برنامج آفاق

هل مات الرسول ﷺ مسموماً؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، حلقتنا اليوم من (آفاق) ستدور حول سؤال نُحاوِل أن نُجيب عنه بما يفتح الله – تبارك وتعالى -.

السؤال هو هل حقاً مات رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – مسموماً؟ أي هل مات مُتأثِّراً بالسُم الذي دسته له اليهودية في خيبر كما هو معلوم للكافة؟

أصل هذه الحكاية أو القصة – إخواني وأخواتي – ما أخرجه الإمامان البخاري ومُسلِم في صحيحهما من حديث أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنه -، أن امرأة يهودية دست لرسول الله السُم، وهذه المرأة اليهودية هي زينب بنت الحارث، اسمها زينب بنت الحارث الخيبرية، وكان المُسلِمون لما فتحوا حصون خيبر قد قتلوا أباها وعمها وزوجها سلام بن مشكم، فهي موتورة، فهذه المرأة اليهودية الخيبرية أهدت إلى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – شاة مصلية، أي شاة مشوية، سألت زينب بنت الحارث ماذا يُحِب محمد؟ فقيل لها يُحِب الشاة، فقالت ما الذي يُحِبه من الشاة أكثر؟ فقيل لها الذراع، فخصت الذراع بمزيد من التسميم، دست فيه سُماً كثيراً، ثم جاءت إلى النبي وقدَّمت هذه الشاة المصلية على أنها هدية، والنبي قبل هذه الهدية – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وكان معه جماعة يسيرة من أصحابه، على كل حال هذا ليس في سياق هذه الرواية، لكنه في روايات أُخرى، نذكره فقط للاطلاع.

بشر بن البراء بن معرور كان من ضمن جلساء النبي، فتناول وازدرد بضع لُقيمات من تلكم الشاة، وكان مصيره بعد ذلك أن مات، قيل مات في مكانه، وقيل مات بعد سنة، ظل يُعاني ويُكابِد آثار وعقابيل السُم سنةً، ثم مات – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، أما الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأخذ لُقمةً، أي نهش أو نهس نهسةً، ثم لم يُسِغها فلفظها، لاكها لوكاً، لكنه لم يزدردها، وقال إن هذه الشاة، أو هذا العظم في رواية، يُريد وما عليه من اللحم، يُخبِرني أنه مسموم، فدُعيَ بها، ونعود الآن إلى سياق حديث أنس.

دُعيَ بهذه اليهودية، أي زينب بنت الحارث الخيبرية، وسألها النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما الذي حملك على ذلك؟ فقالت أردت لأقتلك، قالت أردت لأقتلك، في بعض الروايات أنها قالت قلت إن كان كاذباً استرحنا منه، وإن كان نبياً فسيُخبَر، أي سيُخبِره الله – تبارك وتعالى -، ستُخبِره السماء، الوحي! فلم يعرض لها النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، في رواية لم يعرض لها بشيئ، وقيل بعدما مات بشر بن البراء بن معرور أمر بقتلها قصاصاً، دفعها إلى أهل القتيل، أي بشر بن البراء – رحمة الله تعالى عليه -.

المُهِم، يقول أنس بن مالك فما زلت أعرفها – أي أعرف تلك الأُكلة أو أثر تلك الأُكلة المسمومة – في لهوات رسول الله، واللهوات ما هي؟ في الحقيقة هي لهاة واحدة، ليس للإنسان لهوات، لكن هكذا قال أنس، واللهاة – أي الـ Uvula – هي قطعة اللحم الصغيرة، أي بين نصف سم CM تقريباً إلى واحد سم CM، المُتدلية في أعلى الحلق، في مُؤخَرة الحلق في أعلاه، اللهاة معروفة! وطبعاً غريب جداً أن يقول أنس فما زلت أعرفها – أي أثر السم، ما زلت أعرف أثر السم – في لهوات رسول الله، كيف؟! الإنسان منا لكي يرى لهاة نفسه لابد أن يفتح فمه عن آخره تقريباً، ويدلع لسانه، حتى تتدلى اللهاة ويراها، فكيف كان يرى أنس بن مالك هذا؟! هكذا نُسِب إليه، والله – تبارك وتعالى – وأعلم، وعلى كل حال الحديث في الصحيحين.

في حديث آخر في صحيح البخاري أن النبي دعا يهود خيبر هؤلاء وسألهم، قال لهم إن سألتكم عن شيئ هل أنتم صادقي – أي لا تكذبون علىّ -؟ فقالوا نعم يا أبا القاسم، فقال هل دسستم لي سُماً؟ هل سممتم هذا الطعام؟ قالوا نعم، قال لماذا؟ قالوا قلنا إن كان كاذباً استرحنا منه، وإن كان نبياً فسيعصمه الله، يمنعه الله!

ولذلك لما سأل النبي – عليه السلام – زينب بنت الحارث ما حملك على ذلك؟ وقالت أردت لأقتلك أجابها بقوله لم يكن الله ليُسلِّطك على ذلك، أو قال – هذه رواية – علىّ، قال لم يكن الله ليُسلِّطك على ذلك، أو قال علىّ – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

الآن أو إلى الآن هذا الأمر ما من داعٍ لأن نُنكِره أو نُشكِّك فيه، أن اليهود أو زينب بنت الحارث حاولت أن تغتال النبي بالسُم، بالعكس! بل ظهر من خلال هذه الحكاية أو من خلال هذه القصة الثابتة مُعجِزة لرسول الله، أن الطعام أخبره، في حين أن صاحبه أكل منها وازدرد، وفي رواية كانا اثنين، كانا اثنين، أكلا وازدردا، أي ربما أكلا حتى إلى حد يقرب من حد الشبع، أما النبي فإنه لم يزدرد لُقمة صاحبها، لفظها وقال إن هذا العظم – كما سمعتم – يُخبِرني أنه مسموم، هذه مُعجِزة، آية لرسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، إلى الآن ما من داعٍ للتشكيك، وما من داعٍ للتساؤل أصلاً، هذا يحدث، وهذا معصوم – عليه السلام -، والوحي أخبره.

لكن الذي يدعونا إلى السؤال وحوله سيكون الكلام – هو محور هذه الحلقة – ما أخرجه الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – عن أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، أنها قالت كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر – أي الطعام المسموم -، فهذا أوان أن انقطع أبهري منه، قال فهذا أوان أن انقطع أو فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري منه، الأبهر! الشريان الأبهر الذي يُغذي الجسم وهو معروف، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري منه.

ولذلك روى الإمام عبد الرزّاق بن همام الصنعاني في المُصنَّف عن محمد بن مُسلِم بن شهاب الزُهري – الإمام الزُهري، الإمام المُحدِّث الجليل المشهور، من كبار التابعين – أنه قال مات رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – شهيداً، وفي المعنى أيضاً روى الإمام ابن سعد كاتب الواقدي في الطبقات الكُبرى عن عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه كان يقول لأن أحلف تسعاً أحب إلىّ من أن أحلف واحدةً أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قُتِل ورزقه الله الشهادة، يقول النبي مات مقتولاً في نهاية المطاف، كيف؟! بهذا السُم، مع أنه كان بين وفاته – عليه السلام – وبين هذه الحادثة في خيبر زُهاء ثلاث سنوات.

ولذلك يروي أيضاً ابن سعد في الطبقات عن شيخه الواقدي – ولذلك يُقال له ابن سعد كاتب الواقدي، فشيخه الواقدي، صاحب المغازي – بأسانيده عن عبد الله بن عباس وعن جابر بن عبد الله – رضيَ الله تعالى عنهما – هذه القصة، وتتداخل المتون، تتداخل المتون إلى أن يصير إلى القول وعاش بعدها رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ثلاث سنين، ثم كان يقول في مرضه الذي تُوفيَ فيه إني لأجد ألم السُم أو ألم الأُكلة أو إني لأجد أثر الأُكلة التي أكلت بخيبر يتعاودني عدداً، أي مراراً، فهذا أوان انقطع أبهري منه، قال ومات شهيداً، يُؤكِّدون أنه مات شهيداً بالسُم – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

أكثر العلماء والأئمة وكتّاب أو كاتبي السيرة على اعتماد هذا الرأي، أن النبي مات مسموماً ورزقه الله الشهادة، ورزقه الله الشهادة بالسُم، لأن مَن مات بالسُم مات شهيداً، لكن هذه الشهادة العامة، وليست الشهادة الخاصة، وعلى كل حال هل يحتاج النبي مع كونه نبياً ورسولاً إلى شرف الشهادة؟ مَن كان عنده الأعلى فهو غير مُحتاج وغير مُعتاز إلى الأدنى، وليس ثم ما هو أعلى من النبوة والرسالة – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

ابن القيم أحد هؤلاء العلماء الذين أكَّدوا على هذا المعنى، أن النبي مات شهيداً بالسُم، في كتابه الماتع الحفيل زاد المعاد، في الزاد ابن القيم ذكر أنه مات شهيداً بالسُم، وأن الله – تبارك وتعالى – بهذه الميتة أظهر سر قوله – عز من قائل – أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۩، قال عبَّر في قوله فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ ۩ بالماضي، عن أمر تحقَّق وقوعه منهم، وهو تكذيبهم للأنبياء والرُسل، الذين كانوا يُبعَثون بين ظهرانيهم ومنهم، من أبناء جلدتهم، من بني إسرائيل، رُسل بني إسرائيل! قال وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۩، آثر أن يُعبِّر بالحاضر، بصيغة الحاضر، لماذا؟ إشارة إلى ما يتوقَّعونه ويبغونه، لكن السؤال هل هذا الذي يتوقَّعونه ويبغونه – وهو قتل النبي المُحمَّد، عليه الصلاة وأفضل السلام – حصل؟ بحسب كلام ابن القيم وكلام جمهرة العلماء حصل، وأنهم أفلحوا في نهاية المطاف أن يقتلوه مُسمَّماً، مقتولاً بالسُم، وهذا كلام غريب، في الحقيقة نحن لا نقبل هذا المعنى، لأسباب سوف نستعرضها بُعيد قليل في تضاعيف وأنحاء هذه الحلقة بإذن الله – تبارك وتعالى -.

على كل حال هذا الذي استأنس به ابن القيم ليس دليلاً قوياً وليس دليلاً ظاهراً، بل مُعظَم المُفسِّرين وعلماء البلاغة يفهمون هذا التعبير وهذا العدول عن صيغة الماضي إلى صيغة الحاضر على النحو الآتي، قال فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ ۩، ولم يقل وفريقاً قتلتم، وإنما قال وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۩، آثر أن يعدل عن الماضي إلى الحاضر، واستحضر الحاضر، لكي يستحضر السامع هذا المشهد البشع، المشهد الفاحش المُنكَر، وهو قتل الأنبياء، وكأنه يقع الآن أمامه، كيف يقتلون الأنبياء؟ ولذلك قال وَفَرِيقًا ۩، قال وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۩، وهم قتلوا العديد من الأنبياء، في بعض الروايات ولعل فيها مُبالَغة أنهم قتلوا مئات من الأنبياء، ليس فقط آحاد أو عشرات، والله أعلم بحقيقة ذلك، لكن قتلهم الأنبياء ثابت بكتاب الله – تبارك وتعالى – في آيات كثيرة، قتلهم الأنبياء والنبيين في آيات كثيرة، في سور أيضاً مُتعدِّدات ومُختلِفات.

فالله – تبارك وتعالى – يُريد من السامع أن يستحضر هذه الصورة البشعة المُنكَرة الفاحشة أمامه، لأنها أفاعيل فاحشة لا تبلى أو لا تخلق جدتها، ودم بريء طاهر مُقدَّس، لا يُمكِن أن يطير رغوته أو تطير رغوته، فهذا هو الذي عليه مُعظَم المُفسِّرين، وليس فيه إشارة إلى أنهم أرادوا أن يقتلوا النبي، ثم نقول وما أرادوه وتوقَّعوه حصل.

نأتي الآن في الحقيقة إلى موضع النزاع، الأثر الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة وفيه أنها قالت ما سمعتم، هذا الأثر ليس أثراً صحيحاً، لماذا؟ لأن البخاري أخرجه مُعلَّقاً، أخرجه مُعلَّقاً ولم يُخرِجه موصولاً، نعم وصله بعض الأئمة، وصله الإمام ابن حبان، وصله الإمام أبو بكر البزّار، ووصله الإمام أبو بكر الإسماعيلي، ووصله الإمام أبو عبد الله الحاكم صاحب المُستدرَك، هؤلاء وصلوه لكن من طريق عنبسة بن خالد، عن يونس بن يزيد الأيلي، بعد ذلك عن الزُهري، عن عُروة بن الزُبير، عن عائشة.

البزّار نفسه الذي وصله من طريق عنبسة بن خالد قال تفرَّد به عنبسة بن خالد، عن يونس بن يزيد الأيلي، ما معنى تفرد به هنا؟ لم يتفرَّد بالمتن، إنما تفرَّد بوصله، لأن هذا الأثر موجود، ورواه – مثلاً – موسى بن عقبة، رواه موسى بن عُقبة في المغازي عن الزُهري، لكن مُرسلاً أيضاً، ليس موصولاً، ليس موصولاً وله شواهد، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري وله شاهدان، لكنهما مُرسَلان أيضاً، شاهدان مُرسَلان!

وأما الذي ذكرته من رواية ابن سعد عن شيخه الواقدي فالواقدي متروك، غير مقبول، ابن سعد أفضل منه بمراحل، لكن الواقدي غير مقبول هنا، يُقبَل في التاريخ، في التواريخ ربما يُقبَل نعم مع تحوط، لكن لا يُقبَل في أمثال هاته الشؤون، الواقدي متروك، لا يُقبَل حديثه في أمثال هذه الشؤون عند جماهير العلماء.

فتحصَّل في النهاية – إخواني وأخواتي – أن ليس بين أيدينا نص موصول صحيح إلى عائشة أو إلى أحد الصحابة أو يُرفَع إلى رسول الله أن النبي مات مُتأثِّراً بالسُم الذي تناوله في خيبر، ثم ما هذا السُم؟ هو أصلاً لم يزدرد، لم يزدرد لُقمة واحدة، كما قلنا ولاكها ثم لفظها، فكيف يُقال إنه مات مُتأثِّراً بالسُم بعد ثلاث سنوات؟ سوف نفحص هذا فحصاً جيداً.

لكن قد يسأل سائل لماذا ترفض أصلاً؟ كأننا نرفض شيئاً يُشرِّف النبي، في الحقيقة إذا تلَّمحنا إلى هذه الناحية فسنجد الآتي، وكما قلت النبي لا يحتاجها، أي أن يكون أكرمه الله بالشهادة فوق النبوة والرسالة، النبي لا يحتاج هذا، لأنه نبي ورسول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، والله – تبارك وتعالى – يقول وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ – أول رُتبة – وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ۩، فلا يحتاج، لكن للأسف تلمح هذه الميزة – أي على أنها ميزة، إن كانت ميزة، وهي في حق رسول الله ليست ميزة، لما سيأتيكم بُعيد قليل، أي أنه قُتِل – خطير، هذا الرسول – وهو أعظم الخمسة أولي العزم من الرُسل، أعظمهم وأكرمهم – أن يكون مات مقتولاً هذه ليست ميزة، بل بالعكس! تفتح باباً إن لم يكن أبواباً للتشكيك في صدق نبوته ورسالته، وهذا ما يعتمد عليه بعض شانئي وبعض أعداء ومُبغِضي الإسلام والرسول إلى يوم الناس هذا، ادخلوا على الشبكة العنكبوتية، واقرأوا بعض الكُتب، يُشكِّكون ويقولون لو كان نبياً صادقاً ولو كان رسولاً لعصمه الله.

لماذا نرفض يا إخواني؟ نرفض لآخر ما سجَّلناه الآن، في سفر التثنية – من أسفار العهد القديم، على أن الله قال هذا، والله أعلم – كأن الله قال وأما النبي الذي يطغى فيتكلَّم باسمي كلاماً لم أُوصه أن يتكلَّم به أو يتكلَّم باسم غيري – أي باسم آلهة مُزوَّرة أو آلهة أُخرى، يتكلَّم باسم آلهة أُخرى – فإنه يموت، أي هذا النبي، الله يُميته، أي يقتله، الله يُميته مقتولاً، وهذا المعنى صحيح تقريباً، هذا المعنى صحيح لما في سورة الحاقة، من قول الحق – سُبحانه وتعالى – وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ۩ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۩ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۩ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ۩، قال لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۩، أي لعاجلناه بأخذ قوي شديد دون إمهال، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۩، والوتين هو نياط القلب، وقيل هو هذا الشريان الذي يُغذي الجسم بالدم، وقيل هو النُخاع أو الحبل الشوكي، قيل هو الحبل الشوكي، وهذا قاله مُجاهِد، قال الحبل الذي في الظهر، فإذا قُطِع مات الإنسان، شُلت حركته ولم يُنتفَع به ومات.

على كل حال العلّامة الإمام أبو محمد عبد الله بن قُتيبة – رحمة الله تعالى عليه – يقول ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۩ ليس المُراد أننا نُميته بقطع هذا بعينه، وإنما المُراد نُميته، قطعناه أم لم نقطعه، المُراد أننا نقتله، نُميت هذا النبي، نُعاجِله بالإماتة.

فتقريباً الذين نسبوا إلى أم المُؤمِنين عائشة وغيرها من الصحابة أن النبي مات شهيداً بأثر السُم الذي دُس في خيبر كأنهم أرادوا أن يفتحوا باباً لهذا المعنى، أن يعتقد المُسلِمون أن نبيهم مات مقتولاً بالسُم، ثم بعد ذلك تبدأ الشكوك، كيف؟! وقد عصمه الله، والله يعصم الأنبياء، إلى آخره!

ولذلك لابد أن نتحدَّث الآن عن موضوع عصمة الأنبياء يا إخواني، عصمة الأنبياء! في القرآن العظيم آية واحدة صرَّحت بمعصومية رسول الله بلفظ أو بعنوان العصمة، لكن بالمعنى من غير اللفظ هناك آيات كثيرة، سنسوق منها طرفاً بعد قليل – إن شاء الله تعالى -، هذه الآية في سورة المائدة، حيث يقول الله – تبارك وتعالى – يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ۩، قال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۩، ليس معنى العصمة هنا العصمة المعهودة المعروفة المطروقة في كُتب علم العقائد، وهي بكلمة واحدة ممنوعية النبي – أي كون النبي ممنوعاً ومحفوظاً – من مُقارَفة المعاصي، واختلفوا بعد ذلك، طبعاً أنه يُقارِف كبيرة مُستحيل، النبي لا يُقارِف كبيرة من الكبائر، هل يُقارِف صغيرة؟ اختلفوا، بعضهم نزَّه، قال الصغائر حتى النبي لا يقربها، لا بطريق السهو ولا الخطأ وما إلى ذلك، وبعضهم قال لا، يُمكِن للنبي أن يُقارِف صغيرة لكن على سبيل التأول وعلى سبيل الخطأ والسهو، لكن لا يتعمَّد النبي ارتكاب صغيرة.

على كل حال هذا معنى العصمة الشرعية المعروفة في كُتب علم العقيدة، ممنوعية النبي ومحفوظية النبي من مُقارَفة الذنوب، لكن العصمة في آية المائدة – وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۩ – ليست هذه، إنما هي عصمة الحفظ من أن يأخذوه فيسجنوه – مثلاً – ويحبسوه أو يقتلوه، وبالذات من القتل، أما ما دون ذلك من السب والاستهزاء والأذية والتأليب عليه والحرب أيضاً فلا، غير معصوم النبي، وقد يُشَج، كما شُجَ وجهه الشريف في أُحد وكُسِرت رُباعيته، إلى آخره! النبي غير معصوم من هذا، الرسول غير معصوم من هذا، لكن معصوم من أن يُؤخَذ فيُسجَن، معصوم من أن يُقتَل بالذات، معصوم من القتل، وهذا معنى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۩.

أما معصومية الحفظ من الذنوب فأُرجِّح أو أقترح يا إخواني – هذا مُجرَّد اقتراح للإخوة العلماء – أن ندعوها كما دعاها الله، نقول الاستخلاص، الاستخلاص! قال إلا إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ۩، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۩ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ۩، إذن هذا الاستخلاص، هذا الاستخلاص! أما العصمة فهي بمعنى آخر.

الآن عصمة النبي من القتل وما داناه مذكورة في كتاب الله في آيات كثيرة يا إخواني، في آيات كثيرة! من ضمنها قول الحق – تبارك وتعالى – أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ۩، هذا في سورة الزُمر، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۩، مفعول بِكَافٍ ۩ الثاني محذوف، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۩، يكفيه ماذا؟ يكفيه… محذوف الآن، لماذا حذفه الله – تبارك وتعالى – ليعم، ليعم! ليعم كل ما يخافه النبي مما من شأنه أن يُؤثِّر على تبليغه الرسالة أو على إظهار دينه، لأنه ما أرسله إلا ليُكمِل له الدين، ويُتِم به النعمة، ويُظهِر به هذا الدين أيضاً، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۩، فكل ما اعترض هذه الغايات وهذه المقاصد الإلهية العالية السامية الشريفة فإن الله – تبارك وتعالى – تكفَّل به، تكفَّل أن يحميه منه، أن يكفيه إياه.

فهذه الآية في العصمة، هذه الآية ليست في الاستخلاص بالمعنى الذي شرحنا، إنما في العصمة، في محفوظيته من أذى أعدائه أن يبلغوا به حد القتل، أيضاً في البقرة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۩، هذه آية في المعصومية بهذا المعنى، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۩، قال إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۩، ومعلوم أن الله – تبارك وتعالى – لم يكفه أن يستهزئوا به، فقد استهزأوا به وسبوه وشتموه، فما عساه يكون معنى الآية – أي إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ۩ -؟ قال بعض العلماء بمعنى سننتقم منهم، نحن سننتقم من هؤلاء المُستهزئين، وبعضهم قال هذه الآية تُشير إلى أن الله – تبارك وتعالى – كفاه استهزاءهم، لكن بأي معنى؟ هذا محل البحث، كفاه استهزاءهم، وهو فيما يظهر أقل الأذى، أي أن يستهزئوا به، فهي إشارة إلى أن ما فوقه من الأذى حري أن يكون – عليه السلام – قد كُفيه من قِبل ربه – تبارك وتعالى -، وهي إشارة لطيفة.

أيضاً قول الحق – تبارك وتعالى – في القصص إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۩، قال عبد الله بن عباس وجابر بن زيد وغيرهما – وربما مُجاهِد أيضاً – لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۩ وعد من الله – تبارك وتعالى – لنبيه ورسوله بأن يُعيده ظاهراً مُنتصِراً مُظفَّراً إلى مكة – شرَّفها الله -، ولذلك قيل هذه الآية نزلت لما هاجر النبي من مكة ولم تقريباً يُجاوِز الحزورة بكثير، لم يُجاوِز الحزورة بكثير، فأنزل الله – تبارك وتعالى – هذه الآية، وقيل إنها نزلت في الطريق، إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۩، أي لرادك إلى مكة.

إذن لن يُقتَل، لن يُؤخَذ، لن يُحال بينه وبين تبليغ دينه، وتكميل الدين، وإتمام النعمة، بل وإظهار الدين، لأنه وعد بالإظهار وبالإظفار – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، وأيضاً كما سمعتم هناك آيات إظهار دينه، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۩، فضلاً عن قوله – تبارك وتعالى – في الصافات وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۩ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ۩ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ۩، فهذه الآية واضحة يا إخواني في نُصرة الرُسل، لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۩ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ۩، في سورة غافر – أي المُؤمِن – إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ۩، كل هذه الآيات – إخواني وأخواتي – وما في معناها هي آيات تتحدَّث عن معصومية الرُسل، عن معصومية رُسل الله – تبارك وتعالى -، بمعنى حفظهم من القتل.

لكن هناك اعتراض يا إخواني، أو هناك تساؤل، الآيات المُصرِّحة بقتل النبيين كثيرة كما تعلمون، الآيات التي فيها قتل النبيين وقتل الأنبياء كثيرة، وخاصة في البقرة، وخاصة في سورة آل عمران، لكن هناك أيضاً آيات – بضع آيات – تتحدَّث عن قتل الرُسل، نحن استمعنا إلى آيات تتحدَّث عن نُصرة الرُسل، وهناك آيات تتحدَّث الآن عن قتل الرُسل.

ما هي هذه الآيات؟ وما عسى يكون الجمع بينهما وبين آيات نُصرة الرُسل؟ سنُجيب – إن شاء الله تبارك وتعالى -، لكن بعد هذا الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي من جديد.

إخواني وأخواتي:

إذن آيات عصمة أو معصومية الرُسل من القتل والأذى البليغ أو البالغ آيات منها في عموم الرُسل كما سمعتم، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ۩، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۩، لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ۩ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ۩، وآيات خاصة برسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وهي سائر الآيات التي تلوتها على مسامعكم.

لكن – كما قلنا – بالإزاء هناك آيات تتحدَّث عن قتل الرُسل، أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۩، واضحة جداً، لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ۩ في المائدة، كيف نجمع بين هاته الآيات التي هناك ثمة تعارض أو شيئ من تعارض بين ظواهرها؟!

قبل ذلك لكي نفهم الجواب جيداً لابد أن نخوض سريعاً في تعريف النبي والرسول، مَن هو النبي؟ مَن هو الرسول؟ وما الفرق بينهما؟ هناك تعريفات كثيرة، الذي يعرفه كل الناس تقريباً أو عموم المُسلِمين والمُسلِمات هذا التعريف، أن النبي أو الرسول هو رجل حر من بني آدم، مُبرأ من عيب خَلقي وخُلقي، أُوحيَ إليه بشرع من الله – تبارك وتعالى -، فأن أُمِر بتبليغه فهو رسول، وإن لم يُؤمَر بالتبليغ فهو نبي.

هذا هو التعريف الذي يعرفه تقريباً كل المُسلِمين والمُسلِمات، على أنه مع سيادته وشُهرته وشائعيته تعريف ضعيف، غير دقيق، بل تقريباً مُخالِف لنصوص في الكتاب والسُنة، مُخالِف لنصوص واضحة ظاهرة في الكتاب والسُنة، على أنه غير معقول، غير معقول أن يُوحي الله إلى نبي ثم لا يأمره بالتبليغ، فلِمَ أوحى إليه إذن؟ لِمَ أوحى إليه؟ مُخالِف لظواهر كتاب الله – تبارك وتعالى -، الله – عز وجل – يقول وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ۩، هذه الآية من سورة الحج واضحة وصريحة في إرسال الاثنين، الرسول يُرسَل والنبي يُرسَل أيضاً، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ ۩، قال المُفسِّرون أي فاختلفوا، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ۩، لم يقل فبعث الله المُرسَلين، قال النَّبِيِّينَ ۩، هذا نبي وهو مُبشِّر ومُنذِر، بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۩، وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ۩، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ۩، إلى آخره من سورة الأعراف.

آيات كثيرة واضحة جداً في إرسال الأنبياء، وأن النبي يُرسَل، وأن النبي يكون بشيراً ونذيراً، إذن فكل نبي من حيث هو مأمور بالتبليغ، لا يُقال النبي غير مأمور بالتبليغ.

أيضاً هناك أحاديث كثيرة عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في هذا الباب، هناك الحديث المشهور أوتيت خمساً لم يُعطهن أو لم يُؤتهن نبي من قبلي، وكان النبي – قال النبي وكان النبي، لم يقل وكان الرسول، قال وكان النبي – يُبعَث إلى قومه خاصة، وبُعِثت إلى الناس كافة، أو عامة، فهذا واضح جداً في أن الأنبياء يُرسَلون – إخواني وأخواتي -.

في الصحيح أيضاً عُرِضت على الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذن هم أنبياء، وبُعِثوا أيضاً، ولهم أتباع، واضح جداً أن النبي مأمور بالبلاغ، لا يُقال النبي أُوحيَ إليه وليس مأموراً بالبلاغ.

أيضاً في صحيح البخاري يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، تسوسهم الأنبياء! إذن مأمورون بالبلاغ، ومعروفون للناس، وكانوا يقومون بأمر سياسة وإدارة مُجتمَعاتهم المِلية والدينية.

على كل حال إذن هذا القول واضح أنه ساقط عن درجة الاعتبار، لا يُقال النبي أُوحي إليه ولم يُؤمَر بالبلاغ أو بالتبليغ، هذا قول ضعيف جداً، مُخالِف للكتاب والسُنة.

قريب منه قول مَن قال النبي أُوحيَ إليه سواء أُمِر بالتبليغ أو لم يُؤمَر بالتبليغ، أي هذا أفضل قليلاً، لكنه أيضاً ضعيف، لا يُقال أُمِر بالتبليغ أو لم يُؤمَر بالتبليغ، فالنبي مأمور دائماً بالتبليغ كالرسول، إذن فما الفرق بينهما؟ الرسول مأمور بالتبليغ، والنبي مأمور بالتبليغ، فما الفرق بينهما؟ وكلاهما مُرسَل، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ۩، آية عجيبة من سورة الحج، كلاهما يُرسَل، الرسول يُرسَل، والنبي يُرسَل، فواضح أن إرسال هذا غير إرسال هذا، هناك ثمة فارق دقيق، ما هو؟ سنرى بعد قليل – بإذن الله تبارك وتعالى -.

على كل حال إذن هذا القول الثاني أيضاً ضعيف، لكنه خير من الأول، وكأن أصحابه أرادوا أن يدفعوا عنه، فقالوا أحياناً لا يُؤمَر بالتبليغ، لكن يُؤمَر بإعلام الناس بأنه نبي، يُؤمَر فقط بتبليغ هذا الجُزء، أنه نبي، ليُحترَم، أي كأن الله أرسله فقط ونبّأه فقط لكي يُعرَف أنه نبي ويُحترَم، دون أن يأمر ودون أن ينهى ودون أن يُبشِّر ودون أن يُنذِر، أيضاً هذا القول ساقط – والله تبارك وتعالى أعلم – عن درجة الاعتبار.

القول الثالث قول جماعة من كبار المُحقِّقين، قالوا لا فرق بين النبي والرسول، لعلهم لم يُفلِحوا أن يُوفِّقوا بين هذه الآيات، فقالوا النبي رسول، والرسول نبي، هما مُترادِفان، وذهب إليه الإمام النحرير الكمال بن الهُمام – رحمة الله عليه -، صاحب فتح القدير، الإمام الحنفي الشهير، علّامة كبير! ذهب إليه الإمام ابن الهُمام، والسعد التفتازاني صاحب المقاصد، وشارح العقائد النسفية، والعضد، وشارحه الشريف الجرجاني، وغير هؤلاء، هؤلاء قالوا لا فرق بين النبي والرسول.

الذي نذهب إليه ونُرجِّحه هو ما ذهب إليه ثُلة من مُحقِّقي العلماء، كالإمام أبي منصور عبد القاهر البغدادي في كتابه أصول الدين، وهو من أئمة الأشاعرة المشاهير – رحمة الله تعالى عليه -، هذا تعريف النبي والرسول عند الإمام البغدادي، وبه قال جماعة من المُحقِّقين، نفس الشيئ! هو رجل حر من بني آدم، خالٍ من عيب خَلقي وخُلقي، أي من أي شيئ يُنفِّر الناس منه، يجعلهم يزورون عنه، خال من عيب خَلقي وخُلقي، أُوحيَ إليه بشرع، الآن انتبهوا، فإن كان هذا الشرع الذي أُوحيَ إليه به شرعاً مُستقَلاً أو شرعاً جديداً أو شرعاً مُجدَّداً بلُغة الناصر البيضاوي – أتى بشرع جديد مُستقِل، أو أتى بنسخ لشرع مَن قبله أو ببعض نسخ أو بنسخ بعض شرع مَن قبله – فهذا رسول، أما إن أُوحيَ إليه أو أُمِر بالتزام شرع مَن قبله – هو صاحب شريعة، لكن هذه الشريعة لم يأت بها استقلالاً، ليست شريعة جديدة – فهذا نبي، كأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى إلى عيسى، كل هؤلاء لم يأتوا بشرع مُجدَّد، إنما شرعهم هو شرع موسى، وحتى عيسى – عليه السلام – ماذا قال؟ قال أنا لم آت لكي أنقض الناموس، وماذا يُراد بالناموس؟ التوراة، أي شريعة موسى، وإنما جئت لكي أُقيم الناموس، فأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى إلى عيسى – عليهم صلوات الله وتسليماته أجمعين – لم يأتوا بشرع جديد، إنما بُعِثوا بشرع موسى، فكل هؤلاء يُقال إنهم أنبياء.

أيضاً هذا القول على أنه قوي ودقيق لكن عليه بعض الانتقادات يا إخواني، لماذا؟ لأن القرآن صرَّح في سورة غافر – أي المُؤمِن – بأن يوسف – عليه السلام – رسول، حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ۩، لم يقل نبياً، ولذلك يا إخواني الذي يُمكِن أن ننتهي إليه أن الرسول رسول، وأن النبي كما نص – تبارك وتعالى – في سورة الحج أيضاً يُرسَل، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ۩، النبي يُرسَل والرسول يُرسَل، فصار الفرق بينهما أن الرسول هو رسول، والنبي نبي رسول، أو رسول نبي، كما قال – تبارك وتعالى – وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا ۩، لماذا الله جمع بينهما فقال رَسُولًا نَّبِيًّا ۩؟ هذا هو الفرق، الرسول النبي لا يأتي بشريعة جديدة، ولا بشريعة ناسخة لشرع مَن قبله، بل هو مأمور بالتزام شرع مَن قبله، فهذا رسول نبي، وإذا قيل نبي فيُمكِن أن يكون رسولاً، على أنه رسول نبي، أما إذا قيل رسول هكذا وحدها بحسب هذا الاصطلاح فالرسول هو الرسول الذي أتى بشرع جديد.

والآن – أيها الإخوة والأخوات – يُمكِن أن يكون لاح لكم وجه الجواب – بإذن الله تبارك وتعالى -، الرسول الذي يأتي بشرع مُستقِل وجديد هذا معصوم من القتل، ولذلك قال الحسن البِصري الآتي، وهذا عجيب جداً ويدل على دقة فهمه ورهافة هذا الفهم، الحسن البِصري ماذا قال؟ قال ما قُتِل أو لم يُقتَل أحد من رُسل الله أصحاب الشرائع، أي الذين أتوا بالشرائع، وكأنه يُريد الشرائع الجديد، الشرائع المُستقِلة.

ولذلك لاحظوا الآتي، هناك أولو العزم الخمسة من الرُسل، وبالحري هم أصحاب شرائع مُستقِلة، شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۩، هؤلاء هم الخمسة أولو العزم من الرُسل، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، ومحمد، قال وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ۩، هذا هو! هؤلاء جميعاً على طول ما حاولت أقوامهم أن يستئصلوهم وأن يقتلوهم ومكروا بهم إلا أن الله – تبارك وتعالى – أنجاهم وكتب لهم النصر على أعدائهم، لم يستطع قوم نوح أن يذهبوا به، ولا إبراهيم، أنجاه الله من نور، ولا موسى، وتعرفون المُعجِزات التي حدثت لموسى – عليه السلام -، ولا عيسى، وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۩، وأظهر الله أتباعه وحواريه وجعلهم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۩، ولا محمد بالحري – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

فهذا معنى معصومية الرُسل، وعلى كل حال الذي ننتهي إليه بعد التي واللتيا أن محمداً بالذات وهو رأس هؤلاء الخمسة أولي العزم من الرُسل لا يُمكِن لأحد أن يتسلَّط عليه فيقتله، ولذلك الوقائع كثيرة وثابتة – بفضل الله تبارك وتعالى – في السيرة النبوية الشريفة، التي تُثبِت أن كل الذين حاولوا اغتياله وقتله قد فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً، ومُحاوَلات اغتيال النبي بضع عشرة مُحاوَلة، ليست مُحاوَلة ولا ثنتين ولا ثلاث ولا أربع ولا عشر مُحاوَلات، بضع عشرة مُحاوَلة، وكلهن فشلن من عند آخرهن، لماذا؟ لأنه رسول، رسول أتى بشرع جديد، بل شرع ناسخ، بل شرع نهائي، النُسخة الجامعة النهائية من شرائع الله – تبارك وتعالى -، ولا شرع بعده، ولا دين بعده، فمُحال أن يُسلَّط عليه أحد فيقتله، فكيف يُقال قتله اليهود بالسُم؟

طبعاً وليس بين أيدينا أنه مات في مكانه، وإلا لكنا أُفحِمنا، قالوا ماتوا بعد ثلاث سنين، شيئ غريب جداً! لم يمت من تلك الأُكلة البسيطة التي لم يزدردها بل لم يزدرد لُقمة منها ومات بعد ثلاث سنين وكتب الله له الشهادة! كلام واضح أنه ضعيف، غير مُتماسِك، ومُخالِف لظواهر كتاب الله.

لذلك الإمام الجليل ابن مُفلِح الحنبلي – رحمة الله تعالى عليه – رجَّح الآتي، هذا الإمام كان يقول له شيخ الإسلام ابن تيمية بل أنت مُفلِح، لست فقط مُجرَّد ابن مُفلِح، أنت مُفلِح وأبوك مُفلِح، ابن مُفلِح عنده كتاب اسمه الآداب الشرعية، لما تعرَّض لمسألة سم النبي – أي تسميم النبي، عليه السلام – رجَّح في أول قول عرض له، رجَّح تلمحاً منه لمقام المعصومية – أن النبي معصوم من القتل – أن حديث موت الرسول بالسُم مُرسَل، وصرَّح بأنه مُخالِف لظاهر كتاب الله – تبارك وتعالى -، مُناقِض هذا ومُعارِض لكتاب الله – تبارك وتعالى -، فكيف نقبله؟! هذا مُرسَل، قال مُرسَل أو مقطوع أو مُنقطِع، هكذا وصفه! لماذا نُسلِّم به؟ وفعلاً ليس بين أيدينا نص صحيح – كما قلت لكم – يقول هذا.

بعض الناس يغتر ويقول لكم هذا مروي في البخاري، البخاري يا أخي فيه مُعلَّقات، وهذا من مُعلَّقات البخاري، مُعلَّقات البخاري قد يُوصَل بعضها وتصح، وبعضها قد لا نتمكَّن من وصله بطريقة صحيحة، وهذا منها، هذا ليس له سند، نعم اتصل، كما قلنا البزّار وصله، لكنه قال تفرَّد به فلان، إذن هذا غير صحيح، هذا غير صحيح فلا تغتروا بأنه في البخاري، وحتى لو صح في البخاري وناقض كتاب الله مُناقَضة بحيث لا يُمكِن أن ترتفع وعارضه مُعارَضة بحيث لا يُمكِن الجمع بينهما ولا التأويل نرفضه مُباشَرةً، ونعتصم بعُروة كتاب الله – تبارك وتعالى -، هذا هو المنهج، هذا هو المنهج على أنه لم يصح – بفضل الله تبارك وتعالى -، إذن نحن رفضنا هذه المسألة لمعصومية رسول الله بالذات، المُقرَّرة في كتاب الله – تبارك وتعالى -.

بقي الآن أن نتكلَّم بكلمة سريعاً – إن شاء الله – عن مسألة تسميم النبي، وهي مسألة – كما قلنا – فشلت، باءت بالفشل – بفضل الله تبارك وتعالى -، لكن قبل ذلك ربما يطيب لي أن أتحدَّث عن سبب نزول آية العصمة، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ۩، فلقد روى الإمام الترمذي في جامعه والإمام الطبري في تفسيره وغيرهما، عن عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، أن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يُحرَس، وكان يحرسه سعد بن أبي وقاص وحُذيفة – أي حُذيفة بن اليمان، رضيَ الله تعالى عنهما -، فلما أنزل الله – تبارك وتعالى – عليه الآية، أي وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۩، أخرج رأسه من قُبة أدم، هذه قُبة من جلد، أي خيمة، خيمة من جلد، وكانا يحرسانه، نزلت الآية، تقول عائشة فأخرج رأسه، أي أطل، من قُبة أدم أو أديم، أي من قُبة أديم، وقال الحقوا بملاحقكم، أي انصرفوا، فقد عصمني الله من الناس، ليس عصمة من الذنوب، هذه عصمة من الناس، من القتل! قال الحقوا بملاحقكم، أي انصرفوا، فقد عصمني الله من الناس.

وطبعاً هذه الآية ذُكِر في أسباب نزولها اثنا عشر خبراً، لكن هذه الأخبار في رأي بعض المُحقِّقين من المُفسِّرين لا يصح شيئ منها أن يكون سبب نزول هذه الآية، لن نخوض في هذا طويلاً، الإمام المُفسِّر ابن عاشور وهو من أواخر المُفسِّرين – هو مُعاصِر، رحمة الله تعالى عليه، تُوفيَ إلى رحمة الله إن شاء الله قبل زُهاء أربعين سنة – استشكل حتى موضع هذه الآية، هذا الإمام استشكل حتى موضع هذه الآية من سورة المائدة، لماذا؟ لأن سورة المائدة من أواخر السور القرآنية نزولاً، إن لم تكن آخرها طبعاً، لكنها من أواخر السور القرآنية نزولاً، فما الذي بقيَ على رسول الله أن يُبلِّغه من شرع الله ولم يُبلِّغه؟ تقريباً بعد نزول هذه السورة لم يكن هناك تشريعات جديدة نزلت، لا تُوجَد تشريعات جديدة نزلت! ونحن نعلم أن الله – تبارك وتعالى – أنزل في حجة الوداع وفي عشية عرفة كما في صحيح البخاري من حديث عمر الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۩، أنزلها في عشية عرفة من حجة الوداع، ولم يعش بعدها رسول الله إلا زُهاء تسعين ليلة – صلى الله عليه وسلم -، فلم يبق شيئ لكي يُبلِّغه الرسول، فلماذا هذه الآية في سورة المائدة؟

ابن عاشور استشكل موضع الآية من السورة، وهو استشكال ذكي وفي مكانه، قال هناك احتمالان، الاحتمال الأول أن تكون هذه الآية جاءت لكي تُؤكِّد على النبي تبليغ شيئ مما يستثقل تبليغه، والمفروض أن يكون بلَّغه، وربما إذن المُراد تأكيد التبليغ، والله أعلم، هذه احتمالات، والاحتمال الثاني أن تكون هذه الآية نزلت قبل نزول السورة، لأن السورة من أواخر السور نزولاً، قال وهذا الاحتمال ينبغي أن يُستبعَد، ينبغي ألا يُعتبَر، لماذا؟ لأنه يقتضي أن آية من سورة بقيت وحيدة مُفرَدة لم تُلحَق بسورتها، فكيف كانت تُتلى؟ كيف كان يُتعبَّد بتلاوتها؟ هذا خلاف المعروف من نزول كتاب الله – تبارك وتعالى -، آياته في سوره، استبعد هذا الاحتمال، وهذا كلام طويل على كل حال، لكن الآية واضحة في معصوميته – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

إذن نتكلَّم الآن ونختم الحلقة بكلام سريع عن السُم، ما عساه أن يكون السُم الذي دُس لرسول الله ولمَن معه طبعاً في تلكم الشاة في هذه الواقعة يا إخواني؟ الذي أُرجِّحه والله – تبارك وتعالى – أعلم أن هذا السُم كان سُم الزرنيخ، أي الــ Arsenic، سُم الزرنيخ! هذا السُم معروف وبدأ يشيع استخدامه من السنة التاسعة للميلاد في الاغتيالات السياسية وغير السياسية، أي في التسميم الجنائي، أي الــ Homicidal كما يقولون، في التسميم الجنائي! وطبعاً هناك حتى تسميم انتحاري، أي Suicidal toxicity، بدأ يشيع استخدامه في التسميم من السنة التاسعة للميلاد، أي بعد عيسى مُباشَرةً، أو في زمن عيسى نفسه – عليه السلام -، لماذا؟ لماذا شاع بالذات استخدام الزرنيخ؟ سُم الــ Arsenic هذا شاع تقريباً في العالم القديم والوسيط كله، في بلاد العرب والفُرس والهند والإغريق، في كل مكان! هذا السُم أصبح شائعاً، لأن عنده مزايا، المزية أو الميزة الأولى له هي لا لون له، لا طعم له، لا رائحة له، والــ Lethal dose كما يُقال – أي الجُرعة القاتلة، الــ Lethal dose هي الجُرعة القاتلة، أقل كمية يُمكِن أن تُحقِّق الإجهاز على المجني عليه – قليلة جداً، هذا الــ Lethal dose أو الجُرعة القاتلة من سُم الــ Arsenic أو الزرنيخ قليلة جداً، من مائة وعشرين إلى مائتي مليجرام Milligram فقط، تخيَّلوا! أي هذا عجيب، أقل من خُمس الجرام Gram، أقل من خُمس الجرام Gram بكثير، من مائة وعشرين إلى مائتي مليجرام Milligram فتقتل، تقتل الإنسان!

هناك بعض المُشتَقات له، كثالث أُكسيد – مثلاً – الزرنيخ، هذا تقريباً الخمسون مليجراماً Milligram منه يقتل، الخمسون مليجراماً Milligram قاتل، وطبعاً له مُشتَقات ومُركَّبات، أي الزرنيخ، على كل حال فهذا فعّال جداً في الإجهاز، فعّال جداً في الإجهاز! وهكذا كما قال ستالين Stalin يغيب الرجل وتغيب معه المُشكِلة، ستالين Stalin – أي جوزيف ستالين Joseph Stalin – كان زعيم الاتحاد السوفيتي، الطاغية الكبير في وقته، القتّال! هذا شُهِر بالاغتيالات السياسية، تخلَّص من عشرات الأخصام السياسيين عن طريق السُم، دائماً كان يُوصي بالسُم، هذه أحسن طريقة، وكان يقول ستالين Stalin وهكذا يغيب الرجل وتغيب معه المُشكِلة، أي الرجل والمُشكِلة جميعاً يذهبان، يغيب الرجل وتغيب معه المُشكِلة.

لذلك سُم الزرنيخ كان شائعاً جداً في العالم القديم والوسيط – إخواني وأخواتي -، فنحن نُرجِّح أن السُم الذي دُس لرسول الله هو سُم الزرنيخ، وهو من السموم المعدنية، هناك سموم نباتية معروفة، فسقراط Socrates حُكِم عليه بالإعدام بتناول كأس من السُم، وهو سُم الشوكران، هذا سُم نباتي، وهناك سموم معدنية، كالزرنيخ، كالرصاص، كالزئبق، كالحديد، وكالكوبالت، فهذه كلها سموم معدنية، هذه سموم معدنية! الزرنيخ سُم معدني، ونحن نُرجِّح أن يكون الذي دُس لرسول الله وأصحابه هذا السُم، لأنه مُتاح ومعروف للجميع.

طبعاً للأسف الشديد بعد ذلك حتى في التاريخ الإسلامي صار الاغتيال السياسي بدس السُم للخصوم السياسيين معروفاً، فمن المعروف أن مالك الأشتر وهو ذهب إلى مصر ليكون والياً للإمام عليّ على مصر مات قبل أن يبلغ مصر بطريق السُم، دُس له السُم في العسل، بعد ذلك الإمام الحسن أبو محمد دُس له السُم، ومات مسموماً، عمر بن عبد العزيز مات مسموماً، الإمام عليّ الرضا مات مسموماً، دسوا له السُم في العنب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد مات مسموماً، دُس له السُم.

للأسف شاع أيضاً في الحضارة الإسلامية قتل الخصوم السياسيين، قتل الخصوم السياسيين بطريق دس السُم، ونأتي الآن إلى مسألة مُهِمة، لابد أن يكون لهذا التسمم أعراض، تأثير السُم في البدن لابد أن يكون له أعراض، فهل كان النبي يُعاني من هذه الأعراض؟ طبعاً هذه مسألة يضيق عنها الوقت، لكن باختصار أعراض التسمم بالزرنيخ تختلف بحسب حالات التسمم، هناك ثلاث حالات للتسمم بالزرنيخ.

حالة التسمم الحاد، أي الــ Acute toxicity، هناك حالة التسمم الحاد، أي الــ Acute toxicity، ما هو الــ Acute أو الحاد؟ حين يتناول الشخص الضحية أو يُدَس له كمية كبيرة أو جُرعة كبيرة من السُم – وكما قلنا هو لا طعم له، لن يشعر بطعمه، تُدَس له في مرة واحدة أو في فترة قصيرة جداً لا تتعدى الأربع والعشرين ساعة – يُقال هذا التسمم تسمم حاد، وطبعاً له أعراض معوية وأعراض كبدية وأعراض تعرقية وأعراض جلدية ولونية – تُصيب الجلد – كثيرة، هناك أعراض كثيرة، والوقت طبعاً يضيق عن استقصاء هذه الأعراض، موجودة في المراجع المُتخصِّصة.

هناك التسميم دون الحاد، أو تحت الحاد، أي الــ Subacute، هذا التسميم يكون حين يُدَس للإنسان جُرعات لكن في وقت أطول قليلاً، أي ربما في بضعة أشهر، فيُقال هذا التسميم دون حاد، بعضهم قال – وهذا التسميم قد يكون في حق الإنسان، وفي حق أي كائن حي، حتى في حق كائنات مثلاً المخبر، أو حيوانات المُختبَرات كما يُقال – الآتي، بعضهم حاول أن يحط حداً، فقال على ألا تزيد هذه الفترة عن عشرة في المائة من مُتوسِّط عمر هذا الكائن الحي، وعلى كل حال هذه معلومات فنية وتخصصية.

وله أعراض أيضاً، اختبرنا هذه الأعراض، ووجدنا أن النبي لم يكن يُعاني من شيئ منها، النبي لم يُعان من أعراض التسمم الحاد، ولم يُعان من أعراض التسمم تحت الحاد، بقيَ الآن التسمم الــ Chronic، التسمم الــ Chronic هو التسمم المُزمِن، ما هو التسمم المُزمِن؟ حين يُدَس للضحية – إخواني وأخواتي – كميات صغيرة أو دوزات Doses صغيرة من هذا السُم لكن في فترة مُتمادية أو في فترة طويلة، تستمر ربما إلى بضع سنين أو إلى سنين عديدة، ربما يظل يُسمَّم سبع سنين أو عشر سنين، فيُقال هذا تسميم مُزمِن، وله أيضاً أعراض، الغريب أننا تقصينا هذه الأعراض، وحاولنا أن نُطبِّقها على رسول الله وما كان يجد، ولم نجد هذه الأعراض.

هناك دورة السُم في الجسم يا إخواني، دورة السُم في الجسم! السُم قد يدخل عن طريق الجلد، قد يدخل عن طريق القناة الهضمية، أي في الطعام والشراب، قد يدخل عن طريق الرئتين، وهذا من أخطر ما يكون، له منافذ كثيرة وطُرق في الدخول، وبعد أن يدخل يا إخواني يأخذ دورته في الدم، وتحدث له تحولات، أي Transformations كما يُقال في علم السموم، تحدث له تحولات، وبعد ذلك تتأثَّر به أعضاء دون أعضاء، ويستقر في أعضاء دون أعضاء.

باختصار لأن الوقت ربما أزف وشارف على الانتهاء نقول السموم المعدنية وفيها رأسها الــ Arsenic أين تستقر؟ تستقر في الكبد، والآن عندنا مسألة الــ Excretion، والــ Excretion هي مسألة الدفع أو الطرح، طرح السموم من الجسم، كيف يتخلَّص منها الجسم؟ يتخلَّص منها عن طريق اللُعاب، عن طريق العرق يا إخواني – أي الجلد -، عن طريق اللبن للنساء المُرضِعات، عن طريق البول، وعن طريق الغائط أيضاً، يحدث هذا عن طريق الغائط، فالزئبق – مثلاً – أكثر ما يخرج عن طريق الغائط والعرق، لكن الآن الــ Arsenic هذا أو الزرنيخ كيف يطرحه الجسم؟ أي كيف يعمل له الفرز أو الطرح؟ أكثر شيئ يكون عن طريق الكُلية، وبعد ذلك المجاري البولية، عموماً الكُلية هي أكثر عضو يُطرَح السَم من خلاله، هي أكثر عضو يُطرَح السَم أو السُم من خلاله، وعن طريق البول.

الآن الذي نُريد أن ننتهي إليه أن النبي – كما قلنا – لم يُعان من تسمم حاد، ولا من تسمم تحت حاد، ولا من تسمم مُزمِن، أي القدر الذي ربما خالط لُعابه من هذا السُم قليل جداً جداً، وهذا القدر الكبد والكُلية بعد ذلك كفيلة عبر الأيام والشهور فضلاً عن ثلاث سنين أن تتخلَّص منه تقريباً ربما كُله أو من مُعظَمه على الإطلاق، فمن أين يُنسَب إلى رسول الله أنه قال فهذا أوان انقطاع أو انقطع أبهري منه؟ كأنه الآن بلغ الذروة! علمياً – بحسب علم السموم يا إخواني – لابد ألا يكون بلغ الذروة الآن، لابد أن يكون في أحسن أحواله، فالمسألة حتى علمياً غير صحيحة.

نكتفي بهذا القدر وقد أدركنا الوقت، إلى أن ألقاكم في حلقة جديدة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

20 سبتمبر 2013

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • الرسول ء(ص)لم يمت مسموماً بل ماتَ لأجلٍ مكتوب. ما صحة هذا الحديث : ( دخل الملك جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ملك الموت بالباب ، ويستأذن أن يدخل عليك ، وما استأذن من أحد قبلك ، فقال له : ائذن له يا جبريل . ودخل ملك الموت وقال : السلام عليك يا رسول الله ، أرسلني الله أخيرك بين البقاء في الدنيا وبين أن تلحق بالله ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بل الرفيق الأعلى ، بل الرفيق الأعلى . فوقف ملك الموت عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم ( كما سيقف عند رأس كل واحد منا ) وقال : أيتها الروح الطيبة ، روح محمد بن عبد الله ، اخرجي إلى رضى من الله ورضوان ورب راضٍ غير غضبان ).إن كان أجله بسمٍّ أكله فكيف يخير بين الدنيا والرفيق الأعلى.(https://www.facebook.com/ser.abdelghani)

%d مدونون معجبون بهذه: