إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الحق – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ۩ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ۩ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ۩ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۩ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۩ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۩ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۩ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ۩ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ۩ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ۩ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ۩ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ۩ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ۩ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ۩ كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ۩ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ۩ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ۩ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

حين نستمع إلى واعظ أو مُذكِّر يُجلب علينا بالآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة ولا يكاد يخرج في وعظه وهديه عن استدعاء النصوص هل نشعر بالأثر وبالقُرب وبالانفعال في هاته الحالة كما نشعر به في حالة مُذكِّر آخر يستدعي نزراً يسيراً من النصوص، يرفدها بحكايا وخبرات ومفاهيم وترجيحات ومُعارَضات، تعكس عيشه، وتعكس خبرته الذاتية وتجاربه الروحية؟

طبعاً مَن جرَّب أن يسأل هذا السؤال أو يُعاني من طرح هذا السؤال على نفسه بطريقة عملية في مُعظَم الحال يجد أنه ينفعل في الحالة الثانية أكثر مما ينفعل في الحالة الأولى، ينفعل كثيراً، ولذلك كان الرسول الأكثر تأثيراً في الأُمم الأُخرى وفي الثقافات المُغايرة، هو ذلكم النمط من البلاغ الذي يعتمد الينابيع والمصادر التي أشرنا إليها في الحالة الثانية.

في الغرب هنا – مثلاً – يتأثَّرون كثيراً وإلى حد بعيد بأشعار العارفين المُسلِمين، الأشعار التي تعكس – كما قلت – مُعاناتهم الروحية وخبراتهم وتجاربهم الشخصية، يتأثَّرون بهذا جداً.

طبعاً بديه أن الخلفية المفهومية والعقدية والتصورية لهذه الخبرات ولهذه التجارب وضروب المُعاناة إنما هي الإسلام نفسه كجوهر، بلا شك! وإلا ما الذي يُفرِّق بين هؤلاء الشعراء العارفين وبين غيرهم من الشعراء الذين ينتمون إلى مِلل ونِحل أُخرى؟ الخلفية موجودة بلا شك، وتفعل فعلها، وإن بشكل غير مُباشِر وغير جهير.

ما أود أن أقوله في معرض حديثي عن أزمة الفهم الديني هو بلا شك أننا كأمة في هذا العصر وفي كل عصر تقريباً – وشأننا في هذا شأن الأمم سائرها – نُعاني فهماً أو نُعاني أزمة فهم لديننا، للنص الديني، يُمكِن أن تتحدَّد هذه الأزمة أولاً بظن أو حسبان بعض الناس أن النص وحده يكفي، يكفي الإجلاب به واستدعاؤه وتنتهي المسألة، غير صحيح، هذا مُستحيل، لماذا؟ لأن النص إلهياً كان أم نبوياً جاء للعالمين، جاء ليُخاطِب العامي والمُتعلِّم، الأحمق والحكيم، الموسوعي الثقافة والمعرفة والضحل المعرفة، والذي يتحرَّك بعُدة معرفية هائلة جداً والذي يكاد يخلو من هذه العُدة، جاء النص بإزاء هؤلاء ليعلو بهم، ليرتقي بهم، وليفتح لهم أو ليرسم لهم آفاقاً، عليهم أن يسعوا صوبها، كلٌ بحسب خلفيته وبحسب ما يسَّره الله له سُبحانه وتعالى.

مُحال أن يفهم نصاً ما نبي من الأنبياء كما يفهمه تابع من تابعيه، مُحال! هذا مُستحيل، قال تعالى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ۩، طبعاً! وهذا الذي كان يُفرِّق حتى بين أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه ومَن والاه، ورضيَ الله تعالى عنهم أجمعين وأرضاهم، كان يُفرِّق بينهم! 

وفي حديث أبي موسى المُخرَّج في الصحيحين إن مثل ما بعثني به الله من الهُدى والنور كمثل غيث أصاب أرضاً، ثم ذكر الأنواع الثلاثة، هناك مَن يتحفَّظ ويشتق، هناك مَن يتحفَّظ ولا يشتق، وهناك مَن لا يتحفَّظ ولا يشتق، هناك مَن يتحفَّظ النصوص ويشتق منها معانٍ جديدة، يستطيع أن يتلمَّح الآفاق التي ترسمها أو بعض – لنكن مُتواضِعيين وواقعيين – الآفاق التي ترسمها هاته النصوص، النص إذن يأتي ليرسم لنا آفاقاً، هذه الآفاق علينا أن نتوجَّه صوبها، وعلينا أن نشتق المعنى الجديد أو نخبر المعنى العميق بالخبرة المعيشة.

مُحال أن يفهم النص الإلهي شاب في الخامسة عشرة أو ربما في الثالثة عشرة، لم يبلغ الحلم إلا بالأمس أو اليوم، مُحال أن يبلغ عُمق هذا النص وأن يُجاوِز السطوح وأن يدّعي أنه فهمه بمُجرَّد أنه يعرف النحو والصرف والبيان العربي وعنده في مكتبته التفاسير المُوسَّعة، مُستحيل! يستحيل هذا، إنه يحتاج إلى عشرات السنين وعشراتها وعشراتها، وسيظل أفق النص مفتوحاً بلا شك، لكنه سينضج قليلاً قليلاً على نار الحياة والخبرة والعيش الهادئة، وستبدأ أزهار هذا النص تتفتح في ساح أو في حاق نفسه وروحه شيئاً فشيئاً.

هذا ما يحصل وهذا ما ينبغي أن يحصل دائماً، لكن إن وجدنا مَن يأتي وهو في العقود الأخيرة من عمره بعد خبرة طويلة في تعاطي الشأن الديني وعظاً وهدايةً وإرشاداً وتأليفاً وتصنيفاً وقصارى ما يأتينا به هو أنه يستجلب النصوص ويستدعيها ويستشهد بها دون أن يرفدها بشيئ من خبرته الذاتية، من مُعاناته، ومن تجاريبه، فمعنى هذا أن هذا الرجل قزَّم آفاق النص، بل لم يتلمَّح آفاقه أصلاً.

شأن البشر أن يتواصلوا، أرسطو Aristotle له عبارة في مُنتهى الروعة، قال لا يستطيع أن يعيش وحده إلا إله أو بهيمة، الإله مُكتفٍ بذاته، لا إله إلا هو! لا يحتاج إلى اجتماع، طبعاً لأنه إله، وهو واحد وحيد أحد، لا إله إلا هو! فمَن ذا يزعم أنه إله؟ لا أحد، لذلك مَن يُريد الهروب والانعزال ويدّعي بعد ذلك أنه كائن أخلاقي وأنه بشر سوي وأنه إنسان يطلب الكمال هذا واهم، هذا لم يفقه القضية من أصلها، هذا أقرب إلى أن يكون بهيمة، البشر يتواصلون، والتواصل ليس فقط في النطاق الذي يتحدَّث عنه علماء السيميائيات وفقه اللُغة، لا! أعمق من هذا بكثير.

تأتي مرحلة – تأتي مرحلة علىّ أو عليكِ أو عليه أو عليكَ – نشعر معها أننا إضنا أو صرنا عاجزين أن نشتق المعنى الجديد الأعمق من النص، ما يُسهِل لنا اشتقاقه بخبرته وعيشه قد حصل، أليس كذلك؟ النصوص نكاد أن نكون قد أحطنا بنا، هذا إذا تعلَّق الأمر بالقرآن الكريم، كثيرون يُحطيون بالنص القرآني، يتحفَّظونه من الفاتحة إلى الناس، ونُحيط بمُعظَم النصوص النبوية الهادية، النصوص الرئيسة، بعد ذلك حين تُريد أن تتواصل معي كروحاني إزاء روحاني أو عالم إزاء عالم أو مُثقَّف إزاء مُثقَّف أو إنسان إزاء إنسان أو مُتدين إزاء مُتدين أو حتى غير مُتدين – أي إزاء غير مُتدين – كيف ستتواصل؟ هل ستتواصل باستدعاء النصوص؟ لا أُريد، هذا عندي، لن تستطيع أن تُقدِّم لي جديداً، أنت تُريد أن تتواصل وأنا أُريد الشيئ الجديد الذي لديك، الشيئ الأبعد أو المُختلِف الذي خبرته وجرَّبته وعشته، من خبرتك، من عيشك الشخصي الذاتي، هل يُوجَد أو لا يُوجَد؟ إذا كان لا يُوجَد فأنت فقير جداً، لا تستطيع أن تُشير إلى أفق جديد، لا تستطيع! فضلاً عن أن تزعم ارتياده من قبل، مُستحيل هذا، فأنت فقير جداً.

ولذلك لا نشعر بالانفعال كثيراً في حالة إجلاب واستدعاء النصوص كما نشعر في حالة الحديث عن الخبرات المعيشة وعن التجارب التي مر بها المرء والمحطات التي عبرها المرء ومر بها الإنسان، وهو يُحسِن الحديث عنها جداً، لا يُحسِن أحدنا الحديث إلا عما خبره – انتبه – وعما يحفظه، حتى ابن السادسة يستطيع أن يتلو عليك القرآن كله، لا شيئ! ماذا يُجدي هذا؟ عن ماذا يُمكِن أن يتحدَّث ابن السادسة الذي يتحفَّظ الآيات؟ عن لا شيئ، أليس كذلك؟ هذا هو، انتبه! أنت لا تستطيع أن تتحدَّث ولا أن تُفهِم ولا أن تتواصل إلا بما عشت، وبما جرَّبت، فالمسائل لا تتعلَّق بشروط الأشياء الذاتية، بقدر ما تتعلَّق بشرطنا نحن كبشر واعين ومُبدِعين.

ومن هنا يبدو هذا الفهم للدين تكريساً لإنسانية الإنسان، لأن الإبداع هو أحد أعظم وأهم وأخطر مُحدِّدات الإنسان، الإنسان كائن مُبدِع، كائن خلّاق بلا شك، ومن هنا جاء الشعر، الفن، النثر، وسائر فنون الإبداع كما يُقال، هذا هو الإنسان، كلٌ منا يُمكِن أن يكون مُبدِعاً، من غير أن يكون شاعراً كبيراً أو مُترطِناً شهيراً أو أديباً خطير الشأن أبداً، الإنسان العادي يعيش تجربته، ويشتق المعنى الجديد بالعيش، بالخبرة، بالتأمل، وبالوعي.

ومن هنا يُمكِن أن يصير الدين والفهم للدين رفداً لإنسانيتنا، أن يجعلنا نتعمَّق معنى إنسانيتنا، أن نكون بشراً، أن نكون ناساً أسوياء مُبدِعين، وأن نتواصل بإبداع وخلّاقية، والعكس يحدث عند إحالة الدين إلى قشور وطقوس، يُمكِن أن تُعبَر مسيرة هذه الحياة دون خبرتها – دون خبرة الحياة -، دون مُعاناتها، دون فهم هذا العالم، ومع ذلك نتأمَّل في رحمة الله وفي جنته، هذا تقزيم للدين، هذا إلغاء لرسالة الدين أصلاً، تغريب! ما يُعرَف بالتغريب، أي الـــ Alienation، يُصبِح الدين شيئاً غريباً، نعيش حالة غُربة بالدين عن إنسانيتنا، عن تجلياتنا، عن الآخر، وعن المُعايشة، هذا مُستحيل، وإلا لو كان الأمر كذلك لجعلنا الله ملائكة تُسبِّح وتُقدِّس ليل نهار وانتهى الشأن، لا! هذا الدين جاء لهداية أهل هذه المعمورة، لهدايتهم، لإصلاحهم، ولتدبيرهم.

ومن هنا ماذا قال عن المُجرِمين؟ ما شأن هؤلاء المُجرِمين؟ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۩ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۩، عجيب جداً! هل هكذا يتحدَّد المُجرِم والكافر؟ هل المُلحِد النافي يتحدَّد بأنه لم يك يُطعِم المسكين؟ هل القضية ليست أيديولوجية إذن؟ نعم، في هذا البُعد ليست أيديولوجية، إنها قضية تواصل، إنها قضية إنسانية الإنسان، إنها قضية التراحم لا التعاقد، هكذا! فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ۩ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ۩ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ۩، نفس الشيئ! 

هناك مَن يسألنا عن دليلنا وعن مُستنَدنا في أن الدين لم يأت للآخرة، إنما جاء للدنيا، لعمارتها وأصلاحها، وشأن اختباره يكون بما أنجزناه في هذه الدنيا، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، لذا أُحِب أن أُعمِّق هذا المعنى بالدخول إلى ساحة أُخرى وهي بلا شك أخطر وأكثر حسّاسية، وأرجو أن نكون مُتيقظين في التعاطي معها، وأنا أولكم.

كيف نُقارِب الله تبارك وتعالى؟ كيف نقترب من الله تبارك وتعالى؟ كيف نفهمه – إن جاز هذا التعبير -؟ بأي معنى نُؤمِن به – لا إله إلا هو -؟ انتبهوا، طبعاً الجواب الذي يُمكِن أن يُعطيه العامي – كل عامي، وهو لا يُشكِّل أي إضافة، بل ليس له معنى – أن نُؤمِن به، أنه لا إله إلا هو، وانتهى كل شيئ، ما هذا؟ ما هذا الذي لا إله إلا هو؟ مسكين هذا المُعتقِد! ما هو الذي لا إله إلا هو؟ يجب أن تُقارِب الله بمعنى أو بآخر، لابد أن تعلم ما تُؤمِن به بطريقة أو بأُخرى.

طبعاً نحن نُقِر كمُوحِّدين وكمُسلِمين أن الله – لا إله إلا هو – ذات، ولكن لابد أن نُصِر دائماً على أنه ذات لا كالذوات ولا كأي ذات، ومن هنا تبدو المسألة مُستحيلة، أن يُقارَب الله كذات، انتبهوا! الله لا يُمكِن أن يُقارَب كذات، لا يُمكِن أن يُفهَم ويُستكنَه كذات، ما عرف الله إلا الله، مُستحيل! لأنه ذات لا كالذوات ولا كأي ذات، وهنا تسقط اللُغة، ونحن نُفكِّر في إطار من اللُغة، بل نُفكِّر باللُغة في الحقيقة بحسب اللُغويات الحديثة، وإذا كان الله ذات لا كالذوات لا تطاله لُغة ولا تعبير ولا وهم ولا خاطر، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ۩، لا إله إلا هو! لذلك يستحيل أن يقول أحد إنه بسبيل أن يُقارِب الله كذات، وهنا يُثبِت لنفسه وجوداً، هذا وجود ذات بإزاء ذات، عن أي ذات تتحدَّث؟ أتتحدَّث عن التراب بإزاء رب الأرباب؟ مُستحيل، مسكين أنت!

إذن كيف نُقارِبه – لا إله إلا هو -؟ وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ۩، كمعنى! نحن نُقارِب الله كمعنى، نُحاوِل أن نفهم الله كمعنى، أن نعيش خبرة الإيمان بالله – سُبحانه وتعالى – كمعنى، عجيب! نُقارِبه كمعنى، هذا المعنى مركوز في فطرنا، مركوز في قلوبنا، بهبة ولُطف إلهيين محض، قال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩، بهذه النفخة نستطيع أن نُقارِب الله في باطننا، المعنى في باطننا، المعنى فينا نحن، والمعنى الذي يُمكِن أن نراه في الخارج – في الأشياء، في الموجودات، في المخلوقات، في الأكوان، وفي العوالم – هو فرع المعنى النابع من ذواتنا، من بواطننا، نحن نُسقِط المعنى على الخارج، انتبهوا! 

ولذلك يُوشِك أن يكون هذا الكون لا معنى له، الإنسان خالق المعنى ومُوجِد المعنى، نحن نُوجِده، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، يُمكِن أن تُفهَم الآية – وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩ – بمعنى أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩ ما حولكم، أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩ العوالم، أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩ الدلائل، نحن الذين نُسقِط المعنى على هذا العالم، نُمعين إن جاز التعبير العالم، نحن نُمعين هذا العالم، نجعل له معنى، لأنه لا معنى له بغير وجودنا، ومن هنا كان هذا العالم مُسخَّراً له، فرع مُسخَّريته أن يُشتَق معناه منا، أن يُسقَط عليه المعنى بنا ومنا، انتبهوا! هذا هو، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩، قال يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ۩، نحن هنا مركز بمعنى من المعاني.

إذن نُريد أن نُقارِب الله – تبارك وتعالى – وأن نعيش خبرة الإيمان به كمعنى، ونبتعد عن حماقة أن نُقارِبه كذات، على كل حال هنا لابد أن أُضيف إضافة كلامية أو إضافة عقدية، أي تتعلَّق بالعقيدة، وهي ذات أهمية فيما أرى، بهذه الطريقة يسقط السؤال الذي حيَّر العلماء وصدَّع عقولهم وبلبلهم أو تركهم في بلبال من أمرهم، سؤال طبيعة العلاقة الحاكمة، طبيعة علاقة الله بموجوداته، بالعوالم، وبالخلق، هل هي تداخل؟ هل هي تخارج؟ هل هي توحد؟ وهل يُمكِن أن نقول فوق وتحت أو أكبر وأصغر أو غير ومُماهة – إلى آخره -؟ طبعاً هذا مُحيِّر جداً جداً جداً جداً، بعضهم اكتفى بالتخارج، فهم هذا من قولهم الله بائن من خلقه، هذا الخلق وهذا الرب، انتهى كل شيئ، أعوذ بالله! ستقع في التجسيم يا مسكين، حتماً ستقع في التجسيم، أنت مُجسِّم، بعض العلماء الكبار من أهل السُنة والجماعة قالوا مَن يعتقد هذا هو يعبد وثناً، لا يعبد الله الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، بعضهم ذهب إلى الطرف الآخر، بشكل تلقائي، إذا لم يكن هذا التخارج صحيحاً فهو التداخل أو المُماهة، أي وحدة الوجود، وهذا كلام فارغ لدى الفلسفات الهندية وصيحات الصوفية – أي بعض الصوفية الذين ضلوا وتاهوا -، لأن الأمر أكبر من العقل العادي وأكبر من الحس المُشترَك، قالوا توحد أو تداخل، وهذا كلام فارغ، لا هذا ولا هذا ولا ذاك، السؤال هذا يسقط إن فهمنا أن الله ينبغي أن يُقارَب كمعنى لا كذات، يسقط السؤال، انتهى! اترك هذا السؤال، ليس من شأن العقل.

الله – تبارك وتعالى – أراد أن يُفهِمنا أن الفكر الإنساني يصعب عليه إن لم يستحل عليه التعاطي مع هذا السؤال بجواب صحيح، يستحيل! لأن اللُغة أعجز من أن تصف رب الوجود ورب الألسنة واللُغات، غير محكوم بقوانين الوجود ولا بقوانين اللُغات، هذه ظروف، خارج وداخل ومع وفوق وتحت، كلها إنما وُجِدت أو انوجدت من أجل ماذا؟ من أجل توصيف المخلوق الموجود والمُحدَث، تعجز عن أن تُوصِّف الخالق، لا إله إلا هو! رب الوجودات ورب اللُغات، يستحيل، لا تستطيع، إنه شيئ مُختلِف تماماً وبالمُطلَق.

ومن هنا أراد – تبارك وتعالى – أن يجعلنا نلمس عبر النص الإلهي المعصوم هذا المعنى بقوله هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، حتى انتهى كثيرون – وهم على حق – حين عرَّفوا الله – تبارك وتعالى – إلى أنه حاوي المُتناقِضات، هو رب المُتناقِضات، هو الذي يجمع المُتناقِضات، كيف يكون أولاً وآخراً؟ كيف يكون ظاهراً وباطنه؟ في الوقت ذاته! يُريد أن يقول لنا لأنه لا يُوصَف بالظروف ولا يُوصَف بأمثال هذه النعوت إنه فوقها واكتفوا، قاربوه بعد ذلك بالمعنى.

في الشعر العرفاني الهندي مقطوعة في مُنتهى الروعة، الآن أعتقد بعد هذا التقديم وفي هذا السياق بالذات يُمكِن أن تُفهَم، لو قرأها مُتعجِّل من هؤلاء الحروفيين لادّعى أن صاحبها وحدوي، وهذا كلام فارغ، ليس وحدوياً، إنه مُؤلِّه، إنه رباني، وعلى طريقة القرآن الكريم، قال بحثت عنك ولم أجدك، ناديت باسمك من فوق المنارة دهراً طويلاً ولم أجدك، قرعت الناقوس النحاسي من الصباح حتى الغروب ولم أُلفِك، عُدت من الكعبة خائباً، لم أجدك هناك، لم أجدك في الكعبة ولا في البيت الحرام، وفي النهاية كما الدرة وجدتك في ثنايا قلبي، الله أكبر! كما الدرة وجدتك مُختبئاً في حنايا قلبي.

ماذا يقول هذا العارف الكبير؟ يقول ضللت وتُهت حين ظننت أنه يُقارَب كذات، بحثت عنه في السماوات العليات، في الأماكن المُقدَّسات في هذه المعمورة، بالصوت، بالنداء، بالصياح، وبالصراخ، كما حدث للصحابة، يا رسول الله أبعيدٌ ربنا فنُناديه أم قريبٌ فنُناجيه؟ فأنزل – عز من مُنزِّل – وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، قال فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، وهو القائل – لا إله إلا هو – وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، إذن لم يضل ولم يته ولم يتحيَّر هذا الشاعر حين قال وكما الدرة وجدتك مُختبئاً في حنايا قلبي، لم يضل، إنه ردَّد بصيغة إبداعية ذاتية تعكس تجربته وخبرته الروحية العالية اللطيفة ما قاله الله، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، هذا هو.

ولذلك أُلهِم العارفون – ليس فقط في هذه الأمة بل في أمم سابقة – القول الذي نسبوه إلى رب العزة – لا إله إلا هو – ما وسعني سمائي ولا أرضي، ووسعني قلب عبدي المُؤمِن، إذن ووسعني قلب عبدي المُؤمِن، كيف لا يسعه وهو الذي نفخ فيه من روحه؟ هو الكائن الوحيد الذي يُمكِن أن يجد الله (كمعنى لا كذات)، كذات لا يُمكِن أن يجده، لا إله إلا هو! انتبه حتى لا تُلحِد، لا نُريد أن نقع لا في الحلول ولا في الوحدة، هكذا! ونُريد أن نكون قرآنيين أيضاً، وأن نكون أوفياء للمعنى القرآني وللأُفق العظيم المُنداح البعيد السحيق المُتجذِّر الذي رسمه القرآن الكريم، بعض الناس يضل هنا يا إخواني، وهو من كبار علماء الإسلام والعقيدة، يُريد أن يُقزِّم آفاق النص، لأنه وفي لمعنى جامد قاسٍ، لا! هناك مرونة كبيرة، ومع ذلك تحفظ التزيهية والتقديسية الإلهية، هذا هو، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، أنا عند المُنكسِرة قلوبهم من أجلي.

كلما سمعتم رب العزة يقول وَمِنْ آَيَاتِهِ ۩ فابحثوا عنه فيما جعله آية عليه، إنه هناك – لا إله إلا هو – كمعنى، أُكرِّر وأجدِّد تحاشياً للحلولية والوحدوية والتماهي الفارغ والباطل وعدم الوقوع في التجسيم وعدم أنسنة الله وعدم تقزيم مفهوم لا إله إلا هو ومعناه: كمعنى، كلما قرأتم قوله وَمِنْ آَيَاتِهِ ۩ فابحثوا عنه فيما جعله آية، نعم! ولذلك قلت في خُطبة قريبة لا يُمكِن للرجل منا ولا للمرأة أن يتعرَّف على الله معرفة حقة تصبو إلى أن تتكامل وتنضج بعيداً عن معنى ماذا؟ عن معنى الزوجية، عن معنى أن يعرف الرجل المرأة، وأن تعرف المرأة الرجل، في ظل ماذا؟ في ظل شرع الله وأمر الله وحدود الله تبارك وتعالى، لا في ظل الانفلات البهيمي الحيواني، الذي يمسخ المرء إلى مُجرَّد بهيمة، أما هذا التعرف فيسمو به إلى أُفق عارض وإلى مصاف عارف بالله تبارك وتعالى، قال وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۩، قال وَمِنْ آيَاتِهِ ۩، إذن ابحث عن الإلهي في هذه العلاقة المُقدَّسة، وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ۩، فيها إلهي، فيها الجانب الإلهي، بعيداً عن الجانب الحسي وهو مُحترَم، ليس محقوراً في هذا السياق، مُحترَم! لكنه البداية، المُنطلَق، ليس النهاية، وليس الغاية، ليست الغاية هنا، ولذلك الذين يتخلون عن زوجاتهم أو يتخلين عن أزواجهم لمعنى جمالي حسي – لأنها شابت وتهدَّمت أو لأنه كبر وشاب – لم يفهموا الإلهي، لم يلمسوا الإلهي في هذه العلاقة المُقدَّسة، لم يرتقوا إلى الله بها، قال وَمِنْ آيَاتِهِ ۩، هنا الجانب الإلهي.

هنا يُمكِنني أن أستدعي الشاعر الهندي الكبير طاغور Tagore، وذكرته مرة، هناك مقطوعة أكثر من رائعة، يُحدِّثنا طاغور Tagore عن الرجل الذي تركه أهله وعياله لقدرهم ولمصيرهم في مهب الريح، دون أن يترك عندهم وديعة تكفيهم في قابلات الأيام، تركهم وخرج باحثاً عن الله، قال طاغور Tagore فقال الله – هذا شعر وهذا شاعر – انظروا إلى هذا الذي خرج مني يبحث عني، الله أكبر! قال انظروا إلى هذا الذي خرج مني، أنت كنت في الله كمعنى، حين كنت تتعاطى مع زوجك، حين كنت تفيض بالرحمة على الأهل والأولاد، تحدب عليهم، ترأف بهم، تُفيض عليهم من عطائك، وتتكامل إنسانياً بهم ومعهم ولهم، أنت كنت في الله، هذا هو الله كمعنى – لا إله إلا هو – والله كرحمة.

هذا الشعر الطاغوري العظيم مسبوق بحديث نبوي صحيح – في صحيح مُسلِم – من أعجب ما يكون، حديث أبي سعيد، يقول الله – تبارك وتعالى – عبدي مرضت فلم تعدني، الله يمرض ولا يُعاد، يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ أنا أقول لولا أن هذا الحديث ساقه رسول الله – وهو عظيم جداً جداً – لأنكر البعض هذا الكلام، الأُفق الذي يرسمه هذا الحديث ما نتحدَّث فيه وعنه اليوم هو بعضه، شيئ يسير جداً، خط هو من خطوطه، لون من ألوانه، كل حديثنا اليوم! لكن كيف نفهم النص الديني؟ هذه هي المُشكِلة، كيف نتعاطى معه؟ بأي عقلية؟ بأي خلفية؟ بأي عُمق؟ بأي مرونة؟ وبأي تجربة ذاتية حقيقية تتلمسه وتعيشه وتُحيله فناً وإبداعاً بعد ذلك فتُقرِّبه إلى العالمين؟ هذه هي المسألة! قال يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلاناً قد مرض؟ أما إنك لو عُدته لوجدتني عنده، طبعاً لن تجد الله كذات، أعوذ بالله، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩، ستجده كمعنى، لا إله إلا هو! ستجده كمعنى.

النُقطة الثالثة في خُطبة اليوم تتعلَّق بسؤال سينطرح من تلقائه الآن، في هذه المرحلة من مراحل العرض هذا السؤال سينطرح من تلقائه وبذاته، وإذا أردنا أن نُقارِب الله – تبارك وتعالى – وأن نعيشه وأن نعيش الإيمان به كمعنى فإلى أي معنى ننحاز؟ المعاني كثيرة، وصفات الله وأسماؤه الدالة على جماله وجلاله كثيرة جداً، غير محصورة، انتبهوا! هي غير محصورة، ولا يهولنكم  حديث إن لله تسعة وتسعين اسماً، هذا الحديث يقول مَن أحصاها دخل الجنة، لم يقل ليس لله إلا هذه الأسماء، لا! هو يُريد فقط أن يُخبِر عنها، قال هذه التسعة والتسعون مَن أحصاها دخل الجنة، الحديث لم يقل ليس لله إلا تسعة وتسعون، لم يقل هذا – انتبهوا – بإجماع العلماء، لا يفهم هذا الفهم الكسيح إلا العامي، الحديث لم يقل هذا، وإلا ففي كتاب الله لله أسماء لم تُذكَر في حديث الترمذي هذا، هي في كتاب الله وغير مذكورة في الحديث، مذكورة في كتاب الله ولا نُنكِرها، ولذلك في حديث أحمد والنسائي بإسناد حسن أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علَّمته أحداً من خلقك، في إشارة إلى أن بعض أولياء الله وبعض أهل الله – خواص أهل الله تبارك وتعالى – يطلعون لله على أسماء وصفات ما درى الناس بها، قال أو استأثرت به في علم الغيب عندك، لماذا يستأثر به؟ لأن اللُغة لا تُطيقه، لأن فهم البشر أو الفهم الإنساني لا يستطيعه، فلابد أن يكون مُستأثَّراً به، لا تستطيع، شيئ أكبر من الخيال والوهم والفهم، لا إله إلا هو!

ولذلك يستحيل أن يُقارَب كمعنى حتى مُقارَبة مُطلَقة، لا! ولذلك أنا سميتها المُقارَبة، نُحاوِل أن نُقارِبه، لكن هذه ليست مُقارَبة تامة ولا مُطلَقة ولا كاملة، وإن كمل بها الإنسان، لكنها في ذاتها ليست كاملة، كمالك أنت لا يعكس كمال الله، أنت تكمل بهذه المُقارَبة، ولا يعني ذلك أنها مُقارَبة في ذاتها تامة إذا تعلَّق الأمر بالله المُقارَب، لا إله إلا هو! ليست كذلك أبداً، هي في البداية، لكن تكفيك، لأن مُحيط الله يُمكِن أن يملأ فنجانك، أليس كذلك؟ فإذا امتلأ فنجانك لا يعني ذلك أن المُحيط قد كف، افهم هذا تماماً، هذا معنى قولتي الأخيرة، مُقارَبة تكمل بها، ولا يعني أنها كاملة في ذاتها، مُحيط الله يملأ فناجيننا، فإذا امتلأ فنجاني أو فنجانك لا يعني هذا أن المُحيط قد جف ونضب، لا! إنه لا يزال أمام المُحيط اللجب الصاخب الهدّار، هكذا!

سننحاز إلى ما انحاز إليه الكبار من أهل الأديان السماوية التوحيدية، وهو المحبة والرحمة، يقولون الله محبة، نحن كمُسلِمين نقول الله رحمة، وسننحاز إزاء هذين إلى الرحمة، لا إلى المحبة، أنا كمُسلِم سأنحاز إلى الرحمة، أولاً لأن المحبة من مُشتقات الرحمة، لأن المحبة من مشمولات الرحمة، المحبة واللُطف والرقة والليان والرأفة والحدب وحُسن التأتي، كل هذه من مشمولات الرحمة، من مُشتقات الرحمة، ومن ثمار الرحمة، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۩، الليان واللُطف والرقة والمحبة من رحمة الله، من مُشتقات الرحمة، قال فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۩.

ولذلك خصَّه وتوَّجه وعمَّم رأسه بقوله رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، قال بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ۩، اختصرت كل ما هنالك من مُميزاته صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ومن بين مائة وأربع عشرة سورة هي السور التي تُكوِّن كتاب ربنا تبارك وتعالى – لا تخلو إلا واحدة من أن تُبدأ بــ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، التوبة أو براءة، ثم كلها تُبدأ بهذا العنوان، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، لماذا؟ 

الفاتحة هي النُسخة الجامعة لهذا الكتاب، وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي ۩، وعطف عليها الكتاب، قال وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ۩، ولذلك هي الفاتحة، هي أم الكتاب، هي النُسخة الجامعة وأم الكتاب، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، رب العالمين مَن هو؟ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، كيف يا رب العالمين؟ برحمته ورحمانيته، لا إله إلا هو! برحمانيته ورحيميته، لا إله إلا هو، هكذا، لماذا؟ لأنه خلق العالمين من عين الرحمة، كل العالمين إنما انبثقت من عين رحمته، لا إله إلا هو! وهو ربها برحمته، قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ۩.

وشرحت قُبيل أسابيع هذا المعنى، وأود أن أُكرِّره لكي يرسخ، وبه يسقط أيضاً السؤال المكرور الذي أرى أنه لا حاجة لنا إلى بحثه، سؤال معنى استوائه على عرشه، يا رجل هو أخبر أنه استوى، اكتف وانته، لكن ابحث عن دلالة أُخرى وعن أُفق يرسمه النص، أي نص الاستواء، فهذا أعمق بكثير، وهو أليق وأنسب بجوهر الدين وبرسالة الدين في الحياة، وأنسب لأنسنة الإنسان، ما هو؟ قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ۩، في يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ۩، انتبهوا! لذلك استواؤه للتدبير، استوى على عرشه – وخص الموجودات بالعرش هذا – ليُدبِّر الأمر، فإذا قالت الآية الاُخرى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ۩ اشتققنا من هاتين أنه يُدبِّر خلقه وعالميه بماذا؟ بالرحمانية، لا إله إلا هو! هذا المعنى الصحيح، انتبهوا.

أمام وإزاء سعة هذا المعنى واندياحه وعظمته وإلهيته من جهة وإنسانيته من جهتنا يغدو المعنى الذي يُكرِّسه علماء الشرع والفقهاء والدُعاة اليوم – الدُعاة إلى الإسلام، بارك الله في الجميع – معنىً فقيراً جداً جداً جداً ومعنىً ضحلاً، إنه إحالة الدين والحرص على مسخ الدين أو حصر الدين أو تكثيف الدين وتركيزه في المعنى القانوني الشرعي، في الحلال والحرام وافعل ولا تفعل وإن فعلت فأنت في الجنة وإن لم تفعل فأنت في النار، ليس هذا! هذا الهامش، هذا العرض، ليس الجوهر، الجوهر شيئ أبعد من هذا، وأعمق من هذا بكثير، والدليل أن هذا هو الهامش لا المتن – المتن هو ما نحن بصدده، هذا هامش – أن المتن لم يتغيَّر، من آدم إلى محمد المتن واحد، أليس كذلك؟ لم يتغيَّر، وهو الدين، المتن يُسمى الدين، أما الهامش فيُسمى الشرع، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۩، عليك أن تكون مُتواضِعاً جداً، ولا تحسب أن لديك فُرصة أن تزدلف إلى الله وأن تقترب منه أحسن من فُرصة خليل الرحمن إبراهيم، لماذا؟ لأن شرعك يختلف عن شرعه، أنت ترى أن شرعك أكمل، إياك! هذا إبراهيم، إبراهيم وموسى طبعاً وعيسى ونوح وإدريس وغيرهم – كلهم – كانوا يُصلون إلى الله، يبتهلون، ويُحاوِلون أن يُقارِبوا الله تبارك وتعالى، لكن بصلاة مُختلِفة حتى عن صلاتنا، هل تحسب أنك تتقرَّب إلى الله بهذه الهيئة أكثر مما تقرَّبوا؟ انتبه! أنت الآن تُحيل الهامش إلى متن، وتلغي المتن أو تتغافل عنه، لا تُعطيه مثابة وحيثية المركزية والرئاسة، لذلك هذا الفهم خطير جداً جداً للدين.

ومن هنا القسوة التي نراها والجفاف في بعض مَن يدّعي أنه من علماء الدين، من فقهاء الدين، ومن الدُعاة إلى الدين، قسوة وغِلظة! نرى أحدهم وكأنه يقول لنا جئت أُبشِّركم بالعبوس، جئت أُبشِّركم بالحقد وبالكراهة، جئت أُبشِّركم بالقضاء والدينونة والحُكم على الناس وتصنيفهم، ما هذا؟ لا نُحِب هذا، لا نرتاح إليه، نُريد معنىً ربانياً، نُريد جوهر الدين، لكي نحيا، لكي نعيش كبشر، لكي نتأنسن، لكي نشعر بإنسانيتنا، لكي نشعر بهاته اللطافة الإلهية – وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ۩ -، ولكي نشعر بأننا فعلاً نُقارِب الله، كما أرادنا أن نُقارِبه، لا إله إلا هو.

هذه فائدة أيديولوجية، استطردنا فيها، هناك فائدة أُخرى روحانية مسلكية عجيبة جداً لهذه الطريقة في فهم الدين ومُقارَبة الله، لا إله إلا هو! رب العالمين، ما هي؟ إذا ظننا أننا نُقارِب الله كذات – لا إله إلا هو، إذا ظننا هذا، وهذا باطل ووهم زائل وحائل – فهل يُمكِن بالتالي أن نختبر إيماننا؟ لا نستطيع، لا تستطيع أن تختبر إيمانك، لو فعلت هذا ستقع في هُوة وفي ورطة الغرور، والظن أن إيمانك اكتمل وأنه على أحسن ما يُرام، وهذا مُنتهى المُراد من رب العباد، الحمد لله، لا يُختبَر هذا الإيمان! مُقارَبة الله كذات غير قابلة للاختبار، أليس كذلك؟ ستسقط في الدعوى، في الزعم، في الانتفاج والانتفاخ، وفي المزاعم العريضة، مُقارَبة الله كمعنى – وبالذات كرحمة، لا إله إلا هو، أن تُقارِب الله كرحمة، أن تعيش الإيمان بالله كرحمة – هل يُمكِن اختبارها؟ نعم، وفي كل لحظة، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ۩، قال فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ۩ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ۩، مُباشَرةً! فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۩، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۩، هذا هو! يُمكِن مُقارَبتها مُباشَرةً.

أحد الأولياء – من أولياء هذه الأمة، رحمة الله عليه – اعتزل يعبد الله وحده، وكما قلنا الذي يعتزل وينعزل من المُجتمَع وينفرد في شعب جبل أو في قنة جبل أو هضبة – انتبهوا – هذا لا يُقارِب الله إلا كذات، وقع في وهم كبير، وسيرى نفسه كحمار الرحى، انتهى إلى حيث ابتدأ، هذا هو طبعاً، ولذلك هذا العارف أو هذا السالك بالأحرى كان يُخادِع نفسه أربعين سنة، هو حدَّث عن نفسه بهذا، قال لأكتشف بعد أربعين سنة أنني كنت أُخادِع نفسي، كنت كذّاباً، هل تقول إنك كذّاب وأنت تعبد الله وحدك في جبل؟ قال نعم، قال بعد أربعين أتتني أمي، تُناديني لأُلبيها في مصلحها، في شيئ لها أو في شأن من شؤونها، قال فلبيتها على غضاضة في قلبي، تضايقت وقلت إنها جاءت تقطع علىّ عبادتي وانفرادي، فعلمت أنني مخدوع أربعين سنة، بخلاف الذي يُقارِب الله كمعنى، يستطيع أن يختبر إيمانه مع كل مَن يبسط يده إليه ويتكفَّفه ويستجديه، مع كل مَن يذرف أمامه دمعة انكسار وضعف، كيف يرحمها؟ كيف يتفاعل معها؟ كيف يُعايشها؟ أليس كذلك؟ مع كل مَن يستهديه ومَن يستجديه ومَن يسترحمه، مع القاسي الذي فقد أصول اللياقة وآداب المُعاملة، ولكن أنت تقف إزاءه بكل لُطفك، بكل حنانك، بكل إغضائك، وبكل كرمك الروحاني، مُحاوِلاً استنقاذه من الخشونة التي طبعت شخصيته، ومن الوعورة التي حطَّمت روحه وأفقدته لطافة الإنسانية، هنا تختبر إيمانك.

ولذلك قال – سُبحانه وتعالى من قائل – لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، لم يقل ليبلوكم أيكم أعظم إيماناً أبداً، قال لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۩، إذن هنا لابد أن يُفهَم ويُعاد فهم الإيمان بطريقة تجعله قابلاً للتجريب، قابلاً للاختبار، وقابلاً للابتلاء، هذا غير مُتأتٍ بالمرة إذا كان الإيمان مُقارَبة لله كذات، ومُتيسِّر تماماً لكل واحد منا إذا كان الإيمان مُقارَبة لله كمعنى، وكاتجاه، قال – عز من قائل – إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۩.

ولذلك يا أيها المُؤمِن ويا أختي المُؤمِنة – وأُخاطِب نفسي أولاً – سنمر بمراحل وبمحطات إذا انطلقنا من هذا المُنطلَق وفهمنا هذا الفهم وسنقتنص – إن شاء الله تعالى – كنوزاً وجواهر وددراً ليس بالوسع الآن التعاطي معها دون أن نمر في محطاتها وأن ننضج لكي نكون مُهيئن لشروط اختطافها، لن نكون الآن قادرين بالمرة على أن نعيها أو نتعاطى معها، هكذا يستحيل الإيمان إلى تجربة روحية حقيقية ذاتية شخصية، يعيشها كلٌ منا، ليس الإيمان مفهومات ولا أفكاراً تُلقَّن ويُخطَب بها ويُوعَظ وتُكتَب أبداً، إنما هو حالات تُعاش، حالة! والحالة تستدعي شروطها، الشروط تتوقَّف على ماذا؟ على مدى النُضج، على مدى المراحل التي قطعتها، على مدى الحصيلة التي تحصَّلت عليها بالمُعاناة الدائمة.

اليقين يغدو ابن الشك، الهداية تغدو بمعنى من المعاني بنت الضلال، ما معنى اليقين إن لم يكن عرض لصاحبه شك من قبل؟ ما معنى هذا؟ معنى هذا أنه ليس يقنياً، هذا لا شيئ، غير قابل للتوصيف، ولذلك قال – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – أنا أحق بالشك من إبراهيم، أو قال نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ۩، هذا يحتاج – إن شاء الله – معنى تجريب الإيمان وإعادة اختبار الإيمان بشكل مُستمِر إلى أن نلقى الله تبارك وتعالى.

نسأله بجلال إسمائه وعلو صفاته – سُبحانه وتعالى – وجليل وعوده أن يحفظ علينا إيماننا وأن يُثمِّره وأن يُنمِّيه وأن يُطوِّره، قال وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم ربنا وإلهنا ومولانا اجعل محبتك أحب الأشياء إلى قلوبنا، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقر عيوننا من عبادتك، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، ولا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا بذنوبنا مَن لا يخافك ولا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(7/8/2009)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: