إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده   -في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  :

 

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ  ۩ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ  ۩ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ  ۩  لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ  ۩ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ  ۩  وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ  ۩ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ  ۩ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ  ۩ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ  ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق ، القائمين بالقسط ، آمين اللهم آمين .
إخواني وأخواتي :

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ  ۩

أَنَّهُ: أي القرآن الكريم، الضمير يعود في أشهر أقوال السادة المُفسِّرين إلى القرآن الكريم، وقيل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقيل الدين، وقيل الوحي، وقيل التوحيد، وهذه الأخيرة مُتقارِبة جداً، والأول أولى والله – تبارك وتعالى – أعلم، أنه القرآن.
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩ ثم قال – تبارك وتعالى – أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى ۩ ، لم يقل” على هذه القضية، على هذه المسألة – مسألة حقية القرآن – شهيد”، وإنما قال:

 عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩ 

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: و(كل) من ألفاظ العموم كما تعلمون جميعاً!

أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ: الاستفهام هنا قد يكون تقريراً، فكأنه قال ” كفى بربك أنه على كل شيئٍ شهيد”، كفى ربك، والباء هنا زائدة بلا شك وتدخل هنا كما تدخل على إسم التعجب، كفى ربك على كل شيئٍ شهيد، كفى بشهادة الله – تبارك وتعالى -، أعظم ما يُشهَد عليه هو أعظم مشهود وهو الله – لا إله إلا هو – ولذلك قال – عز من قائل – في آل عمران شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۩، شهد على أعظم قضية، على أعظم حق – أيها الإخوة – وحقيقة، حقيقة الوجود المُطلَق الأزلي الأبدي، وجود الذات الأقدس – لا إله إلا هو-، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۩، ولذلك هو يشهد لأنبيائه ورسله ويشهد لما زوَّدهم به من وحي وآيات السماء، وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا ۩

لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ۚ ۩، يشهد أيضاً لهذا ولكن أعظم مشهود عليه هو أعظم مشهود – لا إله إلا هو -، وهو مشهود حاضرٌ لا يغيب، أقرب إلينا من سواد العين ومن حبل الوريد لو كانت القلوبُ صافية طاهرة ولو كانت الفطر سليمة غير معكوسة ولا منكوسة ولو كانت العقول سديدة مُستقيمة، ولكن كل أولائكم يغشاه غبشٌ ويغشاه تضليل ويغشاه إذلال – أيها الإخوة – الفطرة والعقل والنفس الإنسانية بلا شك، ولكن لو استقام العقل على سوائه لشهد بما شهد به الله – تبارك وتعالى – وملائكته وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ ۩

وَأُولُو الْعِلْمِ: أصحاب العقول السليمة والأفهام السديدة والآراء الصائبة الذكية!

وَأُولُو الْعِلْمِ: وليسوا المُشوَّشين – أيها الإخوة -، ليسوا المُشوَّشين المُغبَّش عليهم، المُعمَّى عليهم، الذين يتركون الجادة ويأخذون في بُنيات الطريق هنا وهناك وتختلط عليهم الأمور وتختلط عليهم الأوراق كما يُقال في لغة العصر.

ولو طهرت القلوب لشهدت – أيها الإخوة – على الموضوع ذاته ولشهدته، لانكشف لها انكشافاً، وهذا من أعظم ما يُطمَح إليه ويُطمَع فيه، أن نشهد الحق – لا إله إلا هو – بالقلوب فهو لا يُرى بالأبصار لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩

والعجيب أن مسالك العُرفاء الأولياء والصدّيقين الأطهار انتهت إلى الغاية ذاتها التي انتهت إليها براهين العُقلاء الكُبراء من أذكياء البشر، ألباء البشر مِمَن لديهم قدرة على التفكير وتجريد التفكير مُدهِشة ومُحيِّرة، وحقيقٌ بالإنسان من حيث هو – من حيث كونه إنساناً – أن يُعظِّم في نفسه ويُعزِّز ويُشيِّد أركان هذه القدرة لأن أعظم ما امتاز به من سائر أنواع الحيوان هو هذه اللطيفة: العقل.

فإذن انتهت مسالك العقُلاء إلى ما انتهت إليه طرائق العارفين، لماذا ؟!

لأن الحق واحد لا يتعدَّد، قلبٌ طاهر وعقلٌ تام ينتهيان إلى تقرير الحقيقة ذاتها!
ولعل الإشارة إلى مسالك العارفين – أيها الإخوة – بذكر الملائكة لأن فيهم مُجانَسة من بعض الوجوه للملأ الأعلى على أنهم بشر من البشر، أوشكوا ألا يكونوا من البشر، فيهم هذه الملائكية الرائقة التي أشهدتهم أعظم حقيقة، يقول ولي الله – تبارك وتعالى – ابن عطاء الله السكندري:

متى غِبتَ حتى يُستدَل عليك؟!

الله ليس غائباً. لا إله إلا هو.

ويتحدَّث في موضعِ آخرعن الخفاء قائلاً:

هو خفي علينا وعنا من شدة الظهور!
من شدة ظهوره هو خفي. لا إله إلا هو.

والآن سيقول مَن لا يعقل ومَن لم يذق سواءٌ الذين في الباب لم يعقلوا أو الذين لم يذوقوا – أيها الإخوة – ويُجرِّبوا:

تشقيقات كلامية، تلاعب بالألفاظ، من شدة الظهور الخفاء، أين هو فنحن لا نراه؟!
هكذا سيقولون – أيها الإخوة -، وسوف يضح لكم بُعيد قليل أن الأمر أوضح مِن ما تتخيَّلون!

 أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩

كيف يُستدَل عليه وبه يُستدَل على كل شيئ؟!

كيف يُستدَل بك يا مولانا ، يا ربنا وإلهنا وسيدنا وخالقنا ومالك أزمتنا ونواصينا؟!

كيف يُستدَل عليك وأنت الدليل على كل شيئ ولولاك ما كان شيئٌ على الإطلاق؟!

إذن هو دليل على كل شيئ، فكيف يُمكِن أن نُبرهِن هذا؟!

لن نتحدَّث الآن عن الذوق والكشف لأن ليس هذا مقامنا ولا هذا مهيعنا ولا هذا وادينا، ولكن بالعقل الذي أشرتُ قُبيل قليل إلى أن مَن سلك سبيله الواضحة الناهجة يُمكِن أن ينتهي إلى ما انتهى إليه أولياء الله والعُرفاء الصُلحاء.

كيف؟!

هل يُمكِن هذا ؟!

نعم، يُمكِن – أيها الإخوة – فهناك بُرهانان في تاريخ الإنسانية، في تاريخ الفكر البشري، ولكن قبل أن أُشير على عجل إلى هذين البُرهانين أود أن أقول:

لا يقولن أحدكم:

ما لنا ولهذه الفلسفة فنحن لا نُريد أن نتفلّسَف؟!

يا إخواني:

أنت لا تستطيع إلا أن تتفلسف، الفلسفة ليست مذهباً بحياله أو منقولات أو مبادئ تُصطنَع ويُسار عليها ثم يُقال فيلسوف، ليست هكذا، الفلسفة في أبسط تعاريفها هى مُحاوَلة لتعميق النظر وغلغَلة الفكر في الموضوع المطروح المدروس قيد البحث، ولذلك لا تستطيع – كما قال أرسطو Aristotle أبو الفلسفة العقلية تقريباً – إلا أن تكون فيلسوفاً، حتى حين تُريد أن تُبرهِن على أن الفلسفة غلطٌ ومنهج غالط أنت تتفلّسَف، أكيد لابد أن تتفلّسَف، فهكذا قال أرسطو Aristotle وهو مُصيب مائة في المائة طبعاً، ولذلك عند الخيار بين أمرين إما أن تُعمِّق التفكير وتُحاوِل أن تقصد سبيلاً مُركَّنة، مُشيَّدة على أُسس قوية وواضحة غير مُختلِطة، غير مُهوَّشة، وإما أن تضرب في عمياء وتخبط خبط عشواء، فمرةتُصيب ومرة تخيب، فهل تُريدُ هذا؟!

وهذا الذي يحصل تقريباً لمُعظَم البشر على الإطلاق، ولكنناطبعاً لن نعدم مَن يقول” حسبنا كتاب الله، حسبنا كتاب الله”، ونحن نقول من ورائه:

حسبنا كتاب الله ، وأي هداية أهدى من كتاب الله؟!

وأي نور أنور وأي ضوء أضوأ من كتاب الله – تبارك وتعالى – وهو النور المُبين والهُدى المُستقيم؟!

ولكن التعويل على مَن يفهم كتاب الله، فمَن قال لك إنك إذا ذهبت تتعمَّق في كتاب الله وتُحاوِل أن تفهمه على وجهه أنك لا تقع في باطن الفلسفة؟!

هو هذا، وسوف تجد أن أشهر البراهين العقلية التي متَّع الله – تبارك وتعالى – بها الإنسانية عن طريق بعض خلقه من أذكياء البشر أصولها واضحة – جد واضحة – في كتاب الله – تبارك وتعالى -، فدرسنا الفلسفي مكَّننا مِن أن نفهم الآية بعمقٍ أكبر فقط ، ولا نكون كالعامة، كالسذّج في فهم الآية، وكما قلنا مرة – أيها الإخوة – الفهم يحتاج إلى نوع من السبر والغلغلة والتعمق، وقد استحسنا جداً ما وقع في اللغة الإنجليزية مِن التعبير بكلمة” Understanding “، حيث أن ” Understanding ” تشير إلى التحت دائماً، فلكي تفهم لابد أن تذهب إلى التحوت، إلى الأعماق، أما أن تأخذ الأشياء بادئ الرأي فما الذي سيُميِّز العامي الجاهل والغمر الغِر من العالم الكبير والمُفكِّر الفيلسوف إذن؟!

لا شيئ!

وأنت لا يُمكِن أن تقف مع الظواهر والسطوح إلا إذا كنت مادياً تجريبياً حسياً ثقيلاً غليظاً لا تُؤمِن إلا بما تشم أو تذوق أو تلمس أو ترى أو تسمع علماً بأن حتى الحيوانات ترد هذا المورد، ولكن الأمر ليس هكذا فأنت لديك ميزة أُخرى، ومن هنا عرَّفوك بالكائن الناطق، ولا نقول بالحيوان وإنما بالكائن الناطق، وكلمة الناطق لا تعني ناطقاً باللسان الذي هو بين الشفتين وإنما المقصود بالناطق هو القادر على
أن يُفكِّر بطريقة عقلية، على أن يُحصِّل المعقولات الأولى والثانية باصطلاحهم، المعقولات المنطقية والمعقولات الفلسفية، هو هذا، ومن ثم هذه الخُطبة سيكون فيها بعض تنوير لهذه المسألة وستقولون” سُبحان – حقاً سُبحان – مَن خلق الإنسان ومتَّعه بهذه القدرة، شيئ عجيب، لا إله إلا الله”، سُبحان مَن أعطى الإنسان هذه القدرة على أن يُفكِّر بهذه الطريقة، والنتيجة هى أن يصل إلى الله فهو أعظم مطلوب – لا إله إلا هو -، وما كان له أن يصل إلى الله لولا أن الله – تبارك وتعالى – زوَّده بالأداة اللائقة المُهيِّئة المُناسِبة لتجترح ذلك، لتفعل ذلك، وواضح أنها – كما قلنا في الخُطب السابقة – أداة بطبيعتها لا تنتمي إلى هذا العالم المادي المُغلَق، لا لا لا لا لا لا لا ، وإنما تنتمي إلى عالم آخر وهى قادرة على أن تتجاوز هذا العالم وتحكم عليه وتطرح أسئلة تُسائل هذا العالم بها، قادرة على أن تُشكِل هذا العالم وموضوع هذا العالم، تجعله مُشكِلاً – أيها الإخوة – وموضع جدل وأخذ ورد، فهذا هو الإنسان، شيئ عجيب جداً!

أيها الإخوة:

 لدينا مِن ضمن البراهين المُقامة على إثبات الذات العُليا الأقدس الله – تبارك وتعالى – بُرهانان يُمكِن أن يُقال هما البُرهانان الوحيدان تقريباً اللذان ينتميان إلى ما يُعرَف بالبراهين اللِمية، وسنشرح هذا وسنُوضِّحه، فالبراهين إما أن اكون إنّية وإما تكون لِمية، فما هو البُرهان الإنّي إذن؟!

ببساطة البُرهان الإنّي هو الذي يُسار فيه ويُنتقَل فيه من المعلول إلى العلة، ومُعظَم البراهين هكذا ترى المعلول، ترى المُكوَّن ، ترى الأثر، ترى المُسبَّب –  Effect – وتبحث عن ماذا؟!

عن العلة، عن المُكوِّن، عن المُسبِّب، عن المُؤثِّر.

فهذا هوالبُرهان الإنّي، أي تنتقل من المعلول إلى علته، أما البُرهان اللِمي فيُنتقَل فيه من العلة إلى المعلول، ومَن أدرك العلة فضلاً عن الذي أحاط بالعلة هل يُمكِن أن يُدرِك معلولها؟!

طبعاً يُدرِك معلولها ومن أقصر طريق وعلى أحسن وجه يكون.

ولكن مَن أحاط بالمعلول هل يُحيط بعلته؟!

لا، ليس شرط بالمرة، وإنما يُحيط ببعض جوانب العلة.

لكن مَن أحاط بالعلة وأدركهايُحيط بمعلولاتها بلا شك، فهذا هو البُرهان اللِمي.
أي أن الانتقال إما أن يكون بخصوص ما نحن فيه من الكون إلى المُكوِّن – لا إله إلا هو – وهذه براهين ماذا؟!

إنّية .

وإما أن يكون الانتقال من الله، من المُكوِّن إلى الأكوان، وهذا بُرهان ماذا؟!

لِمي، من العلة، العلة الأولى، السبب المُطلَق الرئيس الأول – لا إله إلا هو – إلى ماذا ؟!

إلى مُسبَّباته، إلى آثاره، إلى معلولاته، إلى مخلوقاته، إلى مُكوَّناته.

 أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩

وأعتقد في رسالة اللام للشيخ الرئيس ابن سينا صاح هذا العقل الجبّار، هذا الفيلسوف الكبير صرخ وصاح قائلاً” واعجزاه ” مُستعجِباً من بُرهان الحركة في إشارة بُرهان أرسطو Aristotle ،فبُرهان الحركة هو بُرهان المُحرِّك الذي لا يتحرَّك المعروف بــ Unmoved Mover argument!

يقول:

واعجزاه، أيُستَدل بالحركة على الله – تبارك وتعالى – وهى بعض خلقه وآثاره؟!

ما هذا؟!

محمود الشبستري الشاعر العارف من القرن الثالث عشر في كتابه حديقة السر يقول :

يا صاحي خلي بالك، انتبه إلى أن الشمس لا يُطلَب عليها دليل، هو الشمس في جو السماء، حتى الأبله لا يحتاج للتعرَّف عليها إلى شمعة في الصحراء، أنت تستدل على الشمس وضوء الشمس بالشمعة؟!

في نهاية المطاف كل طاقة على وجه الأرض هى مأخوذة مِن ماذا ؟!

مِن طاقة هذا النجم العالي في جو السماء.

أليس كذلك ؟!

هو هذا، فأنت تستدل بالشمعة على الشمس أم تستدل بالشمس على الشمعة؟!

ستقول لي:

 هذا فيه إشارة تُفهِمنا بعض قوله عز من قائل: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩

إي والله!

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩ آية المشكاة، الآية العجيبة الغريبة في نسجها ومبناها ومعناها وطِرزها، فهى طِراز وحدها، نسيج وحدها.

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩ و حين تُفكِّر في هذا النور – أيها الإخوة – تجد أنك لا تراه – هذا النور ال Photons المخلوق  ذو الموجات الكهرومغناطيسية – فلا أحد يرى النور، ولكنك لا ترى شيئاً إلا بالنور وإلا في شرط وجود النور، أليس كذلك ؟!

لو قد تلاشى وانسحب وفرّ هذا النور لن ترى شيئاً – مُستحيل- مهما كانت عيناك صالحتين وقويتين فلو انسحب النور بالكامل سيعمى العالمون تماماً، إذن نحن لا نرى النور ولكن به نرى الأشياء، وواضح أن الأشياء لا تُضوَّيء نفسها فلا يُوجَد شيئ يُضيء من ذاته وإنما كل شيئ يُضيئه ماذا ؟!

النور، الضوء الساقط عليه أو المُنبعِث منه – من مصدره، مصدر الضوء – هو الذي يُنير الشيئ، ولولا هذا الضوء ما عرفنا وجود هذا الشيئ أبداً ، أليس كذلك ؟!

إذن كذلك رب العالمين – لا إله إلا هو – يقول لك ” لولاي ما أمكن أن تستدل على شيئ في الوجود – يا الله – ما أدركت شيئاً في الوجود “.

إذن آية النور في سورة النور – أيها الإخوة – وهذه مُناسَبة لطيفة أيضاً، كأن السورة – كل السورة – سُميت لأجل هذه الآية الفذة الجامعة، فهى سورة عجيبة فيها أحكام وتفصيلات وتذكيرات ولكن كأنه يقول لك ” أكرم وأعظم وألفت ما فيها هذه الآية الفذة – آية المشكاة – ففكِّر فيها بعمق، لا تأخذها هكذا بسطحية”.

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩ يقول لك ” لولا الله – تبارك وتعالى – ما عقلت شيئاً وما أدركت شيئاً وما فهمت شيئاً”.

الفيلسوف الإسلامي الكبير المرموق البروفيسور Professor سيد حسين نصر يقول مُنتقِداً على 

ديكارت Descartes في الكوجيتو Cogito المشهور  Cogito Ergo Sumقال:

 أنا أُفكِّر أو أنا أعتقد إذن أنا موجود، أنا هنا Cogito Ergo Sum .

Cogito Ergo Sum مكتوبة باللاتينية وتعني:

كوجيتو Cogito: أنا أُفكِّر، أنا أعتقد!

Ergo: ولذلك، وبالتالي، Therefore.

Sum: أنا موجود، أنا هنا.

لأنني أُفكِّر فأنا هنا، فأنا موجود!

قال الفيلسوف الإسلامي الكبير المرموق البروفيسور Professor سيد حسين نصر  مُنتقِداً ديكارت Descartes:

كان حقه – أي حق ديكارت Descartes – أن يقول ” Cogito Ergo Est  لأنني أُفكِّر فالله موجود ” وليس فأنا موجود!

وطبعاً حتى بُرهان ديكارت Descartes هذا الذي لا يزال الغربيون يُطبِّلون له ويُطنطِنون من أسخف البراهين وقد انتقده ابن سينا علماً بأن ابن سينا قبل ديكارت Descartes بمسافة طويلة، أليس كذلك ؟!

بينهما قرون، ومع ذلك ذكره وانتقده وسخَّفه جداً، فهذا البُرهان ليس فيه شيئ، بل فيه تناقض، فأنت تقول أنا أُفكِّر لأن الكوجيتو Cogito  لا تعني أنا أشك وإنما أنا أعتقد أوأنا أُفكِّر ومن ثم فأنت تُثبِت الإنّية لنفسك فأنت واثق من وجود نفسك ثم تقول لي ” فأنا موجود “، فكيف هذا وأنت ما كان لك أصلاً أن تقول أنا أُفكِّر أو أشك إلا وأنت مُوقِن بأنك موجود فتُثبِت هذه الأنا؟!

فليس الأمر على هذا النحو، ولكن من وراء قول البروفيسور Professor الكبير والفيلسوف المرموق سيد حسين نصر بعض التقصير، فسيد حسين نصر قصَّر وخاصة أنه كان يتكلَّم عن بُرهان الصدّيقين وأخطأ في تسميته فسماه البُرهان الوجودي وهذا خطأ، وسأقول هذا بُعيد قليل!

على كل حال كان ينبغي ديكارت Descartes على ألا يقول هكذا وإنما يقول ” لأنه موجود فأنا هنا وأُفكِّر”، هو هذا، وليس أنا اُفكِّر فهو موجود، وإنما لأنه موجود أنا أُفكِّر أو أنا موجود، فلولا وجود الله ما أمكن لك أن تستدل بالعقل على وجود نفسك، ولكن كيف هذا؟!

ستقول لي ” هؤلاء ملاحدة وكُثر في العالم، وهم أذكياء جداً وفلاسفة مُوقِنون بواقعيات أنفسهم كما أنهم ليسوا من الشكَّاكين في هذه الواقعية الخارجية العينية ولكنهم لا يُؤمِنون بالله”، ولكن عندهم خلط وعندهم خبط وضلال رهيب في التفكير وهم لا يُدرِكون هذا ، والآن سنُفصِّل هذا ونسأل الله أن يُعيننا في هذا الموضوع شيئاً فشيئاً .

الله يقول لك اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩ ويقول كذلك أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩، وقلنا الاستفهام هنا قد يكون تقريراً وقد يكون إنكارياً أَوَلَمْ يَكْفِ ۩، وأنت ستقول بدورك بلى، لماذا؟!

لأنه يُبكِّت ويُنكِر ويُدمدِم على الذين ظنَّوا وتوهَّموا أنه – تبارك وتعالى – لن يفعل، لن يشهد، ومن ثم فهو يقول لك أنه أعظم شاهد – لا إله إلا هو -، فهو أعظم شاهد وأصدق شاهد – سبحانه وتعالى – ، إذن قد يكون الاستفهام إنكارياً أيضاً، والله – تبارك وتعالى – أعلم!

فكيف المسألةإذن وما هما البُرهانان اللذان يُعدَان معقد فخر للبشرية، للجنس الإنساني، للنوع الإنساني؟!

البُرهان الأول إسمه البُرهان الوجودي، وقلت قُبيل قليل البروفيسور Professor العظيم سيد حسين نصر – وهو فيلسوف بلاشك ولكن الإنسان أكيد حين يتكلَّم في لقاء ولا يعود إلى مُؤلَّفاته وربما قد يكون مرَّ عليه حين من الدهر لم يُراجِع فيه فقد يخلط وقد يغبى عليه شيئ – تكلَّم عن بُرهان الصدّيقين وسماه البُرهان الوجودي، وهذا خطأ فليس هذا البُرهان الوجودي، البُرهان الوجودي – Ontological Argument – هو البُرهان الذي يُعزى إلى القديس الإنجليزي أنسلم  Anselm – أنسلم فون كانتربري Anselm von Canterbury من كانتربري Canterbury -، أنسلم  Anselm  في القرن الحادي عشر الميلادي – أيها الإخوة – أتى بهذا البُرهان ، والآن طبعاً حين تتحدَّث مع أي واحد يقول لك ” لا لا لا لا لا لا ، هذا البُرهان سخيف وزيَّفه كانط Kant وزيَّفه كل مَن أتى بعد كانط Kant تقريباً ” وهذا غير صحيح ، فبالعكس هذا بُرهان خطير، وإن شاء الله يُيسِّر الله مرة ونُجرِي على الأقل عليه خُطبة على الرغم من أنه يحتاج إلى مُحاضَرة مُطوَّلة، ولكن ماذا يقول هذا البُرهان المُسمى بالبُرهان الوجودي؟!

البُرهان الوجودي – هناك مُقدِّمات كثيرة كأنه مُباشَرةً يذهب إلى الله ويستدل بالله بخُطوة واحدة – يقول لك :

فكِّر في نفسك تجد أن ذهنك يذهب دائماً رُغماً عنك ومنك إلى: ماذا؟!

إلى تصوّر، إلى مفهوم، إلى فكرة أن هناك كائن عظيم لا مُتناهي العظمة، لا مُتناهي الكبر – لا إله إلا هو -، كبير جداً جداً جداً، مُتعاظِم بشكل لا نهائي، لا أكبر منه فهو الأكبر بالمُطلَق.

فالذهن يُفكِّر على هذا النحو دائماً فلابد من وجود كائن كبير لا يُوجَد ما هو أكبر منه، ومن ثم إذا فكَّر الذهن على هذ النحو فالله موجود!

ستقول لي:

كيف؟!

 وما هذه الطريقة في الاستدلال؟!

أنسلم  Anselm – وهو أحد هذه العقول جبَّارة – يقول لك:
بما أنك فكَّرت به على هذا النحو فهو موجود، لأنه لو لم يكن موجوداً – وطبعاً نحن هنا فرضناه موجوداً – لكن أكبر كائن آخر أكبر من الذي فرضه الذهن الأكبر ، وهذا خُلف !

لأنك ستقول لي” أكيد في في الكون كائنات كبيرة، وليكن الكوزموس Cosmos نفسه أي الكون أو سلسلة أكوان كلها مع بعضها تُعَد أكبر شيئ توصَّلنا إليه أو تخّيّلناه” فهذا هو الأكبر، ومن ثم سيكون هذا الأكبر في تصوّرك أو في وهمك وظنك أكبر من الذي فرضه الذهن الأكبر، وهذا خُلف فالذهن يتصوَّر رغماً عنك كائناً لا أكبر منه، وأنت هنا الحين تقول ” لأ، هناك أكبر ” فهذا خُلف، فقط هذا هو البُرهان بُجملة واحدة، هذا البُرهان اقتنع به رينيه ديكارت Rene Descartes وأعاد صياغته، وطبعاً الوقت لا يسمح أن نقول لكم كيف ولكن القضية سهلة أي أنه لك يُمكِن أن تفهم هذا بنفسك عندما تقرأ ديكارت  Descartes علماً بأنه انطلق من الكوجيتو Cogito وهذا الكوجيتو Cogito مُتناقِض ولكنه انطلق منه وأعاد تشييد بناء البُرهان الأنطولوجي، ثم إن الديكارتيون الكبار أيضاً دعموه بوجهٍ أو بآخر فضلاً عن أن سبينوزا Spinoza دعمه بطريقته وكذلك ميتز Metz الألماني إلى أن جاء كانط Kant – إيمانويل كانط Immanuel Kant – قائلاً ” هذا البُرهان غير صحيح” وسدَّد إليه سهام نقوده – نقداته – إلى البُرهان، ثم اعتقد الناس أنه خر صريعاً إلى غير رجعة وهذا غير صحيح لأن هذا البُرهان قوي ومتين، وهنا في النمسا بروفيسور Professor مشهور جداً يُعتبَر الآن فيما أعرف أكبر مُمثِّل على الإطلاق على مُستوى العالم للفينومينولوجيا الظاهراتية الواقعية – يُسميها الفينومينولوجيا الواقعية – وهو البروفيسور Professor جوزيف سايفرت Josef Seifert !
جوزيف Josef – أي يوسف –  سايفرت  Seifert عنده كتاب من خمسمائة صفحة بالألمانية يُعيد فيه تشييد وتركين وتوطيد وتعزيز والدفاع عن البُرهان الأنطولوجي علماً بأن هذا الرجل كان فيلسوفاً وكان يتعاطى تقريباً الفلسفة ويتعاناها مُذ كان عمره ثنتي عشرة سنة، يعني مخلوق هكذا فيلسوفاً، وأول دراسة كتبها كانت وعمره ثنتي عشرة سنة فضلاً عن أن لديه عشرات الكتب في موضوعات مُتخصِّصة جداً في الفلسفة، فهو فيلسوف نمساوي في  زالتسبورغ Salzburg ولكنه عالمي، جوزيف سايفرت Josef Seifert قال:

أنا أعتقد أعظم أعمالي وأعمقها هو كتابي هذا : Gott als Gottesbeweis الله كدليل على الله.

وهذه خُطبتي اليوم ولكنني لن أُحدِّثكم عن البُرهان الأنطولوجي، سأفعل هذا مرة ثانية – إن شاء الله – وسأُعطيكم خُلاصة هذا الكتاب العظيم فيقول لك:

مَن قال لك أنه مات؟!

غير صحيح، وكانط Kant مُخطئاً!

ويرد على كانط Kant نُقطة نُقطة وعلى غير كانط Kant لأن هذا البُرهان قوي وليس من السهل دحضه ولكن أنت تقول لي كما قال كانط Kant بكل بساطة :

عادي أنا مُمكِن أن أتخيَّل جبلاً من الزمرد ، فهل صار موجوداً؟!

فمُجرَّد تصور الماهية لا يعني ماذا ؟!

الوجود، ومن ثم فأنت تتصوَّر ماهية أو ذاتاً ليس هناك ما هو أعظم منها وتقول لي ” إذن الله موجود “!

فهكذا فهم كانط Kant، وسوف نرى أن هذا فهم غير سليم، ولن أقول فهم بسيط لأن هذا كانط Kant وعلى الواحد منا أن يتواضع إزاء العمالقة ويتأدَّب فمن العيب أن نقول فهم بسيط، ولكن نقول أن الأمر لم يكن واضحاً بدقة لكانط Kant.

سايفرت  Seifert  قدَّم في خمسمائة صفحة أعظم دفاع عن هذا البُرهان عبر التاريخ طبعاً، فلم نجد إنسان كتب خمسمائة صفحة للدفاع عن البُرهان الأنطولوجي Ontological Argument إلا سايفرت  Seifert.

فهذا هو البُرهان الأنطولوجي، وهناك بُرهان آخر يُعتبَر دُرة تاج الفلسفة الإسلامية وهو حصري لدى المسلمين – بفضل الله – لأن الذي أبدعه هو العقل المسلم بالتعاون علماً بأن أول مَن ألمع إليه المُعلِّم الثاني أبو نصر الفارابي، مهَّد الطريق لخلفه ابن سينا بعد زُهاء أقل من مائة سنة، ثم جاء ابن سينا وكتب عن هذا البُرهان وقرَّره تقريراتٍ أربعة في كتب كثيرة له كتقريراته في النجاة، في إلهيات الشفاء، في الرسالة العرشية، وأحسن شيئ قدَّمه في هذا الصدد كان في الإشارات والتنبيهات، تقريباً آخر كتب الشيخ الرئيس الإشارات والتنبيهات وهو أنضج كتبه الفلسفية ومن هنا كثرة العناية به وبشروحه، ثم جاء بعد ذلك مُلا صدرا الشيرازي – محمد بن إبراهيم الشيرازي – المُتوفى سنة خمسين وألف في القرن الحادي عشر للهجرة قبل زُهاء الآن أربعمائة سنة، صاحب الحكمة المُتعالية وصاحب الأسفار الأربعة، وهو فيلسوف عظيم لا يُشَق له غبار فهو الذي ألَّف بين الفلسفتين المشائية العقلانية وبين الفلسفة الإشراقية الكشفية، طريقة الفارابي وابن سينا وابن رشد – بعد ذلك طبعاً – وطريقة الشهاب السهروردي صاحب الإشراق، فيلسوف الإشراق، أي بعبارة أُخرى بين أرسطو Aristotle وأفلاطون Plato، بين أرسطو Aristotle  وأفلاطون Plato في الحكمة المُتعالية التي دمجت بين الاثنين، وهذا تقريباً ما بدأت به في أول الخُطبة ، حيث أن في النهاية ينتهي طريق العُقلاء إلى الغاية التي انتهى عندها وإليها طريق العُرفاء، أي إلى نفس الشيئ، والحكمة العالية تفعل هذا بطريقة جبّارة- ثماني مُجلَّدات – وطبعاً بخلاف الكتب الأُخرى العظيمة لهذا الرجل الفيلسوف الفذ – أيها الإخوة – ، فكيف فعل هذا ؟!

ما هو بُرهان الصدّيقين الذي يُعَد دُرة تاج الفلسفة الإسلامية، دُرة تاج العقل الإسلامي الفلسفي ؟!

لابد من التنبّيه على أن إسمه بُرهان الصدّيقين وهو ليس البُرهان الأنطولوجي، فهذا غلط لأن سيد حسين نصر عرض لبُرهان الصدّيقين بالتقرير السيناوي – أي بطريقة ابن سينا وليس بالطريقة الصدرائية – وسماه الأنطولوجي وهذا غير صحيح، فهذا إسمه بُرهان الصدّيقين وغير بُرهان  أنسلم Anselm، بُرهان أنسلم فون كانتربري Anselm von Canterbury  مُختلِف عنه تماماً، كما أن هذا البُرهان أساسه من كتاب الله – تبارك وتعالى – فهو مُشيِّد علىالقرآن العظيم، فالله هو الذي دل عليه، والعجيب – يا إخواني – أننا نجد للصحابة ، للعُرفاء العظام، للتابعين الكبار، لأئمة الدين كلمات بسيطة جميلة بليغة وبالغة في الإفهام تُكثِّف وتُركِّز وتُفهِم هذا البُرهان بكلمة، فكيف هذا؟!

الإمام عليّ – عليه السلام – في دعاء الصباح ماذا كان يقول ؟!

كان يقول: يا مَن دل على ذاته بذاته وتنزَّه عن مُجانَسة مخلوقاته.

يا الله، ما هذا؟!

هذا صاحب رسول الله، خرّيج المدرسة المُحمَّدية،  أبو الحسن – عليه السلام – ، يقول: يا مَن دل على ذاته بذاته وتنزَّه عن مُجانَسة مخلوقاته.

وقد يقول لي أحدهم :

وهل دل الله على ذاته أيضاً بآثار ذاته، بفعاله ؟!

طبعاً دل بلا شك!

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ – والأُفق هو جانب الأرض البارز وجانب السماء أيضاً البارز إسمه أُفق أو أُفْقٌ بتسكين الفاء، ويُجمَع على آفاق – وَفِي أَنفُسِهِمْ ۩، فهذه آيات وهذا هو البُرهان الآيوي، وليس لدينا في هذا مُشكِلة ولكن انتبهوا إلى أن هذا فيه محاذير ولذلك تقريباً لا يخلو بُرهان أُقيم على وجود الذات الأقدس – لا إله إلا هو – من بعض الاعتراضات، فما رأيكم؟!

ولنأخذ هذا المثال:

 فمثلاً بُرهان النظم تكلَّمنا عنه كثيراً والآن العلم الحديث وهؤلاء العلماء يستندون على بعض المُعطيات العلمية ليُعيدوا صياغة وتوطيد وتعزيز أيضاً هذا البُرهان، بُرهان النظم أو بُرهان النظام  Design Argument ، أو ما يُسمى بالـ Argument from Design  المُستمَد من النظام، بُرهان النظام موجود عند الإسلاميين فابن رشد شرحه والغزالي وغيرهما ، والآن يتكلَّمون عنه طبعاً – كما قلت لكم – بمُعطيات مُمتازة تُعزِّزه مثل الضبط الدقيق في الكون Fine-tuning علماً بأن كل ما له علاقة بالضبط الدقيق والمبدأ الأنثروبي يخدم بُرهان التصميم، وعلى كل حال طيب بُرهان التصميم دون أن نخوض في شرحه يُوجَد عليه إيراد وهذا إيراد  قوي، حيث أن غاية هذا البُرهان أن يُثبِت لنا أن من وراء هذه المُكوَّنات الدقيقة المُنظَّمة المُصمَّمة – Designed – مُصمِّماً، ولكن هذا المُصمِّم قد يتسلسَل فالمُصمِّم بدوره يكون له مُصمِّم، ومُصمِّم المُصمِّم له مُصمِّم، وهكذا إلى غير نهاية، وبالتالي من المُمكِن يُشكِل عليه أحدهم وقد فعل الملاحدة هذا، حيث أن بُرهان النظم لا يدفع هذه الشُبهة، فما رأيك؟!

أي إنه يسير بك إلى نُقطة ثم يعجز ، فإذن ليس ذاك البُرهان النهائي ، وهذه المعلومة مُهِمة لكي نفهم قيمة بُرهان الصدّيقين فهو بُرهن خطير ورهيب!

 أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩

هذه هى، ولذلك ابن سينا حين ذهب يُقرِّر بُرهان الصدّيقين – فهو الذي سماه بُرهان الصدّيقين لأول مرة – تلا الآية من سورة  فُصِّلَتْ التي تلوتها عليكم صدر الخُطبة ، قال سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩، وقال الشيخ الرئيس “هذا حكمٌ لقوم”، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩ وهذا للصدّيقين الذين يستدلون به لا عليه .

الله!
فهناك فرق بين مَن يستدل على الله وبين مَن يستدل بالله!

الله!
لا إله إلا أنت، سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

فهناك مَن يستدل بالمُكوَّنات، بالكون، بالأكوان، بالأشياء، بالموجودات على الله، وهناك مَن يستدل بالله على الأكوان وعلى الموجودات والمخلوقات والمصنوعات والمُبدَعات، وهذا مقام الصدّيقين، كما قال الإمام عليّ مرة أُخرىعليه السلام ” لم أجد شيئاً إلا رأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه ” ، طبعاً أكيد وفوقه:

 وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ ۩

ــــــــــــــــ

يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ ۩

لا إله إلا هو !

إذن كأن القرآن يقول لك ما فهمه ابن سينا في لحظة هكذا حدسية من صفاء الفكر والروح حيث أنه لابد من أن نصل إلى بُرهان نستدل به على الله.

أف، كيف نستدل على الله بالله؟!

هذا هو عنوان كتاب أيه جوزيف سايفرت Josef Seifert: Gott als Gottesbeweis الله كبُرهان على الله.

والعنوان الفرعي لكتاب الله كبُرهان على الله هو: إعادة بناء للبُرهان الأنطولوجي.

وهذا – كما قلنا – مُرتبِط بأنسلم  Anselm، ومن هنا أهمية الله كدليل على الله – تبارك وتعالى – ، فكيف صاغ ابن سينا هذه المسألة إذن؟!

كيف أثبت هذا؟!
قال” نحن سنستدل على الله بغير هذه المُقدِّمات ” وهذا الذي لم يُعجِب مُلا صدر الدين الشيرازي علماً بأن ابن سينا قال لك:

لابد من أن تفهم في البداية جُملة أمور، اذهب إلى الوجود وفكِّر فيه، فكِّر في الوجود من حيث هو –  كل هذ الوجود فكِّر فيه – وستجد أن الأشياء الموجودة التي تُدرِكها وتتصوَّرها وتعقِلها تخضع للسؤال التالي:

هل وجودها من نفسها أو وجودها مُفاض عليها، مُعطىً لها، تلقّته، مُهدىً إليها، ممنوح لها ؟!

عليك أن تُفكِّر، وقبل أن تجزم لابد أن تُدرِك جيداً!
فابن سينا هكذا يُفهِمك ولذلك هو لم يُقرِّر هذا البُرهان في أي كتاب من كُتبه المذكورة إلا بعد أن قدَّم لها بمُقدَّمات وصلت في إحدى المرات إلى ثماني مُقدِّمات لكي  يهيئ ذهنك وتستطيع أن تفهم.

 أنت الآن حين تُفكِّر في علاقة شيئ بشيئ يتولَّد لديك مفهوم القضية، ونحن عندما نقول لفظة القضية نعني أن هناك شيئ ونُسنِد إليه شيئ أي الحكم فهذا الإسناد إسمه الحكم، فالقضية هذه موضوع ومحمول يُحمَل عليه، مثلما ما نقول مُسنَد إليه ومُسنَد، موصوف وصفة، مع التقريب والتمثيل، فنحن عندما نقول ” الإنسان حيوانٌ ناطق ” أو نقول ” كائن مُفكِّر أو حيوان مُفكِّر ” نجد أن الإنسان هو الموضوع، هو المُسنَد إليه، وهذا إسمه الموضوع، نحمل عليه كائن مُفكِّر، حيوان ناطق، حيوان عاقل.

ولكن انتبهوا فهذه النسبة – إثبات أو إسناد أو نسبة أو إضافة المحمول إلى موضوعه، حمل المحمول على موضوعه – لابد أن تكون محكومة بإحدى المواد الفلسفية الثلاث : فما هى هذه المواد؟!

الوجوب، الامتناع، الجواز أو الإمكان الوجوب 

والآن حين نقول ” الغراب أسود ” وفعلاً الغربان سوداء ولكن هل عقلك – للتبسيط – يقضي بضرورة أن يكون الغراب أسود بحيث أنه يستحيل عليك عقلاً أن تتخيَّل أو تتوهَّم غراباً أبيض أو حتى بينك Pinck أو بنفسجي أو نيلي؟!

لا، عادي، مُمكِن جداً، تماماً كما تقول ” الماء يغلي عند درجة مائة مئوية في ظل الظروف المعروفة وتحت الضغط الجوي العادي بالذات”، وكذلك هذا نفس الشيئ فالماء يغلي عند درجة مائة مئوية في نفس الظروف المعروفة ومن هنا الموضوع هوالماء، ويغلي وكذا كذا هو المحمول، ولكن هل هذه الصفة للماء – هذه الخاصية للماء – ضرورية أي أنها يجب أن تكون بالضرورة بحيث أن العقل يقول مُستحيل أن الماء لا يغلي عند درجة مائة مئوية في ظل الضغط الجوي العادي؟!

ليست ضرورية، بالعكس، العقل يستطيع أن يتخيَّل أن الماء مُمكِن أن يغلي عند درجة صفر أيضاً، فما رأيك؟!

 ليس يتجمَّد وإنما يغلي، ولكن أين يتجمَّد ؟!

يتجمَّد عند مائة مئوية، أو يتجمَّد عند ناقص مائة، فهذا عادي بالنسبة للعقل، هذا مُمكِن وهذا مُمكِن، وفي الحقيقة العلم نفسه يُثبِت هذا بالتجارب، فالآن خُذ أنت لتراً من الماء واصعد به إلى قمة إفرست Everest أو إلى أي قمة عالية واغل هذا الماء ، ستستغرب جداً لأن الماء مُمكِن إذا علوت بالقدر الكافي أن يغلي عند عشرين مئوية فقط، فما رأيك؟!

أوه Oh، ستقولم ُستغرِباً:

الله أكبر، عشرين درجة مئوية فقط ويغلي، كيف يحدث هذا ؟!

نعم يغلي عند عشرين درجة مئوية فقط بل ويفور ويتبخَّر أيضاً!

فلماذا إذن ؟!

لأن الضغط الجوي مُرتفِع، إذا ارتفع الضغط الجوي تنخفض درجة غليان الماء، وكذلك الأمر مع سائر السوائل طبعاً!

إذن ثبوت المحمول والموضوع في هذه المسألة – مسألة غليان الماء وكذلك مسألة الغراب أسود اللون – محكوم بطريقة الوجوب؟!

أي هل هو واجب، ضروري؟!

لأ، ليس ضرورياً، ليس ضرورياً بالمرة.

فإذن هو ماذا؟!

مُمكِن، هذا من أقسام المُمكِن.

 كان مُمكِن يكون ؟!

نعم، مُمكِن يكون.

كان مُمكِن ألا بكون؟!

نعم، كان مُمكِن ألا يكون.

وهذا معنى قول علمائنا وفلاسفاتنا” حُفِّت المُمكِنات بالضرورتين : ضرورة الإيجاب وضرورة السلب”، فالوجود والعدم كله مُمكِن، بمعنى أن المُمكِن من حيث هو – أيها الإخوة – على مسافة واحدة منمن الإيجاب والسلب، من الوجود والعدم، ومن ثم ستقول لي هناك سؤال ذكي ومُهِم جداً جداً جداً وهذا السؤال طرحه كل عاقل من بني الإنسان:

مَن الذي قضى وشاء وأراد أن يُخرِج هذا المُمكِن – الذي هو حتى الآن في نُقطة صفرية على مسافة مُتساوية من الوجود والعدم – إلى الوجود، أي أن يُعطيه الوجود؟!

هل هو نفسه؟!

مُستحيل، لأن يستحيل أن يكون الشيئ سبباً في إيجاد نفسه، لاستحالة اجتماع النقيضين، وهذا هو الدور، فلا يُمكِن لشيئ أن يكون سبباً مُسبَّباً في الوقت ذاته، لا يُمكِن أن يكون هو مُسبَّب لنفسه التي هى سبب، ولكن الشيئ بيكون سبب لغيره، إذن العلة أو السبب لابد أن تكون من خارج هذا المُمكِن، طيب نأتي الآن.

 وهناك مثال آخر يتعلَّق بالرقم خمسة، خمسة عدد أو رقم فردي لا يُمكِن أن يقسم على اثنين بغير كسر، فلا يُمكِن أن تكون نتيجة قسمة خمسة على اثنين تُساوي اثنين واثنين، لأن هذه ستكون أربعة وليست خمسة، أما الخمسة فتكون نتيجة قسمتها على اثنين هى اثنين ونصف واثنين ونصف، أي أنه  لابد من وجود كسر، وهذا شأن كل عدد فردي، فهل ثبوت هذه الخاصية للفردي واجبة أو مُستحيلة أو مُمكِنة ؟!

واجبة، لأن العقل نفسه –  العقل الإنساني – لا يستطيع أن يتخيَّل أنه وجود رقم فردي أو عدد فردي ويقبل القسمة على اثنين بغير كسر، فهذا مُستحيل ولا يصلح إلا مع الأربعة أو الستة أو ما شابه ، ولكن هذا لا يصلح مع ال خمسة أو السبعة وهكذا، ستقول لي :

وهل هذا أيضاً لا يصلح في الجنة؟!

نعم، لا يصلح في الجنة.

هل هذا أيضاً لا يصلح في النار .أعوذ بالله من حر النار؟!

نعم ، لا يصلح  في أي مكان في هذا الكون، لأن وفقاً للعقل هذا مُستحيل.

إذن هذه الخاصية واجبة أو جائزة؟!

واجبة، ضرورية Necessary، علماً بأن الوجوب – Necessity – يعني الضرورة، فهذه الخاصية ضرورية.

إذن فهمنا ما هو الواجب أو الضروري وفهمنا ما هو المُمكِن، والآن سنفهم ما هو المُمتنِع أوالمُحال، فما هوالمُحال؟!

المُحال – كما قلنا قُبيل قليل – أن يكون العدد فردياً ويقسم على اثنين بغير كسر، هذا مُحال ، لا يُمكِن أن يحدث، أو هو اجتماع النقيضين ” حي ميت ، موجود معدوم “، فهذا مُستحيل، أو أن يكون الجُزء أكبر من كَله، كأن نأخذ اثنين من عشرة ثم نقول أن اثنين أكبر من عشرة فهذا مُستحيل، أنت بتقول لي اثنين هذه جُزء من عشرة، إذن العشرة أكبر من الاثنين، ومن ثم مُستحيل أن يكون الجُزء أكبر من كله أو أن يجتمع النيقضان أو أن يرتفع النقيضان، فهذا كله هذا مُحال!

إذن فهمتم أن أي محمول بالنسبة لموضوعه إما أن يكون ثبوته له على جهة الوجوب أو جهة الاستحالة والامتناع أو جهة الإمكان، الجواز، فابن سينا كان يعرف هذا تماماً وأراد أن يُمهِّد به فقال لك “الآن فكِّر في وجودك أنت والنجم والقمر والسماء والأرض والهواء والماء وكل شيئ، فأنت موجود، السماء موجودة، الماء موجود وإلى آخره، فهل ثبوت هذه الأشياء لك – أي الوجود – على جهة الضرورة؟!

لأ طبعاً، فنحن نقدر على أن نتخيَّل تماماً خلو العالم منك، ليس منك كحسن وسعيد، وإنما منك كجنس بشري، كنوع إنساني بالكامل، كبشر، فعادي جداً ألا يكون هناك بشرٌ نهائياً لأن هذا مُمكِن جداً ولن يحدث معه أي تناقض، إذن فماذا عن خلو العالم من نجم ما أو من كوكب ما؟!

عادي أيضاً.

وماذا عن أن يكون العالم مصنوعاً بحيث لا يكون فيه نجوم؟!

عادي فالعقل يتخيَّل هذا، العقل يفعل هذا ولا تُحدِّثني عن العلم بقولك ” لأ، علمياً غير صحيح وأنت قلت في خُطبة ما أننا من ذرات من غبار النجوم”،لأني سأقول لك ” يا أخي فكِّر – الله يخليك – فنحن لا نتحدَّث علمياً وإنما فلسفياً أي عقلياً”، فهناك فرق بين الحكم العادي – العادي الذي بتعرفه جدتي وجدتك – وبين الحكم العلمي وبين الحكم العقلي الفلسفي المنطقي فهذا يُعَد أوسع شيئ وأعمق شيئ ولا يُمكِن تخطيه على الإطلاق، فمِن جهة عقلية مُمكِن أن يكون كونٌ ليس فيه لا بشر ولا حجر ولا شجر ولا ماء، هو كون آخر نعم إسمه كون ولكن هو شيئ آخر تماماً، وهذا مُمكِن جداً، فما المُشكِلة؟!

فكل ما في هذا الكون والعالم من الموجودات والكوائن والأشياء هى من باب الجائزات، يعني مُمكِن الوجود، والآن نأتي لنقول مُتسائلين:

هل مُمكِن الوجود وجوده من ذاته؟!
مُستحيل أن يكون الشيئ سبباً في ذاته – وأثبتنا أن هذا مُستحيل -، هذا مُحال لأن العقل يحكم باستحالة هذا، إذن تعيَّن أن يكون له سبب من خارج، أي سبب غيره – والآن انتبه – وهذا السبب إما أن ينتهي إلى سبب أول غير مُسبَّب  – أي Uncaused Cause – وهو الله – عز وجل – فيكون واجب الوجود، وإما أن يتسلسَل سبب من سبب من سبب إلى لا نهاية، فهل يقبل عقلكم هذا التسلسل؟!

لو كانت الأسباب سلسلة لا نهائية ولا تنتهي لما وُجِدَ شيئ في الكون، لما وُجِدَ مُمكِن واحد، ولكن الحال أن موجود مُمكِنات ونحن في رأس هذه المُمكِنات، وطبعاً هذا موجود فالواقعيات موجودة ونحن لا نشك في حالنا فنحن لسنا شكَّاكين ولا مُختَلين، ومن ثم لا نشك أننا موجودون والعالم موجود بأشيائه، ولكن كيف نُدرِكها على ما هى عليه ؟!

هذا شيئ آخر، ولكنها موجودة على كل حال، ويُوجَد في ماهيات كثيرة جداً فيُوجَد الحجر والشجر والبشر وإلى آخره!
إذن نحن لا نسمح بالقول إن هذه الأسباب تتسلسَل إلى ما لا نهاية لأنها لو فعلت ما وُجِدَ مُمكِن واحد، لأن كل مُمكِن سيقول لك ” لن أظهر حتى يظهر سببي”، وسببه – وهو مُسبَّب عن آخر – سيقول لك ” لن أظهر حتى يظهر سببي” وهكذا إلى ما لا نهاية ولن يظهر أي شيئ، حيث لا يُوجَد بداية أصلاً، ولكن للأسف عقول الملاحدة والماديين والبُسطاء من الناس تقبل هذا وتقول لك:

 عادي أن يكون إلى ما لا نهاية، فلماذا أنت آمنت بأن الله لا نهاية؟!

أرأيت السفه؟!
نحن نقول أن الله ليس من قبيل المُمكِنات، ولكنك ستقول أن هذا مُصادَرة على المطلوب على الرغم من أن الأمر ليس كذلك، فنحن نتحدَّث كفرضية، فهذا العالم موجود ومن ثم إما أن له واجب وجود أوجده وهو المطلوب وإلا استلزمه، وهذه أقصر طريقة للتقرير السيناوي، فابن سينا أو مَن لخَّصه يقول لك” الوجود إما أن يكون واجباً وهو المطلوب وإلا استلزمه ” فقط كلمتان تُلخِّصان ما نقوم بشرحه من ما يقرب من نصف ساعة، ولكن لماذا يجب أن يكون هناك واجب وجود؟!

لبُطلان الدور والتسلسل.

فما هو الدور الباطل؟!
هو مُحال فأي واحد يُفكِّر بعقلية دورية يُعَد رجلاً مُخالِفاً للعقل لأنه يُصادِم العقل، فيكف لك أن تقول لي أن ألفاً سبب بباء، إذن باء سبب لمَن؟!

لألف، غير صحيح، هذا مُستحيل لأن ألف مُسبَّبة عن باءفي الوقت الذي فيه باء مُسبَّبة عن ألف، فلابد أن يكون أحدهما سبباً وأن يكون الآخر مُسبَّباً، ومن هنا إما أن يتسلسل وإما الفرضية الإلهية، فإذن عقلية المُؤمِنين ليست عقلية بسيطة وساذجة، هل أنت تتخيَّل أن أفلاطون Plato ساذج؟!

هل أن تتخيَّل أرسطو Aristotle ساذج وهو الذ آمن يُؤمِن بالمُحرِّك الذي لا يتحرَّك أي بالله؟!

هل القدّيس أوغسطين St. Augustine ساذج؟!

هل ديكارت Descartes ساذج؟!

هل توما الأكويني Thomas Aquinas، أبو حامد الغزالي، ابن رشد، ابن سينا، الفارابي سُذّج و أغبياء ولا يفهمون شيئاً علماً بأن هؤلاء من عباقرة البشر؟!

فإذن هو قال لك ” عندك أحد احتمالين، إما أن تقول بالدور وهو مُحال وإما التسلسل” ، حيث أن هناك مَن يقول لك أن الكون خلق نفسه بنفسه – Self-created – أي خالق مخلوق في الوقت عينه وهذا كلام فارغ فلا يُوجَد خالق مخلوق، لأن الخالق لا يكون مخلوقاً والمخلوق لا يكون خالقاً، فليس ثمة إلا خالق أو مخلوق، ولكن قولك ” الكون خالق ومخلوق ” يُعَد كلاماً فارغاً تمت صياغته من ناحية رصفية ومن ناحية نحوية ولكن عند تحليله تجده كلاماً فارغاً كالكلام الذي ينطق به أي شخص يهزي بكلمات غير مفهومة ولكن لأنك رصفته وأجريت عليه قواعد النحو اعتقدت أنه أصبح كلاماً عاقلاً وهذا غير صحيح لأنه يتناقض على طول الخط مع مبادئ العقل، فالشيئ لا يكون سبباً في ذاته، إذن الدور باطل والتسلسل باطل فما هى الفرضية الثالثة المُتبقية؟!

أواجب وجود.

فما معنى واجب وجود؟!

واجب وجود أي وجوده من ذاته –  إن جاز أن نقول هذا لأنه يحتاج إلى بعض التنقيح – فهو سببُ وجود ذاته، وجوده ذاتيٌ واجب، وهذا معنى واجب الوجود أي أن وجوده ضرورياً.

فعلى طريقة بعض الفلاسفة هو الشيئ الوحيد الذي ماهيته عين وجوده وطبعاً لا يُوجَد ماهية ووجود، ولكننا الآن دخلنا في العويص طبعاً ومن ثم قد نُضطَر أن نعمل خُطبة ثانية لأني لا أُريد أن أشق عليكم فقد تأخَّرنا اليوم في الخُطبة ولم نصل إلى بُرهان الصدّيقين بالطريقة الصدرائية الذي كان موضوع خُطبة اليوم ولكن للأسف الشديد الوقت لم يسمح ولكن هذه الخُطبة ستكون – إن شاء الله – خُطوة على الطريق.

قد يقول لك شخص مادي:

 لا لا لا لا لا ، هذا غير صحيح، ونحن قلنا لكم أن هذا من تشدق المشائخ وعلماء الدين اليهود والمسيحيين والمسلمين وكله كلام فارغ فلماذا لم تقبلوا أن الكون خلق نفسه وموجود أزلاً بلا بداية وقبلتم بوجود الله على أنه موجود أزلي بلا بداية؟!

ونحن بدورنا نقول له:

يا ابن آدم ألم تُسلِّم معنا مُنذ البداية أن موجودات الكون مُمكِنة وليست واجبة بدليل أنها تكون ثم لا تكون ويطرأ عليها الفناء والعدم وتذهب وتروح وتأخذ أشكال مُختلِفة ؟!

سيقول لك:

لا ، فأنا لا أُسلِّم بما تُسمونه المُمكِن – مُمكِن الوجود،Possible Being  ، الوجود المُمكِن أو الكائن المُمكِن، Contingent Being –  فما تُسمونه مُمكِن الوجود عندي كمادي هو ضروري!

سأقول له:

كيف ضروري؟!

يقول لي :

طبعاً حين يُوجَد ولا يُوجَد إلا بتوافر علله فيُصبِح وجوده ضرورياً فيمتنع أن يتخلَّف.

إذن هو سلَّم أنه لم يكن موجوداً – انتبه ورتِّب لي مُخك – وسلَّم أنه برز الآن إلى الوجود، ومن ثم نحن نقول له:

مرحباً بالوفاق فنحن كمُؤلِّهة نقول بهذا، ما رأيك؟!

لم تأت بجديد يا مسكين، كل الفلاسفة المُؤلِّهة يقولون هذا من أيام أرسطو Aristotle وابن سينا والفارابي وابن رشد ومُلا صدر وكلنا نقول بهذا.

سيقول لي:

أنت ناقضت نفسك فقبل شوية قلت لي أنه غير ضروري، غير واجب أي مُمكِن!

 أُجيب بالقول أن هنا فرِّق الإلهيون بين نوعين من الضرورة أي نوعين من الوجوب ” وجوب بالذات ووجوب بالغير” علماً بأنهم قالوا هذا قبل أن تأتي كل هذه التيارات الإلحادية المادية المُحدَثة والمُعاصِرة لأنهم قالوا هذا من قديم عندما أشاروا إلى أن المُمكِن على مسافة مُتساوية من الوجود والعدم وقد يخرج من العدم إلى الوجود، وهذا الخروج مجازي فلا يُوجَد شيئ إسمه عدم وله بطن أو رحم تخرج منه الأشياء، فالعدم لا شيئ – انتبهوا – بالمُطلَق ، وهنا أُعجوبة الوجود الذي هو نقيض العدم وهوما سيكون موضوع الحلقة الثانية – إن شاء الله – ، فحين خرج من رحم العدم أي من كتم العدم إلى أنوار وشهادة الوجود صار وجوده ضرورياً، ولكن هذه الضرورة بالغير الذي أخرجه أم من ذاته ؟!

بالغير طبعاً، لأن الغير أخرجه ، إذن هو ضروري بالغير، واجب بالغير.

إذن من جهة ذاته – من حيث ذاته – هو مُمكِن وليس واجباً، ولكنه أصبح واجباً بالغير، الغير هذا هو الواجب بالذات وليس مُمكِناً بالذات، لأنك إذا قلت لي أنه مُمكِن بالذات سنقع في فخ التسلسل.
فهل تخيَّلت كيف يُفكِّر هؤلاء العباقرة الفلاسفة الميتافيزيقيون ؟!

شيئ رهيب، سُبحان الله الذي أعطى الإنسان العقل، فليكن لنا بعض الحظ من هذا العقل!

وكذلك – يا إخواني – المُمكِن الذاتي يُمكِن أن يُجامِع الاستحالة بالغير ، فيُصبِح مُستحيلاً ولكن لا بذاته وإنما مُستحيلاً بالغير، لأن الفرض أنه مُمكِن بذاته، كيف تقول لي مُمكِن بذاته مُستحيل بذاته ؟!

ولكن هو مُمكِن من حيث ذاته ومُمكِن – أيها الإخوة – أن يصير مُستحيلاً من حيث الغير، أي يُصبِح مُستحيلاً بالغير.

والآن سأسأل سؤالاً بسيطاً :

الله – تبارك وتعالى – هل يُمكِن أن يبعث الكافر من الآخرة، من النشأة الاُخرى إلى الدنيا وأن يُكلِّفه بالشرائع مرة أُخرى ليُعطيه امتحان درو ثانٍ ؟!

هل هذا بالعقل مُمكِن أم غير مُمكِن ؟!

مُمكِن ، فلا يُوجَد أي شيئ في العقل يمنع من هذا، ولكن بحسب نص الكتاب الأقدس المُكرَّم – القرآن الكريم – هل سيعودون أم لن يعودوا ؟!

لن يعودوا، فإذن رجوع الكافر إلى الدنيا ليأخذ امتحان دور ثانٍ مُمكِن لذاته، مُستحيل لغيره، وهذه الغيرية أتت من حيث أن الله أخبر أنهم لن يعودوا، فالامتحان لمرة واحدة فقط ونسأل الله أن ننجح فيه وأن نكون فيه من الفائزين المُفلِحين المُنجِحين المُتفوِّقين، اللهم لا تُضِلنا بعد إذ هديتنا ولا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ  ۩

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

 

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد إخواني وأخواتي:

كما وعدتكم – إن شاء الله – سأُضطَر أن أقف عند هذه النُقطة من البحث – بعون الله – كأننا نُحاضِر ولا نخطب ولكن لا بأس على أن نُكمِل – وهذا سيكون أريح لي ولكم – عرض بُرهان الصدّيقين بالطريقة الصدرائية، لأن الطريقة السيناوية – نسبةً إلى ابن سينا – عليها مآخذ فهى لم تذهب بشكل مُباشِر إلى الله لتستدل به ولكنها قدَّمت مُقدَّمات – كما رأيتم – كاستحالة الدور، استحالة التسلسل، ومن هنا يقول صدر المُتألِّهين مُلا صدر الشيرازي ” ليست بطريقة الصدّيقين وإن كانت بها أشبه ولكنها ليست هى”، حيث أن طريقة الصدّيقين لا يُوجَد فيها مُقدِّمات لأننا نسقط كل هذه المُقدِّمات لكي  نستدل بالله على الله، وسوف نرى أننا نفعل دون أن نفطن، وهذه هى أُعجوبة صدر المُتألِّهين وأُعجوبة بُرهان الصدّيقين، فهو يقول لك:

أنت يا عبد الله تستدل على الله بالله وبالله على كل شيئ دون أن تفطن لهذا .

أوه Oh، إذن سيضح أن الله أوضح مما تتخيَّل، فما رأيك ؟!
أوضح مِن أن يخفى، فهو الأول والآخر والظاهر و الباطن – حسبما قال – كأنه يظهر لأُناس مما سُدِّدت أفهامهم وطهرت قلوبهم وأرواحهم ، ويبطن أيضاً عن أُناس آخرين وهذا أحد المعاني معاني الظاهر والباطن وليس كلها.

 لا إله إلا هو !

وبالمُناسَبة أنا ذكرت اليوم جوزيف سايفرت  Josef Seifert النمساوي لأنني مُعجَب بهذا الفيلسوف المُوحِّد فهو رجل يُقدِّر عطاء الفلسفة الإسلامية وقال بكل تواضع حين ذهب يُشير إلى البُرهان الأنطولوجي الذي دبَّجه في حوالي خمسمائة صفحة أن أبا حامد الغزالي أيضاً قرَّر هذا البُرهان ، فما رأيك؟!

على الرغم من أن أنسلم  Anselm  مُتقدِّم على أبي حامد طبعاً، فأبو حامد تقريباً في القرن الثاني عشر الميلادي أما أنسلم  Anselm  في الحادي عشر، ولكن طبعاً لم يُترجَم شيئ من أووربا ويبلغ العالم الإسلامي في هاته أيامها لأن أوروبا لم تكن تُعطي العلم حينها، كانت تأخذه فقط ، لأنها كانت بدايات أخذها العلم وما يتعلَّق بالرشدية اللاتينية في القرن الحادي عشر.

توما الأكويني Thomas Aquinas أستاذه ألبرت الكبير Albert the Great ” الماغنوس Magnus “، وألبرت الكبير Albert the Great أكبر أستاذ له على الإطلاق ابن سينا وابن رشد أيضاً، علماً بأن توما الأكويني Thomas Aquinas في الخلاصة اللاهوتية ذكر ابن رشد حوالي مائة وخمسين مرة وذكر ابن سينا خمسمائة مرة، فما رأيكم؟!

هذه المعلومات مُهِمة لتعرف ما الذي قدَّمناه، فأبو حامد لم يسمع بأنسلم  Anselm  ولا ببرهانه ولكنه ذكره في جُملة واحدة كما ذكره أنسلم  Anselm  في جُملة واحدة حيث أن المخ يتصوَّر كبيراً لا يُوجَد ما هو أكبر منه وهو الله وهو موجود، أي البُرهان الوجودي، ولكن الجميل أن سايفرت  Seifert – الفيلسوف الفينومينولوجي الواقعي النمساوي العظيم الذي عنده معهد كبير خاص به – لديه الكثير من الجرأة العقلية والنزاهة وقوة ثقة بالنفس بعيداً عن القزامة الفكرية والخوف من المُعتادات والسوابق والمفروضات وتأثير البيئة والضغط والإعلام والصحافة والتلفزيون Television حيث أنه قال ” أجدني من ناحية فلسفية محضة أقرب إلى عقيدة التوحيد في الإسلام مني إلى التثليث النصراني ” علماً بأنه فيلسوف مسيحي ولكنه قال بالحرف هكذا “أنا مع التوحيد الإسلامي حيث أنه أبسط وأسهل وأقرب إلى العقل من التثليث المسيحي الذي أتبعه دينياً” ، فهو لا يُؤمِن بالتثليث وأشار إلى مصير برنتانو Brentano، هذا بتعرفوا الفيلسوف العظيم – برنتانو Brentano –  أستاذ فرويد Freud  وهوسلر Husserl وأستاذ جماعة من الفلاسفة الكبار ومن ثم لما شجب التثليث وقال ” لا يُوجَد تثليث ففكري يقول لا إله إلا الله ، فهو إله واحد وليس ثلاثة ” ومن ثم لقيَ مصيراً سيئاً وهو ما ذكَّر به سايفرت  Seifert  – جوزيف سايفرت  Josef Seifert  – ، حينما قال ” أنا مع التوحيد الإسلامي” فهو مُعجَب بعطاء الفلسفة الإسلامية الذي يدري عنه إلا القليل و لم يُشِّر إلى بُرهان الصدّيقين في موضع واحد من كتابه، فما رأيكم؟!

وهذا ما يُعَد تقصيراً من جانب المسلمين، فينبغي علينا أن نُترجِم تراثنا الفلسلفي والفكري للعالم وأن نعرضه لنعلم رأي العالم فيه. 

وقبل أن أمضي – أنا مُتأكِّد سأتتركم عطاشاً إن شاء الله – سأروي ظمأكم بمثال بسيط :

 أنت ستقول لي: هل لك أن تُمثِّل يا رجل بمثال يفهمه الطفل فضلاً عن الراشد العاقل الواعي المُدرِك أو الدرّاك وهذا المثال الذي يعقله ويُدرِكه الطفل الصغير يُؤكِّد لي أن الله بالفعل كما تقول أو كما قال أصحاب بُرهان الصدّيقين قد يكون موجوداً وفعلاً لفرط ظهوره نحن لا نراه فنحن لا نحس به لفرط ظهوره، هل مُمكِن؟!

مُمكِن جداً، وسـأعود مرة أُخرى بكم إلى مثال النور – Light , Licht -، فالآن أي واحد فينا طبعاً من غير أي إعمال فكري يستطيع أن يقول لك ”  واضح أن هذا المسجد مُنار ” من غير أن يرى حتى النيون Neon هذا ، فهو مُنار لأنه لو لم يكن مُناراً لكان أكثر عتمةً حتى وإن كنا لا نزال في شرخ النهار، أما إذا جن الليل وأُطفئت مصابيح الشوارع بالكامل هنا سنخوض في عتمة وهذا أمر عادي يُدرِكه الطفل، ولكن الآن فكِّر وتصوَّر  – هذه هى لعبة الفكر – أنك وُلِدت في عالم – وليكن هذا العالم نفسه – مُنار بنور واحد وليكن نور الشمس، بدرجة واحدة، بشدة واحدة، بتواتر واحد، ولا يُحجَب لُحيظة فضلاً عن أنه لا يُوجَد غيوم أو كسوف أو شيئ يُؤدي إلى حدوث إعتام، فقط هو مُضاء باستمرار، الذي سيحصل أنك لن تُدرِك مفهوم النور بالبداهة ولا بالحس، لن تُدرِكه أبداً وستحتاج إلى قدرات عُقلائية وإلى أدوات رياضية مُعقَّدة جداً جداً جداً تماماً كالسمكة التي تمخر عُباب الماء ولا تُدرِك أنها تعيش في هذا الوسط الكثيف إلا حينما تخرج مرةً منه، فبغير هذه المُقارَنة صعب على المسكينة أن تُدرِك بعقل سمكة هذا الوسط المُتجانِس هذا وإن كان مُتجانِساً من كل وجه فهذه كلها حيثيات، إذن تخيَّل أن هذا العالم مُنار بنفس الدرجة والشدة والتواتر باستمرار ولا يضعف لُحيظة فضلاً عن أن يغيب هل ستُدرِك أن العالم مُنار ؟!

لن تُدرِك أبداً وستقع في وهم ماذا أن الأمور موجودة هكذا، ولن تُولِّد مُصطلَح أو تصك مُصطلَح إسمه النور أو الضوء الذي إذا انطوى أو زوى تُعتِم الأشياء ولا نرى، فهذا كله لن يكون مُتوافِراً لديك، فما رأيك؟!

أنت لن ترى النور على الرغم من أنه موجود باستمرار، فلأنه موجود باستمرار وبتواتر واحد أنت لن تراه!

وضربت أنا قبل عشر سنوات أو أكثر مثلاً آخر وبه أختم وهو مثال الصوت، فلو أنك وُلِدت في كون ما – وليكن هذا الكون أيضاً – ومُذ أن تخرج من رحم أمك – وأمك من قبل تعيش في هذا الشرط – هناك نغمة، صوت – مثلاً  اممممممممم – بنفس الشدة – Intensity -، بنفس التواتر، وهذا الصوت مُتواصِل باستمرار ولا ينقطع، الذي سيحدث أن هذا الصوت لن يسمعه أحد، ما رأيك؟!

لن يسمعه أحد، أتعلمون متى سنسمعه؟!
في اللحظة التي يتوقَّف فيها. 

لحظة توقَّفه سنرى العالم بطريقة مُختلِفة وسنكون مُحتارين وسنتساءل:

 إذن ما الذي حصل؟!

هل أُضيف شيئ جديد على العالم أم أن شيئ انسحب منه ؟!

ثم سنُدرِك أن هناك شيئ انسحب وهو هذه النغمة.

فإذا فرضنا أن الله موجود – وهو فرض صحيح، لا إله إلا هو – وجوداً لا يخفى ولا يغيب ولا يضعف لأنه قيوم على كل شيئ وهو الظاهر – لا إله إلا هو – هذا يجعلنا لا نُحِس به، لا نراه، ونبدأ نبحث عنه وهو أقرب قريب، أقرب – كما قلت – من سواد العين وأقرب من حبل الوريد.

وموعدنا – بعون الله إن قدَّر الله لي ولكم عمراً جديداً نسأل الله أن يكون في عافية وفي خير وفي طاعته دائماً وأبداً – مع بُرهان الصدّيقين الذي يُفصِّل هذه المفاهيم والمقولات ولكن بطريقة أكثر تفصيلاً – بعون الله – ووضوحاً، والله المُستعان في كل الأمر.

(13/5/2016) 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: