إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأكارم، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ۩ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۩ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۩ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ۩ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

في كل شأن من الشؤون، وفي كل أمر من الأمور، في مُعظَم الظواهر الطبيعية والاجتماعية، مَن شاء أن يضع يده على الفوارق والاختلافات فأمره يسير وقريب جداً، سيجدها في كل مكان، وفي كل موضع.

في هذا الحيز الضيق المُتواضِع – أعني مسجدنا هذا، باركه الله تبارك وتعالى ومَن فيه – يُمكِن أن نجد سبعمائة أو ثمانمائة من الحقائق المُختلِفة، كل واحد منا يُمثِّل حقيقةً تختلف عن الآخر، كل منا حقيقة بحياله، وهذا في الخُطوة الأولى.

ثم في الخُطوة الثانية يُمكِن أن تزداد هذه الاختلافات وتتباعد المشابه ويرتفع الرقم ربما إلى سبعة آلاف أو سبعين ألفاً أو سبعمائة ألف، سنجد أن كلاً منا يختلف عن الآخرين في سحنته، عن كل الآخرين، عن كل واحد، وعن مجموع الآخرين أيضاً، وكذلك في بصمة صوته، في شدة صوته، في طبقة صوته، في شكل عينيه، في شكل حاجبيه، في درجة لونه، في طوله، في عرضه، وفي مِزاجه، في كل هذه المُختلِفات، وبالتالي سوف نجد ربما عشرات الآلاف أو مئات الألوف من وجوه الاختلاف بيننا، والعجب أننا نجتمع في مكان واحد، في بيت من بيوت الله، مُلبين نداء الله، إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۩، وقد فعلنا ولله الحمد، إذن نحن مُتحِدون بلحاظ آخر، من زاوية أُخرى.

أكثر من ذلك أنه لا يخفى على أي مُفكِّر فضلاً عن أي فيلسوف أن يُدرِك أن من وراء هذه الاختلافات والفروقات والتباينات حقيقة واحدة، حقيقة واحدة وليس حقيقتين، بل حقيقة واحدة، بين كل هؤلاء المُختلِفين، إنها حقيقة الآدمية، إنها حقيقة البشرية، كلنا بشر، كلنا إنسان، كلنا ابن آدم، كلكم لآدم وآدم من تراب، إذن هناك وحدة، وهذا هو الكُلي في اصطلاح المناطقة والفلاسفة، هذا هو الكُلي، حقيقة الإنسانية أو البشرية، إنها الحقيقة القابعة والكامنة خلف وتحت السطوح والظواهر والمجالي والمباده، لكنها حقيقة قوية جداً، وهي التي تُتيح لنا أن يكون كلٌ منا ما هو، هي! أي هذه الحقيقة، ولذلك لون جلدك أو شكل عينيك أو حاجبيك أو طول قامتك أو عرضها ليس هو الذي يُتيح لك أن تكون ما أنت تماماً، بالعكس! الحقيقة الجامعة تفعل هذا.

لذلك يُمكِن أن يختلف لون الجلد أو شكل الحاجبين أو الشِكلة بشكل عام، وتبقى أنت أنت، انظر إلى صورة لك التُقِطت قبل عشرين سنة، تكاد تُنكِر نفسك، بالحري أكثر أبنائنا لن يعرفوا أن أولئكم هم نحن الآن، مَن هذا يا بابا؟ هو أنت، هو أنت! اختلفت كل هذه المظاهر، وبقيت الحقيقة راسخة قابعة كامنة هناك، من وراء وتحت السطوح، في الأعماق!

وبعد ذلك تأتي حقائق أُخرى تُوحِّدنا، لماذا نحن هنا؟ لأننا مُسلِمون، إذن حقيقة أُخرى، حقيقة نظرية علمية مِلية عقدية وحَّدتنا رغم هذه الاختلافات، لكن منا المُسلِم السُني ومنا المُسلِم الشيعي ومنا المُسلِم السُني الشافعي وذاك حنفي وهذا مالكي، وإن كان أكثرنا لا يعرف ماذا تعني هذه الأشياء بالضبط، بالضبط لا يعرف، يعرف أنها انتماءات وعنوانات، لكن بالضبط ما هي؟ لن يعرف هذا، حتى يعرف بدقة وبتفصيل أصول هذه المذاهب والجماء الغفير من فروعها، وأكثرنا لا يعرف هذا، ولذلك هو يتعزى بالعنوان، يتعزى باللافتة التي يحملها، لا أكثر من ذلك، هكذا من باب تسلية النفس وإعطاء الثقة بالذات، أن له خطاً وأن له منهجاً وأن له اختياراً في الحياة المِلية مثلاً، هذا هو الواقع، وإن كان مُؤلِماً، لكن هذا هو الواقع!

إذن البحث عن المشابه هو البحث الذكي، وهو البحث العميق، وهو البحث المُجهِد، أما البحث عن الاختلافات فهو البحث الكسلان، هو البحث الكسلان الذي لا يستدعي لا جُهداً ولا عبقريةً ولا ذكاءً، يُمكِن لأي عامي جلف غليظ أن يضع أيدينا على دستة أو حزمة أو مجموعة من الفروق التي في نظره هي معقد الولاء والبراء، بل معقد الكفر والإيمان، بين هؤلاء المُسلِمين وأولئكم من المُسلِمين، أي عامي يستطيع ذلك! لكن هذا العامي سيكون أضعف من أن وأعجز من أن يدلنا على المشابه الحقيقية التي يُمكِن أن تذوب في بحرها وفي بركتها هذه الفروقات، أياً كانت هذه الفروقات، صعب عليه هذا، صعب أن يقطع، وسيتناقض، لكن لن نعتب عليه مرةً أُخرى.

أيها الإخوة:

اتحاد المُسلِمين أو فُرقة المُسلِمين موضوعٌ لا ينبغي أن نمل ولا أن نكل في ترداده والتذكير به، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ۩، لأن هذه الأمة فقيرة جداً في أسباب الوفاق، غنية جداً في أسباب الاختلاف والتناحر والتباعد والتباغض والتشانؤ، غنية جداً! قد أدمنت الخلاف والاختلاف، حتى أصبح هو القاعدة تقريباً في شؤونها السياسية للأسف، كما في شؤونها الفكرية والعلمية للأسف.

ولذلك لسنا نحتاج إلى مَن يأتي ليُذكِّرنا بالاختلافات، قد أدمنا ذلك، ودفع ثمنه، وحريٌ بنا أن نُسارِع الآن إلى طرح هذا السؤال، ماذا بعد؟ ماذا بعد عقد أو عقدين أو مائة أو مائتين من السنين؟ هل تجربة التاريخ ستُؤكِّد صحة وصوابية هذه الخطة – أعني خطة ماذا؟ خطة التأكيد على الاختلاف، التأكيد على الفروقات والتباينات -، أم أن تجربة التاريخ – وأنا أقول ليس لمائة سنة، بالعكس! لسنوات يسيرة – ستُؤكِّد العكس تماماً؟

هذه الأمة كلما ازدادت خبالاً وكلما ازدادت فُرقةً واحتراباً وانحطاطاً وربما كلما أيضاً ازداد بغي عدوها عليها – العدو الذي لا يألوها خبالاً وعنتاً وحرباً وفتنةً وكيداً بالليل والنهار – علمنا أنها ستُدرِك عاجلاً أنها أحوج ما تكون إلى أسباب الاجتماع، إلى أسباب التوحد، لكن لسنا نتحدَّث إذا تحدَّثنا عن التوحد عن توحد كُلي، عن توحد مُطلَق، إنما تحدَّث عن مُطلَق التوحد، ليس عن توحد مُطلَق، إنما عن مُطلَق التوحد، وكل قدر يأتي منه هو قدر مُهِم وخطير وشريف ومُبارَك إن شاء الله تعالى، تحتاجه هذه الأمة لكي تسترد عافيتها أو بعض عافيتها.

أولاً الفُرقة خطرة جداً جداً لأنها تنخر بنية الأمة من داخلها، أما العدو فيُحاوِل الضرب من خارج، أما الفُرقة فإنها عامل داخلي، وإذا فقد أي جسم أو أي بنية حيوية مناعتها الداخلية بعد ذلك ستكون هشة وضعيفة أمام أضعف المُمرِضات، أضعف العدو يُمكِن أن ينال من هذه الأمة، ويستغرب الذين لم يُدمِنوا قراءة التاريخ كيف أمكن للإسباني يوماً، للهولنديين في يوم آخر، للإنجليز في يوم ثالث، وللمغول في يوم سابق، أن يجتاحوا أضعاف أضعاف أضعاف مساحاتهم وممالكهم الأصلية؟ هل هذه القوة أسطورية؟ ليست أسطورية، السبب مُعظَمه أو عُظمه يكمن في ضعف الآخر، في فقدان الآخر لامناعته الذاتية، هذا هو!

ثانياً الفُرقة خطرة وخطرة جداً لأنها قد تكون مثاراً ومبعثاً لفتنة أبناء الأمة ذواتهم، الآن الأمة في حال صحوة كما يُقال، لكن لا يضمن أحد أنه بعد عشر أو عشرين سنة سينشأ جيل مُحبَط وجيل عانى الفشل ومضغه حتى الملل، فشل في جميع نواحي حياتنا، سياسياً أمة فاشلة، عسكرياً أمة مُندحِرة، علمياً أمة في ذيل القافلة، حتى مِلياً أمة مُمزَّقة مُحترِبة ومُتذابِحة، هذا الجيل بعد ذلك سيبدأ في الشك أو سيُلقى به في مهاوي الشك في صحة كتابه وفي صلوحية دينه، سيتساءل – وله الحق أن يتساءل – هل هذا الكتاب حقاً إلهي يُجمِّع ولا يُفرِّق؟ أين؟ أين فعله في هذه الأمة؟ سيتساءل هل هذا الدين حقاً دين للحياة، دين يبني نهضة وحضارة، دين يُنشئ أمة، ودين يُعزِّز أوضاعاً طيبة؟ كلا، ولذلك سيكون هذا الوضع فتنة، وفتنة كبيرة، كما هو الآن فتنة لبعض الناس، لا أُحِب أن أقول لكثيرين، لكن على الأقل لبعض الناس هو فتنة، فعلى الذين يتكلَّمون في هذه الشؤون ولا يعنيهم إلا أن يُغالوا بما يعرفون – وهو تافه في مُعظَم الأحيان وسخيف ولا يعني الإسلام الحقيقي في شيئ، لا كثير ولا قليل – أن يُعيدوا النظر في موقفهم وفي عقابيل ونتائج هذا الموقف الخطير وغير المحسوب العواقب للأسف الشديد.

لو تأمَّلتم هذه الآيات وشفعتم هذا التأمل بقراءة لأسباب النزول كما في تفسير ابن جرير – مثلاً – أو ابن المُنذِر أو ابن إسحاق في السيرة – رحمة الله عليهم أجمعين – وغيرهم أيضاً لوجدتم عن زيد بن أسلم الآتي، السبب باختصار – ولا أُريد أن أسوق القصة لأنها طويلة – أن شاساً – أي شاس بن قيس – مر على نفر أو مر بنفر من الأوس والخزرج بعدما هداهم الله إلى الإسلام وأكرمهم برسوله – عليه الصلاة والسلام – وهم في حال دعة وطمأنينة وأخوة واجتماع، فغاظه ذلك، قال مُستحيل، إذا اجتمع هؤلاء لا عيش لنا، عدو! يُفكِّر بعقلية عدو، ويعلم حقاً أنه لا عيش له إذا اجتمعت قوى عدوه، فدس إليهم شاباً، وقال له ذكِّرهم بيوم بعاث – المعارك القديمة في الجاهلية – وما كان في يوم بعاث وكيف ظفر الأوس بالخزرج وما تقاولوا من أشعار – أي ما قال هؤلاء وما قال هؤلاء -، أعدها جذعةً، كأن الحرب وقد حمي وطيسها الساعة والآن، ففعل الملعون، كلمة من هنا وكلمة من هنا وكلمة من هنا، هُرِع هؤلاء إلى سلاحهم وهُرِع هؤلاء إلى سلاحهم، واصطفوا صفاً هنا وصفاً هناك، لتدور رحى الحرب الزبون، الحرب الحمراء المجنونة! ويتسامع الصحابة، ويصل الخبر إلى رسول الله، فيأتي مُغضَباً، عُرِف الغضب والنكارة في وجهه، يجر ثوبه ويقول يا معشر المُسلِمين، الله الله، أي اتقوا الله، ارقبوا الله في أنفسكم، ارقبوا الله في رسالتكم، ارقبوا الله في نبيكم، ارقبوا الله في هذا العدو الرابط على أبوابكم، المُتربِّص بكم، الذي لا يألوكم عنتاً وخبالاً، الله الله، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ أتقولون أنتم ونحن، تذكرون خلافات قديمة، وتُعيدونها مُجدَّداً؟ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن استنقذكم الله من الكفر، وهداكم إلى الإيمان، وأكرمكم بي، وجعلكم إخواناً مُتآلِفين، وقد كنتم على شفا حفرةٍ من النار؟ فبكوا، وأقبل الرجال يُعانِق بعضهم بعضاً، ووضعوا السلاح، وانصرفوا، وأنزل الله تبارك وتعالى – انتبهوا – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ۩، عن شاس بن قيس لعنه الله، وعن هذا الغُلام الذي دسه، هذا المقصود بهذا الفريق، لأنه هو الذي فعل، هو صاحب الفتنة، مُوقِد نارها ومُؤرِّث أحقادها، إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ۩… انتبهوا إلى الآية، هذا أخطر ما في الآية، يَرُدُّوكُمْ ۩… ماذا؟ هل قال يَرُدُّوكُمْ ۩ مُتحارِبين؟ هل قال يَرُدُّوكُمْ ۩ مُتفرِّقين؟ هل قال يَرُدُّوكُمْ ۩ وقد بحث كل منكم عن مصلحته – إنها المصالح السياسية -؟ لا، القرآن لا يُحِب هذه اللُغة الدبلوماسية الفارغة، القرآن مُباشِر وصريح جداً، ويضع الأشياء في مواضعها، ويُعطيها موازينها وأثقالها وأثمانها وأسعارها، الفُرقة خطيرة جداً جداً، سماها القرآن كفراً، قال يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ۩، انتبهوا! هل الصحابة كفروا؟ هل الأوس كفروا؟ لم يكفروا، أعوذ بالله، هل الخزرج كفروا؟ لم يكفروا، وهم لم يُجدِّدوا إيمانهم، ولم يُعيدوا النطق بكلمة الشهادة أو الشهادتين – كما يستحب بعضهم – أبداً، لكن الله سمى الفُرقةً بعد الوحدة كفراً بعد الإيمان، كأنه يقول لا خير في إيمان لا يُوحِّد، نعم! أين الخير في إيمان لا يُوحِّد هذه الأمة؟ أين الخير؟ لأن الإيمان يمحق الهوى، يمحق العصبية، ويمحق الغرض، هذا هو الإيمان، وهذا بعض معنى قوله – تبارك وتعالى – إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ۩.

فإذا وجدنا أنفسنا ونحن نزعم الإيمان غير إخوة – أي لم نجد أنفسنا إخوة – فمعنى هذا أننا لم نتحقَّق بالإيمان، طبعاً لن أقول إننا كفّار، أعوذ بالله، ولكن لم نتحقَّق بالإيمان، نحن ضعاف الإيمان، لم نعرف الإيمان الحقيقي، نعرف الشعارات، هذه مُشكِلة هذه الأمة، أمة شعارات، أمة خُطب، وأمة مشاعر جيّاشة بلا تفكير عميق هادئ للأسف الشديد.

خطر لي بعد أن فرغ أخي من الأذان – بارك الله فيه – كيف يبدأ بعض الخُطباء خُطبهم، أول ما يفرغ المُؤذِّن من التأذين يقوم ويصرخ مُباشَرةً، لأن رسالته تجييش العواطف، الصراخ، والصياح، أين الفكر؟ أين هدئة الفكر؟ أين التعمق؟ وأين الفهم؟ هل نُريد أن نصرخ ونصرخ أم نُريد أن نفهم لكي نصل؟ بلا فهم لن نصل، سنبقى عُمياناً، سنبقى في ضلال، لكن هذه طريقتنا للأسف، فهذه الأمة تحتاج إلى نمط آخر.

فالقرآن سمى الفُرقة كفراً، تسمية خطيرة جداً! تماماً النبي تقيَّل طريقة القرآن حين قال لا ترجعوا بعدي كفّاراً – سماهم أيضاً ماذا؟ كفّاراً – يضرب بعضكم رقاب بعض، وبعضهم أراد أن يغمز الحديث، يا أخي لماذا تغمز الحديث؟ الآية هناك يا حبيبي، الآية تقول يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ۩، فاقرأ سبب نزولها، هم لم يكفروا بالله ورسوله واليوم الآخر ولا بالملائكة ولا بالكُتب ولا بالنبيين، إنما كفروا بوحدتهم، كفروا بأهمية الوحدة، لا يبقى كثير خير في إيمان وفي مُؤمِنين بلا وحدة، يصيرون لُقمةً سائغةً باردةً لعدوهم المُتربِّص، ومع ذلك هم يُدمِنون البكاء على أحوالهم والتشاكي والجأر إلى الله بالدعاء، بالذات في تراويح رمضان وفي العشرة الأواخر، ناهيكم بليلة القدر، يحسبون أن الله سيسمعهم، يحسبون أن الله سيُباليهم بالاً، هل تظنون أن الله – تبارك وتعالى – سيسمع إلى هذا الإمام الذي يدّعي الصدق والإخلاص في دعائه وهو يتباكى وهو أحد الذين يُؤرِّثون الأحقاد ويُمزِّقون الأمة ويُؤلِّب بعض الأمة على بعض؟ كيف؟ كيف يأتي هذا التناقض؟

روى أبو يعلى الموصلي في مُسنَده – رحمة الله تعالى عليه، الذي قيل عنه إنه كالبحر، وسائر المسانيد كالغدران – والإمام الطبراني في الكبير، قيل لجابر بن عبد الله – الصحابي الجليل المُعمَّر، رضوان الله تعالى عليه، وقد عُمِّر طويلاً – يا صاحب رسول الله هل كنتم تدعون أحداً من أهل لا إله إلا الله مُشرِكاً؟ فكبرت، هالته، كبرت عليه، وقال معاذ الله، الله أكبر! ما هذا الكلام؟ أيقول إنسان لا إله إلا الله ونُسميه مُشرِكاً؟ قال معاذ الله، فخاف السائل وتراجع، ثم تجرأ وقال هل كنتم تدعون أحداً من أهل لا إله إلا الله كافراً؟ قال معاذ الله، ما هذا الخلط؟ ما هذا الخبط؟ إنسان مُؤمِن مُوحِّد بأنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله، يقولها بصدق اعتقاد وحُسن نية ومضاء عزيمة عليها، كيف تُكفِّره؟ بماذا؟ ولماذا تُكفِّره؟ ما هذا الحرص على تكفيره؟ 

هنا المسألة ليست علمية فقط كما يظن بعض الناس أو يُحِبون أن يُفهِمونا، إنها خُلقية، إنها في قلوب مُعتَلة، إنها في أغراض وهوى وأهوية نفسانية وعصبيات مذهبية وطائفية وغير ذلك، المسألة لها جانبها الخُلقي، سأُذكِّركم بكلمة الإمام الشافعي العظيمة التي كلما ذكرتها رأيت حقارتي كطويلب علم، وأقول في نفسي لن يحصل لي نوع من الرضا عن نفسي حتى يحصل لدي الثلج بأنني مُتخلِّق ببعض هذا المقام العظيم جداً، كان أبو عبد الله الشافعي – قدَّس الله سره الكريم – يقول والله – في رواية يحلف، يقول والله – ما أُبالي أن يظهر الحق على لساني أو لسان عدوي، لأنه مُحِب للحق، بعض الناس يستكثر هذا، والله ليس بكثير، وهذا بسيط وبدهي ومفهوم لمَن كان من أهل الحق، هل تعرف كيف؟ سأُقرِّبه لك بالمثال.

ابنك وحيدك ضاع، وطبعاً لن يكون ابنك الوحيد الفرد أعز وأهم وآثر عندك من الحق، الحق الذي هو مناط النجاة الأبدية، نسأل الله أن يجعلنا من أهل سعادة الأبد، اللهم آمين، وجميع إخواننا من المُسلِمين والمُسلِمات، ابنك الوحيد الفرد ضاع، هل تكون مُصِراً على أنه لا أهمية لأن يُوجَد ولأن يُعثَر عليه إلا أن تعثر عليه أنت؟ بالعكس، أنت ستُقبِّل رأس ويد كل مَن يُساعِدك في العثور عليه، المُهِم أن يُعثَر عليه، المُهِم أن يعود الولد العزيز الحبيب الأثير إلى النفس، لأنك تُحِبه، حقاً تُحِب ابنك الوحيد، فإن كنت تُحِب الحق ستكون حالتك نفس الحالة، أن يظهر الحق، أن يتعزَّز الحق، أن يتبرهن الحق، وأن يسود الحق، بغض النظر على لساني أو على لسانه أو على لسان عدوي، لا يهمني، بالعكس! سأكون سعيداً بسعادة الخلق بهذا الحق، الله أكبر!

سلوا أنفسكم الآتي، وليسأل كل طالب علم وكل عالم نفسه وليستحلف نفسه بالله، هل يتخلَّق بهذا الخُلق؟ لن أكذب عليكم، الذي نراه من كثيرين – لا أقول من قليلين – والذي نقرأ لكثيرين – ليس لقليلين – يُشعِرنا ويُحسِّسنا بحرصهم الشديد على أن يغوي الآخر بل على أن يكفر، حتى يتسنى لهم دمغه بعد ذلك ووصمه بدمغة الكفر، كفر وخرج من المِلة! وطبعاً هذه طريقة إبليسية شيطانية سهلة، سهلة! لماذا؟ لأن الجميع مُتفِقون – الجميع، جميع هذه الأمة مُتفِقون – على أن الخلاف في الفروع ليس خطيراً، إنما الخطير والمُهِم الخلاف في الأصول، أي في مسائل العقيدة، في المسائل العلمية النظرية، ليس في المسائل العملية الفروعية، مسائل الفقه تُسمى فروعية عملية، لكنهم – وهذا عجب – يُحيلون مسائل الفروع إلى مسائل أصول، نعم! بطريق الاستلزام السخيف، هذا طريق استلزام سخيف، كيف؟

تُخالِفه في مسألة فرعية – مسألة فرعية، من مسائل الفروع – فيقول لك أنت تُخالِف مع صحة الدليل، يا أخي أنا أعرف أن الدليل صحيح، لكن أنا أختلف معك في فهم الدليل، وربما تتكافأ الأدلة، ربما عندي دليل أنت لا تلتزمه، لكن أنا ألتزمه، هذا الدليل يُلزِمني بحسب قواعدي، ولا يُلزِمك بحسب قواعدك، هذا حتى في إطار المذاهب السُنية، ليس بين السُنة وغيرهم، في إطار المذاهب نفسها، معروف هذا لكل مَن قرأ وشدا حروفاً من علم أصول الفقه، فيقول لك نعم، مع صحة الدليل، وهذا هو التساخف العلمي، ليس التحقيق، هذا التساخف، التكافر! يُكفِّر بعضنا بعضاً، يقول لك قد خالفت الدليل مع وضوحه، وربما يزعم قطعية الدليل، ثبوتاً ودلالةً، كذباً طبعاً على الدليل وعلى العقل وعلى قواعد الاستنباط، ثم يقول ومَن خالف الدليل بعد القطع به على غيبه فقد خالف صاحب الدليل، إما الله وإما الرسول، ومَن كان هذا حاله فهو كافر، يُكفِّرك باستلزام سخيف!

يا حبيبي الإمام يحيى بن معين – عصري الإمام أحمد، شيخ الرجال في عصره، من أكابر العلماء والمُحدِّثين – رد كل أحاديث فرائض الصدقة، والتي خُرِّجت فيما بعد في الصحيحين، أي إنها صحيحة عند جماهير علمائنا، ردها جُملةً وتفصيلاً، رد هذه الأحاديث، فهل نُكفِّره؟ أم المُؤمِنين عائشة ردت أحاديث كثيرة، ليس على البخاري ومُسلِم بعدها بمائتي سنة، وإنما على أصحاب رسول الله، ردت على زُهاء أربعة وعشرين صحابياً، أكثر من عشرين صحابياً ردت عليهم أحاديث سمعوها من الرسول، لأنها تعرف أن الواحد حين يسمع قد يُخطئ في الفهم، قد يسوء حفظه، قد يتوهَّم، قد يسمع بعض الحديث ولا يسمع أوله، هناك أسباب كثيرة تعرو الإنسان، قد يختلط عليه الأمر، قد يختلط عليه ما سمعه من الرسول وما سمعه ربما من غير الرسول، وتطول السلسلة! تعرف هذا هي، ولكن الصحابة وفَّروا حُرمتها، واعتبروا حيثيتها، ولم يزنّوها بكلمة واحدة في علمها أو دينها، رضيَ الله عنها وأرضاها، وهي التي كانت مُتفسِّحة ومُتسامِحة جداً في أمثال هذه الشؤون أيضاً، لم تكن مُتعصِّبة لرأيها، وكانت تعود أحياناً إذا ظهر لها الحق.

أتاها أحد أهل العراق وقال لها أي الكفن خير؟ قالت له ما ضرك؟ أي هل تتفلسف وتسأل هل الكفن أبيض أو أحمر؟ كفن والسلام، أياً كان، لا تتعمَّق، انتبهوا! الآن طبعاً  تُوجَد كُتب فقه طويلة جداً تقول لابد أن يكون أبيض اللون وما إلى ذلك، طبعاً هناك أشياء مُستحبات، ولكن يُطوِّلون بها الكُتب، المُهِم أننا بعد ذلك سوف نتحدَّث عن دلالة هذا الكلام، لأن هذا من التطويل والتعوير والتقعر والتنطع، النبي قال في صحيح مُسلِم ثلاثاً هلك المُتنطِّعون، قال هلك المُتنطِّعون، هلك المُتنطِّعون، هلك المُتنطِّعون، قال شيخ مشايخ المُسلِمين النووي – قدَّس الله سره – المُتنطِّعون هم المُتعمِّقون، يتعمَّقون في مسائل العلم، ما التعمق هذا؟ لماذا هذا التعمق والتوغل غير المطلوب؟ 

سأحكي لكم ما سيُدهِشكم – وأنتم تعرفونه – عن أبي ذر الغفاري، تعرفون هذا الشخص الجليل، هذا الشخص الذي شرَّفه رسول الله بهذا التاج على رأسه: أبو ذر أمة وحده، يعيش وحده، ويموت وحده، ويُبعَث يوم القيامة وحده، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ۩، وإن أبا ذر كان أمة، الذي قال عنه خليلة – صلى الله عليه وسلم – مَن أحب أن ينظر إلى عيسى بن مريم في زُهده فلينظر إلى أبي ذر، والذي قال فيه أيضاً – والحديث مشهور – ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة – أي ذا لهجة، من زائدة – أصدق من أبي ذر، إنه رجل الحق، سُئل عنه الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – فقال وعاء مليء علماً، ثم أُوكي عليه، فسَّرها في رواية أُخرى، قال لقد أصاب أبو ذر علماً لم يستطعه أحد، أي علم؟ طبعاً كلكم الآن سيذهب وهلكم وظنكم إلى أنه علم الأحكام، الحلال والحرام والأدلة وقال الله وقال الرسول وهذه التفريعات التي ملأت الآلاف الصفحات أو الصحائف، كلا!

أبو ذر كان رابع ثلاثة أو خامس أربعة أسلموا، معروف! هذا أكثر ما قرأت في إسلامه، أنه كان خامس أربعة، ولذلك قال في رواية أنا كنت رُبع الإسلام كما قالها سعد، ومعنى أنه كان رُبع الإسلام أنه كان رابع ثلاثة، ثلاثة سبقوه وهو ربَّعهم، إذن من السابقين، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، مُباشَرةً جاء إلى الرسول، قال إلى ماذا تدعو يا محمد؟ قال أدعو إلى أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال فما هذا الدين؟ قال هذا الدين يأمر بالفضائل، كذا وكذا وكذا حرام، كذا وكذا وكذا من عزمات هذا الدين، ونُؤمِن بلقاء الله وباليوم الآخر، وكلٌ سيُجازى على عمله، هذا ما كان معروفاً من الدين، قال وأنا أشهد بأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، نطق كلمة الشهادة، النبي قال اذهب إلى قومك، بلِّغهم الإسلام، هذا الإسلام، حدَّثه في خمس دقائق، هذا الدين، هذا أهم شيئ في الدين، أهم شيئ! كما قال جوته Goethe – الفيلسوف والشاعر والعالم أيضاً الألماني – إذا كان الإسلام إسلام الوجه لله فعلى الإسلام نحيا ونموت، استسلام! سلِّم أمرك لله بالكامل، هذا هو الإسلام، أن تُسلِم وجهك ظاهراً وباطناً لله رب العالمين، لا تُشعِر نفسك التمرد على أمره، لا إله إلا هو! هذا هو، فالنبي قال ماذا؟ اذهب إلى قومك، بلِّغهم، قال لا، حتى أصرخ وأصيح بها بين ظهرانيهم، لابد أن أُنغِّص عليهم بأن أستعلن بكلمة الشهادة بين ظهراني قريش، وخرج يصرخ، فضربوه حتى أضجعوه، إذن هو قاوم مُقاوَمة شديدة، لأنه لم يسقط إلا بعد لأي، وفي اليوم التالي خرج فصاح بها بين ظهرانيهم، فضربوه حتى أضجعوه، قال العباس ويلكم! ألا تدرون مَن هو؟ إنه من غفار، على طريق تجارتكم، فخلوا بينه وبين أمره، وانطلق إلى غفار.

إذن يبدو أنه لم يسمع من النبي أكثر من عشر دقائق أو رُبع ساعة، يا سيدي لم يسمع أكثر من أربع وعشرين ساعة إذا تسنى له هذا، طبعاً هل المسألة كانت سرية وفي دار الأرقم؟ لا، لا لم تكن هناك جلسات كل ساعة وكل يوم، هو عرف ما هو الإسلام، انتهى! خمس جُمل بل جُملة واحدة تكفي، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، هذا هو الإسلام.

وذهب إلى غفار، أتدرون متى ذهب إلى النبي أو عاد إلى النبي مرةً أُخرى؟ ليس في مكة، بل في المدينة، مضت الفترة المكية بطولها، وأبو ذر في قومه، الله أكبر! أبو ذر في قومه كل هذه الفترة، ثلاث عشرة سنة وهو في قومه، ومضت بدر، ومضت أُحد، ومضت الخندق، بإجماع مُؤرِّخي الصحابة وأصحاب التواريخ، وبعد الخندق جاء إلى الرسول ولازمه حتى تُوفيَ، صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه، روحي وأرواح العالمين له الفداء.

هذا أبو ذر، وأبو ذر كان عملاقاً، كان عملاقاً قبل أن يأتي وبعدما أتى، ما هو القدر الذي وعاه أبو ذر من الإسلام؟ انتبهوا! هذا سؤال خطير جداً وحرج، اليوم يُسلِم نمساوي أو أمريكي ويُحِب أن يتعلَّم الإسلام، يقول إذا أردت أن أتعلَّم الإسلام على التمام والكمال كما أحتاج؟ فنقول له تحتاج إلى سنين مُتطاوِلة، كل يوم تأتي وتجلس ست أو سبع ساعات بين يدي الشيخ، لابد أن تفعل هذا لسنين، فقه الطهارة يا أخي المُسلِم قد يتقاضاك خمسة أشهر، ليل نهار نتعلَّم ولن تفرغ منه، ما هذا؟ 

خطر لي بعدما استذكرت أمثولة أبي ذر الآتي، قد كنت أميل إلى تكذيب بعض الأحاديث والروايات التي تنسب الجهل بمسائل فقهية هي في نظر طويلب علم بسيط اليوم من بدائه العلم الشرعي، لكن هذه الروايات تنسب إلى بعض مشاهير الصحابة الجهل بها، لا يعرف هذا! لا يعرف أن الرضاع المُحرَّم – مثلاً – في سنتين، لا يعرف التيمم، بل لا يعرف مشروعية التيمم، لا يعرف مشروعية غسل الرجلين مثلاً، يأخذ بظاهر الآية وهو المسح، كما هو مذهب إخواننا الإمامية مثلاً، لا يعرف هذا! كيف هذا؟ ثم فهمت أن هذا ليس جهلاً، وليس كسلاً، ولكنه علامة الإمعان في العمل، لم يكونوا فارغين مثلنا، نحن وعلماؤنا – إلا مَن رحم الله – ناس فارغون، نُضيِّع أوقاتنا في تسويد البياض وتشقيق الكلام وتضييع الأوقات، ونزعم أن هذا هو الدين، الدين عمل، وأول العمل أن تتحد هذه الأمة.

رحمة الله على شيخنا محمد الغزّالي الذي آده وأثقل ظهره وأتعب ذهنه هذا اللغو المُتصِل الذي يفوه به العلماء وطلّاب العلم ليل نهار، والأمة محروبة والأمة منكودة والأمة شأنها شذر مذر، وقد تفرَّقت أيادي سبأ، لم يكن يفهم ما الذي دهى هذه الأمة، ألم تقرأوا الأعراف وطه؟ موضوع جدير بأن نُنعِم النظر فيه طويلاً، يعود كليم الله موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – إلى قومه مُعجَلاً ومُغضَباً بعدما أوحى الله إليه أن قومك قد اتخذوا العجل من بعدك، موسى كان في لقاء عُلوي صمداني، يتلقى كلمات الله في الألواح المكتوبة بخط القدرة، أخذ الألواح وعاد بها مُغضَباً أسفاً، يقول الرسول – في مُسنَد أحمد مُخرَّج – ليس الخبر كالعيان، بلا شك أنه غضب وأسف، لكن حين رأى العجل فعلاً يُعبَد من دون الله غضب أكثر، هذا – ما شاء الله – بعد أن شق الله لهم البحر اثني عشر شقاً، كل سبط يُريدون شقاً وحدهم بحيالهم، وها قد شُقَّ لهم اثنا عشر شقاً، رأوا المداهش والعجائب والمعاجز، لكن لا تُوجَد فائدة، عادوا، نبض لهم عرق قديم فعادوا إلى شركهم ووثنيتهم، فغضب موسى غضباً أشد مما كان، وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ۩، يقول الرسول ليس الخبر كالعيان، رأى! حين رأى الموضوع خطير جداً جداً غضب، أعجل يُعبَد من دون الله؟ أيحدث هذا بعد كل هذه الكرامات والمداهش والعجائب؟ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ – هارون عليه السلام – يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۩، قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ۩ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ۩، انتبهوا الآن! هذا أخطر ما في القصة، وهو يخدم موضوعنا خدمةً جُلى، أخطر ما في القصة! بماذا اعتذر هارون عليه السلام؟ وهل قُبِلت معذرته؟ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۩، عُذري: إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ۩، وقُبِل العُذر! هارون فهم أن جريمة تفريق الأمة ولو بسبب – ليس خطأ وإنما بسبب -شرك – ردة إلى الشرك والوثنية – قد تكون في المرحلة الراهنة وفي الظروف المنظورة والمُقدَّرة أخطر من الدفاع عن حياض التوحيد بتفريق الأمة، قال لا، لأتركهم، لأتركهم حتى تعود أنت، ونتعالج المسألة بطريقة أُخرى ومن زاوية أُخرى.

آية خطيرة جداً جداً، يا ليت يُقال لنا هذا الكلام دائماً! ونحن صغار لابد أن يُقال لنا إن الله يُسمي الفُرقة كفراً، الله – عز وجل – أشار وألمح إلى مقبولية عُذر هارون القائم على أن الفُرقة قد تكون أخطر من الردة، لأن الردة إذا لم تُعالَج بطريقة صحيحة قد تُؤدي إلي ردة أكبر منها أحياناً، إذن الوحدة أولوية، الوحدة دائماً لها أولوية، لا يُمكِن ولا يسوغ تأخيرها، لا يسوغ تأخير وحدة الأمة، لكن أين هذا؟ مَن يُفكِّر بهذه الطريقة؟ 

سأقول لكم شيئاً، أظن – والله تبارك وتعالى أعلم، وكذَّب الله ظني – أن مَن أكثر مَن سيُحارَب مثل هذه الدعوات ومثل هذه الأفكار – هل تعلمون مَن؟ – العلماء أنفسهم، علماء الشيعة وعلماء السُنة، علماء الزيدية وعلماء الإباضية، علماء الأمة سيُحارِبون هذه الأفكار، هل تعرفون لماذا؟ ببساطة – سأقولها ببساطة – العالم لابد أن يُقال له ينبغي أن تعتصم وأن تتمسَّك وأن تُمسِّك – وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ ۩، وأن تُمسِّك، أي تُمسِّك الآخرين – بماذا؟ بعزمات الدين وأصوله الأصيلة وأركانه الركينة، وهي محدودة ومعدودة، محدودة جداً ومعدودة جداً! لكنها معقد الولاء والبراء، ومعقد الكفر والإيمان، ما هي؟

عوداً على بدء، أول ما بدأنا هذه الخُطبة قلنا سبعمائة حقيقة قد تُفضي إلى سبعمائة ألف فرق أيضاً، إذن يبدو أن الحكاية ليست حكاية ابحث عن الفروقات الست أو ابحث عن الفروقات السبع، بالعكس! يبدو أن الحكاية ليست كذلك، حكاية الصبيان هذه، أعني حكاية صورتين وابحث عن الفروقات الست، لكن الحكاية كما خلقها الله – تبارك وتعالى – ابحث عن المشابه الست، ابحث عن المُشترَكات الست أو السبع، هذا هو الأخطر، هذا الذي يحتاج إلى ذكاء، أما إذا أردت أن تبحث عن الفروقات فسوف تجدها موجودة في كل مكان، إنها لقٍ، في كل مكان تُصيبها، ستُصيب آلاف الفروقات، وسوف تكون ناجحاً تماماً في تمزيق هذه الأمة أكثر وأكثر، هذا سوف تنجح فيه مائة في المائة، أنا أضمن لك هذا، لكن أن تبحث عن المشابه الست هذا الذي يحتاج إلى جُهد وإلى ذكاء وإلى توفيق إلهي وإلى بُعد عن الغرض والمرض والهوى والعصبية.

أما هذه المشابه الست في حالتنا نحن كمُسلِمين فهي معروفة، أركان الإيمان الست، وأركان الإيمان الخمس، وعزامات الدين، هذا حلال وهذا حرام، معروف! ما من مُسلِم إلا ويعرف أن القتل والسرقة والزنا والقذف والشذوذ – والعياذ بالله – وأكل مال اليتيم والربا وشرب الخمر وأمثال هذه المهالك والمتالف من المُحرَّمات، هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى غدا يعرفه غير المُسلِم، اليهود يعرفون هذا، والنصارى والبوذيون يعرفون أن الإسلام يُحرِّم هذا، يعرفون هذا، وأيضاً معاقد الأخلاق، مثل الرحمة، الشفقة، التعاون، بر الوالدين، الوفاء العهد، الأمانة، صدق الحديث واللهجة،كل هذا معروف عند جميع المُسلِمين، لا نحتاج إلى علماء يُذكِّروننا به.

لذلك جاء وابصة بن معبد إلى الرسول، وهنا برز علم من أعلام نبوته، عليه الصلاة وأفضل السلام، حين رآه قال له جئت تسأل؟ قال نعم يا رسول الله، قال جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال نعم، قال البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، في حديث النواس بن سمعان وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك، النبي يعرف أن البر كلمة جامعة، العربي والإنسان بفطرته يعرف ما هو البر، إنها كلمة جامعة لصنوف أفعال الخير، والإنسان بفطرته يعرف ما هو الخير وما هو الشر، يعرف! لا تقل لي يحتاج إلى نظرية عُليا كنظرية رالف بارتون بيري Ralph Barton Perry – مثلاً – في الأخلاق حتى يعرف أين الخير من الشر، هذا الكلام غير صحيح.

ودعونا من هرطقة التحسين والتقبيح العقليين والشرعيين، الإنسان يعرف هذا، يعرفه بفطرته، يعرف أن الكذب خصلة قبيحة، هو هكذا من حيث الأصل ومن حيث أتى، هناك استثناءات أحياناً يُقدِّرها الإنسان بحسب ظروفه، لكن الكذب من حيث أتى مقبحة، الصدق من حيث أتى منقبة، الإنسان يعرف هذا، وكذلك الحال مع قتل النفس، يعرف أن هذا مثلبة، شيئ غير طيب! حتى في الحروب الظالمة – كما ورد في إحدى الدراسات المُوثَّقة والعلمية – كحرب الأمريكان – مثلاً – ضد اليابان كان يحدث هذا، الجنود المُتعطِّشون للدماء والقتل كانوا لا ينظرون إلى الضحية، كان الجندي يضرب دائماً – بحسب ما قالوا – ولا ينظر إلى الضحية، بفطرته الإنسان لا يُحِب أن يقتل عيناً لعين، لأنه يعرف أن هذه مقبحة، أن هذه جريمة، وإن برَّرتها السياسة والمصالح طبعاً والأمر العسكري، لكن يعرف أنه يرتكب جريمة بمعنى ما، جريمة ولو نسبياً.

على كل حال فلابد أن نرد المُسلِمين إلى هذه المشابه المحدودة المعدودة والضيقة، لكنها هائلة الخطر والوزن والثقل، مُهِمة جداً جداً! وهنا أُحِب قبل أن أختم هذه الخُطبة أن أُذكِّر بأصل قرآني ونبوي أصيل، يتم كثيراً التغافل عنه، القرآن كما النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بشكل واضح أفهمنا أن مَن أراد الخير ولم يُصِبه لخطئه في الاجتهاد والتأويل لا حرج عليه إن شاء الله تعالى، الحرج عند الله ذي الرحمة الواسعة على مَن؟ على الذين: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۩، لماذا؟ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۩، أي المصالح! الحرج على أستاذ في الشريعة أو الأصول يُدرِّس كتاباً ألَّفه قبل ثلاثين سنة، يُمزِّق وحدة المُسلِمين باسم العقيدة وتحقيق مسائل العقيدة مثلاً، ثم هو بعد ثلاثين سنة – وقد نضج قليلاً أو كثيراً – صار يعرف أن هذه المسائل ما ينبغي أن تكون معقد إيمان وكفر أبداً، ليست هذه المسائل، لكن يمنعه من هذا أكل العيش، لو قال هذا سيُلغى كتابه وربما يُلغى هو أصلاً من الوظيفة ومن التدريس، فلذلك هو يسكت ويتراجع، لا يهم! ما هذا؟ أنت من الذين: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ۩، أنت مِمَن يكذب على الله ورسوله والعياذ بالله، أنت عود لهذه الأمة من حيث تُظهِر أنك زعيم من زعمائها وعلم من أعلام علمائها، كلا! أنت من أعداء هذه الأمة، عليك أن تصدح بالحق إذا ظهر لك، وأن تكون شجاعاً، وأن يكون الحق آثر عندك من نفسك ومن وظيفتك ومن كل شيئ، لكن أكل العيش!

القرآن الكريم يقول بشكل واضح وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۩، في الأحزاب! القرآن يقول وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا ۩… في مسألة قتل ماذا قال؟ مُّتَعَمِّدًا ۩، إذن مسألة العمد، النية، سبق الإصرار، ليس الخطأ، قبلها ذكر وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ۩… وأتى بالجزاء والكفّارة، لكن الذي يقتل مُتعمِّداً هذا وضعه خطير جداً جداً، الذي يكفر مُتعمِّداً وضعه خطير، أنت تُكفِّره طبعاً، هو لا يكفر بالنية، هذا وضعه مقبول، أما الذي يكفر مُتعمِّداً – والعياذ بالله هذا الذي يحكم على نفسه بالكفر، هو سجَّل الكفر على نفسه – فهذا هالك لا محالة، قال فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ۩… ماذا؟ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ﻹِثْمٍ ۩، أما إن تجانف لإثم انتهى أمره، مُؤاخَذ عند الله بحسب جرمه، إنما الأعمال بالنيات، مرة أُخرى!

أوضح دليل كما قال العلّامة محمد بن إبراهيم الوزير اليماني في العواصم والقواصم – قدَّس الله سره الكريم – هو الآتي، أوضح دليل وأخطره من سُنة المُصطفى في هذه القضية الحديث المُخرَّج في الصحيحين، حديث الرجل الجاهل، في حديث حُذيفة كان هذا الرجل نبّاشاً، أي نبّاش قبور، جريمة من أعتى وأقبح الجرائم، كان خالياً من الخير، مُسرِفاً على نفسه، لم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا احتقبها وارتكبها، ولكن لما احتُضِر – حضرته الوفاة – أوصى أولاده، قال يا ابنائي أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا خير أب وأحسنه، قال فوصاتي أو وصيتي إليكم إذا أنا مِت – ويعرف أنه سيموت، قال إذا أنا مِت، وقد أشفى على الموت – فخذوني ثم احرقوني ثم اطحنوني أو اصحنوني ثم ذروني في الريح، فلئن قدر الله علىّ ليُعذِّبني عذاباً شديداً، يجهل أن الله سيقدر عليه، يجهل! هل هو كافر وزنديق؟ لا، ليس كافراً، هو مرحوم – إن شاء الله – بخبر رسول الله، لماذا؟ لأنه يُؤمِن بلا إله إلا الله وبلقاء الله، يعلم أنه سيلقى الله، يعلم المسكين، لكن جهله زيَّن له أنه يحتال على الله ليفر من قدرته، جاهل لا يعرف، لا يعرف أن هذا داخل المُمكِنات، هذا مُمكِن لله، ولا شيئ هذا، وفعلاً – والحديث صحيح – فعلوا مثلما أوصى به، فأمر الله البر والبحر، فاجتمعت ذرات بدنه مُباشَرةً، فإذا به إنساناً سوياً قائماً على رجلين، مُصيبة! فخاطبه الله، عبدي ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال خشيتك، قال وتخشاني؟ أي هل تُؤمِن بي أنت؟ طبعاً أؤمِن، قال وتخشاني؟ قال نعم، قال اذهب فقد غفرت لك، الله أكبر يا أخي، الله أكبر على الجهل، الله أكبر على العصبية والهوى والغرض والمرض، الله أكبر على التزيد في دين الله!

أحد إخواننا المُبارَكين – إن شاء الله – سرَّ خاطري – والله – وأثلج فؤادي وصدري في الدرس الأخير، قال لي رأيت رؤيا، أُحِب أن أقصها عليك، قلت هات، قال رأيت ملكين يختصمان في مسألة علمية نظرية عقدية، هل يغفر الله الذنوب كل الذنوب؟ طبعاً هناك شروط، أحدهم قال نعم، والآخر يُناقِش، قال وإذا بي أسمع صوتاً – قيل له إنه صوت الرب لا إله إلا هو – يُريد أن يحكم بينهما، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ۩، تختصم الملائكة! انظر إلى هذا، حتى الملائكة تختصم وتختلف، لكن الخلاف لا يُفسِد للود – عند العقلاء وعند النُزهاء في القصد والعزيمة – قضيةً، قال يُريد أن يحكم بينهما، قال نعم أنا أغفر الذنوب لمَن يعلم ويُؤمِن أني أغفر الذنوب جميعاً، الله أكبر! قلت له يا أخي بارك الله فيك، رؤياك – إن شاء الله – أو على الأقل ما فيها – مضمونها ومشمولاتها – حق، لماذا؟ لحديث عائشة في صحيح مُسلِم، ذكَّرته بالحديث! قالت يا رسول الله عبد الله بن جدعان كان في الجاهلية يُكرِم الضيفان، يُصلِح بين الناس، يعمل أشياء كثيرة، ويتحمَّل حمالات – لو هناك إنسان يُريد ضمانة أو إنسان عليه دية أو عاقلة أو أرش، ولا يستطيع أن يدفع، يقوم هو ويدفع، أي هذه أفعال خيّرة ومُمتازة -، هل ينفعه هذا عند الله؟ فقال لا، إنه لم يقل يوماً وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ۩، لو كان يطمع لغفر الله له، فاستبشر أخونا لأن هذا يُؤيِّد ما قاله، لو كان ابن جدعان يقول أنا أُؤمِن بالله وأطمع أن يغفر لي لغفر الله، الله أكبر يا إخواني! فكيف بمُسلِم صباح مساء يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ويستقبل قبلتنا ويحج كعبتنا ويأكل ذبيحتنا ويقرأ كتابنا ويُصلي خمسنا ويُؤدي زكاتنا وفرضنا ويصوم شهرنا؟ ماذا نُريد أكثر؟ 

الحل في كلمة واحدة، اجعلوا القرآن إمامك وخلوه دائماً أمامكم، واتركونا من المرويات التي تُمزِّق الأمة، صدِّقوني – وسأقولها كلمة على سواء – لا يعنيني مرويات السُنة ولا مرويات الشيعة أيضاً ولا مرويات الزيدية ولا الإباضية، اتركوا كل هذا، كتاب الله قال الله فيه مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩، قال الله فيه – في ثاني سوره وأطولها – هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۩، كيف جعلناه مضلة؟ كيف جعلناه مضلة؟ لأننا لم نكتف به.

قال لي إحد إخواني ولكن القرآن حمّال أوجه، قال هذا في الدرس السابق بارك الله فيه، فقلت له حمّال أوجه ليس في القطعيات، حمّال أوجه في الظنيات، وهي ليست معقد إيمان وكفر، فقال نعم، مُستحيل أن القرآن حمّال أوجه في أنه لا إله إلا الله، هل هذا حمّال أوجه عند المُسلِمين؟ كل المُسلِمين – مُعتزِلة، خوارج، شيعة، سُنة، وإباضية، إلى آخره – يُؤمِنون بأنه لا إله إلا الله، تقول لي ولكن عندهم مذاهب مُختلِفة في الأسماء والصفات، أقول ما قاله الشيخ العنبري، رحمة الله تعالى عليه، وهو من علماء هذه الأمة والأسلاف، قال هؤلاء عظَّموا الله، وهؤلاء نزَّهوا الله، ما أحسن نظره! أراد أن ينظر إلى الإيجابي عند كل قوم، المُعتزِلة – مثلاً – قالوا ما قالوه عن الأفعال، وبالمُناسَبة لم يُعبِّروا مرة واحدة بخلق الأفعال، وهذا من كذبنا عليهم، كذبنا عليهم للأسف، لن تجد في كتاب مُعتزِلي التعبير بخلق الأفعال، ولذلك أنا أقول دائماً وأنا جريء في هذه الأشياء – أعوذ بالله من الجرأة بالباطل – لم أجد فرقة من الفرق – لا أهل السُنة ولا الشيعة ولا الإباضية ولا المُعتزِلة – تصدق تماماً في كل ما تنقله عن أخصامها، ولا فرقة! وأنا أعرف ماذا أقول وعندي آلاف الأدلة، مُستحيل للأسف الشديد! كل كتابنا يقولون – من شيعة وسُنة – إن المُعتزِلة يقولون بخلق الأفعال، لن تجد هذا التعبير عندهم، والآن سيُصدَم كل طالب علم فيكم، يقول حقاً؟ أقول له حقاً، واذهب إلى كُتبهم، لن تجد في أي كتاب مُعتزِلي التعبير بخلق الأفعال، للأسف أحببنا أن نكذب عليهم، حتى يتزيَّن لنا تكفيرهم، حتى يقول بعض ذلك عالم سُني أو شيعي المُشرِكون أثبتوا آلهة معدودة أما المُعتزِلة فأثبتوا شركاء للخالق غير معدودين بعدد الفاعلين من البشر، ما هذا الكلام الفارغ؟ ما هذا الكلام؟ المُعتزِلة مُوحِّدون مُنزِّهون، وفيهم علماء أتقياء وأولياء صُلّاح كبار، على كل حال لم يبق الآن مُعتزِلة، رحمة الله عليهم جميعاً.

على ذكر المُعتزِلة أُحِب أن أُذكِّركم بمذهب الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني ومذهب المُعتزِلي – شيخ أهل الاعتزال في وقته – أبي عليّ الجبائي، انتبهوا، ما أحسن هذا المذهب! عمِّموه، هذا أفضل وأرحم وأليق برحمة الله، مذهبهم ثلاثتهم أن مَن لفظ لفظة مُكفِّرة – أن مَن فاه بألفاظ الكفر – وهو غير عالم أنها مُكفِّرة فليس بكافر، وهذا هو الحق.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن تتسع منادح النظر وأن تتسع الصدور بالحق وأن تكون به مشروحة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                      (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة، والسراج المُنير، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة والأخوات:

إلى مَن نتوجَّه بهذا الكلام؟ أإلى الحكّام؟ كلا، الحكّام عندهم أجندات مصلحية وسياسية، لا يستطيعون بل لا يُحِبون أن يُجاوِزوها، فلا! نتوجَّه بهذا الكلام إلى طلّاب العلم وإلى العلماء، ولهم موقف عظيم بين يدي رب العالمين يوم القيامة، عن هذه الرسالة، عن هذا الدين، عن هذا الكتاب، وعن هذه الأمة، تخيَّلوا – وبها أختم – لو أن علماءنا وخُطباءنا ومُدرِّسينا في الجامعات وفي المدارس وفي المساجد دأبوا ومرنوا على أن يُكرِّروا مثل هذا الكلام للأمة، يقولون أمة واحدة، أركان إيمان مُوحَّدة، أركان إسلام موجودة، عزامات الدين والمعلوم من الدين بالضرورة مُتفَق عليه، أمة واحدة، اعتصموا بكتابكم ودعوا المُغالاة في مروياتكم، هناك روايات عند الشيعة وروايات عند السُنة، لا نُريدها، أنا أقول لكم لا نُريدها، القرآن يكفينا، والله يكفينا، والله يكفينا، لأن هذه المرويات – أنا أقول لك بصراحة – شأنها كالآتي، قد يكبر هذا على أخي الشيعي، ويكبر هذا على أخي السُني، لكنني سأقول له نعم مروياتك عند أخيك الشيعي غير مقبولة، مطعونة، وأحياناً الطعن يتوجَّه، هناك أشياء معقولة، أنت تروي عن أُناس عندهم مواقف عجيبة يا أخي، وهو أيضاً يروي عن أُناس عنده مواقف عجيبة، أي الشيعي، لماذا أقبلها؟ مُشكِلة كبيرة جداً جداً، فهل يتركنا الله في عماية؟ هل يتركنا الله في حيرة وتردد وتهوك؟ حاشا لله، وقد قال مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۩، فلا تزيدوا على ما في كتاب الله في باب العقائد، لا تزيدوا ولا تتزيدوا في الدين.

نسأل الله أن نكون مُتبِعين بهذا المعنى، لأن هناك اتباعاً بمعنى آخر طبعاً هو الذي شق الأمة، نسأل أن نكون مُتبِعين بهذا المعنى، غير مُبتدِعين.

اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا، وأن ترحمنا وترحم بنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين.

اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم انصر دينك وكتابك وسُنة نبيك، اللهم أصلِح ذات بين المُسلِمين، وألِّف بين قلوبهم، وأنزل عليهم السكينة والروح والرضوان، يا رب العالمين، اللهم جنِّبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، يا ولي كل نعمة، يا صاحب كل فضل.

اللهم إنا نقول هذا القول ونستغفرك لكل ذنبنا، ما علمنا منه وما لم نعلم، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(13/4/2007)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: