إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ۩ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ ۩ إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ۩ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

انتهينا في الخُطبة السابقة إلى أنه ليس بوسع الإنسان مهما حاول وجد وكد واجتهد أن يُقارِب الله – تبارك وتعالى – كذات، لأنها لا كالذوات، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩، وأحسب أن هذه الفكرة بل هذه الحقيقة قادرة بوجه ما على أن تُفسِّر لنا ضحالة إيماننا الديني، ما هو التصور الذي ينتهي إليه المُؤمِن منا بعد أربعين أو خمسين سنة لله – تبارك وتعالى -؟ تقريباً هو التصور الذي ابتدأ به، وهذا شيئ غير معقول، فضلاً عن أن يكون مقبولاً، غير مقبول بالمرة أن مُؤمِناً عاش في الإيمان أربعين سنة والذي انتهى إليه هو التصور الذي ابتدأ به طفلاً صغيراً أو غُلاماً يافعاً ابن أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، بل ما هو أدخل في باب ما يُسيء – أي في المساءة – هو أن بعضنا – لا أود أن أقول كثيراً منا، أن بعضنا على الأقل – لتقدم الزمن وغبور العقود عليه تزداد صلته بالله ضعفاً وبهوتاً ولا معنىً، بدليل أنه يزداد أخذه واحتطابه في حبل الذنوب، يكبر – والعياذ بالله – ويكبر معه الدجل والزيف والكذب، وهذا شيئ عجيب، لا تفسير له إلا أن علاقته بالله، معنى الإيمان عنده، حقيقة الإيمان، كيف يقترب من الله – تبارك وتعالى -؟ وكيف يعيش الإيمان؟ إنما يأتي على نحو خاطئ، بطريقة خاطئة، لماذا؟ لأن الذي يُقارِب ما لا يُقارَب لن يقترب، إنه يكد ولا نتيجة، يجتهد ولا مُحصّل، لا حصيلة، كما قال مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره -، قال يا صاح انتبه، تيقَّظ وانتبه لنفسك، إن الطريق التي تسلكها وأنت قاصد مكة لن تُؤدي بك إلى مكة، ستُؤدي بك إلى التركستان، ليست هذه الطريق، أنت تُحاوِل أن تُقارِب ما لا يُقارَب على هذا النحو، لكن لو قاربنا الله – تبارك وتعالى – على أنه معنىً وفي رأس هذا المعنى رحمة وبرَّرنا سر هذا الاختيار لوجدنا أنفسنا في صعود وفي ترقٍ إيماني دائم، لكنا في كل يوم – بإذن الله تبارك وتعالى – إلا أن يشاء الله خيراً منا قياساً باليوم السابق أو الغابر، فكيف سنكون بعد أربعين أو خمسين سنة؟ حتماً سنكون من أهل الله، من أولياء الله، من خواص عباد الله، من خواص صالحي عباد الله، فنزداد حلاوةً، لا مرارةً، سنزداد ليناً ولُطفاً، لا جفافاً وقسوةً، ما الذي يُفسِّر وجود العُبّاد القُساة؟ عابد يأخذ وهناً من الليل، ويُحافِظ على وظائف النهار، وبعضهم يحج كل سنة، ويعتمر غير مرة، إلا أنه قاسٍ جاف غليظ، وقد لا يتورَّع عن أكل الحرام، وعن الإدلاء بشهادة الزور، وعن اغتياب الناس نهاره وليله – والعياذ بالله -، بل قذفهم في أعراضهم، وتمزيق أديمهم، شيئ عجيب! كيف يُمكِن أن تتفق هذه العبادة (القشورية الطقوسية) أو العبادة (الزيتية الزخرفية) – وهذا هو السر – مع هذا السلوك المُر، ومع هذا السلوك الجاف القاسي الغليظ؟ أعتقد أننا نكون ربما قد أسهمنا بإبراز وجه من أوجه الجواب عن هذه المسائل التي تبدو لنا شائكة.

أيها الإخوة:

نحن كبشر – كيف الحال مع رب البشر؟ – لا نستطيع أن نتواصل كذوات، مُستحيل! مَن يقول لك أنا أستطيع أن أتواصل معك كذات هذا لا يفقه شيئاً، يستحيل أن أتواصل مع أي كان أو تتواصل مع أي كان على أنه ذات، كيف؟ ما هي ذاتي؟ ذاتي ما أنا عليه تماماً، ما أعيشه، ما أكونه، حُزني أنا، الحُزن حُزني أنا، فرحي فرحي أنا، شعوري شعوري أنا، تجربتي لي أنا، ليست لك، كل ما يُمكِن أن تفقهه من حُزني ما تناله العبارة أو ما تُعطيه العبارة وما يُبدِعه الوهم، وهمك أنت بصدد حُزني، تستطيع أن تتوهَّم أنت أنني حزين على النحو الكذائي، حزين بالكيفية الكذائية، وطبعاً أنت تقيس في كل ذلكم حُزني الموهوم هذا والمُخطَر في خاطرك على حُزنك أنت الذي مررت به، أما حُزني فلن تناله، لا تستطيع أن تقترب منه حقيقةً، مُستحيل أن تلمسه، يبقى لي، لذلك أنت لا تستطيع أن تتواصل معي كذات، تتواصل معي كمعنى وكمفهوم طبعاً.

في القديم قلنا مرةً بعض أذكياء المُفكِّرين قالوا إذا اجتمع اثنان تحصَّل منهم أربع، وهذا ساذج جداً، في نظري أنه إذا اجتمع اثنان يتحصَّل منهما أكثر من هذا بكثير، استطعت أن أعد إلى الآن اثنتي عشرة شخصية، اجتمع أنا وأنت، فالمُتحصِّل هو هذا، أنا كما أنا، ولا أعلم هذه الأنا التي هي كما أنا، لا يعلم هذا ولا يناله إلا الله – تبارك وتعالى -، مَن أنا كما أنا؟ لا أعرف، أنا لا أعرف هذا، وأنت لا تعرف هذا، مُستحيل! كلنا مخدوعون بأنفسنا، كلنا فينا جوانب غير واعية، يُسمونها ماذا؟ غير شاعرة، غير عاقلة، وتُمارِس ثقلها وفعلها وتأثيرها فينا، بشكل مُبهِظ، بشكل مُبهِظ وثقيل جداً، دون أن ندري، ولا نشعر بها، ولا نعترف بها، ولسنا مُستعِدين حتى أن نعترف بها في حاق الوعي أو في ساحة الوعي، لكن هذه الأنا التي هي كما أنا لا يعلمها إلا الله – تبارك وتعالى -، وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ۩، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۩.

كلنا مخدوع على نحو من الأنحاء، فقط هم الربانيون المُتألِّهون، أصحاب البصيرة الإلهية والفراسة الإيمانية، الذين يُمارِسون عملية الاستبصار الدائم بالذات، وإعادة نتائج هذا الاستبصار بالذات على مدار الساعة، هم الذين يقتربون من أنفسهم بمعنى إلهي، يُحاوِلون أن يُقارِبوا أنفسهم بنحو إلهي، ولن يلمسوها كشيئ نهائي، لكنهم يُقارِبون، وهذا مسلك إلهي، أن تستبصر بنفسك، ألا تخدع نفسك، ولكن هذه مسألة مُعقَّدة، على كل حال أنت كما أنت هذا لا يعلمه أحد إلا الله – تبارك وتعالى -، هاتان شخصيتان، هذه الشخصية الواقعية التامة الموجودة في نطاق الحق، ولا ينالها إلا الحق هو، لا إله إلا هو! 

وعُد إلى ما تحدَّثنا به قُبيل أشهر عن اسم الله الباطن، أنا لا أستطيع أن أحزن حُزنك، ولا أستطيع أن أُقدِّر حُزنك، ولا أستطيع أن أُحيط بحُزنك، أستطيع أن أتوهَّم حُزنك، أن أبتدع لك حُزناً، أن أقد لك حُزناً على نحو من قد حُزني أنا، هذا ما أستطيع، وأكثر من هذا لا أستطيع، لكن الله تبارك وتعالى – ليس كذلك، وهنا أقول بملء الوعي تسقط اللُغة، تخذلنا اللُغة، هنا اللُغة تعجز، لا تُوجَد، لم أستطع أن أقع أو أسقط على كلمة تُعبِّر عن هذا المعنى، لا أستطيع أن أقول إن الله يحيا أو يعيش أو يذوق أو يُجرِّب، أعوذ بالله، المعنى أبعد من هذا بكثير، حُزنك أنت كما هو هو لا يناله إلا الله – تبارك وتعالى -، تقول لي أيشعر بي كما أشعر أنا؟ أستغفر الله، لا نستطيع أن نقول إن الله يشعر، مسألة لا تنالها اللُغة، فوق طوق البيان، لكن عليك أن تُوقِن وأن تُؤمِن حقاً وبرسوخ أن الله يُحيط بهذا إحاطة مُطلَقة، ربما أكثر منك أنت نفسك، وهذا معنى أو وجه من معنى قوله – تبارك وتعالى – وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، هذا بعض معنى اسمه الباطن، لا إله إلا هو! هو الباطن بهذا المعنى، هذا معنى من معانٍ.

ولذلك إذا أردت أن تطمئن إلى أن خوفك وفزعك وخشيتك وتقواك وحُزنك وتأميلك مرصود ومأخوذ بكل حيثياته وبكل شروطه فاطمئن، عند الله – تبارك وتعالى – أكثر مما تحسب، بكيفية لا يُمكِن أن ينالها البشر، هذا هو الباطن، لا إله إلا هو، نعم.

ثم بعد ذلك أنت عند نفسك كما تظن نفسك، هذه شخصية واحدة، وأنا كما أظن نفسي، فالآن تحصَّل منا كم؟ أربع، ولا يزال هناك ما هو أكثر، بعد ذلك أنت كما أراك أنا، كيف أنت عندي؟ أنت عندي غير أنت عند نفسك، وغير أنت عند الله – تبارك وتعالى -، بلا شك! أتواصل معك وتتواصل معي مفهومياً، حسبما أنالك أنا، وأنا عندك كما تراني أنت، تحصَّل الآن ست شخصيات، إلى الآن ست! أربع شخصيات منها وهمية، خواطرية، اثنتان حقيقيتان لدى الله، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۩، والحق هو ربكم، والحق عند ربكم، لا إله إلا هو! هذا هو، وبعد ذلك أنت عندي كما تظن، كيف تظن نفسك أنت عندي؟ طبعاً كل واحد منا يتواصل مع الآخرين وفي ذهنه صورة لنفسه عند الآخر، يظن أن سعيداً ينظر إليه على أنه كذا وكذا وكذا، وطبعاً دائماً الحقيقة غير ذلك، أنت عند سعيد تختلف كثيراً أو قليلاً، قد تكون أعلى وقد تكون أدنى، لكن أن تكون مُطابِقاً بالكامل فهذا مُستحيل، هذا لا يقع، هذا وهمك أنت وهو عند نفسك، وأنا عندك كما أظن أنني عندك.

بعد ذلك تقديري أنا لصورتي المظنونة إذا وقعت في ظنك، وعكس ذلك، وهكذا تستمر المسألة، فنحن نعيش في عالم من التواصل، عالم من الرموز، عالم من الدلالات الموهومة والمُبدَعة والمُخلَّقة، ولا نستطيع أن نتواصل إلا بهذه الدلالات، أما أن تتواصل الذوات فهذا مُستحيل، كيف تتواصل الذوات؟ لا يُمكِن، لا يُمكِن أن تتواصل الذوات، لا ينال الذات وما بالذات إلا خالق الذات، لا إله إلا هو! لذلك ببساطة قال – تعالى – أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ۩، كأنه يُقعِّد لنا قاعدة فلسفية، قاعدة كُلية، نول الشيئ في ذاته مُستحيل، ما سماه الفيلسوف الألماني كانط Kant النومين Noumène، النومين Noumène هو عكس عالم الظواهر أو الظاهريات، ولذلك هو كان بمعنى مُعيَّن أول فيلسوف ظاهرياتي فينومينولوجي، أول واحد! الشيئ في ذاته – قال – مُستحيل أن تناله، لا يُمكِن أن تناله المعرفة البشرية، وهذا صحيح، هو مُصيب كل الإصابة هنا، لكن تناله المعرفة الإلهية، قال أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ۩، هو الذي خلقك، أبدعك، وهو الباطن، لا إله إلا هو، وحده الذي يعلم، في المُطلَق! في المُطلَق وبكل الحيثيات والظروف والاشتراطات ومن جميع الزوايا وفي وقت واحد وبلا استدلال وبلا استقراء، هكذا! وبلا قوانين كُلية يستعين بها، حاشاه، لا إله إلا هو، هذا هو العلم، لا إله إلا هو.

والأمر نفسه حين نُشير إلى شيئ، نحن نتواصل حتى مع الأشياء وبالأشياء كوسائط في تواصلنا، عبر الدلالات أيضاً، عبر الخواطر والأوهام، عبر هذه البداعة الإنسانية، حين تقول هذه الزهرة انظر إليها أنت تظن أنك تُريد أن يكون شيئ واقعي أو شيئ موضوعي وسيلة تواصل واقعية بيننا، وهذا مُستحيل أيضاً، كيف؟ لماذا؟ هذه الزهرة، أنت لا تُشير إلى الزهرة في ذاتها، أنت تُشير إلى المعنى الذي نلته أنت من الزهرة، كيف تراها؟ أليس كذلك؟ لذلك يكثر منك أن تقول لأحدهم انظر إلى هذا الشيئ، فينظر فيُعلِّق تعليقاً لا تتوقَّعه ولا تُريده، فتقول له يا أخي ألا تُبصِر؟ فيقول لك أنا أبصرت يا أخي، وأرى كذا، فتقول له لا، ليس هذا، هذا كذا وكذا، إذن أنت تُريد أن تتصل به عبر دلالة الشيئ، لا عبر الشيئ في ذاته، لا تستطيع إلا هذا، وهذا هو العالم.

فإذا كان هذا هو حقيقة تواصليات البشر وتداوليات البشر فكيف مع رب البشر – لا إله إلا هو -؟ أنُريد أن نتواتصل معه كذات؟ مُستحيل، فلم يبق إلا أن نتواصل معه، نتقارب، نُقارِبه – لا إله إلا هو -، ونعيشه كمعنى، انتبهوا! أنا عقدت هذه الخُطبة مُحاوَلة مني لترسيخ معنىً ذكرته واحترزت لأجله مرات عديدة في الخُطبة السابقة، لئلا يقع بعض الناس في وهم بل في ورطة ووهدة الوحدوية، أي وحدة الوجود، بعض الناس يُوافِق عليها، من الوحدويين، كل الوحدويين – طبعاً أقول الآتي باختصار لبعض مَن لم يفهم بهذا المُصطلَح الفسلفي والدين، أي الــ Pantheism أو الــ Pantheismus، أي وحدة الوجود، باختصار أهل الوحدة يعتقدون أن الله لا يُوجَد كذات أبداً، لا يُوجَد كذات، ما هو الله عندهم؟ ما هو الله في تقديرهم وفي خاطرهم؟ الله هو الوجود نفسه، هو الكون نفسه، الروح السارية في الكون، قوانين الكون من الذرة إلى المجرة، من الدقيق إلى الجليل، والظاهر منه والخفي، هي الله، أستغفر الله! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ۩، هذا كلام فارغ، طبعاً ومثل هذه النظريات لابد بمعنى ما أن تُقِر بأن الكون أزلي، الكون لم تكن له بداية، مثل النظريات المادية، كالاشتراكية العلمية – مثلاً -، في الديالكتيك المادي ليس له بداية، وهذا كلام فارغ، غير صحيح، وهم يظنون أنهم أصحاب معارف عميقة جداً جداً بالله – تبارك وتعالى -، هذا أُس وهذا ذروة المعرفة بالله، لكن هذا غير صحيح، هذا تيه وضلال وتخبط، الله أجل من هذا، لا إله إلا هو! هناك الخالق والمخلوق، هناك البديع والمُبدَع، هناك الإله والمألوه، هناك الرب والمربوب، هناك العابد والمعبود، وهناك التراب ورب الأرباب، لكنهم قالوا لا، ويُشبِّهونها تشبيهاً سخيفاً جداً، يظنونه نافذاً أو مُستبصِراً، بالماء والثلج، يقولون إذا نظرت إلى الثلجة – أي قطعة الثلج – من حيثية كونها ثلجة فهي ثلجة، إذا نظرت إليها من حيثية الأصل – أي الجذر – فهي ماء، أي لا تستطيع أن تقول إن هذه الثلج غير الماء الذي يُكوِّنها، نفس الشيئ! لكن له مظهر الثلج، وله مرة مظهر الماء، فالخلق هو الخالق، والخالق هو المخلوق، أعوذ بالله، كلام فارغ هذا، هذا كلام فارغ نسأل الله ألا نلقاه به وبهذا التجديف.

ولذلك نُريد أن نكون مُحترزين، كنا نقول الله كذات لا شك فيه، لا إله إلا هو! بل لا معنى له على الحقيقة لدينا كمِليين غير هذا المعنى، مُستحيل! إذا لم يكن الله كذات فإذن هو ليس موجوداً أبداً، مُستحيل أن أن تقول لي إنه موجود كمعنى محض وكاتجاه محض ثم ينتهي الأمر ونُصبِح وحدويين، أعوذ بالله، هذا ليس إيماناً، هذا تجديف في حق الله، كلام فارغ هذا، احتيال على الإلحاد، احتيال على النفي، على نفي الله، طريقة تزعم أنها عارفة وأنها مُتفلسِفة وأنها عميقة، نحن نبرأ إلى الله – تبارك وتعالى – ولا ندين بهذا التجديف، هذه واحدة.

لكن الذي نقوله وقلناه ونُكرِّره نحن لا نستطيع أن نُقارِبه كذات، صحيح! إذا نحن لا نستطيع أن نُقارِب أنفسنا كذوات، فكيف نُقارِب رب الأرباب – لا إله إلا هو -؟ نستطيع أن نُقارِبه كمعنى، مع اعتقادنا أنه ذات – لا إله إلا هو -، لكن لا نستطيع أن نُقارِبه إلا كمعنى، وشرحنا هذا في الخُطبة السابقة.

القرآن الكريم كلام رب العالمين، هذا إعجاز، لا يُوصَف بأقل من الإعجاز، هذا القول المُطلَق، القول المفتوح المعنى، ذو الدلالات العجيبة، مرة يقول وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي ۩، حين يقول فَإِنِّي ۩ يُشير إلى ذات – لا إله إلا هو -، يقول فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، ومرة أُخرى يقول إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ۩، والفرق بين رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ ۩ وبين فَإِنِّي – أي الله – قَرِيبٌ ۩ هو الفرق بين المعنى والذات أيضاً، يُعبِّر مرة بالذات ومرة بالمعنى، لكي يُنقِذنا الله – تبارك وتعالى -، والخُطبة معقودة إذن لتفصيل هذا المعنى – إن شاء الله تعالى -، لكي يُنقِذنا الله من ورطة الوحدوية أو الوحدة الزائفة المُجدِّفة أشار في الآية إلى هذا بقوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، فانتبهوا! إذا قاربنا الله وأيقنا أنه ليس إلا معنىً فأنا أقول لكم من المُستحيل أن هذا المعنى يُوصِلنا، معنى! هذا معنى فانتبهوا، والمعنى في نهاية المطاف ما هو؟ شيئ تجريبي، شيئ انتزاعي، ينتزعه الذهن بلُغة الفلسفة، أبداً! لأنه ليس له ذات، ما هذا؟ انتبهوا! وبذلك يصح إذن – والعياذ بالله – أن يكون الله من ابتداعنا نحن، ليس الله الذي ابتدعنا نحن، نحن الذين ابتدعناه، وهذا كفر صريح جداً، ابتدعناه كمعنى، اسمه الرحمة، اسمه المحبة، اسمه القدرة، واسمه الحكمة، هذا كلام فارغ، لا! الله هو الذي خلقنا، وهو بديعنا – لا إله إلا هو -، كما هو خالق وبديع الأكوان كلها، ظاهرها وخافيها.

فالله – تبارك وتعالى – حين يقول فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۩ يُؤكِّد لنا كما أكَّد في عشرات الآيات بل في المئين منها أنه سميع، أنه بصير، أنه قائم على كل نفس بما كسبت، أنه هو الذي يُلبي دعوة الداعي، وهو الذي ينتقم، وهو الذي يضع الأشياء في نصابها حين يشاء، في الوقت الذي يشاء، وبالكيفية التي يشاء – لا إله إلا هو -، إذن هو هنا لا يُمكِن أن يُفهَم ولا يُمكِن أن يُؤمَن به إلا على أنه ذات، الذات هي التي تسمع إذن وتُبصِر، أليس كذلك؟ أما إذا كان كمعنى وقلنا سنقف ونضع نُقطة ثم ينتهى الأمر ونبدأ سطراً جديداً فهذا المعنى لن يسمعني، هذا المعنى لن يحس بي، وهذا المعنى لن يشعر بي، أنا سأشعر به، ولكن هو لن يشعر بي، أليس كذلك؟ انتبهوا! هذا الله كمعنى إذن، نصف الطريق، يُساوي النفي، يُساوي الإلحاد، التجديف، والوحدة، لكن القرآن العظيم بتأكيده في مواضع كثيرة على المعنى الذي ذكرنا يُؤكِّد فتحاً جديداً في المعنى، توسيعاً وبسطاً ومداً أعمق وأفسح وأكثر اندياحاً لهذا المعنى الإيماني، به تكتمل حقيقة الإيمان، به تكتمل حقيقة تصور الإيمان، إذن وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، يُلبيك بعد إذ تدعوه، يُلبيك قبل إذ تدعوه، قبل أن تدعوه يُلبيك، حين تصل إلى مرتبة مُعيَّنة.

العنوان الرئيس لهذا المبحث هل يتصل الله أو هل يتواصل معنا – تبارك وتعالى – كذات؟ هو يتواصل معنا، انتبهوا! نحن نُقارِبه كمعنى، هل يتواصل هو معنا كذات تسمع وتُبصِر وتدري وتُقدِّر وتمد يد العون وتُغيث وتُمِد وتبسط وتُسبِغ وتمنح وتمنع وتبتلي وتختبر وتضع السبب والنتيجة وتُعطينا نتيجة الاختبار في الدنيا قبل الآخرة؟ نعم، بعض الناس يظن أن الله – تبارك وتعالى – كان لا يتصل إلا  مع أنبيائه ورُسله، تصور مُفرِّط السذاجة هذا، بلا شك أن هذا هو أعظم ضرب تقريباً على ما نعلم من ضروب اتصال السماء بالأرض، اتصال الله بالإنسان أعظم تجلياته وتمظهراته النبوة والرسالة، نعم! اتصال شبه مُباشِر، ليس مُباشِراً هو، وإنما هو شبه مُباشِر، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا ۩، شبه مُباشِر، طبعاً لأن لا يُمكِن اتصال ذات بذات، مُستحيل! وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۩، هذا هو! لكن هذا اتصال، وهو غير اتصال الذهن بالمعنى.

أما المعنى أن يتصل بالذهن فلا، المعنى لا يتصل، أنت تتصل به، أنت تعيشه، أنت تخبره، أنت تستشعره، لكن هو لا يتصل بك، انتبه! المعنى لا يرد إليك مرجوعة، لا يُجيب رسالة، لا يُجيب دعوة، إذن مَن الذي يُلبيني إذا دعوته؟ مَن الذي يخير لي حين أستخيره؟ الله كذات – لا إله إلا هو -، ذات! هي الوجود الحق المُطلَق – سُبحانه وتعالى -.

أُحِب أن أُبسِّط، لست هنا بصدد مُحاضَرة فلسفية، لا أُريد هذا، وغير مُناسِب لمقام خُطبة، وغير مُناسِب لنا جميعاً، وليس هذا من مقصودي ولا من بُغيتي، أنا هنا لأتكلَّم عن تجربة الإيمان، التجربة التي أشعر بحُزن وبأسى نحوها، لأن مُعظَمنا – وأنا منكم أيضاً – لم نستقطرها حقاً، لم نذقها، ليس المُهِم أن تُقيم البراهين والأدلة العقلية والمنطقية والكلامية على وجود الله وحكمة الله ولُطف الله، لا! المُهِم هو أن تعيش هذا، أن تخبر هذا، ما سماه النبي ذوق الإيمان، ذاق طعم الإيمان، أن تجد الإيمان في نفسك، هذا هو المُهِم، وهذه القوانين المنطقية والعقلية والكُليات الكلامية وغيرها تُجدي جدوى محدودة – انتبه، جدوى محدودة – إلى هدف مُعيَّن، ثم قد تخذلنا.

يقول مولانا الرومي إن ساق الاستدلال خشبية، كل مَن يجعل إيمانه بالله رهن العقل والمنطق وعلم الكلام – علم الكلام ضرب من ضروب العلوم الشرعية، مشهور جداً، أي علم العقيدة، الذي يُقيم الأدلة على مسائل الاعتقاد، وخاصة الإلهيات طبعاً، لأنها في المُقدَّمة، مُستمِداً ومُستوحياً المنطق والمبادئ العقلية، هذا هو علم الكلام – في خطر، الرومي يقول هذه الساق – أي ساق هذا الاستدلال العقلي والمنطقي والكلامي – خشبية، خشبي أنا أقول من ملح، قد تذوب سريعاً، الذي يظهر إيمانه بدليل العقل والمنطق والمُقدَّمات المُرتَّبة منطقياً بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين أو ستين سنة قد يأتيه مَن هو أذكى منه وأكثر منطقيةً وأعمق اطلاعاً وبشُبهة واحدة قد يُزلزِله ويُقلقِل بل قد يذهب بإيمانه، لينتهي مُلحِداً نافياً، انتهى كل شيئ! هذا إذا كان يحترم العقل والمنطق فقط، طبعاً وقد يكون هذا مُغالِطاً، وقد لا يأتي بدليل صحيح، ولكن هكذا هي ساق الاستدلال، لا يُوثَق بها حتى النهاية.

وفي هذا السياق لابد أن نستذكر ونُذكِّر بتجربة حُجة الإسلام، الإمام الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم -، الذي قال عنه الأستاذ الكبير عباس العقاد إن الشرق والغرب على طول تاريخهما لم يعرفا مُفكِّراً في حجم أبي حامد الغزّالي، مُفكِّر من طراز فريد، ليس عالماً، وليس شيخاً، انتبهوا! مُفكِّر ضخم جداً جداً، تعاطى مع قضايا عقلية فلسفية عالية جداً جداً، هو تصدى للفلسفة طبعاً بكتابه الشهير أو الأشهر تهافت الفلاسفة.

أبو حامد الغزّالي وهو إمام في ذروة تبريزه العلمي بعد أن أحكم حظه ووفَّر قسمه وحصته من علوم النقل وضرب بسهم يُشهَد له في علوم العقل – الفلسفة والمنطق وغير ذلك، وكان مُبرِّزاً في ساح علم الكلام، نُصرة العقيدة بالطريقة العقلية المنطقية – عرضت له أزمة روحية، كادت تعصف بإيمانه، بحسب أو حسبما ذكر لنا في المُنقِذ من الضلال، وهو كتاب على صغره يروي قصة فريدة موحية لهذه التجربة النادرة، والتي يُمكِن أن يمر بها كل ذكي وكل صاحب اختبار إيماني حقيقي، أما الجامدون فليسوا كذلك للأسف كما قلت، كالذي تراه بعد خمسين سنة يتعاطى مع قضايا الإيمان كما يتعاطى معها كما كان في العاشرة، هذا كلام فارغ، أنت تتحدَّث عن حجر، هؤلاء أحجار طبعاً، أحجار أو أشجار، بلا خبرة، بلا معنى، بلا أي شيئ، مساكين! هؤلاء مُقلِّدون، ولذلك يبقى هذا المُسلِم مُسلِماً، واليهودي يهودياً، والهندوسي هندوسياً، ولا يتغيَّر، طبعاً! يبقى وهو يعتقد أنه على الحق المُبين، لا! أبو حامد شيئ مُختلِف تماماً، حتى استبدت به الكآبة، وكاد يصرعه اليأس، ولم تبق أمامه إلا طريق واحدة وحيدة، يختبر بها حقيقة المقولات الإيمانية، ما هي هذه الطريق؟ ما نحن بصدد الحديث عنه في الخُطبتين، الخبرة الذاتية! طريقة العيش، عيش الإيمان، ليس برهنة الإيمان بالعقل والمنطق والفلسفة وعلم الكلام، لا! العيش، أن أشعر بهذا الشيئ.

طبعاً في القرن التاسع عشر وما تلى جاءت الفلسفة الوجودية، لتقول الحقيقة الجديرة بهذا العنوان ليست هي ما يُنبِته أو يشتقه العقل بسفسطاته أبداً، ما تعيشه أنت كبشر، هذه الحقيقة! ما أعيشه أنت، ما أحس به، وما أشعره، هذا هو الحقيقة، ليس ما وجده غيري بمُقدَّمات فلسفية، وأنا آتي كببغاء أُردِّد ما قال، أتحدَّث عما لا أعلم بحديث غيري، ما الفائدة؟ كلام فارغ هذا، تقييدات هذه كلها، وكسب عيش وألقاب شهادات ورسائل، لكن هذا كله كلام فارغ، ما تعيشه أنت! أبو حامد سلك هذه الطريق – قدَّس الله سره الكريم -، وكلَّفته أن يترك مناصبه العلمية الباذخة جداً، كان تاج علماء ومُفكِّري عصره – رحمة الله عليه -، وكان في شرخ شبابه، في مُنتصَف العقد الرابع كان، ابن أربع وثلاثين أو خمس وثلاثين، أي كان شاباً، وكان أكبر إمام في عصره، نجم! وكلَّفه النُقلة بين البلاد بضع سنين، انتهى معها وبها إلى إيمان وكيد راسخ جداً، أدرك الإيمان من باب آخر تماماً، ولم يتزعزع – قدَّس الله سره -، فهلا جرَّبنا لنذوق كما يقولون؟ هل نُجرِّب أم أننا نستهلك الإيمان أقوالاً أو أقاويل ودعاوى وخُطباً وكلاماً مُكرَّراً؟ نحكي فيما قاله غيرنا، نروي فيما قالت النصوص فقط، دون أن نُجرِّب، دون أن نعيش، دون أن نفقه فقهاً ذاتياً، يعكس فرديتنا، تجربتنا، مُعانتنا الروحية، واستقلالنا، لم نُجرِّب هذا، لم نعرف هذا.

ومن هنا جمودنا، عدم نمونا الإيماني، والضحالة الإيمانية لدينا، ضحالة في فهم الإيمان، ومن هنا فقد هذا الإيمان لثماره، فقد الإيمان لأثماره، فقد الإيمان لأثماره أو ثماره، ولذلك الله – تبارك وتعالى – نعم اتصل وتواصل مع الأنبياء والمُرسَلين ومع البشر عبر هؤلاء الصفوة المُختَارة طبعاً، كيف كان هذا؟ الله كان يتصل بالجماعات والأقوام والأمم عبر الأنبياء والرُسل، على لسانهم يقول للأقوام سيحدث كذا وكذا وكذا، انتظروا، أحياناً يأتي النبي يُنذِر قومه، ويقول لهم أمامكم ثلاثة أيام، كما قال صالح لقومه، فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۩، ثم يأتي القدر ليُصدِّق، إذن هذا اتصال حقيقي، ليس أوهاماً، ليست خواطر، وهو ليس معنى، ذات هنا، مُهيمنة على الوجود، تُديره وتُدبِّره، لا إله إلا هو! يصدق هذا.

بعض الناس يقول كلام جميل يا أخي هذا، لكن هذا يُقال في كُتب الدين، في القرآن والتوراة والإنجيل وغيرها، نحن لم نُجرِّبه، وأقول له هذه مُشكِلتك، انتبه! هذه مُشكِلتك، كل مُشكِلة مُتردِّد أو مُلحِد أو نافٍ تكمن في أنه لم يُجرِّب، وظل يمضغ ويجتر مقولات الفلاسفة والمُتفلسِفين، مسكين هذا! لماذا ترضى أو يرضى لنفسه البعيد أن يكون بمثابة قرد – حاشاكم – أو ببغاء؟ أنت إنسان، عليك أن تكون أنت، أُريد أن أسمع قولك أنت، وليس قول ماركس Marx وسارتر Sartre وهرقليطس Heraclitus وسقراط Socrates وأرسطو Aristotle وأفلاطون Plato وكيركغور Kierkegaard وبرجسون Bergson، لا أُريد هؤلاء، أنا أُريد فيلسوفك أنت، ماذا تقول أنت؟ أين خبرتك أنت؟ الله خلقك عالماً بإزائه، خليفةً له، وأسجد لك الملائكة، لتكون لك تجربتك وقولك، أن تُدلي أنت بدلوك، ترفَّع عن أن تكون مُجرَّد آلة تُردِّد، إمعة وجدانياً وفكرياً وعقلياً، لا يجوز، ولا يليق هذا بالإنسان، لكن هذه مُشكِلة هؤلاء، لُب مُشكِلة هؤلاء، لكن بعد هذا باب مُوصَد وبساط مطو، النبوة والرسالة باب قد أُوصِد إلى يوم الدين، لن يبعث الله نبياً، هذا اعتقادنا، رُغم ما يهرف به القاديانيون والأحمديون وهؤلاء الناس الفارغون الضالون التائهون، لا نبوة ولا رسالة، ثم إن لماذا العنجهية؟ لماذا أنت تُسمي شيئاً آخر بالنبوة وليس نبوةً؟ أليس كذلك؟ لماذا اغتصاب الحقائق بالأسماء المُزوَّرة؟ النبوة شيئ فعلاً طُويَ بساطه، بشهادة آخر الأنبياء وبنص كتاب الله وبشهادة التاريخ، ائتوني بنبي، هناك عشرات المُتنبئين، ما قال التاريخ إلا إنهم كذبة، وما قالت التجربة والوجدان والعقل أيضاً إلا إنهم مُزوِّرون، أصحاب أفائك وسخائف، أليس كذلك؟ هذا هو! لكن الكل – القريب والبعيد – يعترف بمحمد نبياً رسولاً، بمعنى أو بآخر، لا يُمكِن غير هذا، لا كلام في هذا، انتهى! فلماذا تغتصب الحقائق والأشياء وتُسمي ما ليس بنبوة نبوةً بمعنى من المعاني؟ لماذا هذه العنجهية؟ لماذا هذا المرض في القلب؟ أتُريد أن تُضِل الناس؟ أتُريد أن تفتن نفسك إذن؟ لست نبياً.

لكن لنا حظ – بفضل الله تبارك وتعالى -، الله يتواصل معنا، يتواصل معك ومعها ومعي ومعهم، يتواصل! يتواصل معنا كأفراد، انتبهوا، يتواصل – لا إله إلا هو – وبوسائل كثيرة، والطلاقة والبداعة الإلهية تأبى أن تكون هذه محصورة ومحدودة، أكثر من أن تكون محصورة، ومن المُحال أن تُضبَط بقوانين رياضية أو منطقية أو عقلية، انتبهوا من الآن، هذه ليست مسائل تخضع للحتميات، ليست قوانين لمادة خاضعة لحتمية قانونها ودستورها، إنها العلاقة الحرة الطليقة الحيوية، ليست الآلية الجامدة، بل الحيوية النامية المُتطوِّرة والواعية بذاتها، بين صاحب القدرة المُطلَقة – لا إله إلا هو – وبين العبد الصالح، العبد النامي بإيمانه، المُقترِب من الله بتقواه، انتبهوا!

من هذه الأبواب وهو أعظمها بلا شك أو من أعظمها الدعوة المُستجابة، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۩، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، تستطيع أن تُشكِّكني ملء المنطق وأن أشك أنا أقصى النفس، في ماذا؟ في أشياء آمنت بها بُبرهان عقلي فلسفي منطقي، لكن لا يُمكِنك بل لا يُمكِن للعالمين أن يُزلزِلوا اعتقادي فيما أعيشه، فيما أشعر به، وفيما أجده في ذاتي، ومن هنا تسمية الوجدان، ما يجد الأشياء، الأشياء حاضرة الآن بمعنى من المعاني، مُتعالِقة! 

مثلاً أنا أُحِب فلاناً، لا تستطيع أن تُشكِّكني، كأن تقول لي لا، أنت لا تُحِبه، وأنت تكرهه، مُستحيل! أنا أُحِبه، رُغم أن الناس يكرهونه، ويدعون إلى كرهه، ويُقيمون الأدلة على أنه ينبغي أن يكون مكروهاً على مكروهيته أو انبغاء مكروهيته، أنا أُحِبه، انتهى! لا تستطيع، اذهب أنت ومنطقك إلى حيث ألقت، أنا عطشان، أنا جوعان الآن، أنا محزون، أنا مألوم، أنا مُتضايق، لا تستطيع أن تُبرهِن لي بكل براهين العقل والعقلاء عكس ذلك، أنك لست محزوناً، ولست مألوماً، أنت مُنبسِط مُنشرِح تماماً، كيف لك هذا؟ هذه سفسطة، لا تستطيع! لا تستطيع أن تُشكِّكني وأن تزلزِلني في لُطف ربي – لا إله إلا هو -، في وجوده، في رقابته، في قيوميته، في حياته، في اتصاله بي ومعي، في قُربه مني، أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۩، وقد جرَّبته عشرات إن لم يكن مئات المرات، دعوته حين انقطعت الحيل وضلت السُبل، بلا لا سُبل، وعجزت الحيل، دعوته ولباني، وفي لمح البصر، وبما يُحيله العقل، أعني العقل العادي طبعاً، العقل العادي يُحيله، يجعله مُحالاً، أمر من بين يدي عدوي الذي يترصدني ويُريدني، أدعو الله أن يأخذ بأبصارهم، وأن يحفظ عبده المُفتقِر إلى رحمته، وأعبر من بين أيديهم وعلى مرأى عيونهم، دون أن يروني، هكذا يُعاش الإيمان، هذا الإيمان، هنا! هنا الله يقول لك، هنا الله يتجلى، ولذلك قال فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۩، لم يقل قريب من مبادئ أرسطو Aristotle، قريب من طريقة سقراط Socrates في الاستدلال العقلي، قريب من عقلية الجويني والغزّالي والفخر الرازي والشهرستاني، لا!

لذلك هؤلاء الكبار أُثِر عن بعضهم حسرته على نفسه، بل تقطعهم حسرات على أنفسهم، إزاء دين العجائز، لماذا لم يكن ديننا كدين العجائز؟ طبعاً نحن ربما نضل في تأويل هذه الحسرة وهذه المقولة، دين العجائز؟ نعم، دين العجائز، عجوز كبيرة غابرة مُتهدِّمة أو شيخ مُتآكِل على شفير قبره، نعم! قد يكون لدى هذا الشيخ وربما يكون لدى هذه العجوز من الإيمان ما ليس لدماغ في حجم دماغ أرسطو Aristotle، عبر ماذا؟ ليس عبر حُجج أرسطو Aristotle، ليس عبر مُقدِّمات الجويني والشهرستاني والفخر الرازي في المباحث المشرقية، لا! إنما بتجربة الإيمان.

تروعنا أحياناً كلمات تُفرِغ عن منطق تقوائي نافذ مُستبصِر أخّاذ، ينظم سلوك عجوز كبيرة أو شيخ مُتهدِّم في آخر عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة من حياته، من أين؟ كيف استمد هذا المنطق؟ وهو أُمي، لا يفك الخط، لا يكتب ولا يقرأ، من أين له هذا المنطق؟ أُمي! هناك أُمية، أنا أقول لكم عبر تجربة الإيمان، وفيلسوف كبير ليس عنده مثل هذا المنطق، لذلك حُقَّ له أن يتحسَّر عُقب تجاربه وهو على شفير قبره أيضاً على مثل هذا الإيمان، ويتمنى نظيره لنفسه، يا ليت لي مثل إيمان هذه العجوز! ليس لك، أنت سلكت يا حبيبي طريق تركستان، وليس طريق مكة، لم تصل إلى الكعبة أنت، وصلت إلى التركستان، لكن هي وصلت.

وهذا بعض معنى فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، الله أقرب مما نظن، والمفروض أن الوصول إليه أسهل مما نخال، لأنه رحمة – لا إله إلا هو -، وهو لا يُريد هذا، وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ ۩، كله مُفصَّل، كله مُصرَّف، كله مُبيَّن، وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ۩، مُنوَّر واضح، لا يتهوَّك ولا يضل فيه إلا مُتهوِّك وضال، يُريد لنفسه الضلالة طلباً لسُمعة زائفة وطلباً لحيثيات فارغة، أن يُقال إنه باحث ومُتشكِّك، إنه فيلسوف كبير، إنه رجل مُتعمِّق، لا يرضى بإيمان العجائز، كأن إيمان العجائز تقليد، لا! ليس دائماً، انتبهوا، إيمان العجائز يبدأ تقليداً، ويمر بالتجربة، وينتهي حقيقة الإيمان، ينتهي حقيقة الإيمان! هذا الإيمان ينتهي حقيقة الإيمان، إيماناً حقاً، نسأل الله أن يعصم أفئدتنا وخواطرنا وأوهامنا، وأن يملأ قلوبنا بالإيمان واليقين به، لا إله إلا هو.

إذن عبر الدعوة المُستجابة، ومن الدعوة المُستجابة الاستخارة، تأتي تستخير الله بصدق وبتسليم كامل وبخوع مُطلَق لأمره – لا إله إلا هو – ولخيرته، وهذا حدث معنا مرات عديدة أو معدودة للأسف الشديد، نستخيره في أمر نكرهه ولا نُريده البتة، وبعد أن نفرغ من الاستخارة ينقلب الأمر للتو، للحظة! يُملأ القلب محبةً وانشراحاً واغتباطاً بهذا الأمر فنُريده، الله أكبر! مَن لم يُجرِّب الاستخارة بهذه الكيفية هو لم يستخر الله ولم يخر الله له، هل تعرفون لماذا؟ لأنه لم يستخر الله، هو أراد أن يستخير هواه، دخل على الله وهو لا يُريد إلا هواه، سأستخيرك هكذا زُخرفاً وظاهراً، وسأمضي على ما أُحِب، ولذلك يقول استخرته يا أخي ولم أشعر بشيئ، حقيقٌ ألا تشعر بشيئ يا مَن يُخادِع نفسه، ادخل بتسليم كامل، حتى لو كان ما تستخير الله فيه خُسرانك الدنيوي، ستخسر صفقة كبيرة، ستخسر ملايين.

أنا أعلم مَن ترك صفقات وأعمالاً – والله – تُربِحه الملايين، لأنه من أهل الملايين، أتحدَّث عن رجل هو من أهل الملايين، من أهل مئات الملايين، وترك هذا باستخارة وباستشارة، هذا رجل مُؤمِن، هذا رجل صادق ومُوفَّق، زاده الله وأمثاله توفيقاً.

إذن الدعوات المُستجابة باب من أبواب اتصال الله – تبارك وتعالى – بنا، يدلنا على نفسه، لا إله إلا هو! موجود، أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ۩، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ۩، استخرني حقاً، استجب لي، لا تستجب لهواك، فسأخير لك، سأُريك الخيرة تماماً، هذا باب عجيب جداً، لابد أن نُجرِّبه، طبعاً الشواهد أكثر مَن أن تُذكَر، تحتاج إلى مُجلَّدات، وهناك مَن ألَّف كُتباً بحيالها في مُجابي الدعوة، ولا يُمكِن هذا أن تجمعه كُتب، لماذا؟ لأن مُجابي الدعوة بالملايين في كل زمان ومكان – بإذن الله وتعالى -، لو جلست مع إخوانك هنا وأخواتك كلٌ سيُحدِّثك بدعوات عجيبات مُستغرَبات، كيف لباها الله في التو – لا إله إلا هو -؟ والله العظيم شيئ عجيب، هذه سبيل!

هناك الرؤيا الصالحة، وهنا يعجز ويطامن سيجموند فرويد Sigmund Freud وأمثاله، أصحاب نظريات التحليل النفسي، يُقال هذا حديث نفس، وهناك يونغ Jungواللا شعور الجمعي الذي يقول لك كيف هذه تنشط، وكله كلام فارغ هذا، طبعاً فارغ هنا، وله معناه في محله، هنا إذا تعلَّق الأمر باتصال الله بنا وباستجابته لنا فهذا كلام فارغ، الرؤيا الصالحة! ما معنى الرؤيا الصالحة؟ النبي يقول ذهبت النبوة، ولم يبق إلا المُبشِّرات، ما المُبشِّرات يا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً -؟ قال الرؤيا الصالحة يراها المُؤمِن أو تُرى لها، هكذا! تنام أنت، تغفو إغفاءة، يلوح لك شيئ، ترى شيئاً، تأتي السنون أو الأسابيع أو الأيام أو الساعات أو الشهور تُحقِّقه كما هو، كما هو! هناك مَن رأى مَن سيتزوَّجها ولم يرها مِن قبل ولم يسمع بها، جاءته في المنام، قيل له هذه فلانة، واسمها أميرة، شابة طيبة صالحة، وهي زوجك، وبعد أسابيع ربما أو أيام يسيرة – سُبحان الله – ترتبط أسباب في أسباب وأمور بأمور وتتصل حبال ووصال، وتظهر أميرة، وهي موجودة في الخلق طبعاً، لم يرها من قبل، ولم يسمع بها، ولم يأذن بها، وتكون زوجته، كيف هذا؟ هنا فرويد Freud يعجز، هل تعرفون مَن هو هذا؟ مولانا الدكتور العلّامة البوطي، وحكى هذا في كُتبه، بعد وفاة زوجته – رحمة الله عليها -، قال رأيت زوجي الثانية في المنام قبل أن أراها، ولم أرها من قبل، ولا أعرف عنها شيئاً، رأيتها – قال – في المنام، وحين رأيتها في الواقع أصابتي الدهشة والحيرة، نفس الوجه ونفس الشخصية التي رأيتها في المنام، نعم!

هناك أطفال صغار برآء أطهار ربانيون، يرون شخصيات مُعيَّنة، ويرون أُفقاً له وللأمة بها ومعها، ولن أكون أكثر توضيحاً، ويُردِّد هذا الصبي وهو في عالم والشخصي المرئي في عالم آخر – هذا في قارة وهذا في قارة -، يُردِّد هذا الصبي عبر السنين مَن هو هذا الشيخ الذي أراه؟ لقد ملأ حُبه قلبي، ملك علىّ جوانحي، إن له أُفقاً ودوراً في الأمة، وتقول له أمه اسكت يا بُني، هي مُجرَّد رؤيا، وتدور الأيام والسنون، وبعد بضع سنين يرى رجلاً جاء يخطب إليهم ابنتهم، فيصرخ قائلاً هذا هو، هذا هو، الطفل كالمجنون يصرخ، قيل له عن ماذا تتحدَّث يا بُني؟ فقال هذا الذي كنت أراه عبر السنين، مَن؟ كيف تواصلت هذه الأرواح؟ كيف تواصلت هذه المعاني؟ بوجود الواحد، لا إله إلا هو!
في فلسفة اللُغة – ولكم وددت أن أشرح هذا المعنى! ولكن هذا يحتاج إلى مُحاضَرة بحيالها – نحن حتى لا يُمكِن أن تقوم لنا لُغة وتواصل إلا بالله، ما رأيكم؟ هذا ليس كلام مشايخ ودراويش، كلام فلاسفة اللُغة، الرَّحْمَنُ ۩ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ۩ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ۩ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ۩، أي بلا إله – بلا الله، لا إله إلا هو – لا يُمكِن أن تقوم اللُغة البشرية، لا يُمكِن أن تقول هذا ميكروفون Microphone، وهذا منبر، وهذه طاولة، لا يُمكِن! ولا يُمكِن أن تفهم أن هذا ميكروفون Microphone بلا الله، كيف؟ هذا يحتاج إلى مُحاضَرة في فلسفة اللُغة، هذا هو! نتواصل بالله، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩.

إذن الرؤيا الصالحة يراها المُؤمِن أو تُرى لها، باب للاتصال بالله طبعاً، هكذا يتواصل معنا – تبارك وتعالى -، لا إله إلا هو! وهناك باب عجيب جداً، أحياناً يكون أحدنا غير مُهيأ، غير مُقتدِر، وغير مُستعِد لأن يتلقى وحي السماء، أي ليس نظيفاً وليس طاهراً بالدرجة التي تُهيئه أن يتلقى وحي السماء، هنا بعضكم قد يقول يا شيخ احذر، وحي السماء؟ نعم، وحي السماء، الله يُوحي إلينا، ليس وحي نبوة أبداً، وحي فراسة، وحي إلهام وتعليم، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ۩، أم موسى ليست نبية، الله أوحى إليها، نحن لسنا أقل من نحلة، والله يُوحي إلى النحل، وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ۩، لسنا أقل من نحلة، نحن الخُلفاء في الأرض، انتبهوا! نحن مَن سُخِّر لنا هذا الوجود، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۩، لا إله إلا هو! يُوحي إلينا، لا وحي نبوة ورسالة، وإنما وحي إلهام وتعليم، وحي اتصال، ليقول لك أنا هنا، أنا قريب، أقرب إليك من نفسك، قبل أن تُفكِّر في الشيئ أو لحظة وريث أن تُفكِّر فيه سأُبرِزه لك، سأُحقِّقه لك يا عبدي، فتعلم أنني موجود، أقرب إليك من خاطرك – لا إله إلا هو -، أقرب إليك من وهمك، أقرب إليك من فكرتك.

سُئل الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – كم بين السماء والأرض؟ لم يُجِب على نحو الأحاديث المنحولة على سيد الخلق، مثل خمسمائة سنة بعدو الفرس المُضمَّر والكلام الفارغ هذا، ما وزن هذا الكلام؟ الآن هناك بلايين السنين، ما يتعلَّق بالسماء الدنيا وحدها هذه يُقدَّر بثلاثة عشر ونصف بليون سنة ضوئية، بمسيرة الضوء وليس الفرس المُضمَّر، لا! فقال دعوة مُستجابة، ما أعظم الجواب! ما أعظم الجواب! كم بين السماء والأرض؟ قال دعوة مُستجابة، هذا هو، لا يُوجَد بُعد، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۩، أحياناً يكون أحدنا أو إحدانا غير مُهيأ أو غير مُهيأة – العلة من القابل، لا من الفاعل، رحمة الله وسيعة، لا إله إلا هو – أن تلتقط، أن تفهم  همس السماء ووشوشة الغيب، غير قادر! الغيب يُوشوِش ويهمس، لكن مَن الذي يفهم ويحذق الوشوشة والهمس؟ الذي يحذق اللُغة، اللُغة الإلهية! كيف هي اللُغة الإلهية؟ أنت الآن كعربي تسمع أباً يُوشوِش أو يهمس لابنه، تلتقط رُبع كلمة، فتفهم ماذا يقول، لكن لو كنت تشدو بالألماينة حروفاً، لا يُمكِن أن تفهم الوشوشة الألمانية، لابد أن تُترجَم الوشوشة بألمانية واضحة بسيطة مُباشِرة، كأن يقول له قلت لك يا بُني كذا وكذا، Ich sagte dir, mein Sohn بشكل واضح، وإلا لن تفهم، وكذلك وشوشة الغيب، يفقهها مَن حذق اللُغة الإلهية، كيف يتكلَّم الله معنا؟ سوف نرى، هذا هو! كيف يتواصل الله معنا – تبارك وتعالى -؟

لا نكون مُهيأين، ما الذي يحصل؟ يتواصل الله معنا – تبارك وتعالى – عبر الصفوة المُهيأة، ما معنى هذا الكلام؟ هذا الكلام واقعي ويحصل دائماً، يأتيك عبد من عباد الله، من أهل الصفوة المُختارين، ويقول لك يا فلان أنا أعلم مُشكِلتك، أعلم حاجتك، حاجتك كذا وكذا وكذا، شيئ لا يعلمه إلا الله وأنت، أليس كذلك؟ يُسقَط في يدك، كيف عرفت هذا؟ من أين عرفته؟ يقول لك اسكت، لا تسأل، لن تفهم، ولن تعرف، والحل يا سيدي كذا وكذا وكذا، فتُوقِن أن الله موجود.

معكم هنا أخ من إخواننا في الله – في هذا المسجد المُبارَك – التقى بأحد الصالحين، وأنا كنت في الجلسة أصلاً مع مجموعة، كلنا كنا موجودين، وحين أراد هذا الصالح أن يستأذن عائداً مُنهياً الزيارة، هذا الأخ استأذن أن ينفرد به قليلاً في الأسانسير – أي المصعد -، وعاد مُحتاراً مُندهِشاً مصدوماً، قلت له لماذا؟ قال عجب يا أخي، قلت له يا مولانا أود أن تدعو لي الله – تبارك وتعالى -، يُؤمِّل أن دعاءه مُستجاب، قال وأنا والله – علماً بأنه موجود معنا في هذا المسجد – أدعو الله بأمور لا تعلمها زوجي ولا ولدي، لا يعلمها إلا مَن يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩، وإذا به ينظر إلىّ ويبتسم، ويقول يا بُني أو يا أخي أعطاك الله كذا وكذا وكذا وكذا، قال فأُسقِط في يدي وهو يتبسَّم، الله عبر هؤلاء يُكلِّمنا، واسطة! كان يُمكِن أن يُكلِّمنا مُباشَرةً بغير هؤلاء لو كنا مثلهم مُهيأين أطهاراً نافذين مُستبصَرين، ولكننا لم نُعن بهذا، ثم نأتي نُشكِّك، هل الله موجود؟ ما شاء الله! لا زلنا نبدأ من تحت الصفر بسؤال هل الله موجود؟  

هناك ما هو أكثر من هذا، للأسف نحتاج ربما إلى مقام آخر، والموضوع فيه لطائفه، وفيه عوارفه، وفيه فواضله، نسأل الله أن يتعرَّف إلينا، وأن يتفضَّل علينا، وأن يزيدنا قُرباً ودنواً من جلاله – لا إله إلا هو -.

أختم وببساطة، الله – تبارك وتعالى – يُمكِن أن يُحدِّثنا بكل شيئ، لأن كل شيئ من مُلكه، يُمكِن أن يُحدِّثنا بالبرق، بالرعد، بالزلزال، بالسماء، بالأرض، بالنجوم، بالأحداث، بالتاريخ، بالواقع، بالحرب، بالسلم، بك، بما تقول أنت، وبما أقول أنا، كل هذا يدخل في لُغة الله، شيئ غريب!

أُحِب فقط أن أُفضي إليكم – وهذا من باب البُشرى – بالآتي، الخُطبة السابقة كانت بنت لحظة من عطاء الله – تبارك وتعالى -، كنت أجلس في سيارتي، أقرأ في علم السيميولوجيا Semiology، وهو علم من علوم اللُغة الحديثة، يُسمونه السيميائيات، وهذا موضوع لا علاقة لا بالدين ولا بالإيمان، في السيميائيات! في لحظة انفتحت روزنة هكذا في خاطري، معانٍ انثالت علىّ، فأخذت قلمي الرصاص وبدأت أكتب، هي المعاني التي أبثكم إياها في هذه الخُطبة وفي الخُطبة السابقة، في لحظة! فبدأت أكتب، ولأول مرة أنا أُقارِب هذه المعاني، وطبعاً جوهر المعنى وعموده وأُسه أن الله لا يُقارَب كذات، يُقارَب كمعنى، هذا في البداية، ما هذا المعنى؟ الرحمة، الرحمة الرحمة الرحمة! ولكن أنا على عادتي – بفضل الله – دائماً ما أشك، كثير التشكك، جم الارتياب في نفسي وفي أفكاري وفي خواطري، هل هذا من الله؟ هل هذا حق؟ هل هذا ضلال؟ هل هذا حديث نفس؟ هل هذا… هل هذا… أخاف! لأن أمر دين هذا، ليس لعباً، أمر دين، وتأتي بأشياء جديدة، لو كنت شيخاً تقليدياً لكان الأمر مُريحاً جداً جداً جداً، أقوم كل جُمعة وأستخرج ورقة وأتلو ما فيها مما هو نقول من كُتب، والسلام عليكم، سهل! عملية سهلة جداً جداً، يقوم بها أي طفل صغير، لكن الأمر هنا يختلف، ودائماً في هذه الحالات أستعين بالله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – قدَّس الله سره – أنزل الله سبعين كتاباً إلهياً، زُبدتها القرآن الكريم، خُلاصة القرآن في البقرة، نُسخة البقرة في الفاتحة، خُلاصة الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، ما يُعبَد إلا هو، ولا يُمكِن أن يُعبَد إلا بعون منه، نسأل الله أن يُعيننا على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، هكذا البراءة من الحول والطول والقوة، فأطلب من الله دائماً آية، أقول يا رب أن أرني آية، وقد عوَّدني هذا بفضله ومنّه، أرني آية، طمئن فؤادي، قال إبراهيم وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۩، انتبهوا! ما الذي حدث؟ هكذا يتكلَّم الله، إذن أوحى الله إلينا وكلَّمنا، كيف؟ لا وحي نبوة، وحي تعليم، كنحو من وحي الله إلى أم موسى، وإذا أنا بشيخ نمساوي كبير، يظهر أمامي لدى نافذة السيارة مُباشَرةً وهي مفتوحة، في لحظة! لا أدري من أين سقط علىّ؟ يقول لي حياك الله، هل أنت مُسلِم؟ هكذا يتحدَّث، Sind Sie ein Muslim? فقلت له نعم، أنا مُسلِم، فقال اعلم اعلم اعلم أن محمداً أعظم أعظم أعظم نبي، وأنا ظننت – والله – أنه سيسبه، وكان سيكون لي شأن معه، تماسكت أعصابي، فقال اعلم اعلم اعلم – يقول لي ثلاث مرات – أن محمداً أعظم أعظم أعظم نبي، وهو تماماً كأخيه عيسى، يقول لي أخوه عيسى، انتبهوا! عيسى ليس رباً في وهمه، نعم أنا عجوز – يقول لي – نمساوي كبير، وسأصير مُسلِماً، أُحِب أن أقول لك أنتم المُسلِمون رحماء، لديكم رحمة، هؤلاء – يقول – قُساة، ليس عندهم رحمة، الرحمة عندكم، وأنا هنا لم أملك عيني، ولا أملك أن قف شعر بدني، لأن المعنى الذي انثال علىّ والمعنى الذي أنا بصدد الاستعانة بالله على أن يُريني صدقيته هو الرحمة، مُقارَبة الله كرحمة، كمعنى – لا إله إلا هو – من جهتنا، من أين يأتيني هذا الشيخ النمساوي؟ ويتلو هذه الكلمات، ثم كأنه فر، جاءت زوجتي ووجدتني في هذه الحالة، فذكرت لها ما حصل، فتأثَّرت جداً، وقالت علينا به، جعلنا ندور بالسيارة، ولا أثر، هل نظرتم كيف يُكلِّم الله إذن عبده؟ كيف يُمكِن أن يُكلِّمنا؟ بألف أسلوب وأسلوب.

يُمكِن أن تطرح سؤالاً، فتلتفت فجأة أو فُجاءة لتسمع قارئاً يقرأ الآية، الآية هي جواب سؤالك، طبعاً هذا عند فيلسوف من طراز فرانسيس بيكون Francis Bacon أو هيوم Hume أو برتراند راسل Bertrand Russell كلام فارغ، لأنه غير مضبوط بضوابط عقلية، كم مِمَن سمع هذه الآية ولم تأت جواباً عن سؤاله! وكم مِمَن سأل ولم يسمع آية! نعم، صحيح، هذا المنطق العقلي، كيف الجواب عنه؟ إلى فُرصة أُخرى.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُنوِّرنا، وأن يُعرِّفنا، وأن يدلنا عليه دلالة العارفين الصادقين، وألا يحرمنا من ذلك.

اللهم نوِّر ضمائرنا، وقدِّس سرائرنا، واختم بالسعادات آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، يا لطيف، يا غفور، يا سميع، يا بصير، يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ونوراً ورشداً، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، لا تجعل اللهم مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك ولا يرحمنا.

اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت، ولا تعجيل ما أُخَّرت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا. 

اللهم بلِّغنا رمضان، اللهم بلِّغنا والمُسلِمين والمُسلِمات أجمعين رمضان في خير وعافية وأمن وإيمان، برحمتك يا أرحم الراحمين، ولا تحرمنا فيه فضلك، وأنزل فيه من بركاتك، وأسبغ علينا من نعمك، وأفض علينا من فيوضاتك وألطافك، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(14/8/2009)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: