إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى من قائلٍ – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۩ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ۩ رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ۩ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ۩ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

فيما يُنسَبُ للإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – وهى مُجرَّد رواية لا تكاد تصح ولكن معناها صحيحٌ البتة بلا مثنوية وبلا تردد أنه سُئل – كرَّم الله وجهه – بم عرفت ربك؟!

هل عرفت ربك بمُحمد. صلى الله على محمد وآل محمد؟!
فأجاب – رضوان الله عليه – عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، ثم عرفت محمداً بربي.

هذا المعنى صحيح البتة، الله هو مصدر كل هداية ومصدر كل نور ومصدر كل معنى كما برهننا في خُطبٍ سابقة، لا معنى لشيئ في الوجود من شأنه أن يكون ذا معنى وما من شيئٍ خلوٍ من معنى إلا بالله تبارك وتعالى.
وفي دعاء عرفة لابنه الشهيد أبا عبد الله الحسين – عليه السلام – أنه كان يقول: أويكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِر لك؟!

مُستحيل، الله هو الظاهر، لم يقل هو ظاهرٌ باطن، بل قال هو الظاهر، الظهور كله على أشده وفي أعلى مراتبه وفي مُنتهى قوته لله بإطلاق وبلا شرط – لا إله إلا هو-، الله قال في كتابه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ۩، أول بلا أولية وآخر بلا آخرية، ظاهر- لا إله إلا هو – بلا محسوسية لأنه ليس شيئاً كسائر الأشياء، وقال أيضاً  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ  ۩، باطن لا بطون خفاء وغياب وإنما بطون عزة وجلال – لا إله إلا هو-، فقال هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، والعجيب أن حيثية ظهوره هى حيثية بطونه، ليس له جهتان وليس له حيثيتان بحيث تكون إحداهما هى حيثية ظهوره والأُخرى هى حيثية بطونه، كلا بل هى حيثية واحدة منها هو ظاهر وباطن – لا إله إلا هو -، عزيز، قال الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، حتى يكون هو المُظهِر لك أو متى بعدت حتى تكون الآثار هى التي تُوصِل إليك، كما قلنا في الخُطبة السابقة هو أقرب إلينا من سواد العين وحبل الوريد، أقرب إلينا من إنيتنا، أقرب إلينا من ذواتنا، أقرب إلينا منا، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً، عميت عينٌ لا تراك – والحال – أنك لا تزال عليها رقيباً، فهو قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ  ۩- لا إله إلا هو – في عزته وجلاله وعلوه وبهائه وجماله وكماله.
ولابنه أيضاً – لابن الإمام الحسين الشهيد العظيم السعيد – الإمام السجّاد زين العابدين مقولة في هذا الصدد، حيث يقول مُخاطِباً ربه تبارك وتعالى “إلهي عرفتك بك وأنت دللتني عليك، ولولا أنت لم أدر ما أنت”.

آية المقام هى “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩”، ومن باب التعريفات تعريفات تُلحَق بالرسم الناقص كما تعرفون، ومَن يعرف المنطق التعريفي يعرف أن التعريف إما أن يكون بالحد وإما أن يكون بالرسم، فإن كان بالحد فالحد إما أن يكون تاماً يحتوي على جميع ذاتيات المُعرَّف وإما أن يكون ناقصاً يحتوي على بعض ذاتياته دون بعض، ثم بعد ذلك يأتي التعريف بالرسم، والرسم إما أن يكون تاماً وإما أن يكون ناقصاً، التام يحتوي على بعض الذاتيات وعلى خاصة، أما الناقص فهو تعريف بالخاصة كالقول الإنسان أو كقولنا الإنسان ضاحكٌ، ومما يُلحَق بالرسم الناقص التعريف بالتمثيل والتعريف بالتشبيه، فيُمكِن لنا أن نُعرِّف الوجود بتشبيهه بالنور وقد فعلنا في مراتٍ سابقة، نقول الوجود مع أنه أبده المفاهيم، مفهوم بدهي شديد البداهة والوضوح ولذا لا يُعرَّف، من المُستحيل أن تُعرِّف الوجود وإن زعم بعضهم أنه مفهومٌ نظري وليس بدهياً ويحتاج إلى تعريف فعرَّفوه ولم يخرجوا عن نطاق التعريف اللفظي أو التعريف الإسمي ولم يأتوا بتعريف حقيقي، فإذا أردنا أن نُشبِّه الوجود شبَّهناه بالنور، وهذا تعريف بالخاصة لأن وجه الشبه مما يختص بهما، وجه الشبه هو شيئٌ يختص بالوجود ويختص بالنور، فحقيقٌ أن يُلحَق بالتعريف بالخاصة، على كل حال هذه مُصطلَحات فنية ربما لا تُغني غناءً كبيراً في هذا المقام، إذن وجه الشبه يختص بهما لأنه كما أن النور ظاهرٌ بنفسه مُظهِرٌ لغيره فكذلكم الوجود أو مفهوم الوجود ظاهرٌ بنفسه مُظهِرٌ لغيره، فالوجود موجودٌ بنفسه ولا يُوجَد بوجود وإلا تسلسل وهذا مُحال، كل شيئ يُوجَد بالوجود، كل ماهية إن خرجت من حاق العدم إلى متن الوجود إنما يتحقَّق لها هذا الشيئ بالوجود، يتحقَّق هذا التحقق بالوجود، فوجود الوجود نفسه وتحققه يكون بذاته، لا بشيئ آخر، وتسقط جميع التقييدات والشروط، هو هذا الوجود أو مفهوم الوجود، علماً بأنني لا أتكلَّم عن العالم – أي عن الـ Universe أو الـ Cosmos – وإنما أتكلَّم عن المفهوم – مفهوم الوجود – لكن هذا العالم وتلكم العوالم التي ضلَّلت فيزيائيين كباراً وظنوا أنها هى الوجود فليست هى الوجود، الوجود شيئ آخر ومن ثم ستكون حلقة اليوم عن هذا، إذا أفلحنا وأنجحنا أن نفهم إلى حدٍ ما ما هو الوجود بطريقة تشبيهية تقريبية نستطيع أن نقف على تخوم بُرهان الصدّيقين لنرى بعد ذلك أن مُجرَّد استيعابنا لمفهوم الوجود وما هو وخصائص هذا المفهوم يُوصِلنا بضربة واحدة بل لا يُوصِلنا هو بحد ذاته هو حديثٌ عن الله – لا إله إلا هو- دون أن ندري ولذلك هو أظهر ظاهر، هو نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، موجودٌ بذاته مُوجِدٌ لغيره، فيسقط السؤال العبيط الذي يتعلَّق بمَن أوجده، وسوف ترون أنه سؤال عبيط حقاً لمَن فهم هذه الفلسفة العقلية وتعمَقها، ولكن لئلا نُطيل في المُقدَّمات نُحِب أن نُقدِّم ولابد أن نُقدِّم للأسف الشديد بتعريف الوجود والماهية،علماً بأن حق مثل هذا الموضوع أن يكون مُحاضَرة علمية ولكن ما أحوجنا إليه إلا عدم سنوح الفرص والنُهز لإلقاء مُحاضَرات في هذا الوقت وأيضاً لأن الذي يُلقى في خُطبة يُعمَّم ويعم تعاطيه والموضوع جد وحسّاس وخطير، إنه موضوع الإيمان والإلحاد، موضوع هذه العاصفة الهوجاء بل العواصف الهوج التي اقتلعت جذور إيمان أبنائنا وبناتنا فلابد أن نُبديء وأن نُعيد توضيحاً للحُجة أو توضيحاً للمحجة وإقامةً للحُجة وقطعاً للمعاذير، وما بدٌ من هذا فلنتحمَّل أنفسنا والله المُستعان تبارك وتعالى.

نبدأ بالكلام عن الوجود والماهية –  Existence and Essence or Quiddity  – لأن هذين المُصطلَحين أو هذين المفهومين سيتكرَّران كثيراً، فما هو الوجود أولاً؟!

كما قلت لكم الوجود لا يُعرَّف، وهذا مذهب الحُكماء ومذهب المُتكلِّمين – علماء العقيدة بالطريقة الفنية المعروفة – حيث قالوا”الوجود ليس مفهومً بدهياً”، ولكن قد يسأل سائل منكم: ما البدهي وما النظري؟!

دخلنا في تعقيدات وبلا شك ستكون خُطبة مُرهِقة، ولكن باختصار ستكون أيضاً – إن شاء الله – مُفيدة، وصبركم وتحملكم – إن شاء الله – سيُكافأ بشيئٍ ربما يستحق الصبر والتحمل بعون الله تعالى.

ما هو المفهوم النظري؟!

ما هو المفهوم البدهي؟!

 كل هذه المفاهيم – Concepts – التي يتصوَّرها الإنسان إما أن تكون نظرية وإما أن تكون بدهية، والبدهية واضحة بذاتها ولا تقبل التجزئة، أي ليس فيها ما يُجزَّأ، فلو قلت لك عرِّف الشيئ – Thing – لن تستطيع أن تُعرِّف الشيئ لأن كل شيئ ستُعرِّف به هو شيئ، فكيف ستُعرِّف الشيئ؟!

فمفهوم الشيئ مفهوم بدهي، لكن لو قلت لك عرِّف الإنسان ستستطيع أن تُعرِّفه لأن هذا مفهوم نظري يقبل التجزئة وليس واضحاً بذاته، وبالتالي ستقول لي على طريقة المناطقة الإنسان حيوانٌ عاقل وهكذا، فإن قال لك أحدهم أنا من كوكب آخر ولا أدري ما الحيوان ستُعرِّف الحيوان أيضاً بذاتياته، بجنسه القريب وفصله القريب كما يقول المناطقة، فستقول الحيوان هو جسمٌ نامٍ حسّاسٌ مُتحرِّكٌ بالإرادة، وإن سألك عن تعريف الجسم ستقول له جوهرٌ قابل للأبعاد في عالمنا هذا فيزيائياً حيث هناك الأبعاد الثلاثة وهى الطول والعرض والعمق أو الارتفاع، فهذا هو الجسم، إذن يُمكِن أن تُعرِّف الإنسان على سبيل الاختصار حيوانٌ ناطق، وإذا أردت أن تبسط وتُسهِب فستقول هو جوهرٌ قابلٌ للأبعاد – أي جسم – نامٍ حسّاسٌ – علماً بأن معنى أنه نامٍ أنه إلى الآن النبات، أي سيكون نباتاً – حسّاس مُتحرِّك بالإرادة – أي حيوان – ناطق -أي إنسان-، إذن هذا هو فصل الإنسان، أما حسّاس مُتحرِّك بالإرادة فهو فصل الحيوان لكن ناطق فصل الإنسان، وهذا هو الذي ميَّز الإنسان من بين سائر الأنواع الحيوانية، وهذا شيئ جميل، وطبعاً الذي يستمع إلى هذا لأول مرة سيقول سُبحان مَن أعطى الإنسان العقل، فهذا شيئ جميل جداً جداً جداً، كيف توصَّل البشر إلى مثل هاته الأمور؟!

هؤلاء البشر مثل أرسطو Aristotle وأمثاله هم عباقرة وأذكياء، وطبعاً يُفكِّرون ويُرتِّبون الأشياء، فيُحِبون أن يأخذوا هذا العالم لا هكذا في حالة تهوش واختلاط وامتزاج أو في  حالة هيولانية كما يُقال، وإنما يضفون عليه المعنى ثم تأتي التقسيمات والتنويعات والتصنيفات والترتيبات لكي يُمكِن أن نسطو بهذا العالم فهماً وإدراكاً وتعقّلاً، فهذه هى قوة العقل وهذا هو جمال العقل، إذن الإنسان مفهوم نظري لأنه قابل إلى التجزئة، نُجزئه مبدئياً إلى جنسه القريب وفصله القريب، جنسه القريب حيوان، فصله القريب ناطق، علماً بأن الناطقية تعني تكوين المفاهيم العقلية وليس النطق باللسان، الناطقية، وعلينا أن ننتبه إلى هذا لأن هذا خطأ في الترجمة، هذا ما يُعرَف بالـ Pseudomorphism أي التشكّل الكاذب الزائف، فحين تُترجَم مُصطلَحات من حضارة إلى حضارة ومن ثقافة إلى ثقافة يحدث أيضاً تشكّل خاطيء وتشكّل زائف، وبالتالي لفظ ناطق هنا لم يكن لفظاً مُوفَّقاً إلى حدٍ بعيد، لأن الناس تفهم أن النطق هو الكلام، فالأفضل أن يُقال هو حيوان يتوفَّرعلى المفاهيم العقلية وبالتالي قادر على عقل وتكوين المفاهيم العقلية، هذا هو معنى الناطقية، على كل حال إذن الإنسان مفهوم نظري وليس مفهوماً بدهياً.

نأتي الآن إلى الوجود، هل الوجود مفهوم بدهي وغير قابل للتجزئة لأنه مفهوم بذاته أم أنه مفهوم نظري وقابل للتجزئة وبالتالي قابل للتعريف، أي قابل لأن نضع له التعريفات – Definitions – مثل الإنسان حيوان ناطق؟!

هذا مُستحيل، لأنك الآن حين عرَّفت الإنسان عرَّفته بالجنس القريب، أي بالحيوانية، وعرَّفته بالفصل القريب، أي بلناطقية، لكن ما هو جنس الوجود؟!

هل هناك شيئ أعلى من الوجود؟!

هل هناك شيئ يستبطن الوجود في رحمه وفي باطنه؟!

لا يُوجَد شيئ، إذن كيف ستُعرِّف الوجود؟!

ثم حتى لو عرَّفت بغير هذه الذاتيات هل هناك ثمة ما يُمكِن أن يكون أوضح وهو أجلى من الوجود لكي تُعرِّف به الوجود؟!
كل شيئ مما يقع عليه الحس ويُوشِك أن يقع عليه العقل – اترك مفاهيم العدم – هو شيئ له نصيبٌ في الوجود، فكيف ستُعرِّف الوجود؟!

فالصحيح – والله أعلم – هو مذهب الحكماء الذي يقول بأن الوجود مفهومٌ بدهي، فهو مفهوم واضح بذاته وغير قابل للتعريف، أما قولهم هو الثابت العين أو هو الذي يُخبَر عنه فهذه تعريفات لفظية أو تعريفات إسمية لا تكشف عن حقيقة المُعرَّف ولا تزيدنا معرفةً به ولا تُزيل غموضاً وإبهاماً يحتوشه، فالتعريفات الإسمية والتعريفات اللفظية مثل سؤالنا عن معنى الغضنفر فيُجاب الأسدُ، إذن هذا تعريف إسمي، إذا السائل لا يعرف ما الأسد – وطبعاً بالأحرى هو لا يعرف ما الغضنفر – لم يستفد شيئاً، ولكن لو قلت له هو حيوانٌ وهو كذا كذا مُمكِن يُحصِّل الآن صورة مبدئية جيدة وقد تكون دقيقة عن ماهيته وعن حقيقته، فهذه التعريفات إسمية ولفظية تُستعمَل وتُستخدَم للإشارة إلى ما في الذهن من هذا المفهوم البدهي، فقط تُشير إليه على أنه موجود في ذهننا وفي عقولنا بدهياً أو موجود ببداهته، أي تُشير إليه على أنه مفهوم بدهي، إذن انتهينا من الوجود ومن كونه مفهوماً بدهياً، فما هى الماهية -Essence,Quiddity – إذن؟!

الماهية أو ماهية الشيئ باختصار هى ما يُقال في جواب سؤال ما هى أو ما هو هذا الشيئ؟!

مثل: ما سقراطٌ Socrates؟!
علماً بأننا نقول ما سقراطٌ Socrates وليس مَن سقراط Socrates، ومثل: ما أينشتاين Einstein؟!

ما محمد. صلى الله على محمد؟!

ما المسيح؟!

ما عيسى؟!

ما فرعون؟!

ما سقراطٌ Socrates؟!

ستُجيب قائلين هو إنسان، أي أننا ستُجيب بالماهية، ماهيته إنسان، فسقراطٌ  Socrates إنسان، هذا هو معنى الماهية، تُبيِّن حقيقة الشيئ، فإن سأل بعد ذلك عن معنى الإنسان ستُجيب بالتعريف الذي قلناه اليوم وردَّدناه أكثر من مرة، أي حيوان ناطق، فهذه هى الماهية، الآن من المُهِم أن نعلم أن الماهية من حيث هى  بغض النظر عن حيثيات أُخرى – الماهية كما هى، ماهية أي شيئ من حيث هى – ليست إلا هى، فما معنى الكلام هذا؟!

علينا أن ننتبه إلى أن هذا الكلام ليس بمثابة حذلقة لفظية، بل أن هذا كلام عميق جداً وتنبني عليه أشياء خطيرة، ومثل هذا الكلام العميق على أنه بسيط وسهل إذا لم يكن واضحاً فيُمكِن أن يتورَّط العالم أو الفيلسوف في أخطاء وأغلاق مُضحِكة بسببه، فيُضحِك عليه الصبيان بهذه العلوم طبعاً لأنه لم يُحكِم الأصول، فمَن ضيَّع الأصول حُرِمَ الوصول، وبالتالي لن يصل للنتائج الصحيحة لأن الأمور مُختلَطة لديه، عرف شيئاً وغابت عنه أشياء، ولذلك نصيحتي كأخ مُحِب ومُشفِق هى – صدِّقوني – قبل أن يأخذ أحدكم في الكلام في أي موضوع فضلاً عن أن يكتب فيه كتباً عليه بتواضع التلميذ، اذهب وأحكِم ما أنت بصدده، فإذا كان عندك شيئ  تُحِب أن تتكلَّم عنه وأن تُؤلِّف فيه فهذا أمر مُمتاز جداً ولك أجرٌ عظيم جداً جداً جداً وثناء وشكر وتقدير من الناس ولكن أحكِم ما أنت فيه أولاً، لا تحفظ لي معلومة من هنا ومعلومة من النت Net ومعلومة من صحيفة ومعلومة من خطيب وتأتي تتكلَّم في الموضوع، فهذه كارثة فادحة عظيمة.

ما معنى الماهية من حيث هى ليست إلا هى؟!

الماهية من حيث هى لا واحدة ولا كثيرة ولا ناقصة ولا كاملة ولا جُزئية ولا كُلية، ولا موجودة ولا لاموجودة – أي لا موجودة ولا معدومة – وإنما هى هكذا فقط.

ولكن قد يتساءل أحدهم قائلاً: كيف هذا ونحن نتكلَّم عن ماهية الحجر والشجر والبشر والشمس والقمر والبحر والنهر، وكل هذه الأشياء موجودة؟!

 بلا شك هذه ماهيات موجودة لكن عليك أن تنتبه إلى أن العقل نفسه لا يتعاصى عليه ولا يتعاجزه أن يتصوَّر ماهيات كثيرة وغير موجودة، فكلكم سمعتم بالعنقاء – Phoenix – هذه – مثلاً – وبطائر الرُخ ووبالغول وبالـ Aliens الفضائية التي صُنِع من أجلها أفلام كثيرة مثل فيلم الإي تي –  E.T. the Extra-Terrestrial – وغيره، فهل لشيئ من هذا أو من أولائكم وجود؟!

هل وُجِد أو ثبت وجود هذه الأشياء؟!

لم يثبت وجود هذه الأشياء، وهكذا نعرف ماهيات عدة مثل طائر بمائة رأس أو برؤوس عدة أو بثلاثين ساقاً أو غير ذلك، فهذه ماهية فعلاً لكن من حيث هى ليست موجودة وليست معدومة ويُمكِن أن تُوجَد ويُمكِن ألا تُوجَد ويُمكِن أن تكون كاملة ويُمكِن أنت تكون ناقصة وإلى آخره، وهذا معنى قول الفلاسفة الماهية من حيث هى، أي الماهية بشكل مُجرَّد هى، وهذا الكلام صحيح ويُمثِّل مُقدِّمة مُهِمة جداً.

 نأتي الآن إلى بعض أحكام الوجود – Existence والأشياء الموجودة أو الـ  Ontic – علماً بأن Ontic مأخوذة من Ontology – ولكن لابد أن نتساءل أولاً: هل مفهوم الوجود أو لفظة الوجود مُشترَك لفظي أم مُشترَك معنوي؟!

باختصار لابد أن نعرف أولاً أن الألفاظ منها ما يكون مُشترَكاً لفظياً، والمُشترَك اللفظي هو الذي يُحمَل على موضوعاته بمعانٍ مُتباينة أو بمعانٍ مُختلَفة، فاللفظة واحدة ولكنا تُحمَل على الموضوعات، والحمل هو إسناد شيئ إلى شيئ، فالموضوع هو الموصوف أو المُسنَد إليه، والمحمول هو المُسنَد أو الصفة، فمثلاً حين نقول الشمس طالعةٌ يكون الموضوع هوالشمس والمحمول هو، ومثل لفظ العين أو عين لأنه يُعَد أيضاً مُشترَكاً لفظياً، فإذا قلت لك عين ستسألني عن المعنى الذي أُريده، فإذا قرأتها في نص تحتاج إلى قرينة مُعيِّنة تُعيِّن المُراد بلفظة عين في هذا السياق المخصوص، لأن العين تُطلَق على الجارحة هذه التي نُبصِر بها، والعين تُطلَق على الماء مثل قول الله عَيْنٌ جَارِيَةٌ ۩ في سورة الغاشية، والعين تُطلَق على الذهب، وهناك مَن يقولون لك عيون الأدب، والعين تُطلَق على الجاسوس – Spy، Spion – وهناك مَن يقول لك فلان هذا من عيون السُلطان – عين أو جاسوس – لأنه سيُرسِله كالعين له فيرى به ما لايرى، والعين أيضاً السيد في قومه، ومن هنا نقول عيون القيوم وعيون الناس أي سادة الناس.

إذن العين لفظة واحدة ولكنها تأتي بأكثر من معنى في كل مرة، إذن هذا هو اللفظ المُشترَك الذي نُسميه بالمُشترَك اللفظي، فهو لفظٌ أو لفظة تُحمَل على موضوعاتها بمعنى واحد ولا بمعاني مُتعدِّدة. ولكن لكي نُعرِّف المُراد نحتاح إلى قرينة.

ثانياً هناك مُشترَك معنوي يكون بمثابة لفظة واحدة أيضاً وتُحمَل على موضوعاتها ولكن ليست بمعانٍ مُتعدِّدة بل بمعنىً واحد، فالسؤال الآن: هل الوجود مُشترَك لفظي أو مُشترَك معنوي؟!

نحن نقول الشمس موجودة والله موجود والملائكة موجودةوالقمر موجود والماء موجود وأنا موجود وهى موجودة وأنت موجود وكل شيئ مما وُجِد نصفه هكذا ونحمل عليه الوجود، فهل الوجود هنا له معنىً واحد موجود في كل هذه الموضوعات أو يتعدَّد معناه؟!

ستقول لي مبدئياً – ولن نقول بدهياً لأن المسألة ليست بدهية بل وفيها خلاف – يبدو أن الأرجح أن له معنىً واحد كما نقول يعني الشمس موجودة والقمر موجود، أي هناك معنى واحد ولكنه يتكرَر، وإلا لو كان مُشترَكاً لفظياً لأصبح معنى ما تفهمه من الوجود في الشمس موجودة غير ما تفهمه من الوجود في القمر موجود، وهذا غير صحيح لأننا نفهم نفس الشيئ، ولكن أين أو من أين تطرَّق الإشكال للسادة المُتكلِّمين من علماء العقيدة؟!

من وجود الله، فالله موجود إذن لكن كبر عليهم أن يُقال أن الله موجود بالمعنى ذاته الذي نسرده في قولنا الشمس موجودة والقمر موجود وأنا موجود وأنت، فقالوا إذن فليكن الوجود مُشترَكاً لفظياً وليس معنوياً، فهناك لفظ واحد ويُحمَل على موضوعاته بمعانٍ مُتعدِّدة لأجل ألا نقع في المُسانَخة، أي لا نجعل وجود الله من سنخ وجود البشر أو وجود البشر من سنخ وجود الله، وهذه الحُجة ضعيفة في الحقيقة والوجود مُشترَك معنوي، لأن هناك أدلة كثيرة تُؤكِّد عكس ذلك، فهذه المُلازَمة التي ذكروها –  لو كان الوجود مُشترَكاً معنوياً لصار وجود الله من سنخ وجود البشر غير صحيحة ـ غير دقيقة، لأننا نُفكِّك بين حُكم الوجود مفهومياً وحكم الوجود مصداقياَ، فالوجود على مُستوى المفهوم بلا شك له معنى واحد سائر في كل ما ذكرنا أو ينطبق على كل ما ذكرنا، ولكن إذا خرجنا من حاق المفهوم إلى حاق الواقع والتحقق الخارجي فبلا شك أننا سنجد وجودات كثيرة مُتباينة بأنحاء من التباين أو بوجوه من التباين شدةً وضعفاً وتقدّماً وتأخّراً ومعلوليةً وعلية وقوةً وفعلاً وإلى آخر أنواع ما يُعرَف بالتشكيك، ومن هنا يُقال لك لفظٌ مُشكِّك – Equivocal – بمعنى أنه يُحمَل على موضوعاته أو مصداقاته بدرجات مُتفاوِتة، فمعنى اللفظٌ المُشكِّك واحد لكن الدرجات مُتفاوِتة، وهناك ألفاظ عدة يتحقَّ فيه هذا التشكيك مثل البياض، فصحيح أن البياض بياض ولكن هناك درجات طبعاً، لأن هناك بياض أشدُ من بياض، وعموماً الناس اصطلحوا في كل الثقافات تقريباً على أنه يجعلوا بياض الثلج هو الأبيض بياضاً أو الأشد بياضاً، ومن هنا يقولون لك أبيض كبياض الثلج، أي أنهم هم واعون بأن هناك بياضات – إن جاز التعبير – دون بياض الثلج، إذن لا مجال للشدة الضعف أو القوة والضعف، لكن البياض بياض فلا يُباين هذا البياض ذاك البياض كُلياً بتمام الذات وإنما يُباينه جُزئياً، فهذه هى الألفاظ مُشكِّكة ولكن هناك أيضاً ألفاظ مُتواطئة، واللفظ المُتواطيء هو عكس اللفظ المُشكِّك تماماً، فالإنسان – مثلاً – هو حيوان ناطق، إذن أنا حيوان ناطق وأنت حيوان ناطق وهو حيوان ناطق وهى حيوانة ناطقة بغض النظر أكان هذا الإنسان صغيراً أو كبيراً أو سميعاً أو بصيراً أو مُقعَداً أو عاجزاً أو عربياً أو عجمياً أو مسلماً أو كافراً، فكله حيوان ناطق، إذن الإنسان لفظ مُتواطيء –
Equivocal Term -أما الوجود فهو لفظ مُشكِّك على أنه مُشترَكٌ معنا، ولكن قد يقول لي أحدهم أنني تسببت في إرباك معلوماته، وعلى كال حال دخلنا في خربطة الفلاسفة والمناطقة، ولكن هذا الآن سيقودنا إلى مفهوم آخر – علماً بأن هذه الخُطبة لا تُسمَع لمرة واحدة وبالتالي هى تحتاج أكيد إلى أن تُسمَع مرات أُخرى في البيت بهدوء، وعلى كل حال هى مفاتيح لأشياء قد تكون صعبة في حد ذاتها لغير المُمارِس ولكن أرجو الله وأسأله أن تكون مفاتيح مُيسِّرة ومُهوِّنة عليكم بإذن الله، لكن إن شاء الله منها فائدة كبيرة بعون الله تبارك وتعالى – أو إلى مسألة أُخرى وهى قسما الحمل فلنتحمَّل هذا، وهما الحمل الذاتي الأولي في رُتبة الماهية والذات والحمل الشائع الصناعي في رُتبة المصداق والخارج، وهذا الأمر مُهِم جداً، وانظروا إلى المُتكلِّمين من العلماء الأفاضل الذين تحدَّثوا عن هذا الموضوع، فأنت تتكلَّم – مثلاً – الآن عن  الباقلاني والجويني وأبي حامد الغزالي والفخر الرازي والشهرستاني وغيرهم، أي عن أذكياء البشر لأنهم ليسوا أُناساً عاديين، لكن علينا أن نتنبه إلى دقائق مُهِمة، فحين نتحدَّث عن أي مفهوم في قضية حملية يجب أن نسأل السؤال: هل هذه القضية الحملية الحمل فيها حمل أولي ذاتي أم حمل شائع صناعي؟!

 والآن سأُوضِّح هذا – بإذن الله تبارك وتعالى – لأنني أعلم – كما قلت – أن هذا ليس واضحاً لكم، ولكن قبل أن أُوضِّحه سآتي بدليل – علماً بأن الأدلة كثيرة – آخر على صحة أن الوجود مُشترَك معنوي وليس مُشترَكاً لفظياً، لفظة واحدة ومعناها أيضاً واحد باختلاف موضوعاتها، والدليل هو أن المُشترَك المعنوي يقبل التقسيم لأنه دائماً محفوظ في كل قسمة وفي كل قسم فيقبل التقسيم، أما المُشترَك اللفظي لا يقبل التقسيم على عكس المُشترَك المعنوي القابل للتقسيم، فلو أردت أن تُقسِّم لي لفظة العين كيف ستُقسِّمها إذن؟!

لا يُمكِن أن يحدث هذا، فضلاً عن أنك لابد أن تتساءل عن أي عين نتحدَّث، هل نتحدَّث عن العين بمعنى الجارحة أم بمعنى الذهب أم بمعنى عين الماء أم بمعنى الجاسوس أم بمعنى السيد في قومه؟!

إذن لا يُمكِن أن نُقسِّم العين لأن المُشترَك اللفظي صعب أن تُقسِّمه، ولكن المُشترَك المعنوي يُقسَّم، إذن السؤال الآن: هل الوجود يُقسَّم أو لا يُقسَّم؟!

طبعاً يُقسَّم، فيُقال لك وجودٌ بالإمكان ووجودٌ بالفعل ووجود واجب ووجود مُمكِن، فالله – تبارك وتعالى – هو واجب الوجود لأن وجوده بذاته ومن ذاته ولا علة له، أما نحن وسائر المخلوقات من العرش إلى أدنى ما في أدنى الفرش كلنا مُمكِنات ليست واجبة الوجود، وشرحنا هذا طبعاً بالتفصيل في الخُطبة السابقة، إذن الوجود ينقسم إلى وجود واجب ووجود مُمكِن، فلو لم يكن الوجود مُشترَكاً معنوياً لما قبل التقسيم، ولكنه يقبل التقسيم ولذلك من الواضح أنه مُشترَك معنوي، لكنه – كما قلت – كُليٌ يُطلَق أو لفظٌ يُطلَق بالتشكيك، وللتشكيك طبعاً أنحاء ووجوه ذكرنا بعضها وأعرضنا عن بعضٍ.

 نأتي الآن إلى قضية مُهِمة جداً وهى الحمل الأولي والحمل الشائع، فهى قضية جميلة جداً في المنطق وتحل إشكالات كثيرة،  فما معنى الحمل الذاتي الأولي؟!

طبعاً نحن فهمنا الحمل الذي يعني نسبة شيئ إلى شيئ أو إسناد شيئ إلى شيئ، مثل الشمس طالعة والنفس راغبة والعمر ممدود، فهذه الأشياء كلها بمثابة قضايا حملية حيث  تحمل شيئاً على موضوع أو على شيئ وتنسب شيئاً أو تُسنِد شيئاً إلى شيئ، إذن الحمل هذا قد يكون في رُتبة الذات والماهية فلا يلحظ الواقع الخارجي.
هل يصح لأحدكم أن يقول الإنسان حجرٌ؟!

لا يصح أبداً، ومن ثم مَن يقول هذا يُعَد مجنوناً، فهذا كلام فارغ لأن من المُستحيل أن يُقال الإنسان حجر، أو أن يُقال  الماء ماء،  فيشبَّه الماء بالماء بعد الجهد والعناء، إذن مَن يقول هذا أهبل أيضاً، فلا معنى لأن تقول أن الماء ماء، وبالتالي لابد أن تُعرِّف الماء باستخدام معلوماتنا الكيميائية، فسنُعرِّف الماء على أنه مُركِّب وليس عُنصراً، حيث أنهم قديماً كانوا يعتقدون أن الماء هو عنصر ويتحدَّثون عن العناصر الأربعة وهذا غير صحيح، فالماء مُركَّب سائل وليس عنصراً ويحتوي على ذرتي هيدروجين Hydrogen وذرة أكسجين Oxygen، وعلى كل حال هذا التعريف قابل للنقاش كتعريف لأنه يُعَد تعريفاً غير تام، ولكنك الآن عرَّفت الماء من حيث هو وأبنت عن حقيقته وعن ماهيته، فهذا إذن ما يسمونه بالحمل الذاتي الأولي، فلكي يتم الحمل أو لكي يصح ويسوغ الحمل لابد من أمرين “جهة اتحاد وجهة تغاير”، ومن هنا – كما قلنا –  لا يُمكِن أن تُعرِّف الماء بأنه ماء أو أن الإنسان هو الإنسان، فأنت في هذه الحالة لم تُعرِّف شيئاً، لكن قد يقول لي أحدهم أن هذا الكلام غير صحيح بلاغياً لأن في علم البيان من المُمكِن أن نقول الإنسان إنسان مثلما نقول: الرب رب والعبد عبد – قصة الخلاف مع الصوفية – فأين التراب من رب الأرباب؟!

لكن أنا مًتأكِّد أن كل واحد فيكم وفيكن فهم المقصود بأن الرب رب والعبد عبد وفهم متى قيلت وفي أي سياق، حيث أنها قيلت في سياق الرد على مَن توهموا اختلاط المسألة، حيث توهموا شيئاً من ربوبية في العبودية، والعكس أيضاً عند الحلوليين والوحدويين والعياذ بالله، نعوذ بالله من الزلات وخاصة في باب الاعتقاد فهى مُهلِكة، أهم شيئ معرفة الله أن تكون على سوائها كما أُمِرنا بها وكما تعرَّف إلينا لا إله هو، فرداً على هؤلاء نحن نقول لهم” لاتخلطوا وميِّزوا بين هاته الأشياء، فقوله الرب رب والعبد عبد صحيحة، حتى وإن لم يكن هناك أي تغاير في الحمل، ولكن هناك تغاير موهوم لدفع وهم أن الرب ليس رباً من كل وجه فهو ربٌ من تسعة وتسعين وجه – أستغفر الله العظيم – ومربوب من وجه، وكذلك العبد عبدٌ هوعبد من تسعة وتسعين وجه ومن وجه واحد يكون رباً – أستغفر الله العظيم – ولذلك دفعاً لهذا التوهم قلنا “الرب رب والعبد عبد”، وهذا صحيح منطقياً وبالتالي لا يجوز لشخص لا يفهم شيئاً ويدّعي أن هذا خطأ منطقياً، فهذا ليس خطأً وإنما دفعاً للتوهم.

إذن لابد من جهة مُغايرة ومن جهة اتحاد لكي يُصبِح هناك حملاً، فحين نقول زيدٌ قائمٌ نحن حملنا ماهية القيام على ماهية زيد، فزيدٌ موجودٌ قائماً على الحالية، وعلى كل حال هذا هو معناها في اللغة العربية، فنحن لا نقول زيدٌ موجودٌ وكذا كذا،ومن هنا نجد أن أكثر اللغات الاجنبية تستخدم فعل الكينونة مثل  Be بالإنجليزية أو Sein بالألمانية أو Est  بالفرنسية أو غير ذلك، إذن نفس الفعل ولكننا نفهم هذا على أنه يُوجَد في العقل ولكنه ليس مكتوباً وغير ملفوظ في أكثر تعبيراتنا، إذن حملت ماهية على ماهية، كما أن هناك مُغايَرة مفهومية بين زيد والقيام وهذا الأمر واضح تماماً طبعاً لأن مفهوم زيد غير مفهوم القيام تماماً، فهما مفهومان مُتباينان، إذن هناك مُغايَرة، ولكن المُغايَرة لا يُمكِن أن تكون من كل وجه وإلا لا يُمكِن أن نحمل ماهية على ماهية، مثل مثال الإنسان والحجر الذي بطل لأن فيه مُغايَرة من كل وجه إلا إن أردت التشبيه وهذا موضوع آخر يتعلَّق بالبلاغة ولكن أنا أتكلَّم عن المنطق لحد الآن، إذن بالتباين من كل وجه لا يُمكِن أن يتم الحمل، وبالتطابق من كل وجه كحمل الشيئ على نفسه لا يسوغ ولا يتم ولا يجوز أن يقع هذا لأن القاعدة هى نفسها أيضاً هنا، إذن لابد من مُغايَرة من وجه واتحاد من وجه.

 إذن أنحاء التغاير والاتحاد نحوان، علماً بأنه ينبغي عليكم أن تحفظوا هذا جيداً،  النحو الأول هو المُغايَرة المفهومية، أي أن هناك مُغايَرة على مُستوى المفهوم، لكن على مُستوى المصداق لا يُوجَد مُغايَرة وإنما اتحاد، والعكس صحيح فعلى مُستوى المفهوم يُوجَد اتحاد أما المُغايَرة فتكون اعتبارية من وجه مُعيَّن، فالآن – بالله عليكم –  بعد أن فهمتم هذا جيداً هل مفهوم الإنسان يُباين أو يُعادِل مفهوم حيوان ناطق؟!

يُعادِل مفهوم حيوان ناطق، فالحيوان الناطق هو الإنسان ولا حيوان ناطق إلا هو، فلم نر – مثلاً – كتباً في الفلسفة أو مُحاضَرات مثل هذه للقرود، هذا مُستحيل لأن ليس لدى القرود القدرة على النطق، أي ليس لديهم القدرة على تكوين المفاهيم العقلية الكُلية، لكن نحن فقط لدينا هذه القدرة ومن ثم نحن بني البشر حيوانات ناطقة، وبالتالي نحن نقول الإنسان حيوانٌ ناطق لأن مفهوم الإنسان هو مفهوم الحيوان الناطق، إذن يُوجَد اتحاد في المفهوم أما التغاير فيكون اعتبارياً وهو مُنتزَع من شيئ آخر، ولكن ما وجه التغاير هنا؟!

أعتقد أنه أصبح سهلاً على كل أحد أن يُجيب عن هذه، فستقول لي أن الجواب يتعلَّق بالإجمال والتفصيل، فكلمة الإنسان مُجمَلة لأنها عبارة عن لفظة واحدة، الإنسان فلو أردنا أن نُفصِّلها سنقول الإنسان هو حيوان ناطق، وإذا أردنا أن نُفصِّل أكثر سنقول  هو جسمٌ نامٍ حسّاس مُتحرِّك بالإردة ناطق، وإذا أردنا أن نُفصِّل أكثر فسنعرِّف الجسم أيضاً ونقول هو جوهر قابل للأبعاد الثلاثة نامٍ حسّاس مُتحرِّك بالإردة ناطق، إذن هناك تفصيل طويل ولكن في نهاية المطاف كل هذا المُفصَّل أو كل هذه القاطرة أو كل هذا القطار الطويل هو الإنسان، إذن هذا مثل هذا، أما الاختلاف أو التغاير فيكون بالاعتبار، وهنا الاعتبار هو الإجمال والتفصيل، فهذا التعريف – مثل الإنسان حيوان ناطق – أو هذا الحمل يُقال هذا حمل ذاتي أولي يُراد به بيان حقيقة الشيئ، وطبعاً كما رأينا بشكل واضح أن هذا التعريف بالحد التام فيه كمال ذاتيات الشيئ، الجنس القريب والفصل القريب.

نعود الآن إلى الماء، فلو قلنا أن الماء هو مُركَّبٌ سائل مُكوَّن من ذرتي هيدروجين Hydrogen وذرة أكسجين Oxygen فأننا نعني أن كلمة الماء تُساوي هذا كله، إذن نفس الشيئ سيتكرَّر هنا، فهذا حمل ذاتي أولي يُراد منه بيان حقيقة وماهية الشيئ، فنُوضِّحه توضيحاً دقيقاً ونفصله عن كل ماعداه بل ونُوضِّحه في ذاته لنعرف ما هو أيضاً، علماً بأن الفصل مُمكِن أن يحصل بالرسم الناقص فهذا شيئ عادي، ولكن هنا سنفهم حقيقته وسنفهم ماهيته وسنُحدِّدها تحديداً دقيقاً مضبوطاً، ولكن علينا أن ننتبه الآن إلى هذا السؤال: الآن نحن نقول الماء يغلي عند مائة درجة مئوية في ظل الضغط الجوي العادي، فهل هذا الحمل ذاتي بمعنى أن هذا يُفهَم بمُجرَّد فهمنا لماهية الماء؟!

كلا، هذا الموضوع لابد أن نذهب فيه إلى الخارج، فأنت من المُمكِن أن تُفهِم أي إنسان أتى إلينا من المريخ أن عندنا عناصر كثيرة وأن العناصر فيها مُركَّبات، ومن ضمن المُركَّبات يُوجَد أهم مُركَّب على وجه البسيطة وهو مُركَّب إسمه الماء، فمن المُمكِن لهذا المريخي أن يفهم هذا التعريف – كما سردت عليكم – ببساطة لكنه لن يفهم أن هذا أنه الماء يغلي عند مائة درجة من تلقاء نفسه، مُستحيل أن يفهم هذا إلا لو ذهب وبدأ يُجري تجارب على الماء، وبالتالي سيتكوَّن مفهوم الغليان عنده طبعاً، حيث أنه سيفهم تجريبياً أن عند الضغط الجوي العادي يغلي الماء عند مائة درجة، لكن كلما خفَّ الضغط  يغلي الماء عند درجات أقل والعكس صحيح، إذن علينا أن ننتبه إلى أننا حين نقول أن الماء يغلي عند مائة درجة هذا لا يُعَد حملاً ذاتياً أولياً، لكن هذا حمل شائع صناعي، علماً بأنهم أسموه شائعاً وصناعياً لأنه شائع بين الناس، فالآباء والأجداد لم يعرفوا هذه التعريفات المنطقية بالذات ولكنهم عرفوا مثل هاته الأشياء بخواصها وبآثارها في الخارج، أي ما يُسمى الآن في العلوم المنهجية بالتعريفات الإجرائية التي يُمكِن لنا أن نُرتِّب عليها اشياء جميل جداً، إنذ هذا هو الحمل الشائع الصناعي.

لأضرب مثلاً ولأنتهي من هذه النُقطة بعد أن عرفنا الفرق بين الحمل الذاتي الأولي والحمل الشائع الصناعي، المُثلَّث – مثلاً – من المُمكِن أن يُعرَّف بأنه شكل محوط بأضلاع ثلاثة، لأن الشكل الوحيد الذي تحوِّطه أضلاع ثلاثة لا يكون إلا مُثلَّثاً، اقلب أو اعدل المُثلَّث هيك وضعه على رأسه أو على رجليه أو ائت بمُثلَّث ماركس Marx أو غير ماركس Marx سيظل مُثلَّثاً، فهذا الحمل هو حمل ذاتي أولي إذن، علماً بأن هذه المسائل مُهِمة جداً وبالتالي – والله – لو اتسع الوقت فسوف أُحدِّثكم عن كيف وقع مناطقة أجانب في أخطاء فظيعة ورهيبة لأنهم لم يُميِّزوا بين هذين الحملين، ولكن أن يُقال أن المُثلَّث أيضاً مجموع زواياه قائمتان يُعَد حملاً شائعاً صناعياً مثل مثال الماء، فلو أنك أفهمت المريخي ما هو المُثلَّث وعرَّفته له على أنه هذا الشكل المحوط بأضلاع ثلاثة لن  يفهم من خلال هذا التعريف أن مجموع زواياه قائمتين، لكن عليه أن يذهب ويحضر المِنقلة هذه ويبدأ يقيس ثم يتضح له بالتجربة أن مهما صغِّرت المُثلَّث أو كبِّرته سيظل مجموع زواياه قائمتين طالما هو مًثلَّث إقليدي – Euclidean Triangle  – على مُستوٍ، ومن ثم لا تقل لي أننا سنحضر له كُرة قدم ونعمل له مُثلَّث أكثر من مائة وثمانين درجة، لا ينبغي هذا لأن هذه ليست هندسة مُستوية ونحن نُريد شيئاً مُستوياً لأن لكل شيئ شروطه، فهذه هى نسبية المعارف.

إذا فهمتم الحمل الذاتي الأولي والحمل الشائع الصناعي الآن سيتأكَّد لديكم فهم نُقطة أو مسألة في مُنتهى اللطف والدقة والرقة وهى مسألة الماهية، نحن قلنا من ذي قبل أن الماهية من حيث هى ليست إلا هى، لا موجودة ولا معدومة ولا كاملة ولا ناقصة وإلى آخره، لكن قد يعترض أحدهم قائلاً ” هذا غير صحيح، فهذه ماهية المرآة وهذه هى المرآة وهذه ماهية الساعة وهذه هى الساعة، إذن هى موجودة يا سيدي”، وهذا غير صحيح ومَن يقول هذا يُعَد مُخطئاً، لأننا حين قرَّرنا هذه القاعدة أو قعَّدنا هذه القاعدة كنا نتكلَّم عن الماهية بالمعنى الذاتي الأولي، فنعم الماهية من حيث هى لا موجودة ولا معدومة ولكن من حيث الحمل الشائع الصناعي للماهية نصيب من الوجود.

أعتقد أن الله وفَّقنا في أن نتسلسل ومن ثم سنأتي الآن إلى مسألة مُهِمة جداً ولعلكم سمعتم بها كثيراً وهى مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية ولكن للأسف المواد عنها قليلة على النت Net على الرغم من أن أكبر مصدر للمعرفة اليوم هو هذا النت Net الذي أسقط رؤوساء ودمَّر دول، ولكن المواد عن أصالة الوجود قليلة جداً وتُوشِك ان تكون غير واضحة، فهذه المسألة مُهِمة وهى من مُبتكَرات الفلسفة الإسلامية وفي الحقيقة الذي حاز قَصَبَ السبق إليها ووضعها هو الفيلسوف العظيم محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بصدر المُتألِّهين، علماً بأن مُلا صدرا الشيرازي مُتوفى – كما قلت سابقاً – سنة ألف وخمسين للهجرة في مُنتصَف القرن الحادي عشر للهجرة، أي  قبل حوالي أربعمائة سنة إلا قليلاً، فإذن مُلا صدرا الشيرازي بحث هذه المسألة وأتى فيها بالجديد، ولكن هناك سؤال يُطرَح في مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية وهو: لمَن الأصالة أو لما الأصالة؟!
هل الأصالة للوجود أم للماهية؟!

سيقول لي أحدكم: والله نحن – الحمد لله – فهمنا الوجود وفهمنا الماهية، وعندنا الآن تصوّر عن الوجود وعندنا تصوّر عن الماهية، ولكننا لم نفهم السؤال، فهل الأصالة تعني أن هذا الشيئ أصيل وابن ناس وليس نغلاً دخيلاً أم ما القصة؟!
الأصالة باختصار هى التحقّق في الخارج، علماً بأن هذه المُصطلَحات غير المفهومة حين يتم إيضاحها تُصبِح سهلة، ومن هنا علينا أن ننتبه إلى السبب وراء نرجسية المُثقَّفين الذين عندهم نرجسية وعُنجهية عجيبة تصل إلى أنهم لا يُحِبون أن يُوضِّحوا الأشياء للناس، ومن هنا كان إعجابي بأستاذنا الكبير وصاحبنا وحبيبنا الدكتور المسيري الذي كان لديه – والله العظيم – رغبة غير عادية في توضيح الأشياء للناس، فحتى المُصطلَحات الإنجليزية كان يكتبها بالإنجليزية ويكتب طريقة لفظها بالعربية إلى جانبها – مثل أن يكتب Equivocal بالإنجليزية ويكتب بجانبها إيكوفيكال بالعربية – لكي يتمكَّن الناس من قرائتها بشكل صحيح، وهذا شيئ جميل، لكن هناك مُثقَّفون نخبيون نرجسيون لؤماء مثل لؤماء المال لا يُحِبون أن يُعطوا شيئاً، وإذا تكلَّم الواحد منهم فإنه يُغمِض ويتكلَّم بلغة غير مفهومة فيُشعِرك أنك فهمت وفي حقيقة الأمر أنت لم تفهم شيئاً وهذا شيئ غريب، فماذا تظن نفسك أنت أيها المُثقَّف وأنت لم تأت أصلاً بشيئ جديد؟!

 إذن إذا عرِّفنا  الأصالة سنجد أنها سهلة وبسيطة بل من أبسط ما يكون ومن ثم سنفهمها، فما معنى الأصالة إذن؟!

 الأصالة باختصار هى التحقّق في الخارج، فأنت عندما تتكلَّم عن الماهية من حيث هى لن يكون لها علاقة بالأصالة من حيث هى، لكن يكون لها علاقة عندما تتكلَّم عن التحقّق في الخارج، ومعنى التحقق في الخارج هو أن لكل شيئ حقيقة في الخارج، وفلسفياً معنى أن لكل شيئ حقيقة في الخارج هو أن يكون مبدأً للآثار، أي مبدأ ليتأثَّر الشيئ ويُؤثِّر، فالماء – مثلاً – عندما يتحقَّق في الخارج قد يُؤدي إلى الغرق إذا كان كثيراً وقد يُطفيء النار، والنار إذا زادت عن حدها قد تحرق القطن والخشب ولكنها تنطفيء بالماء، فهذه هى الآثار المُتعلِّقة بأن يفعل وأن ينفعل وفقاً لمقولات أرسطو Aristotle العشرة، فإذا كان للشيئ حقيقة وهذه الحقيقة هى مبدأ ومنشأ الآثار نقول أن له أصالة.

قد يستعجل أحدهم ويقول لي أن المسألة الآن أصبحت سهلة ولم نعد في حاجة إلى أمثال ابن سينا والشيرازي وهذا غير صحيح، فالسؤال الآن لدينا هو: هل الأصالة للوجود أم الماهية؟!

الآن بدنا في تبسيط الجواب، فحين أقول – مثلاً – الآن أن الساعة مُعلَّقة أمامي، فإذن الساعة موجودة مُعلَّقة، فكل مُمكِن زوج تركيبي – فأنا مُمكِن وأنت مُمكِن والعرش والفرش والشمس والقمر والمَلَك وجبريل وميكائيل وكله مُمكِن، وكل مُمكِن زوجي تركيبي – لكن الله وحده واجب وجود، فكل ماعدا الله – أي كل مُمكِن – زوجٌ تركيبي، أي مُركَّب من أمرين هما الماهية والوجود، وهذا شيئ ضروري وأثبته لكم عند حديثي عن العنقاء – Phoenix – التي ليس لها وجود، وكما قلنا أن الحديث عن العنقاء يكون دائماً في إطار الحمل الذاتي الأولي لأن ليس لها وجود أو تحقّق في الخارج، إذن كل مُمكِن زوج تركيبي من ماهية ووجود، ولكن علينا أن ننتبه بعد أن فهمنا الأصالة والتحقّق وأن الحقيقة منشأ الآثار ومورد الآثار أنه يُوجَد لدينا في الذهن مفهومان، مثل مفهوم ساعة ومفهوم موجودة – فالساعة الماهية أما موجودة فتأتي من الوجود – في الذهن، لكن في الخارج مفهوم واحد فقط وليس مفهومان، فليس عندي ماهية الساعة ووجود للساعة ولكن عندي ساعة موجودة وانتهى كل شيئ، أي لدي شيئ واحد ومُسمى واحد في الخارج، علماً بأن هذه الإشكالية المُتعلِّقة بالمُسميات أصابتني بالكُباد حيث أننا نجد مُتحدِّثين وعلماء وكُتّاب يقولون – مثلاً – أن هذا المُسمى لا نرضاه عن التصوّف، وهذا ليس بمُسمى أصلاً وإنما إسم لأن المُسمى هو المصداق الخارجي، وهذه الأشياء بديهية ومع ذلك يُخطئون فيها فكادوا أن يُصيبونا بالجنون بسبب هذا الشيئ العبثي، إذن ليس لدي في الخارج مُسميان، لدى مُسمىً واحد هو هذه الساعة مثلاً أو ليس لدى في الخارج مصداقان، لدى مصداق واحد هو هذه الساعة، السؤال الآن: بما أن ليس في الخارج إلا شيئ واحد مثل هذه الشمس أو هذه النار أو هذا الماء أو هذه الساعة أو هذا الرجل أو  تلك المرأة أووإلى آخره، فمَن منشأ أو ما هو منشأ هذه الآثار؟!

هل المنشأ هو الماهية أم الوجود؟!

هذه هى مسألة الأصالة لمَن، والمسألة فيها أربعة أقوال، القول الأول هو أن الوجود هو الأصيل والماهية اعتبارية ومُنتزَعة منه فقط، أي أن العقل ينتزعها، علماً بأنني سأُوضِّح هذا أيضاً بعد قليل لأن المسألة ليست واضحة، والقول الثاني هو أن الماهية هى الأصيل والوجود هو الاعتباري، والقول الثالث هو أن الاثنين أصيلين ولا اعتباري فيهما أو منهما، والقول الرابع هو أن الاثنين اعتباريين ولا أصيل فيهما، علماً بأن الرابع هذا لم يقل به أحد ولو كان مجنوناً، فحتى الآن لم يُصَب أي فيلسوف بالجنون لكي يقول لنا أن الاثنين اعتباريين لأن إذا كان الأمر على هذا النحو فلن يكون هناك أي وجود إذن، لن يُوجَد لا شمس ولا قمر ولا أنا ولا أنت ولا أي شيئ، ولكن الحال أن هناك موجودات، إذن مَن يُؤيد الرأي الرابع نقول له “اسكت واجلس في بيتك وابدأ من جديد، لأن هذا يُعَد كلاماً فارغاً ومن ثم لم يقل أحد بأن الاثنين اعتباريين”، ولكن هل هناك مَن قال بأن الاثنين أصيلان؟!

 هذا مذهب ضعيف وعجيب أيضاً ولكن يُنسَب إلى  الشيخ أحمد الأحسائي – رحمه الله – أنه قال بأصالة الاثنين، والآن من المُعاصِرين يُوجَد الفيلسوف الإيراني المُعاصِر غُلام رضا فياضي وسيد كمال الحيدري اللذان نصرا هذا القول وشذا عن الجمهور.

بقيَ إذن القولان الأولان حيث استحوذا على مُعظَم الفلاسفة والمُتكلِّمين مثل شيخ الإشراق الشهاب السهروردي الذي قتله ابن صلاح الدين بأمر أبيه في قلعة حلب، علماً بأنه كان فيلسوفاً عظيماً وشيئاً رهيباً  رغم أنه كان شاباً صغيراً ومع ذلك مات مقتولاً وهو في الأربعة والثلاثين من عمره، المُهِم هو أن شيخ الإشراق الشهاب السهروردي قال بأصالة الماهية واعتبارية الوجود، وهذا كان رأي الأكثرين، أماابن سينا والفارابي والناس الكبار كانوا في حالة تذبذب، فعندهم أقوال تُؤكِّد أصالة الماهية وعندهم أقوال تُؤكِّد أصالة الوجود مثل أن الله لم يُمشمِش المشمشة ولكن أوجدها، فهذا القول يُعين على أصالة الماهية، فهذه ليست اعتبارية بل هى حقيقة مًطلَقة، ومع ذلك عندهم أقوال أُخرى تُؤكِّد أصالة الوجود، إذن ابن سينا الأمر عنده لم يكن واضحاً، لكن على كل حال قال بهذا – كما قلت – شيخ الإشراق وتابعه الأكثرون ومنهم المُحقِّق الداماد أستاذ مُلا صدرا الشيرازي وقال به مُلا صدرا الشيرازي في بدايته ثم عدل عنه ونصر القول الآخر القائل بأن الأصيل هو الوجود، وهنا بداية استدلالنا على الله – عز وجل – وكيف أن الله أظهر من كل شيئ وأوجد من كل موجود  – لا إله إلا هو – ومع ذلك نحن لازلنا نبحث عنه، ومن هنا كانت البداية إذن – أي من مسألة أصالة الوجود – فقال مُلا صدرا الشيرازي الأصالة للوجود والماهية اعتبارية مُنتزَعة، فالذهن ينتزعها فقط وليس أكثر من هذا، وهذا شيئ جميل جداً ولكننا سنُحاوِل أن نتقدَّم خُطوة لنفهم بالضبط كيف هذا، علماً بأنني أُريد أن أبدأ لكم بالألطف والأسهل لأن الأدلة على أصالة الوجود كثيرة جداً طبعاً وكذلك الجوابات عن أدلة أصالة الماهية كثيرة جداً وهى جوابات سهلة – بإذن الله – ولكننا سنأتي فقط إلى بعض الأدلة بما يتسع له المقام.

إذن نحن ذكرنا وجود آثار في الخارج، وهذه الآثار المسؤول عنها إما الوجود وإما الماهية، ولكن قد يأتي أحدهم ويُخالِف على طريقة العرب – ما شاء الله – اليوم دون أن يفهم شيئاً ودون أن يدرس شيئاً ولكنه يُحِب أن يُخالِف ويقول أنه مع رأي السهروردي وعلينا أن نسمح له بأن يُخالِفنا في هذا، ونحن نقول له: ليس لدينا مُشكِلة يا سيدي ولكننا نُريد الدليل ومنكم نتعلَّم، فلا يُمكِن أن تقول أن الأصالة للماهية لأن بالماهية النار تُحرِق وما إلى هنالك بدون دليل، فلو كنت مُتأكِّداً من هذا ومن أن ماهية النار هى التي تُحرِق فسؤالي إليك: ألا يُحيط الذهن بالماهية؟!

بما أنك ستُجيب بأن الذهن يُحيط بالماهية طبعاً فإذن كان ينبغي حين فقط تُفكِّر في النار أن يحترق دماغك ونتخلَّص منها، لأن لو كانت الماهية هى الأصيلة وهى مبدأ الآثار دون الوجود لكان استحضار ماهية أي شيئ في الذهن سينتج عنه حضور آثار هذه الماهية التي جعلت لها الأصالة.

 نفترض أنك جئت إلىّ – مثلاً – بصفتي طبيب نفسي وأنت مُكتئب – Depressed – بحالة اكتئاب – Depression – شديدة، وأنا قلت لك خُذ اثنين ماهية بروزاك Prozac على الريق واثنين ماهية بروزاك Prozac  قبل النوم –  البروزاك Prozac هو أشهر دواء للاكتئاب في العالم طبعاً – أو حبة واحدة من ماهية البروزاك Prozac قبل النوم منعاً للآثار الجانبية، أنت ستقول لي: ما هذا الهبل؟!

أي كأنني أقول لك لا تذهب إلى الدكتور ولا تكتب  Recipe  بالإنجليزية أو Rezept بالألمانية ولا تدفع أي مال، ولكن عليك فقط أن تجلس وأن تتفكَّر في ماهية البروزاك Prozac من خلال الصور الموجودة في كتب الكيمياء العضوية حيث أنهم يُصوِّرونه تماماً مثل الماء ومن ثم سوف تفهم ماهيته وستستطيع أن تأخذ اثنين ماهية بروزاك Prozac على الريق وواحد ماهية بروزاك Prozac  قبل النوم و – إن شاء الله – ستكون أفضل بل ومن أحسن ما يكون، وهذا طبعاً غير صحيح، فلن تُشفى بل – والله – ستنتحر، إذن أكيد ليست الماهية هى الأصل كما في  الدليل الأول وبالتالي سننظر في الدليل الثاني.

  تكلَّمنا عن الحمل وقلنا زيدٌ قائم والشمس طالعةٌ والحبل ممدودٌ وإلى آخره، وقلنا أن في كل حمل لابد من جهة اتحاد ومن جهة افتراق، وعلينا أن ننتبه إلى هذه الأشياء جيداً لأن الأمر سيكون جميلاً إذا فهمناه، الله يُجمِّل أيامنا بالستر دائماً وبالحلم والعلم والتقى والقبول من الله وعند الله.

حين تنظر في وجودات وواقعيات العالم حولك وهى أشياء كثيرة في الظاهر ومُتكثِّرة ما هو مثار الكثرة فيها؟!

هل مثار الكثرة هو الوجود أم الماهية؟!

سيُجيب أحدكم قائلاً: من الواضح أن السبب هو الماهية لأنك قلت الوجود مُشترَك معنوي، وفي الحقيقة زيدٌ موجود والشمس موجودة والسوبرنوفا Supernova موجودة، فالوجود هنا بنفس المعنى وإن كان زيد غير الشمس غير السوبرنوفا Supernova، إذن مثار الكثرة والاختلاف في الوجودات والواقعيات في الخارج  الماهية وليس الوجود طبعاً، فبماهية الشمس تُوجَد الشمس، وبماهية الكرسي تُوجَد  الكراسي، وبماهية كذا يُوجَد الكذا، إذن الماهيات هى مثار الكثرة والاختلاف وهذا شيئ جميل جداً، وبالتالي عندما نقوم بأي حمل ونقول زيدٌ قائم والشمس طالعةٌ والشمس موجودة وإلى آخره فنحمل ماهية على ماهية –  محمول ماهية على موضوع ماهية – لابد لنا من جهة اشتراك وجهة تغاير واختلاف، ونحن قلنا أن الذي يحصل به الاختلاف والتغاير هو الماهية، إذن السؤال الآن هو ما الذي يحصل به الاتحاد؟!
قبل أن يُجيب أحد عن هذا السؤال لابد أن يعلم أن هذا الاتحاد في الخارج هو اتحاد حقيقي، لأن لو لم يكن الاتحاد موجود في قولنا الشمس طالعةٌ لما وُجِدَت الشمس ولا طلعت، ولكن في الحقيقة الشمس موجودة وفعلاً طالعة والنهار مبسوطٌ شعاعه وضياؤه، فنحن نرى هذا في الخارج ومن ثم لابد من وجود اتحاد حقيقي بين النهار ومبسوطية ظله وبين الشمس وبين طلوعها وبين زيد وبين القيام وبينكم وبين الجلوس، فهذا كله موجود ومُتحقِّق في الخارج وبالتالي يجب أن ننتبه إلى أن الاتحاد بين الماهيات حقيقي إذن، فمن غير المُمكِن أن تكون الماهية هى مناط الاتحاد لأنها مناط المُغايَرة والاختلاف، فلا يبقى إلا أن يكون مناط الاتحاد ووجه الاتحاد بين هذه الأشياء هو شيئ له الأصالة وهو الوجود إذن، وهذا شيئ جميل وتفكير عميق وحلو بل من أحلى ما يكون، إذن الوجود له الأصالة.

 أخيراً سأختم هذه المسألة المُعقَّدة الكبيرة التي كُتِبَت فيها مئات الصحائف التي لو قرأها الواحد منا لتاه ولغرق فيها – هذا هو تبسيطها وتكثيفها بإذن الله تبارك وتعالى –  بمثال ضربه أحد دارسي الفلسفة وهو مثال حسن وبالتلي سنستعيره منه ولكنني طبعاً سأتصرَّف فيه على عادتي، فلو افترضنا أن طفلاً جاء وبيده محبرة وسكب منها على صحيفة بيضاء – على ورقة كارتون بيضاء  – حبراً، ثم نظرنا فوجدنا – سُبحان الله – شكل مُستطيل تكوَّن من الحبر المسكوب، إذن  في الخارج تم إنتاج هذا التميّز لهذا الشيئ المسكوب من بياض الورقة، وينتهي هذا التميز بالحدود  التي انتزع منها الذهن شكل مُستطيل، وطبعاً من مُمكِن ألا يكون مُستطيلاً وأن يكون مُثلَّثاً أو مُربَّعاً أو مُهوَّشا أو مُسدَّساً او مُثمَّناً أو أي شكل من الأشكال أو حتى مُجرَّد لطخةً، فالسؤال الآن: هل الموجود في الخارج حقيقةً الآن هو المُثلَّث أو اللطخة أو إلى آخره من أشكال أم الحبر؟!

الحبر،  لكن ضروري لأن هذا الحبر ليس واجب الوجود – أستغفر الله العظيم – لأن وجوده ليس مُطلَقاً بل هو مُحدَّد الوجود، فوجود هذا الحبر مثل وجودي أنا ووجود الشمس وما إلى ذلك، وطبعاً هذه كلها وجودات مُحدَّدة وعندها حدود، فلما وُجِدَ هذا الحبر وسُكِبَ على الورقة انتهى بلا شك إلى حدود، ولكن الحدود بحد ذاتها ليست شيئاً، فلا يُوجَد شيئ بحد ذاته إسمه الحدود، ولكن هذه الحدود هى فقط ما ينتهي إليه وجود الشيئ المُحدَّد، فالشيئ بعينه حين انتهى ظهر عندنا شكل ما – Forma – نحن اصطلحنا أن نُسميه هندسياً بالشكل المُستطيل إن كان الشكل مُستطيلاً أو بالمُثلَّث إن كان الشكل مُثلَّثاُ، فالآن السؤال: مَن الأصيل، المُثلَّث أم الحبر الأسود؟!

سيُجيب أحدكم  قائلاً “الحبر الأسود”، وهذا هو بالظبط الصحيح، فالحبر الأسود هو الوجود، والمُثلَّث هو الماهية، والماهية اعتبارية انتزاعية، وهذا هو الذي فهمه صدر الدين – روَّح الله روحه في عليين – وكتب فيه صحائف كثيرة جداً جداً جداً ودافع عنه ودفع الإيرادات بطريقة مُبتكَرة ثم تقدَّم خُطوة إلى الإمام – علماً بأننا الآن الحمد لله  فرغنا تقريباً من مُعظَم المُقدِّمات التي تلزمنا – وقال لك الوجود من حيث هو مفهوم بدهي، لكنه من حيث هو لا يلزمه واسطة أو سبب آخر لكي يُوجَد، هذا مُستحيل فكل كل شيئ عداه يحتاج إلى واسطة وعلة لكي يلتحق بالوجود ولكي يخرج من كتم العدم إلى أنوار الوجود وهذا شيئ مُمتاز، لكن الوجود من حيث هو موجود بذاته، فالوجود بذاته لا مشروط ولا مُقيَّد ولا محدود ولا ناقص، إذن الوجود من حيث هو يُساوي ويُعادِل اللامشروطية واللامحدودية والكمال والعظمة والقوة والفعلية، فهو ليس شيئاً مُمكِناً – Possible – أو إلى آخر هذه الأشياء، وهذا الوجود – كما قلنا لكم قبلاً – مشترَك معنوي يُطلَق ككُلي بالتشكيك، وهذا الوجود المُطلَق مُطلَق الكمال والبهاء والجلال والنورية والشدة والفعلية والحضور وإلى آخره، وتقريباً هذا معنى أننا نُفكِّر في الله  الذي هو مصدر كل شيئ – لا إله إلا هو – ومنه كل شيئ يأتي، جميل جداً، علماً بأن المراتب المُشكِّكة كلها لها علاقة بالأعدام – جمع عدم – ولن تكون وجودات كاملة مُطلَقة، بل ستكون ناقصة، فإذا ذهبت إلى العالم الذي تراه لتتأمَّل فيه هل ترى الوجود المُطلَق الذي شرحناه؟!

 لن تراه أبداً، بل سوف ترى وجودات مُحدَّدة وناقصة وتتعاورها أعدام من جهات دون جهات فترى الشيئ في حين ويغيب في أحيان، وترى الشيئ في ظرف وفي مكان ثم يزول من هذا المكان، وتراه على حالة ويتغيَّر عنها ويترقَّى ويتطوَّر ويضمحل وإلى آخره، وكل هذا – سُبحان الله – عالم محكوم بهذه القوانين، وكل هذه الوجوه التي تتعيَّق بأنه يكون ثم لا يكون ويتغيَّر ويتبدَّل ويضعف ويزوي وإلى آخره أعدام، ومنشأ هذه الأعدام التي تعتور وتحتوش وتطبع بطابعها الوجودات كلها هو المعلولية، أي لأنها معلولة فهى ليست علة ذاتها، وبالتالي هى ليست كالوجود نفسه فالوجود مُطلَق وموجود بذاته لا بواسطة، لكن كل هذه معلولة لمَن أوجدها – لا إله إلا هو – وبمُجرَّد أن تكون معلولة هى ستكون ناقصة على النحو الذي أشرنا، ستكون مُحتوَشة بالعدم، أي بعبارة أُخرى وهى عبارة عرفانية صوفية نُريد أن نقول أن  الوجود الحقيقي لله وليس للموجودات، ومن ثم وجودات كل هذه الأكوان والمُكوَّنات هى وجودات ظلية، فكلها معلولة للعلة الأولى الوحيدة المُطلَقة الواجبة – أي  الله لا إله إلا هو – التي هى – كما قلنا – محض الوجود المُطلَق، فالله بلا نهاية وبلا بداية وهو الأول والآخر والظاهر الباطن، وهو أيضاً مُنتهى الشدة ومُنتهى الطلاقة وإلى آخره.

ستتعجب وستقول لي: يا الله، نحن لم نكن نفهم أو نُفكِّر على هذا النحو، فلماذا؟!

لأننا للأسف في العمق أشبه بالمُجسِّمة، نبحث عن إله كأحد الوجودات، ولو كان كأحد الوجودات لكان محوطاً بالأعدام من كل الجوانب، فالواحد منا يُريد الله كشيئ مُحدَّد بحدود مُعيَّنة في مكان مُعيَّن، ولكن هذا ليس الله لأن الله – لا إله إلا هو –  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ ۩، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ – وعما يتوهَّمون ويحسبون ويظنون –  عُلُوًّا كَبِيرًا۩. لا إله إلا هو.

إذن منشأ كل النقائص والأعدام المذكورة هو المعلولية، بقيت مسألة بسيطة اُجمِلها في الخُطبة الثانية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

سأسأل سؤالاً واحداً وأختم، وهذا السؤال مُهِم والآن حان دور أن نفهمه في سياقه – بفضل الله تبارك وتعالى –  حيث أن له علاقة بالسؤال العبيط جداً الذي يتكرَّر على ألسنة فلاسفة كبار مثل جون ستيوارت مل John Stuart Mill وبرتراندراسل Bertrand Russell والآن المُفكِّر البيولوجي ريتشارد دوكنز Richard Dawkins وحتى هوكينج Hawking وأمثال هؤلاء، فيقول لك الواحد منهم: أنت تُحدِّثني عن أن الله هو الذي خلقك، فمَن خلق الله إذن؟!

قبل أن تسأل هذا السؤال عليك أن تأخذ هذه الدورة في الفلسفة، فالفلاسفة لم يتركوا هذه المسائل إلا بعد أن قعَّدوا وبعد أن بنوا هذا البناء الشامخ الهائل المُخيف، وكان من ضمن الأسئلة التي تعاطوها سؤال: ما مناط الاحتياج إلى العلة وما مناط الاستغناء عن العلة؟!
هناك أشياء تحتاج إلى العلل مثل كل المخلوقات وكل ما في الكون، وبعبارة الماديين كل موجود مُحتاج إلى علة، وهذه العبارة غير دقيقة وغير صحيحة، فليس كل موجود في حاجة إلى عله، وإلا ما هو مناط الاستغناء؟!

سيقول لك أحدهم على طريقة الماديين ” لا أحد مُستغنٍ إلا العدم”، ولكن ما هو مناط الاحتياج إلى العلة وما هو مناط الاستغناء؟!

يعني الله مُستغنٍ عن العلة، هو علة كل المعلولات – لا إله إلا هو – ومن ثم هو مُستغنٍ، ولكن ما هو مناط الاستغناء بطريقة فلسفية وليس بطريقة إيمانية؟!

هناك أربع نظريات تتحدَّث عن هذا الموضوع وينبغي عليكم أن تحفظوها جيداً، فالعقل البشري حين صال وجال وذهب وعاد رجع لم يأت إلا بأكثر من أربع نظريات حتى الآن، النظرية الأولى تقول أن مناط الاحتياج هو الوجود، وهذه طريقة الماديين والملاحدة الذين يقولون أن كل موجود بما هو موجود مُحتاج إلى علة، فإذن مناط الاحتياج هو الوجود وبالتالي مناط الاستغناء هو العدم، لأن المعدوم لا يحتاج إلى علة، حيث أن علة العدم عدم العلة وبالتالي المعدوم سيكون مُستغنٍ، وهذا الكلام غير صحيح طبعاً، علماً بأننا لن ندخل في نقاشات تتعلَّق بالجواب عن هذه النظرية ولكننا سنُعطيكم النظريات فقط الأربعة، أما النظرية الثانية فتقول أن مناط الاحتياج ليس الوجود وإنما الحدوث، وهى طريقة المُتكلِّمين من علماء الكلام الإسلامي شيعةً وسُنة ومُعتزِلة، فالشيئ يحتاج إلى علة تُوجِده وتعمل فيه ويصدر عنها بسبب الحدوث، أي أن مناط الاحتياج هو الحدوث، ومعنى الحدوث هو أن يكون وجوده مسبوقاً بعدم، أي أن يكون بعد أن لم يكن وأن يخرج بطريقة ابن سينا وابن رشد من الليس إلى الأيس، فابن سينا يقول أن كل مُمكِن من حيث هو ليس ومن حيث علته أيس، والذي يُخرِجه يخرجه من العدم إلى الوجود العلة، فمناط الاحتياج هو الحدوث وبالتالي مناط الاستغناء سيكون القِدم، فالحدوث هو وجود مسبوق بعدم، أما القِدم فهو وجود غير مسبوق بعدم، أي وجود أزلي أبدي غير مسبوق بأي عدم، فالقديم هو الله عز وجل طبعاً، وكل ما ثبت له القِدم استحال عليه العدم أيضاً فهو غير مُحتاج، إذن هذه هى طريقة المُتكلِّمين علماً بأن عليها إيرادات كثيرة من أهمها أن لازم هذا القول – لازم قول علماء العقيدة وعلماء الكلام الذي يُفيد بأن الحدوث هو مناط الاحتياج إلى العلة – أن الحادث يحتاج إلى العلة في حدوثه فقط لكي يُوجَد ولا يحتاج إليها في بقائه وهذا باطل، فإذا كان هذا باطلاً سيكون المُقدَّم باطلاً، ومن هنا يُوجَد مُشكِلة في هذه النظرية، أما النظرية الثالثة فتقول أن مناط الاحتياج الإمكان الذاتي أو الإمكان الماهوي، علماً بأننا شرحنا هذا في الخُطبة السابقة وقلنا أن كل ماعدا الله هو المُمكِن، ولكن قد يعترض أحدهم على هذا الكلام ويدّعي أنني أقول هذا فقط لأنني من المُؤمِنين بوجود الله أما هو فيُنكِره، ولكن نحن نقول له عليك أن تذهب وتُفكِّر في كل أشياء الوجود وستجد رغماً عنك أن كل أشياء الوجود من قبيل الأشياء التي لا يُحيل العقل أن تُوجَد كما لا يُحيل ألا تُوجَد، فإذا حصل ووُجِدَت – وهى الآن موجودة –  فسيأتي السؤال: مَن الذي أوجدها؟!

علماً بأنه لا يُمكِنك أن تُجيب بأن مُمكِن أولد مُمكِناً، لأنك إذا تسلسلت إلى ما لا نهاية لن يُوجَد شيئ وبالتالي رغماً عنك لابد أن تقطع السلسلة وأن تقول أن الذي أوجد كل المُمكِنات في نهاية المطاف هو واحد واجب الوجود وهو ليس مُمكِناً الوجود وليس له مُوجِد، وإلا تقع في الدور إذا قلت لي أنه يُوجَد مُمكِن هو الذي أوجد مُمكِناً في حين أن هذا الذي أوجد موجود للذي أوجده، وهذا كلام فارغ وجنون، وهذا معنى كلامي أن الإلحاد انتحار عقلي، فليس الموضوع بالهوى ولا يتعلَّق بقضية التفاخر بأنك أصبحت مُلحِداً، ونحن لسنا لدينا أي مُشكِلة يا سيدي في ذلك ولكننا نُريد فقط أن يكون مُخك مُرتَّب، فقبل أن تُلحِد وقبل أن تُجدِّف عليك أن تُفكِّر بترتيب، ابدأ من حيث انتهى الأذكياء – علماً بأن هذه هى نصيحتي – واقرأ الفلسفة والعلم واقرأ للناس الأذكياء عبر الدنيا  ثم تعال وقرِّر موقفك، ولا تعتقد أن كل الذين ألحدوا قرأوا كل هذه الأشياء وعرفوها وفهموها جيداً، هذا غير صحيح، فمثلاً كانط Kant كان عقل جبّار جداً جداً جداً ولكننا نقول بكل مصداقية أن الرجل أخطأ في فهم أشياء مُعيَّنة لم يفهمها بطريقة صحيحة، لأن الكمال لمُعطي الكمال – لا إله إلا هو – وهذا إن جاز هذا التعبير لأن على كل حال يُوجَد محاذير عقدية من أن نقول أن الله هو الكامل.

إذن مناط الاحتياج  لابد أن يكون الإمكان الذاتي أو الإمكان الماهوي وفقاً لطريقة ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم، أما مناط الاستغناء فهو الوجوب، فواجب الوجود مُستغنٍ أما مُمكِن الوجود مُفتقِر، وهذه هى النظرية الثالثة، ولكن قبل أن أقول النظرية الرابعة التي تتعلَّق بالمُلا صدرا الشيرازي قد يقول لي أحدكم التالي:

أنا فهمت شيئاً مُهِماً يا عدنان يتعلَّق بسبب عباطة سؤال مَن خلق الله ومَن أوجد الله، لأن الذي يسأل هذا السؤال لم يطرحك سؤالك اليوم المُتعلِّق بمناط الاحتياج إلى العلة ومناط الاستغناء عن العلة ومن ثم يتضح أن عبارة الماديين التي تقول أن كل موجود بما هو موجود مُحتاج إلى علة هرف وكلام فارغ، فالله موجود وليس مُحتاجاً إلى علة، ولا يُمكِن لأحد أن يدّعي أن الله في حاجة إلى علة لأن رغم أنفه إذا ادّعى أن كل موجود بما هو موجود مُحتاج إلى علة سيقع في التسلسل أو سيقع في الدور حيث أنه سيجعل الشيئ خالقاً مخلوقاً في الوقت نفسه وهذا جنون أو سيجعل سلسلة العلل مفتوحة إلى ما لا نهاية، وإذا كانت مفتوحة بلا بداية إلى ما لا نهاية لن يُوجَد أي شيئ، والحال أن الأشياء موجودة، إذن لابد أن تنتهي رُغماً عنك بالعقل الذي أعطاك الله إياه لكي يدلك ويهديك إلى أن ليس كل موجود في حاجة إلى علة، فكما قال ديكارت Descartes أعدل الأشياء قسمة بين الناس العقل، فإذا كنت تُريد العقل حقاً فلابد أن تقطع سلسلة التسلسل بواجب وجود وليس بمُمكِن وجود ويكون غير مُحتاج إلى علة.

إذن لا تسمح لأي مادي أن يُمرِّر مقولة كل موجود يحتاج إلى علة، فهذا المادي لا يعلم شيئاً ومع ذلك يأتي يسألك عن موقف كمسلم من أن كل موجود في حاجة إلى علة كما لو كنت تتفق معه في هاته المقولة، ومن ثم عليك أن تقول له أنك لا تُوافِقه على هاته المقولة أبداً علماً بأن هذه المسألة مُعقَّدة  فضلاً عن أن علماء العقيدة قالوا كل حادث مُحتاج إلى علة وليس كل موجود، والله مُحدِث وليس حادثاً، فهذا البرهان الكوني – Cosmological Argument – وهذا هو الحدوث، ثم قل لهذا المادي أن الفلاسفة الحكماء الكبار مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد لم يقولوا حتى كل حادث مُحتاج إلى علة وإنما قالوا كل مُمكِن ذاتي أو كل مُمكِن ماهوي مُحتاج إلى علة، والله واجب وليس مُمكِناً، ثم قل له  أخيراً أن مُلا صدرا الشيرازي – صدر المُتألِّهين رحمة الله عليه – قال أن مناط الاحتياج إلى العلة ليس واحداً من هاته الأشياء المذكورة إنما هو الفقر الوجودي أو الإمكان الفقري، فالرجل بحسب نظريته في أصالة الوجود قدَّم مفهوماً جديداً للإمكان وهذا يحتاج إلى كلام كثير، ولكنه باختصار بحث علاقة الموجودات بمُوجِدها والمعلولات بعلتها الأولى – لا إله إلا هو- فبيَّن أن كل هذه المعلولات لا وجود إلا بعلتها بالمُطلَق، أي أن وجودها علائقي ووجودها رابطي، فلولا العلة ما كان لها شيئ، فهى فقيرة مُبتدأً وتوسطاً ومُنتهىً إلى علتها وإلى مُوجِدها – لا إله إلا هو – بهذا الوجود العلائقي الرابطي، وهذا ما أسماه بالإمكان الفقري أو الفقر الوجودي وليس الماهوي، فقال إذن أن هذا هو مناط الاحتياج إلى العلة وبالتالي يكون مناط الاستغناء عن العلة هو وجوب الوجود.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(20/5/2016)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: