، كان يزعم أن الدين خُدعة ابتدعها الأقوياء لكي يأكلوا بها حقوق الضُعفاء، لم نعد نعرف هل هي خُدعة من الأقوياء أم خُدعة من الضُعفاء؟ أنا أقول لكم الدين المُشوَّه والدين المُحرَّف والأديان الوضعية استُخدِمت لكي تُحقِّق الهدفين على التناوي ربما وربما أيضاً على التوازي، بعض الأديان خدمت في هذا الاتجاه، أديان أُخرى خدمت في الاتجاه الثاني، وبعضها على التناوب بحسب الدورات، لكن الدين الحق ليس هكذا ولا هكذا، الدين الحق لم يأت لا ليخدم الضُعفاء ولا ليخدم الأقوياء، جاء ليخدم ماذا؟ الحق والعدالة والإنسان والإنسانية بغض النظر عن أي شيئ، لم يأت الدين كما يحلم مثلاً هؤلاء الثوّار الماركسيون المهوسون لكي يُحرِّض طبقةً على طبقةٍ أو لكي ينتقم من الأغنياء والأقوياء والأذكياء لمُجرَّد أنهم أغنياء، الغنى في نظر هؤلاء يُعتبَر جريمة، ولا ينبغي أن يكون الإنسان غنياً، رُغم أن هذا مشروع، لكن غير المشروع هو الوسائل الخسيسة والأساليب غير النظيفة، أليس كذلك؟ وكذلك الحال مع تعدي الحدود، هذا هو! لكن قابليات الناس تختلف، وشيئ طبيعي أن يختلف الناس مثلاً في أملاكهم وفي مقدار ما حصَّلوه وكسبوه، لكن في حدود المشروع والأخلاقي، لكن الماركسية تقول لا، الدين لم يأت هكذا، أي الدين الإلهي الحقيقي، والإسلام هو الصورة الوحيدة بفضل الله المحفوظة والمُنزَّهة عن لوثات وشوائب التحريف بالتزيد أو التنقص من نصوصه ومن أهدافه العامة في الأصل بفضل الله، الصورة الوحيدة! لم يعد هناك الآن غيره، لا تُوجَد صورة أُخرى على الإطلاق حقيقة، وكما قلت لكم مرة يعرف هذا كل مَن درس الأديان المُقارَنة، وبالذات كلما تعمَّق في الدرس، يضح له هذا بشكل كبير، ولذلك ذكرت لكم حالات مُعيَّنة منها حالة الرسّام الفرنسي الذي ذكرته في أول شهر رمضان، أليس كذلك؟ وغينون Guénon أيضاً وغيرهم، الذين أسلموا لأنهم وجدوا أن هذا القرآن هو النُسخة الوحيدة، الصيغة الوحيدة لخطاب إلهي محفوظ، لا يُوجَد غيره! لا تُوجَد ثقة بأي صيغة أُخرى على الإطلاق، والأرض تعج بآلاف الديانات، آلاف الديانات الصغيرة والبسيطة جداً جداً، الهند فيها آلاف الديانات أيضاً، لا أقول فيها مئات بل فيها آلاف الديانات، المشهور منها مئات، تخيَّلوا! كله كلام فارغ على كل حال – في هذه الحالة عقاباً أخف – هذا شيئ جيد إلى حدٍ ما – من أعضاء الطبقات العُليا – أي في سرقة الجواهر، أخف قليلاً، لأن هذا فقير مسكين، لكن الغني لماذا يسرق؟ لماذا يده إلى ما ليس له؟ -، وينبغي أن يُقارَن القمار والمُراهَنة – أي الرهان – بالسرقة – هم على قدم سواء مع جريمة السرقة -، ويجب على الملك أن يُعاقِب عليهما بكل شدة وعنف، ولا يُعاقَب السارق بعقوبة الموت إلا إذا وُجِدَ الشيئ المسروق في بيته ولم يكن ثمة شك في إدانته – لماذا؟ لأن قوانين منو Manou أو منو سمرتي Manusmṛti تعتبر التعسف في إقامة القانون شراً من الجريمة نفسها وهذا جيد، التعسف في إقامة القانون غير جيد، التعسف غير جيد -، وأما الذي يُمارِس حقه في العقاب الجسدي على امرأته وأولاده وعبيده أو تَلاميذه فلا ينبغي له أن يضربهم على الرأس، وعلى المدين المُعثِر أن يُعوِّض دائنه بالعمل عنده – لا يُصبِح رقيقاً كما في القوانين الرومانية مثلاً، لا! وإنما يُعوِّضه بالعمل عنده، أن يُؤجِّر نفسه منه -، يُمكِن للبيع أن يُلغى بين الطرفين خلال عشرة أيام.

أي الإقالة، لكل منهما أن يحل عروة العقد، يفسخ العقد، أي الإقالة، أن أُقيلك وأن تُقيلني في خلال عشرة أيام، وطبعاً غير منطقي وغير معقول هذا، فترة طويلة جداً جداً، في الإسلام عند مَن قال به – خلافاً للمالكية مثلاً – يكون خلال المجلس، وطبعاً هناك خيارات أُخرى معروفة.

بعد ذلك بالنسبة إلى الحياة الزوجية قال فليدم الإخلاص المُتبادَل بين الزوجين حتى الموت، وتلك خُلاصة ما ينبغي أن يُعتبَر قانوناً أعلى بالنسبة إلى الزوجين – أي أن الأصل في الزواج التأبيد، الأصل! وسوف نرى الطلاق الآن -، ويُعاقَب الزنا بحسب حالته، إما بالغرامة أو العقوبة الجسدية أو حتى الموت – بحسب الظرف -، ويكون الظرف مُشدَّداً فيما لو ارتُكِب الزنا مع شخص من طبقة أُخرى – ممنوع طبعاً -، وتتحدَّث قوانين منو Manou عن المرأة بعبارات أقرب إلى انتقاص، ومع ذلك فإنها تحمي حقوقها، فلا يحق للزوج أن يُطلِّق زوجه إلا بعد سنوات سبع من العقم – سبع سنوات مُستمِرة من العقم -، وإذا مات كل مَن وضعتهم من أطفال – هذه يُسمونها عندنا في اللُغة الفصحى بالمرأة المقلات، المرأة المقلات هي التي لا يعيش لها ولد، هذا مشهور وذكرناه عدة مرات في تفسير لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۩، وقلنا هذا مشهور عند ابن المُنذِر رحمة الله عليه وابن جرير الطبري وغيرهما، كانت المرأة تكون مقلاتاً لا يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۩، فبعد ذلك الشيطان أوحى إلى اليهود بتهويدهم، شياطين اليهود قالوا هوِّدوهم يعيشوا، إن تهوِّدوهم يعيشوا، إلى آخر القصة – فإن باستطاعة الزوج أن يُطلِّقها بعد تسع سنوات – إذا كانت امرأة مقلاتاً فإنها لا تُطلَّق على الفور وإنما بعد تسع سنوات -، وليس مسموحاً له أن ينفصل عن امرأة صالحة فاضلة ولكنها مريضة على الدوام – عندها مرض مُزمِن – إلا برضاها ومُوافَقتها – إذا هي سمحت له، إذا العيب فقط في أنها مريضة مرضاً مُزمِناً يجب أن تأذن له في تطليقها وتسريحها -، للمرأة الحامل الحق في أن تعبر النهر مجاناً على معدية شأنها شأن البراهماني أو الناسك – يحترمون الحوامل، حتى الرومان كانوا ينحنون للمرأة الحامل في الطريق، وظل هذا تقريباً أدباً في أوروبا حتى أواخر العصور الوسطى، كان يُنحنى إلى المرأة الحامل، ينحني لها الفارس! الفارس هذا كان شيئاً كبيراً، لكنه كان ينزل عن فرسه وينحني للمرأة الحامل، وهذا أدب جيد، لأنها واهبة الحياة أو حاملة الحياة -، وقوانين منو Manou تُنكِر من حيث المبدأ زواج الأرامل من النساء مرة أُخرى، لكنها تتحمَّله كمُمارَسة شائعة.

بالمُناسَبة ليس في قوانين  منو Manou أي إشارة إلى العادة السيئة التي أبطلها المُحتَل الإنجليزي في الثُلث الأول من القرن التاسع عشر- تقريباً في ألف وثمانمائة وتسع وعشرين – وهي حرق المرأة جسدها على محرقة زوجها بعد أن يموت، وهذا طبعاً خاص بهذه الطبقات وليس بالمنبوذين!

أما المنبوذون فينبغي عليهم أن يسكنوا خارج القرى، ولا يُسمَح لهم أن يمتلكوا غير الكلاب والحمير وآنية الطبخ المُكسَّرة – مساكين هؤلاء ومظلومون، شيئ عجيب -، ويُمنَع استعمال المشروبات المُسكِرة على أفراد الطبقات الثلاث العُليا – أي أن الخدم مسموح لهم، وطبقة الشودرية مسموح لها -، وليس للبراهمانيين والمُحارِبين – الكشاتريا Kshatriyas – أن يُقدِّموا قروضاً بفائدة – الربا ممنوع -، أما في حالة العوز والمجاعة فتُلغى جميع الوصايا المُتعلِّقة – هذه أحكام الضرورة، للضرورات أحكام – بتمايز الطبقات، حتى أنه عندما يجد أفراد من طبقة عُليا أنفسهم عجزين عن تأمين الطعام لأنفسهم يُصبِح لهم الحق حتى في أن يأكلوا لحم كلب مُقدَّم لهم من يد أحد المنبوذين.

هذه أحكام الضرورة! وطبعاً هذه في الإسلام أيضاً، في الإسلام عندنا يجوز حتى أن يأكل لحم أخيه في النهاية إذا مات، بل بعضهم قال أن يقتله، يقتلون الأضعف، يقتلون الأضعف استصلاحاً، حتى لا يهلكوا من عند آخرهم، موجود هذا طبعاً، وهذا تذكره كل كُتب الفقه وكل كُتب أصول الفقه لكن ليس باتفاق طبعاً، هذا يُوجَد عند الكلام عن المصلحة المُرسَلة، من الأمثلة المشهورة جداً على المصلحة المُرسَلة ثلاثة أو أربعة أو عشرة نفراً – مثلاً – في سفر، بعد ذلك نفذ ما عندهم من زاد وزوّاد – كما يُقال – فأوشكوا على الهلاك والموت، فبدل أن يموتوا من عند آخرهم – أن يموتوا جميعاً – يجوز لهم في آخر لحظة – إذا تيقَّنوا من ذلك – أن يقتلوا أضعفهم وأن يطعموه بقدر الحاجة، (ملحوظة) تساءل أحد الحضور هل يُقتَل غيلةً؟ فقال الدكتور عدنان إبراهيم كيف يُقتَل غيلةً؟ مُباشَرةً هكذا، لكن هذا الكلام لا نُوافِق عليه، ناقشناه قديماً ولا نُوافِق عليه.

بعد ذلك بدأ يتحدَّث عن بعض المُخالَفات والجُنح والجرائم وما إلى ذلك، ثم قال الدكتور شفايتزر Schweitzer على أن تلاوة الفيدا Vedas بوجه عام وتقديم القرابين وأعمال التقوى تغفر كل الذنوب، كما أُسنِدت قيمة وأهمية للاعتراف – كاعتراف الكاثوليك، هذا اسمه الاعتراف – فإن اعترف إنسانٌ بجريرة ارتكبها اعترافاً عفوياً فإنها تُغفَر له ويتخلَّص منها كما يتخلَّص الثُعبان من جلده، والتدريب التكفيري – أي التكفير عن الذنوب – الأكثر جدوى – هو ماذا؟ ليس الاعتراف وليس تلاوة الفيدا Vedas وما إلى ذلك – التقشف.

أي الزُهد، الامتناع الرضائي عن الطعام والشراب والشهوات، إلى آخره! وعندهم في نصوصهم حتى الزواحف والحشرات والحيوانات الدنية والمُفترِسة يُمكِن أن تصعد إلى الملكوت بالتقشف، فكيف بالإنسان؟ هكذا يعتقدون!

سنذكر آخر شيئ يُعلِّق به الدكتور ألبرت شفايتزر Albert Schweitzer، يقول في كتابه المسيح الدجّال يصف فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche قوانين منو Manou بأنها كتاب روحاني مُتفوِّق لا يُضاهى – هل تعرفون لماذا وقد ذكرت ربما إشارة سريعة عن هذا قُبيل قليل؟ لأن نيتشه Nietzsche يُؤمِن بشريعة الأقوياء، يُؤمِن بأخلاق السادة، لا بأخلاق العبيد، ولذلك هو مُعجَب بقوانين منو Manou طبعاً، هي في الجُملة قوانين مُشرَّعة على قد وعلى مقاس الأقوياء والمُتنفِّذين عموماً، كتاب روحاني قال، ما هذه الروحانية التي عند نيتشه Nietzsche؟ قال كتاب روحاني مُتفوِّق لا يُضاهى -، وإذا وضعنا التوراة في رُتبته نفسها نكون قد ارتكبنا إثماً في حق الفكر.

هذا كلام نيتشه Nietzsche، يقول هذه خطيئة في حق الفكر الإنساني والعقل، لا! التوراة لا تُقاس بالنسبة إلى قوانين منو Manou مع أنها شريعة وهي شريعة قوية، شريعة أيضاً الحرب والقتال والدم، لكن قوانين منو Manou أفضل عنده.

ماذا يقول شفايتزر Schweitzer؟ وهو يُسوِّغ هذا الرأي بادّعائه أن الطبقات النبيلة والفلاسفة والمُحارِبين في هذا الكتاب هم الذين يُسيطرون على الجمهور، وذلك في رأيه تأكيد فخور مُشرِق للحياة، ثم يصل إلى أن الشمس تسطع على الكتاب كله.

نيتشه Nietzsche مُعجَب جداً بهذا! نكتفي اليوم في هذه الجُزء من المُحاضَرة باستعراضنا بعض هذه النماذج والنُتف والشذرات من قوانين أو شرائع  منو Manou ونعود إلى موضوعنا.

تحدَّثنا أيها الإخوة في الدرس السابق عن الطريقين، طريق الرغبة وطريق الزُهد، طريق الرغبة مُركَّن بركنين، ما هما؟ طريق الرغبة لها ركنان، ما هما؟ اللذة – كما قلنا – والإنجاز الدنيوي أو النجاح الدنيوي، ولا يستطيع المرء بعد التجربة وبعد أن يخبر ويعيش هذين الأمرين بعمق أن يصل إلى معرفة النفس وإدراك الحق والسر ولا إلى السكينة والطمأنينة، لا! فبعد ذلك عليه أن ينتقل إلى تجريب طريق الزُهد، وهو مُركَّن – كما قلنا ولا نُعيد – بركنين، الركن الأول – وهو الذي يُشكِّل بداية جوهر الدين كل دين في رأي الفكر والفلسفة الهندوسية أو البراهمانية – ما هو؟ يقولون بداية كل دين – وأكثر الغربيين يُوافِقون على هذا – هي عندما يبدأ الإنسان يتخفَّف بل يتحرَّر من أنانيته، لا يعود يفعل وينشط ويسعى من أجل ذاته ومن أجل مصالحه، لا! إنما من أجل شيئ أوسع من هذا، أول شيئ أوسع من هذا ما هو؟ الغير، فيبدأ بخدمة ماذا؟ الغير، ويُسمى هذا في لُغة الهنادكة بأداء الواجب، تُؤدي الواجب للغير من إنسان وحيوان ونبات وخاصة لبني البشر، لبني آدم! هذا جيد، وهذا عند النفس الناضجة نُضجاً مُحترَماً ونُضجاً معقولاً له ثمرات أكثر بكثير من اللذائذ وأكثر بكثير من النجاح الفردي، أنني حصَّلت شهادة وفتحت حساباً – Konto – وكوَّنت ثروة وما إلى ذلك، لا! أكثر بكثير خدمة الناس، لكن مَن يُدرِك هذا؟ للأسف نحن حتى المُسلِمين نحتاج أن نتفلسف كثيراً في هذه النقاط، نحن ضُعفاء جداً فيها.

اليوم أنت ترى المُسلِمين تجتاجهم رياح هوج صرصر عاتية من الجفاف والأنانية والشخصية بشكل يبدو أنه أصعب بكثير وأقسى بكثير مما يزعمون عن روحانيتهم وعن اجتماعيتهم وعن كذا وكذا، أكثر بكثير للأسف وهذا واضح، واضح بشكل أو بآخر! فنحتاج الآن إلى ثورة تصحيحية تُعيد لديننا جوهره الحقيقي، هذه رُتبة لكنها لا تُمثِّل النهاية!

بعد ذلك أيضاً سيكتشف المرء أن هذه ليست هي الغاية، لا! ليس فقط خدمة الآخرين، هناك شيئ أوسع من هذا، هذا الركن الثاني لطريق الزُهد، تُصبِح الأركان أربعة في الطريقين، ما هو؟ كما قلنا في درسين سابقين الإنسان يسعى لماذا عموماً لكي يبدأ يقترب ويُقارِب بشكل حميم هدفه وغايته؟ يسعى إلى ماذا بشكل عام؟ أولاً الوجود، يسعى إلى أن يكون موجوداً، هو موجود! لكنه يسعى إلى الوجود المُمتَد، يسعى أن يكون وجوده مُمتَداً، ويسعى أيضاً إلى المعرفة، الإنسان عنده فضول معرفي!

أنا أحياناً أُفكِّر في بعض الناس، أجد – سُبحان الله – أن كل إنسان تقريباً يسعى أن يكون موجوداً ويُحِب أن يستمر وأن يمتد وجوده حتى ولو إلى مليون سنة، لكن الآن أصبح الملحوظ أن قليلاً وقليلاً جداً من الناس فعلاً مَن يحفزه ويُحرِّك أعطافه وأريحيته فضول المعرفة، قليل! قليل جداً من الناس، شيئ غريب يا أخي، مع أن هذا العصر يُساعِد على المعرفة، نحن نعيش أكبر نعمة، هذا أكثر عصر مر على البشرية وفَّر لها مصادر قريبة جداً للمعرفة، أي نوع من المعرفة؟ هذا شيئ ثانٍ، لكن الحديث عن المعرفة بشكل عام، أكثر عصر هذا، مُستحيل! ويكفي ثورة الإنترنت Internet هذا، فالطباعة هذه كانت ثورة عجيبة لكن الإنترنت Internet شيئ أعجب بكثير، شيئ غريب لا يُصدَّق، ومع ذلك تجد الفضول المعرفي عند الناس شبه معدوم، لا تجد فعلاً مَن يُحرِّكه هذا الفضول بشكل هوسي أو هواسي حتى، هوسي معروف معناها، لكن هواسي تعني بشكل مرضي غير طبيعي، لا تجد! قليل جداً، وأنا دائماً أنظر إلى هؤلاء الذين تحفزهم المعرفة وفضول المعرفة بشكل فعلاً حميم أو محموم أو مرضي على أن فيهم نفس إلهي، فيهم روح إلهية بلا شك، وفيهم نار إلهية، هذا شيئ إلهي طبعاً، وهذا من أخص صفات الله، لا إله إلا هو، هذا هو! لذلك هو من أقصر الطرق أيضاً التي يُتقرَّب بها إلى الله، في نهاية المطاف طريق العرفان أصلاً وطريق مُقارَبة الله والتعرف على الله هي طرق ماذا في النهاية؟ طريق معرفة، معرفة دقيقة! والإنسان الذي يعشق العلم والمعرفة يبدأ – نعم – بنهم شديد وبحُب معرفة الأشياء، هنا – مثلاً – كتاب مُتعة اكتشاف الأشياء لريتشارد فاينمان Richard Feynman – عالم الفيزياء الأمريكي الشهير – يسد مسداً، الرجل عالم كبير في الفيزياء لكنه ليس فيلسوفاً ولا روحانياً ولا عارفاً ولا شخصية عظيمة كما نتوقَّع، لا! هو فيزيائي عظيم، ليس أكثر من هذا! كتابه كله يدور على معرفة ماذا؟ الأشياء الطبيعية، والطبيعية تماماً والقريبة جداً منا، كتابه اسمه مُتعة اكتشاف الأشياء، وهذه مُتعة بلا شك، لكن هذه البداية، هذه البداية الطفولية الصبيانية، بعد ذلك الإنسان لابد أن يترقى إلى ما هو أبعد وأجل وأكرم وأعمق، في النهاية سوف يجد نفسه وجهاً لوجه مع المسألة الأزلية، الله تبارك وتعالى! وسوف يُصبِح همه المُخيف المُقعِد الفكر في الله والتأمل في الله والتعمق والمُقارَبة والحنين والعشق والحُب، شيئ غير عادي بلا شك، لكن للأسف إذا كان الإنسان فقد أو خبت أو زوت أو ربما طفئت هذه النار الإلهة فيه فتقريباً أنت تتعامل مع شبه بهيمة، مع أنعام! أكثر الناس تجدهم هكذا، مثل الأنعام! الواحد منهم يأكل ويشرب ويُسافِد النساء وما إلى ذلك، لا يُوجَد شيئ عنده والعياذ بالله، لا تهمه لا مسائل علمية ولا عرفانية ولا معرفية، لا يفهم شيئاً ولا يُريد أن يفهم، وهو غير حزين على نفسه، غير حزين، هكذا! والمُسلِمون ليسوا استثناءً بل لعلهم في المُقدِّمة للأسف الشديد، لذلك مُستوى العلم عندهم والتعلم والأمية الأسوأ في العالم، الأسوأ! ألا يعرفون هذا؟ هذه حقيقة للأسف، لكن طبعاً ليسوا وحدهم، العالم كله الآن تقريباً أصبح هكذا مادياً وحسياً.

إذن المعرفة، وذكرت لكم في درس قبل أسبوعين أو ثلاثة تقريباً التجربة العجيبة جداً والمُثيرة التي أُجريت على قرود الشِمْبانزِي Chimpanzee، القرد عنده فضول معرفي أكثر من هؤلاء، نحن لا يُمكِن أن نقول الواحد منهم تدلى إلى أُفق حيواني، بالعكس! هذه مهانة وشتيمة في حق هذه الحيوانات العُليا الرئيسة، لا! القرد هذا جوَّعوه، جوَّعوه فاحتاج إلى الطعام، وبعد ذلك كان يُوجَد جدار مُعيَّن، خلف هذا الجدار يُوجَد شيئ، لكن هو كلما تقدَّم تلقى عقاباً، لكن لا فائدة قالوا، لا يكف! يُريد أن يعرف ما الذي خلفه، عنده فضول ويُريد أن يُشبع هذا الفضول، لكن بعض الناس ليس عنده الفضول هذا، لذلك حتى لا يُفكِّر في الله كثيراً، يُؤمِن بالله ويُصلي لله لكنه لا يُفكِّر في الله، هو غير مُهتَم! وكما قلنا يكتفي بصورة ليست صبيانية فقط وإنما وثنية تشبيهية تجسيمية – مُغرِقة في الوثنية – عن الله، الجسم الكبير الجالس فوق كرسي فوق السماوات العاليا، فوق! فوق السحاب وينتهي الأمر، مثلما كان يتصوَّر الواحد حين كان عمره خمس أو ست سنوات، شيئ غير عادي هذا على الإطلاق، هو مُقتنِع بهذا، لكنه لو طرح على نفسه السؤال الذي طرحه المُهندِس بركات في أسبوع سابق فسوف يُجَن، وقد طرَّحته على أحد الأشخاص – وهو مُتعلِّم تعليماً جامعياً لكنه شبه عامي – قبل يومين، فصُدِّع الرجل واصفر واحمر وجهه ثم رأيته يبكي، فأدركت أن فيه خير، فقلت له ما القصة؟ قال لي هذه أول مرة أسمع فيها الكلام هذا، فقلت له أهذه أول مرة؟ أهذه أول مرة تُفكِّر فيها في هذا الكلام؟ فقال لي هذه أول مرة أُفكِّر فيها في هذا الشيئ، وهذا الشيئ مُتعِب جداً ومُحيِّر، فظيع هذا الشيئ، وهذا صحيح طبعاً!

هناك أطفال أعطاهم الله الفضول الإنساني لذا يُفكِّرون في هذه النواحي التي تتعلَّق بطبيعة علاقة الله بالوجود وعلاقة الوجود بالله بالبساطة التي طرحها المُهندِس بركات، لكن هذا سؤال كبير، هذا قديم قِدم الإنسان وقِدم الفلسفة وقِدم الدين، الله – تبارك وتعالى – كان ولم يكن معه شيئ، بعد ذلك شاء أن يُوجِد الكون، أين أوجده؟ هل أوجده في فراغ؟ أي فراغ هذا؟ هل خارج ذات الله يُوجَد فراغ؟ هل الله محدود إذن؟ وقعت في التجسيم مُباشَرةً، لا! ليس الأمر هكذا، إذن أين أوجده؟ هل أوجده في نفسه؟ هل الكون هو نفسه؟ إذن هذه وحدة الوجود، أنت وقعت في مأزق إما وحدة الوجود أو تحديد الله، أين الحق؟ كيف؟ ما طبيعة العلاقة بين الله وبين الكون؟ شيئ صعب جداً جداً، وهذا سؤال بسيط، ينبغي على كل إنسان أن يبدأ منه.

إنسان فوق الثلاثين عمره وجامعي لكنه في حياته ما سمع به ولا فكَّر فيه، لأنه لا يُفكِّر أصلاً، وهو يُصلي – لا يترك فرضاً – ويقرأ القرآن لكن ليس عنده فكر، المسكين يحفظ ويُردِّد ويُرتِّل دون أن يُفكِّر، لا يُوجَد تفكير للأسف الشديد، لا يُوجَد فكر، لعدم وجود تدريب على الفكر!

قبل يومين رأيت مشهداً طيباً ومُحزِناً، يُفرِح ويُحزِن في نفس الوقت! شباب صغار بعضهم ربما يصل عمرهم إلى ثماني أو تسع سنوات – أكبرهم لعله كان ابن الثالثة عشرة – أتوا بهم في قناة إسلامية، يحفظون خُطباً للشيخ محمد حسان – بارك الله فيه – ومَن مثله، يحفظون الخُطب كما هي! بالأخطاء النحوية طبعاً وبالأخطاء الصرفية وما إلى ذلك، يحفظونها كلها كما هي، والأخطاء كانت كثيرة طبعاً جداً جداً، كما هي! لكن أنت تسمع الآن إلى شيخ كبير مُسِخ في شيخ صغير، يخطب تماماً ويأتي بالآيات ويقول أخرج الطبراني وأخرج فلان وعلان، ففرحت بأن عندنا طاقات مثل هذه، مصر فيها العجب – ما شاء الله – حقيقةً، أولاد صغار! ولد عمره خمس سنوات يصعد المنبر ويخطب في الناس يوم الجُمعة، مُدهِش هذا يا أخي! ولكن المُحزِن أن ليست هذه الطريقة، هذا لا شيئ! أنا قلت لأهلي هذا كلام فارغ، للأسف هذا المُحزِن، لكن المُفرِح أن هناك طاقات، يُوجَد شباب مُتفتِّح وأطفال مُتفتِّحون جداً، الواحد منهم لو بمنهج سليم رُبي ودُرِّب وفُتِّقت طاقاته فسوف يُصبِح شيئاً مُمتازاً، بعد عشر أو عشرين سنة من الفكر والدرس والنقاش سوف يُصبِح مُفكِّراً وفيلسوفاً، ومن ثم سوف يُفيد هذا، أليس كذلك؟ سوف يُترجِم عن عظمة الإسلام، لكن بالطريقة هذه دفنوه حياً، انتهى! وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ۩، هذه هي! نحن نتساءل فقط، لأن هذا لا يُمكِن، هذه ليست عقلية تربية، لماذا التحفيظ؟ لماذا؟ ممنوع أصلاً، هؤلاء ليسوا خُطباء أبداً، فكِّر! ولذلك حين انتهى موضوع الخُطبة المحفوظة وسُئل الواحد منهم أسئلة اجتماعية بسيطة – مثل كيف تُعامِل إخوانك؟ كيف تُعامِل أبويك؟ – بدأ يتكلَّم بلُغة فيها رطانة شديدة جداً جداً، لازمات تتكرَّر باستمرار، لا تُوجَد أي درجة من البلاغة عند هذا المسكين، ويعتذر الشيخ قائلاً هذه براءة، قبل قليل لم تكن هناك براءة، كان خطيباً كبيراً! أسلوب غلط هذا، لماذا تمسح عقله بهذه التكرارية وبهذا الحفظ؟ ممنوع! ربّه مُنذ نُعومة أظفاره على أن يطرح الأسئلة وأن يتكابد إيجاد أجوبة، وعلِّمه أن أكثر الأسئلة المُهِمة والخطيرة إن لم يكن كلها لا يُجاب عليها بالشكل الحدي الرياضي، أي بنعم أو لا، الأمر ليس كذلك أبداً، وأكثر الأسئلة أيضاً لا يُوجَد جواب نهائي عنها، وفيها وجهات نظر كثيرة جداً، علِّمه واخلق منه هذه العقلية، لكن ليس عندنا هذه العقلية للأسف.

على كل حال إذن أول شيئ – كما قلنا – الوجود، بعد ذلك الفضول المعرفي، وبعد ذلك السعادة، إذن ثلاثة أشياء! ثلاثة أشياء تُحدِّدها الفلسفة الهندوسية، ما السعادة؟ عبارة عن مجموع الأحاسيس والمشاعر التي تقف في تضاد مع كل معاني الإحباط واليأس والعدمية، كل شيئ ليس له علاقة بالإحباط وباليأس وبالعدمية، هذه هي السعادة! إذا تسرَّب اليأس أو الإحباط أو الشعور بالعدمية – ما العدمية؟ اللامعنى، العبث، تقول لماذا؟ ما الأمر؟ لا يُوجَد شيئ، لا يُوجَد جواب عن لماذا؟ إذن انتهى – فلن يُمكِن للإنسان أن يكون سعيداً، لذلك أنا أقول لك أنك يُمكِن أن تجد إنساناً غنياً – مليونيراً مثلاً – تزوَّج أجمل الغواني والغيد الحسان وعنده كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من المُتع الحسية لكنه تعيس جداً جداً بل قد ينتحر، لماذا إذن؟ لأنه محكوم أو محصور أو مسجون في سجن عدمي من الناحية الفكرية والفلسفية للحياة، يرى كل شيئ بلا معنى، بلا غاية، وبلا هدف، لماذا؟ لا يفهم هو، تعيس! هذا الإنسان تعيس، لا يكون سعيداً، وتجد إنساناً فقيراً – فلّاحاً مسكيناً مثلاً – تكفيه خُبزة وبيضة وبصلة لكنه سعيد جداً جداً، لماذا؟ لأنه يعتقد بغاية لهذا الوجود، يعتقد بغاية له وبغاية لحياته وبغاية حتى لفقره، لماذا هو فقير؟ ولماذا غيره غني؟ يرى حكمةً في هذا، يُؤمِن بها على كل حال ويتسلى بها، تجده سعيداً ومُطمئناً وساكناً، وليس عنده سكر أو ضغط دم أو سرطانات أو مشاكل تتعلَّق بالقولون الغيظ وما إلى ذلك طبعاً، ليس عنده عصبية في المعدة ولا أي شيئ، مُمتاز! ويموت بعد أن عاش ثمانين سنة وهو سعيد ومُتهنِّئ في كل حياته، مُهِم جداً هذا!

بعض الناس بالمُناسَبة الآن – وأنا دائماً أقول هذا ينطبق حتى على المُسلِمين للأسف – لا يظنون أن تصور الحياة ومبدأ الانطلاق والمُنطلَقات الفكرية لها إسها وأثر بل لها كل الأثر والإسهام حقيقةً – أكثر من تسعين في المائة – في كيفية حياتنا، كيف تكون حياتنا؟ لكنهم لا يظنون هذا، الواحد منهم يقول لك لا، غير صحيح! المال هو المُهِم فقط، المال! لو حصَّل المال لحدث له كل شيئ يتمناه، لكن – والله – لن يحدث لك أي شيئ، والله العظيم! سوف تُدمَّر به كدودة القز، سوف تشنق نفسك به، وسوف تعيش تعيساً، ليس المال يا رجل، فكِّر يا أخي! لكن مثل هذا لا يفهم، لا يقدر على أن يفهم، إذن فليذهب وينتحر، سوف ينتحر! ليس هذا، هناك أشياء أهم من هذا بكثير، وحدَّثتكم كثيراً عن أُناس أعرفهم جمعوا المال – جمعوا ومنعوا – من هنا ومن هناك، ثم خسر الواحد منهم كل شيئ، خسر زوجه وأولاده وأصدقاءه ودينه، وأنا قلت أكبر خسارة هي أنه خسر نفسه، أنت خسرت نفسك يا رجل، ليس بهذا! وتجدون في المُقابِل أُناساً آخرين على العكس من هذا، وضعهم المادي مُتواضِع جداً جداً جداً، لكن رضخ الواحد منهم وعطاؤه غير معقول، فهل يُمكِن لإنسان – مثلاً – في يوم أن يُعطي مُرتَّبه لخمسة أشهر؟ يُمكِن، أنا أعرف أُناساً على هذا النحو، ما رأيك؟ في يوم بل في ثلاث ساعات يُعطي ويتصدَّق براتبه الذي حصل عليه بعد شغل لخمسة أشهر كاملة، يُمكِن أن يُعطيه في ساعة ومع ذلك هو سعيد، ولا يلوم نفسه ولا يتردد، أسعد من السعادة ذاتها! عنده فلسفة في الحياة هذا يا أخي، الحياة تحتاج إلى فلسفة بالمُناسَبة، لا تُعاش هكذا الحياة، افهم! لكنه لا يفهم هذا، يظن أنه فيلسوف أكثر منك ألف مرة، فليذهب ولينتحر إذن!

على كل حال نأتي إلى موضوعنا، تقول الهندوسية لكن هذه الثلاثة الأشياء لا يكتفي منها المرء كما هي، بل يُريدها بشكل لا نهائي، يُريد وجوداً ليس له حد، ليس لها نهاية! أن يُوجَد فلا ينتهي، أي يخلد فلا يموت، يُريد معرفةً لا حد لها، كل شيئ! يُريد أن يعرف معرفة تامة بكل شيئ، الله أكبر! يُريد سعادة لا حد لها، سعادة من غير تنغيص، سعادة حقيقية بلا حدود، ما هذا؟ أي أنه يُريد ما تدعوه الهندوسية بالموكتي Mukti، ما معنى الموكتي Mukti؟ التحرر، لأن هذا الحدود النهائية وهذه التخوم الحدية هي ما يُشوِّش على الإنسان ويجعله يشعر بأنه غير هادئ وغير ساكن وغير واصل، مقطوعاً صار! لأن هناك حدوداً لوجوده، حدوداً لمعرفته، وحدوداً لسعادته، قد يقول لي أحدكم وهل يُوجَد أمل في اللاحدود؟ طبعاً، هذا الهاجس والشغل الهندوسي الشاغل، أن نُوصِّلك إلى التحرير، تتحرَّر! تتحرَّر من الثلاثة الأشياء، من حدود المعرفة ومن حدود الوجود ومن حدود الإحساس بالسعادة تتحرَّر، تصل إلى مرتبة الموكتي Mukti، هل هذا مُمكِن؟ قلت لكم في المرة السابقة إن الهندوسية تصدمنا حين تقول لنا كل ما ترى أنك مدفوع إليه أكثر وبشدة أقوى لكي تُحصِّله يُمكِنك أن تُحصِّله، تستغرب أنت وتقول هل فعلاً مُمكِن هذا؟ قالت لك نعم، ثم في النهاية تصدمنا أكثر فأكثر حين تتلو علينا هذا التقرير: كل ما تسعى إلى تحقيق امتلاكه أنت لا تستطيع فقط أن تمتلكه، أنت تمتلكه الآن، صدمة أكبر! هو عندك، موجود عندك، قد تقول أهو عندي؟ كيف؟ أين هو؟ إذن لماذا لا أشعر؟ لماذا لا أشعر بأنني فعلاً غير محدود على الأقل في وجودي؟ أشعر بأنني دائماً محدود في وجودي وأخاف من الموت وأخاف من الفناء، أليس كذلك؟ فكيف إذن؟ لم أشعر يوماً بأنني فعلاً غير محدود، قالوا لك نعم، هنا تبدأ بداية جديدة، أنت تشعر فعلاً بالمحدودية وتفتقد الشعور باللامحدودية، لماذا؟ لأنك بعيد من ذاتك الحقيقية، وتكلَّمنا غير مرة عن ذاتين للإنسان، الذات السطحية والذات الأعمق التي يُسمونها الذات الكُلية الأزلية السرمدية، أي أنهم يعتبرونها من طبيعة الله، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، يقولون هذه من طبيعة الله السرمدي الأزلي، موجودة فيك هذه! وأقاموا عليها بعض الأشياء، لكن هل مُمكِن أو هل هناك طريقة فعلاً لكي نتوصَّل إلى هذا الإدراك الحقيقي والأعمق والنهائي بهذه الذات اللامُتناهية وبالتالي نندمج في النهاية ونصل إلى الله؟ هذا في طرح الهندوسية! قالوا نعم، نعم مُمكِن هذا وسهل، هذه ليست عملية مُستحيلة، عبر ماذا؟ هناك مناهج مُعيَّنة عندهم وهي المعروفة باليوجا Yoga، أتسمعون باليوجا Yoga؟ الغرب هنا يعرف اليوجا Yoga ويُدرِّسها وأنشأ لها معاهد، لكن أي نوع من اليوجا Yoga؟ الهاتا يوجا Hatha yoga، يُسمونها الهاتها أو الهاتا، الهاتا يوجا Hatha yoga هي يوجا Yoga القوة، والتي تهدف فقط إلى التحكم في ماذا؟ في البدن، تهدف إلى التحكم في البدن والسيطرة التامة على البدن، هذه اليوجا Yoga كانت موجود بلا شك، ولكن هي أضعف اليوجات الخمس Five yogas، اليوجات Yogas خمسة وهذه أضعفها، وإنما أرادها الهنادكة في البداية كمعبر وكوسيلة لما هو أبعد منها، الهندوسي لا يُريد أن يتحكَّم في بدنه وأن يُسيطر عليه من أجل سعادة حسية أو من أجل المُباهاة أو من أجل إظهار القوة والتسلط على البدن، بالعكس! يعتقدون أن هذا إن كان هو الهدف فهو سُم حقيقي يُسمِّم الشخصية، بدل أن يُحرِّرها وأن يُعتقِها وأن يُنضجِها هو يفعل العكس، هو يُدمِّرها تماماً، لماذا؟ لأنه يُصيبها بالفخر وبالكبرياء وبالغرور والانتفاخ، وهذا مُدمِّر تماماً! 

ولذلك نحن شأن كل الدارسين للهندوسية لن نعتني بهذه اليوجا Yoga، الهاتا يوجا Hatha yoga هذه لا تعنينا، سنُدلِف الآن إلى اليوجات Yogas الأُخرى وهي أربع يوجات Yogas، لماذا أربع يوجات Yogas؟ الغاية واحدة فلماذا لا يكون الطريق واحداً؟ هل هو طريق واحد أو واحدة والوسائل مُختلِفة؟ لا، هذا ليس اختلاف وسائل، مثل أن هذه الطريق واحدة لكن الشخص الأول يقطعها بالسيارة، الشخص الثاني يقطعها بالدرّاجة – أي Bicycle بالإنجليزية أو Fahrrad بالألمانية -، الشخص الثالث يقطعها مشياً على الأقدام، الشخص الرابع يقطعها بالطائرة الشراعية مثلاً، والشخص الخامس يقطعها بالكونكورد Concorde، هذه طريقة واحدة والوسائل مُختلِفة، لكن اليوجا Yoga ليست كذلك، الطرق مُختلِفة! ليست وسائل مُختلِفة في طريق واحدة، طرق مُختلِفة – نعم – تُؤدي إلى غاية واحدة، ما سر وما نُكتة هذا الاختلاف في هذه الطريق اليوجائية أو اليوجاوية؟ نُكتة الاختلاف أن الفلسفة الهندوسية لاحظت – وهذا حق من حيث الأصل، من حيث المبدأ لا يمتري فيه اثنان – أن طبائع البشر مُختلِفة، وهذا صحيح! أنا هذا المَدخَل أو المُدخَل – وهذا المُدخَل يُعتبَر مدخلاً سيكولوجياً حتى – اعتمده كثيراً في فهمي لأشياء كثيرة، وينبغي أن يُعتمَد من حيث الأصل، ليس عيباً وليس غلطاً! بعض الناس يغلب عليهم الطابع العقلاني، الشخص العقلاني – Rationalist – إذا آمن عقله بشيئ فإنه ينقاد إلى كل شيئ، هذه البداية! إذا لم يُؤمِن فمن الصعب جداً أن ينقاد، هو هكذا عقلاني! بالمُناسَبة هذا الشيئ تستطيع أن تسبره وأن تختبره في جماعة من أصدقائك يعيشون معك، تُفكِّر فتقول أتضح أن الحاج فلان هذا عقلاني، فعلاً هذا مضبوط! لكن هذا عاطفي وهذا عملي – Practical – أو عملاني وهذا تجريبي إمبريقي، هذه هي الطبائع في الفلسفة الهندوسية التي يتميَّز بها بنو البشر.

بعض الناس يغلب عليهم الطابع العقلاني، حين نقول هذا إنسان عقلي يكون بمعنى أنه يغلب عليه الطابع العقلاني، لا أنه عقلاني صرفي وعقلاني ونُقطة، لا! هو عقلاني وعاطفي وعملي وتجريبي – هذا صحيح – لكنه بدرجة  ولى وبشكل رئيس وأساسي هو عقلاني، أي أنه عقلاني أولاً ثم ما شئت من تصنيفات أُخرى ثانياً وثالثاً ورابعاً، لكنه عقلاني أولاً، أي أن القيادة لمَن؟ مَن الذي يقود العربة؟ العقل هنا، الذي يقود عربة أفلاطون Plato هنا – نرجع إلى أفلاطون Plato وإلى العربة والسائق وإلى آخره – هو العقل وليس العاطفة، هذا أولاً!

ثانياً هناك أُناس يغلب عليهم الطابع العاطفي، هم بدرجة أولى وبشكل رئيس وأساسي عاطفيون، ليسوا عقلانيين، فهم عاطفيون أولاً ثم عقلانيون ثانياً أو ثالثاً، عاطفيون! وهذا صحيح، لذلك أنا قلت مرة في خُطبة يا إخواني إن الناس الذين يُريدون – مثلاً – أن ينتهي شيئ اسمه التروحن أو التصوف مثلاً – والمُشكِلة ليست مع التصوف كتصوف، المُشكِلة مع المنهج والطريقة والنزوع – لا يعرفون فلسفة حياة الإنسان، مُستحيل! لا تستطيع مهما حاولت، لذلك اجعل قصاراك ودع قصاراك أن يكون التهذيب والتشذيب والحل الوسط أو الحلول الوسطى، أي الــ Compromises، لكن أن تقول أُريد أن أقضي على شيئ اسمه تصوف فلا يُمكِن، لا تستطيع! لماذا؟ التصوف ليس منهجاً، قد تقول لي يُوجَد منهج، وأنا أقول لك تُوجَد مناهج، التصوف ليس مدرسة، التصوف مدارس! التصوف الأصلي نزوع في البشر أو بالأحرى في بعض البشر وفي قبيل من الناس، النزوع هذا موجود، لا يُمكِن القضاء عليه، بعض الناس يغلب عليه هذا، وقلت لكم سبرت هذا في كثير من إخواني، بعض إخواني عنده هذا النزوع، وهذا إذا لم يضبطه بنور العقل وحُكم الشرع  وضوابط الشرع فإنه يُمكِن أن ينزلق وبسهولة – عنده قابلية إلى هذا – إلى قبول الخُرافات والأساطير والأكاذيب والمزاعم، ومثل هؤلاء هم الجُند السهل الذين يُمكِن أن يُحشَدوا وأن يُعبَّئوا وأن يُجنَّدوا لصالح كذبة المُتنبئين وكذبة المُصلِحين وكذبة المهديين أو المُتمهديين، هؤلاء يُمكِن أن يحدث معهم هذا بسهولة، بسهولة والعياذ بالله! حتى لو ادّعى بعض أسيادهم أو علمائهم أو أشياخهم الربوبية فإنهم يدعونها فيهم، يقولون نعم، هذا موجود في أحدهم، بمعنى مُعيَّن هو رب، لِمَ لا؟ ما المانع؟ المسيحيون يعتقدون هذا في مسيحهم! هؤلاء عندهم هذه القابلية للأسف الشديد، لكن بعض الناس ليس كذلك، هو عقلاني! والعقلاني هذا يركب عليه تماماً المنهج السلفي، يأخذ الأشياء بظواهرها وبجمودها وبجفافها، ولا يشعر بأن لديه حافزاً قوياً لترطيب هذا الجو الجاف، يعيش جافاً ويموت جافاً، هذا المسكين يغلب عليه هذا، وهذا ناقص أيضاً، وهكذا! 

هناك طبائع يا جماعة، ولذلك هناك ما يُسمونه بنظرية الأنماط Types theory، نظرية الأنماط هذه موجودة من أيام الفلسفة اليونانية، وموجودة طبعاً عند علماء النفس المُعاصِرين، وكل واحد عنده نظرية في الأنماط، يونج Jung عنده شيئ، وأدلر Adler عنده شيئ، وفلان عنده شيئ، كل واحد عنده نظرية في الأنماط وفي علم النفس التفاعلي Interaction Psychology، قصة طويلة عريضة! الهندوسية لديها نظرية في الأنماط، أنماط الشخصية Types of personalities! هذه هي التي ذكرناها، إذن النمط الثاني هو النمط العاطفي.

النمط الثالث هو النمط العملي، بعض الناس ليس عنده فُسحة وليس عنده نزوع داخلي، لماذا؟ ليُمارِس هذه التأمليات والتجريديات والفلسفيات، ولا أيضاً الخضوع لمُقتضى العواطف والأحاسيس الجوانية، لا! رجل عملي، يُريد أن يعمل، يعمل عملاً، Practice! يعمل ويقول العمل عبادة، يعمل مُوظَّفاً أو مُديراً أو مسؤولاً أو مسؤولاً عنه، يُريد أن يعمل الرجل هذا، يُريد أن يعمل! يقول الحياة عبادة، بعض الناس من معارفي وإخواني هكذا، عادي! والواحد منهم مُتعلِّم ويسمع الدين والخُطب، لكن عند أولوية للعمل، بالنسبة إلى الصلاة جيد أنه يُصلي لكنه يُمكِن أن يُؤخِّرها قليلاً أو يُقدِّمها قليلاً فيُفرِّط فيها، لكنه في العمل ليس كذلك، ويُبرمِج كل حياته عليه، في الثانية عشرة لابد وأن يكون نائماً، يستحيل أن يفعل غير هذا، لأنه في الساعة السابعة سوف يكون في العمل، مُقدَّس عنده العمل! وقد يكون هذا عملاً شخصياً، أنا أعرف بعض الناس يفعل هذا مع عمل خاص به، أي يشتغل وحده، عند نفسه! هو مُعلِّم نفسه لكن لا فائدة، في السابعة يكون في الشغل، وحده يفعل هذا، لا يقدر على ألا يفعل هذا، هو هكذا! لا يأخذ لا أجازات مرضية ولا غيرها، عمل! يقول لك العمل عبادة، هذه كلها مانشيتات، هذه مانشيتات وديباجات لتبرير نزوعه، هذا المسكين نمطه هكذا، هو هكذا!

أنا – مثلاً – شخص غير عملي، أنا أكره العمل كرهاً شديداً جداً جداً جداً بشكل لا تتوقَّعونه، أُحِب التجريد والتأمل، سُبحان الله! نمط هكذا، هذا نمطي شخصيتي، لا أصلح لأن أكون مُوظَّفاً أو أكون مُديراً، لا أنفع بالمرة في الأشياء هذه، لا تصلح لي على الإطلاق، هذه أنماط موجودة!

آخر شيئ يُوجَد النمط التجرييي الإمبريقي، ليس أنه عقلاني أو عاطفي أو عملي Practical، لا! هذا يُريد أن يُجرِّب، هو يُمكِن أن يقبل أشياء عند البعض تُوصَف بأنها عاطفية – قرارات عاطفية ومواقف عاطفية – أو تُوصَف عند البعض الآخر بأنها عقلانية – قرارات عقلانية – وما إلى ذلك، هذا لا يهمه كل هذا، يُريد أن يعيش الشيئ هذا، يقول لك أرني إياه، دعني أُجرِّبه، بعض الناس ليس عند هذا، العقلاني هذا – مثلاً – يقول لا، هذا الشيئ لا يدخل العقل، فتقول له يا أخي جرِّبه، فيقول لك لا، لا يهمني، تقول له هذا حصل من قبل، فيقول لك هذه حالات شاذة لا يُقاس عليه، عقليته عقلية فرانسيس بيكون Francis Bacon، يقول لك أنتم حفظتم ألف حالة ونسيتم مليون حالة، تقول له يا أخي هناك كذا وكذا، لكن لا فائدة، يسد عقله، هذا عقلاني! أما الآخر فليس كذلك، نوع مُختلِف، يقول لك نعم، ليس عنده موقف نهائي وحدي من موضوع اسمه عقل أو خُرافة أو عاطفة، يقول لك أرني هذا، إذا قدرت على أن أُجرِّبه وأعيشه فسوف أقتنع به.

أبو حامد الغزّالي – رحمة الله عليه – مُلخَّص حياته ماذا كان في النهاية؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور من النمط التجريبي، فقال له الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، من هذا النمط، هكذا أنا أُطبِّقه، أبو حامد الغزّالي في المُنقِذ من الضلال لم يقدر على أن يحسم خلقه الأيماني اللاهوتي والوجودي الأنطولوجي عبر أدلة اسمها أدلة العقل أو أدلة الشرع، شك فيها كلها! حتى أدلة الشرع صارت عنده قابلة للشك كلها والنقد، شيئ غريب يا أخي! وأدلة العقل اتضح أنها كلام فارغ، أف! مُصيبة هذه، ماذا يفعل في النهاية؟ قال دعونا نُجرِّب، ولم يكتف بالعبادة، أن أتعبَّد وأُمارِس عملي كمُدرِّس للفقه والأصول وما إلى ذلك، لا! هو ليس عملياً، قال أُريد أن أُجرِّب، جرَّبت كل شيئ فدعونا نُجرِّب ما يُسمونه التروحن والتأله والتصوف هذا، إني أُقارب الله عبر منظور مُختلِف عن تماماً عن كل هذه الأشياء، وسوف نرى! فعل هذا وترك زوجته وترك بناته، المسكين كان عنده أربع أو خمس بنات لكنه تركهن وترك التدريس، كان أكبر بروفيسور Professor وأكبر عالم في عصره، ترك كل شيئ، ترك الدنيا! وهذا قرار خطير ويعكس لك كم هذا الرجل رجل خطير رحمة الله عليه! ليس من السهل أن تتناوله باستخفاف، كأن تقول هو أبو حامد الطوسي الكذا والكذا، اسكت! ما هذا؟ احترم على الأقل ضعفك وقصورك، أليس كذلك؟ واحترم عظمة الرجل، أنت لا تستطيع أن تتخذ قراراً تترك بمُقتضاه البيت لكي تأتي وتحضر الدرس، ثم تأتي وتتكلَّم عن أبي حامد الغزّالي، ترك زوجته وترك المدرسة النظامية – كان أكبر بروفيسور Professor – والمُرتَّب العالي وآلاف التَلاميذ المُحدِقين به، ترك كل هذا وكب الدنيا على وجهها في رحلة استمرت لزُهاء خمس سنوات طوَّف بها بالمشرق الإسلامي بعيداً عن كل شيئ، عن السُمعة وعن الهيل والهيلمان والأهل وما إلى ذلك، شيئ غريب! يبحث عن الحقيقة الرجل، إنسان عظيم بلا شك، على الرأس والعين وفوق هذا، لكن يأتي إليك رجل أحمق ويُؤلِّف كُتيباً يقول فيه صنعه أبو عائشة، قال صنعه بدل أن يقول ألَّفه، ثم قال أبو حامد الزنديق، أبو حامد الكافر، هناك أُناس كفَّروه، هناك أخطاء في الإحياء! نعم هو ليس معصوماً لكن مَن أنت لكي تتكلَّم عن أبي حامد؟ أنت لا شيئ، صعلوك! لا يُسمَع لأمثالك في أمثال أبي حامد، أبو حامد يتحدَّث عنه أمثاله إذا كان له أمثال، هو مَن قال عنه عباس العقّاد – رحمة الله عليه – ما عرف الشرق ولا الغرب مُفكِّراً في قامة أبي حامد الغزّالي، العقّاد الذي قرأ سبعين ألف كتاب قال لا يُوجَد في تاريخ الدنيا مُفكِّر بالحجم هذا، إنسان غير طبيعي الرجل، خطير جداً، ثم يأتي إليك صعلوك ويتناول هذا الجبل، ما هذا؟ هذا من قلة المعرفة ومن قلة الخبرة طبعاً، أليس كذلك؟ ومن قلة المُعاناة.

لا يَعْـرِفُ الشَّـوْقَ إِلاَّ مَـنْ يُكَابِدُهُ                                        ولا الصَّبَـابَـةَ إِلاَّ مَـنْ يُعَـانِيـهَا.

لو عندك قلق لاهوتي وقلق أنطولوجي ووجودي لعرفت قيمة تجربة أبي حامد ولاحترمت الشخصية هذه، لكن هذا ليس عندك، أنت رجل كُتب وصفحات، تقرأ وتحفظ  وتقيء وتُردِّد كالببغاوات، ثم تظن أنك عالم وفيلسوف، وهذه المُشكِلة! هذه مُشكِلة هؤلاء الذين يتكلَّمون، فخربطوا الناس وقطعوا على الناس.

المُهِم نرجع، أبو حامد كان تجريبياً، من النمط الرابع هو، قال فلنُجرِّب الشيئ هذا، لن أحكم عليه بالعقل وأقول هو غير صحيح، الطريقة الصوفية غير صحيحة لأن العقل يقول كذا وكذا، لا! هذا غير موجود، جرِّب! لا يُمكِن أن تحكم على مشروب مُعيَّن إلا بعد التجربة، يُقال لك هذا المشروب اسمه المعكوك مثلاً، سنُسميه هكذا! هذا الاسم ألَّفته الآن، ما المعكوك؟ اسمه المعكوك، هل تعرفه؟ لا تعرفه، ولا أنا أعرفه طبعاً، قد تقول هذا المعكوك يبدو من اسمه شيئ سيئ جداً، المعكوك من عك، لكننا سنقول لك ما دخل اللُغة هنا يا حبيبي؟ لا يستطيع ألف أرسطو Aristotle أن يُبرهِن أن المعكوك هذا شيئ سيئ أو شيئ حسن، أليس كذلك؟ أمامنا طريق واحدة لكي نحكم على المعكوك وهي أن نشربه، أليس كذلك؟ نشربه! وسوف نرى ما المعكوك هذا، نتعكعك فيه ثم نرى ما هو بعد ذلك، أبو حامد جرَّ هذا المعكوك، قال سوف أُجرِّب، وهذا كلَّفه خمس سنوات من حياته، بعد خمس سنوات استنارت ساحة النفس طبعاً، انداح النور الإلهي، عرف الرجل! قال أنا عرفت الآن، ليس علمت وإنما عرفت! محمد حق والله حق والقرآن حق قال، هذا الدين حق قال، عرف الرجل وصار خطيراً جداً، شيئ غير طبيعي هذه التجربة، اللهم وصِّلنا إليك كما وصَّلت العارفين وعبادك الصالحين، هذا النمط التجريبي الرابع! إذن الأنماط أربعة، العقلاني والعاطفي والعملي أو العملياتي أو العملاني – بعضهم يُترجِمهم بشيئ مثل هذا – والتجريبي، هذا الأخير، أي الشخص التجريبي.

طبعاً لكل نمط يوجا Yoga خاصة به، يوجا Yoga تُوصِّله إلى إدراك الحقيقة المُطلَقة وإدراك الذات التي فيها روح الحقيقة المُطلَقة، أول يوجا Yoga يُسمونها يوجا Yoga المعرفة، أي الچِنانا – ليس الچَنانا وإنما الچِنانا – يوجا Jnana yoga، الچنانا يوجا Jnana yoga هي يوجا Yoga المعرفة، الچنانا Jnana هي المعرفة، فهي يوجا Yoga المعرفة!

اليوجا Yoga هذه يُقال أصلها من To yoke، أي يصل بــ أو يربط بــ ، نوع من الربط طبعاً بين العوالم هذه التي ترى فيها اثنينية، وفي الحقيقة تنحل في النهاية إلى وحدة، هكذا يقولون! هذا معنى هذه اليوجا Yoga، ربط! منهج الربط، تمارين للربط هذه، منهج وتمارين وطقوس للربط، ربط هذا بهذا، ربط ما تحت بما فوق، ربط الظاهر بالباطن والباطن بالظاهر، هذه الچنانا يوجا Jnana yoga، الچنانا يوجا Jnana yoga هي التي تتعلَّق بالمعرفة!

أحسب أنه وضح لكم الآن أن الچنانا يوجا Jnana yoga تُناسِب النمط الأول، العقلاني! الذي يميل وينزع إلى الفكر التجريدي، تجريد Abstract! يُجرِّد كل شيئ، لا يميل مع المحسوسات، ولذلك الإله – مثلاً – في تصور هؤلاء العقلانيين التجريديين أقرب إلى أن يكون شخصية، وإذا ذكرنا شخصية – Personality – أو شخصاً – Person – حتى فهذا مُباشَرة يقتضي التحديد، لا يُمكِن أن تتحدَّث عن شخصية إلا بتحديد، فالشخصية تقتضي أشياء وتقتضي نفي أشياء، لابد أن يكون لها حدود إذن، التجريدي ليس كذلك، على العكس من هذا، إلهه ليس أقرب إلى أن يكون شخصاً أو شخصية، بل أقرب إلى أن يكون روحاً كُليةً مُطلَقةً، ليست مُطلَقةً من الجسم والصورة والرسم فقط، بالعكس! مُطلَقة حتى من مُحدِّدات الفكر، مُطلَقة! كل ما في الوجود هو تجليات لها وتمظهرات لها، تخيَّلوا! كل ما في الوجود العُلوي والسُفلي، كل العوالم مُجرَّد تجليات لهذه القدرة المُطلَقة، إذن الإله لدى هؤلاء ليس إلهاً شخصاً وليس إلهاً شخصياً أو له شخصية، هكذا هم يميلون! 

هؤلاء بدايتهم تكون مع ماذا؟ كيف يُدرِكون؟ هؤلاء عقلانيون كما قلنا، يُناسِبهم ما شرحناه أيضاً أعتقد في مرة أو مرتين وهو فرضية أن النفس طبقتان رئيستان، هي في الحقيقة أربع طبقات طبعاً، النفس السطحية والنفس الأزلية وهي الأعمق والأوسع، والنفس السطحية هذه تُشكِّل الشخصية البسيطة السطحية بطبقاتها الثلاث أو الثلاثة – يجوز أن نقول الثلاث أو الثلاثة – طبعاً، أول طبقة ما هي؟ ذكِّروني! هل نسيتم؟ الجسم، أي الــ Body بالإنجليزية أو الــ Körper بالألمانية، هذه أول طبقة، تُشكِّل الأنا الخاصة بك، أنت تقول الأنا، أي أنا؟ الأنا التي يتعاطى معها إلى الآن الفكر الغربي والسيكولوجيا الغربية هي الأنا السطحية بطبقاتها الثلاث أو الثلاثة، إذن الجسم، بعد ذلك ماذا؟ الشخصية، بمعنى ماذا؟ الوعي، الــ Consciousness الخاص بنا والإيجو Ego الخاص بنا، أي العقل والخبرات والذكريات والمفاهيم والمبادئ الخاصة بنا وما إلى ذلك والتي حصَّلناها عبر الحياة كلها، الجُزء الواعي منا! هذه الطبقة الثانية وهي أعمق بلا شك طبعاً، بلا شك! الشيئ الثالث أعمق من هذا الوعي وهو ما دون الوعي، ما تحت الوعي، ما وراء الوعي، أو ما يُعرَف باللاوعي، العقل اللاواعي، العقل الباطن، الإيد Id، الــ  Unconscious، وهذا أقل، هذا صحيح! مُرتبِط بشكل حيوي مع الوعي عبر ماذا؟ السوبر إيجو Super-Ego، هذا معروف بحسب الطرح الغربي، الطرح الهندوسي قريب جداً جداً من هذا، سُبحان الله! شيئ غريب، تخيَّلوا أن قبل آلاف السنين كانوا يتحدَّثون عن هذه الطبقات، لكن هنا أُريد أن أفتح قوسين لكي أُسجِّل مُلاحَظة علمية منهجية، لأنها مُهِمة يا إخواني:

(العرض الذي تسمعونه مني – مثلاً – وتقرأونه تقريباً في مُختلَف الكُتب لا نستطيع أن نقول إنه يُمثِّل الهندوسية بطريقة سينكرونية – مثلاً – ولا حتى بطريقة ديكرونية)، ما معنى هذا؟ سوف نقول هذا، طبعاً هذان المُصطلَحان أنا اقتبستهما من فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure، عالم اللُغويات السويسري العظيم جداً، يُعتبَر مُؤسِّس علم اللُغويات الحديث، تحدَّث هو طبعاً عن اللُغة وأنا هنا انتخبت هذا أو اقتبست هذا في دراسة الفكر نفسه ويُمكِن فعل هذا مع الفلسفة ومع أي شيئ، يُمكِن هذا حتى مع فكرة واحدة عبر تطورها، قال يُمكِن في الدرس – يعني طبعاً الدرس اللُغوي بشكل أساسي لأن هذا ميدانه – أن نستخدم المنهج السينكروني، وهو المنهج التواقتي أو التزامني أو الآني أو السكوني، كلها ترجمات لنفس الكلمة! الــ Synchronic يعني السكوني أو الآني أو التزامني، كيف؟ في دراسته اللُغة الآن تصطنع أنت مقطعاً أو تعمل قطاعاً أفقياً ثم تأتي تدرس مُعجَمك سكونياً، أي الآن ماذا تعني هذه الكلمة؟ تعني كذا وكذا، هذه دراسة سكونية، يُمكِن أن تتخذ قطاعاً رأسياً بحيث تدرس أنت هذه الكلمات أو تدرس المُعجَم الخاص بك دراسة تعاقبية، ديكرونية يُسمونها، أي Diachronic، تدرس دراسة تعاقبية، بحيث ترى أن هذه الكلمة في البداية كانت تعاني كذا وبعد ذلك تأتي تطوَّرت بطريق المجاز أو بعلاقة كذا صارت تعني كذا ثم تُوسِّع فيها إلى غير موردها المجازي فصارت تعني كذا، وبعد ذلك أُضرِب عن هذا المعنى واستُخدِم في شكل كذا وكذا، هذه يُسمونها الدراسة الديكرونية! طبعاً يبدو أن هذه الدراسة دراسة نابضة بالحياة أكثر من الدراسة السكونية، هذا مقطع لكن هذه دراسة مُتحرِّك مُتطوِّرة، فأنا أقول في العرض هذا صعب أن أقول هذا العرض عرض سينكروني للهندوسية، غير صحيح! لماذا؟ لا تُوجَد هندوسية واحدة يُمكِن أن تقبل بكل ما أنقله لكم من أفكار بضربة واحدة وبصفقة واحدة، هذا غير موجود! سوف تجد مَن يقولون لك هذا الكلام لا نُؤمِن به، هذا غير صحيح، ليس عندنا هذا، هذا عند أُناس آخرين في مدارس أُخرى، هناك مُفسِّرون آخرون عندهم في الفيدا Vedas هذه والأوبنشادات Upanishads تفسيرات كثيرة جداً جداً، مثلما يُوجَد هذا عندنا في القرآن، هناك مدارس تفسير، كل واحد يُفسِّر بطريقته الخاصة وعنده فرضيات أُخرى وما إلى ذلك، فصعب هذا! قد تقول لي لا، أنت تعرض لنا العرض هذا على أساس تطوري، لكنني لم أفعل هذا، غير صحيح! لو فعلت هذا لأصبح الموضوع أصعب بكثير علىّ وعليكم، اليوم – مثلاً – الهاتا يوجا Hatha yoga هذه تحدَّثت عنها سينكرونياً، في مرحلة مُعيَّنة قد يرتقى معناها وآلياتها المنهجية، لكن لكي نتكلَّم عنها بطريقة ديكرونية سوف نجد أن هذه قصة مُعقَّدة، وكيف بدأت؟ ومن أين أصولها؟ ومَن رفضها من الهنادكة؟ الهنادكة في الأول كيف رفضوها؟ وما تأثير الجينية عليها؟ وما تأثير البوذية؟ وما تأثير كذا وكذا؟ عملية مُعقَّدة!

شفايتزر Schweitzer أحياناً يقوم بهذا، لكن بشكل مُقتضَب جداً يقوم بهذه الدراسة الديكرونية، من غير أن يُسميها هكذا يقوم بها، يأتي بتطور كذا وكذا، شيئ مُفيد! لماذا نحن نفعل هذا؟ لماذا أنا نبَّهت على هذا؟ لأن في نهاية المطاف – كما قلت في الدرس السابق – الهندوسية ليست ديناً واحداً، يبدو أنها أديان كثيرة جداً جداً، ليس لها مُؤسِّس واحد، ليس لها كتاب واحد، ليس لها تعاليم – Lehre – واحدة،  شيئ مُعقَّد! أي أنها دين واسع جداً جداً جداً، لكن نحن يبدو أننا ننتخب الأشياء الأكثر شُهرةً والأكثر إثارةً لمُفكِّر أو فيلسوف أو روحاني غير هندوسي، سواء مسيحي أو مُسلِم أو يهودي، نأخذها ونُحاوِل أن نعرضها، وهي مُهِمة جداً، لكن أن تظن أنها عرضاً يُمثِّل الهندوسية فهذا غير صحيح، ولذلك الآن – مثلاً – حين يأتي إلينا مُستشرِق لكي يُناقِشنا – يُناقِش واحد مثلي أو واحد مثلك – نسخر منه، بعضنا يفعل هذا بحسب علمه، هو يعرف شيئاً وعشرة أشياء لا يعرفها، أليس كذلك؟ لكن نحن نعرفها ونعرف بالضبط كيف حصلت، لكن هذا المسكين لا يعرف! وحتى لو كان مُسلِماً غير مُتخصِّص لحصل معه نفس الشيئ، يأتي وهو فرح بنفسه لكي يقول كلمتين، لكن نحن نعرف أصول هذا الشيئ وتفريعاته والاختلافات التي فيه والمدارس والأدلة وكذا وكذا، قصة كبيرة! لذلك ينبغي أن نتواضع حين نُناقِش الآخرين ولا نظن أننا بقراءة ألف أو ألفي أو ثلاثة آلاف صفحة عرفنا كل دقائق هذا الدين، لا! ليس هكذا، صعب جداً جداً.

أنت دينك بعد أن تعيش خمسين سنة إذا كانت قارئاً مُجِداً وجاداً لا تُحيط بكل تنوعاته الفكرية ومدارسه، فكيف بأديان الآخرين؟ لذلك أبو الريحان البيروني Abu al-Rayhan al-Biruni – رحمة الله عليه – في الكتاب الذي أحضرته المرة السابقة – تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة – قال هدفي من هذا الكتاب – أي مقصدي – أن أقف بك على هذا الدين حتى لا يصفر وجهك في موقف الحجاج ولا تخجل، هذا هدف مُمتاز ونبيل لكنه صعب، لا يتحقَّق في أربعمائة أو خمسمائة صفحة، مُستحيل! من أكبر المُستحيلات، لكن هو حاول، والرجل كانت له البداية طبعاً، رحمة الله عليه.

نرجع، بالنسبة إلى الچنانا يوجا Jnana yoga – كما قلنا – بداية هذا العقلاني أن يفهم أن نفسه تعني أكثر بكثير مما يظن، هم يقولون نفسك، شخصيتك، أناك، أنت، الأنا الخاصة بك، أكثر بكثير مما تظن، أنت الآن كعقلاني تظن أنك تُساوي الجسم والوعي واللاوعي، أليس كذلك؟ أكثر شيئ يُمكِن أن تذهب إليه أن تقول لا وعي، هناك أشياء في العقل الباطن تُشكِّل شخصيتي وتُملي علىّ حتى مواقف وقرارات من غير أن أكون واعياً بها ومُستيقظاً لها، فهذا هو الجُزء الأعمق من شخصيتي، لكن نقول لهذا القائل لا، أين هذا يا بابا؟ مسكين أنت! كل هذه الأجزاء الثلاثة تُشكِّل الشخصية السطحية، الشخصية البسيطة الساذجة، وسنُفهِمه الآن ونقول له هناك ما هو أعمق، وهو كعقلاني سوف يقول كيف؟ هل تستطيعون أن تُبرهِنوا هذا لي؟ سوف نقول له نعم، لكن عليك أن تصطنع خُطوات، أول خُطوة يُسمونها الاستماع، أن تُحسِن الإصغاء إلى الحُكماء، كما قُبيل قليل دمدمنا على مَن لا يُحسِن الإصغاء إلى الحُكماء كأبي حامد الغزّالي، لا تستعجل ولا تستحمق، هذا الغزّالي، افهم! اعرف قدرك واعرف قدره، حاول تقرأه بحيدة وبتعلم كتَلميذ بين يدي أستاذ كبير، على الأقل هو أستاذ رغماً عنك وعنا وعن كل الدنيا، هذا الرجل أستاذ للدنيا، سواء وافقته أو خالفته – إن كنت من أهل المُوافَقة أو المُخالَفة لهذا الرجل – لابد وأن تعتبر أنك أمام أستاذ شئت أم أبيت، أليس كذلك؟ 

المُستشرِق الألماني العظيم – مثلاً – تيودور نولدكه Theodor Nöldeke هو أحد كبار مُستشرِقي الألمان الأوائل! هذا نولدكه Nöldeke الذي أجرى دراسات على القرآن في تسعمائة صفحة، شيئ مُخيف الرجل! وطبعاً حتى تَلاميذه أجروا دراسات خطيرة، الرجل مدرسة في حد ذاته، نولدكه Nöldeke  هذا أستاذ شئت أم أبيت، حين تُناقِشه قد تقول ليس أستاذي لكنه أستاذ، وحين تُناقِشه سوف تُضطَر رُغماً عنك أن تقتعد مقعد تَلميذ أمام أستاذ، لأنك في النهاية تَلميذ، مقامك العلمي وعقليك ودراساتك – ما شاء الله – كلها مقام تَلميذ، لا تُؤهِّلك لأكثر من هذا، قد تقول أنا مُسلِم، لكن كونك مُسلِم أو غير مُسلِم أمر لا علاقة له بالقضية هذه كلها.

سأُبسِّط لك الأمر، امرأة حامل، هذه الحامل ما الذي تعرفه عن حملها؟ ما الذي تعرفه عن سلوك جنينها؟ وكيف يحيا الحياة الحيوية والحياة العقلية والنفسية الخاصة به؟ الآن هناك أبحاث خطيرة عن هذا، ما الذي تعرفه عن برنامجه الحيوي المعروف بالدي إن أيه DNA الوراثي؟ لا شيئ، يُمكِن أن يُطرَح عليه عشرة آلاف سؤال، ولا تعرف أي شيئ عن هذا، قد تقول لكن أنا الحاملة، نعم أنتِ الحاملة لكنك كالحمار يحمل أسفاراً، هذه بالضبط! حاملة كالحمار، أنتِ لا تعرفين شيئاً عنه.

طبيب آخر غير حامل، ذكر ليس عنده رحم Mutterleib، أليس كذلك؟ طبيب هو! يعرف عن حملها وعن وضع الحمل هذا ما لا تعرفه هي الآن ولن تعرفه حتى لو عاشت ألف سنة بالطريقة هذه، يعرف كل شيئ، وعنده الحق أن يتكلَّم إذن، يتكلَّم باسم هذا الحمل، أليس كذلك؟ وباسم وضع هذا الحمل الصحي ومصيره الآن المُعرَّض للخطر أو المُستقِر، هو الذي يتكلَّم وليس هي لأنها حامل، وكذلك الحال معك، قد تقول أنا مُسلِم، ونعم أنت مُسلِم لكن ماذا تعرف عن دينك؟ كيف يُمكِن أن تُترجِم هذا الدين؟ تقول أنا مُسلِم! أنت حامل للإسلام، حامل لشيئ لا تعرفه، أليس كذلك؟ حامل للعنوان، الحامل لا تزال أفضل منك، هي حامل للحقيقة، لكن أنت حامل للعنوان الديني، تقول أنا مُسلِم، ما حقيقة الدين التي عندك في وعيك وفي عقلك وفي علمك؟ ليس عندك هذا، بسيط جداً، طفل أنت! معلوماتك لا تتعدى معلومات طفل بدأ يدرس الإسلام من سنتين ثم صار عمره تسع سنوات، أنت لا تتعدى هذا، هناك أطفال كثيرون يحفظون كتاب الله، لكن أنت غير حافظ على الأقل لكتاب الله، هم أحسن منك! هناك مَن يحفظون رياض الصالحين، وأنت غير حافظ لرياض الصالحين، هم أحسن منك! أليس كذلك؟ هناك مَن يعرف سُنن الوضوء – خمس وثلاثين سُنة – كلها، لكن أنت لا تعرفها، هم يعرفونها! فهذه ليست المسألة، لذا هذا أستاذ في النهاية، فتعلَّم منه!

اليوجا Yoga تُعلِّم التواضع، تقول لك أول شيئ الاستماع، فضيلة الاستماع Listening، تعلَّم! كيف تتعلَّم؟ عبر الاستماع، الحُكماء الكبار وأصحاب التجارب والذين قطعوا الطريق عليك أن تتواضع أمامهم وأن تأخذ مقعد تَلميذ.

مالك بن نبي – المُفكِّر والفيلسوف الجزائري الكبير رحمة الله عليه – ماذا قال؟ قال ما الفرق بيننا وبين اليابان؟ هذه اليابان! وبعضهم حتى بلا أديان، أليس كذلك؟ وديانتهم هي الشنتوية، وسوف أُعرِّفكم بها – إن شاء الله – بعد هذه الحلقات، سوف ترون ما الديانة الشنتوية هذه، وطبعاً هناك البوذية الخاصة بهم، ما هذا؟ نحن أفضل بكثير – على أساس ديننا – لكن لماذا هم عملوا الحضارة والنهضة والتحديث ونحن فشلنا؟ مالك بن نبي لخَّص الأمر بكلمة، عبقري الرجل! قال رضوا وتواضعوا – وهذه واقعية – أن يأخذوا موقع وموقف تَلميذ من أُستاذه، بما يختص بالتقنيات والحضارة العلمية المادية هذه قالوا يبدو أننا مُتأخِّرون، بغض النظر عن أخلاقنا وتقاليدنا والساموراي Samurai والشوغون Shogun وما إلى ذلك نحن أمام الناس مُتواضِعون جداً، علينا في هذا الباب بالذات المُسمى بالعلم والتكنولوجيا أن نكون مُتواضِعين تواضع التَلميذ أمام أُستاذ، قال العربي والمُسلِم لا يفعل هذا إلى الآن، يأتي ويتأستذ عليهم.

والآن أصابتنا بالهبل حكاية الأعجاز العلمي، صرنا هاربين من التحدي كله باسم أنهم سُبِقوا، هذا موجود عندنا، القرآن قال، النبي قال، ابن حزم ذكر في الفِصل كذا وكذا! ابن حزم كتب سطرين عن كروية الأرض، هل عمل على هذا إثباتات هندسية وإثباتات رياضية؟ ما هذا الهبل الذي عندك؟ هذه النظرية الإمام سيف الدين الآمدي في الإحكام سبق إليها دي سوسير De Saussure، أنا – كما قلت لك – حين كان عمري أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة – واتضح أنني كنت أهبل في النهاية – قرأت صفحتين عن دي سوسير De Saussure وقرأت كتاب الآمدي – رحمة الله عليه – ففكَّرت وقلت ها هو، والناس تعجَّبوا مني، تعجَّبوا من عبقرية عدنان الفذة، قلت لهم دي سوسير De Saussure هذا سبقه الآمدي، هذا صحيح ومضبوط! سبقه وقرَّر جوهر الشيئ في خمسة أسطر، لكن دي سوسير De Saussure تحدَّث في ألف صفحة يا حبيبي، ألف صفحة! كيف يُمكِن أن تُقارِن هذا بهذا؟ هل تعرف كيف تكون المُشابَهة؟ أنا أقول لك إنها تماماً مثل مُشابَهة الصاروخ الورق – هل تعرفون الصاروخ الورق؟ كنا نعمله – بالصاروخ الحقيقي، هذا صاروخ وهذا صاروخ! وصدَّقت أن عندك صاروخ، أليس كذلك؟ هي هذه! نحن عندنا صاروخ، هم أطلقوا صاروخهم وأنا أطلقت صاروخي، لكن هذا صاروخ من ورق يا حبيبي، افهم! إياك أن تستغفلك اللُغة، أنت مُسلِم وأنا مُسلِم، لكن أنت مُسلِم بتجربتك وفهمك وأنا مُسلِم بتجربتي وفهمي وهو مُسلِم بتجربته وفهمه، والفرق بيننا يبدو أنه أحياناً يستطيل ويمتد فيُصبِح كالفرق بين الصاروخ الورق والصاروخ الحقيقي، ما رأيك؟ لا تقل لي هذا، هم رجال ونحن رجال! تماماً كالفرق بين هذا الرجل وبين أبي حنيفة أو الشافعي، هذا هو! هم رجال وأنت من الرجال، نعم بلا شك، عن أي معنى تتحدَّث أنت عن الرجولة؟ وهكذا! فعلينا أن نكون واضحين، هم يُعلِّمونك هذا، قالوا لك في الچنانا يوجا Jnana yoga تتعلَّم التواضع بالاستماع، فتستمع إلى شيئين، إلى الحُكماء المُجرِّبين من قاطعي السُبل والطرق إلى معرفة الحقيقة، وأيضاً إلى الكُتب المُقدَّسة، الكلمات المُقدَّسة هذه تقرأها وتتمعَّن فيها جيداً، هذه أول خُطوة لك، لابد منها!

ثانياً قالوا التفكير، وهذا يُناسِبك جداً لأنك عقلاني، أليس كذلك؟ أنت نمط تأملي، نمط تفكيري! قالوا هذا يُناسِبك، فكِّر بعمق، استخدم ما عندك، أنت الآن عندك سكين تقطع الزبد، لعلها بعد قليل تقطع الصخر، سوف نُجرِّب وسوف نرى! لكنها تحتاج إلى شحذ، تحتاج إلى شحذ وتحتاج إلى مران، سوف نرى هذا، هل يُمكِن بهذه السكين – سكين التفكير – أن تقطع؟ عندهم عبارة هامة، الهندوس ماذا يقولون؟ يقولون هذا ما يلزمه أن يقطع عالم الجهل بسيف التمييز، كيف؟ هناك طرق كثيرة، منها الطريقة التي هي أشيع وأخطر وأذكى والتي عرضناها قبل أسبوعين تقريباً، يقولون ما دمت تُفكِّر وتستخدم الطرق الإضافية في التفكير ألم تُفكِّر في حقيقة الإضافات حين قلت قلمي وكتابي ومسجدي وشيخي وربي ونبيي وزوجي وابني وفكري وكتابي، إلى آخره؟ في كل هذه الإضافات يُوجَد جامع مُشترَك أو قاسم مُشترَك، ما هو؟ الغيرية، الاثنينية، كتابي غيري أنا، هذا كتابي – نعم – سواء امتلكته أو ألَّفته، لكنه غيري، لن أحترق، لو مزَّعته أو حرقته لن أحترق، لن يحدث لي أي شيئ، هذا غيري! صحيح أنه غيري، هذا مضبوط، لو طبعته أو استنستخته لن تُوجَد مني نُسخ كثيرة، لأنه غيري، مسجدي هذا غيري، وكذلك الحال مع ربي ورسولي ونبيي وزوجتي وابني، كل هذه الأشياء غيرين الإضافة دائماً تقتضي اثنينية، ما معنى اثنينية؟ من اثنين، لابد من اثنين، هذا يُوجَد وهذا يُوجَد، غيرية! وهذا جميل، وطبعاً هذا شيئ بدهي كما يُقال، هذا الطفل يفهمه، الاثنينية هذه في الإضافة واضحة جداً، بل هي حقيقة الإضافة أصلاً، أنا أقول الاثنينية ليست من لوزام الإضافة، يبدو أنها هنا حقيقة الأضافة، لازم!

إذا كان ذلك كذلك فما حقيقة الإضافة في نفسي، أناي، شخصيتي، عقلي، وفكري؟ عقلي يقول لي، عقلي يُفكِّر، وعقلي يعقل! كيف عقلك يعقل؟ وكيف العقل يعقل نفسه أصلاً؟ ما معنى أناي؟ ما معنى ذاتي؟ وما معنى شخصيتي؟ أضفتها إلى مَن الآن؟ أطرح عليك سؤالاً خطير جداً جداً، أضفتها إلى مَن؟ قد تقول كيف؟ وكأنك لأول مرة تسمع هذا السؤال المُزلزِل المُحيِّر والمُخيف، والله هذا صحيح! أنا حين قلت كتابي أضفت الكتاب إلىّ، لكنني حين قلت شخصيتي أضفت الشخصية إلى مَن؟ هل أضفتها إليك؟ هل أنت تُضيف أناك إلى أناك؟ أين التغاير هنا؟ قد تقول هذا يعني عدم وجود تغاير، لكن هذا غير صحيح، يُوجَد تغاير طبعاً كما في كل الأشياء، يُوجَد تغاير، الإضافة لا تكون إلا بالتغاير، يُوجَد تغاير! حقيقة الإضافة التغاير، ولذا قد تقول لي هل هذا يعني أن عندي أنا أُخرى وشخصية أُخرى وذات أُخرى غير هذه الذات التي أضيف إليها؟ بالضبط، هذا ما تقوله الهندوسية، تقول لك بالضبط، الآن أنت بدأت تفهم، لأنك عقلاني بدأت تفهم عن طريق التفكير، حين تقول أناي وشخصيتي وذاتي هذا يعني أنك تُضيف هذه الأشياء إلى شيئ آخر هو أنت، أين هذه الأنا الخاصة بي؟ هناك الأنا الحقيقية، قالوا هي السرمدية الخاصة بك والعميقة والأوسع، موجودة وتخصك، وهي أنت فعلاً، والتي أضفت إليها هذه الأنا والشخصية والذات السطحية، هذه البدن والعقل والخبرة والوعي واللاوعي، كل هذا! كل الثلاثة الأشياء هذه، هذه هي! أضفتها إلى الذات الأُخرى، أُف! أين الذات هذه؟ سوف تقول يا شوقاه إليها، يا شوقاه! أُريد أن أرتحل إليها، أُريد أن أُحاوِل أن أُقارِبها، أُريد أن أُحاوِل أن أشعر بها، أُريد أن أُحقِّق نفسي بإدراكها، كيف؟ وأين؟ قالوا هناك آليات وميكانيزمات Mechanisms مُعيَّنة، منها – وقد شرحت هذا عليكم بالتفصيل – ميكانيزم Mechanism الإسفين، لابد أن تدق إسفيناً، بين ماذا وماذا؟ هذا هو! هنا يحصل شق عالم الجهل بسيف التمييز، هل فهمتم الآن؟ بدأتم في أن تفهموا، ما المُراد شق عالم الجهل بسيف التمييز؟ التمييز بين الأناوين – مُثنى أنا أناوان – وبين الشخصيتين وبين الذاتين، الذات السطحية بطبقاتها الثلاث والذات العميقة الحقيقية الكُلية الشاملة الوسيعة، بسيف التمييز لابد وأن تُميِّز بينهما، صحيح وجيد! كيف هذا؟ قالوا هناك حيلة، أن تُقيم من نفسك مقام الشاهد، على ماذا؟ على الذات السطحية، هكذا!

قلت لكم هذا عكس الأمر الذي حكم عليه بالاستحالة مارتن هيدجر Martin Heidegger، الوجودي الألماني المُلحِد! قال لا، هذا مُستحيل، مُستحيل أن تكون أنت الذي يجلس في المائدة ويرقب ما يجري في الشارع وأن تكون أنت الرقيب والمُراقَب في نفس الوقت، قال يستحيل! لأنك إذا راقبت نفسك وأنت في الشارع من النافذة فلن تكون في الشارع، سوف تكون في النافذة فقط، صحيح! لكن هذا فكر مادي تماماً، نحن نتحدَّث عن أشياء مادية في إطارها المادي، فحتى ميكانيكا الكم ترد عليه هذا، بحسب ميكانيكا الكم يُمكِن أن يُوجَد الجسم في مكانين في نفس الوقت، حتى هذا مُمكِن فيزيائياً أيضاً إذا أراد، هذا مُمكِن!

لذلك بالمُناسَبة – نبَّهت على هذا عدة مرات – الآن تُوجَد دراسات مُعمَّقة جداً عن علاقة فيزياء الكم بالذات والفيزياء المُعاصِرة عموماً بالهندوسية Hinduism – تُوجَد كُتب عن هذا – وبالطاوية Taoism في الصين، الشرق الأقصى! هناك كُتب الآن ودراسات لعلماء بعضهم حاص على جائزة نوبل Nobel، كتبوا في هذه الموضوعات واستغربوا، استغربوا بشكل غير طبيعي!

لذلك روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer – أبو القنبلة الذرية، أبو مشروع مانهاتن Manhattan Project – كان يحفظ الكثير جداً جداً من الأوبنشاد Upanishad ومن الفيدا Vedas، وباللُغة السنسكريتية، تخيَّلوا! فعل هذا طبعاً، قرأها وعرفها وباللُغة السنسكريتية حفظها، فيها فكر عميق، شيئ غير طبيعي! الرجل هذا كان عالماً فيزيائياً رهيباً، الرجل هذا الفيزياء نفسها فتحت له آفاقاً خيالية وصوفية للعالم، فتأثَّر وقال أُريد أن أدرس هذا الشيئ، ويوم تم اختبار القنبلة الذرية الأولى – كاختبار – أطلق عبارة الأوبنشاد Upanishad، أوبنهايمر Oppenheimer قالها! لأنه يحفظ الأوبنشاد Upanishad، وبالسنسكريتية قالها كما هي، وهو عالم فيزيائي كبير.

إذن هم عندهم الشيئ هذا، ما نُريد أن نقوله إن في الهندوسية هنا وخاصة في الچنانا يوجا Jnana yoga مُمكِن هذا، ليس مُمكِناً فقط بل هو مطلوب أيضاً، أن تُراقِب نفسك، كماذا؟ كطرف ثالث، تنظر إليها – إلى النفس السطحية – على أنها الشخص الثالث Third Person، الهو! He is، ليس I am وإنما He is، هو! لا تقل للشخص الثاني يا عدنان ما لك؟ أو يا محمد ما لك؟ لماذا تفعل هذا؟ كأن أقول لنفسي يا عدنان لماذا تفعل هذا؟ لا! ليس هكذا، أقول ذاك عدنان، ما الذي يفعله عدنان؟ أرى عدنان يُريد كذا وكذا، يبدو أن عدنان يسعى إلى كذا وكذا، تخيَّل! أي كشخص ثالث، وتُقيم نفسك شاهداً!

الآن يُشترَط في أداء هذه الشهادة على النفس السطحية أن تكون بحيدة وبرود وموضوعية كاملة، اتركها تفعل ما تفعل، لا تُمل عليها، لا تُقِم من نفسك مقام الواعظ عليها أو لها، لا! لا تعظ، لا تأمر ولا تنه، فقط راقب أنت، لكي تُميِّز، لكي يُصبِح عندك التمييز بين الذاتين ومن ثم تُدرِك أن لك ذاتين، انتبه! إذا بدأت تُمارِس دور الواعظ وتتدخل فسوف يحدث امتزاج أيضاً كالحليب بالماء ولن تعرف أنهما ذاتان، سوف تظل في جهلك، لكن نحن لا نُريد هذا، هدفنا أكبر من تصحيح سلوك بسيط خاطئ أو غير سليم، ليس هذا الهدف! الهدف أن تصل إلى درجة التمييز، وهذا مُهِم للمعرفة والاتصال بالكُلي، ميِّز! أما إذا رأيت أنهما يختلطان اختلاط الحليب بالماء فهذا يعني أنك فشلت، أما إذا رأيت أنهما يمتزجان امتزاج الزيت الماء فهذا هو الصحيح، لأن لا يُوجَد امتزاج، الكثافة مُختلِفة، هذا هو!

إذن لابد وأن تُقيم نفسك شاهداً، لا تتأثَّر ولا تُؤد دور الواعظ ولا دور كذا وكذا أبداً، دور الشاهد – Witness – فقط، لابد من المُشاهَدة! يقول هؤلاء أيضاً في مصادرهم المُقدَّسة كالمصباح الذي يُضيء غرفةً ولا يهتم بما يجري فيها، أرأيت كيف؟ المصباح ليس له علاقة بما يحديث في الغرفة، في الغرقة شخص يسكر أو شخص يُصلي أو شخص نائم أو شخص قاعد، المصباح لا يهمه هذا، لكن يهمه أن يُضيء، هذه وظيفته! أنت الآن تُريد فقط أن تُضيء ساحة النفس السطحية وتشهد عليها، فقط! كهذا المصباح، لا أكثر ولا أقل، مطلوب منك هذا، إذا استمررت في هذا ونجحت فسوف تصل إلى درجة قبل قليل وصفناها وسوف تُدرِك فيها تميز الذاتين تماماً تميز الزيت من الماء.

وصولك إلى هذه الذات العميقة الحقيقة هو المطلوب، لماذا؟ لأن طبيعة هذه الذات الحقيقية طبيعة لانهائية في وجودها وفي علمها وفي سعادتها واستقرارها، لانهائية! ومن ثم تكون حصَّلت ماذا؟ الموكتي Mukti؟ ما الموكتي Mukti؟ التحرر، التحرر الكامل! هذا غير موضوع النيرفانا Nirvana، انتبهوا لأن بعض الناس قد يقول هذه ترجمة للنيرفانا Nirvana، لا! النيرفانا Nirvana شيئ ثانٍ، هذا الفناء موضوع ثانٍ، ونحن ربما نعرضه في المرة الجائية إن شاء الله، ولدى حديثنا عن البوذية سوف نتكلَّم عن النيرفانا Nirvana، النيرفانا Nirvana شيئ مُختلِف، الموكتي Mukti هو هذا، انتبهوا! الموكتي Mukti هو هذا، التحرر من النهايات ومن المحدوديات بالوصول إلى الذات الأعمق الصحيحة، هل هذا واضح؟

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: