إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُجاهِدين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ۩ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۩ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الكريمات:

ما دمنا تحدَّثنا في الخُطبة السابقة عن مكانة الإنسان وكرامته وحريته من منظور قرآني فمن المُناسِب أحسب أن نُحاوِل الجواب عن سؤال يدور أحياناً، فصيغة هذا السؤال أين هي حرية هذا الإنسان بإزاء عبوديته لله – سُبحانه وتعالى -؟ ألا تتنافى هذه العبودية – عبوديته لله جل وعز – مع هذه الحرية المزعومة؟ ألا تتنافى هذه العبودية مع إمكان أن يختار الإنسان وأن يُجرِّب كل شيئ بنفسه، حتى ينتهي إلى نتيجة يراها هو، وبعد ذلك – بعد عدد مُستوعب من التجارب – يستطيع أن يختار لنفسه هذه السبيل أو تلكم السبيل؟ هذه هي الحرية، لكن العبودية المُطلَقة لله – تبارك وتعالى – تقتضي أن يُذعِن مُنذ البداية، ودون أن يُعطي نفسه إمكان هذا التجريب، أن يُجرِّب هذا الشيئ، أن يخبر هذا الشيئ، أن يُعيش أو يُعايش هذا الشيئ!

المنطق الليبرالي الحداثي كما يُدعى أو كما يُسمى لا يُمكِن أن يستوعب هذه الفكرة، وهو يرى أن هذه العبودية تُصادِر بالكامل وبالمرة على حرية الإنسان، هكذا هو الفكر الليبرالي العلماني الحداثي، لابد أن تعيش كل شيئ بنفسك، لابد أن تُجرِّب كل شيئ بنفسك، بصيغ فردية وبصيغة مجموعية فيما يختص بالشعوب والأمم، وبعد ذلك تنتهي إلى ما تنتهي إليه، وهكذا يُمكِن أن تغتني ويُمكِن أن تغزر حياة الإنسان وخبراته ومُعايشاته، هكذا يضحكون علينا أو هكذا يضحكون على أنفسهم، كيف يُمكِن أن نُجيب عن هذه المسألة – أيها الإخوة والأخوات -؟

أولاً أُحِب أيضاً أن أُنبِّه على عادتي أن هذا السؤال أصلاً وللأسف بدأ يُطرَح الآن تأثراً بالفكر الغربي في آخر مراحله، من قبل كانوا يُجمجِمون، ولا يستطيعون أن يطرحوه بمثل هذه الجسارة والجراءة، أعني العرب أو المُتمسلِمين، أما الآن فإنه يُطرَح، يُطرَح في إطار دراسات فكرية وفلسفية ونقدية وما إلى ذلكم، أود أن أقول أيضاً – أيها الإخوة والأخوات – هذا السؤال لا ينطلق من خلفياتنا الثقافية الدينية، ولا يعكسها، إنه يعكس رد فعل لخلفية أُخرى مُختلِفة تماماً، وهذا السؤال أيضاً يُعادِل ويُكافئ بين موقفين، بين موقف عبودية الإنسان لله المُطلَق الحق – لا إله إلا هو -، كما سنُفصِّله في تضاعيف هذه الخُطبة وأنحائها، وبين موقف عبودية الإنسان لمُطلَقات مزعومة، لنسبيات ومحدوديات جُرِّدت من ظروفها النسبية وجُعِلت آلهة من دون الله، من حجر، من بشر، من مظاهر طبيعية كونية ووجودية، وإلى غير ذلكم، والحقيقة أنهما لا يستويان، الحقيقة أنهما لا يستويان بالمرة.

قد غبرت عصور وأدهار على هذا الإنسان، كان فيها مُجرَّد ضحية لقدر هذه الآلهة العبثية، كان فيها طرفاً في صراع ساحق ماحق مع هذه الآلهة التي تخشي وتُحاذِر قوة هذا الإنسان البدنية والعقلية والشعورية، ولذلك كانت تعمل أبداً ودوماً على حرمانه من كل منابع ومصادر المعرفة، لتزول من بعد وتتركه أصم، أعم، حائراً، مُتردِّداً، لا يملك من أمره شيئاً، فضلاً عن أن يملك من أمر مصيره أو أمر تصريف الأقدار واستثمار الأكوان شروى نقير، هكذا كان! فهل هذا هو الموقف – موقف عبودية الإنسان لله تبارك وتعالى – كما يعرضه القرآن؟ لماذا هذه المُكافأة الباطلة؟ لماذا هذا الحول في الرؤية أو العور بالأحرى؟ لماذا هذا الترديد الببغاوي لمقولات – كما قلت لكم – لا تعكس شيئاً من خلفياتنا الدينية، لا علاقة لها بهذا الكتاب، لا علاقة لها بهذا الدين؟ ثم هي فضلاً عن أنها تقطع مع التاريخ ومع التجارب التي كانت أعياناً في يوم من الأيام أو التي كانت وقائع عينية – تقطع معها بالكامل – تتنكَّر لها في نفس الوقت، كأنها لم تكن، هي لا تكتفي بالقطع، لكنها تجحدها، وتتنكَّر لها.

هل تجربة المُسلِمين بالذات الأوائل – أعني أصحاب الإسلام المُحمَّدي، ليس الإسلام الدراويشي، ليس الإسلام الطرقي، ليس إسلام الفرق الإسلامية، وليس إسلام الأحزاب، إنما الإسلام المُحمَّدي، الإسلام القرآني – تقول إنهم يُمكِن أن يُقدِّموا أدنى بُرهان على صحة مثل هذا التردد وعلى صحة مثل هذا الإشكال؟ سوف نرى، ولنا مُسارَعةً أن نطرح هذا التساؤل اليسير، عن شخصية كشخصية عمر أو عليّ – رضيَ الله عنهما – أو مَن قاربهما، قولوا لي بالله ربكم كيف كانت ستكون شخصية عمر أو شخصية عليّ لولا الإسلام؟ لنفترض هكذا، لنفترض اعتباطاً أنها كانت ستكون أيضاً شخصية مُتميِّزة، لكن نوعاً، مُتميِّزة نوعاً، كم هو الفارق وكم هي الهُوة أو ما مدى هذه الهُوة التي تفصل بين شخصية عمر الإسلام وعليّ الإسلام وعمر وعليّ بغير الإسلام؟ هذا الفارق وهذه الهُوة هو أو هي ما يحكي لنا إمكان ما يفعله الإسلام بقُدر الإنسان، بإمكانات الإنسان، وبكوامل الإنسان، إنه يُفجِّرها إلى آخر أمدائها، إنه يُثوِّرها إلى آخر وإلى أقصى غاياتها، هذا هو الفرق بين عمر الجاهلية وعمر الإسلام، بين عليّ بغير إسلام وبين عليّ الإسلام، عليّ المُحمَّدي، فرق كبير جداً! فكيف يُقال بعد ذلك إن العبودية تجور وتخيس على وبحرية الإنسان، إنها تُقزِّم الإنسان وتُخفِّضه؟ هذا كلام مَن يجهل، لا كلام مَن يعرف.

تعرفون الفيلسوف والشاعر بل سيد وأمير شعراء عصراء جوته Goethe، هو سيد شعراء الألمان إلى الآن، ليس في عصره فقط، وإنما إلى الآن، لم يأت في ألمانيا وفي الشعوب الناطقة بالأألمانية شاعر مثل هذا الشاعر، وهو إلى شاعريته الفذة كان فيلسوفاً عميقاً، كتب يقول بالحرف الواحد إن هذا الكتاب – يعني القرآن، فليسمع كل مَن له أُذنان كما يقول الإنجيل، ليسمع كل مَن له أُذنان مِن هؤلاء الذين يُردِّدون هذه السخافات وهذه التفاهات ترديداً كما قلنا قردياً أو ببغاوياً دون أن يدروا ودون أن يعرفوا – بمناهجه لا يُمكِن أن يفشل أبداً – هكذا قال بالحرف الواحد -، إن مناهجنا ومناهج بني الإنسان ما كان منها وما سيكون لا يُمكِن أن تذهب إلى غاية أبعد مما ذهب إليه منهج هذا الكتاب، الله أكبر، الله أكبر! ما الذي قرأه جوته Goethe في القرآن الكريم حتى يقول هذه الكلمات؟

مُشكِلتنا – كما قلت – أننا نجهل، نجهل ما عندنا ونجهل ما عند الآخرين، صدِّقوني! دائماً القرآن يتعملق في أنظارنا كلما تعملق فهمنا وكلما تعمَّق وتغمَّق إدراكنا لمأساة الآخرين، للإشكال الحضاري الذي يعيشه الآخرون، نعلم نفاسة ما عندنا حقاً بهذه المُقارَنة، لكن – كما قلت أكثر من مرة – يُلقى إلينا هذا الكنز الإلهي العُلوي، وهذه الخُطة الهدائية التي لا تُستنفَذ، القرآن يتضمَّن ويشتمل خُطةً هدائيةً لا تنفذ ولا تُستنفَذ، تستوعب السير والمسيرة والمشوار البشري من أوله إلى آخره دون أيضاً أن تُبلَغ لها غاية نهائية، لماذا؟ لأنها خُطة المُطلَق، لا إله إلا هو! المُطلَق الحق، المُحيط بكل شيئ، المُهيمن، والعليم بكل شيئ، لا إله إلا هو!

هذه أول مسألة، المسألة الثانية قضية التجريب والمُعايشة والاختبار والذوق، وسأطرح سؤالاً يسيراً أيضاً، هل يكفي عمر الفرد الواحد منا لكي يُجرِّب كل شيئ ويخبر كل شيئ ويُعايش كل شيئ ثم بعد ذلك يُنسِّق بين النتائج ويختار منها ويصطنع لنفسه دستوراً؟ عمر الفرد لا يكفي لذلك، إن خطيئة واحدة أحياناً كفيلة بأن تُدمِّر هذا العمر كله، هذا الكلام ليس فانتازيا Fantasya، هذا كلام الواقع، اليوم كل واحد منكم ربما عاش خطأً في حياته دفع ثمنه عقداً من السنوات هباءً، خطأ واحد! لأنه أخطأ السبيل، وكما قال الشاعر الفارسي خُطوة واحدة، لمحة يا صاحبي، لمحة تلفت يا صاحبي، ستضل الطريق، ولن تصل إلى بُغيتك، أحياناً ضلال يسير جداً جداً يُحطِّم إمكانات هذا الإنسان، فهل يتسع عمر الفرد الواحد وهل تتسع قدرات الفرد الواحد العقلية والنفسية والشعورية الوجدانية لكي يخبر كل شيئ ويُجرِّب كل شيئ؟ مُستحيل، هذا هو الهباء، هذا هو الهجس الفارغ، الذي يهجس به هؤلاء الليبراليون والحداثيون، كلام لا معنى له.

ثانياً هل يتسع عمر أمة أو عمر شعب بل عمر البشرية في دورة حضارية واحدة لأن تخبر وتُجرِّب كل النظريات والفرضيات ثم تُنسِّق بعد ذلك بين نتائج هذا الاختبار لتخرج بدستور وناموس صالح؟ لن أُجيب أنا، لابد أن يُجيب التاريخ، لابد أن نستشير وأن نسأل التاريخ، نستفسر ونستفصل التاريخ، ماذا يقول التاريخ؟ يقول أحد فلاسفة التاريخ العظماء – وأنا مُوقِن بهذه النتيجة، مُوقِن بهذا المعنى وبهذه الموضوعة – إن عبرة التاريخ الكُبرى الوحيدة أن البشر لم يتعلَّموا شيئاً من التاريخ، هذا هو الصحيح، لم يحدث يوماً للأسف الشديد أن الأمم والشعوب والجماعات والحضارات تعلَّمت درس التاريخ، هذا كلام فارغ، كم وكم – كم وكم يومياً أو ساعاتياً أو في كل لحظة – تتكرَّر خطيئة آدم؟ في كل لحظة خطيئة الأب الأول تتكرَّر، نفس الشيئ، كم وكم وكم وكأين من مكان ومن زمان ومن ظرف ومن حال تُستنسَخ فيه تجربة بل شنيعة قابيل! كم وكم! في كل لحظة تُستنسَخ، لم نتعلَّم شيئاً، والقرآن الكريم بالمُناسَبة في عشرات الآيات يُؤكِّد هذا المعنى، أن الأخطاء تتكرَّر، أخطاء الأمم والشعوب وأخطاء أصحاب الأديان تتكرَّر، مِنْ قَبْلُ ۩، نفس الشيئ! يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ۩، مُضاهاة، تكرار، واستنساخ.

وأكثر آية تُكثِّف هذا المعنى العجيب قوله – تبارك وتعالى – في سورة الإسراء وَإِن مِّن قَرْيَةٍ – كل مدينة، كل قرية، كل أمة، وكل شعب – إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ۩، ما معنى هذه الآية؟ معناها أن كل القُرى – أي كل الحواضر، كل المُدن، كل الحضارات، كل الشعوب، وكل الأمم – لابد أن تذوق عقاب الله في هذه الدار، في هذه الدنيا، لماذا؟ لأنها تأتي من الشنائع ومن الجرائم ومن المُوبِقات ومن تكرار أخطاء الماضين والأسلاف الغابرين ما يجعلها أهلاً للعقوبة، تستحق هذه العقوبة، هذه الآية تُكثِّف هذا المعنى التاريخي، آية عجيبة! هذه دلالتها تاريخياً، لو فسَّرناها بمنطق فلسفة التاريخ هي تقول هذا بالضبط، بالضبط!

والعجيب – وذكرت هذا مرة في درس – ما يقوله العالم والفيلسوف إلى حد ما – تفلسف في آخر حياته – هايزنبرغ Heisenberg، العالم الذري الفيزيائي النظري الكبير هايزنبرغ Heisenberg هو أحد الثلاثة العظام مُؤسِّسي ميكانيكا الكم وفيزياء الكم، يقول في كتابه مُحاوَرات الجُزء والكُل إن درس التاريخ – وهذا شيئ عجيب، هو لم يقرأ القرآن قطعاً، لم تُترجَم له هذه الآية من سورة الإسراء، لكنه يقول هذا – علَّمنا أنه ما من بلدة وما من أمة إلا سيحل بها العقاب في يوم من الأيام، كأنه يقول هذه الآية، درس التاريخ علَّمه ذلك، التاريخ يقول هذا، وكما قلنا القرآن بلور منظوراً تاريخياً يُمكِن أن يُسمى منظور المثلات، منظور العواقب، منظور المآلات، وهذه قضية أُخرى، عرضنا لها أعتقد مرةً من المرات.

إذن عمر الفرد لا يتسع، وعمر الجماعات والأمم لا يتسع، ومن هنا نستطيع أن نقول كمِليين أو كمُسلِمين أو كقرآنيين أو كمُحمَّديين، نستطيع أن نقول بوثاقة وطمأنينة مُوقِنة – بحمد الله تبارك وتعالى – إن هذه البشرية أعجز من أن تختط دستور هدايتها، لأنها إن فعلت ذلك بنفسها فسيسقط هذا الدستور في التاريخية، ما معنى التاريخية؟ الصيرورة، سيُستنسَخ بتجارب البشر وأخطائهم وتناقضاتهم الذاتية، يقول أحد فلاسفة التكنولوجيا – فلسفة خاصة بالتقنيات – إن كل مُخترَع له تناقضاته، كل مُخترَع! وأنا أقول كل نظرية بشرية، ويا حبذا لو عُمِّق هذا المعنى وكُتِبت فيه دراسات، كل نظرية بشرية لا تستند إلى المُطلَق – إلى الله تبارك وتعالى – وإلى كتابه العزيز أيضاً تشتمل على تناقضاتها، ولذلك لا يُمكِن أن تُشكِّل خُطة هدائية أخيرة، لا يُمكِن! اقرأوا أي نظرية، خاصة أعني النظريات التي أثَّرت في مسيرة البشرية، التي أثَّرت في أحوال العالم.

بإذن الله غداً درس السبت سيكون حول هذه النُقطة، فقط سوف أقفه على نظرية واحدة، غيَّرت وجه البشرية ووجه العالم، وسنُثبِت كيف أن التناقضات الذاتية في جذر أو جذور هذه النظرية أتت عليها وعلى مَن جعلها أيديولوجية أو ديناً، على مَن جعلها خُطةً هدائيةً مُطلَقةً، دمَّرت كل شيئ، كل شيئ نسبي يحمل تناقضاته، إلا المُطلَق، لا إله إلا هو! لأنه لا يتناقض، لن نُثبِت فلسفياً لماذا لا يتناقض المُطلَق، وأما النسبي فمُتناقِض دوماً، وما لم يستند إلى المُطلَق لابد أن تصرعه تناقضاته، لابد أن تصرعه تناقضاته! هذه نُقطة مُهِمة جداً – أيها الإخوة والأخوات -.

إذن بعد ذلك نقول لننظر في عبودية الإنسان لله – تبارك وتعالى -، أولاً هل هذه العبودية تُناقِض الدساتير الوجودية؟ كل دساتير الوجود تحترم التمايز، وتحترم الفوارق، القوي دائماً له هيمنة على الضعيف، أليس كذلك؟ القوي له هيمنة على الضعيف، في ماذا تُريد؟ في كل شيئ، في العضوية الحية، في الفيزياء، في المادة، في الكون، في العُلوي، في السُفلي، في النبات، وفي الحيوان، دائماً! هذا دستور، والإنسان يشعر في قرارة نفسه بالضعف الأزلي، وأنا هنا أطرح طرح مُؤمِن مِلي، لا أطرح المسألة من نُقطة صفرية مع الملاحدة، أنا أتكلَّم كمُؤمِن كمِلي، أما إذا أردنا أن نُناقِش الملاحدة فهذه مسألة أُخرى، لا أبدأ من نُقطة الصفر، أبدأ مما فوق ذلك بكثير، من نُقطة التوحيد، من نُقطة الإيمان، من نُقطة الإذعان، أن هناك إلهاً ورباً، لا إله إلا هو! والكلام في العبودية، هل تُصادِر على الحرية الإنسانية أو لا تُصادِر؟ هذه هي النظرية، هذه هي القضية، وهذه هي المسألة، موضوع النقاش اليوم.

فلننظر، هذا لا يتناقض مع الدساتير، والإنسان – كل إنسان مهما علا ومهما سما – يشعر في قرارة نفسه بالضعف الأزلي، بالضعف الحقيقي، هل نقول بالضعف المُطلَق؟ هناك ضعف حقيقي في جذورنا وفي أعماقنا، من أين نستمد القوة؟ أنستمدها من ضعف آخر؟ هل يُنقِذ الغريقُ غريقاً؟ إنما من القوي، من المُطلَق – لا إله إلا هو -، الذي لا يعتوره ضعف بأي وجه من الوجوه، هذا شيئ طبيعي، هذا لا يتناقض حتى مع النواميس، لكن المسألة الأهم هي هل ارتباطنا بهذا المُطلَق – لا إله إلا هو – يُقزِّم شخصياتنا، يُصادِر على حريتنا، وهي موضوعة أو موضوع السؤال اليوم؟ كلا، بالعكس تماماً، إذا قرأنا القرآن نستشيره في الجواب عن هذه المسألة فسنجد الجواب يحكي لنا المُشكِلة الأزلية للبشرية، مُشكِلة بحدين، مُشكِلة بجانبين، أقصيين، أقصى اليمين وأقصى اليسار، أقصى اليمين الغلو في الانتماء، الغلو في الاتكاء، الغلو في الانتساب، وهو الجانب الإيجابي في المسألة، والقطب الآخر أقصى اليسار الغلو في النفي، الغلو في اللا انتساب، الغلو في الضياع، وبالتعبير المِلي أو الديني القطب الأيمن من هذه المُشكِلة يُسمى ماذا؟ الشرك، الوثنية، وذلك حين نُحوِّل المحدودات والنسبيات إلى مُطلَقات، نُجرِّدها من ظروفها النسبية، من خصائصها، ومن اشتراطاتها، لنُحوِّلها إلى مُطلَق، فيُعبَد شيخ القبيلة – مثلاً -، أو حيوان في القبيلة يُعتقَد أن دمه يجري في الجميع، أي Totem، الطوطم! أو يُعبَد مظهر من مظاهر الوجود، مثل البرق، الرعد، النار، والكانون، أحياناً الإنسان يعبد نفسه، الفروج – والعياذ بالله -، أو حجر يُجسِّده الإنسان رباً وإلهاً، هو يعلم أنه نسبي، لكنه يُجرِّده من نسبيته، في عملية تصعيد ذهني كما يقول الفلاسفة والأنثروبولوجيون، في عملية تصعيد ذهني يُجرِّده من نسبيته، ثم بعد ذلك ينسى أنه كان نسبياً، وأنه هو الذي أعطاه الإطلاقية الزائفة، ويجعله مُطلَقاً، فيعبده من دون الله – تبارك وتعالى -.

ما الذي يحدث بعد ذلك؟ في مرحلة رشد ذهني، في مرحلة استعلاء عقلي، وفي مرحلة تطور روحي للإنسان، هذا النسبي المُطلَق الزائف يُقيِّد الإنسان، لأن الإنسان تجاوزه، يُقيِّدك! ومن هنا لاحظ فيلسوف التاريخ توينبي Toynbee في دراسة التاريخ – مُختصَر دراسة للتاريخ – بذكاء مُنقطِع النظير أن السر الذي فجَّر الطاقة الحضارية – طاقة الفعل والبناء – في المُسلِمين هو التوحيد، هو فيلسوف تاريخ، درس بضعاً وعشرين حضارة كاملة دراسة كاملة في أربعين سنة، أربعون سنة وهو يدرس هذه الحضارات، لماذا؟ ما هو السر الذي جعل أمة من البدو، أمة تقتل وتصطرع كل يوم وكل ليلة على لا شيئ، أمة تافهة ساذجة غبية وأمية فعلاً، لا تعرف شيئاً، جعلها في أقل من قرنين الأمة الأولى باقتدار وكفاءة في العالمين بين الخافقين؟ هذا الرجل تحيَّر، ثم قال التوحيد، التوحيد! توحيد الله حرَّر الإنسان من كل المُطلَقات الزائفة، بالعكس! هذا التوحيد أفهمك أن الكون كله خادم لك، ومن هنا دلالة العبودية لله، ودلالة عبادة الله، العبادة تكثيف العبودية، ما معنى أن نُصلي وأن نركع وأن نسجد وأن ندعو وأن نحج وأن نعتمر؟ معناها تكثيف لعبوديتنا لله، تكثيف رمزي أيضاً، هو تكثيف رمزي بلا شك، لكن الإنسان دائماً في حال عبادة لله، دائماً! سواء أراد أو لم يُرِد هو عبد لله، في حال عبودية، هذه العبودية يُمكِن أن تستحيل عبادة مع الوعي بالفعل، بأمداء الفعل، بالغايات، بالمقاصد، وبالبواعث أيضاً، يُمكِن أن تستحيل عبادة، فيُمكِن أن تكون عبداً عمرك كله لا شطره، ويُمكِن أن تبقى في حال عبودية، لا في حال عبادة، فالعبادة تكثيف للعبودية، العبادة تكثيف للعبودية!

أفهمنا التوحيد أن هذا الكون كله بنص كتاب الله في عشرات الآيات مُسخَّر وخادم لنا، فما هي دلالة عبادة الله والعبودية لله؟ لماذا لا نعبد غير الله؟ قبل أيام قرأت شيئاً هاماً في الرواية الفذة – وهي إحدى خوالد التراث الإنساني بلا شك، إحدى الروايات الخوالد في التراث الإنساني – التي  قال فيها جورج برنارد شو George Bernard Shaw لا أحسب أن عقلياً بشرياً قادر على أن يضع مثلها، وهي رواية موبي ديك Moby Dick، لشكسبير Shakespeare أمريكا هرمان ملفيل Herman Melville، ماذا يقول هذا الروائي العالم؟ انظروا الآن إلى العقل الكبير، وهو بلا شك عقل كبير وأديب مُنقطِع النظير، لكن انظروا إلى عظمة ما يُعطينا هذا الكتاب، ونحن الصغار في قُدرنا العقلية، في تجاربنا الفكرية، مع عملاق بهذه القامة الباذخة، يقول هرمان ملفيل Herman Melville مُجرياً مونولوجاً Monologue أو حواراً ذاتياً داخلياً بطله هو إسماعيل Ishmael وهو بطل الرواية الآتي، يقول إسماعيل Ishmael أنا مسيحي، وعلى المذهب المشيحاني، وقد نَشَأت أو نُشّئت على هذا المذهب والطريقة، وهذا صاحبي – البطل الثاني في القصة – كويكوج Queequeg – البدائي الوثني، هذا صاحبي كويكوج Queequeg يقوم لكي يعبد إلهه، الذي هو عبارة عن قطة خشب سوداء، وبلا شك أنه يُحبِّذ أن أُشارِكه في هذه العبادة، ولكن أنا مسيحي، فماذا أفعل؟ هل أُصبِح وثنياً لكي أُسعِد صديقي؟ أقبل على نفسه في هذا الحوار الداخلي الذاتي – أي المونولوج Monologue – ليقول ولكن تُرى يا إسماعيل ما هي العبادة؟ ما هي العبادة؟ وهل تَرى الله يا إسماعيل يغار من قطعة خشب تافهة لو عبدناها إلى جانبه؟ انظروا كيف طرح المسألة، هل يغار من قطعة خشب؟ فالعبادة معنى مُشرَّك إذن، هل يحتاجه الله ويُمكِن أن يُتقدَّم به إلى هذه القطع – إلى هذه الأوثان والمُطلَقات الزائفة -؟ كلا، العبادة في نظري – يقول – هي الامتثال لإرادة الله، وما هي إرادة الله؟ إرادة الله أن يفعل الإنسان لأخيه الإنسان – لأن الله رب الإنسان، كل الإنسان، ورب هذا الوثني أيضاً، هو رب هذا الوثني أيضاً – ما يُحِب أن يفعله له أخوه الإنسان، وأنا المسيحي ماذا أُحِب من أخي كويكوج Queequeg؟ أُحِب أن يعبد ربي بطريقتي، وهو أيضاً بالمُقابِل يُحِب أن أعبد ربه بطريقته، فلأفعل ولأكن وثنية، فهذه عبادة لله، وهكذا كان، لكن هذه مُغالَطة كُبرى، هنا مُغالَطة كُبرى!

أولاً – انتبهوا، هذا هو المحور الذي أوحى إلىّ بخُطبة اليوم – هل تحسبون أن عبوديتنا وأن عبادتنا لله – تبارك وتعالى – تعود إلى معنى يختص بالله؟ كلا، هذا كان أولاً، وهذا ما لم يفهمه هرمان ملفيل Herman Melville، لا تقل الله يغار أو لا يغار، هذا لا يعنيه، نحن باختصار نقول وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ۩، كل الآيات في عشرات المواضع تقول هذا، وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۩، وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۩، تعبد لنفسك، تحمد لنفسك، تُسبِّح لنفسك، تُحسِن لنفسك، وتعمل الخير لنفسك، الآيات تتحدَّث بعموم أن عمل الخير – كل الخير – لنفسك، وخصوص الخير من تقديم النفقات، من صلاة، من مُجاهَدة – وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۩ – من كذا، ومن كل شيئ، أيضاً لنفسك، لا لله.

وقد يقول قائل بتبسيط للمسألة ولكن الله قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۩، هو يُريد منا أن نعبده، وهذا هو السؤال، ليس الجواب يا مسكين، من هنا يبدأ السؤال، لماذا نعبده؟ هل يُريد أن نعبده لمعنى يعود إليه أو لمعانٍ تعود إلينا؟ هو يُريد أن نعبده لأنه يُريد لنا الخير، ولذلك في الحديث الصحيح – حديث الظلم – يا عبادي لو أن إنسكم وجنكم وأولكم وآخركم كانوا على قلب أتقى رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، مَن هو هذا الرجل التقي؟ محمد، لو كلكم جميعاً كنتم محمداً لن يزيد ذلك في مُلكي شيئاً، هكذا يقول رب العزة، لا إله إلا هو! الغني، الكريم – سُبحانه وتعالى -، ويا عبادي لو أن إنسكم وجنكم وأولكم وآخركم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم – كأبي جهل أو فرعون مثلاً أو النمروذ – ما نقص ذلك من مُلكي شيئاً، إنما هي أعمالكم، أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيراً فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

أيها الإخوة:

من هنا جوهر ونواة المسألة، من هنا! إذن عبوديتنا وعبادتنا بالذات كتكثيف لهذه العبودية لله هدفها الرئيس العتيد الأكبر ما هو؟ تكميل نفوسنا، لكي نكتمل، لكي نترقى، هذه العبودية والعبادة تُريد أن تستخرج أحسن ما فينا، أنبل ما فينا، وأقدس ما فينا، والإنسان كائن ثانوي، كائن ثنائي مُزدوَج، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، إذن أنت يا مسكين دائماً على شفا خطر، في كل لحظة يُمكِن أن تتدلى، وقد لا تستطيع أن تصعد بعد ذلك، كما قلت أحياناً خطأ واحد قد يُودي بمصير الإنسان، قد يُدمِّر كل قُدر الإنسان، أنت على شفا خطر، وما هو الحل؟ ما هو طوق النجاة؟ طوق النجاة هو الاعتصام بماذا؟ بالخُطة الهدائية، بالناموس الذي لا يدخل في التاريخية، كل ما تختطه أنت لنفسك سيسقط في التاريخية، سيسقط في الصيرورة، مُستحيل غير هذا، وكل ما يأتي خارج منطق التاريخية، خارج الصيرورة، وخارج الزمانية من المُطلَق المُتعالي هل يسقط في الصيرورة؟ هل يسقط في التاريخية؟ كلا، ولذلك سيصلح لكل زمان ومكان.

لعلكم تذكرون الكلمة التي استعرتها من جوته Goethe، هذه كلمة جوته Goethe! يقول منهج هذا الكتاب لن يفشل أبداً، مناهج هذا الكتاب لن تفشل أبداً، ولن نستطيع أن نتجاوزها، هكذا يقول جوته Goethe بمعنى كلامه، لن يستطيع الإنسان أن يتجاوز القرآن، كيف فهم ذلك؟ القرآن نفسه طرح هذا التحدي، انتبهوا! هذا تحدٍ، أي Challenge، وهو خطير جداً، زلزالي، القرآن آتى ليقول أنا آخر الكُتب، انتهى الأمر، وهذا السفير العظيم – أي محمد، صلوات ربي وتسليماته عليه – آخر الأنبياء، إذن فقد ألقت السماء كلمتها الأخيرة، جفت الصحف، رُفِعت الأقلام، وانتهى كل شيئ، تحدٍ مهول زلزالي، ماذا يقول هذا التحدي؟ يقول باختصار سأستوعب البقية الباقية من مسيرة البشرية، وهي البقية الأكثر خطراً، لماذا؟ لأنها تستند على المُراكَمات التاريخية، ولذلك ستُحقِّق تطوراً وتقدماً بشكل مُتواليات هندسية، وهذا الذي حدث.

قبل قرون كانت المعرفة البشرية تتضاعف كل مئات السنين، الآن تتضاعف المعرفة البشرية كلها كل سبع سنين، شيئ عجيب، بفعل هذا التركيم، ولذلك لاحظ أيضاً أحد الفلاسفة الفرنسيس أو الفرنسيين أن هذا التطور الدراماتيكي وهذا التطور الجذري الهائل الذي يحدث أحياناً يُصبِح تطوراً كيفياً، وليس كمياً فقط، تطوراً كيفياً نوعياً، ومع ذلك القرآن يقول لا بأس، حسنٌ، سأستوعب كل هذه البقية، سأُهيمن عليها، وسيُثبِت الزمان أنني قادر على استيعابها، مَن يُمكِن مِن البشر أن يطرح مثل هذا التحدي؟

تفهم هذا حين تقرأ نظريات البشر – وأنا ذكرت هذا – الضعاف مثل نيتشه Nietzsche، هيجل Hegel،  فويرباخ Feuerbach، ماركس Marx، كوندورسيه Condorcet، مونتسكيو Montesquieu، وروسو Rousseau، أو أي فيلسوف كبير مِمَن يُؤمِنون بالإصلاح والتغيير، ومِمَن يتحدَّثون عن فلسفة التاريخ والتقدم الإنساني، وحين تقرأ الآن – الآن في القرن الحادي والعشرين – ترى حجم القزامة، حجة الضعة، وحجم اللا علمية المُدعاة، هم يدّعون المُدّعى عكسها، وهذا سنعرض له غداً – إن شاء الله في مُحاضَرة السبت، مُستحيل! لكن حين تقرأ هذا الكتاب تجد شيئاً عجيباً، كما قال مولانا بديع الزمان النورسي – قدَّس الله سره – كلما شاب الزمان زاد القرآن شباباً، يبدأ القرآن يتألَّق، يبدأ يُؤكِّد أن هذا التحدي لا يُمكِن أن يُقابَل باستجابة صحيحة، كل مَن وقف ليستجيب لهذا التحدي فهو مقموع ومشنوع بلا شك ومخذول، مخذول بالتعبير القرآني، سوف يقعد مذموماً مخذولاً، لن يستطيع! لأن هذه مُحاوَلة شركية، مُحاوَلة شركية بتجاوز هذا المُطلَق وخُطته الهدائية، هذا غير مُمكِن وغير وارد، غير وارد بالمرة.

للأسف انظروا الآن في نتائج هذه التجارب الليبرالية الحداثية، قبل سنوات – وأظنكم تابعتم ذلك – يقف رئيس وزراء بريطانيا جون ميجر John Major، ليُطلِق شعاراً جديداً، ما هو؟ العودة إلى الأساسيات، أي The foundations، إلى الأُسس، وهو يُريد القيم الأساسية، الــ Values الأساسية، هكذا كان شعاره، العودة إلى الأساسيات! أي جون ميجر John Major – الحداثي الكبير، الليبرالي، وابن الرأسمالية – بعبارة أُخرى يقول أنا أُصولي، أنا مُتطرِّف، أنا راديكالي، جذري! لماذا؟ لأنه ذاق طعم هذه الحداثة المنقوصة الزائفة، دمار! بالذات هو أطلق هذا الشعار ليدخل فيه دخولاً أولياً الموقف من الجريمة والإجرام والمُجرِمين، وقال بحنق كفى، كفى أن نظل دائماً نُردِّد هذا الكلام الممجوج، الضحية أولاً أو المُجرِم أولاً؟ ثم قال بعد ذلك بوضوح أُريد أن أرى عقاباً يُكافئ الجريمة، كل النظريات الاجتماعية – قال – والنفسية باطلة، لقد زادت من مُعاناة الضحايا، زادت المُجرِمين إجراماً، قال إن العقل السليم أو الــ Common sense – كما قال بتعبيره – والإدراك الجمعي للبشر لا يُمكِن أن يقبل أن تكون مُكافأة المُجرِم هي طريقة في منع الإجرام، ما الذي يحدث؟ قال، أنتم تُكافئون المُجرِمين، وتنسون الضحايا، ثم تدّعون أن هذه طريقة جيدة في مُكافَحة الجريمة، قال لابد أن نعود إلى الأساسيات، لقد كفر بهذه الحداثة إذن، على الأقل في جانب من جوانبها، هذا لا يُنعَت بأنه أصولي أو بأنه مُتطرِّف أو بأنه إسلاموي، ليس إسلامياً فقط وإنما هو إسلاموي، أي يُؤمِن بالأطروحات الإسلامية فقط وفقط على أنها هي الحل، ولا يُعطي أي بصيص أمل لأي طرح آخر، هذا معنى الإسلاموية، لا يُتهَم بأنه إسلاموي أو بأنه أصولي أو بأنه مُتطرِّف، بالعكس! هو ابن الحداثة، وابن الرأسمالية المُتوحِّش حتى، وابن الليبرالية، عادي! لكن ماذا تفعل هذه الحداثة؟ وهي لا تزال إلى اليوم، ماذا تفعل؟ تأتي لتقطع مع الماضي كله، بكل غناه، بكل ثراه، بكل تجاربه، بكل مُراكَماته التاريخية، هناك مُؤسَّسة الأسرة – مثلاً -، أنتم تعلمون الآن أن حرباً شنعاء قد شُنت ولا تزال أيضاً تُشَن عليها، هذه المُؤسَّسة عمرها آلاف السنين، وُجِدت مُذ وُجِد الإنسان وإن زعم إنجلز Engels غير ذلك، وُجِدت مُذ وُجِد الإنسان، مُذ وُجِد آدم وحواء وتناسلا، مُؤسَّسة العائلة!

هذه التجربة وهذه المُؤسَّسة يشهد لها التاريخ، نعم هناك سلبيات، وهذه مسألة طبيعية، لكن ليس من حيث أتت، ليس من حيث الأصل، وإنما من حيث أمور عارضة لها، وهذا موضوع آخر، تأتي الحداثة وتقول لا، هذه المُؤسَّسة غير صحيحة ولها بعض السلبيات وهي واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، وعشرة، ما الحل إذن أيتها الحداثة أو كما قال أحد الفلاسفة الفرنسيين أيتها القدّيسة؟ هي مُقدَّسة! الحداثة مُقدَّسة، اللائكية مُقدَّسة، العلم مُقدَّس، إنها آلهة مُزيَّفة من دون الله اليوم أيضاً، تُعبَد من دون الله، وقد ساهمت بنصيب وافر في تدمير الإنسان وتدمير معنوياته والمُصادَرة على أدنى حقوقه الفطرية البسيطة، هكذا! هذه النتيجة، ماذا تفعل الحداثة؟ إذن لابد أن تُشطَب هذه المُؤسَّسة، وأن نبدأ من جديد في شكل مشاعي حر، قابل لتجريب كل الأشكال التواصلية مع الجنس الواحد ومع الجنس الثاني، حتى ابتداع أجناس ثالثة ورابعة وخامسة، شيئ عجيب! والنتائج تأتي ماذا؟ كارثية، وحين تأتي النتائج كيف يكون العلاج؟ ليس بالعودة على طريقة ميجر Major إلى الأساسيات، وإنما بتجريب آخر، ندخل به في المجهول، مرة أُخرى! 

طريقة الحداثة وطريقة العلمانية وطريقة الليبرالية تقول بالضبط إذا كان هذا المُنعطَف أو إذا كان هذا المُنعرَج في الطبيب يُسبِّب حوادث دامية ومأساوية فالحل لا يتجسَّد في وجوب إلغاء هذا الطريق ونهج طريق آخر، وإنما في بناء مُستوصَف على جانب الطريق، بالضبط هكذا تتصرَّف الحداثة، هل هذه خُطة رشيدة؟ هل هذه خُطبة سليمة؟ ويدفعون الثمن، الإسلام يختلف تماماً – بحمد الله تعالى -، هذا هو الجانب الأول، جانب ماذا؟ جانب إعطاء النسبيات الإطلاق، وبعد ذلك كل هذا يتجاوز، أي الآلهة الوثنية، الشرك! أشياء تُشرَك مع الله، هي أشياء نسبية، خلعنا عنها النسبية والخصوصية، وجعلنا مُطلَق، يتقدَّم الإنسان، وعيه، وروحيته، ما الذي يحدث؟ تُقيِّده، تماماً – نعم – تُكبِّله، في المُقابِل هناك ماذا؟ هناك الضياع، هناك اللا انتساب المُطلَق، لا يُؤمِن بأي مُطلَق كان، لا سماوي ولا أرضي، لا بالله الإله الحق، ولا بالآلهة الزائفة المذكوبة الدعية، وهنا ما الذي يحدث؟ يسقط الإنسان في الصيرورة، تماماً! هذه الصيرورة هي التي سقط فيها الغرب الآن، وأسلمته إلى ما يُعرَف بما بعد الحداثة، اختفت الغايات، اختفت المعاني، اختفت المراكز، اختفت الأهداف، اختفى المعنى، اختفى النص، واختفى كل شيئ، حتى كاتب النص اختفى، كل شيئ اختفى، ذوبان كامل، نيهلية Nihilism، عدمية مُطلَقة، سقوط في الصيرورة، والسقوط في الصيرورة ما هو؟ ما هو؟ الضياع الكامل، انظروا إلى القرآن الكريم، كيف رخَّص للموقف الأول؟ وانظروا إلى نضال القرآن ضد الجبهتين معاً، ضد الشرك، وضد ماذا؟ الإلحاد، السقوط في الصيرورة هو ماذا؟ إلحاد، إلحاد! لا إله، القرآن يُناضِل ضد الصيرورة وضد الشرك، ضد الشرك وضد الإلحاد، يقول الله – تبارك وتعالى – ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ۩، الله أكبر!

القرآن يقول بعبارة واضحة حين يسقط الإنسان في الوثنية – ثانوية أو شركية أو غير ذلك – ما الذي يحدث؟ تتجمَّد قُدره، تتجمد قواه، ويحدث له التناقض والتمزيق، يتناقض الإنسان، ويتمزَّق، لماذا؟ لأنه تتشاكسه وتتناكد عليه وتُريد أن تتقاسمه هذه القوى الزائفة، المُطلَقات الكاذبة، فيضيع الإنسان، كما ضاع إنسان الأديان الزائفة والأديان الكاذبة أيضاً طبعاً، لأنها لم تُصوِّر المسألة بالتصوير الصحيح، بالتحريف والزيادة والنقصان، أبداً! وهذا معنى لا إله إلا الله، فالجُزء الأول، الجُزء النافي، وهو لا إله – هكذا -، ماذا يُعطي للإنسان؟ يُنقِذه من هذه المُشاكَسة، يُنقِذه من هذا التناقض ومن هذا التمزق، يتوحَّد الإنسان لأول مرة، ويبدأ يشعر بذاتيته، لكن من غير استناد إلى مُطلَق، فيقع في الصيرورة، فتأتي إلا الله، فيستند إلى المُطلَق، يعتصم بحبل الله، فهنا أيضاً يُنقَذ من ماذا؟ من الصيرورة، بعد ذلك إذا تمسَّك بالله – تبارك وتعالى – واتجه إلى الله وكدح إلى الله سأل ما هو الله؟ الله هو الكمال علماً وحكمةً وقدرةً وعزةً وجبروتاً وعطاءً ومنعاً وتقديراً و… إلى آخره، هو المُطلَق، كل صفات الله – تبارك وتعالى – وكل معانيه – تبارك وتعالى – هي أُفق مُطلَق يتحرَّك نحوه الإنسان، هكذا! تعمق الجوانب النازلة فيك، وتُعلي الجوانب العالية فيك، فتتكامل، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ۩، ليست هناك نهاية دون هذا المُطلَق، هو النهاية، هو الغاية، لا إله إلا هو! لأنه المُطلَق، وهكذا الإنسان يتكامل باستمرار، وهو مشدود إلى معنى، ومشدود إلى هدف، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ۩.

لكن للأسف الفكر الإسلامي أيضاً في عصور انحطاطه بكل تجلياته الأدبية والفلسفية والفقهية غدا لا يعكس هذا المعنى بشكل جيد، للأسف الشديد لا يعكسه أبداً، المُسلِم الأول – كما قلت كعليّ، عمر، وسواهما – أو المُسلِم المُحمَّدي أو مُسلِم القرآن أو المُسلِم القرآني أو المُسلِم الأنموذج كان بحد ذاته قرآناً، كان فرقاناً – أي المُسلِم – بين الحق والباطل، مُستحيل غير هذا، المُسلِم كان فرقاناً بين الحق والباطل، المُسلِم لم يكن شخصية إمعية، فيكون مع هؤلاء ومع هؤلاء، لكي يُرضي الجميع، والآن انظروا إلى الضعف، هذا المُسلِم القدري أو المُسلِم الاستسلامي أو مُسلِم الدراويش أو مُسلِم الإسلام النفعي الانتهازي البراجماتي، مأساة المُسلِمين العصريين أمثالنا – أنا أعني أمثالنا تماماً في العالم كله للأسف – أن منهم كماً لا يُستهان به يُشكِّلون هذه الإمعية وهذا الكذب، كل إمعة تراها اعلم أنه لا يُرتجى منها خير، على المُسلِم أن يكون قرآناً، القرآن هداية للمُوحِّدين وخسار للكافرين، القرآن رحمة للمُؤمِنين ولعنة على الملاحدة والناكبين، هكذا! وهكذا يكون المُسلِم، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لعليّ – عليه السلام – يا عليّ لا يُحِبك إلا مُؤمِن ولا يبغضك إلا مُنافَق، ولابد أن تُحَب ولابد أن تُبغَض، لأنك قرآن، لابد! لابد أن يختصم الناس فيك، لابد أن ينقسم الناس حيالك إلى فرقتين على الأقل، وهكذا تكون مُسلِماً، هكذا! لابد أن تُزلزِل المُجتمَع، لابد أن يكون لك دور، لابد أن تُغيِّر، أما أن تعيش إمعة، أن تعيش دودة في الأرض أو خلد (خلند)، فهذا لا يُمكِن، هذا ليس المُسلِم.

ذكرنا إقبال في الحلقة الماضية، والآن أذكر منه استشهاداً واحداً، عجيب هذا الاستشهاد، يقول كل امرئٍ لا يكون ذا قوى خارقة فهو عندي زنديق مُلحِد، ليس مُؤمِناً، يستحيل! المُؤمِن لا يكون ضعيفاً، المُؤمِن لا يكون صفرياً، مُستحيل كمُؤمِن أن تكون صفرياً، لأنك حي، والحي فاعل، وأما الميت فهو الكافر، والميت سجين لجسده وقبره، هذا من عندي، ليس له أي فاعلية، أبداً أبداً، يقول كل امرئٍ لا يكون ذا قوى خارقة فهو عندي زنديق مُلحِد، ليس له من الإسلام نصيب لأنه لم يذق شجرة الحياة، ماذا يُريد بالحياة؟ الإيمان، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ۩، هكذا تتعملق معاني العبودية لله – تبارك وتعالى -، لكي تُخرِج هؤلاء العمالقة، لكي تُخرِج من المُسلِمين عمالقة حقيقيين.

انظروا إلى هذا المنطق وإلى منطق عرفي Orfi، عرفي Orfi هو شاعر فارسي عاش في القرن العاشر، وكان يتردَّد كثيراً على بارات أكبر Akbar، السُلطان الذي تألَّه – والعياذ بالله – وكفَّر أمته وكفَر بالله، تحدَّثنا عنه مرة، ماذا يقول عرفي Orfi؟ طبعاً منطق الذي يتردَّد إلى أكبر Akbar لابد أن يكون كذلك، يقول يا عرفي Orfi كُن حسن الأخلاق، وآت الحُسنى إلى الناس جميعاً، فإنك إذا مت غداً صلى عليك المُسلِمون، وحرقك الهندوس، طبعاً! حتى هذه النتيجة المئوية – مائة في المائة – لم يتحصَّل عليها محمد بن عبد الله، الرسول لم يكن كهذا الأنموذج العرفي، لا! الرسول لُعن وسُب وأُبغض أشد البغض وهوجِّر وأُريد اغتياله غير مرة – بضع عشرة مرة، عليه الصلاة وأفضل السلام -، لماذا؟ بالضبط لأن رسول الله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – لم يُرِد هذه الخُطة، ولم يسلك هذا الطريق، طريق الكذب والتناقض والنفاق والدهان والملق لم يُرِده رسول الله ولم يُرِده لأصحابه، أراد أن يكون فرقاناً، أراد أن يكون رحمةً على المُؤمِنين ولعنةً على الناكبين، أراد أن يكون ضياءً تسعد به عيون المُستبصِرين وتعشى به أبصار الخفافيش، هكذا أراد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهكذا كان، لم يتحصَّل على نسبة مائة في المائة، لم يتحصَّل، لا! أبداً أبداً، أحبه قوم وأبغضه قوم، أيَّده قوم ولعنه قوم، وهكذا أصحابه العظام، وأما عرفي Orfi ومُسلِم عرفي Orfi فهذا لا نُريده، هذا أحد أسباب دمارنا اليوم، أحد أسباب دمارنا! هذه هي الشخصية المُسماة بالشخصية الفهلوية، هناك الشخص الفهلوي والشاطر، هذه الشطارة! الشطارة أن تلعب بالبيضة والحجر، أن تلعب كل الأحبال، أن تأكل على كل الموائد، أن تلبس لبوساً لكل حالة، أنت المُنافِق، أنت الصفر، أنت بلُغة إقبال الزنديق المُلحِد، لا نصيب لك من الإيمان، أنت لم تعرف رسالة الإيمان ولا رسالة الإسلام.

هكذا يُحرِّر التوحيد والعبودية هذا الإنسان، يُحرِّره من كل المُطلَقات الزائفة، ومن هذه المُطلَقات الزائفة حتى شهوتك، ذاتك، أن تكون عبداً لذاتك، فضلاً عن أن تكون عبداً لأي شيئ من الأشياء، أنت حر من كل هذه الأشياء أبداً، وفي المُقابِل لا إله إلا الله، هو المُطلَق الذي يستوعب مسيراتك كلها، ولو عشت ألف ألف حياة لما استطعت أن تستوعب صفة واحدة من صفات هذا المُطلَق، لكنك تكدح باستمرار نحوها، وتُريد أن تُحصِّل أو أن تتحصَّل على قبس من أقباسها، فأنت في كمال – إن شاء الله – وأنت في خير وإلى خير.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُرقِّينا وأن يُكمِّلنا بإيمانه وتوحيده وأن نعبده حق عبوديته وعبادته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                    (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة والأخوات:

قبل أن نُغادِر هذا المقام أُريد فقط أن أُلخِّص كل هذا الحديث الطويل في كلمة واحدة، إذا أقبلت على عبادة الله – تبارك وتعالى – فاستحضر دوماً وأبداً أنك لا تقوم بعمل ولا تأتي  فاعليةً تعود إلى معنى يختص به هو – سُبحانه وتعالى -، هو الغني عنك، غني عن ركوعك وعن سجودك وعن بكائك وعن دموعك وعن نقودك، كل ما تفعله يا أخي المُسلِم – استحضر هذا دائماً وأبداً – تفعله أنت لنفسك، لنفسك أنت! أنت لا أقول تُجمِّع نقودك، والله كل واحد منا لو كان يعلم أنه كلما ركع أو سجد سقط عليه من السماء نقوداً ذهبيةً لظل يومه وليلته راكعاً ساجداً، ولقل نومه، فوالله الذي لا إله إلا هو إنك بصلاتك وعبادتك وتألهك لله وتزلفك لتُحصِّل ما هو أعظم من كل هذه النقود الذهبية، أعظم بمراحل! ماذا تُحصِّل؟ تُحصِّل كمال نفسك، عظمة نفسك، ليتحسَّر أو لتعظم حسرة امرئٍ منا على نفسه أن قد دخل هذه الدنيا وخرج منها – أكرمكم الله – وهو أشبه فعلاً بدودة، وهو أشبه بحيوان صغير مُستأنَس، لماذا؟ الإنسان أعظم من ذلك بكثير، أنت أعظم وأجل، إن الله – عز وجل – لم يرض لك أن تعبد شيئاً في كل هذا الوجود إلا هو، لماذا؟ لأنك أعظم من كل هذا الوجود، أعظم من أي شيئ في هذا الوجود، ولو قد جازت العبادة لغير الله لم تجز إلا للإنسان، أن يُعبَد الإنسان من دون الله، وإشارة إلى جُزء هذا المعنى وإلى كسر هذا المعنى أين؟ حين كان آدم مسجود الملائكة، أليس كذلك؟ حين كان آدم مسجود الملائكة، مسجودهم أو قبلتهم على التأويلين، إشارة إلى أنه بعد الله إن كان شيئ أو خلق يستحق العبادة – ولا يكون – فهو هذا الإنسان، فلماذا تُدسي نفسك؟ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۩ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ۩. 

اللهم اجعلنا من الذين يُزكون هذه الأنفس، فتكون كريمةً عليك وبك يا رب العالمين.

أيها الإخوة:

وبهذه الروحانية أو بهذه الروحية إذا أقبلتم على عبادتكم سهلت عليكم، وأصبحت لذة، وأصبحت قُرة عين، لماذا؟ لأنك تسعى في التكميل، تسعى في الترقية، تسعى في مزيد من النجاح، في مزيد من العلامات، وفي مزيد من الدرجات، وأنت تُريد ذلك لنفسك، وإن لم تفعل فأنت ظالم لنفسك، هذا الظلم ينتهي في أدنى درجاته بماذا؟ بالخُسران، أنت تخسر نفسك، قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ۩، يُمكِن أن تخسر نفسك بالكُلية، ولا يكون الخُسران بالكُلية إلا بالشرك بالله، بالكفر! وأما ما هو فوق ذلك فيكون بظلم النفس، بعدم إعطائها ما تستحقه من عبودية الله وعبادته، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۩، قال وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۩، ما معنى لم تظلم الجنة من أُكلها شيئاً؟ أي آتت أثمارها على الوجه المأمول، أي هذه الشجرة يُقدَّر أن تُنتِج – مثلاً – أو أن تأتي بخمسين كيلاً من الثمر فآتت بخمسين كيلاً، إذن لم تظلم نفسها، فأنت يا إنسان مُقدَّر لك أن تبلغ الدرجة المائة، فلا ترض بالتسعين ولا بالتاسعة والتسعين، حتى لا تظلم نفسك، إن فعلت ذلك فأنت ظالم لنفسك، وإن آتت نفسك أُكلها كل الأُكل فأنت الرابح – إن شاء الله تبارك وتعالى -، لقدسيتك وكرامتك عند الله فأنت أيضاً مُخاطَب الله، الله هو الذي خاطبك، هذا الكتاب يُخاطِبك أنت، أليس كذلك؟ فأنت مُقدَّس وكريم وكريم جداً، لقدسيتك وكرامتك عند الله – تبارك وتعالى – الله رضيَ الصفقة معك، ورضيَ أن يشتري منك النفس حين تكون كاملة، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم ۩، يقول مولانا غير حري وغير لائق أن يُجعَل الخنجر المُهنَد المُجوهَر مسماراً تُعلَّق فيه قرعة، فهكذا الإنسان غير حري وغير لائق أن يعيش وأن يموت دودة من ديدان الأرض، لابد أن يعيش ولابد أن يموت وهو إنسان، كامل في ذاته، يسعى إلى الكمال وإلى تكميل الآخرين.

اللهم أنت أصلحت الصالحين، فأصلِحنا لك يا رب العالمين، وكمِّلنا بما كمَّلت به عبادك الكاملين، اللهم اعصمنا فيما بقيَ من أعمارنا، واغفر لنا ما أسلفنا في ماضيها يا الله، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 (22/8/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: