إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ۩ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ۩ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الكريمات:

وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ ۩، فالقتال في سبيل هؤلاء في حقيقته هو قتال في سبيل الله، وليس في الأمر بداهة شائبة شرك أو شائبة تشريك.

القتال في سبيل هؤلاء، القتال في سبيل تحرير الوطن، والقتال في سبيل تزكية وتكريس واسترداد المُثل العُليا التي جاءت بها هذه الشريعة السمحة، هو في حقيقته قتال في سبيل الله، استناداً إلى هذه الكريمة وأمثالها من النصوص الإلهية والنبوية المُشرَّفة.

هذه الآية – أيها الإخوة والأخوات – ستُشكِّل مُدخَلاً إلى خُطبة اليوم، الأديان عامة مُتهَمة وتُتهَم بأنها تنحاز إلى جانب الأقوياء ضد الضعفاء، إلى جانب أصحاب السُلطة ضد الذين لا يمتلكون سُلطة، إلى جانب الحُكّام، إلى جانب الأغنياء، إلى جانب أصحاب سُلطة المعرفة، ولكن الإسلام جاء بدعاً من هذه الأديان المُحرَّفة، ومن هذه أو تلكم الأديان الأرضية المُبتدَعة الموضوعة، من أول يوم جاء هذا الإسلام العظيم ليُدمدم على أصناف ثلاثة من صنوف الناس.

جاء ليُدمدم ويُثرِّب على الفراعين، على أصحاب السُلطة العامة – إن جاز التعبير -، وموقفه من الفراعين معروف لنا جميعاً، وجاء ليُثرِّب ويُدمدم ويُشدِّد النكير أيضاً على القوارين، على الأغنياء المجدودين المُتموِّلين، الذين يرون أن غناهم محض هبة السماء، وأن العناية الإلهية قد اصطفتهم لمزايا تخصهم من بين سائر الناس، ولذلك فهم لا يُبالون الفقراء بالاً، ولا يأبهون بأوضاع الناس، ولا تستثيرهم أحزان الناس ومآسيهم ومشاكلهم وهمومهم، هذا هو منطقهم الخاص، وموقف القرآن من القوارين معروف، على غير الأديان – كما قلت – المُحرَّفة والأديان الموضوعة التي تزعم أنها أديان بمعنى أو بأخر، وجاء ثالثاً وأخيراً ليُدمدم على أحبار السوء ورُهبانها، على الذين يزعمون أنهم يتكلَّمون باسم الله ويتكلَّمون باسم النص ويتكلَّمون نيابةً عن أنبياء الله ورُسله، ويحتكرون تفسير النصوص، جاء القرآن ليُعريهم ويفضحهم مرةً وجُملةً واحدةً، فهل يُقال في دين كهذا لمَن أنصف ولم يسفه نفسه بجهل أو بغباء إنه دين ينحاز إلى الأقوياء على حساب الضعفاء، إنه دين يُشكِّل أفيوناً للشعوب، مُرقِّداً للشعوب، ومُفتِّراً للثائرين والمُصلِحين؟ هذه فرية بلا مرية كما يُقال، هي لُب الافتراء، عين البَهت، عين البَهت أو البُهتان.

نأتي إلى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، هذا النبي العظيم الذي جمع بين القول والفعل، قوله كان ينحاز إلى المُستضعَفين، كان ينحاز إلى الفقراء، إلى جماهير الناس، وكأنه كان – بأبي وأمي وروحي، عليه الصلاة وأفضل السلام – يعلم أن هذه الفئة ستكون دوماً وأبداً هي الفئة الأغلب، أي كماً، هي الأكثر عدداً، وإلى يوم الناس هذا، القلة المرذولة المنزورة هي قلة المُترَفين والمُتموِّلين، والكثرة المسحوقة الممحوقة هي كثرة الفقراء والمساكين المُعدِمين، النبي آثر أن ينحاز إلى هؤلاء وبأمر الله وأيضاً انسجاماً مع طبيعته وفطرته التي تُمثِّل الأنموذج للطبيعة الكاملة والتي تُمثِّل المثال للفطرة السليمة، التي لم تنحرف ولم تشبها شائبة من انحرافات الثقافة والمُجتمَع، إنها فطرة إلهية، إنها طبيعة ربانية، هي كما هي.

هو القائل – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم، وفي رواية إلا رعى الغنم، وهذا في الصحيحين، قال إلا راعي غنم، قالوا وأنت يا رسول الله؟ قال وأنا، كنت أرعى الغنم في مكة على قراريط، القراريط دُريهمات، أجزاء الدرهم وكسور الدراهم، أجزاء قليلة جداً جداً، قيل جُزء من أربعة وعشرين جُزءاً من الدرهم، أشياء محقورة جداً ومنزورة، قال على قراريط، إن ماضيه لم يشنه، إنه لا يشعر بالمعرة من ماضيه، لماذا؟ لأن ماضيه وحاضره ومُستقبَله كانوا كذلك، ما هو؟ إنه حاضر المساكين والفقراء، الضعفاء من الناس! كان واحداً منهم، كان يرى نفسه دوماً وأبداً واحداً منهم.

وقد قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجة – رحمة الله عليهما -، قال اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زُمرة المساكين يوم القيامة، يقول أنس فقالت عائشة – رضوان الله تعالى عليها – لِمَ يا رسول الله؟ لِمَ هذا الدعاء؟ لِمَ تُؤثِر أن تعيش مسكيناً فقيراً؟ المسكنة هنا بمعنى الفقر، ليست مسكنة النفس وذل النفس للناس أبداً، إنها مسكنة النفس وذل النفس لله – تبارك وتعالى -، والعزة بإزاء المُستكبِرين، كل صنوف المُستكبِرين! لِمَ يا رسول الله؟ قال إن المساكين يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين خريفاً، والخريف هو هذه الفترة المعروفة، الفصل السُنوي، ولكن يُكنى به في لُغة العرب عن عموم السنة، عن السنة كلها، أي بأربعين سنة، إن المساكين يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين خريفاً، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشق تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقرِّبيهم يُقرِّبك الله يوم القيامة، إسناد الترمذي ضعيف وإسناد ابن ماجة صحيح، إسناد الترمذي ضعيف، وهذا الحديث مشهور أنه ضعيف، عند الترمذي ضعيف، لكن من طريق ابن ماجة هو حديث صحيح بحمد الله.

ويُؤيِّد هذا المعنى – أعني سبق الفقراء والمساكين للأغنياء والمُترَفين المجدودين بأربعين خريفاً – ما في صحيح مُسلِم، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، قال كنت عند عبد الله بن عمرو بن العاص – رضوان الله تعالى عليهما -، فجاءه رجل، فقال له يا صاحب رسول الله أأعَد من فقراء المُهاجِرين؟ أأنا من فقراء المُهاجِرين؟ أي المذكورين في سورة الحشر والموعودين والموصوفين المنعوتين بما ذكر الله ثمة؟ فقال – رضوان الله تعالى عليه – ألك يا رجل أو يا عبد الله زوجة تأوي إليها؟ قال نعم، قال ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال فأنت من الأغنياء، قال وإن لي خادماً، أي مع ذلك، الرجل صريح وصادق، قال وإن لي خادماً، قال فأنت من الملوك، أنت لست غنياً، أنت من الملوك!

بعض الناس الآن يظن غير ذلك ويقول ليس لنا خدم، لا! لكم خدم كثيرون، الغسالة خادم، والثلاجة خادم، كل هذه التقنيات الحديثة بمثابة خادم، بل أعلى من خادم، ماذا تفعل المرأة اليوم؟ ماذا يفعل الرجل؟ ماذا يفعل الواحد منا في البيت؟ لا يكاد يفعل شيئاً، حياة مُترَفة معزوزة مسعودة لمَن رضيَ وقنع، هذا لمَن رضيَ وقنع، ومَن لم يقنع فكل ما في الدنيا لا يكفيه ولا يُسعِده ولا يُرضيه، نسأل الله القناعة والرضا، وأن يُحينا وإياكم والمُسلِمين والمُسلِمات حياةً طيبةً في الدارين، إنه المأمول في تحقيق ذلك، اللهم آمين.

قال فأنت من الملوك، قال أبو عبد الرحمن الحبلي ثم جاءه ثلاثة نفر وأنا عنده، فقالوا له يا عبد الله والله ليس عندنا شيئ، لا متاع ولا نفقة ولا زاد، قال ما شئتم؟ إن شئتم رجعتم إلينا – يعني نفسه – فزوَّدناكم بما قسم الله لكم، مواساة! المواساة من أحب الأمور إلى رسول الله ومن أحب الأمور إلي رب العزة، المواساة! مواساة الإخوان، مواساة الضعفاء، مواساة المُعدِمين، ومواساة الفقراء.

روى ابن سعد – رحمة الله عليه – في الطبقات الكُبرى عن الإمام الحُسين بن عليّ – عليهما السلام والرضوان والرحمة -، قال وكان أفضل الناس عنده – عليه الصلاة وأفضل السلام – أعمهم للخلق نُصحاً، قال أعمهم للخلق نُصحاً، أي كلما نصحت للناس، ليس التعيير والفضيحة والشماتة، إنما النُصح، النُصح الحقيقي، بدافع ماذا؟ بدافع ماذا وبحافز ماذا؟ بحافز استنقاذ الناس من غضب الله ومن نار الله، ترقية الناس، وتكميل الناس، ماذا قال ابن عباس في الحديث الذي ذكرناه مرةً في زمن بعيد حين شتمه رجل وسبه هكذا عدواناً وظلماً؟ قال له يا رجل إنك لتسبني وإن في لثلاث خصال أو لخصال ثلاثة، ما هي؟ قال إني لأمر على الآية من كتاب الله فأعلم فيها ما علَّمني الله، أتمنى أن المُسلِمين جميعاً يعلمون منها لا أعلم، الله أكبر! لا تُوجَد أنانية، لا يُحِب أن يستأثر بالعلم.

بعض الناس يستأثر بشيئ كثير من العلم، يُريد أن يتفرَّد به بين الناس، بعض الناس للأسف هكذا، وينتمون حتى إلى الإسلام، وبعضهم من الدُعاة، لكنهم قلة بحمد الله – تبارك وتعالى -، قرأنا عن واحد منهم، يغضب غضباً شديداً إذا نُشِرت له مقالة دون أن تُشفَع بالهمزة والدال (أ.د)، أي أستاذ دكتور، هي حتى مكتوبة باسمه وتُنسَب إليه، لكنه يغضب غضباً شديداً، لماذا؟ الأستاذ الدكتور، الله أكبر! كيف لو نُشِرت المقالة دون أن تُشفَع باسمك أصلاً؟ لربما حكم بردة الناشرين، أين الإخلاص؟ نسأل الله الإخلاص، فالإخلاص عزيز، والصدق والتوفيق.

ابن عباس يود أن كل الناس يعلمون في كتاب الله ما يعلمه هو، محبة في المُسلِمين، مواساة حقيقية معنوية هنا، قال وإني لأسمع بالأرض تُمطَر، قال فأفرح فرحاً شديداً وليس لي فيها سائمة، ليس لي فيها سائمة! أي ماشية ترعى فيها، ولكن أفرح لأن الله مطر أرض المُسلِمين، فربما نعشهم من جدب، نعشهم من فقر وحاجة، فأفرح، يفرح للخير، ينزل بأرض المُسلِمين، وأسمع بالرجل يتقاضى إليه الأخصام، فأدعو له أن يُوفِّقه الله – تبارك وتعالى -، حتى لا يحيف وحتى لا يشتط في الحُكم، قال ولعلني لا أُقاضي إليه أبداً، لا أحتاجه، ولكن أدعو له، لكي يكون قاضياً عدلاً بين المُسلِمين، الله أكبر!

حين نُفكِّر – والله حين نُفكِّر فقط – في هذا الأثر سنرى بعُمق مقدار ما بيننا وبين أصحاب رسول الله، سنرى أننا على الحق وعلى الحقيقة معطوبون، نحن معطوبون تربوياً، كأننا لم نعرف الإسلام، كأننا لا نستطيع أن نتشرَّب هذا الإسلام، أين؟ أين ما نحن فيه من أنانية؟ أين ما نحن فيه من أنانية، من إيثار النفس، من محبة الذات، من لف حول مآربنا، من لف حول مآربنا وأوطارنا الخسيسة الدنية؟ لا يكاد أحدنا يشعر بهم الأمة ولا بهموم الناس ولا بهموم المُسلِمين في أسقاع الأرض، ثم يزعم أنه مُسلِم، وقد قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرج الإمام الطبراني مَن أصبح وأمسى – أي ولو ليوم واحد – ولم يهتم بأمر المُسلِمين فليس منهم، يوم واحد فقط! مَن أصبح وأمسى ولم يهتم بأمر المُسلِمين فليس منهم.

المُهِم قال عبد الله بن عمرو – رضوان الله تعالى عليهما -، ما شئتم؟ إن شئتم رجعتم إلينا فزوَّدناكم بما قسم الله – تبارك وتعالى – لكم، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسُلطان، الله أكبر! أُناس أغراب أو أغارب، لا يعرفهم، لا يُوجَد سبب ولا واسطة بينهم وبينه، ومع ذلك قصدوه في حاجة، أرادوه في حاجة، انتخوه لحاجة، وهو يجد من نفسه القدرة أن يذهب إلى السُلطان، أي الخليفة أو الأمير – أمير البلدة – في هذا الأمر، قال وإن شئتم ذكرنا أمركم للسُلطان، وإن شئتم صبرتم، فإني سمعتم رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام، وهذا الحديث في صحيح مُسلِم، إذن هذا الجُزء صحيح، بعض الناس يُحاوِل أن يطعن فيه، أعني موضوع سبق الفقراء للأغنياء، وهو ثابت في الصحيح الصحيح، غير الأحاديث الأُخرى أيضاً – يقول يسبق فقراء المُسلِمين أغنياءهم إلى الجنة بأربعين خريفاً، قالوا لا نُريد شيئاً، ولا نسأل شيئاً، ونصبر، إذن نختار الصبر، نبقى على ما نحن فيه، ليس على ذل، وإنما – كما قلت لكم – على عزة.

بعض الناس يقول أمثال هذه النصوص هي التي تُخدِّر الشعوب، أمثال هذه النصوص هي أفيون الشعوب، لا يُقال لأمثال هؤلاء لعا، نسأل الله أن يهديهم، بالعكس! هذه النصوص لا تقف وحيدةً فذةً، تقف مشفوعةً بطائفة أُخرى من النصوص، تُدمدم وتُثرِّب وتنحى باللائمة جداً على مَن؟ على المُترَفين، على الواجدين، وعلى أصحاب الأموال البخُلاء الكزّازين، وتُبرِق وتُرعِد وتتوعَّدهم في الدنيا والآخرة بغضب الله وسريع نقمته، ثم هي تحط من مكانتهم، على غير عادتنا نحن المُسلِمين، لعلنا من أكثر شعوب الأرض – لعلنا، ونسأل الله ألا نكون كذلك – تأثراً بالمظاهر، تأثراً بالمظاهر وبالهيئات وبالألقاب وبالأموال وبغنى الناس، نتطامن ونتخافض ونستذل ونتمسكن لكل صاحب سُلطة، لكل صاحب قوة، لكل ذي ثروة، وهذا ليس من دين الله، ولا من سُنة رسول الله، الذي قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن تضعضع لغني – مَن تضعضع لغني، رجاء ماذا؟ رجاء غناه، أن يرضخ له شيئاً، أن يُعطيه شيئاً – ذهب ثُلثا دينه، ثُلثا الدين، سبعون في المائة من الإسلام! ما هو؟ أن تعتز بالإسلام وحده، أن ترجو الله وحده، وما آتاك هكذا عفواً من غير مسألة كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فطب به نفساً، هنيئاً مريئاً، لكن لا تستشرف إلى ما عند الناس، لا تطلب ما عند الناس، ولا تذل للناس لما عند الناس، كله فانٍ، كله ذاهب، الملك يموت، والغني يموت، والفقير يموت، ويُلحَدون في لحد واحد، وبعد ذلك يتفاضلون كما كانوا في الدنيا عند الله مُتفاضِلين، بماذا؟ بالتقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩، لا بمال ولا بجاه ولا بعلم حتى لا يدفع إلى عمل، إنما هو استكثار من حُجج الله على العبد – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، حتى العلم! بئس العلم إذا لم يدفع إلى عمل وإلى تحسين السلوك والهيئة والسمت، بئس هذا العلم، هكذا!

قالوا لا نُريد شيئاً، ولا نسأل شيئاً، ونصبر، أرادوا الصبر، رحمة الله تعالى على هذه الأرواح الماجدة، هكذا! النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عاش مسكيناً، لم يدع فقط، بل عاش فعلاً وحقاً مسكيناً، حقيقةً وتحققاً عاش مسكيناً، عاش فقيراً، وهو يستطيع أن يكون أغنى أغنياء أهل الأرض، لا بما مُلِّك ومُكِّن من مفاتح خزائن الأرض – كما في الحديث الصحيح، حديث جبريل، ورفض ذلك تواضعاً لله -، بل بما كان يأتيه من الأسلاب والأفياء، جبل من ذهب وفضة آتاه مرة من البحرين، جبل كبير جداً! وهذا في صحيح مُسلِم، فظل يقول هكذا وهكذا وهكذا، حتى لم يبق منه شيئ، ولم يأخذ لنفسه شيئاً – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

دخل مسروق بن عبد الرحمن على عائشة – رضوان الله تعالى عليهما -، مسروق الذي كان يُكنى بأبي عائشة، لأنه تلمذ لعائشة – رضوان الله تعالى عليهما -، تلمذ لها وتخرج بها، وكانت تأذن له، وهو من الكوفة، مسروق بن الأجدع، هو أبو عائشة، دخل مسروق على عائشة – رضوان الله تعالى عليهما -، فدعت له بطعام، ثم قالت يا بُني والله ما أكلت فشبعت وشئت أن أبكي إلا بكيت، كان يحدث هذا معها أغلبياً، غالباً! كلما أكلت واستشعرت الشبع تبكي إذا أرادت أن تبكي، تبكي! فقال ولِمَ يا أم المُؤمِنين؟ قالت للحال التي أذكرها وعليها خرج رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – من هذه الدنيا، ما شبع من خُبز ولحم في يوم مرتين، وهذا الحديث أيضاً إسناده صحيح، وهناك جُملة روايات في البخاري ومُسلِم، أسوقها هكذا من غير إسناد، بسرعة!

تقول – رضوان الله تعالى عليها – ما شبع آل محمد – لا محمد، عليه الصلاة وأفضل السلام، ولا إله، أي أهله – من خُبز بُر ثلاثاً، حتى مضى لسبيله، حتى مضى – عليه الصلاة وأفضل السلام – لسبيله، أي حتى قضى، حتى استأثرته أو استأثرت به رحمة الله، حتى مضى لسبيله، وتقوم في حديث آخر أو في رواية أُخرى ما شبع آل محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – من خُبز شعير يومين مُتتابِعين، حتى قضى رسول الله، أي تُوفي، حتى الشعير! رضوان الله تعالى عليها.

ولذلك في الصحيحين تقول لقد تُوفيَ رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – وما في بيتي شيئ يأكله ذو كبد رطبة إلا رف شعير – أي شطر شعير، جُزء من شعير، إلا شطر شعير – كان عندي، فكنت آكل منه، حتى طال علىّ، يبدو أنها أكلت منه أياماً مُتطاوِلة وأسابيع عديدة، حتى طال علىّ، هو رف شعير، أي جُزء بسيط، ولكنه لم ينته، وهذا في الصحيحين، هذه كرامة لأم المُؤمِنين ومُعجِزة لسيد المُرسَلين – عليه الصلاة وأفضل السلام -، قالت حتى طال علىّ، فكلته ففني، كالته! في رواية النسائي وقد أخرج هذا الحديث أيضاً أنها دعت بخادمها، وقالت لها – أي للخادمة، قالت للخادمة – كليه، قالت فكالته، فلما كلناه فنيَ، ولو لم نكله لأكلنا منه إلى ما شاء الله، كرامة! هذه كرامة، هذه البركة، رف شعير، الله أعلم كم أكلت منه، قالت طال على، أأكلت منه أسابيع أو شهوراً؟ لا ندري، لكن مُدة مديدة، بعد أن كالت ذهبت البركة، ارتفع وفنيَ، رضوان الله تعالى عليها.

لكن العبرة أين؟ العبرة أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُتوفى وليس عند الصدّيقة بنت الصدّيق – زوجه وأحب نسائه إليه الأحياء – إلا رف شعير، لم يترك لهن شيئاً، هذا الرسول! وبعضنا في أرقام حساباته مئات الآلاف، وربما الملايين، وينام دوماً ويقوم وهو مُتقلِّق وجل مُشفِق، لماذا؟ لأنه لم يُحصِّل الرقم الذي يُريده لكي يُؤمِّن معاش أولاده من بعده، يا قصير اليقين! هذا من قصر اليقين بالله – تبارك وتعالى -، هذا مسكين، وربما منع حقوق الله، حقوق الضعفاء، وحقوق المساكين، بعض المُسلِمين يُصلون ولا يُؤدون الزكاة، الزكاة لا يُؤدونها – والعياذ بالله -، فقريب أن يلتحقوا بالمُرتدين، بالمُتشكِّكين في هذا الدين، هذه ردة، نوع من الردة – والعياذ بالله -، أتستحل ذلك؟ أم ماذا؟ أم تُريد أن تُوفِّر لأهلك؟ فبئس ما وفَّرت، وبئس ما ادخرت، وسيدفعون ثمن ذلكم باهظاً في الدنيا قبل الآخرة، هكذا!

تقول – رضوان الله تعالى عليها – وما أكل رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في يوم مرتين – أي في يوم واحد مرتين ثنتين – إلا كان في إحداهما – أي في إحدى الأكلتين – التمر، مُستحيل أن يأكل لحماً وما إلى ذلك، لابد أن تكون إحدى الأكلتين تمراً، والتمر كان كثيراً ورخيصاً جداً.

في الصحيحين تقول لابن أُختها عُروة بن الزُبير – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -، تقول يا ابن أُختي إن كنا لنرقب أو ننظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، هذا هو طبعاً، ثلاثة أهلة تُساوي ماذا؟ شهرين طبعاً، هلال الشهر الثالث، الهلال وليس البدر، الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يُوقَد في أبيات رسول الله – ليس في بيتها فقط، في أبيات أمهات المُؤمِنين، عليهن الرضوان والرحمات أجمعين – نار، لا يُوجَد طبيخ، لا يُوجَد لا طبخ ولا نفخ، لا يُوجَد طبخ! فقال عُروة – رضوان الله تعالى عليه – فما كان يُعيشكم يا خالة؟ كيف كنتم تعيشون؟ قالت إنما هما الأسودان، التمر والماء، طبعاً التمر أسود، وخاصة تمر المدينة، هو أسود، شديد السواد، من باب التغليب سُميا بالأسودين، كقولنا هذان القمران، ونعني الشمس والقمر، هذا اسمه التغليب، لأن الماء ليس أسود، قالت إنما هما الأسودان، التمر والماء، هكذا بيت رسول الله! 

لقد عاش مسكيناً حقاً – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهو الذي دعا ربه بذلك، لم يقله هكذا، وإنما عاشه حقيقةً، وكان قدوةً وأُسوةً لهذه الأمة المرحومة – عليه الصلاة وأفضل السلام -، عاش حياته كلها مُنتصِراً للضعفاء والمساكين، عاش حياته كلها مُنتصِراً للضعفاء والمساكين! حتى أنه قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الصحيح الذي خرَّجاه – أعني البخاري ومُسلِماً – من رواية أُسامة بن زيد – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وقفت بباب الجنة، فإذا أكثر مَن دخلها الفقراء والمساكين، في الصحيحين هذا، أكثر الذين يدخلون الجنة الفقراء والمساكين، قال وأصحاب الجد – أي الحظ والسعادة، الأغنياء المُترَفون الواجدون، ولذلك نقول فلان واجد أو مجدود، من الجد، محظوظ وسعيد – محصورون، ولكن أُمِر بأهل النار إلى النار، أي يقول أصحاب الجد من المُسلِمين حالهم أفضل من حال أهل النار، ومع ذلك هم محصورون، لم يدخلوا الجنة، إذن في الصحيح دخلها الفقراء والمساكين قبلهم بأربعين خريفاً، في رواية أُخرى ليست في الصحيح بخمسمائة عام، بخمسمائة سنة، بنصف يوم كما قال النبي، قال وذلكم خمسمائة عام، بنصف يوم! وهنا في هذه الراوية بأربعين خريفاً، وهناك ما يُجمَع به بين هاتين الروايتين، لكن لا نُطوِّل بذكره.

وأيضاً في الصحيحين يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – اطلعت على أهل الجنة، فإذا أكثر أهلها الضعفاء والفقراء، أو قال والمساكين، قال واطلعت على النار، فإذا أكثر أهلها النساء، فليتقين الله، هنا لا ينبغي لنا أن نتمعقل وأن نُقدِّم بين يدي رسول الله، حديث صحيح، على الرأس ونعمة عين، لا نتفلسف، لا نتمعقل، لا نُطوِّل لا النظر ولا اللسان، قال أكثر أهلها النساء، إذن نُسلِّم بأن أكثر أهلها النساء، لا يعني ذلك أن الرجال لا يدخلون النار، النار فيها رجال كثيرون، لكن النساء أكثر منهم، ومَن تأمَّل للأسف في أحوال النساء وما يفعلن وما يأتمرن به علم صحة مقالته – عليه الصلاة وأفضل السلام -، لكن هنا – كما يُقال دائماً في العلم – لا يعني هذا أن هذا الحُكم ينطبق على كل امرأة ولا على كل رجل، فمَن شاء أن يكون من أهل الجنة فليمهد وليجهد وليجتهد لنفسه، من النساء أو الرجال، وليتق الله، لا تفاضل عند الله ولا نجاة ولا فوز إلا بالعمل، إلا بتقوى الله ظاهراً وباطناً، سراً وعلانيةً، نسأل الله أن يُصلِح سريرتنا وأن يُصلِح أيضاً علانيتنا، اللهم آمين.

إذن هكذا كان الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام -، والعجيب أنه كان يفخر بذلك، يرى الفقر مفخرةً له، لا ندري لماذا، ربما لأنه يراه أفرغ لقلبه وأهنأ لنفسه وأرضى لحاله – عليه الصلاة وأفضل السلام-، أرضى لحاله! طبعاً هذه ليست دعوة إلى الفقر والتفقر، فنعم المالُ الصالحُ للرجلِ الصالحِ، لكن أين المال الصالح؟ أولاً، وأين الرجال الصالح؟ ثانياً، للأسف أكثر الأغنياء لا يغتنون من وجوه الحلال، إنما يغتنون من وجوه الحرام – والعياذ بالله -، لأن حُب المال – وبالذات حُب المال – كالماء المالح – والعياذ بالله -، لا يُشبَع منه ولا يروي، فيستكثر من حلال ومن حرام ومن شُبهات، بكل الوسائل! ثم يُخليه من قريب لورثته، عليه الحساب والعذاب – والعياذ بالله -، وهم يتمتعون به راضين هانئين، فنسأل الله أن يُنوِّر بصائرنا وأن يفتح أبصارنا، لكن إن كان من وجوه الحلال وفي وجوه الحلال فنعم المال – والله -، تسبق به – إن شاء الله – إلى الدرجات العُلى في النعيم المُقيم.

لما حوصِر الشهيد عثمان بن عفان – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أشرف على هؤلاء الحاصرين الخوارج – أنا أُسميهم أول خوارج في الإسلام، أي الذين قتلوا سيدنا عثمان، هؤلاء أول خوارج، خرجوا على إمام الزمان وإمام الحق -، أشرف عليهم من قصر وقال أنشد بالله – أي أسأل بالله – مَن سمع أو قال مَن شهد رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوم حراء – أي يوم وقف على الجبل الذي فيه حراء – إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال اسكن حراء، فإنه ليس عليك – يعني الجبل – إلا نبي أو صديق أو شهيد، وأنا معه، أنا كنت مع النبي، فلست نبياً، فإن لم أكن صدّيقاً – هذا معنى الكلام – فأنا شهيد، مَن قتلني سيبوء بإثمي، سيبوء بدمي، لأنني شهيد، أنشد – قال – بالله، فانتشد له رجال، شهدوا له، قالوا نعم، سمعنا هذا، ليس رجلاً أو رجلين وإنما هؤلاء رجال، فالحديث مُتواتِر، رضيَ الله تعالى عليه.

انظروا الآن، دقِّقوا وارعوني سمعكم، انظروا بما يفتخر ذو النورين – رضوان الله تعالى عليه -، وهذا هو المجد، هذا هو المجد، هذا هو الفخر، بالعمل للإسلام، بمُعايشة هموم الأمة وهموم الجماعة المُسلِمة، هذا هو! لا أن تعيش لنفسك وأن تموت لنفسك، فبئس العيش، وبئست الميتة، فانتشد له رجال، ثم قال أنشد بالله مَن رأى رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوم البيعة – يوم بيعة الرضوان، تَحْتَ الشَّجَرَةِ ۩، السمرة – وقد قال بيده هذه يدي وقال بالأُخرى وهذه يد عثمان، وقد أرسلني إلى المُشرِكين بمكة، تعلمون القصة، وهي في السيرة، ثم بايع، صفق بيده على يده، عن عثمان! النبي يُبايع عن عثمان بيعة صدق مُتقبَّلة، ليس المُهِم العمل، المُهِم أن يُتقبَّل، انتبهوا! هذا حتى في البيعة وحتى في الجهاد، ليس هذا المُهِم، الأهم منه أن يُتقبَّل هذا العمل، المُهِم أن تتقبَّل هذه البيعة، هذا الجهاد، هذا العطاء، وهذه النفقة، هذا المُهِم! فبلا شك هي بيعة مُتقبَّلة، الرسول صفق بيده على يده، وقال وهذه عن عثمان، فانتشد له رجال.

ثم قال أنشد بالله مَن سمع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول مَن يُوسِّع لنا بهذا البيت المسجد بييت في الجنة، كان يُوجَد بيت إلى جوار المسجد، وقد ضاق عنهم المسجد، فالنبي قال مَن يشتري هذا البيت – هذا بمعنى الكلام – ويجعله في توسعة المسجد وأضمن له بيتاً في الجنة؟ إذن ما معنى الكلام؟ أنه من أهل الجنة، مُبشَّر! وهو من العشرة بلا شك، وهو صهر رسول الله، أصهر إليه في ثنتين من بناته، فقال فاشتريت البيت، أنا اشتريت – يقول عثمان – البيت، وجعلته في توسعة المسجد، فانتشد له رجال، رضوان الله تعالى عليه.

ثم قال أنشد بالله مَن سمع رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوم تجييش جيش العُسرة – مؤتة – وقد رقيَ المنبر وحث الناس على النفقة، فقلت يا رسول الله علىّ مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها، هي في الله ورسوله، ثم حث الناس، فقلت وعلىّ مائة أُخرى يا رسول، مائة من الإبل! مئات الآلاف من الدنانير هذه، أموال طائلة جداً، قال وعلىّ مائة أُخرى يا رسول الله بأحلاسها وأقتابها، لله ولرسوله، قال ثم نزل درجةً – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فقال وحث الناس، فقلت وعلىّ مائة أُخرى يا رسول الله، ثالثة! لله ولرسوله، يقول الراوي عبد الرحمن بن خبّاب السُلمي، يقول عبد الرحمن بن خبّاب فرأيت النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال بيده هكذا، ما على ابن عفان ما فعل بعدها، كأنه يقول ربما تكون منه هنات، لكن لا بأس، لن تضره عند الله بعد هذا الذي فعل، ما على ابن عفان ما فعل بعدها، ليفعل ما شاء، مغفور له إن شاء الله، فانتشد له رجال، قالوا نعم، سمعنا هذا ورأيناه، فانتشد له رجال.

الخامسة والأخيرة ثم قال ذو النورين – رضوان الله تعالى عليه – أنشد بالله مَن رأى بئر رومة يُباع ماؤها ابن السبيل، بئر رومة بئر عذبة الماء، كان يُستعذَب ماؤها، ولكن كانت ليهودي، وكان ماؤها يُباع حتى للسابلة، أي لأبناء السبيل، يُباع لهم، لا يُعطون هكذا سماحة، لا يُعطون منها سماحة، يُباع ماؤها ابن السبيل، قال فاشتريتها وأبحتها أبناء السبيل، مُباحة لأبناء السبيل، فانتشد له رجال، الله أكبر، هذا هو المجد.

تِلْكَ الْمَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ                              شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالاَ.

هذا هو المجد الحقيقي، أن تعيش بمالك، أن تعيش بسُلطانك، أن تعيش بعلمك، بفكرك، بكيانك، بولدك، بذريتك، بكل ما أولاك الله، وبكل ما أعطاك الله للإسلام، والله حين تأتيك ساعتك وحين تضع رأسك هكذا على وسادة الموت ستقول مثلما قال المُعلِّم الكبير مُعاذ بن جبل – رباني هذه الأمة كما قال ابن مسعود، قال رباني، كان رباني هذه الأمة، رضوان الله تعالى عليه – لا أفلح اليوم مَن ندم، الله أكبر! هل لك أن تقول هذه الكلمة إذا مت؟ هل لك أن تقول لا أفلح اليوم مَن ندم؟ لا ندامة – إن شاء الله -، لماذا أندم وقد قضيت عمري كله في سبيل الله وفي ذات الله وفي مصلحة هذا الإسلام العزيز العظيم على قلوبنا وأرواحنا؟ هكذا ينبغي أن نعيش!

عاش محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – مسكيناً، وتُوفي مسكيناً، في الصحيحين تُوفيَ – عليه الصلاة وأفضل السلام – ودرعه – درع رسول الله التي حارب بها وشهد بها المشاهد – مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، في الصحيحين – في البخاري ومُسلِم – هذا، وعند النسائي رهنها عند اليهودي بشعير، لماذا؟ اشتراه لأهله، لكي يُطعِمه أهله، ليس البُر- القمح – وإنما الشعير، لا يجد ما يُطعِمهم إلا الشعير، أي أزواجه – رضوان الله تعالى عليهن -، وهكذا كان أصحابه من بعده.

نضرب فقط مثلين لهؤلاء الذين سفهوا أنفسهم بجهل للأسف، بعض الناس يأبى أن يتحدَّث عن الإسلام إلا وكأن الإسلام مذهب من مذاهب البشر، لا يرى هذه العظمة الماجدة في كل هذه الأمثلة، وهناك آلاف وآلاف وآلاف غيرها وسواها، أبداً! لا يُوجَد مذهب بشري ولا ديانة حتى مُحرَّفة فعلت مثلما فعل هذا الإسلام، أخرجت فعلاً مثل هذه النماذج، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، أخرجت خَيْرَ أُمَّةٍ ۩ بنص كتاب الله.

عمر – رضوان الله تعالى عليه – رباني هذه الأمة أيضاً، المُلهَم والمُحدَّث – قدَّس الله سره الكريم -، وتعرفون عام الرمادة، حين أجدبت الأرض ومنعت السماء خيرها ومطرها وعاش الناس عاماً شديداً، أسود كما يُقال، فسُميَ بعام الرمادة، كان يُؤتى إليه في وجبته بماذا؟ بالخُبز، يُكسِّره بيده، ويصب عليه الزيت، الزيت الأسود! حتى اسود جلده ووجهه، وأثَّر ذلك فيه، نُحِر ذات يوم جزور، قعود صغير، نُحِر جزور فاستوصفوا له شيئاً، أي استوصوا به – بسيدنا عمر، أمير المُؤمِنين، وقائد هذه الأمة – فماذا فعل؟ كان يقف هكذا حين يخطب، لسنا مثله، يقول أنس رأيته قائماً يخطب وبين كتفيه ثلاث رقاع، لبَّد بعضها على بعض، بمُرقَّعة! عمر يلبس المُرقَّعة، واليوم الأمة ترى أموالها التي تُغتال، مئات الملايير، يغتالها الخونة والأنذال والأوباش، وترى أن هذا ذنب صغير، صغيرة من الصغائر، لا بأس، ولا علينا، علينا ألا نتكلَّم في هذه الشؤون، وتصف هذا الزعيم وهذا بالقائد وهذا بالزعيم الخالد وهذا بالرئيس الحكيم، تصف أمثال هؤلاء الخونة السرّاق اللصوص، تعيش أمتهم على المزابل، ويعيشون هم وأبناؤهم في السماك الأعلى من دمائنا ودماء أمثالنا، والأمة في جهدها، لأنها لم تفهم دينها، لم تفهم معنى أن تكون أمة مُحمَّدية، تتبع هذا النبي وتفتخر بأصحابه وبخلفائها الراشدين، لم تفهم هذا، تقوله ولا تفهمه، ولذلك تضحك على نفسها، ويضحك عليها بعض مشايخها – أعني مشايخ السوء، المشايخ الرسميين، أو مشايخ الرسميات، والعياذ بالله -، شيئ عجيب!

لبَّد – لبَّد بعضها فوق بعض – ثلاث رقاع، وهو أمير المُؤمِنين، أوتي بشيئ، فإذا قدر فيها شيئ من سنام – أي سنام الجزور – وشيئ من كبد، فقال أنى؟ أي من أين هذا؟ فقال أنى؟ فقالوا من الجزور التي نُحِرت اليوم، أي الغداة، فقال بئس الوالي أنا إن أكلت أطيبها وأطعمت المُسلِمين الكراديس – العظام -، خذوه، ارفعوه، ائتوني بطعام غيره، فأوتي بجفنته، وبالخُبز الجاف، فجعل يُكسِّر ويصب الزيت، رضوان الله تعالى عليه، هذا هو عمر، هذا هو المثال الذي يجب أن يُحتذى، هكذا!

وحتى المُسلِمون إذا أرادوا أن يعدوا الناس بحكومة إسلامية وبشريعة إسلامية فعليهم إذا بلغوا هذه الدرجة أن يتخذوا من هؤلاء أمثلةً وقُدىً لهم وأُسىً لهم، نعم إذا عشت واحداً – كما فعل عمر بن عبد العزيز – من الناس فالبس ما شئت وكُل ما شئت واستعطر ما شئت، لكن إذا صرت أميراً أو إماماً فينبغي أن تكون كهؤلاء الراشدين، لكي تُفهِم الناس أننا لم نرق على ظهوركم فقط لنصل السُلطة، وإنما وصلنا السُلطة لكي نخدمكم، لكي نكون خدّاماً لكم بين أيديكم، كما فعل الراشدون، وبذلك سيشعر الناس بصدقية الخطاب الإسلامي وصدقية الإسلام وصدقية القرآن وصدقية التاريخ وصدقية السُنة المُحمَّدية، لا أن نفعل العكس كما يفعل غيرنا.

عليّ بن أبي طالب – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – رابع هؤلاء الراشدين، يأتيه ابن النبّاح – مُؤذِّنه وأمينه على بيت المال -، يقول يا أبا الحسن، يا أمير المُؤمِنين، لقد امتلأ بيت المال وفاض بصفراء وبيضاء، يعني ذهباً وفضةً، قال الله أكبر، قال الله أكبر لأنه استشعر حمد الله ومنّة الله على الأمة، خير كثير في الكوفة، قال الله أكبر، ثم قام يتوكأ على ابن النبّاح، حتى أتى بيت المال وقال:

هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ                                           وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ.

أي يقول كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، هكذا يُلقِّن نفسه.

هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ                                           وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ.

ثم قال يا ابن النبّاح علىّ بأشياخ الكوفة، برؤوس الناس، فنُوديَ في الناس، فجاء الناس، فجعل يقول هكذا وهكذا وهكذا، حتى لم يبق فيه شيئ، ولم يُؤثِر نفسه بقطعة واحدة، ثم قال يا صفراء ويا بيضاء، إلىّ؟ تُريدين أن تغريني؟ ها، ها، ثم أمر به فنُضِح وصلى فيه ركعتين، الله أكبر، الله أكبر! هاتان الركعتان خيرٌ من صلاة أمثالنا مئات السنين، أي والله، نضحه ثم صلى فيه، لكي يشهد له، أنه أعطى الأمة مالها وحقها، ولم يُؤثِر نفسه وولده وأهله بقطعة، ولا جرم، فهو أبو الحسن – عليه السلام -، الذي كان يقول يا دنيا ألي تعرَّضتِ؟ أم إلىّ تشوَّفتِ؟ غُري غيري، قد بتتكِ ثلاثاً، لا رجعة لي فيكِ، أي طلَّقنا هذه الدنيا، رضوان الله تعالى عليه.

أحدهم يزور صاحب رسول الله، وهو أصغر مَن شهد بيعة الرضوان، أعني فضالة بن عُبيد، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، فضالة معروف، أصغر مَن شهد بيعة الحُديبية، الرضوان! يزوره في مصر وكان أميراً، فماذا حصل لما بلغه الصاحب؟ انظروا إلى الزائر والمزور، الله أكبر على هذه الأمة، الله أكبر، ما أعظم هذه الأمة! كيف كانت؟! وكيف صارت؟! زاره وهو أمير، حتى إذا فتح له قال له لم ائتك زائراً، ليس للزيارة وكرامة الضيف، قال فلِمَ أتيت؟ كلاهما صاحبان جليلان، قال أتيتك يا أخي لأني سمعت أنا وأنت حديثاً من رسول الله يوماً، ونسيت بعضه، فلعل عندك بعض من علمه، قال ما هو؟ قال كذا وكذا، ثم أقبل الزائر على المزور، وهو أمير، علماً بأن هذا في الصحيح، في رواية الإمام النسائي وجده شعث الرأس مُشعاناً، المُشعان هو أيضاً ثائر الرأس، لم يُرجِّل شعره، لم يُسرِّح شعره، وجده شعث الرأس مُشعاناً، قال ما لي أراك مُشعاناً وأنت أمير الأرض – يعني أمير مصر -؟ فقال – هذا أمير ورئيس دولة، هذا رئيس – قد نهانا رسول الله عن كثير الإرفاه، أي الرف و والرفاه، الترفه! قال قد نهانا رسول الله عن كثير الإرفاه، في رواية النسائي قال وما الإرفاه؟ قال الترجيل كل يوم، أن تُرجِّل شعرك كل يوم، كيف يا مولانا، يا رسول الله، لو رأيت الشباب الذين يُرجِّلون شعرهم في اليوم عشر مرات كالبنات المُتأنِقات للخِطبة أو للزواج؟ عار علينا، ضعف في الشخصية، ضعف في الرجولة، النبي من باب الاخشوشان كان ينهاهم عن كثير الإرفاه، لا تُرجِّل شعرك كل يوم، لا تُرجِّل كل يوم! ثم نظر، قال وما لي أراك لا تلبس نعلاً أو حذاءً؟ قال قد كان – عليه الصلاة وأفضل السلام – يأمرنا أحياناً أن نحتفي، وأنا آخذ بهذا، أنا كنت إنساناً عادياً، وأنا اليوم رئيس، رئيس دولة، أمير! آخذ بنصيحة رسول الله، لا أُسرِّح شعري كل يوم، وأمشي أحياناً حافياً، الله أكبر!

صلى الله على مُعلِّم الناس الخير، نشهد بالله الذي لا إله إلا هو إنه لنبي نبي نبي، وإنه لخاتم الأنبياء والمُرسَلين، والله لو لم يكن نبياً ولو لم يكن رسول صدق وحق لما أفلح في أن يُخرِّج أمثال هؤلاء، هؤلاء لم ير التاريخ ولم يسمع بأمثالهم – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -، أسأل الله، مولاي الكريم، رب العرش العظيم، أن يُلحِقنا بهم، وأن يهدينا كما هداهم، وأن يُصلِحنا له كما أصلحهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه، وعلى آله الطيبين، وصحابته الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم، والمُسلِمين والمُسلِمات معهم، بفضله ومنّه أجمعين.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا كرباً إلا فرَّجته، ولا هماً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا غائباً إلا رددته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها وتيسيرها بمنّك يا رب العالمين.

اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا، واهدِنا واهدِ بنا، اجعلنا هُداة مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك، وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك.

اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، اللهم مَن أراد بالإسلام وبالمُسلِمين خيراً فكُن له خير مُعين، ومَن أراد به وبهم شراً فخُذه أخذ عزيز مُقتدِر، فإنهم لا يُعجِزونك يا رب العالمين.

اللهم أدِر عليهم دائرة السوء، اللهم أرِنا فيها تعاجيب قدرتك وعلائم بأسك الشديد الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(5/9/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: