إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَعَظيمنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله – سُبحانه وتعالى – من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأماجد، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله –  سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ۩ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ۩ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ۩ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

على ما يبدو – أيها الإخوة والأخوات – أن الموت يضطر الإنسان حتماً إلى أن يُعيد النظر في خياراته وفي تصوراته وفي مسالكه، لأنه يقول له بطريقة أو بأُخرى لقد بقيَ من الوقت ساعة، وإن تكن هذه الساعة خمس سنين ربما أو عشراً أو عشرين من السنوات، لكنها ساعة! فيُذكِّرنا كما نُذكَّر في قاعة الامتحانات، انتبه، لقد بقيَ من الوقت ساعة، فها هو صديقك الذي اتصل حبلك بحبله مُنذ ثلاثين سنة قد ترحَّل، والدور عليك بعد ساعة، هذه الساعة قد تكون ساعة حقيقية، وقد تكون حتى خمسين سنة، لكنها تبقى في النهاية أمداً محدوداً، إنها ساعة!

وهذا هو الذي بعثني على أن أقرأ هذه الآية الجليلة التي سأُشير إليها بُعيد قليل من هذه السورة الكريمة، سورة الحديد! وفاة صديق وأخ ورجل له علىّ فضل، أسأل الله أن يُجزيه به خير الجزاء، وأن يرفع مقامه فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ۩، اتصل حبل ودادي به مُنذ أكثر من ثلاثين سنة، ومات وهو لا يزال كهلاً تقريباً، أسأل الله له الرضا والرضوان والروح والريحان، اللهم آمين، فانتقلت من موضوعٍ كنت حشدت نفسي له وهو موضوع فكري إلى هذا الموضوع التفكري في مغزى الحياة، مغزى الوجود، مغزى الدين، هدف الدين أيضاً، وغرضه.

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ۩، الْكُفَّارَ ۩ هم الزرّاع هنا، وليس الكافرين بالله، الكافر هو الزارع، لأنه يكفر البذرة حين يضعها في الأرض، أي يسترها، الليل يُسمى كافراً أيضاً لأنه يستر ما يُظهِره النهار، الليل في اللُغة العربية اسمه الكافر، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ ۩، أي أعجب الزرّاع، الذين يستنبتون ويزدرعون، أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۩، إذن اضمحلال ففناء، يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ۩، بداية الاضمحلال، وكل شيئ في هذا الوجود مخلوق لله – تبارك وتعالى – هو عُرضة للاضمحلال وللفناء، لا شيئ يبقى كما هو، كل شيئ يضمحل ويفنى من الذرة إلى المجرة، مبدأ هام وشامل وسائد وحاكم على الجميع، لماذا؟ حتى بمنظور طبيعي أو فيزيقي يُعلِّمنا علماء الطبيعة أن هذا المبدأ سارٍ، لأن كل شيئ مُركَّب، وكل ما كان مُركَّباً لابد أن يضمحل، ولذلك استنبط العقل الكلامي أو العقل الاعتقادي – عقل علماء الكلام أو علماء العقيدة المُسلِمون – أن الله – تبارك وتعالى – حتماً وضرورةً ليس مُركَّباً، فهماً من قوله – تبارك وتعالى – قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۩، الفرق بين الواحد والأحد نعم أن الواحد قد لا يكون له ثانٍ بلا شك ولكن قد يكون مُركَّباً، هو واحد مُركَّب، تماماً كالنصارى، يُشارِكوننا في القول بوحدانية الله، يقولون نحن نقول أيضاً بالإله الواحد، لكنه واحد ليس بأحد، واحد مُركَّب من ثلاثة، وكأين من شيئ من آلاف وملايين الأشياء في هذا العالم نراها تتصف بالواحدية! كل هُوية يُمكِن أن يُقال إنها واحدة، هُوية لا يُمكِن أن نجد لها مثيلاً من كل جهة، مُستحيل! هذا الكرسي – مثلاً – ليس له في الوجود ثانٍ، مُستحيل! هناك أشباه ونظائر له، مثل هذا الكرسي تماماً  مُستحيل أن يكون موجوداً، كل شيئ له فرادة، له واحدية! لكن واحدية غير أحدية، إنها واحدية مُركَّبة، فبماذا يمتاز الله إن كان واحداً مُركَّباً؟ إذن سيكون فقيراً وسيكون عُرضة للاضمحلال، لأن كل جُزء فيه سيتفقر إلى الجُزء الآخر، لذلك يُقال هو حيٌ بذاته كأب، ناطقٌ بالكلمة، وهكذا! غير صحيح، هو غير مُركَّب، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩.

ولذلك استغنى بقوله أَحَدٌ ۩ عن قوله واحد أحد، ليس ضرورياً بعد ذلك أن نقول واحد أحد، لأننا إذا قلنا أحد فإذن هو واحد وأحد حتماً، لكن إذا قلنا واحد فقد لا يكون أحداً، كما يقول النصارى، لأنه واحد، باسم الأب والابن والروح القدس الإله الواحد، المُركَّب! فهذا الإله بعضه يفتقر إلى بعض، وهو عُرضة للاضمحلال، لأنه مُركَّب، طبيعياً – الطبيعة تقول هذا – كل ما تركَّب لابد أن يضمحل، علماً بأن هذا المبدأ البسيط الذي اهتدى إليه العقل الإغريقي القديم ولا يزال صحيحاً وسارياً هو ما يُفسِّر لنا كل صنوف وأنواع الاضمحلالات، اضمحلال البنية الحيوية، اضمحلال البنية المادية، اضمحلال الذاكرة، اضمحلال الأعصاب، وكل شيئ! لأنه مُركَّب، حتى اضمحلال الرغبات، لأنها مُركَّبة، كل ما يتركَّب لابد أن يضمحل، أما الله – تبارك وتعالى – الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩ فهو ليس مُركَّباً، لا إله إلا هو! وهذا معنى أحديته بعد واحديته سُبحانه وتعالى.

على كلٍ إذن الآية تُشير إلى الاضمحلال، ومن ثم الفناء، الزوي، الضعف، الاضمحلال، والفناء، هذه هي السُنة الحاكمة على الجميع، على كل موجودات وأشياء الوجود بلا استثناء، بلا استثناء! ليس فقط على ما يعقل – كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۩ – وإنما على كل شيئ، وهذه الآية واضحة جداً جداً، ولذلك قال في أول السياق اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۩، تموت وتُحيا أو تُمات وتُحيا، يُميتها الله ثم يُحييها ثم يُميتها، وهكذا! في دورة يعلمها هو أين تنتهي وأين مصابها، سُبحانه وتعالى.

على كلٍ هذه الآية يُمكِن لبعض الناس كما فعل الزهّاد والمُتفقِّرة أن يجعلوها خلفية حقيقية ورئيسة لفهم الدين كله والموقف من الحياة ومن رسالة الدين، وهذا فيه نظر، وهذا أيضاً من باب تجزئة القرآن، وهم لا يفعلون هذا انطلاقاً من هذه الآية، بالعكس! هذه الآية تخضع لخلفية سابقة عندهم في التفكير والتصور والإدراك، وفي نظرنا هي خلفية فقيرة شحيحة ولا تعكس عظمة وجوهر الدين الإلهي، ما معنى أن الله يقول هذه الحياة الدُنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر ثم يُشبِّهها بما سمعتم؟ المعنى أعمق بكثير مما أراد المُتفقِّرة والمُتزهِّدة أن يستنبطوا، أعمق بكثير! وإلا ما معنى عشرات الآي الكريمات في كتاب الله – تبارك وتعالى – التي تُريد أن تتفتح أعيننا حتى الجحاظة وأن تتفتح آذاننا؟ خطر لي قبل أن أبدأ هذه الخُطبة الآن على هذا المنبر أن هناك أشياء في الوجود قد تستدعي سمع الإنسان حتى تُحرِّك أُذنيه – والأذنان لا تتحرَّكان عموماً – وتفتح عينيه حتى تجحظان، لكن لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ۩، ليس مَن تبلَّد حسه، ليس مَن أخذ عقله إجازة، ليس مَن زوت قُدر وإمكانات روحه، والروح تبقى هي المركز، مركز الإنسان! الروح هي المركز.

شاعر يقول كل ما ليس له مركز يتفكَّك أيضاً، ما دمنا بصدد الحديث عن الاضمحلال فكل ما ليس له مركز أو كل ما ليس مركزاً يتفكَّك، أما المركز فلا يتفكَّك، لأن كل ما يتفكَّك يتفكَّك حول المركز، أما المركز نفسه فلا يتفكَّك، خطر لي في تفسير هذا الشعر خاطر عجيب، قلت بعد أن أموت ما الذي يبقى؟ طبعاً أول ما تفنى تفنى هذه الحُلة، ما هذه الحُلة؟ البدن، يعود إلى التراب، من التراب وإلى التراب يعود، تأكله الأرض، تمتصه النباتات، وتأتي الحيوانات لتأكل هذه النباتات، يذهب هذا الجسم، يتفرَّق في الكون شذر مذر، لكن حيث يعلم الله تبارك وتعالى، قد قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ۩، شذر مذر بالنسبة إلينا، لكن عند الله يختلف الأمر، عنده كِتَابٌ حَفِيظٌ ۩، لا إله إلا هو! قلت ما الذي يبقى؟ وبالأثر الناس الذين عرفتهم وعرفوني مصيرهم مصيري، سيزوون، سيتفكَّكون، وسيتحلَّلون، وكذلك الأشياء التي عرفتها، مثل المدرسة التي ارتدتها، وروضة الأطفال التي بدأت حياتي الاجتماعية العامة بها، كل شيئ ينتهي، كل شيئ يتهدَّم، كالطعوم، المشمومات، المسموعات، المقطوعات التي استمعت إليها وتلذذت بها، الوجوه التي رأيتها، الأماكن التي ارتدتها، والذكريات التي خبرتها وجرَّبتها، كل شيئ يزول، كل شيئ ينتهي.

إذا أردت أن تُحدِّد نفسك بالآخر – بالآخر شيئاً وبالآخر إنساناً عاقلاً، بالآخر قريباً وبالآخر بعيداً، بالآخر المُحِب وبالآخر المُعادي – فلن تستطيع، كل هؤلاء ذهبوا، ما الذي يبقى منك إذن؟ انتبه، تقول هذا يعني أنني قد أفنى، قد يُساوي هذا الفناء الحقيقي، إذا عُدت – مثلاً – بعد ألف سنة إلى هذه الأرض فلن تجد أي شيئ له صلة بك، فيما يبدو ويظهر كل شيئ انتهى، مدارسك، أمكانك، أقاربك، أصدقاؤك، خبراتك، وكل ما يتعلَّق بك انتهى، ليس موجوداً، أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً ۩ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً ۩، إذن ما الذي بقيَ منك؟ ستشعر بغُربة كاملة مُطلَقة في هذا الوجود الذي كنت فيه، ستشعر بأنك لست ابن هذا الوجود، لست ابن هذه الأرض، ليس هناك ما يدل عليك، ليس هناك ما يُذكِّر بك، وليس هناك ما يُذكِّرك بشيئ، إذن ما الذي بقيَ منك؟ بقيَ المركز الذي لا يتفكَّك، بقيت الروح، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ۩، الله يتحدَّث عن مركزية هنا، لا يتحدَّث عن تراكب أو تداخل Interference، يتحدَّث عن مركزية، هذه المركزية تُعطيها الروح، تُبرهِنها الروح الإنساني أو الإنسانية، تُذكَّر وتُؤنَّث، هذا ما يبقى!

يبدو أن رسالة الدين وجوهر الدين يتعامل مع هذا المركز، يبغي مُنذ البداية أن يتعامل مع هذا المركز، أن يُخصِّب هذا المركز، أن يُثمِّره، أن يُغنيه، أن يُثريه، وأن يجعله أكثر قابليةً للامتداد، في هذا العالم فاتحون كبار، مُخترِعون مشاهير، علماء مذاييع الصيت، فلاسفة، ورجال فكر مُذهِلون، وتأثيرهم على نطاق عالمي، لكن أين أولئكم أصحاب الفتوحات الروحانية على نطاق عالمي؟ الذين يُعيدون تذكير المسيرة التائهة والبشر الضالين بالحقيقة المُطلَقة، بالله تبارك وتعالى! الذين يُمثِّلون همزة وصل بين الأرض والسماء، أحفاد الأنبياء، أعني ورثتهم، ورثة الأنبياء!

حين تساءل المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير توينبي Toynbee عن أعظم الناس منّةً وأبيضهم يداً وأكثرهم إحساناً على البشرية قال لست أتردد أن أقول إنهم أمثال موسى وعيسى ومحمد، الرُسل! مُستحيل أن يُقال غيرهم، لا أحد يُضارِعهم، لا أحد يُقارِبهم في الإحسان والمنّة واليد البيضاء على الناس، لكن ستقول لي باسم الدين حدثت ويلات وعانى الناس من مرائر ومصائب ولقوا ألاقي، صحيح! هذا الدين المسيخ، هذا الدين الممسوخ، الذي يُمسِخ ويُمسَخ باسمه، باسم الدين تُشعَل الحروب، باسم الدين! انتصاراً للدين، باسم آياته، وباسم نصوصه، وهذا كذب على الدين، ليست هذه رسالة الدين، باسم الدين تُبرَّر المطامع الاستعمارية، أكثر وأحقر من ذلك تُبرَّر المطامع الشخصية.

قلنا في خُطبة قريبة من أقل من شهرين كل ما تُوظِّفه لخدمة شيئ هو في نظرك وفي منظورك أقل من هذا الشيئ، قطعاً! وقلنا في تلك الأيام لست مُستعِداً – وإلا فأنت مُغفَّل غِر – أن يشتري شيئاً يُساوي خمسة يوروات بخمسة آلاف يورو، لست مُستعِداً! مُستحيل أن يفعلها عاقل، أليس كذلك؟ لماذا؟ لأن خمسة آلاف يورو أكثر من هذا الذي قيمته خمسة يوروات، إذن لماذا تحلف بالله كاذباً لكي تغتال خمسمائة يورو أو خمسة آلاف يورو؟ لأن الله أقل عندك من خمسة آلاف يورو، تحلف باسمه! تقول والله العظيم وأنت كاذب، لأن الله لا يُساوي عندك ما حلفت عليه ومن أجله، ثم تدّعي الإيمان، انتبه! هكذا الحقائق صُلبة وواضحة، واضحة جداً وصادمة!

لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن، لقد تاه العلماء وتاه المُفسِّرون لهذا الحديث في بيداء مسالك كلامية على أثر الخلاف الناشب بين المُعتزِلة والخوارج وأهل السُنة، وأنا أفهم الحديث من منظور مُختلِف تماماً! النبي حين يقول لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن يقول إن إيمانه قد اضمحل في هذه الحالة بحيث لا يُذكِّره بالله، بحيث أن الله لا يُساوي عنده شهوة، هذا هو! ليست القضية أن يحكم عليه بكفر أو بإيمان، ليست هذه القضية، هكذا يُريد النبي أن يُفهِمنا، ونحن نفهم هذا جيداً، نفهم هذا حين نقول لأنفسنا تذكّر يا فلان أن الله يرقبك، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ۩، ومع ذلك وأنت تقول هذا القول لنفسك تحتقب الصغيرة أو الكبيرة، لماذا؟ لأنك في هذه اللحظة فعلاً لست مُؤمِناً بأن الله يرقبك، هذا إيمان ضعيف جداً جداً جداً، ليس له فعل، ليس له أثر، موجود كحالة عقلية.

ومن هنا جواب المُشكِلة الشهيرة الجدلية، هل الإيمان حالة عقلية أو لابد أن يكون حالة شعورية؟ بالعكس! هو الاثنان معاً، لكن الحالة العقلية – أنا أقول لكم – أضعف درج الإيمان، أضعف رُتب الإيمان، هي البداية! الخُطوة الأولى في الطريق قد تكون عقلية، مجموعة استنتاجات، مجموعة براهين واستنباطات، يتبعها قرار، قرار بالتسليم! لأنه – لا إله إلا هو – موجود، واحد أحد، ولأنه كُلي الصفات، كُلي القدرة، كُلي العلم، وكُلي الرحمة، إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره! هذه هي طبعاً، لكن هذه الحالة العقلية لا تكفي لأن تُنتِج إيماناً مُضيئاً نابضاً حياً حافزاً دافعاً أبداً، ولذلك ليس أكبر علماء العقيدة الذين ألَّفوا الكُتب هم أعظم المُؤمِنين، غير صحيح! سأذكر أحدهم ولن أذكر اسمه، عالم كبير، كان أستاذ الأساتيذ في عصره في الأصلين، في أصول الفقه وفي أصول الدين، في علم الكلام! عالم كبير جداً، وله كتابات بلا شك نقرأها ونُعجَب بها، يُحترَم! لكنه كان يُفرِّط في الصلوات، لا يُصلي، شيخ الإسلام لا يُصلي، وشكوا فيه، هل يُصلي أو لا يُصلي؟ فجاءوا وكتبوا بمداد يمحوه الماء سريعاً على قدمه وتركوه، وبعد ثلاثة أيام المداد موجود، وهو ينام ويصحو، إذن لم يتوضأ، إذن لا يُصلي، مُشكِلة كبيرة! ليس معنى أنك تحفظ كُتب الكلام أو كُتب العقيدة أنك أعظم مُؤمِن أبداً أبداً، قد يكون الذي لا يحفظ أعظم إيماناً منك، لأن الإيمان بعد ذلك خبرة وتجربة ومُعاناة، وهذا هو جواب التساؤل: لماذا لا يكثر عدد الفاتحين في ميادين الروح كما كثر واستفاض عدد الفاتحين في ميادين العلم والاختراع والفلسفة والفكر؟ لماذا؟ والبشرية أحوج إلى هؤلاء الفاتحين، إلى الفاتحين في ميادين الروح، لكنهم نزرة، إنهم منزورو العدد، إنهم قلة نادرة جداً، كبريتية كما يُقال، أندر من الكبريت الأحمر أو الغراب الأعصم، أي الأبقع، قليلة جداً! هل تعرفون لماذا؟ لأن ميدان الروح أكثر عمقاً وأكثر خطراً وأشد اتساعاً، خطير والكشوف فيه ليست سهلة.

نستطيع أن نُفسِّر مُعتقَداتنا – أي دوامنا على المُعتقَد – ومسالكنا الدينية وأحياناً تعصبنا الديني فقط بقوة شيئ واحد، هل تعرفون ما هو؟ العادة، بقوة العادة! فقط هذا هو، تديننا تدين عادة، وهو قوي بقوة العادة، أما الفاتحون في عالم الروح فتدينهم من نوع مُختلِف، بقوة التجربة والمُعاناة والألم، خوض نار هذه الميادين الحقيقية، هذا الأمر ليس سهلاً البتة، وهؤلاء ندرة وقلة، ولكن البشرية لا تزال تهفو إليهم وتحتاجهم، وهم الأكثر قدرة على أن يجترحوا لُغةً إنسانية عالمية كفيلة بأن تُؤلِّف بين المُختلِف وبأن تنتزع كثيراً من الضغائن والشنآن والأحقاد، هم هؤلاء! لا أعني المُتدينين، أعني الفاتحين في عالم الروح، انتبهوا! ليس مُجرَّد عالم أو شيخ أو إمام أو مُؤلِّف كُتب، لا! هذا تقليدي جداً، هذا يُفسَّر دينه أيضاً بقوة العادة، صدِّقوني! لكن عادته أرقى قليلاً من عادة العوام، إنها قوة العادة على تكرار ماذا؟ المكرور من البراهين، انتبهوا! على التنويه بما تم اختباره من الاختبارات الروحية، بما لم يختبره هو وحده أو بذاته، إنما اختبره غيره، تماماً كأستاذ التصوف الذي يتحدَّث عن خبرات، يُحاوِل أن يُقزِّمها وأن يمسخها في ثوب البيان، في إطار البيان، اللُغة! وهي خبرات أوسع من هذا بكثير، ثم يزعم أنه قادر على أن يتحدَّث عن هذه الخبرات، فرق كبير! تماماً الفرق بين هؤلاء وهؤلاء كالفرق بين الوردة الفوّاحة في يد مُجتلي حُسنها وشميمها الأريج العبير وبين مَن يفعل هذا أو يُحاوِل أن يفعله أمام شاشة إل سي دي LCD، أمام شاشة تلفزيون Television مُمتازة، الــ Contrast فيها خمسة آلاف إلى واحد، كلام فارغ! لن يشم، لن يتمتع، ولن يلذ منه أي حس، هذا هو الفرق، هذا الفرق بين الإيمان كحالة عقلية والإيمان كتجربة ومُعاناة، كخبرة حقيقية! فرق كبير، مُشكِلة كل مُتدين تنبع من هنا وتُفسَّر بما ذُكِر، هل هو مُتدين بقوة العادة أو مُتدين خبرة؟ هذا هو!

لذلك المُتدين الذي يعكس الوجه النبوي هو المُتدين خبرة، المُتدين الذي يجعل الناس يجفون الدين وينفرون من المُتدينين هو المُتدين بقوة العادة، مُتدين ونصّاب، يجتمعان! طبيعي جداً، مُتدين وكذّاب، عادي! مُتدين وقاسٍ فظ غليظ، ليس عنده رحمة، مُمكِن، عادي، طبيعي!

فلنعد إلى ما كنا فيه، لنعد مرة أُخرى، الآية ماذا تُريد أن تقول؟ تُريد أن تُعرِب في سياق وفي سباق ولحاق آيات أُخر كثيرات بل في سياق القرآن كله تُريد أن تُعرِب عن فلسفة خاصة أعمق عمقاً مما نظن ونحسب، الآية ليست تزهيداً في الدنيا أبداً، ليست تزهيداً في لذائذها، في مُتعها، في جمالها، في بهائها، في حُسنها، وفي أغراضها وحاجاتها، لا ليست كذلك أبداً، بالعكس! قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۩، سيقول هؤلاء – ذوو الخلفيات الفقيرة جداً في فهم الدين، التي أفضت بهم إلى زُهد مُبرَّر أحياناً وغير مُبرَّر في أحيان أُخرى – هذه الآيات محمولة على حال الضعفاء، على حال العامة، أما الخاصة فشأنهم مُختلِف، ماذا؟ ما هو شأنهم؟ شأنهم أنهم لا يستجلون جمال الله ولا يتنعمون بنعمة الله في هذا الوجود، لِمَ خلقه الله إذن؟ ما معنى قوله – تبارك وتعالى – انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۩؟ الله لم يقل كونوا دواباً وكلوا ثمره، قبل أن تأكلوا قال انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۩، انظروا وتجلوا.

إن هذا العالم الذي خلقه الله – وهذا الآن يصدق كثيراً في هذا الفصل البهي، فصل الربيع – ملآن بما يلذ الأعين وتشتهي الأنفس، بما فعلاً يُحرِّك الأعين حتى الجحوظ والآذان حتى الاهتزاز، هذا العالم على هذا النحو لو أحسننا التقاط الرسالة الإلهية، وسنُعيد اختبار هذه المجالي والمظاهر باستمرار إلى أن ننتهي، كيف؟ إلى أن ننتهي بالموت! سنُعيد باستمرار مع كل مرحلة تكامل ونضج روحي وعقلي وفكري ووجداني اكتشاف العالم، وسوف نرى أنه أجمل جمالاً مما كنا نرى، عكس ما يحدث معنا بالضبط، ما يحدث دائماً يعكس هذه الحقيقة، أن العالم قديماً – حين كنا أطفالاً – كان أجمل، صحيح! هل تعرفون لماذا؟ لأننا كنا أكثر تفتحاً، حين كنا أطفالاً كنا أكثر تفتحاً، أكثر فطريةً، أكثر براءةً، وأكثر احتراماً لرسالة الله، كنا نقرأ الرسالة الإلهية في أشياء الوجود، في جمال الوجود، في ألغاز الوجود، وفي المُدهِش، وكله مُدهِش! كل ما في الوجود مُدهِش، حين تبلَّدنا – بحُكم الكبر والشهادة والثقافة – أصبح العالم قاتماً كئيباً، لا نرى فيه أي جمال، صحيح! الخاسر نحن وليس العالم، العالم  يزداد جمالاً، يزداد عُمقاً، قال تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۩، العالم يزداد، صدِّقوني! هذا الكون يزداد، وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ۩، يزداد! لماذا؟ لأنه صادر عن الكريم، الكريم – لا إله إلا هو – صدر عنه هذا، لكن يوم يُقرِّر الكريم – لا إله إلا هو – أن يُحاسِب حينئذٍ يتوقَّف شيئ ويبدأ شيئ، وسيعود كل شيئ كما بدأ، انتهت الرسالة، انتهى الامتحان، لم يبق من الوقت ولا دقيقة، لا أقول لم يبق من الوقت ساعة وإنما لم يبق من الوقت دقيقة! لكن قبل أن يتأذن الله بطي هذا البساط الكرم هو الفاعل، والرحمة هي السائدة، مع مظاهر أُخرى تكتمل بها الصورة، ولابد أن نعرف الصورة مُتكامِلة، كما يقول المثل الإنجليزي ماذا عرف عن إنجلترا مَن لم يعرف إلا إنجلترا؟! لم يعرف شيئاً، لابد أن تتكامل الصورة وتعرف كل أجزائها حتى تعرف معنى الصورة ورسالة الصورة، فهكذا كنا وهكذا أصبحنا للأسف.

انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۩، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ۩، لكن هذه الفلسفة التي أشرت إليها أُلخِّصها بكلمتين: فلسفة الاحتياز ثم الاجتياز، في الإسلام والقرآن رب العالمين – لا إله إلا هو – الذي يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩ يعلم أن كل ضرورة وكل حاجة وكل غريزة وكل دافع فطري – لِمَ خلقه إذن؟ – ما لم يُشبَع وما لم يأخذ حظه من الإشباع سيُؤثِّر على مسيرتك وسوف يشدك دائماً إلى الخلف، سيكون سيرك رجعياً شئت أم أبيت بطريقة أو بأُخرى، حتى لو أصبحت عالي السن وشيخ المشايخ ستكون رجعياً في أشياء كثيرة، لن تكون رجعياً بالطريقة الأيديولوجية وإنما ستكون رجعياً بالطريقة الإنسانية التكاملية ضمن هذه الفلسفة، تماماً ستكون مثل ناقة المجنون! 

هوى ناقتي خَلْفِي وقُدَّامي الهوى                         وَإنِّي وَإيَّاهَا لَمُخْتَلِفَانِ.

ركب المجنون على ناقته لكي يزور محبوبته الليلى، لكن الناقة كانت قد فصلت عن صغيرها، وقلبها مُدلّه مُستهَام مُعلَّق بصغيرها، فكانت تُغافِله، كلما أخذه طيف ليلى وخيالها فغفل عن حاله عادت به، فوجد نفسه من حيث ارتحل، لا إله إلا هو! فيعود، وهكذا إذا لم تُشبِع أنت هذه الغريزة، هذه الحاجة، وهذه الضرورة التي خلقها الله – لِمَ خلقها إذن؟ – فستشدك دائماً إلى الوراء، ستُعيدك! لكن السؤال الآن: إلى أي قدر أُشبِع هذه الحاجات وهذه الضرورات؟ هذا هو السؤال الأكثر عمقاً، ثم هل هي نهاية المطاف؟ هل هي الهدف إذن؟ هل يحدث عندها الإشباع؟ 

وسوف نرى – مثلاً – اللذة، اللذة بشكل عام، كل ما يلذ النفس ويلذ الحواس الظاهرة والباطنة، ليست لذة الوقاع فقط، هي لذة بلا شك، لكن كل اللذائذ أو كل الملاذ، بلا شك في دين الله العظيم المُتكامِل مُباحة من حيث الأصل، لكن بشروط إلهية، حتى لا تجور على كرامة الآخرين، كما لا تجور على حقوق الآخرين، كما لا تُفني نفسك، فرقٌ أن تُوظَّف اللذة للإشباع ولو النسبي وبين أن تستهلكك اللذة، انتبه! قد يقول لي قائل كيف تستهلكني؟ ببساطة مبدأ الإدمان يُفسِّر لك هذا، في البداية تأخذ كأساً للتلذاذ، والكأس تجر كأساً أُخرى، والأُخرى تجر ثالثة، وفي النهاية الكأس تجرك، ولست أنت الذي تتناول الكأس، الكأس هي التي تتناولك، فقط هذا هو! مبدأ الإدمان يُفسِّر لك هذا، أحياناُ قد يُصبِح الإنسان عبداً لشهوة، ليست شهوة الوقاع فقط وإنما أي شهوة، أي شهوة! شهوة الظهور، شهوة التسلط، وشهوة الرياء، أي شهوة من الشهوات، شهوة الطعام، شهوة الشراب، وشهوة الانتفاخ والانتفاج، أي شهوة، أي لذة! قد يُصبِح عبداً لها، تجره ولا يجرها، تتناوله ولا يتناولها، تماماً مبدأ الإدمان، هذا هو!

الإسلام لا يسمح بهذه الحالة، لكن نُريد تفسيراً أو فهماً فلسفياً بما أننا ذكرنا الفلسفة وقلنا فلسفة هذا الموضوع في القرآن الكريم؟ استنبطت مبدأين أو معيارين، المعيار الأول معيار الاضمحلال، كل ما يضمحل ليس يصح أن يكون هدفاً نهائياً، هل تضمحل الشهوة أو لا تضمحل؟ تضمحل، تضمحل باستمرار، تضمحل على جميع المُستويات، ولذلك لا يُمكِن أن تقول قد وصلت مع الشهوة، مُستحيل! لذلك لحظتها تُسمى اللحظة الهاربة أبداً، لحظة هاربة أبداً! إذن الإشباع الكامل المُطلَق التام غير موجود، إذن الإشباع نسبي وفي حدود!

كيركغور Kierkegaard يقول في قعر بحر اللذة المُتلاطِم ألقيت مرساتي لعلها ترسو على قاع فلم تفعل، لذلك لن تشعر بالراحة ولا بالطمأنينة ولا بأنك قد وصلت، مُستحيل! سوف تبقى راكضاً باستمرار وأبداً، وسوف تعيا وتهلك وأنت مكانك، لم تصل! انتبه، لأنها تضمحل، بالتالي كل ما يضمحل هو أصغر مني، هل تعرف لماذا؟ لأنني أدركت اضمحلاله، فلسفياً لو كنت أضمحل بالقدر الذي يضمحل به هو أو أكثر لن أُدرِك اضمحلاله، أليس كذلك؟ سأُدرِك دواميته، لكن لما أدركت اضمحلاله قلت إذن في جُزء، في جوهر، في حقيقة باقية دائمة – تتسم بالدوامية – أكثر منه، فكل ما يضمحل هو أصغر مني.

المعيار الثاني كل ما هو أصغر منك لا يصح أن يكون هدفياً نهائياً لك، أليس كذلك؟ كل ما هو أصغر مني كيف يكون هدفي؟ مُستحيل! لابد أن يكون أكبر مني حتى يكون هدفي، وهذا بعض معنى قوله الله أكبر، كم مرة يُصدَح بهذه الكلمة! هل نفهمها حقاً؟ الله أكبر هو فلسفياً ما يُمكِن أن يُشكِّل غاية، الله – عز وجل – وحده، الله! أي شيئ غيره لا يُمكِن أن يُشكِّل غاية، هل تعرف لماذا؟ لأنه أصغر منك، حتى الأجرام أصغر منك، كل شيئ من الذرة إلى المجرة – كله – أصغر منك لأنه مُسخَّر لك، والدليل أن هذا الكون كله أصغر منا – ليس أصغر حجماً طبعاً، الفيل أكبر منا حجماً، الحمار أكبر منا حجماً، أكرمكم الله، ليس كذلك، وإنما أصغر قدراً ومعنىً – أنه قابل لاختبارك، يُوجَد مبدأ فلسفي يُفيد بأنه لا يخضع للاختبار إلا ما هو أصغر منك، تحت سُلطانك الفكري والعقلي، أي شيئ أصغر منك يخضع لاختبارك، ولذلك الله لا يُختبَر، مُستحيل! الله ماذا؟ يُقترَب منه، تُحاوِل أن تقترب، لكن لا تستطيع أن تُحيط، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ۩، لا تستطيع أن تُخضِعه للاختبار، مُستحيل! أي نوع من الاختبار لا تستطيع أن تُخضِع الله له، سواء كان اختباراً إمبريقياً كما يقولون أو حتى وجدانياً، لا يُوجَد اختبار لله، لذلك قال السيد المسيح – عليه السلام – للشيطان اذهب يا شيطان، مكتوب في الناموس الرب إلهك لا تختبر، لا تمتحن! الله لا يُمتحَن، الله هو الذي يمتحن، لأنه أكبر، انتبه! فما هو أكبر له الحق أن يختبر، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، ونحن أكبر من الكون، فنختبر الكون، صحيح! من الذرة إلى المجرة يخضع لاختبارنا، ستقول كيف؟ هذه آليات العقل، لأن الله الذي قال لك إنه مُسخَّر لك سيُثبِت لك أنك أكبر منه، وسيُلهِم عقلك آليات وتقنيات تُخضِعه لاختبارك، وهذا ما حصل! العلماء وهم جلوس في معاملهم وفي مخابرهم يعرفون الشمس ومِمَن تتكوَّن والعناصر التي تحفل بها هذه الشمس، أعني في هذا العالم، كيف عرفوها؟ عرفوها بالتحليل الطيفي، آلية ذكية جداً وعبقرية حقيقيةً، هنا يعرفون كل ما على الشمس، فيها صوديوم Sodium، فيها نيتروجين Nitrogen، فيها هيدروجين Hydrogen، فيها هيليوم Helium، وفيها كذا وكذا، كل شيئ! وأحياناً بنسب دقيقة يعرفون، شيئ عجيب! لأنها أصغر منا، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩، فأنت عبدٌ لله وحده – كما قال محمد عبده رحمة الله عليه – وسيدٌ لكل شيئ بعده، أخذها من آية التسخير، أما الله فهو أكبر، أكبر من أن يُختبَر، وأكبر من أن يُمتحَن، أتُريد الامتحان؟ امتحن نفسك أنت وفق منهاج الله، وفق قانون الله، وسوف ترى النتيجة وسريعاً، أنت تستطيع أن تمتحن نفسك وترى النتيجة ويتبرهن لك صحة الخُطة الإلهية، العكس ليس بصحيح، هو المُهيمن وهو المُحيط وهو الغاية. 

إذن يصح أن يكون غاية، الله أكبر! الله أكبر هو غاية، لأنه ليس أصغر منا، كل ما عداه أصغر منا، فلا يصح أن يكون غاية، ولذلك حتى البحث الذي يُريد أن يجعل فقط غايته معرفة بعض حقائق الوجود وما إلى ذلك ليس غاية وليس نهاية ولا يُشبِع الإنسان إشباعاً حقيقياً تاماً أبداً، يبقى الإنسان فيه ضعف شديد جداً، فيه توق، فيه خلة، فراغ! فيه خلة، خلة لا يسدها إلا هذه العلاقة الخاصة الحميمة برب العالمين، لا إله إلا هو! علماً بأننا سنُعمِّق هذا بعد قليل، أي سنُعمِّق هذا المعنى بعد قليل.

نعود أيضاً إلى حيث ابتدأنا، اللذة! إذن هذا حال اللذة، عبد الملك بن مروان كان يقول كنت أخشى ما أخشاه وأنا شابٌ قويٌ جلدٌ أن يرغب النساء عني إذا علت سني، كان يحمل الهم بشكل كبير، بعد ثلاثين سنة حين أكبر وأضعف وتضعف مُنتي وقوتي أخشى من أن النساء سيزهدن في، وماذا بعد؟ ما النتيجة؟ قال فلما كبرت إذا أنا الذي أزهد فيهن، ما عدت أُريدهن، انتهى، اضمحلت الشهوة، لا أُريدهن، انتهى! هذا المنطق صحيح، هذا منطق الحياة، تضمحل دائماً، هذا اضمحلال! والشهوة تشاركية أو فردية؟ فردية، لذلك هي صغيرة، صغيرة جداً، صحيح! وليست مدموغة، فرق كبير بين موقف القرآن موقف الأديان الأُخرى، فرق كبير بين أن يُقال لي إن الشهوة مدموغة موصومة ملعونة مُثرَّب عليها وبين أن يُقال لي إنها سائغة مُبرَّرة بشروط وبقيود لكنها ليست الهدف النهائي فانتبه، بعض الناس يكبر وتضعف حتى قوته ولا يزال يحطب في حبل الشهوات، حبل الشُهرة والظهور والرياء وأنا فعلت وأنا عملت وأنا كذا وكذا وانظروا إلىّ واحكوا عني واظهروني، ولا يشبع المسكين! أو شهوات النساء أو شهوات الكذا والكذا، ما هذا؟ مسكين هذا، مسكين! هذا غير ناضج، فقير، ضحل، وشحيح، سيحترق كالشمعة مكانه، وسوف يرى أنه لم يصل، انتبه! هذه الشهوة.

نأتي إلى شيئ أعلى من اللذائذ، إنه الإنجاز، ما يُسمى بالنجاح الدنيوي، الــ Achievement، النجاحات والإنجازات! بلا شك هذه أكثر دوامية من اللذة، وأكثر إرضاءً وإشباعاً للإنسان، قال تعالى اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ ۩، إنجازات! أنا عندي وأنت ليس عندك، أنا عملت وأنت لم أعمل، أنا فعلت وأنت لم تفعل، الله يحكي الواقع، هذا واقع الناس، وهذا يُعطي الناس قدراً من الارتياح والرضا أكثر مما تُعطيه اللذائذ الفردية، لكن هناك ما يُعكِّر عليه، وسوف نختبر هذا المُستوى من مُستويات التحقق والتجوهر بالمعيارين ذاتيهما: معيار الاضمحلال ومعيار أصغر أو أكبر مني، انتبه! أصغر أو أكبر مني، هل هذه الأشياء أصغر أو أكبر منا؟ ثم هل هي دائمة أو تضمحل؟ قبل ذلك هناك الكثير ما يُعكِّر عليها، أولاً هي انحصارية، المال، السُلطة، الشُهرة – أيضاً الشُهرة – وما إلى ذلك كلها أمور انحصارية، وبالتالي فهي تنافسية كما قال أحدهم، تنافسية!

تصوَّر شعباً كل مَن فيه مشهور، فلا يبقى أحدٌ فيه مشهوراً، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً، لو تصوَّرت شعباً كل مَن فيه مشهور هنا يسقط معنى الشُهرة، لا يبقى أحدٌ مشهوراً، ولذلك إذا أردت أن تكون مشهوراً فستخضع لتنافس وتنافس في أكثر الأحايين غير شريف، لأن هناك الكثيرين، يزدحمون في نفس الطريق لكي يكونوا ماذا؟ مشاهير، أليس كذلك؟ والأمر نفسه مع تحصيل المال، تُريد أن تُحصِّل المال، ويُشارِكك في هذا ملايين، ملايين يُريدون أن يُحصِّلوا هذا المال، سواء نجحوا أو أخفقوا، وتخضع لتنافس في أكثر الأحيان غير شريف، ثم هذه الأشياء – كما قلت – مبدأها أنها انحصارية، تأمَّل في هذه المقولة: الدولار أو اليورو الذي أملكه أنا أو تملكه أنت لا يملكه بيل غيتس Bill Gates، وهذا حقيقي، كلام حقيقي، ليس مُبالَغةً، لا يملكه! هو يملك مائة مليار غيره، لكن دولاري أنا هو لا يملكه، لأنه لي، هل فهمت؟ لا يملكه! وهذا معنى قوله تعالى لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، الله أكبر! وحده له هذا، الواحد الوحيد الذي يستطيع أن يقول كل ما في الوجود لي، لا أحد يستطيع أن يقول هذه الكلمة، أليس كذلك؟ حتى لو كان عنده ليس مائتي مليار وإنما أربعمائة مليار أو كوادريليون Quadrillion دولار، لا يستطيع أن يقول هذا، سيبقى معي أنا عدنان إبراهيم المسكين دولار ليس عنده، وسأقول له عندي ما ليس عندك، هذا عندي ولن أُعطيك إياه، هكذا خلق الله العالم! أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۩، ستبقى موصوماً بالفقر، لذلك يقول أفلاطون Plato – الفيلسوف المثالي الهائل – ليس الفقر من قلة ما نمتلك، بل الفقر يأتي من الطمع فيما لا نمتلك، وطبعاً منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال، هل تظن أن بيل غيتس Bill Gates أشبعته مائة مليار؟ والله العظيم لم تُشبِعه، وأنا أُقسِم غير حانث، وتعرف طبعاً أنني غير حانث، لا تُشبِعه! ولا أضعاف أضعافها ستُشبِعه، مُستحيل! منهومان لا يشبعان.

في علم النفس يقول أحد علماء النفس الأمريكان إن الإنجازات الدنيوية ليس لها حد يعرف الإشباع، وهذا صحيح، رُغم أن هذا الكلام قاله عالم نفس مشهور لكن النبي قاله بعبارة بسيطة جداً وأفصح وأوضح، قال منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال، قد يقول لي أحدكم ولكن أنا أعرف رجلاً يُفرِّط في ماله، أقول له هذا ليس طالب مال يا حبيبي، هذا مُعطي مال، إذا كان طالب فهذا – بالعكس – سيحرص على كل سنت، سيُحاوِل أن يحتاز أكبر قدر مُمكِن من المال، ولن يشبعى بالشبع، فهذه الأمور انحصارية محدودة، وبالتالي تنافسية، وبالتالي مُعرَّضة لماذا؟ للقلقة وعدم الاستقرار، تخلق التوتر فيك والضغط العصبي – الــ Stress – الدائم!

إذن كل هؤلاء سلوهم، هؤلاء هم مثابات صالحة جداً للأمراض الوعائية، أمراض الضغط والأمراض النفسية كالاكتئاب وغيره، كلهم! أحسن مثابات لهذه الأمراض هؤلاء المساكين، لأنهم في حالة قلق دائم، مُواصَلة دائمة لهذا الإجهاد المُستمِر.

يقولون أن تصل إلى القمة أمر صعب، وأصعب منه أن تحتفظ بمكانك فيها، صعب جداً جداً جداً! لأنه أمر تنافسي، انحصاري تنافسي! في كل لحظة سوف تُركَل كما رُكِل صدّام وهتلر Hitler وموسوليني Mussolini وفرانكو Franco ويوليوس قيصر Julius Caesar ثم ينتهي كل شيئ، في كل لحظة يُمكِن أن تُركَل عن هذه القمة، ثم تتدهور وتنقطع رقبتك أو تُدَق عُنقك، في كل لحظة!

ثم هل هذه الأشياء أكبر أو أصغر منا؟ صدِّقوني لو كانت أكبر منا لأشبعتنا، أليس كذلك؟ إناء بسعة لترين نصب الماء الذي فيه في إناء بسعة لتر، يُشبِعه أو لا يُشبِعه؟ يُشبِعه، لكن يبدو أن هذه الأشياء – هكذا نفهم منهومان لا يشبعان، لا يملك جوف ابن آدم إلا التراب – الإنسان أكبر منها، الإنسان أكبر من كل هذه الأشياء! يا أخي افهم أكبر قدرك، أنت أكبر من كل أموالك الدنيا، لِمَ ترضى بغير هذا؟ لِمَ تبيع شخصيتك، إنسانيتك، مثابتك، حريتك، رجولتك، موقفك، وتدينك بعرض من الدنيا زائل؟ ما الذي أغراك؟ هل أغراك عشرة آلاف يورو أو مائة ألف أو عشرة مليون؟ المُشكِلة في عقلك وفي قيمك، المُشكِلة في العقل وفي القيم، كيف تفهم الحياة؟ فهمك للحياة مُختَل، أنت أكبر من كل مُلك هذه الدنيا المُسخَّر لك، ولذلك هذا المُلك لو أوتيته لن يُشبِعك، هل تعرف لماذا لا يُشبِعك؟ لأنك أكبر منه، الله أراد أن تكون أكبر منه، لا إله إلا هو! فأنت إناء بسعة بليون لتر، وهذه الدنيا كلها ألف لتر، ومن ثم لن تُشبِعك، لن تُشبعِك!

إذن لابد أن تبحث إلى الإمام، هناك شيئ آخر، وهل هذه الأشياء تذهب معنا – كما نقول – إلى قبرنا؟ قلنا في بداية الخُطبة سوف نلقى الله ولا نتعرَّف تقريباً في لحظة الفناء والزوي على ما يُحدِّدنا من معارفنا وأشيائنا وذكرياتنا وأماكننا، كل شيئ انتهى، كل شيئ! يبقى معك أنت، حقيقتك المركزية الجوهرية، هذه الحقيقة هي موضع نظر الدين، عين الدين مُصوَّبة ليل نهار وأبداً على هذه الحقيقة، تُريد تنميتها، تُريد تثميرها، تُريد تخصيبها، وتُريد إثراءها، كيف يكون ذلك؟ كيف يفعل الدين ذلك؟ هذا موضع – إن شاء الله – ربما لأحاديث أُخرى نتجاذب أطرافها.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                   (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

قال – صلى الله عليه وسلم – كما صح لأبي ذر يوماً يا أبا ذر الغنى غنى النفس، ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، صياغة إلهية رسولية لما قاله أفلاطون Plato، لكن بطريقة أكثر فصاحة وأكثر بياناً، ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس، ولذلك مَن كان غني النفس والروح بالله يختلف أمره، كان من دعائه – عليه السلام – اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك.

أيها الإخوة:

كبار مَن ذكرنا مِن القادة والفاتحين والساسة والعلماء والمُفكِّرين وحتى المُتدينين – كبار هؤلاء، انتبهوا إلى هذا المعنى اللطيف – الدنيا أحياناً تكون بنصها أو بثُلثها مُلكاً لأحدهم، يحكم فيها! يحكم في ثُلث الدنيا مثلاً، يحكم في العباد ويحكم في البلاد، ومع ذلك هذا الحاكم في البلاد والعباد – في ملايين الخلق ومليارات النقود والأموال – فقير جداً جداً جداً للود الصادق من زوجته، لاحترام أصدقائه له، لاعتراف أهل قريته – مسقط رأسه – بنجاحاته، أنني نجحت! ألا ترون أنني أصبحت ملكاً عظيماً؟ 

يوم نجح ريغان Reagan في انتخابات الرئاسة جاءوا وقالوا له العالم كله ضاجٌ بهذا الخبر، قال لا يعنيني، لا يعنيني هذا، ماذا قال أهل القرية الفلانية؟ نسيت اسمها، اسمها غريب جداً وعجيب، كأنه اسم شرقي، وهي القرية التي وُلِد فيها، رُغم تواضع مُستوى أهلها المادي والثقافي وما إلى ذلك هو يعنيه ماذا قال هؤلاء، أقاربه، جيرانه، وربما معشوقته التي رفضته يوماً ولم ترض به خطيباً، ماذا قال هؤلاء عنه حين أصبح رئيساً؟ هذا هو الإنسان.

تشرشل Churchill أمس حضرنا فيلماً وثائقياً عنه أو شبه وثائقي عنه، كان يجثو عند قدمي زوجته، يُناديها بالهرة المُدلَّلة، لكي تصفح عنه، وكان يحكم الرجل في رُبع العالم، وكان يجثو عند رجليها! المُؤرِّخ الإنجليزي الكبير – قبله بمائة وخمسين سنة – إدوارد جيبون Edward Gibbon – صاحب تاريخ الإمبراطورية الرومانية – خضع مرة وجثا على ركُبتيه في كبر سنه أمام جمال فتاة فتّان، هام به عقله، فخضع لها وجثا على رُكبتيه، استعبده الجمال! وكذلك تستعبدنا القوة، هذا الاستعباد هو الذي جعلنا حين كنا بدائيين ومُغفَّلين نعبد الزعماء ونُؤلِّههم من دون الله طبعاً، الإمبراطور الملك والإله الملك، الشمس ابن الشمس! وإلى اليوم لا تزال بقية وآثار من هذه الوثنية تسبح في دمائنا، في ثقافتنا أعني، في دماء ثقافتنا! كيف؟ حين يطلع الزعيم علينا، علماً بأن هذا في الشرق وفي الغرب، هذا ليس في الشرقيين وحدهم، حتى أمثال هؤلاء حين يطلعون في الشاشات وفي الميادين العامة على أمتهم في لحظات الأزمة تُذرَف العيون وتهتز الأبدان وتتعالى الصيحات، لماذا؟ هذا مُغفَّل، قد يكون مُتآمِراً عليكم، قد يكون يهدف فقط مصلحته الشخصية ومصلحته حزبه ومن ثم يُضحي بكم، ولكن هذه بقية من الوثنية.

والآن إذا كنا هكذا نُستعبَد للجمال، للحُسن، وللبهاء – الجمال شكلاً، الجمال صوتاً، الجمال زرفاً وقواماً -، وإذا كنا نُستعبَد للقوة – قوة المعرفة، قوة الفتح، قوة العلم، قوة السائس، قوة القائد، قوة المُقاتِل، أي قوة البدن – ولكل هذه الأشياء فلِمَ لا نُستعبَد لرب هذه المعاني، لكُلي الجمال، لا إله إلا هو، لكُلي القدرة، ولكُلي الغنى؟ كل ما نراه هو بعض جماله وبعض قوته وبعض جلاله، لا إله إلا هو! لِمَ لا نُحقِّق العبودية حقاً له؟ لِمَ لا نتعبَّد في محرابها على هذه الخلفية الدرّاكة المُعمَّقة حقاً؟

الجميل فقط يُعطيك فُرصة أن تتملى جماله، لكن رب الجمال قد يُعطيك جمالاً، هو الذي يُعطيه، وهو الذي أعطاه! القوي قد يُعينك بقوته، تقول له احمل معي أو احمل عني، لكن رب القوى – لا إله إلا هو – يخلق فيك قوة، الذكي قد يُفهِمك مسألة، يقول لك سأُفهِمك، في الحقيقة هو كيف يُفهِمك؟ هو لا يُفهِمك، هو يعرض لك فهمه، وأنت تُحاوِل أن تتعامل مع فهمه لما غمص وغمض عليك، وبالتالي قد تفهم وقد لا تفهم، أليس كذلك؟  يُمكِن أن يقول لك “علِّم في المتبلم يُصبِح ناسي، أي ناسياً”، وتعرف هذا! يُمكِن أن يُعلِّمك لساعة دون أن تفهم، لكن رب الفهوم والعقول والمدارك يخلق فيك فهماً، قال فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۩، الله أكبر! اللهم يا مُفهِّم سُليمان فهِّمنا، ويا مُعلِّم إبراهيم علِّمنا، يا صاحب القوى والقُدر اجعلنا أقوياء بك وأغنياء بك.
اللهم أغننا بالافتقار إليك، ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، اللهم أذِقنا حلاوة عبادتك ولذة مُناجاتك وبرد اليقين بك يا رب العالمين.

اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم يوم لقائك في غير ضراء مُضِرة ولا فتنة مُضِلة، اللهم أحسِن ختامنا وختام إخواننا وأخواتنا.

اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وفك أسرانا، واقض الدين عن مدينينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم انصر الإسلام وأعِز المُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، وافتح علينا فتوح العارفين، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(20/4/2007)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: