إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ۩ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۩ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ۩ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ۩ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ۩ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ۩ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

في هذا اليوم المُبارَك على الأرجح يتناول خُطباء الجُمعة حول العالم الموضوع الموسومي المعروف: الإسراء والمعراج بسيد المخلوقات صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً، ونحن لنا نعرض لهذا الموضوع الكريم إلا من زاوية علاقته بموضوعٍ آخر هو مثار جدل واختلاف من وقتٍ طويلٍ ولا سيما في هذا الوقت الآخَر أو الآخِر قد ازداد هذا الموضوع شبوباً وجدالاً واحتدمت النقاشات حوله كثيراً، إنه موضوع علاقة الدين بالعقل، والذي يُعنوَن دائماً تحت عنوان العقل والنقل، العقل والإيمان، العقل والدين، والعقل والوحي، وقد صار مُنذ حين مبحثاً ضافياً مُتشعِّباً مُهِماً ما يُعرَف بفلسفة الدين في الغرب، ويبدو أن بعض الدارسين من المُسلِمين الذين اطلعوا على الدراسات الغربية في هذا الباب أرادوا أن يستنسخوا وأن ينقلوا الإشكالية بجُذورها ومُلابَساتها كسراً للسياقات، مع أن الوضع يختلف أعتقد في قليل وربما في كثير بين الحالتين، حالة الأمة الإسلامية وحالة الأمة المسيحية وخاصة في الغرب المسيحي في العصور المُتأخِّرة.

العقل والنقل أيها الإخوة موضوع يتحدَّث فيه المُتخصِّصون ويتحدَّث فيه العوام، للأسف قد تجد مَن لا علاقة له لا بالعقل ولا بالنقل – من عامة الناس – ويقول لك هذا الموضوع مما يتعارض مع العقل فكيف يأتي في دين الله تبارك وتعالى؟ يشغب على الدين! أو هذا الموضوع مما يتعارض مع دين الله فلا نقبله وإن أتى به العقل والعلم، ولا يُفرِّق بينهما! قضية فيها اختلاط أيها الإخوة وفيها التباس وغموض غير قليل.

البداية الصحيحة ينبغي أن تكون من تعريف الدين الذي يُوضَع في مُقابِل العقل، العقل والدين، ما هو الدين بالذات؟ هل الدين كلام الشافعي – مثلاً – والطبري والطبراني وفلان وعلان من العلماء والوعّاظ والمُفكِّرين؟ هل هذا كله دين أيها الإخوة؟ فهومنا في الدين هل هي من الدين؟ ثم إن قلنا الدين يُقصَد به النص – النص المُقدَّس – هذا النص ليس شيئاً واحداً، ليست النصوص كلها بمثابة واحدة، مَن ذا يُنكِر الفرق المبدئي والجوهري بين القرآن الكريم كنص وبين السُنة؟ فرقٌ هائلٌ أيها الإخوة، أولاً لجهة الثبوت، القرآن مُتواتِر كله، الأمة المُسلِمة الآن تعد ملياراً وثمانمائة مليون حول العالم كلها تقرأ الكتاب نفسه بفضل الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ تصدح به في المحاريب وفي البيوت وفي كل مكان بالآيات نفسها وبالسور نفسها بفضل الله تبارك وتعالى، أما الأحاديث فبإجماع هذه الأمة المرحومة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها المكذوب المدسوس المصنوع كما يُقال، كله تحت عنوان حديث، وفيها السُنن العملية المُتواتِرة، وهاته التي جمعت الأمة ولم تُفرِّقها بفضل الله تبارك وتعالى، مُتواتِر السُنة العملية هو الذي جمع الأمة بمُختلِف طوائفها، سُنة بمُختلِف مذاهبهم وشيعة زيدية واثني عشرية وإباضية وغير ذلك، السُنن العملية – بفضل الله تبارك وتعالى – المُتواتِرة، وهناك ما لم يتواتر، وهذا الذي لم يتواتر أيها الإخوة إما أن يصح وإما أن لا يصح، فهل يُقال هذا كله دين؟ لابد أن نكون واضحين، ثم العقل، إن تكلَّمنا عن العقل وما العقل دخلنا في ملحج وفي مضيق أصعب من الصعب أيها الإخوة، أصعب من الصعب! بعض الناس يتحدَّث عن العقل الجمعي – عقل الجماعة، عقل القوم، عقل القبيلة – على أنه العقل، يقول أجمع العقلاء ويقول لك حُجة عُقلائية، لكن عقل قبيلتك هذا، عقل قومك، ثم عند تفكيكه وتحليله لا نرى أكثر من عوائد، مُعتادات! عوائد وتقاليد وأعراف يظنها عقلاً، كما قال أحد الأذكياء مُشكِلته يظن عادات قبيلته قانوناً كونياً، يجعلها كالعقل الذي هو أعدل الأشياء قسمة – على ما قال ديكارت Descartes – بين الناس، لا! هذه مُجرَّد مُعتادات، هذا العقل الجمعي.

بين الناس يتحدَّث عن العقل كمُحتوى، هذه النزعة تراجعت في العصر الحديث في الفلسفات الغربية، لكن إلى أيام كانط Kant – قبل مائتي سنة تقريباً – كان العقل يُتعاطى معه على أنه مُحتوى، مضمونات مُحدَّدة، عند أرسطو Aristotle قوانين العقل، إذا أردت أن تتحدَّث عن العقل تتحدَّث عن قوانين العقل، القوانين الناظمة، يأتي بعد ذلك كل شيئ منظوماً بهذه القوانين، أي الناظم والمنظوم بلُغة الفيلسوف الفرنسي الشهير أندريه لالاند André Lalande، العقل الناظم – يقول – والعقل المنظوم، العقل الناظم هو هذه القوانين المبدئية الأولية، أوليات العقل يقول بعضهم، ترجمها بعض العرب بالعقل المُكوِّن، لالاند Lalande يُسميها العقل الناظم، العقل المُكوَّن هي الأشياء التي اشتغل عليها العقل المُكوِّن، صنعها ونسجها من مبادئه، وهذه بلا شك أكثر استحالةً، ما معنى استحالةً؟ تحولاً وتغيراً، تتسحيل وتتغير بسرعة نسبية، أما قوانين العقل الناظم من منظور لالاند Lalande تقريباً تحولها يأتي بطيئاً جداً جداً حتى يُمكِن أن يُقال إنها لا تتحوَّل إلا في الزمان الطويل على أنه يُقِر تحولها، هذا ما لا يُقِره أرسطو Aristotle وأتباع المدرسة العقلية الأرسطية، يقول مُستحيل أن تتحوَّل، قوانين العقل هي ذاتها في الدنيا وفي الآخرة، هنا وعلى المريخ، هنا وفي آخر الكون السحيق، قوانين العقل! قانون الهوية، قانون السببية، استحالة اجتماع النقيضين، استحالة ارتفاع النقيضين، والثالث غير موجود، الثالث مرفوع، يُسمونه الوسط المرفوع، قال لك هذه قوانني العقل، عند ديكارت Descartes أبو العقلانية وأبو الفلسفة الأوروبية الحديثة هي الأفكار الفطرية، مُحتوى! عند كانط Kant – ايمانويل كانط Immanuel Kant صاحب العقلانية النقدية، الألماني الشهير صاحب نقد العقل الخالص – قوانين العقل كمُحتوى هي المقولات، المشهور منها ثنتا عشرة مقولة، المكان والزمان والسببية وإلى آخره، هذا هو، لكن بعد ذلك صاروا ينظرون إلى العقل على أنه نشاط دائب لاغب مُتعِب مُتغيِّر.

طبعاً دخلنا أيها الإخوة فيما يُشبِه النسبية، سيولة في النظرة إلى العقل، وهذا شيئ مُهدِّد وخطير أيضاً، طبعاً بلا شك كانط Kant كان آخر الذين أفقدونا أو أفقدوا مَن اقتنع بحُججه الثقة الكاملة أو حتى المُطلَقة بالعقل وقدرة العقل على أن يتعاطى مع موضوعاته أو معروفاته بطريقة موثوقة، كانط Kant شكَّكنا في هذا كثيراً، العقلانية النقدية الكانطية! تشكَّك الناس، كان هذا من آخرهم، لكن عبر التاريخ هناك المدرسة الشكوكية المشهورة، بيرون Pyrrho اليوناني، هناك لدينا أيضاً المدارس النسبية على اختلافها وخاصة في العصر الحديث، لدينا شكوكية ديفيد هيوم David Hume، لدينا براغماتية البراغماتيين، هؤلاء أيضاً يُشكِّكون في قيمة العقل، يقولون لك لا يُمكِن أن تعتمد عليه، العقل مُشكِلة عويصة وكبيرة، لكن ماذا عنه عند الإسلاميين في الفكر الإسلامي؟ في فكر الأئمة والعلماء عبر العصور ما هو العقل؟ أطلقوه بإزاء معانٍ كثيرة، بإزاء معنىً قالوا هو قابلية أو ملكة في الإنسان تُميِّزه من سائر أنواع الحيوان، لكن هذا – انتبهوا – لا يقول كثيراً، مثل هذا التعريف لا يقول كثيراً، هذا منقوص حتى منطقياً، وهذ التعريف لا يكاد يُضيف كثيراً، لماذا؟ لأن سيكون بعد ذلك مثار الاختلاف والجدل طبيعة هذه القابلية، صلاحيات هذه القابلية، ماذا يُمكِن أن ينتج عنها بالضبط؟ ما الذي يتميَّز به ولا يستطيعه الحيوان بالضبط وبدقة؟ أيضاً مسألة خلافية، ومنهم مَن استخدم العقل بالمعنى الأرسطي، قوانين العقل! يقول لك أوليات العقل، ومنهم مَن قال العقل هو العقل المعادي، أي العقل الشرعي، العقل الذي يعرف هُداه ورُشده، قالوا هذا عقل، وهذه كلها استخدامات نسبية.

نحن سنتفق الآن مبدئياً – يُمكِن أن تكون أصلب نُقطة نرتكز عليها – على العقل بمعنى القوانين الأرسطية له، صعب أن تنتجاوز مبدأ الهوية ومبدأ السببية ومبدأ التناقض، صعب جداً جداً! قد حاول الكثيرون ولم يستطيعوا إلى الآن، أذكاهم كان ومن آخرهم ديفيد هيوم David Hume ولم يستطع، وفشل فشلاً ذريعاً على أنه كان من أذكى الذين تعرَّضوا لهذه المسألة، لكن (يُشكِل علينا – بين مُزدوَجين أيضاً – ما لاحظه عالم الاجتماع الفرنسي الكبير ليفي بريل Lévy-Bruhl وهو تَلميذ دوركايم Durkheim على كل حال)، لاحظ أن من الشعوب البدائية – لاحظ هذا بنفسه – مَن لا يقتنعون أو مَن لا يقتنع منهم بقانون التناقض، عند بعض البدائيين يُمكِن أن يجتمع النقيضان، شيئ غريب جداً، يُمكِن أن يجتمع النقيضان، لأول مرة! وكتب هذا ليفي بريل Lévy-Bruhl، قال كنا نظن أن هذا القانون قانون كوني مُطلَق مُحتَّم يسري على الجميع، قال أنا شخصياً – عنده مساعي أنثروبولوجية – لاحظت بنفسي أن مِن البدائيين مَن هو مُقتنِعٌ باجتماع النقيضين، شيئ مُخيف على كل حال، لكن هذا شيئ نادر لا نُعوِّل عليه كثيراً، فاجعلونا مع المجموع ومع الجمهور، لكن قضية العقل قضية أكثر من مُعقَّدة.

الآن العقل والدين، لنبدأ أيضاً بالتحديدات التي يُمكِن أن يُتوافَق أو يُتسالَم عليها بمعنى ما من معاني التوافق والتسالم، هل يُمكِن أن يرد في دين الله – في دين سماوي – شيئ يتعارض أو يتناقض مع أوليات العقل ومع قوانين العقل الأولية؟ أنا أقول لكم في الدين الإسلامي هذا غير موجود ونتحدى! وتحدى العلماء من قديم، لا يُمكِن أن تقع على مُفرَدة واحدة في عقائد الإسلام أو شرائعه تتناقض مع أوليات العقل، يستحيل! في الأديان الأُخرى موجود حتى نكون صريحين، في المسيحية – مثلاً – يُوجَد هذا، مبدأ تجسد الله في مخلوق بشري اسمه عيسى ومبدأ الثلاثة واحد والواحد ثلاثة يتناقض مع أوليات العقل، ومن هنا كانت مُشكِلة – بل هي مُعضِلة إلى الآن – أو مُعضِلة العقل والنقل في الفكر المسيحي وخاصة المسيحي الغريبي أيها الإخوة، مُشكِلة لا يصح أن تُستنسَخ وأن تُنقَل كما هي، لا تُناسِبنا، لا تعكس سياقاتنا ولا تعكس حالاتنا، تعكس حالات أُخرى وسياقات أُخرى، هم اضطروا إلى أن يقولوا هذا، أي بعض أيضاً من كبار أذكيائهم مثل النمساوي – المُهندِس والفيلسوف الكبير – لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein، فيتغنشتاين Wittgenstein بدأ مُلحِداً حين كان نصيراً للوضعية المنطقية وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك حين افترق عن الوضعية المنطقية وعاداهم في المرحلة الثانية التي اقترب فيها من الدين ومن الإيمان انتهى فيتغنشتاين Wittgenstein إلى أن كل مجال له قواعد اللعب الخاصة به، العلم عنده قواعد لعب خاصة به، هل هذا واضح؟ الدين عنده قواعد لعب خاصة به، ولا يجوز أن تخلط بين المجالين، إن دخلت ميدان الدين أو ساحة الدين عليك أن تتجرَّد تماماً من كل القواعد التي تصطنعها وتستعملها وأنت تلعب في ساحة العلم، لماذا هذا الفصل الحاد أيها الإخوة؟ لماذا إقامة هذا السور الخرساني – سور الصين العظيم – بين المجالين؟ طبعاً لحل مُعضِلة حقيقية.

طبعاً اللاهوت الأرثوذوكسي الجديد – هذا أحدث لاهوت عندهم – عمره زُهاء مائة وثلاثين أو مائة وأربعين سنة، تقريباً قرن ونصف، ومن أعلامه المشاهير جداً كارل بارث Karl Barth المُتوفى في آخر سبعينيات القرن والعشرين، تحديداً في ألف وتسعمائة وثماني وستين، كارل بارث Karl Barth كان يقول نفس الشيئ، يقول العلم والدين مُتميِّزان، يمتاز كلٌ منهما من صاحبه موضوعاً ومنهجاً وغايةً، على مُستويات ثلاثة! موضوعاً: يقول موضوع الدين – أي موضوع اللاهوت أو الثيولوجيا Theology، طبعاً رأيتم أن المُشكِلة الحقيقية ليست في التشاريع وليست في المباديء الأخلاقية والسلوكية وإنما في العقيدة وفي الدوجمات – Dogmas – العقدية لديهم – تجسد الرب في الإنسان، هذا الموضوع العلم لا علاقة له به، موضوع العلم هو الطبيعة – العالم المشهود، العالم المحسوس، عالم الطبيعة – بقواها المُختلِفة، أليس كذلك؟ منهج اللاهوت التجلي الإلهي للمُؤمِن، أي يتجلى الله لك، ولذلك فرَّقوا بين الإيمان بالقضايا والإيمان كتجربة، يقول لك Believe That or Believe In، هو يتحدَّث بلُغة ماذا؟ Believe In، أنك تخوض الإيمان كتجربة، تجربة مُواجَهة، مُواجَهة الله، اللقاء، ما يُسميه الصوفية الوصول إلى الله، قال لك هذا المنهج، هو هذا، وليس منهج المُتكلِّمين عندهم ولدينا That، أي Believe That، وتأتي بمُقدِّمات وتستهل بها وتشتغل عليها وتخرج منها بنتائج، قال لك هذا انتهى، هذا هو منهجنا، لكن ماذا عن الغاية؟ هذا واضح، الغاية الدينية واضحة تماماً، الغاية الدينية إعداد العبد للتواصل الدائم مع الله، ليكون في حضرة الله باستمرار، يُصبِح عبداً مُتألِّهاً، هذه غاية الدين، أما العلم موضوعه الطبيعة وقواها وقوانينها وعنده منهج معروف، منهج تجريبي إمبريقي معروف، وبعد ذلك يتغيا ماذا؟ يتغيا اطلاعنا – يهدف إلى اطلاعنا – على هذه القوانين من أجل تسخير الكون والطبيعة والعالم، من أجل القوة والسُلطة، المعرفة قوة بلُغة فرانسيس بيكون Francis Bacon، هل هذا واضح؟ هكذا قالوا، لكن هذا لا يتلاءم معنا كمُسلِمين، وضعنا مُختلِف، ليس لدينا في كل المُعتقَدات الدينية التوحيدية – بفضل الله – الإسلامية أي مُعتقَد أو مُفرَدة – ولا مُفرَدة واحدة – تتناقض مع أوليات العقل، انتبهوا! يجب أن نكون واضحين في هذه المسائل، لكن هل يأتي في الدين – الدين السماوي بما فيه الإسلام – شيئٌ يفوق العقل قليلاً، يتعالى على العقل؟ بمعنى ماذا؟ يتعالى ولا يتناقض، لا يتناقض ولا يصطدم، لكن شيئ العقل لو تُرِك وحده لا يستقل بدركه، لا يستقل بإدراكه، لا يستطيع طبعاً، وهذه طبيعة الدين أصلاً، العقل لو تُرِكَ وحده صعب جداً إن لم يكن من المُستحيل طبعاً أدراكه، وحتى إذا فعل بطريقة ما لا يستطيع أن يكون مُلزِماً، لا نُصدِّق نحن، لسنا مُلزَمين أن نُصدِّق، لو جاء فيلسوف بعقله المُجرَّد دون أن يطلع على أي تُراث من تُراثات النبوة أو النبوات السماوية وقال لابد أن تكون هناك حياة أُخرى ولابد أن تكون هناك جنة وأن تكون هناك نار وأن يكون هناك حساب فتُنصَب موازين العدل وأتى بأدلة كثيرة سوف نقول ليفعل، وله أن يُصدِّق هذا، لكن لا يلزمنا، وسيظهر طبعاً أيها الإخوة في المشهد ألف واحد آخر وبالعقل يُجادِل ويُحاجِج أن هذا الكلام باطل وغير صحيح وغير مُلزِم، أليس كذلك؟ صعب، وبعد ذلك سوف يقول هناك ملائكة، تُوجَد ملائكة، كائنات نورانية – مخلوقة من نور – اسمها الملائكة وهي مُوظَّفة في وظائف كثيرة، العقل لا يستطيع أن يُدرِك هذا، لا علاقة له به، هل هذا واضح؟ لكن هل هذا يُصادِم العقل؟ كلام فارغ، يأتيك واحد – هذه هي، هذه مُشكِلة مَن يهرف بما لا يعرف – ويقول لك يا أخي ما الملائكة؟ وما الجن؟ وما الجنة والنار والحساب؟ ما الكلام هذا الذي يتناقض مع العقل؟ كيف يتناقض مع العقل؟ العقل بأي معنى؟ هل تفهم عن أي عقل تتحدَّث أنت؟ ثم إذا فتَّشته وجادلته إذا به يقصد ويعني ماذا؟ يتناقض مع العلم، يقول لك العلم لم يستطع أن يُصوِّر لنا هذا، لا بتحت الحمراء ولا فوق البنفسجية، ما هذا؟ هذا علم أو عقل؟ تتحدَّث عن علم أو عقل؟ دائرة العقل أوسع بمراحل من دائرة العلم، والعلم نسبي ومُتناسِخ ومُتراكِم أيضاً، العقل لا يُمكِن أن يكون مُستنَداً نهائياً لنا في وزن العقائد، لا يُمكِن! لا يفعل هذا إلا إنسان لا يعرف ماذا يخرج من رأسه، هل هذا وضح؟ يُوجَد فرق! لا تخلط بين العلم والعقل، وبالمُناسَبة هناك مَن فعل هذا، المدرسة الإصلاحية الإسلامية – مدرسة جمال الدين الإفغاني ومحمد عبده مثلاً – تعاطت مع هذه المسألة بالطريقة التقليدية إلى حدٍ ما، واقتربوا منها وكانوا جريئين، جرأة محمودة! لكن الذين خلفوا بعد ذلك – الخلوف بعد ذلك للأسف – مثل محمد فريد وجدي والغمراوي وإلى حد بعيد طنطاوي جوهري وبعد ذلك المدارس الأصولية كالإخوان المُسلِمين – سيد قطب ومحمد قطب – وفي الهند أبو الحسن الندوي بالذات – رحمة الله عليه – وفي إيران أعتقد يد الله سحابي وبعد ذلك مهدي بزرجان – رحمة الله على الجميع – قالوا نحن لا نبحث أصلاً ولا نُريد أن نُكِد أذهاننا ونُتعِب عقولنا وعقول قرائنا بقضية العقل بمعنى العقلانية الباحثة في الميتافيزيقا Metaphysics وعلاقة هذا بالقضايا الدينية، لا نُريد هذا، نحن نبحث في علاقة الدين بالعلم، العلم! وبدأوا يُنظِّرون في هذا، هذا لا يحل المُشكِلة، هذا لم يحل وليس من شأنه أن يحل المُشكِلة، يُنظِّرون لعلاقة ماذا؟ الدين بالعلم، لكن المُشكِلة أعمق من هذا، الدين وعلاقته بالعقل وليس بالعلم وحده، هذا مبحث آخر وهو سهل بالمُناسَبة، سهل جداً! مبحث علاقة الدين بالعقل سهل جداً، أسهل بمراحل من علاقة الدين بالعلم، فهذا التطور الذي حصل في المرحلة الأخيرة.

إذن هل يُمكِن أن يرد في الدين ما يتعالى؟ نعم، هل يُمكِن أن يرد في الدين ما يفوق العقل؟ نعم، هل يُمكِن أن يرد في الدين ما يتناقض مع العقل؟ لا، ولذلك وُجِد في تُراثنا الإسلامي أيها الإخوة جهابذة، عباقرة، وقامات باذخة مثل الإمام حُجة الإسلام الغزّالي، وهذ كان صاحب عقلانية أيضاً نقدية، عنده حس نقدي عالٍ جداً هذا الرجل رحمة الله تعالى عليه، وله تجربة خاصة معروفة، الإمام الغزّالي كان يرى أن العقل هو شرعٌ في الباطن، ولك أن تتخيَّل هذا، يقول العقل والشرع – وهذا من أقوى التوصيفات وأدقها وأبلغها على وجازتها – أو العقل والوحي في الحقيقة مُتحِدان، لأن الذي أنزل الوحي هو الذي خلق العقل، العقل هذا ليس مخلوقاً لإبليس، انتبهوا! بعض الناس ينصب الخلاف بين العقل والدين كأن الدين من عند الله – من مصدر النور – وكأن العقل حليف للظلام وللشيطان ولإبليس ولابد أن تكون هناك معركة دائبة ودائمة وطاحنة، غير صحيح! الذي أعطاك العقل وجعله مناط التكليف هو الذي أنزل عليك الشرع الحكيم، فلو قد اهتديت حقاً واستخدمت هذا العقل بقوانينه وبحقه لما وجدت شيئاً في الدين يتعاصى على عقلك، لكن انتبه إلى أن هذا بالمعنى الذي حدَّدناه لكلمة دين، فلا تأتني بحديث آحاد، وحديث الآحاد هذا عُرضة أن يكون ماذا؟ غير ثابت، طبعاً هناك احتمال وارد أن يكون لم يثبت عن رسول الله في واقع الأمر، وهذا الحديث يتعارض مع قوانين كونية، لكن لا يتعارض مع قوانين عقلية، فهذا صعب وغير موجود، مُستحيل أن حديثاً يتعارض مع قوانين عقلية، هذا غير موجود، لكن يُمكِن هذا مع قوانين كونية لا تتبدَّل ولا تتغيَّر وهي حاكمة على الكل، أو هذا الحديث الآحاد يتناقض مع الكتاب، العقل هنا يقول لا أقبل، لا تقل لي أنت عقلاني، يجب أن أكون عقلانياً، يجب! بالمُناسَبة هؤلاء الذين يُنحون باللائمة على العقل وكأن التشبث بالعقل معرة وكأنه معرة وموطن ملام نقول لهم بالعكس العقل يُمكِن أن يُقال يا إخواني حاضرٌ أبداً في أكثر أقصى وأقسى صور غيابه، في حده الأدنى حاضر، ما رأيكم؟ بمعنى ماذا؟ بمعنى أنك حين تذهب مهما كنت ذا نزعة إيمانية مُتطرِّفة إقصائية لكل عقلانية أنت لابد أن تُحاجِج عن نزعتك مُستخدِماً العقل، العقل! استخدم العقل، لا يُمكِن أن تستخدم النص مُباشَرةً وحده، لا يُمكِن! لابد أن تُدخِله في قياس، في صورة استدلالية عقلية تخضع لقوانين وعمل العقل ولاشتغال العقل.

يطيب لي أن أُشبِّه هذا بكلمة مولانا جلال الدين الرومي قدَّس الله سره، يقول فمثلك إذن عندي كمثل الذي يطرق الباب على الخواجة – الخواجة بالفارسية تعني الشيخ، لا تعني الخواجة الأجنبي، أي كمثل الذي يطرق الباب على الشيخ – فيأتيه صوت الخواجة من الداخل: الخواجة ليس هنا، قال ولإنه يعرف صوت الخواجة فيفهم من ليس هنا أنه هنا ويستمر بالطرق. تشبيه جميل جداً! ولذلك نحن ينطبق علينا نفس الشيئ، نحن نُلاحِظ أنكم تتشبَّثون بأذيال العقل في أثناء بل في عين احتجاجكم على العقل، تذهبون تقولون العقل له حدود وهذا أكيد، كل شيئ غير الله أكيد محدود وله حدود ينقطع وينتهي عندها وإليها، أكيد! يُقال العقل له حدود، وطبعاً فهمك حتى للشرع له حدود، وهذا الفهم لا يكون إلا بالعقل، تقول العقل له حدود والعقل قاصر، لو سألناك ما الذي دلك على أن للعقل حدوداً؟ سوف تقول العقل، العقل! العقل إذ يعقل العقل، أي العقل إذ يعقل نفسه، الإبستمولوجيا Epistemology! هو هذا، نظرية المعرفة هذه هي نظرية عقلية في صميمها في النهاية، جوهرها ماذا؟ مُحاوَلة العقل أن يُقارِب ذاته، يرى نفسه ويعرف كيف يشتغل وما حدوده وما صلاحياته؟ كل سعي كانط Kant في العقل النقدي هو معرفة صلاحيات العقل وحدود العقل، هو هذا! العقل يفعل هذا، ولذلك يا خواجة نحن نعلم أنك هناك، مهما أصررت على أنك لست هناك، لأنك أنت الذي تقول إنك هناك، لكن أما – كما قلت لكم – أن يأتي الشرع بشيئ قد يحتار فيه الإنسان وقد يشعر أنه أكبر من إدراكه قليلاً فهذا شيئ آخر، وكما قال علماؤنا الأفاضل مُلخِّصين أيضاً ومُوجِزين ومُكثِّفين الشرع يأتي بمحارات العقول – أشياء تحار فيها العقول، هذا مُمكِن – لكنه لا يُمكِن أن يأتي بمُحالات العقول، أي شيئ يحكم العقل بإحالته وباستحالته، بأنه مُستحيل، هذا غير موجود في شرع الله بفضل الله تبارك وتعالى، لكن انتبهوا، يُوجَد شيئ مُهِم جداً جداً، كون الشرع وكون الدين السماوي يأتي بأشياء تتعالى قليلاً وتتفوَّق على العقل – أكبر من أن يُدرِكها العقل استقلالاً، أي وحده ومن لدُنه – هذا أحد الأدلة القوية على أن الدين من عند الله طبعاً!

والله لو لم تكن هذه الصفة موجودة في دين الله السماوي لقال أي مُشاغِب: يا أخي دين ماذا؟ هذه منظومة فلسفية فكرية، أرسطو Aristotle أتى بأحسن منها، لكن انظروا إلى الدين بما هو، فعلاً – سُبحان الله – هو هكذا، الدين بما هو يأتيك بأشياء لا يستقل العقل بدركها، تُحيِّر العقل أحياناً، مرة أُخرى مولانا يقول لو لم يكن هذا كله – عبارته هكذا لكنها غير دقيقة فلسفياً – غير معقول فلماذا كانت المعاجز؟ لماذا يبعث الله مع الأنبياء رسائل وشرائع ولكن يُؤيِّدها بمعاجز؟ هذه خوارق للعادات وليس للعقل، لا تُوجَد مُعجِزة تخرق العقل، وأنا من رأيي – عندي كلام في هذا كثيرة – لا تُوجَد مُعجِزة تخرق القانون الطبيعي، ما رأيكم في هذا أيضاً؟ ذكرت هذا حين قلت انتهى عصر المُعجِزات، لا تُوجَد مُعجِزة تخرق القانون الطبيعي، ولكنها تخرق ماذا؟ العادة، وعلماؤنا اهتدوا إلى هذا بفضل الله، العلماء فهموا أن المُعجِزة خرق للعادة وليست خرقاً للعقل وقوانين العقل، وإلا ينتهي كل شيئ، أي شيئ يخرق قوانين العقل يُدخِلنا في عماء مُطلَق، عماء سديمي مُطلَق وينتهي كل شيئ، إلى عدمية، هل هذا واضح؟

نرجع ونقول مرة ثانية العقل هو الذي يُدرِك أنه لا يجوز نصب الخلاف بين العقل وكتاب الله المُتواتِر المقطوع على كل غيوبه – قولاً واحداً – بحديث رواه فلان عن فلان عن فلان عن فلان وانتهى تخريجه إلى الإمام فلان في القرن الثالث، حديث! والرواة وإن يكونوا من الصحابة يعرض لهم ماذا؟ الوهم، الغلط، الخطأ، الاشتباه، سوء الفهم، أليس كذلك؟ والخلط، يقع هذا للراوي، والأمثلة على هذا بالعشرات في أحاديث الصحيحين، الإمام أبو عمرو بن الصلاح الشهرزوري – رحمة الله عليه – صاحب المُقدِّمة الشهيرة عنده كتاب على صحيح مُسلِم قرأته قبل أكثر من ثلاثين سنة، في مُعظَم أبواب هذا الكتاب يذكر سبب الخلاف، يُوجَد خلاف، تُوجَد مُعارَضة ظاهرية كما يقول علماء أصول الفقه، مُعارَضة ظاهرية بين هذا الحديث وهذا الحديث، يقول لك اختلاف في الرواية، هذا الراوي روى شيئاً وهذا أسقط شيئاً، هذا من عمل الرواة، ولذلك عائشة ماذا قالت – وتعلمون هذا أعتقد من عند آخركم – لما قيل لها مرة في الحديث الشهير إن ابن عمر – رضيَ الله تعالى عنهما – يُحدِّث عن رسول الله بقوله إن الميت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه؟ صحابي هذا، هذا ليس البخاري، انتبه! هذا عبد الله بن عمر، صحابي جليل وعابد مُتألِّه رباني، سمع نبيه مُباشَرةً يقول إن الميت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه، قال سمعت النبي يقول هذا، عائشة لما بلغها هذا القول قالت لا والله ما قال رسول الله قط الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه، لماذا تحلفين أنتِ؟ فقيهة كبيرة طبعاً وعندها منهج عقلي مُنضبِط، هذا المنهج العقلي تستخدمه في ماذا؟ في مُعارَضة نص بنص، حل هذا التعارض الظاهري المُعرَّف في أصول الفقه بأنه تقابل دليلين على وجه المُمانَعة، هذا اسمه تعارض النصوص وهو تعارض ظاهري، نحن هنا بالمُناسَبة مُباشَرةً نقول هذا أصلاً ربما لا يتوفَّر على شرط التعارض، أصلاً هذا غير مُتعارِض، لماذا؟ لأن هذا مُتواتِر وهذا حديث لم يثبت على وجهه، عند عائشة لم يثبت على وجهه، هو سمع غلطاً أو لم يفهم كلام النبي، إذن يا أمنا ماذا قال رسول الله؟ قالت – هي سمعت من رسول الله ولذلك هي حلفت، لا والله قالت ما قاله، هل هي تُكذِّب ابن عمر؟ حاشاه وحاشاها، أبداً! لكن هي تُغلِّط السمع، قالت السمع يُخطيء والفهم يغلط أيضاً، أنت تفهم غلطاً فتروي على نحو ما فهمت، تظن أن النبي قال هذا، لكن النبي لم يقل، إذن ماذا قال؟ انظروا إلى هذا، كلام عائشة بادئ السمع أو حين تسمعه لأول مرة كأنه كلام ابن عمر – ولكن قال رسول الله – صلى الله عليه وآله – إن الله ليزيد الميت عذاباً ببكاء أهله عليه، يا الله! قريبة جداً، لا! لكنها تختلف، تختلف كثيراً، كيف إن الميت ليُعذَّب ببكاء أهله عليه؟ ما ذنبه؟ ثم قالت وقال الله تعالى وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، والله لهو أضحك وأبكى، هكذا قالت هي، احتجت بآية النجم، قالت ولهو أضحك وأبكى، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، رجل مات كافراً كان أم غير كافر ويبكي عليه الناس، هم أحرار وهو لا يتحمَّل شيئاً من وزر هذا ولا معرته، إذن ما معنى كلامها المنقول عن رسول الله؟ يعني أنه يتعذَّب نفسياً وروحياً، طبعاً الميت الكافر هذا يُواجِه مصيره وأهله ينوحون ويتعذَّبون ويتألَّمون عليه لأنه ذهب وانتهى فيتعذَّب نفسياً، مثلما تتعذَّب بعذاب حبيب وقريب، هذا هو المقصود، وليس أن الله يزيده عذاباً من لدُنه عز وجل – بإرسال ملائكة عذاب تُعذِّبه لأن أهله يبكون عليه، قالت هذا غلط، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، هن عائشة كانت عقلانية أو غير عقلانية؟ عقلانية، استخدمت العقل، قالت هناك قرآن، والقرآن قعَّد قواعد كُلية لا تنخرم، انتبه واحذر أن تأتي إلى قاعد قرآنية كُلية وتقول نُريد أن نستثنيها، قاعدة كُلية هذه، قاعدة حاكمة لها علاقة بعدل الله، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ۩، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ۩، كل واحد تُوزَن أعماله وليس أعمال الآخرين، أليس كذلك؟ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ ۩، وهكذا! إذن هذه قاعدة، ففهموا هذا وانتهوا إليه، ونحن أيضاً فهمنا.

الأكثر من هذا أن أم بشر الأنصارية – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – فيما يرويه أحمد بسند صحيح ومُسلِم في صحيحه – حديث في الصحيح – تقول أنا كنت عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسمعته يقول وحفصة – يبدو هذا في حُجرة حفصة أو في بيت حفصة – جالسة – أم المُؤمِنين بنت سيدنا عمر رضيَ الله عنهما – لن يدخل أحدٌ – إن شاء الله – النار من أهل الشجرة الذين بايعوا تحتها، من أهل بيعة الرضوان، قال إن شاء الله لن يدخل أي واحد منهم النار، بماذا ردت حفصة وقالت؟ عقلانية كانت، لم يقل لها يا عقلانية يا زنديقة ويا كذا وكذا، لم يقل هذا، هذا العقل، العقل مناط التكليف ووسيلة الفهم للشرع، فهم النصوص! قالت بلى يا رسول الله، ترد! قالت له لا، سوف يدخل منهم النار، بعضهم سوف يدخل النار، فانتهرها، قال لها مه، اسكتي! أنا نبي وأُخبِر عن الغيب، أتُريدن علىّ وتقولين بلى؟ قالت بلى يا رسول الله، قالت أم بشر فانتهرها، فقالت – لم تسكت – عندي دليل، الذي جرَّأها وجسَّرها ماذا؟ هو العقل، احترام العقل واحترام القواعد الكُلية، قالت قال تعالى وَإِن مِّنكُمْ – انظر إلى الصيغة، قال وَإِن مِّنكُمْ ۩، أي ولا واحداً إلا، أرأيت؟ – إِلَّا وَارِدُهَا ۚ۩، سورة مريم، كيف رد النبي عليها؟ يا ليتنا فهمنا رده، رد بطريقة نقض بها فهماً سائداً لديناً وإن استند أيضاً إلى نصوص الله أعلم بحالها وأصلها وفصلها، قال قال الله تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ۩، قال لها لا، أنتِ لم تفهمي، لكن كيف؟ بالمُناسَبة – انتبهوا – لو أنتم فهمتم الآية بالفهم السائد سيُعجِزكم قول رسول الله، لن تفهموه! سوف تقولون لا، الحق مع حفصة، لم نفهم، كيف إذن؟ أنت تقول الله قال ثُمَّ نُنَجِّي ۩، هذا يعني أنهم سوف يدخلون وبعد أن يدخلوا سوف يخرجون وينجو المُتقون لأنه قال وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ ۩، لكن يا جماعة المسألة ليست كذلك، أحسن مَن رأيته – ذكرت هذا مرة هنا ومرة في برنامج رحمة للعالمين – فسَّر هذه الآيات هو شيخ الإسلام والعلّامة المُفسِّر اللوذعي الطاهر بن عاشور روَّح الله روحه في عليين، الطاهر بن عاشور قال السياق كله في مَن؟ في المُشرِكين، فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ۩ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ – أي الذي يُقال له، وهذا إعرابياً فيه مُشكِلة، ليس أَيَّهُمْ وإنما أَيُّهُمْ ۩ – أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَٰنِ عِتِيًّا ۩ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيًّا ۩، وبعد ذلك ماذا قال؟ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ ۩، انتبهوا! الكلام كله عن المُشرِكين، عن الكفّار! لكنه على سبيل الترقي في المُواجَهة بالتهديد التفت – يُسمونه في علم البيان الالتفات، هذا التفات – من الغيبة إلى الخطاب، فكأنه جعلهم أمامه وقال لهم وَإِن مِّنكُمْ – معاشر الكفّار المُشرِكين – إِلَّا وَارِدُهَا ۚ ۩، دفعاً للالتباس! أي التباس؟ الالتباس الناشئ عن توهم أن كُبراءهم الأشداء أو أشداءهم المنزوعين – ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ – على أنهم هم الأشد عتياً يكونون فداءً لهم، يُنزَعون فيُوضَعون في جهنم فداءً لسائر المُشرِكين الصغار، الحبايب المساكين هؤلاء، الله قال لا، قال لهم وَإِن مِّنكُمْ ۩، كلكم! هؤلاء سوف يكون عذابهم مُضاعَفاً مُشدَّداً، لكن معاشر المُشرِكين وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ۩ ثُمَّ نُنَجِّي… ۩، ثُمَّ ۩ هنا ليست إلا للترتيب الرُتبي، ترتيب في الرُتبة! بمعنى أنه قال وفضلاً عن هذا – يُريد الله أن يزيدهم غيظاً، يُريد أن يغيظهم مزيد إغاظة – المُتقون لا يردون جهنم أصلاً، قد تقول لي كيف؟ سنفهم، سأقول لك كيف لكي تفهم ما هو الورود أصلاً، الورود لُغة حقيقة ما هو؟ وهذا بالمُناسَبة من مسارح عمل العقل، العقل له مسرح طول عريض – والمسرح اسم مكان من سرح، يسرح فيه طويل ويتحرَّك – ومسرح كبير يسرح فيه في ماذا؟ في التعامل مع الألفاظ، هل هذا اللفظ هنا استُخدِم في حقيقته أو في مجازه؟ وهل هذا المجاز مجاز مشهور مُطلَقاً أو غير مشهور فيحتاج إلى قرينة؟ قصة! هذا كله من قوانين العقل وشغل العقل، عقل! العقل – بفضل الله – في الإسلام له اعتبار كبير جداً جداً، والعقل الديني – عقل علمائنا وعقل العباقرة – اشتغل كأحسن ما يكون، والآن سأُعطيكم Scheme أيضاً أو خُطاطة سريعة جداً عن كيف اشتغل العقل المُسلِم مع النصوص، من أروع ما يكون هذا العقل بالمُناسَبة لكنه ليس كاملاً – شأن البشر – ويحتاج إلى إضافات، هذا شيئ طبيعي ومعروف ومفهوم ومقبول.

الورود حقيقته أيها الإخوة الوصول إلى الماء للاستقاء، أن تصل إلى عين الماء لتستقي منها اسمه ورود، حقيقة! تعرفون الحقيقة والمجاز، المجاز لفظ يُستخدَم في غير ما وُضِع له، هل هذا واضح؟ هذا الذي وُضِع له المعنى، أن تصل إلى الماء لتستقي منه اسمه الورود، واستُخدِم بعد ذلك مجازاً شائعاً في ماذا؟ في معنى الوصول مُطلَقاً، يُقال لك وردنا أُناسٌ من فلسطين اليوم، كيف؟ هل نحن ماء هنا؟ لا، مجاز هذا، يُقال وردنا عالمٌ جليلٌ من بلا الحرمين، ما معنى وردنا؟ وصل إلينا، مجاز! أصل الورود ما سمعتم، لكن انتبهوا الآن، وهذا من قيل العلّامة ابن عاشور، قاله رحمة الله عليه في عليين، قال وأما الورود بمعنى الدخول فلا يُعرَف، غير معروف في لُغة العرب لا حقيقةً ولا مجازاً إلا أن يكون مجازاً غير مشهور فاحتاج إلى قرينة، إذن يصير المعنى ماذا؟ وإن منكم إلا واردها الذي يُستثنى منه المُؤمِنون، المُؤمِن بعون الله – تبارك وتعالى – لن يصل إلى جهنم أصلاً، ومن هنا بعض العلماء راجعوا موضوع أحاديث الصراط والمرور على الصراط والصراط المنصوب على جهنم، قالوا هذا كله يتعارض مع هذا الفهم، على كل حال لن نُدخِلكم في أشياء قد تتسبَّب فيما بعد في صداع الرأس – Headache – أو صداع من نوع ثانٍ، لكن هذا هو.

إذن كلام النبي – سُبحان الله – واضح، وبالمُناسَبة يتأيَّد هذا التفسير للعلّامة الجليل ونفهم حديث أم بشر – حفصة والرسول – فهماً مُستويً على سوقه إذا علمنا أن قراءة الحبر ابن عباس وقراءة عكرمة وقراءة جماعة: وإن منهم إلا واردها، قراءة! وإن منهم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً من غير التفات، الذي سمع بالالتفات لأول مرة لن يفهم وهذه خسارة، هذا المفروض أن يعرفه حتى الأولاد الذين في الإعدادية، الالتفات في سورة الفاتحة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، كله حديث عن الله بصيغة الغائب، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، كان حقها أن تكون ماذا لو مشينا على نفس النسق؟ إياه نعبد وإياه نستعين، فليهدنا الصراط المُستقيم، سوف نقول فليهدنا، لكن هذا لم يحدث، بعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩ استحضر ذا الجلال والإكرام أو كأنما ينظر إليك وكأنك تنظر إليه، قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، أرأيتم؟ التفات، هل هذا واضح؟ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ۩، قال كُنتُمْ ۩ وقال وَجَرَيْنَ بِهِم ۩، لماذا لم يقل كنتم وجرينا بكم؟ قال لك لا، هذا التفات، كثير جداً جداً الالتفات، القرآن غاصٌ وطافحٌ بالالتفاتات هذه، فهذا التفات، وهكذا نفهم كلام النبي، النبي يقول لها لا يا حفصة، أنتِ لم تفهمي الآية، أنتِ ظننتِ أن هذه الآية تعم كل الخلق، الكافر والمُؤمِن، غير صحيح! قال لها الله قال ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ۩، ومُتكِلاً على ماذا النبي؟ مُتكِلاً على شيئ حُقَّ له أن يتكل عليه، على فهم حفصة للُغة، قطعاً تعلم أن الورود حقيقته كذا ومجازه كذا، وتفهم أن ثُمَّ ۩ هنا للترتيب في الرُتبة، لفتها إلى أن هذا ترتيب رُتبي، يا حفصة أنتِ أسأتِ الفهم، وانتهى كل شيئ، لكن ليس هذا يهمنا، هذا موضوع آخر، الذي يهمنا أن حفصة سوَّغت لنفسها أن ترد على رسول الله، وطبعاً هذا ليس رداً جحدياً أو عنادياً، هذا رد استفصالي، كان رداً للاستفصال، أي من أجل أن يُنوِّرها ويُفهِّمها، قالت له أنت تقول لن يدخل أحدهم منهم النار والله يقول وَإِن مِّنكُمْ ۩؟ قال لها لا، كأنه يقول لها هذه الآية – على ما قلنا – في الكفّار والمُشرِكين، الذين اتقوا ليس لهم علاقة، ثُمَّ نُنَجِّي ۩، انتبهوا الآن، لفظ نُنَجِّي ۩ من ماذا؟ من الورود، لن يصلها من الأصل، لا تقل لي الورود بمعنى الدخول، سيسقط فيها ويعوم وبعد ذلك نُنجيه بإخراجه منها، هذا كلام فارغ، غير صحيح، لُغةً حتى غير صحيح هذا، لُغةً! فالتقي أو المُتقي أيها الإخوة ينجو من مُجرَّد أن يصل إلى جهنم، لن يصلها بإذن الله تعالى، وهكذا غاظهم الله تبارك وتعالى.

إخواني وأخواتي:

العقل في الإسلام – كما قلت الآن ربما أربع أو خمس مرات – ليس فقط مناط التكليف، طبعاً بلا شك المجنون لا تكليف عليه، لا تكليف في حقه، فالعقل أيضاً مناط فهم الأحكام وفهم النصوص والتعاطي معها، الآن باختصار يا إخواني القواعد التي لا يُنكِر مدى عبقريتها ولوذعيتها إلا جاحد مُكابِر أو جاهل التي اهتدى إليها علماء الحديث وعلماء المُصطلَح عبر العصور ما شاء الله – هذا يُضيف وهذا يزيد وهذا يُنقِّح وهذا كذا وكذا – هي قواعد أبدى بها العلماء عن درجة عالية جداً من العبقرية والذكاء في التوثق والاستيثاق لدينهم، عن طريق تمييز ما يُقبَل وما يُرَد من النصوص المعزوة إلى رسول الله أو حتى إلى أصحابه من الموقوفات، فوضعوا قواعد علم مُصطلَح الحديث، ويُسمونه علم الحديث أو علم الدراية، قواعد جميلة وذكية، السؤال: هذه القواعد طبيعتها شرعية أم عقلية؟ عقلية، من طبيعة عقلية، كيف؟ العقل مثلاً – ولا يُنكِر هذا إلا مُباهِت ومُكابِر – حاكم بأن خبراً تأدى إلينا من طريق واحد وهو عدل صادق لا يكذب ولا يُبالِغ – نعرف هذا لكن كما قلنا أي فرد مُعرَّض لماذا كما رأينا في الأمثلة؟ للاشتباه وللغلط ولسوء السمع ولسوء الفهم وللخلط، عادي! هناك أشياء كثيرة – لا يُورِث طمأنينة كالذي تأدى إلينا من طريق عشرة عدول، أليس كذلك؟ العقل يحكم بهذا، العقل يقول هذا، والدين أشار إلى هذا أيضاً، والدين هنا طبعاً يسير في مهيع العقل، قال وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ۩، ماذا؟ ما لهم؟ الله أرسل لهم كم؟ اثنين، ليسا رسلين سماويين، هذان رسولان من طرف عيسى عليه السلام، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ… ۩، لم يقل لك مَن كذَّب اثنين كمَن كذَّب عشرة، انتهى وخُذهم أخذ عزيز مُقتدِر، قال لك لا، اثنان وليس عندهما معاجز، أرأيتم؟ رُسل من عيسى هؤلاء، تَلاميذ عيسى، أي من الحواريين، فَكَذَّبُوهُمَا ۩، قيل هي أنطاكية، قال فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ۩، سورة يس! القرآن يقول لك تعزيز الخبر يكون بماذا؟ بثلاثة، لكي يكون خبراً عزيزاً قوياً لابد من ثلاثة، القرآن هنا يسير في ماذا؟ في مسار العقل، العقل هو الذي اهتدى إلى هذه القواعد، الآن هذه القواعد هل هي قواعد مُطلَقة الصحة فنقطع عليها؟ لا، أيضاً فيها مسرح للنظر، ومن هنا اختلف فيها العلماء، ومن هنا اختلافهم فبعضهم يقول هذا يُقبَل وبعضهم يقول لا، هذا عندي غير مقبول، كالمُرسَل مثلاً، الحديث المُرسَل، أليس كذلك؟ من العلماء مَن قبل المراسيل كالأحناف عموماً والمالكية، ومنهم مَن رد المراسيل، ومنهم مَن قبلها بشروط كالإمام الشافعي، فالمشهور عنه أنه وضع لها خمسة شروط، لأنها مسائل ليست قطعية على أنها من اشتغال العقل، هل هذا واضح؟ جميل جداً، وهذا كان أولاً.

ثانياً يا إخواني خُذوا القرآن نفسه – القرآن العزيز الكريم – وقولوا هل القرآن شيئ واحد من حيث دلالة ألفاظه على معانيها القائمة تحتها؟ لأ طبعاً، طبعاً لأ، سوف تقولون طبعاً واضح، هناك آيات نفهمها مُباشَرةً أول ما نسمعها، أول ما نسمعها نفهمها، لكن هناك آيات لا نفهمها، وهناك آيات نقرأها في عشرين تفسيراً ولا نفهمها، فعلاً هناك آيات على هذا النحو، لا تفهمها، تظل صعبة، يُوجَد شيئ غير مفهوم وقد حيَّر العلماء، ومن هنا بحث السادة العلماء في قضية اللفظ ودلالته على معناه، كم هو واضح في الدلالة على معناه؟ الجماهير قالوا اللفظ بهذا الاعتبار اثنان: الظاهر وأقوى منه النص، انتهى! الجماهير من مالكية وحنابلة وشافعية طبعاً قالوا هذا، الأحناف كانوا أكثر دقة، قالوا لا، اللفظ من حيث قوة دلالته على معناه – أي الوضوح، من حيث وضوحه – ينقسم إلى أربعة: عندنا نص، عندنا ظاهر، عندنا مُفسَّر، وعندنا مُحكَم، الكلام الآن حين تقرأه وتتوسَّع فيه تجده في مُنتهى الذكاء ومُنتهى اللوذعية، والآن بعض الناس يقول لك هناك البراغماتيات الغربية، علم من علوم اللُغة، أي Pragmatics، يقول لك هناك البراغماتيات الغربية وما إلى ذلك، ونقول له اقرأ علم الأصول عندك، شيئ في مُنتهى الذكاء، وذكرت لكم ذات مرة أن عالماً ليبياً فاضلاً يُدرِّس في الإمارات عنده رسالة دكتوراة في هذا الموضوع وكانت الأولى على جامعات بريطانيا في تخصصها في ذلك العام، وهي مطبوعة بفضل الله تبارك وتعالى، ثبت لهم أن علم أصول الفقه الإسلامي أذكى بكثير مما وصلتم إليه أنتم يا فلاسفة اللُغة الأوروبية، نعم لكم الحق في أن تعتزوا بهذا التُراث لكن افهموه أولاً، خُذوه باحترام وتوقير وادرسوه، افهموه! عبقرية هذه، أربع مراتب للوضوح، يُقابِلها إذن عدلاً – مُقابَلة عادلة – أربع مراتب في الخفاء، نأتي إلى الجمهور، قالوا لك هناك ظاهر وهناك نص، وهناك المُجمَل وهناك المُتشابِه، أتى الأحناف أيضً بقسمتهم الرباعية وقالوا لا، هناك الخفي والمُشكِل والمُجمَل والمُتشابِه، يا سلام! أربع مراتب من حيث الخفاء، هل هذا واضح؟ أشدها خفاءً ماذا؟ المُتشابِه، وأقلها؟ الخفي، وبين ذلك اثنتان، وهكذا! هل هذا واضح؟ وهناك في القوة ما رأينا.

ليس هذا فحسب، قال لك اللفظ حين يأتي يدل على معناه يدل عبر دلالات، يُسمونها الدلالات! الدلالات تختلف، عندك دلالة الإشارة وعندك دلالة العبارة وهي أقوى، سأعطيكم مثالاً بسيطاً لكي تفهموا لأن هذا كلام نظري مُجرَّد، حين قال الله – تبارك وتعالى – مثلاً وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ۩، مَن المولد له؟ الأب طبعاً، أليس كذلك؟ ولذلك قال لَهُ ۩ ولم يقل لها، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ ۩، الولد في الإسلام يُنسَب إلى مَن؟ إلى الأب، فلان ابن فلان وليس فلانة، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۩، يعني الذي يُنفِق على الولد وعلى أمه هو مَن؟ الأب، هذه بالعبارة واضحة، دلت بالعبارة على هذا الحُكم، لكنها دلت بالإشارة – يُسمونها دلالة الإشارة ولن نُعرِّفها حتى لا نعقد ثنيات – على شيئ آخر، إذا افتقر الأب أو الأم فمَن أولى بنفقة الولد عليه؟ بحسب الإشارة الأب، لأن الغرم بالغنم، أليس كذلك؟ مَن ذلك غرم النفقة قديماً وما إلى ذلك؟ الأب وليس الأم، الأم هي التي أخذت والابن، فإذا افتقرا بعد ذلك بطريق الإشارة مَن الذي يكون أولى بالنفقة؟ الأب دون الأم، وبهذا أخذ السادة المالكية، قالوا تعارض لدينا دلالة الإشارة هنا مع دلالات أُخرى ونحن نأخذ بهذه الإشارة، وعندهم مُبرِّرات، الجمهور قال لا، الأم، لماذا؟ لأن دلالة الإشارة تعارضت مع دلالة أقوى منها اسمها دلالة العبارة، والعبارة مُقدَّمة على الإشارة، قد تقول لي أي عبارة؟ العبارة المشهورة: يا رسول الله أي الناس أحق – أي أولى – بحُسن صحابتي – أي صُحبتي -؟ قال له أمك، ثم أي؟ قال له أمك، ثم أي؟ أمك، ثم أي؟ أبوك. قالوا واضحة، فالجمهور قالوا لا، إن افتقرا الوالدان كان الأولى بالنفقة الأم أخذاً بالعبارة في مُقابِل الإشارة، المالكية قالوا لا، نحن نأخذ بهذه الإشارة، أرأيت؟ هذا هو المعنى، فعندك الإشارة وعندك العبارة عند الجمهور، والأحناف زادوا، قالوا هناك دلالة النص ودلالة الاقتضاء، مسألة كبيرة جداً، حين نرى دليلين شرعيين يختلفان – هذا مع هذا كما قلت لكم – ننظر، إن اختلفا على وجه المُمانَعة – أي بحيث يستحيل أن يصح كلاهما بادئ الرأي – نقول تعارضا، لكن بشرط ماذا؟ بشرط اتحادهما في القوة، أي قوة الثبوت، هذا حديث آحاد صحيح وهذا حديث آحاد صحيح، هذا مُتواتِر وهذا مُتواتِر، هكذا يكونا وليس العكس، لا تأتني بمُتواتِر وتُعارِضه بآحاد، لا يصح، هذا إذا كانت هناك مُعارَضة، فالعلماء قالوا هذه اسمها مُعارَضة، ما أسباب المُعارَضة؟ خُذ السبب الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، شيئ عجيب! أسباب تتعلَّق بالثبوت، لكن – كما قلنا – هذا داخل في الاشتراط، وأسباب تتعلَّق باللفظ من حيث هو، الفخر الرازي جعلها خمسة، قال لك الاشتراك والنقل والإضمار والمجاز والتخصيص، ويُدخِلون في التخصيص التقييد، أي تقييد المُطلَق، قصة كبير وعقل مُنظَّم ذكي.

ليس هذا فحسب، الإمام أبو حامد الغزّالي لخَّص موضوعاً آخر كبيراً بجُملة قصيرة، فماذا قال؟ قال ونحن نحكم بالنص عند وجوده وبالاجتهاد عند عدمه، يا سلام! بكلمة واحدة! أبو حامد الغزّالي صاحب المُستصفى، ولذلك عندنا مسائل لا يُوجَد فيها نص شرعي، فماذا نفعل فيها؟ قال لك نجتهد العقل كما قال رسول الله لمُعاذ، فإن لم تجد في كتاب الله فبسُنة الرسول، فإن لم تجد في سُنة الرسول ماذا تفعل يا مُعاذا؟ قال له أجتهد رأيي ولا آلو، لا أدع من جُهدي جُهداً، لا آلو قال، الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يُحِبه الله ويرضاه، والحديث مشهور على كلام في إسناده وثبوته، لكن الغزّالي قال هذا، فلذلك نجتهد، عندنا القياس، عندنا الاستحسان، عندنا الاستصلاح “المصالح المُرسَلة”، عندنا العُرف والكلام فيه، عندنا مذهب الصحابي أو عمل الصحابي، وعندنا شرعة مَن قبلنا، قصة! وهذه الموارد كلها من القياس إلى آخرها فيها خلاف، بعض العلماء يعتبرها وبعضهم لا يعتبرها، فهذا سبب أيضاً الاختلاف في اجتهادات المُجتهِدين، أنهم يختلفون في مدى حُجية بعض الأدلة الكُلية كما يُسمونها، هذه أدلة كُلية! كالقياس والإجماع وما إلى ذلك، هذه أدلة كُلية، هل هذا واضح؟ فالعقل هنا يشتغل ويشتغل ويشتغل، لا يقل لي أحد العقل المُسلم عقل بليد أو عقل عنده نزعة إيمانية مُطلَقة، حين يُنصَب التعارض بين العقل والدين هو دائماً يُدير ظهره للعقل باستمرار وما إلى ذلك، غير صحيح الكلام هذا، هذا تجنٍ كبير، وكما رأيتم – أعتقد ربما ألمعت إلماعاً الآن – أن سبب هذه الدعاوى الكبيرة المُشاغِبة على شرع الله ودين الله هو الجهل بالآليات الذكية العبقرية، يا أخي الإنسان يبدأ من حيث انتهى الناس، اذهب وانظر كيف كان آباؤك وأجدادك في الأول يفهمون النص، افهمه كما فهموه وبعد ذلك إن كان عندك زيادة أو نقد أو إضافة يا حيهلاً، يا أهلاً وسهلاً، لكن لا تبدأ من الصفر، أنت غير مُطلِع على شيئ وتنسب الأمة إلى عظائم الله برَّأها بعقريتها وحُسن توفيقه له منها، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ۩.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وآله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أضرب مثلين اثنين يا إخواني لكيف اشتغل عقل أسلافنا الكرام في ظروف مُحدَّدة أوجبت عليه أن يشتغل وأن يُشمرِ كما يُقال عن ذراعه، لماذا أنا اخترت مثالين طبعاً من عشرات الأمثلة؟ لي مُحاضَرة قديمة من خمس سنوات ذكرت فيها أكثر من خمسين مثالاً في هذا الباب، مُحاضَرة فيها خمسون مثالاً، أنا الآن أجتزئ بمثالين فقط أو بأمثلة سريعة.

الرسول قال العواقل لا تعقل العمد، العواقل العصبات، أقرباء الرجل الذكور الذين لا يتخلَّلهم إناث يُسمونهم العاقلة، العصبة! العواقل لا تعقل العمد، الذي قتل عمداً يُقتَل أو يُعفى عنه أو الصُلح، العاقلة – أخواته وأولاد عمه – ليس لهم علاقة به، طبعاً لأن هذا رجل مُجرِم، العواقل تعقل ماذا؟ الخطأ، معقول جداً، عدل! عدلة الشريعة وعقلانية الشريعة ورحمانية الشريعة، رجل مسكين قتل خطأ خرجت رصاصة فأصابت رجلاً وقتلته، وسيكون أشد الناس أسفاً عليه هو هذا المسكين، أي القاتل خطأً، هذا ليس مُجرِماً، هذا قاتل خطأً، فالنبي قال لك رحمةً به العاقلة تدفع معه الدية، هل هذا واضح؟ والله لو لم يفعل هذا الفاروق – رضوان الله عليه – لا أدري مَن كان سيفعلها مِن علماء اليوم؟ أعني منهم بالذات الجامدين على القديم وعلى ما في الكُتب وليس عندهم أي قدرة ولا جسارة أن يجتهدوا، لأن الواحد منهم يقول لك الدين ليس بالعقل، غير صحيح! عبارات ليس لها معنى هذه، كيف الدين ليس بالعقل؟ ويقول لك قال الإمام عليّ لو كان الدين بالعقل لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، يا سلام! أفحمتمونا والله، أفحمتمونا! أصلاً ما معنى كلمة الإمام عليّ – عليه السلام – لو كان الدين بالعقل لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه؟ ما معنى هذا؟ إذا أراد الإمام عليّ لو كان مأخذ الاشتراع أو لو كانت تشريع الأحكام الدينية بالعقل فنعم، وهذا لا يقول به إلا زنديق، لا يُعبَد إلا الله ولا يُعبَد إلا بما شرع وخاصة في العبادات، أليس كذلك؟ فطبعاً هذه الأشياء تُؤخَذ بالشرع وليس بالعقل، لا يقدر أحد على أن يأتي بأحكام من عنده في باب الطهارة وما إلى ذلك، لا يقدر أبداً، هذه عبادات، انتهى! لكن إن كان المعنى أن فهم الدين بالعقل فنعم الدين يُفهَم بالعقل ولا يُفهَم إلا بالعقل، وإذا لم يُفهَم بالعقل فلا يُوجَد دين ولا يُوجَد تدين، العقل مناط التكليف، والمجنون مرفوع عنه القلم، أليس كذلك؟ فما قصد الإمام عليّ؟ بعض الناس قال لك لا يا سيدي، إذا أردت بالعقل فبالعقل أيضاً أو بفهم العقل المسح ينبغي أن يكون على أعلى الخُف وليس على أدناه، لماذا؟ قال أنت تقول هذا وتحتج وفي بالك مسجدك هذا – ما شاء الله – المفروش بالسجّاد، مسجد جميل وكلنا أتينا – ما شاء الله – حتى بالجوارب وليس بالخُف، الخُف جلدي، وهذه الميضأة إما داخل المسجد أو قريبة من المسجد تماماً، فتتوضأ وتلبس بابوج أيضاً، لكن أيام الرسول لم يكن هناك لا بوابيج ولا سجاجيد، طين وأتربة وحصباء وحصو، أليس كذلك؟ فلو واحد لبس الخُف ومسح على أدناه ومشى يعلق به من التراب والطين، بالعكس يمسح فوق أحسن، بالعقل هكذا! أليس كذلك؟ فلا تنظروا إليها على أنها حُجة قاسمة، قسمتم ظهرنا لأن لو كان الدين بالعقل لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وكأنكم سددتم الأبواب، حرِّروا معاني العبارات والألفاظ، انظروا إليها، فهذه المسائل تحتاج إلى تحرير.

على كل حال عمر بن الخطاب في زمانه المُجتمَع استبحر إدارياً وحضارياً وتمدنياً وعُمرانياً، مُجتمَع عمر غير، عمر كان إمبراطوراً بمعنى آخر، كان إمبراطوراً يحكم في خمس عشرة دولة، الرسول كان عنده دولة المدينة فقط، دُويلة المدينة، الدولة يُسمونها ماذا؟ الدولة المدينة أو المدينة الدولة، لكن عمر كان إمبراطوراً حقيقياً، وقادها كأحسن ما يكون رضوان الله عليه وجزاه الله كفاء ما قدَّم لهذه الأمة والدين، فعمر قال لك الوضع اختلف، البُنى الاجتماعية والمُؤسَّسات الاجتماعية اختلفت، اليوم مَن يسأل عن ابن عمه؟ ابن عمه في العراق وهو – نفترض – في مصر، صعبة الحكاية أيامهم، لكن عندنا الديوان، هذا في ديوان الجيش، فأصبح الجيش كأنه العاقلة، عمر قال لك واحد مُرتَّب في ديوان الجيش – أي مُوظَّف رسمي أو أميري أو حكومي – وقتل خطأً الديوان يدفع عنه الدية، لم يقل له واحد من الصحابة تزندقت يا عمر، تزندقت وخالفت الشرع وخالفت كلام الرسول، لم يقل هذا أحد أبداً أبداً أبداً، كانوا فاهمين وكانوا أذكياء جداً، بمعنى – أنا أقول لكم بصراحة – أن الصحابة كان واضحاً من خُطتهم الاجتهادية وفي فهم شرع الله أنهم يُفرِّقون مبدئياً بين مجالين: مجال العبادات والتعبدات، وهذه لا مسرح للعقل فيها كبيراً، ندعها لله، ومجال ماذا؟ مجال المُعامَلات، أنتم أعلم بأمور دنياكم، النبي يقول أنتم أعلم! في قُبال مَن؟ في قُبال نفسه، قال أنا نصحت نصيحة واتضح أنه خطأ، أنتم أعلم، كأنه يقول أعلم ماذا؟ أعلم مني، إذا تعلَّق الأمر بشأن دنيوي أنتم أعلم مني بأمور دنياكم، في الدين اتركوها علىّ، في الدنيا من المُمكِن أن تكونوا أعلم مني، والنبي لم ير فيها معرة تلحقه، عادي! في الطب ألم يكونوا أعلم منه؟ نعم طبعاً، النبي كان يتطبب على يد عشرات الأطباء، عائشة قالت لم سُئلت – سألها عروة من أين لكِ كل هذا العلم في الطب؟ – من كثرة ما كان يُوصَف الأطباء ويأتون إلى رسول الله، عشرات! لم يقل أنا نبي أبداً، أليس كذلك؟

الخندق – الخندق في السنة الخامسة – فكرة مَن؟ سلمان الفارسي، وقالوا هذه حيلة ما كانت العرب لتعرفها، هذه مُستورَدة أجنبية، هذه أفرنجية أعجمية، حيلة ذكية! لم يكن عند العرب هذا، سلمان أنقذ الأمة وأنقذ الدين بالخندق هذا حول المدينة، أليس كذلك؟ وتعرفون قصة الحباب بن المُنذِر، هذه أمور دنيوية وهكذا فهم الصحابة، ولا يُشكِلن عليكم أن فيها آية، حتى لو فيها آية! ربنا – تبارك وتعالى – يعلم هذا حين يشرع في أمور دنيوية تتعلَّق بسياقات ومُؤسَّسات وأوضاع وهياكل وبُنى مُتحرِّكة بطريقة طبيعتها سريعة أو كثيرة الحركة، هذه حياة أُناس تتحرَّك، فطبيعي أن الله حين يشرع لا يشرع في المُطلَق، يشرع لهذه الظروف والسياقات، لكن غير الطبيعي حين تتغيَّر الظروف والسياقات أن نبقى جامدين على ما شرع الله بحُجة أنه قول الله، أين العقل؟ الصحابة كانوا هنا يُخطون خُطوات فساحاً، كانوا يتحرَّكون بنشاط وجسارة، فهذه ليست مُشكِلة، ولا يُقال إنهم خالفوا نص الكتاب أو خالفوا نص السُنة، لا! كانوا يفهمون، هذه أمور ليست تعبدية، أليس كذلك؟ هذه أمور لمصلحة الناس، وهذا عمر، وعمر عنده أمثلة كثيرة في هذا الباب.

نعطي مثالاً آخر، مثال المواقيت المكانية، نحن اقتربنا الآن من رمضان، شهران بعد رمضان ويأتي الحج، النبي – عليه السلام – ثبت عنه أنه حدَّد مواقيتاً مكانية للآتين من الآفاق، هناك رجل مكي – في مكة – أين ميقاته؟ مكة، يُهِل من بيته، الذي يعيش في مكة يُهِل من بيته، لكن ماذا لو كان هناك رجل يعيش بعيداً عن مكة بعشرين كيلو؟ يُهِل من بيته، ماذا لو كان هناك رجل يعيش بعيداً عن مكة بخمسين كيلو؟ يُهِل من بيته، هل هذا واضح؟ لأقرب ميقات، وسوف نرى ما أقرب ميقات وأين هو، فالنبي حدَّد وقال هن لهن، أي لأهلهن، قال هن لهن ولمَن أتى عليهن من غير أهلهن، إن كان من أهل مكة فهو يُهِل من مكة، جميل جداً! فقال للجنوب – تُوجَد الكعبة، وفي الجنوب تُوجَد بلاد اليمن – يلملم، قال يلملم! هذه ميقات، ممنوع على الإنسان الذي ينتوي الحج أو العمرة أن يُجاوِز هذا الميقات من غير ماذا؟ أن يكون مُحرِماً، وإلا عليه دم، لأن هذا واجب من واجبات الحج، ليس ركناً ولكنه واجب، جميل! هذا من جهة الجنوب، ماذا عن جهة الشمال من فوق؟ المدينة المُنوَّرة، أبعد المواقيت هذه، قريب جداً من المدينة – قال لك – ذو الحُليفة، أي آبار عليّ، يُسميها الآن العوام أبيار عليّ، ذو الحُليفة! هذه أبعد ميقات، بعيدة عن مكة، وماذا عن أهل الشام؟ الحجازيون كانوا يذهبون ويجيئون، أليس كذلك؟ أهل الشام ماذا عنهم؟ جاء الصحابة والفقهاء وقالوا دعونا نجعل لهم الجُحفة، لماذا لا نجعل لأهل الشام أبيار عليّ؟ سوف تكون بعيدة عن هؤلاء المساكين، ما الأقرب في الشمال؟ في الجهة الأُخرى ماذا يُوجَد عندنا؟ نجد، العراق لم تكن دخلها الإسلام، النبي ليس له علاقة بها، يُوجَد في المنطقة الأُخرى البحر – بحر القلزم والبحر الأحمر – ولدينا مصر والمغرب، لم يدخل أيضاً الإسلام هناك، النبي ليس له علاقة بها، لم يتكلَّم عن جهة الغرب النبي، لكنه تكلَّم عن نجد جهة الشرق، قرن المنازل! هذا ميقات أهل نجد، الآن ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال لما فُتِحَ هذان المصران – البصرة والكوفة – جاء أهل العراق – في خلافة عمر – وقالوا يا أمير المُؤمِنين قد حدَّ رسول الله – أي حدَّد – لأهل نجد – جهتنا شرقاً، نحن كلنا شرقيون قالوا، شرق مكة – قرناً – أي قرن المنازل – وإنه جورٌ عن طريقنا وإنا إذا أتينا قرناً شق علينا، أي أننا نأتي من هناك ومن ثم هذا سوف يكون بعيداً عنا كثيراً، فالعراق أقرب إلى المكان من زاوية أُخرى، فعمر فكَّر – انظر إلى العقل يا أخي، لو كان هذا حدث اليوم لعل يقول الشاطر فينا والذي يدّعي أنه عقلاني لا يا حبيبي، ماذا أفعل لكم؟ أنتم من جهة الشرق يا أخي؟ هذا هو، حتى الذي يأتي من كذا هو يشق عليه وقد سافر وكذا فهذا كذا وكذا إلى آخر فلسفتنا السخيفة، لكن عمر فكَّر في لحظات سريعاً – ثم قال لا تُوجَد مُشكِلة، ائتوا من حذائها، أي النُقطة التي تُسامتها أو تُحاذيها سمتياً، فإذا كنتم تأتون إلى النُقطة التي تُحاذي قرن المنازل سوف يكون هذا ميقاتاً لكم، لا تُجاوِزوه إلا أن تُحرِموا، وسماها ذات عرق، ذات عرق في الصحيح، انتبهوا! كل الروايات التي تقول النبي حدَّد ذات عرق لأهل العراق روايات ضعيفة هالكة، الثابت في الصحيح أن الذي حدَّد لهم ذات عرق هو مَن؟ عمر بن الخطاب، قال لا تُوجَد مُشكِلة، المُحاذاة! وبعد ذلك طبعاً الفقهاء حدَّدوا لمَن؟ لأهل المغرب وأهل المصر، ولم تكن هناك قناة السويس، أليس كذلك؟ قالوا اجعلوا ميقاتهم يكون ميقات الجُحفة، ميقات أهل الشام، أليس كذلك؟ صارت هناك مُشكِلة بعد ذلك، هناك الطائرات، نركب الطائرات، هن لهن ولمَن أتى عليهن، أي لمَن مر، هنا لا يُوجَد مرور، ليس المرور المعروف في اللُغة العربية، هذا في الهواء، وهناك اجتهادات وتعرفون ما هذه الاجتهادات فلن نتكلَّم فيها لأن هذا موضوع آخر والله أعلم، لكن انظروا إلى جراءة الصحابة، فعل هذا بكل سهولة ولم يشغب عليه آخرون ولم يتهمونه بأنه انحلت عُرى إيمانه أو أنه أراد أن ينتقص من شرع الله أو يُضيف وما إلى ذلك أو أنه مغموز القناة في الدين، أبداً أبداً أبداً أبداً! أناس عقليون طيبون مُبارَكون.

أخيراً أذكر مسألة تتعلَّق – مثلاً – بدية المرأة، ليست الدية الكاملة فهذا موضوع ومبحث آخر ويحتاج أيضاً إلى توضيح يا إخواني، لكن يُوجَد حديث مُعاذ وقد أخذت به الجماهير، جماهير الأمة أخذوا بحديث مُعاذ، ثم تبيَّن لعلماء مُعاصِرين أفاضل قبل أقل من عشرين سنة أن هذا الحديث ضعيف وأنه ليس بين أيدينا نص يُعتمَد عليه صحيح بلا مثنوية في أن دية نفس المرأة – أي واحد قتل امرأة خطأً – على النصف من دية الرجل، قالوا لا يُوجَد، حديث مُعاذ نعم أخذ جماهير الأمة ولكن هو غير صحيح قالوا، وجدنا أنه ليس صحيحاً، على كل حال نحن سنكون مع الأقدمين الآن وسوف نرى في ماذا اختلفوا، فقالوا هذه دية نفس المرأة، لكن دية الأصابع فيها حديث، هذا الحديث قالوا يقول فيه النبي عقل المرأة – العقل هو الأروش، دية ما دون النفس الآن، أي الأروش – كعقل الرجل، أي إصبع بعشرة من الإبل، إصبعان بعشرين من الإبل، دية الرجل الكاملة كم؟ مائة من الإبل، مائة! هل هذا جيد؟ ثُلثها كم؟ سوف نقول إنه ثلاثون الآن، هو ما يقرب من ثلاثة وثلاثين لكننا سوف نقول إنه ثلاثون، النبي ماذا قال؟ نفس الشيئ! دية أصابع المرأة أو أطراف المرأة كالرجل ما لم تبلغ الثُلث، إذا صارت ثلاثين فعلى النصف، يُمكِن لنا مبدئياً أن نفهمها بمعنى أن التنصيف يتعلَّق بما زاد على الثُلث، وهذا معقول جداً إذا أردنا أن نأخذ بهذا، معقول جداً! وهذا الذي فهمه العلّامة الشوكاني المُتأخِّر، في القرن الثالث عشر الهجري، ماذا قال؟ قال التنصيف ليس في كل العقل، كأن نبدأ من الأول نُنصِّف كما فهم سعيد بن المُسيّب والأمة للأسف، لا! التنصيف – قال – فيما زاد على الثُلث، أي إن قُطِعَت ثلاثة أصابع لها ثلاثون من الإبل، فيها ثلاثون من الإبل، فإن قُطِعَ الرابع فخمس وثلاثون، الرابع هذا يصير فيه خمسة، فإن قُطِعَ الخامس فأربعون، أي أن الخمسة أصابع بأربعين، هل هذا واضح؟ تزيد دائماً خمسة خمسة، هذا هو! هكذا قال الشوكاني، لماذا يا شوكاني أنت فهمت هذا عكس العلماء وعكس مالك وعكس سعيد بن المُسيّب وعكس الشافعي في القديم وأحمد في رواية مشهورة عنه “أشهر الروايتين”؟ قال لك لئلا ندخل في مضيق يتناقض مع العقل والعدل والقياس بلا حُجة نيّرة، هذا عقلاني أو جهلاني؟ هذا إيمانه مُتطرِّف أم أنه رجل يحترم العقل؟ قال لك ما هذا؟ لأن العقل أنه كلما زاد المُصاب زاد التعويض، أليس كذلك؟ يروي الإمام مالك في المُوطأ – وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي في القديم – عن سعيد بن المُسيّب – أحد فقهاء المدينة السبعة – أنه كان جالساً في حلقته وجاءه عالم مدني هو ظنه عراقياً وهو ربيعة الرأي، اسمه ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو أستاذ الإمام مالك، جاء ربيعة وقال له يا إمام أصبع المرأة كم فيه؟ قال له عشر من الإبل، قال ففي أصبعين؟ قال له عشرون، قال له ففي ثلاثة؟ قال له ثلاثون، قال له ففي أربعة؟ قال له عشرون، الأربعة تُنصِّف الآن، يعود الكل إلى النصف، أرأيتم؟ شيئ يتناقض مع العقل هذا، يتناقض! كيف يصيرون عشرين؟ الأربعة صاروا عشرين بعد الثلاثة؟ فماذا قال له ربيعة الرأي؟ قال له يا إمامنا، يا شيخ لما زاد جُرحها وعظُمت مُصيبتها قل عقلها؟ ما الكلام هذا؟ قال له أعراقيٌ أنتَ؟ أهل العراق من قديم يهتمون بالعقل وهم أذكياء يطرحون الأسئلة، شعب ليس سهلاً، ما شاء الله عليهم، قال له أعراقيٌ أنتَ؟ قال له بل عالمٌ مُتثبِّت أو جاهلٌ مُتعلِّم، قال له هي السُنة يا ابن أخي وقطعه، هي السنة!

الشافعي فيما ينقله عنه الإمام الشافعي الجليل أبو بكر البيهقي وكما في التلخيص أيضاً قال وأحسب أنه أراد بالسُنة – أي سعيد، قال هي السُنة يا ابن أخي – ما ثبت عن رسول الله أو ما كان عليه جماعة أصحابه، إلى أن سمعت مالكاً يقول السُنة ويُريد بها عمل أهل المدينة، وقد كنت سمعت هذا من مالك – أن الأربعة فيها عشرون – وفي نفسي منه شيئ، قال كنت أقول به مثلي شيخي لكن في الداخل لم أكن مُطمئناً، كنت مُتردِّداً، يُوجَد شيئ يريبني من هذا، معقول؟ معقول هذا شرع الله؟ قال بعد ذلك لما عرفت أن السُنة – قصده عمل أهل المدينة – ليست شيئاً ثابتاً عن رسول الله وليست شيئاً نصياً وإنما هي فهمكم أنتم عُدت إلى القياس وهو بنا أولى، قال لا، تظل على القاعدة.

الآن ما مذهب الشافعي في الجديد – انتبهوا – وهو مذهب أبي حنيفة؟ أخذوا بظاهر حديث مُعاذ في دية النفس، أنها على النصف من دية الرجل وأجروه على دية الأطراف، قالوا كله نص وانتهى الأمر، كله! هذا مذهبهم، ورأينا رأي الشوكاني وهناك أشياء أُخرى، فانظر إلى هذا، العقل هنا له مُدخَلية، يشتغل ويتحرَّك ويقول ويُعارِض وما إلى ذلك، كله عقل! فنسأل الله أن يُتِم علينا عقلنا وأن يُتِم علينا ديننا وتقوانا.

اللهم علِّمنا علماً نافعاً وارزقنا قلباً خاشعاً ورزقاً واسعاً ودعوةً مُستجابةً، اللهم أصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه بلطفك يا لطيف يا خبير يا رب العالمين.

اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: