إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ۩ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ۩ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ۩ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، في ذكرى ميلاده – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، في ذكرى ميلاد الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة والسراج المُنير، يجدر بنا – أيها الإخوة والأخوات – أن نتعمَّق هذه الغاية، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، ليس لعالم بل لِّلْعَالَمِينَ ۩، لمجموع العوالم، يبدو ما ظهر منها وما استتر، ما استبان منها وما اختفى، هو رحمةٌ – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم –  لِّلْعَالَمِينَ ۩، ولا جرم!

ليس عجباً أن يكون ختام الأنبياء والمُرسَلين رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – ما خلق العالمين إلا رحمةً وإلا بالرحمة، وما يُديمها وما يُمسِكها وما يرعاها وما يُدبِّرها وما يُصرِّفها إلا برحمته، مما يعني بعبارة أُخرى أن كينونة كل شيئ هي تجلٍ لرحمة الله، هي من رحمة الله، ذاتية، كيانية أو كينونة، وشيئية كل شيئ هي من رحمة الله، وهذا معنى قوله – تبارك وتعالى – الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ۩، من عرشها إلى فرشها – من عرش الموجودات إلى فرشها – هي كلها تجلٍ لرحمة الله، لأن الله – تبارك وتعالى – أخبر عن نفسه أنه رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۩، قال الرَّحْمَٰنِ ۩، أكبر تجلٍ له، لا إله إلا هو! أكبر تجليات الله هي الرحمانية.

ولذلك لا جرم أن تبدأ سور القرآن العظيم المائة والأربع عشرة سورة دائماً وباستمرار بهذا العنوان: بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لقد ذُكِرت الرحمة ومُشتَقاتها في كتاب الله في زُهاء مائتي موضع، وبالإزاء لم يُذكَر الغضب والنقمة إلا في سبعة عشر موضعاً فقط، أقل من العُشر، فهل يجوز وهل يجمل وهل يحسن وهل يصح وهل يُعقَل وهل يُقبَل أن تُبلوَر صورة لله تبارك وتعالى – صورة اعتقادية لله أو إيمانية لله – تجعله جبّاراً ومُنتقِباً وغاضباً ومُتسلِّطاً وقهّاراً لعباده وبخلقه وعلى خلقه أكثر منه رحمن رحيماً؟ خطأ! خطأ بالغ، وهذا الذي يحدث، لأول مرة أتنبَّه وأنا أتلو عليكم مُقدِمة الخُطبة – وتعمَّدت أن أقول أتلو، لأن هذا مما يُحفَظ، هذا تحفظناه صغاراً ونُردِّده كباراً – إلى أنني أقول عباد الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، أين البشارة؟ كان من المفروض أن أقول أُبشِّركم ونفسي بعاقبة طاعته تبارك وتعالى، وأُحذِّركم بعد ذلك، لكن هذا لا يحدث، أقول أُوصيكم، أما مع المعصية فأقول وأُحذِّركم، هنا يُغلَّب خطاب المقهورية، خطاب المُحاذَرة، خطاب الغضب، وخطاب الإنذار، على خطاب البشارة، هل رُكِّب عقلنا الثقافي وهل صيغت ثقافتا في أزمان مُعيَّنة وفي ظروف مُعيَّنة بأعيانها هذه الصياغة المُختَلة التي لا تتناغم مع القرآن العظيم؟ القرآن يذكر الله بالرحمة، بالرحمانية، وبالرحيمية في زُهاء مائتي موضع، ولا يذكره بالغضب والانتقام – الغضب العادل والانتقام المحسوب العادل أيضاً – إلا في سبعة عشر موضعاً، لكننا عكسنا الآية، وعكسنا الصورة تماماً، فلنتعمَّق قليلاً رحمانية الله، والموضوع حسّاس وجد، الموضوع جد! لأنه سيُؤثِّر على رؤيتنا لأنفسنا، على رؤيتنا لمصائرنا، على مسالكنا، وعلى طرائق التعاطي مع قضايا الدين والحياة، مع الناس، مع الآخرين، ومع المُوالي في المِلة والمُخالِف في الاعتقاد أيضاً، كيف؟ على نحو مُبسَّط جداً.

يقول علماء وظائف الأعضاء وأطباء العيون بالذات إن الرؤية المُحيطية – أي الــ Peripheral vision – دائماً هي التي تُحكَّم وتُحدِّد الرؤية البؤرية، كل طبيب عيون يفهم تماماً ماذا أُريد، كذلك نقول بلُغة سهلة إن الرؤية الشاملة للوجود ستُؤثِّر علينا، وفي أعلى هذا الوجود الله، تصنيفاً فقط، لا وجوداً، لأن الله قبل كل شيئ وبعد كل شيئ وفوق كل شيئ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، أول بلا أولية، آخر بلا آخرية، لا إله إلا هو! لكن تصنيفاً، من باب مُقتضيات التصنيف الفلسفي والعلمي والعقلي في هذه المسألة، في أعلى السلم أو في أعلى الهرم رب الوجود، لا إله إلا هو، رب الوجود! هذه الرؤية الكونية وهذه الصورة الاعتقادية الإيمانية ستُؤثِّر بعد ذلك وتُلقي بظلالها على كل أفكارنا، على كل سلوكاتنا، وعلى كل انطباعاتنا، فمَن انطلق من فرضية أو مُسلَّمة – ربما تكون عنده مُسلَّمة – أن الله جبّار أكثر منه رحمن رحيماً – لا إله إلا هو – فإنه سوف يتسم بشيئ من الفظاظة، بشيئ من الغِلظة، وبشيئ من القسوة، مع نفسه أولاً ومع الناس، وهل بعد التخلق بأخلاق الله تخلق؟ نحن مأمورون أن نتخلَّق بأخلاق الرب، لا إله إلا هو! كل الأديان التوحيدية تأمر أتباعها أن يتخلَّقوا بأخلاق الرب، فإذا غلب على هذا الرب أن يكون مُتسلِّطاً قهّاراً جبّاراً – لا إله إلا هو – أكثر منه رحمن رحيماً فلنكن صورة أُخرى في أخلاقنا، صورة أُخرى مُقابِلة! فلذلك يغلب علينا الفظاظة والقسوة والغِلظة، الأمر الذي سيُؤثِّر بدوره على موقف الناس، سيُجابِهون فظاظة بفظاظة وقسوة بقسوة وغِلظة بغِلظة، ثم سنتأثَّر في المرحلة الثالثة مُعزِّزين هذه الصورة، حقاً الكون هكذا، الدنيا هكذا، حقاً الله – عز وجل – هكذا كما نعتقد، وهكذا تكتمل الدائرة لنعود ننظر إلى الرب – لا إله إلا هو – مُنتهىً كما نظرنا إليه مُبتدأً بنظّارة المرارة، بنظّارة مرارتنا! لأننا نتعانى تجارب مريرة مع أنفسنا، مع أقدارنا، مع القدر، ومع الناس أيضاً، تُؤكِّد أن القسوة أغلب، تُؤكِّد أن هذه الحياة تحتاج إلى صبر أكثر مما تحتاج إلى شكر، وهذا غير صحيح، وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۩، ليس في القرآن آية واحدة وإن تعدوا مصائب الله لا تحصوها، بالعكس! في القرآن وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۩، ليس هناك آية وإن تعدوا مُصيبات الله لا تحصوها، لكن هناك آية تقول وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۩، وآية تقول وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۩، في موضعين: في إبراهيم والنحل، وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ ۩، هكذا! نِعْمَةَ اللَّهِ ۩ وليس مصائب الله تبارك وتعالى، لكن وفق هذه النظرية لا يحدث هذا، فتغدو هذه الحياة تحتاج إلى صبر أكثر مما تحتاج إلى شكر.

فهكذا ننظر بنمنظار أو بنظّارة المرارة والمُعاناة إلى الرب، لا إله إلا هو! لنجده – والعياذ بالله، أعوذ بالله من زلات اللسان وزلقات الجنان – أضيق للأسف وأكثر محدودية مما هو، لا إله إلا هو! كيف هو؟ لا أحد يُدرِك أصلاً، سعة الله – تبارك وتعالى – وإطلاقية الله لا أحد يُدرِكها، لا نبي مُرسَل، ولا ملك مُقرَّب، ولا عارف مُتيَّم بحُب الله، لكن مُتفاوِتون، فمُقترِب ومُبتعِد، ولعل الإشارة تمت إلى هذا المعنى الخطير جداً في الحديث الصحيح: إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، لماذا يا رسول الله؟ لماذا لم تقل إنها مائة اسم؟ طبعاً في الحقيقة هي أكثر من هذا بكثير، أسماء الله لا تُعَد ولا تُحصى بالنسبة إلينا كبشر، ولذلك النبي قال في حديث النسائي – وأظنه عنده أحمد على ما أذكر أيضاً، أي هذا الحديث المشهور – أو استأثرت به في علم الغيب عندك، وهناك أسماء علَّمها الله بعض أوليائه من أنبيائه وخواص عارفيه، أو علَّمته أحداً من خلقك، ولم تُعلِّمه كل أحد! أو استأثرت به في علم الغيب عندك، هناك أسماء لا يطلع عليها كل الناس، يطلع عليها بعض الناس دون بعض، وهناك أسماء لا يطلع عليها أحد إلا الله، لا إله إلا هو! استأثر بها، لكن لماذا الإشارة العجيبة؟ لماذا قال إن لله تسعة وتسعين اسماً؟ في معنى المائة التمامية، لو قال إن لله مائة اسم لتم الأمر، إذن يُمكِن بطريقة ما أن يُدرَك الله تماماً، غير صحيح! هذه الواحدة الناقصة هي الناقصة أيضاً في مسبحة الصوفي والذاكر والعابد، إنها مسبحة تحتوي على تسع وتسعين حبة، وليس على مائة حبة، لتدل على أن هناك ما سيبقى مجهولاً دائماً، الله لن يُدرَك تماماً، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، إنه فوق أن يُدرِكه العقل إدراكاً تاماً أو تُدرِكه الروح وتناله نولاً أو نوالاً تاماً، مُستحيل هذا، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩، فهذه هي الإشارة، والله أعلم! إن لله تسعة وتسعين اسماً، لا إله إلا هو!

أيها الإخوة:

هذا الكون كله موجود برحمة الله وقائم ومُستمِر ومُمتَد برحمة الله، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ۩، لا إله إلا هو! طبعاً كما يمكث هذا الكون أيضاً بحلم الله ومغفرته ورحمته يمكث هذا الإنسان المُلحِد المُجدِّف الكافر المُنكِر الجاحد، لماذا؟ لماذا يبقى وهو كافر؟ لماذا يبقى ويستمر ويمتد ويغتذي وهو جاحد؟ ببساطة لأن الله رحمن، واسمعوا الآيات العجيبة، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ… ۩، هل قال للمُنتقِم عصياً؟ كلا، إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا ۩، انظر إلى القرآن الكريم، إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ ۩، الشيطان له كينونة ويُوجَد ويمتد فقط لأن الذي يعصيه هو الرحمن، لا إله إلا هو! لو كان يعصي الجبّار الآن لانتهى – أي الشيطان – في لحظة، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ…۩، اتَّخَذَ ۩ مَن؟ الرَّحْمَٰنُ ۩، يُجدِّفون ويُهرطِقون، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۩، إذن الرَّحْمَٰنُ ۩، لذلك هم يبقون كما تبقى الجبال وكما تبقى الأرض مُتماسِكة، لأن الجبال باقية والأرض مُمتماسِكة برحمة الله، وهم على تجديفهم وكفرهم يبقون برحمة الله، وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۩ لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۩ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ۩ أَن دَعَوْا – وكرة أُخرى – لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ۩، الله أكبر! سُبحان مَن هذا كلامه، حين يُفهَم نراه غضاً طرياً، حين يُفهَم ولو بعض فهم نراه كأنه يتنزَّل علينا، كما قال والد محمد إقبال له، قال محمد إقبال كنت أقرأ القرآن بين يديه كل صباح بعد صلاة الفجر سنتين – ذكرتها مرة، هكذا المُربي وهكذا التربية – وهو يستمع إلىّ ثم يهز رأسه، أي والد الفيلسوف والصوفي والشاعر الكبير محمد إقبال – قدَّس الله سره الكريم – يهز رأسه، قال بعد سنتين قال يا بُني أسمعك مُنذ سنتين تُرتِّل القرآن وهذا لا يُعجِبني، قلت لماذا يا أبتِ؟ قال رتِّل القرآن إذا رتَّلته وكأنما أُنزِل عليك، أنت المُخاطَب به، القرآن يتوجَّه إليك، إن قرأته هكذا ستفهمه، إن لم تقرأه هكذا لن تفهم منه شيئاً، الآن حتى حين تستمع تشعر أنهم إنما يقرأون إما لإظهار إمكانات صوتية وإما لعد الصفحات،  حتى ينتهي الواحد منهم من الجُزء، قد أتم الجُزء التاسع والعشرين وبقيَ الثلاثون ثم يعود وهكذا، يحسب! عنده عدّاد وحسّاب، يحسب فقط هو، هذه ليست القراءة، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۩، قال اقرأ القرآن وكأنما عليك أُنزِل.

وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ  ۩، الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ۩ مَن؟ الرَّحْمَنِ ۩، واتهموا هذا الرحمن أنه اتخذ من الملائكة إِنَاثًا ۩، ولذلك أبقاهم لأنه رحمن، لأنه رحمن، لا إله إلا هو! فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ۩، الله أكبر! ولذلك سيُخلي بينكم وبين أن تعيشوا، عبدي لي عليك فريضة ولك علىّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالِفك في رزقك، لماذا؟ لأنك أنت الجحود الكافر، أما أنا فأنا المُعطي الشاكر، لا إله إلا هو! أنت ستُخالِف وحتماً ستُخالِف، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالِفك في رزقك، لماذا؟ لأنه رحمن، لا إله إلا هو! وبهذه الرحمانية أوجد هذا الوجود، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، إذن هذه علاقة الوجود بالرحمانية.

أيها الإخوة:

هذه الرحمانية وهذه الرحمة أوجدت الوجود الوسيع من عرشه إلى فرشه، إدراكها أيضاً على أي نحو ضاق أو اتسع كفيل بأن يُوسِّع الكون أو يُضيِّقه، فكِّر طويلاً في هذه الجُملة، سترى العالم وسيعاً جداً جداً جداً بمقدار ما تتعمَّق رحمة الله، سترى العالم ضيقاً جداً جداً جداً بمقدار ما تعمى عن مُلاحَظة رحمانية الله، الرحمة أوجدت الوجود، إدراك الرحمة كفيل بتوسيع الوجود، ما معنى توسيع الوجود؟ أن نراه بسعته أو بما يُقارِب سعته، لأنه صعب أن نراه بسعته الحقيقية، العالم أوسع مما نظن بكثير، والجود والكرم أوسع دائرةً مما نخال بكثير، بكثير!

حافظ – وهو حافظ الشيرازي قدَّس الله سره – قال مرةً إن نظرت إلى هذا الإله العظيم – إن نظرت إلى الله – في مرآة الكون سوف ترى ثُغرات كثيرة، ما يُسميه بعض فلاسفة الغرب إله الثُغرات، مثل إله نيوتن Newton، إله الثُغرات! هناك ثُغرات في الكون، هناك أشياء غير مضبوطة وغير مُسيَّرة بدقة، ولذلك لابد أن يتدخَّل العقل الفيزيائي وعقل الفيلسوف لكي يسد هذه الثُغرات، كلام فارغ! الثُغرات في عقولنا، الثُغرات في تفكيرنا، في فلسفاتنا، في مناهجنا، وفي أنماط إدراكنا للوجود، كلام فارغ! لا يُوجَد إله ثُغرات، يُوجَد عقل ثُغرات، ما هذا الجحود؟ ما هذا الغرور الإنساني؟ هل الثُغرات في الإله وليست في عقلك؟ ثم يُزعَم أنه ضرب من الإيمان، ضرب من ضروب الإيمان! إيمان ماذا؟ كلام فارغ، فإن نظرت إلى الله في مرآة الكون وجدته إله النقص، إله الثُغرات! هناك نقص، هناك ثُغرات، هناك مظاهر غير معقولة وبالتالي غير مقبولة في الكون، أما إن نظرت إلى الكون في مرآة الله فسوف ترى الكمال والتمام، وسوف تصيح مع أبي حامد – قدَّس الله سره – ليس في الإمكان أبدع مما كان، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، تقول هذه مُصادَرة على المطلوب، كلام فارغ يُقنِع المِليين من أمثالكم، لكن لا يُقنِع العقل العلمي والعقل المُتحرِّر، لكن هذا غير صحيح، بالعكس! هذا كلام عميق وعميق جداً، لكن مُؤسَّس على بعض الحقائق، ما معنى هذا؟

معنى هذا وباختصار أنه لكي نعرف الله لابد أن يتعرَّف الله إلينا، لن نستطيع عبر هذا الكون وحده وعبر هذا العقل المُجرَّد وحده أن نعرف الله حقاً، مُستحيل! ولذلك ما يُعرَف بالدين الطبيعي وبالإله الطبيعي – دين بلا وحي وإله بلا وحي وبلا اتصال – كلام فارغ، مع العلم بأن هذا انتهى بهم إلى الإلحاد، كل الذين بدأوا بالربوبية – هذا اسمه مذهب الربوبية، لديهم في الغرب، ليست كالربوبية القرآنية، مذهب الربوبية، مذهب الدين الطبيعي، دين بلا وحي وإله بلا اتصال – انتهوا إلى الإلحاد والجحود، وهذه نتيجة طبيعية ومفهومة تماماً!

أقول إذا أردنا أن نتعرَّف وأن نبني صورة لله – تبارك وتعالى – بتأمل الكون مُجرَّداً وحده بغير وحي وبغير أن يتعرَّف الله إلينا سوف نقع في شرك لا نهاية له، ستتعدَّد الآلة بتعدد عقولنا، كلٌ منا سيكون له إله، أكثر من إله حقيقةً! سيكون عدد الآلهة بعدد تطوراتنا الفكرية، بعد كل خمس أو ست سنوات سوف تتطوَّر وتخلق إلهاً جديداً وتُبلوِر إلهاً جديداً وتمحو إلهاً جديداً وتُثبِت إلهاً جديداً، كلام فارغ! تماماً كما قيل في فلسفة الإنجليزي المُلحِد برتراند راسل Bertrand Russell إذا أردت أن تفهم أي موضوع وتفهم رأي برتراند راسل Bertrand Russell فيه فعليك أن تنظر إلى الساعة، لماذا؟ عليك أن تنظر في أي وقت كتب راسل Russell هذا البحث، لأنه كان يتطوَّر فكرياً بشكل عجيب، دائماً يتطوَّر ويتناسخ فكرياً، لذلك آراؤه فيها تناقض وفيها تضاد ومُشاكَسة كبيرة جداً، فإذا أردت أن تقف على جلية رأيه في موضوع مُعيَّن – أي موضوع – لابد أن تنظر في الساعة، متى كتب هذا البحث؟ وهكذا إذا أردنا أن نعرف عدد الآلهة، لابد أن نُحصي عدد البشر دائماً وعدد التطورات المُحتمَلة التي يمر بها كل كائن بشري، وهذا عدد الآلهة، إذن هذه ليست آلهة، هذا عبث! كل شيئ يُمكِن أن يكون إلهاً بالتالي.

الفرضية أن الإله واحد، حتى يُمكِن أن أتحد أنا – أنا أُصبِح واحداً – وأن أُدرِك الكون على أنه وحدة، بالمُناسَبة اللُغات لها مهاد ديني عريق، ذكرنا قبل أسابيع أن كلمة Religion – أي دين – معناها إعادة الوصل أو إعادة الاتصال، وهذا إيحاء مُمتاز، كلمة Universe معناها اتحاد الرواية، Uni من توحيد، من Unification، أي توحيد، إذن Uni أُضيف إليها Verse وهي تعني رواية وآية، أي توحيد الآية وتوحيد الرواية، وهذا يتطابق مع القرآن بشكل مُطلَق، كل ما في الوجود شاهد على أنه صنعة إله واحد، يشي بقدرة وببداعة إله واحد، أليس كذلك؟ هذا ما يُعرَف لدى العُرفاء بوحدة الشهود.
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ                                            تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ.

سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا ۩، إذن توحيد الرواية Universe، مُمتاز! هذا هو الأساس الديني للُغات حتى عند البشر، نستخدم ونغفل عن الأساس، وهذا حق! لكن مع هذه الآية المُتكثِّرة هل يكون الــ Universe فعلاً Universe؟ لا، سيكون Multiverse، لن يكون هناك Universe، سيكون هناك Multi Multi Multi إلى ما لا نهاية Verses، روايات كثيرة جداً جداً، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۩، في الآية الأُخرى قال إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۩، لكن الكون لا يقول هذا، الكون يقول إنه مُتسِق ومُنتظِم ومُدبَّر بتدبير واحد، فلابد من توحيد الرواية، لابد أن يتوحَّد الكون حتى أتوحَّد أنا، ولن يتوحَّد الكون حتى أتوحَّد أنا قبل في إدراكه، جدلية! علاقة ديالكتيكية، أي جدلية! كيف أتوحَّد أنا؟ فقط عبر منفذ واحد، الوحي الإلهي! ولذلك قال وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ۩، لذلك تعرَّف إلينا، لا إله إلا هو! من هنا هو امتنّ علينا عز وجل، والله لا أقول قصَّر الطريق بل دلنا على الطريق، لأنه بغير هذه الدلالة لن نتعرَّف طريقاً، سوف نقع في تكثر لا نهائي، سوف نكون ضحايا الشركية وصنوف الوثنية المُتعدِّدة.

لذلك في موضوع الرحمانية – وهي أعظم تجلٍ في عالم الخلق – كل كينونة الأشياء هي من رحمانية الله تبارك وتعالى، ماذا قال؟ فكِّروا في هذه الآية العجيبة، قال نَبِّئْ عِبَادِي ۩، الله أكبر! أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩، كأنه يقول بلا وسطة النبوة وبلا وسطة الوحي لن يُدرِك العباد هذه الحقيقة الإلهية التعرفية، لن تُدرَك! صعب جداً، صعب أن تُدرِك مدى سعة هذا الوجود، لأنك لن تُدرِك مدى رحمانية الله الفائضة في هذا الوجود، المُؤسِّسة لهذا الوجود، المُمسِكة، المُدبِّرة، والمُمِدة لهذا الوجود، لن تُدرِك! ستُدرِك أنت – كما قلنا – بالطريقة الأُخرى الله في صورة الكون، في مرآة الكون! ولن تُدرِك هذا، سوف ترى الأمراض، الأوجاع، المُعوَّقين، الحروب، القتل، النفي، السجون، الآهات، العذابات، المرائر، الألاقي، والمصائب، وسوف تقول أين؟ أين الرحمة؟ لا تُوجَد رحمة! لكن الله قال لك هذا ما لم يُنل بالعقل المُجرَّد فافهم، أنا سأتعرَّف إليك، نَبِّئْ عِبَادِي ۩، نبّئهم يا صفوتنا، يا حبيبنا، ويا خيرتنا من خلقنا، أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَاب الْأَلِيم ۩، لم يقل وأني أنا المُعذِّب المُؤلِم، جعل المغفرة والرحمة صفتين ذاتيتين له، لا إله إلا هو! صفة ذات، قال أَنِّي أَنَا ۩.

في الصحيح قال – صلى الله عليه وسلم – إن الله – تبارك وتعالى – حين قضى الخلق – وفي رواية عند مُسلِم حين خلق الخلق – كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي تسبق غضبي، قال إن رحمتي تسبق غضبي! وكذب وكفر بهذه الصفة الذاتية لله كل مَن أراد أن يُصوِّره لنا على أن غضبه يسبق رحمته، هؤلاء الذين يؤيّسون ويُقنّطون عباد الله من رحمة الله، هؤلاء الذين يسدون على العباد كل المنافذ، نحن لن نُوسِّع، فقط سنعيش في سعة ما أخبر الله عنه، الله يقول إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ۩.

بالأمس سألني سائل هل تُشترَط التوبة لمغفرة الصغائر؟ قلت لا، نصوص كتاب الله وصحيح سُنة مُصطفاه – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله ومَن والاه – كلها مُتظاهِرة مُتضافِرة مُتساوِقة ومُتسارِعة إلى تقرير هذه الحقيقة، أن الصغائر تُغفَر بالحسنات المُتبَعة، تُغفَر بالمصائب المُكفِّرة، كلاً بحسبه، الصلوات الخمس، والجُمعة إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّرات إلى ما بينهن، إذا اجتُنِبَت – وفي رواية ما اجتُنِبَت – الكبائر.

لا تقل لي الصلوات الخمس مُكفِّرة مع التوبة، كلام فارغ وحشو! لماذا؟ لأن التوبة تُكفِّر حتى الكبائر، حتى الكبائر! فالصغائر تُكفَّر بمُجرَّد الصلاة، لأنك قد تكتب صغائر وأنت حتى غير واعٍ بها، حتى وإن كنت واعياً بمُجرَّد أن تُهرَع وتتوضأ مع هذا الماء ومع قطرات الوضوء تنزل هذه الصغائر، من يديك، من كفيك، من فمك، من عينيك، ومن كل شيئ، حتى تنزل مع آخر قطرات الماء كما يقول عليه الصلاة وأفضل السلام، من غير توبة، بالاستغفار تُكفَّر، بالصلوات ذاتها تُكفَّر، بالمصائب، بالهم، بالحزن، بضيق الصدر، وبالحرج الذي تجده في نفسك – أي الضيق – تُكفَّر بإذن الله تعالى، رحمة واسعة! لو لم تُكفَّر لجاء كل واحد منا يوم القيامة بأمثال الجبال – والعياذ بالله – من السيئات، لأننا نحتقب سيئات صغيرة كثيرة جداً جداً كل يوم، ندري أو لا ندري! الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ۩، قال إِلا اللَّمَمَ ۩، إِلا اللَّمَمَ ۩ أي الصغائر، إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۩، قال وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۩.

تقول لي وماذا عن الكبائر؟ هناك قال إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ۩، قال لك الكبائر إن تُبت منها تاب الله عليك ولابد! إن تُبت منها التوبة الصادقة هو وعد ولا يُخلِف، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ۩، وعد ولا يُخلِف دائماً، لا يتخلَّف كلامه، إن تُبت ما يُسمى فعلاً بالتوبة تاب الله عليك، تقول لي ماذا لو لم أتب؟ لي قريب أو لي نسيب أو لي حبيب مات من غير توبة، فماذا عنه؟ أقول لك هو أيضاً في سعة رحمة الله، إن شاء الله غفر، وإن شاء أخذ، نسأل الله أن يغفر لكل المُوحِّدين، لأنه قال إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ۩، ومعنى هذا لا يغفر الشرك إن ميت عليه، مَن مات مُشرِكاً – بالله مُشرِكاً – لا يُغفَر له، لكن طبعاً مَن كان مُشرِكاً في الدنيا وتاب طبعاً يتوب الله عليه كما تاب على الصحابة الذين كانوا مُشرِكين، أي بعض مَن أشرك منهم، ألم يكونوا مُشرِكين وعبّاداً للأصنام وتابوا؟ تاب الله عليهم، كما يتوب على مُلحِد الآن يدخل الإسلام، يتوب الله عليه طبعاً، فمعنى أنه لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ۩ أي إن ميت عليه، إن ميت على الشرك ولُقي الله – والعياذ بالله – بشرك، فالله لا يغفره، انتهى! لماذا؟ كيف يغفره وهو أيضاً لم يُطلَب منه المغفرة؟ لم يُؤمِن به ساعة أصلاً هو، لو آمن بالله لاختلف الأمر، ولذلك لما سُئل النبي عن ابن جدعان ماذا قال؟ لنا تعليق على هذا الحديث في مسألة العذر بالجهل، قيل له لقد كان يعمل أعمالاً طيبة وما إلى ذلك، هل يغفر الله له؟ قال لا، لأنه لم يكن يقول أرجو أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، هو لم يكن يرجو أصلاً مغفرة الله ولم يطلبها من الله! قال عيسى – عليه السلام – كما في الإنجيل الذي يطرق الباب يُفتَح له، الذي سيتفتح يُفتَح له، اطلبوا تُعطوا، استفتحوا يُفتَح لكم، تفضَّلوا! والرحمة واسعة، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۩، وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ۩.

فالمُوحِّد الذي يموت وهو مُحتقِب للكبائر ولم يتب منها لا تقولوا كالمُعتزِلة والخوارج لا يُغفَر له، بالعكس! أغلب الظن – إن شاء الله – في رحمة الله أنه يُغفَر له، لكن هناك خطر ألا يُغفَر له، انتبهوا! لأنه لقيَ الله بالكبائر، فلذلك قال في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۩، فقيَّدها بماذا؟ بالمشيئة، أما بالتوبة لا تُوجَد مشيئة، كما قلنا لأنه لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ۩، قال قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۩، بما فيها الشرك، أي بالتوبة، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۩ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ۩، توبوا، عودوا! عودوا وأنا أعدكم أنني أغفر كل الذنوب، أياً كانت هذه الذنوب.

بعض الناس يقول نعم، ولكن أنت أيها المُتحِّدث أو يا أخي الخطيب لا تعلم الذنوب التي احتقبتها، وأقول له لا أُريد أن أعلمها، لا أُريد أن أسمعها، ولا أُريد أن تفتضح ستر الله عليك وتهتك ستر الله، لا تفضح نفسك، استر على نفسك، استر واعلم أنها مهما بلغت هي عُرضة للمغفرة، هي في مهب مغفرة الله، لكن تعرَّض أنت لهذه المغفرة، تعرَّض وستُغفَر أياً كانت يا أخي، ما لك أنت؟ ما لك؟ لن تكون أعظم من الشرك، مهما يخطر على بالك! الشرك يُغفَر وهو أعظم الذنوب إطلاقاً.

هذا يُعطينا ثقة في أنفسنا، يُعطينا تماسكاً داخلياً وروحياً، في التجربة المشهورة بتجربة روزنتال Rosenthal والمعروفة بتجربة بجماليون Pygmalion في قاعة الدرس أو قاعة الصف أوحى هذا البروفيسور Professor الأمريكي الكبير والتجريبي في علم النفس إلى بعض تَلامذته أنه يتوقَّع منهم شيئاً جيداً، قال لهم أنتم مُمتازون، مُمكِن أن تُحصِّلوا درجات عُليا، وكل الذين أُوحيَ إليهم بهذا فعلاً تحصَّلوا على درجات عُليا، الله – عز وجل – لا يُقنِّطنا من أنفسنا، ليس فقط لا يُقنِّطنا من رحمته، لا! لا يُقنِّطنا من أنفسنا، يقول لنا وَلَا تَيْأَسُوا ۩، آمنوا بأنفسكم، آمنوا أن فيكم قدرة الخير، قدرة الرجوع، قدرة الإصلاح، وقدرة التغيير، ولا تقولوا – كما يقولون هنا – Zu spät أو Too late، Never too late، الصحيح أنه أبداً لن يكون مُتأخِّراً، حتى الغرغرة! إذا غرغر الإنسان، أي إلى الغرغرة، لأن إذا غرغر سينتهى الأمر، لماذا؟ لأن التوبة الآن لا معنى لها، الله لا يقبل شيئاً لا معنى له، التوبة حين يكون لها معنى الله سيقبلها، ماذا تُريدون من رحمانية الله أكثر من هذا؟ أنه يقبل توبة مَن سارع في مساخطه ومَن تحداه ومَن جحده سبعين سنة كاملة، وفي آخر ساعة من حياته – سُبحان الله – هدى الله قلبه، فتاب إلى الله قبل أن يُغرغِر، يقبل الله توبته، ويُبدِّل سيئاته حسنات، إما بمعنى التبديل الحقيقي وهذا القول الأول، أو بمعنى العفو – أنه لا يُسأل عنها – وهذا القول الثاني، قولان للعلماء! فماذا تُريدون رحمة أكثر من هذا؟ لماذا؟ الله أتاح هذه الفُرصة، بعض الناس جادلني في هذه المسألة، قال لي وهل هذا معقول؟ قلت له كل المعقولية، هذا الذي جادل العالم في نظره أضيق مما هو في الحقيقة، لم يُدرِك ما ينبغي إدراكه.

هل فكَّرتم لماذا يُقسِم الله بالضُحى؟ لماذا يُقسِم الله بالشمس؟ لماذا يُقسِم بالليل؟ لماذا يُقسِم بالقمر؟ لماذا يُقسِم بالنهار؟ ولماذا يُقسِم بمواقع النجوم؟ كلها مظاهر رحمانية، انتبهوا! بروفيسور Professor بروتستانتي أمريكي أدرك هذا، أذكى منا حقيقةً! أفهم للقرآن في هذه النُقطة من هذه الحيثية منا، قال أنا وجدت القرآن أمامي وفي عيني عالماً من النور، عالماً من الضياء، وعالماً من البهجة والانفتاح، عبر ماذا؟ عبر ما أقسم الله به، ذكي! إنسان ذكي، وعنده حتى أُفق فلسفي، انتبهوا! كل ما أقسم الله به حقيق بالدراسة المُتعمِّقة، انتبهوا! هذه دعوة، دعوة من الله إلى دراسته، وأعظم من دراسته دراسة دلالته، لماذا أقسم الله بهذه الأشياء؟ حتى يتوسَّع الكون أمام أعينكم، لذلك نقول لكم دائماً وسِّعوا الكون، الكون الشخصي، الكون الأسري، والكون الكوزموزي أو الكوزميك – Cosmic – وسِّعوه أيضاً، كلما اتسع ستعودون بماذا؟ برحمانية أكبر، ستعودون باعتلاق أعظم بالله.

حين تجلس إلى عالم وتُحاوِل أن تُدرِك بعض علمه بماذا تعود؟ بعلم، أليس كذلك؟ لكن حين تجلس وأنت لا تفهم شيئاً لا تعود بشيئ، حين تذهب إلى الله – تبارك وتعالى – وتتصل بالله كما يقول العُرفاء وتتحسَّس وتستشعر وتعيش رحمانيته بماذا تعود إلينا يا عبد الله؟ برحمانية، أليس كذلك؟ ولذلك قيل أرحم الناس بالخلق أعرفهم بالحق، أرحم الناس بالخلق أعرفهم بالحق، لا إله إلا هو!

خُذوا قاعدة من عبد الله الفقير، كل مَن تجدونه غليظاً، قاسياً، يُقنِّط الناس من رحمة الله، لا يُراعي مشاعر الناس، ولا يُراعي خواطرهم اعلموا أنه بعيد من الله وإن ظن أنه أقرب المُقرَّبين، أنا أُقسِم بالله أنه بعيد، ما رأيكم؟ أُقسِم عليها وأُباهِل عليها، أنه بعيد المسكين، وبعيد بمقدار قسوته، والنبي يقول هذا، لست بحاجة إلى الإقسام، روى الإمام مالك في المُوطأ وغيره، قال ولكن القلب القاسي بعيد من الله، ولكنكم لا تعلمون، إذن متى تُصبِح لطيفاً ورقيقاً؟ حين تعود من رحلة استشعار الرحمة، إدراك الرحمة، وتحسس الرحمة في الحياة، سأُوضِّح هذا بمنظور فلسفي أكثر عُمقاً.

الطفل قد ينتظر لُعبته المُفضَّلة الثمينة سنة، كالطفل العربي المسكين، الفلسطيني ربما الأكثر مسكنةً، من العيد إلى العيد! أنا كنت أنتظر من العيد إلى العيد حتى أحصل على مُسدَّس، من العيد إلى العيد! أحلم به ثلاثمائة وستين ليلة تقريباً، قد يحلم الطفل سنة كاملة يحلم بهذه اللُعبة، ثم يتحصَّل عليها، انتبهوا! فإذا وقعت هذه اللُعبة – تدشدشت وتكسَّرت – سيكون هذا الوقوع في نظر هذا الطفل هو نهاية العالم، هذا أعظم بكثير من أن تقول له ستقوم الحرب العالمية الثالثة، ثالثة ماذا؟ أعظم بكثير، اللُعبة راحت! لأن حدود العالم وبهجة العالم وسعة العالم وسلوى العالم هي حدود هذه اللُعبة، فهمتم الرسالة!

إذن علينا أن نُطوِّر فهماً للوجود، فهماً للسلوى، فهماً للبهجة، فهماً للسعادة، وفهماً للفهم ذاته ولرسالة العقل أوسع بكثير من الضيق الذي نحن فيه، حينئذ أو حين تتكسَّر لُعبتنا سنراها شيئاً حقيراً، تماماً كالأم أو كالأب الذي يرى تدشدش هذه اللُعبة شيئاً حقيراً، لن يُكلِّف أكثر من ثلاثة يوروات، انتهى! استبدلها بلُعبة أُخرى، هل فهمت كيف؟ لأن البديل موجود، لكن عليك قبل ذلك أن تُوسِّع المنظور، هذا لا يكون إلا بالاقتراب من الله تبارك وتعالى، حتى تعود – كما قلنا – بسعة، حتى تعود بغنى، وحتى تعود بخصب حقيقي، وسيعجب الناس كما يعجبون من الحكايا التي تُظَن خُرافية وأُسطورية ولا تخلو من كثير مُبالَغة، حكايا مَن؟ العُرفاء والأولياء وأهل الاتصال الذين نسمع عنهم درجات من التسامح والرضا والسرور والتكامل والتسليم والتفويض أمام مصائب تزول الجبال منها، لكنهم لا تزول ذرة من يقين إيمانهم، بالعكس! يتقبَّلونها بانشراح، هل تعلمون لماذا؟ صحيح تكسَّرت لُعبتهم وهي أطرافهم الآن أو مات أحد أولادهم وهو لُعبتهم لكن هناك ما هو أوسع بكثير جداً جداً، الإدراك عوَّض، هل فهمتم؟ إدراك السعة هو الذي عوَّض، إدراك السعة في هذا الوجود ورحمانية الله – عز وجل – أو بعض هذه الرحمانية هو الذي عوَّض، فلذلك نحتاج هذا، نحتاج أن نتعنَّق هذا المعنى وأن نتأمَّل.

الآن ربما بدأنا نُدرِك أننا لا نحتاج إلى معلومات بمقدار ما نحتاج إلى فكر وتأملات، نحتاج أن نتأمَّل، انتبهوا! قيل عن بعضهم إن  لديه معلومات كثيرة جداً بحيث إنه لا يفهم، رجل حكيم قال عن رجل آخر هذا، قال عنده معلومات كثيرة جداً إلى درجة أنه لا يفهم، لأن كثرة المعلومات – معلومات ونصوص وآيات وأحاديث وأقوال وأشعار – أحياناً تحول بينك وبين أن تفهم، اترك مسافة واستوعب بعض ما يُلقى إليك، استوعب آية واحدة، استوعب حديثاً، اقرأ سورة صغيرة واجلس معها ساعة أو ساعتين، لماذا كان النبي وأصحابه وأتباعهم يُردِّدون ليلة كاملة آية واحدة؟ لماذا؟ لماذا؟ هل تستطيعون أن تُردِّدوا؟ لا نستطيع، هل تعرفون لماذا لا نستطيع؟ فقدنا قدرة التأمل، انتبهوا! فقدنا قدرة التأمل، هم لماذا كانوا يُردِّدون حتى ينفجر الفجر؟ لأن قدرة التأمل عندهم شغّالة عاملة ونشطة جداً جداً جداً، وأنا مُتأكِّد مع كل ترديد الآية تشي وتبوح له وتمده بمعانٍ جديدة، كل مرة! من هنا عظمتهم، ليس بالطريقة المُبتسَرة التي تهم تصويرهم بها، لأنهم كانوا أكثر ركوعاً وأكثر دموعاً وأكثر زُهداً، ليس هذا! لماذا نقف مع الظاهر ومع ما يُحسَب؟ كل ما يُحسَب هو ظاهري، كل ما لا يُحسَب ولا يُدرَك إلا بخبرة مُماثِلة تلتقي صنفياً مع تلكم الخبرات الفريدة هو المُعوَّل، أي المُعوَّل عليه.

صحيح لابد أن أحترز وأقول لست أود أن نكون مُنفتِحين، أي مُنفتِحين إلى درجة أن نفقد مفاصل الباب، لكن – انتبه – يُمكِن أن تفتح الباب خمسة سنتيمترات، جيد! يُمكِن أن تفتحه عشرة سنتيمترات أو نصف متر أو تسعين درجة أو أكثر من تسعين درجة، مُمكِن! لكن إذا أردت أن تنفتح بالمُطلَق على طريقة بعض الناس فستفقد مفاصل الباب، بمعنى ستُصبِح عدمياً، سيستوي عندك الحق والباطل، وقول إبليس وقول القدّيس، وقول رب العالمين وقول الكفرة برب العالمين، وستنتهي إلى ضياع، انتبه! ولذلك نحن انفتاحنا مُؤسَّس، مُؤسَّس بالقاعدة التي قعَّدنا أو أشرنا إليها، بما تعرَّف به – تبارك وتعالى – علينا وإلينا، كيف تعرَّف إلينا؟ أي بوحيه، أي بكلامه، بحبل الله المتين الذي لن يضل مَن تمسَّك به، طرف بأيدينا وطرف بيده، لا إله إلا هو!

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، اللهم آمين.

أيها الإخوة:

مُنذ فترة تصل إلى بضعة شهور وأنا أتساءل – كنت أسأل نفسي ولم يأتني الجواب إلا قريباً جداً – هل أنا طبيعي أو غير طبيعي؟ شككت في نفسي، قد أكون مُختَلاً نفسياً أو حتى عقلياً، لماذا؟ لدينا أرنب أحمر مات حتف أنفه بقدر الله، إلى اليوم كلما ذكرته بكيت، أمس رأيته في الصورة وبكيت، قلت هل هذا الشيئ طبيعي؟ أرنب! أمس قيل لي لا، أقل من طبيعي، بالنسبة لك كمُؤمِن، كمُوحِّد، وكإنسان يدّعي أنه يعرف الله – تبارك وتعالى – هذا أقل من طبيعي، لأن محمداً – الرحمة المُهداة، صلى الله عليه وسلم – لم يتفاعل مع أرنب، تفاعل مع حجر، كان له علاقة بالأحجار وبالأشجار، إني لأعرف حجراً بعينه – قال – كان يُسلِّم علىّ بالنبوة، يعرفه! محمد – صلى الله عليه وسلم – كأنه بوده أن يحتضن أُحد بيديه، احتضنه بقلبه وبروحه التي تحضن الكون كله، محمد! صاحب الروح الكبيرة والقلب العظيم الذي يسع الكون، صلى الله عليه وسلم، كما قلنا قبل هذا الذي كان يُفكِّر فينا ويبكي من أجلنا – قلتها مرتين قبلاً وهذه الثالثة – ونحن لا نستطيع أن نُفكِّر حتى في أحفادنا الذين لم نرهم ونبكي من أجلهم، لا نستطيع! أنا لا أستطيع، ليس عندنا هذا النُضج، هذه الكوكبية، وهذه الكونية، أن نُفكِّر في أحفادنا وأن نغتم من أجلهم وأن نحزن ونبكي، مُستحيل! ليس عندنا، محمد كان هكذا، كان يبكي من أجلكم، يقول اشتقت إلى إخواني، ويبكي على شفير قبر، ما هذا القلب يا رسول الله؟ يقول إن أُحداً جبلٌ يُحِبنا ونُحِبه، أُحد جبلٌ يُحِبنا ونُحِبه! تُوجَد محبة يقول، تُوجَد محبة وتُوجَد مشاعر مُتبادَلة! ليس مع بشر مثلي ومثله من لحم ودم، الله أكبر يا إخواني! بشر من لحم ودم ينبغي أن تقف طويلاً أمامه، كما قال ذاك القائل آآآه، كم أبغض بعضنا بعضاً لوجه الله! كم أبغض الصالحون الصالحين لوجه الله! كله كلام فارغ، هذا ليس لوجه الله، لوجه الغرض، لوجه الهوى، ولوجه إبليس، كم أبغض بعضنا بعضاً لوجه الله! يقول هذا ويسخر من هذه المواقف التافهة، مواقف تدل على حصر وضيق في الرؤية، قبل أن تدل على حصر وضيق في الصدر والنفس، في الرؤية نفسها! في إدراك وعقل الوجود والذات والكينونة، أُحدٌ جبل يُحِبنا ونُحِبه، يسقط المطر فيتلقاه بصدره الشريف العريض ويقول إنه حديث عهد بربه.

أيها الإخوة:

أُحِب أن أختم بمعنى أو بمعنيين مُهِمين، المعنى الأول هو كالآتي، ماذا تظن؟ هل الترهيب يفعل في النفس فعل الحفز وفعل الرقابة والإلزام أكثر أم الترغيب؟ لسنا نتردد أن الترغيب يا حبيبي، الترغيب! هل رأيت الحُب كيف يُدلِّه وكيف يُعبِّد الحبيب لمَن يُحِبه؟ يجعله عبداً، طوع أمره، يتمنى فقط طاعته، يتمنى أن يتلقى منه أمراً، أحياناً يتمنى عذابه فقط ليسمع صوته، هذا الحُب! الحُب أرعن، والحُب فضّاح، والحُب عجل، عجل جداً! يُسارِع إلى إبراز البراهين والأدلة، أليس كذلك؟ لذلك قيل الحُب فضّاح، والعجيب في هذا الحُب الثانوي وفي هذا الحُب المُتناقِض فيما يبدو والمُنسجِم مع حقيقته فيما يبطن أنه أيضاً بقدر استعجاله وعدم تأنيه مُتأنٍ وصبور جداً، هل وجدتم أكثر صبراً من المُحِبين؟ يصبر على محبوبه، على بُعده، وعلى هجره السنين والسنين، إلى أن تنقضي سنو الحياة، أليس كذلك؟ إذن الحُب، الحُب هو الذي يُحيل الحنظل عسلاً في فمك، الذي يُحيل شوك السعدان تحت رجليك حريراً واستبرقاً، الذي يُسهِّل لك حمل الصخور بل نقل الجبال، الحُب! أليس كذلك؟ إنه الحُب.

إذن لنُغلِّب الرغبة والحُب على الخوف، النظرية السُنية الشهيرة التي – وهي غير النظرية الصوفية – تقول لا، المُؤمِن ما دام في المُهلة – ما دام حياً كأمثالنا – فينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه، غير صحيحة، الله حين ترجم لجُملة من أنبيائه طائلة في سورة الأنبياء قال إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ۩، رَغَبًا ۩ قبل رَهَبًا ۩، أليس كذلك؟ الآن أبحاث علم النفس المُتأخِّرة – أي الأخيرة – تُؤكِّد شك علماء النفس المُؤكَّد في الترهيب كوسيلة للتغيير، بدأوا يُشِكون في هذا، الترهيب – صدِّقوني – ينفع في حالة واحدة، مع المرقوبية الدائمة، أن تكون مرقوباً بشكل مُستمِر، أي ترى الشُرطي أمامك، فأنت لن تتجاوز سبعين كيلو متر في الساعة، تراه أمامك، أي ترى الشُرطي، أو ترى الرادار  Radar، عين الشُرطي التكنولوجية! تراها أمامك، فلن تتجاوز، مع ماذا؟ مع توقع الحساب العاجل، بمعنى آخر لو كان نظام الشُرطة هنا يسمح بأن تُدفَع المُخالَفة بعد سنتين كلنا سنُخالِف، انتبهوا! نحن الآن مخلوقون، مُهلتنا هي العمر كله، والحساب يوم القيامة، يُعجَّل بعض الحساب السريع، لكن الحساب الحقيقي هو يوم القيامة، ترون كم سيفعل هذا الترهيب! لذلك الله لم يُرهِّبنا ولم يصف نفسه ولم يُذكِّرنا بغضبه وانتقامه إلا في سبعة عشر موضعاً، لكنه حفزنا وحدانا وتودَّد إلينا في أكثر من مائتي أو في زُهاء مائتي موضع، هذه النظرية القرآنية! فلننسجم مع الإنسان، لنستمد فكراً تربوياً من القرآن وليس من نظريات أرسطية هندسية، الوسط بين الطرفين، أي كفتا الميزان، كلام غير صحيح، غير صحيح! وهذا يضرنا كثيراً، يضر حتى مسيرتنا التكاملية الروحية، لكن بالحُب – صدِّقوني بالحُب – يختلف الأمر، أشعروا أنفسكم دائماً رحمة الله، ود الله، وحُب الله، ستُهرَعون إلى عبادته وطاعته، وستُهرَعون أيضاً إلى الإقلاع عن معاصيه طوعاً، سماحةً، ورضاً، ستعبدونه بلذة، ستذكرونه بمحبة، لكن بالترهيب لا يحدث هذا، هذا موقوت وموقوت جداً جداً، هذه طبيعة الإنسان.

روى الإمام أحمد، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – هل أُخبِركم بأول ما يقول الله لأهل الجنة وأول ما يقولون له؟ قالوا نعم يا رسول الله، والله هذا سؤال عظيم جداً، ننتظر الجواب، ماذا؟ أول ما يلقى الله المُؤمِنين ماذا يقول لهم؟ الله أكبر! جزاه الله عنا خير الجزاء، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، رحمة العالمين، وهذا الحديث يُؤكِّد أنه رحمة للعالمين، قال أول ما يقول لهم يا عبادي – للمُؤمِنين – هل أحببتم لقائي؟ فيقولون نعم يا رب، وعزتك وجلالك لقد أحببنا لقاءك، اللهم إنا نُشهِدك أننا نُحِب لقاءك، والله! انتبهوا، أحياناً تخافون أو تكرهون لقاء الله لما غلب عليكم من الترهيب الترهيب الترهيب، غلِّبوا الترغيب وستقولون هو خيرٌ لنا من آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وهذه الدنيا وما فيها، سنذهب إليه وهو أرحم بنا من أي شيئ، طبعاً! ستُحِبون هذا، ستشتاقون إليه، لا إله إلا هو! محبة تُثمِر شوقاً وراحةً وطمأنينةً، سنكون مُطمئنين إلى النُقلة وإلى الارتحال إن شاء الله، وسنستعد، فيُقسِمون له، فيقول ولِمَ؟ قالوا رجاء رحمتك ومغفرتك، فيقول فأُشهِدكم أني قد غفرت لكم، هيا إلى الجنة، انتهى! هيا فليذهب الكل إلى الجنة، تفضَّلوا، الله أكبر!

روى الإمام الطبراني عن عبد الله بن مسعود عن الأعمش عن ابن مسعود، قال والذي لا إله غيره ما أحسن عبدٌ الظن بالله إلا أعطاه ظنه، الله أكبر! فأحسِنوا الظن بالله يا إخواني، لكن – صدِّقوني – لن تُحسِنوه إذا أسأتم العمل بإصرار، مَن كان مُصِراً على العمل السيء – دائماً مُصِر – هو لن يُحسِن الظن بالله، صدِّقوني! سيستحي، لن يُحسِن، سيكذب على نفسه، الذي يُحسِن الظن هو مَن يُحسِن العمل، حين تُحسِن العلم ستُحسِن الظن، أليس كذلك؟ طبعاً! هذه قضية منطقية، انتبه! لا تقل لي أنت هكذا تُغري الناس بالمعصية، أبداً! لن يُحسِن الظن مَن أساء العمل، لكن سيُحسِن الظن مَن أساء العمل ونوى التوبة، نعم الآن يُحسِن الظن بالتوبة، انتبه! وليس بالعمل، بالتوبة من العمل السيء، سوف يبدأ يُحسِن الظن بالله.

روى الترمذي بإسناد حسن عن أنس، قال – صلى الله عليه وسلم – يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ولا أُبالي، طبعاً! ادع وارج، تأمل في رحمتي، وسأغفر لك، ابن مسعود – انظروا إلى التعليل الكريم، لماذا أعطاه الله ظنه؟ – قال وذلك أن الخير بيده، لا ينقصه شيئ! مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ۩.

للأسف في المدرسة المُعتزِلية – الاعتزال – والمدرسة الخوارجية – الخوارج – تم تصوير الله على أنه إله موازين وإله قوانين صارمة، أي – أستغفر الله العظيم – على أنه صارم وحدي، وهكذا تم الإغضاء عن الفضل والتفضل الذي هو بعض مُقتضى رحمانيته الواسعة، للأسف هذا خطأ، ولذلك يصعب أن يكون مُعتزِلي صوفياً، ويستحيل أن يكون خارجي صوفياً، وصعب جداً أن يكون صوفي مُعتزِلياً، عنده الاعتزال صعب جداً، الصوفي طوَّر منظوراً قرآنياً – استمد من القرآن – فعلاً عن رحمانية الله تبارك وتعالى، وهو منظور صحيح، وهو منظور أهل السُنة والجماعة بحمد الله تبارك وتعالى.

المُهِم قال يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقِراب الأرض أو قُراب الأرض وهو أفصح – تُكسَر وتُضَم، قُراب، أي ما يُقارِب ملء الأرض – خطايا – الله أكبر، كيف بقُراب الأرض؟ مَن يملأ الأرض خطايا؟ لا أحد، ولا فرعون حتى، بقُراب الأرض خطايا – ثم – الشرط – لقيتني لا تُشرِك بي شيئاً غفرت لك ولا أُبالي.

فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا وكلماتك التامة التي لا يُجاوِزهن برٌ ولا فاجرٌ أن تُحيينا على مِلة لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، وأن تُميتنا على ذلك، اللهم لا تُمِتنا إلا وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

اللهم اغفر لنا مغفرةً عامةً شاملةً، اللهم اغفر لنا وللمُسلِمين والمُسلِمات، والمُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

_________

اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: