إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ۩ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ۩ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ۩ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الكريمات:

خطابٌ لجماعة المُؤمِنين والمُؤمِنات، كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ۩، نحن مدعوون أن يكون الحق آثر لدينا من أنفسنا، أين يُمكِن أن نجد مثل هذه الدعوة؟ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ۩، لا ينبغي أن تجرنا العواطف وأن تستميلنا أهواء القرابة والنسب إلى أن نجور ونمين ونحيف في الحُكم.

أيها الإخوة:

في ضوء هذه الآية الكريمة وأمثالها – وهن آيات كثيرات – وفي ضوء النصوص المُصطفوية – على صاحبها أفضل صلاة وأجل تسليم – نشأ جو عام ورؤية مُشترَكة بين المُسلِمين، تقريباً في كل أعصارهم على تفاوت، مفادها أن العدل قيمة مُطلَقة، وليست نسبية، ومعنى أن العدل قيمة مُطلَقة أنه واجب السريان والالتزام في كل الظروف بلا مثنوية وبلا استثناء، لا استثناء بخصوص هذه القيمة، لا استثناء مع الأقرباء أو حتى مع النفس بدرجة أولى ومع الأحباء والأوداء، لا استثناء قُبالة وإزاء الأعداء، حتى مع العدو! وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ۩، ولا يحملنكم بُغضهم وشنآنهم، عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۩.

أيضاً مرة أُخرى نُكرِّر السؤال، ولا بأس أن نُبديء ونُعيد، أين يُمكِن أن نجد مثل هذه الدعوة؟ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۩، لقد فهمت هذه الأمة المرحومة أن العدل – وهذا تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية، قدَّس الله سره الكريم – نظام كل شيئ، لا يقوم أي شيئ ولا ينتظم أمره إلا بالعدل، والعدل حقيقته ماذا؟ الحيدة، الموضوعية، المُساواة، والاعتدال، هو الاستواء، اعتدل النهار إذا استوت الشمس في كبد السماء، الاعتدال يأتي من المُساواة، وهذه هي المُساواة المُطلَقة بإزاء القانون الواحد الحاكم على الجميع، إنه شرع الله – تبارك وتعالى -، شرع الله الذي لا يُحابي أحداً، لا يُحابي البيض لبياضهم ولا السود لسوادهم ولا الأغنياء لغناهم ولا المُتنفِّذين لسُلطتهم الإدارية وما إلى ذلكم، إنه رب العالمين، رب البشر أجمعين، هذه هي الضمانة – أيها الإخوة والأخوات – الوحيدة والمُطلَقة لتحقيق العدل في الدنيا.

الآن إنهم يبحثون عن مُبرِّرات نظرية لقيمة العدل، مرة في القانون البشري الروماني ومرة في القانون الطبيعي، وهذه مسألة فلسفية، تنتمي إلى فلسفة القانون، ولا أُريد أن أخوض فيها، مسألة يتسع فيها القول جداً، ولكنهم فاشلون في كل الأحوال، وبقيَ المعيار النظري الوحيد، وهو المصلحة أو الصالح العام، والصالح العام لكل شعب ولكل أمة ولكل دولة ولكل قبيلة يتناقض ويتناكد بلا شك مع الصالح العام لأمة أو شعب أو قبيلة أُخرى، ومن هنا الاحتراب الدائم، ومن هنا هذا التوحش العجيب.

إن المرء لا يستطيع إلا أن يُستثار وأن يكون مُتحفِّزاً شاعراً بأن الغضب ملء عطفيه أو أعطافه، حين يرى أن البشرية الآن أجمعت تقريباً على أن المُقاوِم الفلسطيني مهما كان لونه أو وصفه أو عنوانه إرهابي، حتى السياسي الذي يُقاوِم بالكلمة – بالكلمة فقط – هو إرهابي أيضاً، أين العدل؟ أين الانصاف؟ لكن لا علينا، لا ينبغي أن نلوم الآخرين، فالآخرون لم نعتقد يوماً أنهم كانوا أكفاء أو أوفياء لأن يُقدِّموا لنا فضلاً عن أن يتقدَّموا للبشرية جمعاء بنظرية أو بمنهاج أو بأيديولوجيا أو برؤية عامة مُنصِفة، تحكي العدل، وتُترجِم الرحمة والمُساواة، لم نطمع ولا ينبغي أن نطمع يوماً.

إذا كان هناك ملأ أو نفر أو أمة من الناس تُعقَد عليها الآمال في تقديم مثل هذا الشيئ المأمول فلن تكون إلا هذه الأمة المرحومة فقط ووحدها، وقد نجحت في التاريخ أن تفعل ذلك، ولو على تفاوت، ما لم ينجح غيرها في أي نطاق أو في مجال وعلى أي درجة ومُستوى أن يكون قريباً منها، فضلاً عن أن يُنظَّر بها أو يُمثَّل بها، هذا ما لم يحدث، وتقريباً لن يحدث، لأن كل الوقائع تُؤكِّد أنها تجري في اتجاه مُخالِف تماماً، وهكذا! فمثل هذه الأمور فعلاً يستشعر معها وبها وبسببها المرء من أعمق أعماقه مدى حاجة البشرية – كل البشرية – إلى شرع الله – تبارك وتعالى -، صدِّقوني! وأنا مثلكم جميعاً، ابن هذا الدين، قضيت حياتي في درس قوانينه وشرعه وشعائره مُنذ نعومة أظفاري، وما زلت، وأسأل الله أن يتوفني على ذلك، في هذه الفترة بالذات بدأت أستشعر وكأنني أفهم هذا لأول مرة، فعلاً أن هذا الدين ضرورة، هذا الإسلام العظيم ضرورة لكل البشرية، قد كنت أقول ذلك وأنا صغير أيضاً مُنذ نعومة أظفاري بصيغة احتفالية خطابية، مُجرَّد تكرار وترداد، ليس عندي مُبرِّرات حقيقية أستطيع أن أُبرِّر وأن أُسوِّغ بها مثل هذه الدعوى، الآن اختلف الوضع تماماً، لقد غدا أحدنا يستشعر – كما قلت – من أعمق أعماقه أن هذه البشرية كلها في حالة اختطاف، إنها مُختطَفة، كما يُقال في اللُغة الدارجة على كف عفريت، هذه البشرية يُمكِن أن تضيع، وقد شهدت في قرن واحد حربين، لا أقول كونيتين أو عالميتين، بل غربيتين، ولكنهما أثَّرتا على العالم برُمته، راح ضحيتهما في أقل تقدير سبعون مليوناً من البشر، في قرن واحد! ولم يكن بينهما إلا ثُلث قرن تقريباً أو أقل من ذلك بقليل، شيئ عجيب، تجربة لا يُمكِن أن يتسع معها أُفق الأمل، بخلاف تجربة المُسلِمين.

في هذا المقام الكريم – إن شاء الله – أُريد أن أتحدَّث فقط عن العدل أمام القانون، أمام شرع الله – تبارك وتعالى -، وماذا قدَّم الإسلام في هذه القضية وفي هذا المجال؟ وهذا الحديث ليس للآخرين، لنا نحن، لأننا أمة أيضاً تُحسِن جداً بل مرنت وتمرَّست على أن تظلم نفسها وعلى أن يظلم بعضها بعضاً، وقد جعلها هذا الدين العظيم نفساً واحدةً، كالنفس الواحدة، إلا أن هذه النفس في حالة تشاكس للأسف مع الذات، مع الأنا! فنحن نحتاج إلى التذكير دوماً وأبداً بأمثال هذه المفاهيم وبأمثال هذه القيم.

أيها الإخوة:

وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ۩، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – تعلمون أنه أول مَن سن للناس القود والقصاص من نفسه، ولست محوجاً أن أُذكِّر بأنه لم يكن مُجرَّد إمام دولة، إنه أولاً وأخيراً رسول رب العالمين، بل خاتم الأنبياء والمُرسَلين، وآثر هذه الأمة عندها، أحب هذه الأمة عندها، أحب هذه الأمة بالمُطلَق عندها – أي عند هذه الأمة – هو رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، كان الجميع يعرضون تفديته بالنفس والمال والولد، بكل شيئ! ومع ذلك هو الذي سن للناس القود والقصاص من نفسه، إذا أخطأ أو تجاوز فلهم أن يقتصوا منه، بل قال ما هو أبلغ وأبعد وأعمق من ذلك، وقف – روحي له الفداء وأرواح العالمين من أمته، عليه الصلاة وأفضل السلام – يوم حجة الوداع يقول لهم الآتي، وقف – عليه الصلاة وأفضل السلام – قائلاً ألا مَن كان له عندي حق من مال فليأخذ حقه، ومَن كنت ظلمته أو شتمته في عِرضه فهذا عِرضي فليستقد مني، الله أكبر! ألا وإن أحبكم إلىّ مَن أخذ حقه إن كان له حق عندي، أو أحلني منه حتى ألقى الله وأنا طيب النفس، يقول لا أقول هذا مُجامَلةً أو تمظهراً، النبي هو سيد الصادقين – عليه الصلاة وأفضل السلام -، البارئ كل البراءة من التكلف والنفاق والتمظهر والتمثيل، حج حجته هذه التي نحن بصدد التذكير بأحد مواقفه ويقول مُنكِّساً رأسه خاشعاً مُتخشِّعاً اللهم حجة لا رياء فيها ولا سُمعة – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، هذه الأدواء النفسية هي التي قد اغتالت الكثيرين منا، الرياء والتمثيل والتمظهر والمُحاباة الباطلة للأسف شيئ في الحق وفي الباطل، يقول إلا وإن أحبكم إلىّ مَن أخذ حقه إن كان له حق عندي، أو أحلني منه حتى ألقى الله وأنا طيب النفس – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

هناك ما هو أبلغ من ذلك، طبعاً وبدهي أن مَن أقص وأقاد من نفسه وهو رسول رب العالمين وإمام الأمة جميعها في كل أعصارها وأمصارها وأصقاعها أنه يُقيد العامة أمثالنا مِمَن؟ مِن المُتنفِّذين، مِن أصحاب السُلطان والهيل والهيلمان، لابد أن يُقادوا بلا شك، لابد! ولذلك كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أول مَن سن ما عُرِف بعد ذلك بولاية المظالم، وأُنشئ لها يدوان عُرِف بديوان المظالم، ديوان المظالم يُمثِّله بعض العصريين بالمحكمة العُليا، محكمة الاستئناف العُليا، أو بما يُعرَف بالقضاء الإداري، حيث لا يستطيع قاض عادي طبيعي أن يُقاضي بعض المسؤولين والمُتنفِّذين لما لهم من مكانة وظيفية أو مكانة اجتماعية، لما لهم من سُلطان، لما لهم من سطوة إدارية، لا يستطيع! لكن في المحاكم العُليا تستطيع ذلك، لماذا؟ لكي تُشعِر الجميع هيبة الدولة وسيادة القانون على الجميع، على الكبير والصغير، لكن مدى التطبيق الذي تتحرَّك فيه هذه المفاهيم هذا شيئ مُختلِف.

النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أول مَن سن هذه السُنة، فإذا تحدَّثنا عن ولاية المظالم فالنبي هو الذي أرسى دعائمها – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، جاءه وفد عبد القيس من البحرين، وشكوا إليه صاحبه الذي ولاه عليهم العلاء بن الحضرمي، ومَن هو العلاء بن الحضرمي؟ إنه أحد أولياء – نجم من نجوم الولاية – هذه الأمة، أحد أولياء هذه الأمة! هذا الرجل عندما أراد أن يفتح البحرين خاض هو وجنوده – قيل كانوا خمسة آلاف وقيل أقل من ذلك – مخاضة، نهراً صغيراً، صلى ركعتين ثم دعا الله ثم قال بسم الله، خوضوا وجوزوا بسم الله وعلى بركة الله، والله – يقول الراوي – ما ابتل حافر فرس من أفراسهم، أحد أولياء هذه الأمة! وقصة شهادته وموته عجيبة جداً، كيف حشره الله أو كيف سيحشره من بطون الطير لأنه دعا الله بذلك؟ رضوان الله تعالى عليه، هؤلاء هم ولاة محمد، هؤلاء هم عُمّال رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أي الولاة، العُمّال هم الولاة.

العلاء بن الحضرمي لا ندري ما الذي شكوه منه، لكنهم شكوا العلاء إلى رسول الله، فأقاله النبي مُباشَرةً، لابد أن ترضى الرعية، المناط هنا ما هو؟ وتصرف الإمام منوط بماذا؟ بمصلحة الرعية دائماً، فإن لم ترض الرعية وأُوحش ما بين الرعية والإمام فلا، انتهى الأمر، أقاله النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وولى عليهم أبان بن سعيد، وقال له استوص بعبد القيس خيراً، وأكرم سراتهم، كانت أول حادثة سُن بها ولاية المظالم، يُقاد من الأئمة ومن العُمّال، صحيح جاء بعد ذلك بعض حكّام المُسلِمين وسن سُنة السوء، التي لم تزل مُتبَعة في كثير من الأزمان والأصقاع، قال إني لا أُقيد من ولاتي، ونحن نقول لا سمع له ولا طاعة، ولبئس ما قال، ولبئس ما قال، النبي هو الذي سن ذلك، مَن أنت حتى تقول لا أُقيد من ولاتي؟ وهكذا جرى للأسف الشديد، هكذا جرى!

نأتي إلى أصحابه، نأتي إلى عمر الفاروق – رضوان الله تعالى عليه -، عمر الفاروق بعميق نظره وهو الرجل المُحدَّث المُلهَم – مُحدَّث أمة محمد، عليه الصلاة وأفضل السلام، ورضيَ الله عن الفاروق وأرضاه – علم أن القضاء لابد أن يستقل، لماذا؟ استبحر العُمران، ترامت وانداحت رُقعة الدولة الإسلامية الآن، وكان من المُعتاد أن أحداً من الرعية إذا ظُلِم فإذا كان الذي ظلم من عامة الرعية وسواء الناس تقاضى إلى القاضي المحلي، إلى قاضي الولاية، سواء في الكوفة أو في البصرة أو في مصر أو في أي مكان، أما إذا كان الذي ظلم أمير العسكر –  مثلاً – أو رئيس الجيش أو الوالي نفسه – أعلى سُلطة محلية بعد الخليفة – فكانت السُنة أن يغدو كما تعلمون – أي يغدو هذه المظلوم – إلى عاصمة الخلافة، إلى حاضرتها، إلى مدينة رسول الله، وثمة الخليفة، ثمة عمر بن الخطاب – مثلاً – أو أبو بكر من قبل، يأتي ويتظلَّم، ولا ينتظر إلا النصفة، لم يكن هناك إلا الانصاف، لا تُوجَد مُحاباة عند أبي بكر أو عند عمر، لم يكن هناك إلا الانصاف بلا شك، لكن حين انداحت رُقعة الدولة وترامت واتسعت كان يشق جداً على كل مَن ظلمه أمير أو أحد العساكر الكبار أو الوالي أن يترك بلده وأن يأتي إلى مدينة رسول الله، لأن الدولة أصبحت واسعة، فهنا انظروا إلى هذا الرجل المُلهَم، نحن للأسف لا نعرف عن عمر إلا بضع كلمات، أنه نفخ في النار وأنه حمل الدقيق، لا! لابد أن ندرس هذه الشخصية العظيمة دراسة مُعمَّقة، لنعرف أُسس فلسفة الإسلام في نظامه السياسي، في نظام الحُكم والإدارة، وعمر هو المثال، عمر هو النجم، إذا ذُكِر هذا الموضوع فهو النجم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

مُباشَرةً هنا بعد شطر يسير من خلافته سن هذه السُنة الجديدة، ما هي؟ استقلال القضاء عن السُلطة التنفيذية، يتحدَّث الغربيون بتبجح عن الفصل بين السُلطات، وأول مَن تحدَّث في ذلك جون لوك John Locke، صحيح هناك بذور بسيطة ساذجة في كلام لأفلاطون Plato وأرسطو Aristotle، لكنها لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، أول مَن تحدَّث مِن الفلاسفة المُحدَثين هو جون لوك John Locke، ثم بعد ذلك أول مَن فصل تفصيلاً حسناً وكاملاً – وفعلاً هو تفصيل حسن ودقيق جداً – مونتسكيو Montesquieu في روح القوانين، لكنهم مسبوقون، مسبوقون بقرون وهم لا يعلمون، عمر بن الخطاب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – هو أول مَن فعل ذلك، فصار يُعيَّن القُضاة، ولهؤلاء القُضاة أن يُقاضوا الولاة، الوالي يخضع للقاضي، الخليفة نفسه كان يخضع للقاضي، وهذا شيئ عجيب.

يتحدَّث الإمام المعروف بوكيع – رحمة الله تعالى عليه – المُتوفى سنة ثلاثمائة وست للهجرة في كتابه الشهير أخبار القُضاة وهو كتاب عجب – تقرأون فيه من أنباء هذه الأمة وعدلها ورحمتها الشيئ الذي لا يُقضى منه العجب – عن أن خلافاً نشب بين أمير المُؤمِنين عمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى عليه – وبين واحد من الرعية، وهو الصحابي الجليل القارئ المُقرئ أُبي بن كعب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، ولكنه من عامة الناس، هو لم يكن والياً ولا أمير عسكر وما إلى ذلك، من عامة الناس، من سواء الناس، ادّعى أُبي على عمر دعوى، ولم يعرفها عمر، فقال هيا نتقاضى إلى زيد بن ثابت، وكان عمر قد ولاه القضاء، أسند إليه هذه الخُطة، أي خُطة القضاء، استعمله على القضاء، فأتيا إليه كلاهما في البيت، في بيته! أمير المُؤمِنين – الخليفة، إمبراطور الأمة – أتى إليه، وقال له يا زيد في بيته يُؤتى الحكم، لقد ريع زيد، راعه هذا الأمر، أمير المُؤمِنين يأتيه في بيته؟ فقال له يا زيد في بيته يُؤتى الحكم، أنت الحكم، كما يُؤتى العالم يُؤتى القاضي، ونحن نأتيك في بيتك، فتنازل له وأوسع له في صدر مجلسه، قال ها هنا يا أمير المُؤمِنين، ها هنا، هذا أمير المُؤمِنين عمر بن الخطاب! فقال عمر هذا أول جورك في القضاء يا زيد، لم تجعلني وخصمي سواء، أأنا أجلس في صدر المجلس؟ انظروا، ما هذه الأمة الأمينة على مبادئ السماء والوفية على سُنة وسنن نبيها أن تسير فيه – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟!

قال هذا أول جورك في القضاء يا زيد، فاعتذر زيد، وهكذا ادّعى أُبي بدعواه، وأما عمر فلم يكن عنده ما يدفع الدعوى، والبيّنة على مَن ادّعى واليمين على مَن أنكر، فلابد أن يحلف هنا أمير المُؤمِنين، واستحيا زيد أن يستحلف أمير المُؤمِنين، أهو الذي يُكذَّب؟ مثله مَن يُكذَّب؟ وقد صدَّقه القرآن في أكثر من عشرين موضعاً، مُوافَقات عمر ليست ثماني مُوافَقات كما هو شائع، أكثر من عشرين مُوافَقة، القرآن صدَّقه فيها – رضوان الله تعالى عليه -، أمثله يُكذَّب أو يُزَن أو يُظَن به الكذب؟ فاستحيا زيد، وهو – والله – معذور، أي زيد، لكن العدل فوق الجميع، العدل فوق الجميع! مُطلَقة كما قلنا، قيمة مُطلَقة، لا استثناء لا لعمر ولا لرسول الله، شيئ عجيب، كيف تتظالم هذه الأمة إذن إن لم تكن جاهلة الجهل كله بدينه وإن لم تكن كاذبة دعية مُنافِقها في ادّعائها للإسلام؟ الإسلام ليس مظاهر ورسوم، إنه هذه الحقائق بالذات.

ولم أُكمِل للأسف كلمة ابن تيمية حين قال العدل نظام كل شيئ، الدنيا إذا قامت بعدل استقامت، تقوم بالعدل ينتظم أمرها، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، وإن لم تقم بالعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة، الله أكبر، ما أعظم هذه الكلمة! ما أعظم هذه الكلمات النيرات! إنها من تأييد وتسديد الله لهؤلاء الأئمة الأعلام، لا تقوم الأمة حتى وإن كان صاحبها من المُؤمِنين، لا تقوم إلا بالعدل، حتى وإن كان صاحبها من الكافرين، تقوم بالعدل، ولا تقوم بالإيمان مع الظلم والجور، وهكذا!

قال زيد بن ثابت يا أُبي اعف أمير المُؤمِنين من الحلف، وإني لم أكن لأسألها – أي هذه المسألة – لأحد غيره، فقط لأنه عمر بن الخطاب، فغضب عمر، وحلف من نفسه، ثم قال حالفاً أيضاً والله لا يلي زيد بن ثابت لعمر قضاءً، لأن عمر لا يستوي عنده وهو واحد من المُسلِمين، هذا غضبي عليك، ويا زيد انتهى الأمر، نحن عزلناك، والله لا يلي زيد بن ثابت لعمر قضاءً، لأن عمر لا يستوي عنده وهو واحد من المُسلِمين، ينبغي أن أكون كآحاد الرعية، إنه العدل الذي قامت به السماوات والأرض.

يشتري أمير المُؤمِنين عمر – رضوان الله تعالى عليه – يوماً فرساً من رجل، من عُرض الناس، وما هو إلا أن يركب هذا الفرس فيسير به مُريحلة يسيرة حتى يبدأ في الظلع، يشكو شيئاً هذا الفرس، ولا يستطيع إكمال المسيرة، فينزل عمر ويعود مُباشَرةً إليه، والقضية ربما لم تستغرق نصف ساعة، يعود إلى الذي اشتراه منه، ويقول له يا رجل خُذ فرسك ورد علىّ نقودي، فالفرس معطوب معيوب، معيب! قال يا أمير المُؤمِنين لا، لقد أخذته سليماً، فرده سليماً، رفض! يُطالِب بحقه بقوة من أمير المُؤمِنين، شيئ عجيب، كلام نسمعه كالأساطير وكالأحلام، والله لن يكون لنا إسلام ولن تقوم لنا قيامة إلا إذا فهمنا أن الإسلام هو هكذا، وهكذا ينبغي أن يكون، وهذا الإسلام الذي ينصره الله، كما قلت لكم ليس إسلام الرسوم والمظاهر والكذب، هذا الذي يُريده الله لنا وللعالمين، وبه يُمكِن فعلاً وفقط أن تُنصَر هذه الأمة – إن شاء الله تبارك وتعالى -، إنها أمة رسالة وأمة دين.

فقال لنتقاضى، عمر لم يرض بهذه الحُجة، فقال لنتقاضى، قال إلى مَن؟ فاقترح الرجل شُريحاً، شُريح بن الحارث الكندي، وكلكم يسمع بهذا الاسم، إنه أسطورة القضاء الإسلامي، القاضي شُريح! هناك شريك وهذا قاضٍ مُختلِف، أيضاً هو رجل عظيم، لكن ليس كشُريح، شُريح الذي قضى أكثر من ستين سنة في القضاء، وذلك في زمن عمر وزمن عثمان وعليّ ومُعاوية إلى عبد الملك بن مروان، وهو الذي استعفى الحجّاج بنفسه، فأعفاه الحجّاج، وقد اقترب من مائة وعشر سنوات، أناف على المائة – رضوان الله تعالى عليه -، أسطورة القضاء الإسلامي شُريح بن الحارث الكندي، قال عمر قد رضيت به، أسمع عن هذا الرجل، سُمعته طيبة، لا يعرفه عمر من قبل شخصياً، ولكن يسمع عنه أنباء طيبة، قال قد رضيت به.

فصارا إلى القاضي، وادّعى عمر دعواه، وأجاب الرجل، فقال القاضي يا أمير المُؤمِنين هل استلمت هذه الفرس أو هذا الفرس سليماً؟ قال نعم، قال رد كما أخذت أو أمسك، قال كلمتين! رد كما أخذت أو أمسك، قال أمير المُؤمِنين عمر وهل القضاء إلا هكذا؟! الله أكبر، وهل القضاء إلا هكذا؟! قول فصل وحُكم عدل، أحسنت يا شُريح، سر إلى الكوفة، فقد وليتك قضاءها، هكذا يختارون الرجال! لقد أنعم الله على الأمة بهذا الاختيار العُمري، حين اختار هذا الرجل من بين سائر القُضاة ليكون قاضي المُسلِمين في الكوفة، وهي بلد وحاضرة من حواضر الدولة الإسلامية على الأقل فيما بعد، قال سر إلى الكوفة، فقد وليتك قضاءها، إنه يقضي على أمير المُؤمِنين!

قصة الإمام عليّ – عليه السلام وكرَّم الله وجهه – المشهورة جداً مع اليهودي كان نجمها وعلمها بعد عليّ القاضي شُريح، الإمام عليّ يتفقَّد متاعه الحربي فيجد أنه قد فقد الحُطمية، درعه الأثيرة العزيزة على نفسه، لأن عثمان بن عفان – رضوان الله تعالى عليه – هو الذي أهداه هذه الدرع لدن خِطبته فاطمة الزهراء – عليها السلام -، أثيرة وعزيزة الحُطمية على نفسه، وبين هو يمشي ذات يوم في السوق إذ رأى يهودياً وبيده هذه الدرع، فقال يا رجل هذه درعي، قال يا أمير المُؤمِنين ليست درعك، وإنها لملكي، البيّنة! درعي، قال يا رجل لم أبع ولم أهب، فكيف صارت إليك؟ درعي أعرفها، هذه الحُطمية، وأنا لم أبعها فيُقال إنك أخذتها بعد ذلك بطريق المُشاراة أو الابتياع والمُعاوَضة ولم أهبها لأحد حتى يكون هذا قد باعها أو وهبها فصارت إليك، درعي لم أبع ولم أهب، قال يا أمير المُؤمِنين درعي، نتقاضى، إلى مَن؟ إلى شُريح القاضي، مشهور في الكوفة، والإمام عليّ كان أميراً للمُؤمِنين في الكوفة، عاصمة الخلافة كانت هي الكوفة أيام الإمام عليّ – عليه السلام -، فقال قد رضيت، فصارا إلى القاضي، وسمع القاضي من كلٍ، وقد استويا في المجلس، سوى بينهما في المجلس، لكنه فقط خاطب عليّاً بالإمرة، إمرة المُؤمِنين، فنقَّد عليه في ذلك، ينبغي أن تُخاطِبني بيا عليّ كما خاطبته باسمه، ليس بالإمرة، فقط أخذ عليه هذه الهنة أو هذه الوهلة، ذهول صغير جداً، غير مقصود من شُريح – رضوان الله تعالى عليه -، سبق لسان كما يُقال.

قال شُريح يا أمير المُؤمِنين أُريد البيّنة، أُريد شاهدين، قال نعم، ابني الحسن وعبدي أو مولاي قنبر، قال يا أمير المُؤمِنين الحسن ابنك، أي ولدك، ولا شهادة من ولد لأبيه، مرفوضة! قال يا سُبحان الله، رجل من أهل الجنة وأنت تعلم قول رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – الحسن والحُسين سيدا شباب أهل الجنة، تُرفَض شهادته؟ قال نعم، إنه لكذلك يا أمير المُؤمِنين، ولكنه القضاء، قوانين هذه، سيادة للشرع على الجميع، عليك وعلى الحسن، على الجميع! إنه القضاء يا أمير المُؤمِنين، فضحك عليّ – عليه السلام -، والتفت إلى اليهودي، وقال خُذها يا يهودي أو خُذها يا ذمي فليس عندي من الشهود غيرهما، فقط الحسن وقنبر، ومرفوضة الشهادات.

وهنا أخذها اليهودي ولم ينبس أن قال مُبتدئاً أما إنها لك يا أمير المُؤمِنين، يا لله أمير المُؤمِنين يُقاضيني إلى قاضيه ويقضي قاضيه عليه لي! بالعدل قامت السماوات والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يا أيها القاضي لقد اتبعت الجيش غداة مسيره إلى صفين، فوقعت هذه الدرع من جمله الأورق، يعني الإمام عليّاً، فأخذتها وهي له، قال عليّ صدقت، وهي لك، وأُهديك إلى جانبها هذا الفرس، منحةً طيبةً به نفسي، الخُلق النبوي، نبعة محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وخُلق أصحاب رسول الله أيضاً.

فأخذهما اليهودي، ومضى بهما، ولم يره الإمام عليّ إلا يوم النهروان، في معركته الشهيرة مع الخوارج، يُقاتِل فارساً في صفوف الإمام عليّ، ورزقه الله الشهادة، الله أكبر! يهودي يُسلِم ويُقاتِل ويقع شهيداً، ببركة ماذا؟ العدل، العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ۩، الله أكبر! وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ۩.

هذا القاضي شُريح – رضوان الله تعالى عليه -، وكان فصيحاً بليغاً مُسدَّداً مُؤيَّداً، يقول مَن عرفه إذا رأيته وقد أرم ثم تكلَّم فالظن أنه يُؤيَّد، ملائكة تنزل عليه، مُستحيل! كلامه ليس كلام بشر، أي شُريح، وقد قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن سأل القضاء وسأل فيه الشُفعاء وُكل إلى نفسه، ومَن أُكرِه عليه أرسل الله إليه ملكاً يُسدِّده، ومن هنا قالوا كأنه يُؤيَّد، يُسدَّد، ملائكة تنطق على لسانه، تنطق بلسانه – رضيَ الله عنه وأرضاه -.

يأتيه ابنه – ابنه، فلذة كبده – في يوم من الأيام، ويقول له يا أبت بيني وبين آل فلان خصومة، هناك مُشكِلة أو قضية، حكومة! هناك خصومة، وهي كذا وكذا وكذا وكذا، قصها عليها، فماذا أفعل؟ أُقاضيهم إليك أو أُصالِحهم؟ هناك الصُلح، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۩، الصُلح ليس كمُر الحق الذي يأتي به القضاء، يُمكِن أن يتنازل كل طرف عن بعض حقه، وهذا هو حقيقة الصُلح، فقال لا، بل قاضهم إلىّ، ومعنى ذلك أن الحق مع ابنه، قال بل قاضهم إلىّ، فانطلق ولده محبوراً مسروراً وأتى بهم، وطبعاً أتى شهود كثيرون وأتى أُناس كثيرون، لماذا؟ هذه الواقعة أو هذه الحكومة مع ابن القاضي، مع ابن شُريح نفسه، وهكذا أصبح المكان كظيظاً من الزحام، وتكلَّم هؤلاء وتكلَّم الولد، فقضى القاضي لهم على ابنه، الحق معكم، وهو مُبطِل، فغضب الولد، وعاد مُباشَرةً إلى الدار، أكب مُحزناً واجماً، فلما عاد أبوه القاضي قال له يا أبتِ فضحتني، والله لولا أنك وعدتني وكلَّمتك ما لُمتك، ولكن أنا كلَّمتك في القضية، فلِمَ وعدتني؟ قال يا بُني قد كنت – والله – أعلم أن الحق لهم، ولكني خشيت أني إن قلت لك إن الحق لهم تُخالِف إليهم – أي تذهب إليهم من ورائي – وتُصالِحهم صُلحاً يضيع معه بعض حقهم، الله أكبر، الله أكبر، لا يُريد الصُلح هنا، لأن الصُلح قد يُفوِّت عليهم بعض حقهم، يُريد لهم بمُر القضاء أو بمر الحُق أن يحتاز لهم كامل حقهم، وإنك لأحب إلىّ من ملء الأرض من أمثالهم، لكن الله أعز وأحب إلى نفسي منك، أُحِبك حُباً جماً، لكن الحق، الله – تبارك وتعالى -، هيبة الله، جلال الله، ودين الله أعز وأحق وآثر عند نفسي، رضيَ الله عنهم وأرضاهم، شيئ عجيب.

هارون الرشيد – تعلمون هذا الإمبراطور الكبير – كان عنده قاضي القُضاة الذي تكلَّم فيه بعض الناس بالباطل وأنه من مُنافِقي سُلطة الرشيد وقد أثموا وسفهوا أنفسهم بهذا الغلط على هذا الإمام الجليل، وهو أول مَن خُطت له خُطة قاضي القُضاة، وأول مَن لُقَّب بهذا اللقب، يُسمى في بلاد الأندلس قاضي الجماعة وفي المشرق قاضي القُضاة، وهو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الكوفي – تَلميذ أبي حنيفة، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -.

أبو يوسف قاضي القُضاة، يرد شهادة الرشيد، والرشيد هو الذي جعله مُفتياً وقاضياً وعالماً مشهوراً ووسَّع له وأغدق عليه، ولكن الحق آثر من نفسه وآثر من الرشيد، والرشيد يُريد أن يشهد فيه شهادة، شهادة يشهد فيها رجل عدل من عدول المُسلِمين، من عُرض الناس، فيرد أبو يوسف شهادة الرشيد، وطبعاً بعض الناس يقول عجيب، هل هذا فعلاً من وقائع تاريخنا؟ نعم، وبعض الناس يقول إذن فلِمَ تُحدِّثوننا عن سوءات أو بعض مساوئ تاريخنا؟ تاريخنا ليس كله على هذا النمط، ولا على هذا الطرز، الرشيد نفسه عنده مظالم، وعنده بوائق، ولكن عنده محاسن، لماذا نحن نُغمِض أحياناً عن الرشيد وأمثاله؟ لأننا نُعيِّره ونُحاكِمه إلى ماذا؟ إلى الأُفق الأعلى، إلى المثال الإسلامي، ما هو المثال؟ مثال الكتاب والسُنة، إلى الشريعة الإسلامية، لا نُعيِّره بأفكار الغرب وأفكار الشرق، لا نُعيِّره بالحاكم الفلاني من حكّام العرب المُعاصِرين المعاجيف المهازيل ولا حكّام الغرب المُنافِقين الكذبة المُجرِمين عالمياً – أي الدوليين – أبداً، إنما نُحاكِمه إلى ونُعيِّره بالقانون القرآني، بالأُفق القرآني، ولذلك نراهم أحياناً صغار وظلمة وقتلة، مع أنهم خير من أمثال الأرض من هؤلاء الذين فسدت بهم أرض الناس ودنيا الناس اليوم من العرب والعجم – والعياذ بالله منهم ومن أمثالهم -، هكذا إذن.

فيرد شهادته، لماذا؟ يقول له لأنك مُتكبِّر، قال يا أبا يوسف أنا مُتكبِّر؟ قال نعم، أين الكبر؟ قال لأنك لا تُصلي مع الجماعة، لا تُصلي مع الناس، تُصلي وحدك في القصر، فاضطر الرشيد اضطراراً أن يفتتح مسجداً كبيراً في قصره، وأن يُصلي الناس – أي العامة – فيه، ويُصلي هو معهم، قال الآن أقبل شهادتك، تُصلي مع الناس، مع عُرض الناس، مع الضعفاء، ومع المساكين، إذا كنت تُصلي وحدك فأنت مُتكبِّر مُتعجرِف مُتغطرِس، الآن بعض الناس – من عُرض الناس – لا يُمكِن أن يُصلي إلا في أماكن بأعيانها، لماذا؟ ليس حرصاً على العلم والهُدى والخير، لكن لأنه يلتقي بالكُبراء والعلية، وهو الرجل يحسب نفسه منهم، فلا كان ولا كانوا، لا كان ولا كانوا! إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۩.

محمد بن عبد الله الصعفري أحد قُضاة المُسلِمين في الدولة الأيوبية، يرفض شهادة الملك الكامل الأيوبي، ومعروف مَن هو الملك الكامل، وكان فيه شيئ من بطش وعسف، يرفض شهادته! أخذ عليه بعض المسالك والأفعال، قال تُجرِّحه أو تَجرَحه عندي، مجروح وأنا أرد شهادته، الله أكبر! يُوجَد نوع من استقلال القضاء إذن، يُوجَد نوع من هيبة القانون، يُوجَد نوع من تقديس قيمة العدل.

وأختم بهذه القصة العجيبة، ولعلكم سمعتموها مرة مني، عن الإمام الفقيه البليغ الفصيح الصليد في دين الله وفي الحق، الذي لا يخشى في الله لومة لائم، بحر العلم، الإمام مُنذِر بن سعيد البلوطي – رضوان الله تعالى عليه -، هذا الرجل كان من أئمة الأندلس، وكان في زمن أعظم ملوك الأندلس تقريباً، وهو عبد الرحمن الناصر، باني الزهراء، باني مدينة الزهراء وقصر الزهراء الناصر، أبو الحكم بن الناصر! والذي كان يُغازي بالمُسلِمين دوماً، صيفاً وشتاءً، وفتح الله عليه الفتوح العظيمة، رجل معروف هذا، من أجلة ملوك المُسلِمين وسلاطينهم، أي عبد الرحمن الناصر – رحمة الله عليه رحمة واسعة -.

لما بنى الزهراء – الناصر بنى الزهراء، وهي مدينة عجيبة، لم يُسبَق إلى بناء مثلها أو قريب منها – جلس هكذا فيها يوماً، وأراد افتتاحها للرعية، فافتتحها، وكان الخطيب مُنذِر بن سعيد البلوطي، أتى بخُطبة عجيبة، ابتدأها بفصل غريب، استله من كتاب الله، قال أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ۩ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ۩ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ۩ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۩ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ ۩ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ۩ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۩ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۩، الله أكبر! ثم قال مُباشَرةً على الوصل ولا تقولوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ ۩، أتى بآية أُخرى مُباشَرةً، ثم ذكَّر وأمر وزجر وبعد وقرَّب وأغلظ وأسلس – رضوان الله تعالى عليه -، يأتي بالآيات المُطابِقة والآثار والأحاديث المُلائمة، حتى أفزع قلوب الجالسين، فأوجلوا وخافوا وأنابوا وخضعوا وبكوا وأجروا دموعهم وأطلقوا زفراتهم وتابوا إلى الله، وأخذ بالحظ الوافر أمير المُؤمِنين، الناصر! سحت دموعهم سحاً، وندم على ما كان منه، ولكنه استشعر الوجد والغضب على طريقة الإمام مُنذِر بن سعيد، لأنه أغلظ له تغليظاً شديداً، وعمد إليه من بين سائر الناس طبعاً، وهو المعمود إليه في هذا المقام، لأنه باني المدينة ومُفتتِحها، عمد إليه هكذا ولم يعن إلا هو، فغضب غضباً شديداً، وعتب على الإمام دون أن يُكلِّمه إلى ابنه الحكم، ابن الملك الناصر، قال له يا بُني والله لقد تعمَّدني مُنذِر بن سعيد بهذه الخُطبة، وما أراد إلا إياي، أرادني أنا من بين أو دون الناس، ولقد أغلظ علىّ إغلاظاً شديداً، حتى قرعني بعصا وعظه، ثم استثار غضبه واستبد به، فقال الآتي، الآن يُريد أن يفتك وأن ينتقم، كيف كان انتقام الملك الناصر؟ هل كان انتقامه كانتقام المُعاصِرين؟ هل تم تعليق الأئمة والدُعاة على المشانق وقتلهم وسلخهم ونفخهم؟ انتقم، فقال والله لا صليت الجُمعة وراءه، قال أنا غضبان منه، ولن أُصلي الجُمعة خلف هذا الإمام.

وترك صلاة الجُمعة في مدينة الزهراء، آثر مدينة إلى نفسه، هو مَن  بناها، آثر مدينة إلى نفسه وأحبها إلى قلبه، لم يُصل خلفه، وجعل يُصلي خلف أحمد بن مُطرِّف، الإمام العلّامة، خطيب قُرطبة، فقال له ابنه الحكم يوماً يا أبتِ إن أزعجك هذا الرجل هذا الإزعاج كله فلِمَ لا تستبدل منه – أي به -؟ استبدل منه خطيباً آخر! فقال لا أم لك، أمثل مُنذِر بن سعيد البلوطي في علمه وورعه وخيره وعمله يُستبدَل منه؟ لا والله، لا والله لا أفعل ذلك من أجل نفس ناكبة عن الحق، يعني نفسه – رضيَ الله عنه وأرضاه -، والله فيه صلاح كثير، يا ليت حكّامنا عندهم بعض هذا الصلاح، ثم هم مُسلِمون، شريعتهم الإسلام، دستورهم الإسلام، وأعزوا أمة الإسلام مهما أسرفوا وأنفقوا وأثربوا حتى وطغوا الرعية، قال لا والله لا أفعل ذلك من أجل نفس ناكبة عن الحق، سيُصلي بنا وبالناس ما عاش وعشنا – إن شاء الله -، سيبقى مُدة حياته وهو الإمام في الزهراء.

هناك واقعة أُخرى أعجب من ذلك، لقد قبَّب قُبيبةً أو اصطنع قُبيبةً في قصر الزهراء، وجعل قراميدها ذهباً وفضةً، إسراف شديد جداً! جعل قراميدها ذهباً وفضةً تُشتِّت بشعاعها أبصار الناظرين، ثم جلس فيها في أول يوم أيضاً – أي في يوم الافتتاح – مُعجَباً مُدِلاً بهذه البادية وهذه الخالدة، هذا العمل الأول من نوعه، وقال لحاشيته ووزرائه من ذوي قرابته هل سُبِقت إلى مثل هذا العمل أو قريب منه؟ هل سمعتم أو نما إليكم خبر ملك من الملوك صنع مثل ما صنعت أو أبدع مثل ما أبدعت؟ قالوا لا والله، وإنك لقريع دهرك وواحد عصرك، لا يُوجَد مَن هو مثلك، أنت الوحيد الذي عمل هذه الأشياء، فابتهج لكلامهم، فبين هم كذلك إذ دخل الإمام مُنذِر بن سعيد مُطرِقاً هكذا ومُنكِّساً رأسه حتى أخذ مجلسه، صامت لا يتكلَّم، فسأله عين السؤال، هل سمعت وهل نما إلى علمك كذا وكذا؟ فالتفت إليه وقال يا أمير المُؤمِنين استهام بك الخبيث – لعنة الله عليه -؟ استهام بك الخبيث وبلغ منك أن أنزلك منازل الكافرين؟ فغضب الناصر، قال انظر ما تقول يا إمام، انظر ما تقول، وكيف أنزلني منازلهم؟ أتُشبِّهني بالكفّار؟ قال يا أمير المُؤمِنين اسمع إلى قول الله – تبارك وتعالى – وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ۩، مذكور هذا في كتاب الله، فسكت الخليفة وأطرق، ثم أقبلت دموعه، أقبلت شؤونه من عينيه، وقال جزاك الله يا قاضي المُسلِمين عني وعن نفسك وعن الدين والمُسلِمين أجل جزاء وأمثله، إنك لقوّال بالحق، كثَّر الله في الأمة من أمثالك، ثم قام من ساعته، وأمر بنقض القُبة، وأعاد قرمدتها من تراب شأن أمثالها، فرضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

فقط أتينا بهذه الأطراف وإنها لمنزورة يسيرة – أطراف يسيرة جداً وقليلة، وفي تاريخنا المئات بل الآلاف من أمثالها بحمد الله تبارك وتعالى – لنعلم كم أعطى وكم هو هذا الدين العظيم قادر مُتهئ لأن يُعطي لنا أولاً وللعالمين أجمعين من بعدنا!

أقول هذا القول وأستغفر الله – تبارك وتعالى – لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وزعيمنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُحسِنين المُجاهِدين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم والمُسلِمين والمُسلِمات معهم برحمته وفضله ومنّه أجمعين.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، ولا غائباً إلا رددته، ولا حاجةً لنا من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها بمنّك وتيسيرك يا رب العالمين.

اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا، اللهم اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، اللهم اجعلنا سريرتنا خير من علانيتنا، واجعل علانتينا صالحةً يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك ونبتهل إليك بالدعاء والضراعة أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم انصر مَن نصر المُوحِّدين، واخذل مَن خذل المُسلِمين.

اللهم عليك بأعدائنا، أعداء الدين، من اليهود والمُجرِمين الدوليين أجمعين يا رب العالمين، اللهم أحصهم عدداً، اللهم واقتلهم بدداً، اللهم ولا تبق منهم أحداً، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين وشماتةً للشامتين، اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، ورد كيدهم إلى نحورهم يا رب العالمين، اللهم اكفناهم واكفنا شرهم بما شئت، كيف شئت، إلهنا ومولانا، فإنهم لا يُعجِزونك.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(12/9/2003)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: