تابعونا http://twitter.com/#!/Khalejiatv و http://www.facebook.com/khalejiatv

روتانا خليجية هي القناة العربية الأولى المتخصصة في تقديم أرقى إبداعات الفن والتراث الخليجي من أغاني ودواوين شعرية وبرامج موسيقية وثقافية. روتانا خليجية هي مرآة تعكس روح الخليج العربي وأصالته وترضي ذوّاقة هذا النوع من الفن العريق في العالم أجمع.

الترددات

NileSat 104 Freq. (11,296 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
102 Freq. (10,775 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4
Arabsat Freq. (11,843 MHz) – H – SR: 27500 S/s – FEC 3/4

 

برنامج آفاق

الرسول والحرب الأهلية

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

إن أسوأ صفات الإنسان – وإن شئتم غرائزه – هي تلك التي تبعثه على الاحتراب وسفك الدماء وقتل النفوس المعصومة البريئة والحرص على إزهاقها.

قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، ولذا كانت الحرب ولا جرم أسوأ ظاهرة عرفها التاريخ البشري والاجتماع الإنساني.

هذه الظاهرة التي تعني الانقطاع، فهي أم الانقطاعات، تنقطع فيها المناشط والمشاغل على جميع المُستويات، الحكومية والأهلية، العسكرية والمدنية، إلا وبشكل رئيس وأساسي ما يصب الزيت على نار الحرب، بما يُطعِم هذا الغول مزيداً من الطعام ويمده بأسباب جديدة من أسباب القوة، غول الحرب والفناء!

والحرب – إخواني وأخواتي – كما تعلمون جميعاً تُستباح فيها تقريباً كل المُحرَّمات، كما في الحديث عن عبد الله بن عمر الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره، قال – رضوان الله تعالى عليه – تعدون القتل في الفتنة لا شيئ، في الفتنة يصير القتل لا شيئ، ثم استتلى يقول وسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول لا ينتجي – أي لا يتناجى – اثنان دون الثالث، كأنه يُريد أن يقول بهذه المُقابَلة النبي أرشدنا وهدانا وعلَّمنا ألا يتناجى اثنان دون أخيهم الثالث من أجل أن ذلك يحزنه ويكسر بخاطره، لكنكم يا هذه الأمة ويا معشر المُسلِمين في حال الفتنة يغدو أحدكم يستهين حتى بقتل أخيه، فكأنه يقول لكم أو يقول لهذه الأمة أين أنتم من حقيقة إسلامكم؟! أين أنتم من رحمانية هذا الإسلام؟!

الحرب إذن هي أم الجرائم، أم الانقطاعات وأم الجرائم، يضطرب فيها حبل الأمن، ويختل فيها النظام ويتقلقل، ويشيع فيها الالتباس والاشتباه، ويُخيِّم فيها الفزع والقلق والخوف، تعظم فيها الحزازات، وتكثر فيها الألاقي والمرارات، وتقريباً كما قال برتراند راسل Bertrand Russell مرةً وكان من ألمع العقول التي ناهضت الخرب بكل ألوانها وبغض النظر عن شتى أسبابها، قال الحرب في النهاية لا تُحدِّد المُحِق، لا تُميِّز المُحِق من المُبطِل، لكنها تُحدِّد الباقي، بمعنى أنه لو كان ينتصر فيها صاحب الحق لهان الخطب، لكن ليس بالضرورة أن يخرج صاحب الحق مُنتصِراً في النهاية، قد يُهزَم ويُهزَم ويُهزَم، فالحرب شأن بغيض – إخواني وأخواتي -.

والحرب أيضاً تلتئم بالغريزة، كما قلنا بل بأسوأ غرائز الإنسان ربما، غريزة الاحتراب والاقتتال والاصطراع والحرص على سفك الدماء، تلتئم بها تماماً، ولذلك هي عدوة الحضارة، لأن الحضارة في جوهرها هي ضبط الغرزي فينا، ضبط الجانب الغرزي، حين تُضبَط هذه الجوانب الغرزية تبرز الحضارة.

هذا المعنى الجميل والعميق تلمَّحه مُؤسِّس التحليل النفسي سيجموند فرويد Sigmund Freud حين قال مرة، قال نشأت أو بزغت الحضارة حينما ألقى لأول مرة رجل غاضب بكلمة بدل أن يُلقي حجراً، نشأت الحضارة! كأنه يقول الحضارة تنشأ فعلاً بضبط الغرائز في الإنسان، لأن إلقاء الحجارة عمل غرزي، تُمارِسه الحيوانات، وبالذات العُليا، بأشكال مُختلِفة قليلاً، والجوهر واحد، لكن الاستعاضة عن إلقاء الحضارة وسل السيوف والرماح والخناجر والآن البنادق والقنابل الذرية والهيدروجينية بالحوار، بالمُفاوَضة، بالمُساوَمة، وبالنقاش، يعني بزوغ الحضارة، تأخَّرت الغريزة وتقدَّم العقل، تأخَّر الغول أو اختفى الوحش وبرز الإنسان أو برز الجانب الملائكي في الإنسان.

إخواني وأخواتي:

ولئن كان هذا هو شأن الحرب بعامة – الحرب بين الدول والشعوب، بين الأمم – فإن شأن الحرب الأهلية أبشع وأشنع وأروع وأفظع – والعياذ بالله -، الحرب الأهلية التي تقوم ويشتعل أوارها بين أطراف – بين طرفين أو أكثر – في البلد الواحد، بين أبناء الشعب الواحد، في الأمة الواحدة، أياً ما تكن بواعثها وأسبابها، دينية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية أو طبقية أو سلالية أو إثنية أو سياسية، بغض النظر عن كل هذا، هي حرب أهلية، هذه هي الحرب الأهلية التي يكون رائد كل فريق ألا مكان إلا لي ولمَن كان معي، ومَن لم يكن معي فهو ضدي، هذه البلد أو هذه الأرض أو هذا النطاق لنا وحدنا، ليس للآخرين، ليس من حق الآخرين أن يكونوا، وليس من حقهم أن يعيشوا.

بالضبط هذا هو جوهر الحرب الأهلية، نزوع إلى الاستبداد والتفرد بالسيادة والسُلطة، أكون ولا يكون غيري، صراع صفري، كل شيئ لي وليس لغيري شيئ، أنا الذي أكسب والآخرون يخسرون، وبهذا المنطق ذاته يُقابِلك الآخر، لذلك هي إفناء مُتبادَل، لماذا كانت أبشع وأشنع من الحرب العادية بين دول وشعوب وأمم؟

في الحرب العادية يجد البطل ويجد المُجاهِد ويجد المُقاتِل والمُناضِل ويجد الإنسان العادي المُسالِم الضعيف العاجز عن أن ينهض في هذه الحرب بسبب أو بآخر، يجد دائماً الملاذ الآمن، أين؟ عند إخوانه وأصدقائه، بين جيرانه، بين مواطنيه، من أبناء الوطن الواحد، كلهم يُشكِّلون له ملاذاً آمناً، ويُوفِّرون له الملاذ الآمن، في كل لحظة، وليس في اللحظات الحرجة، في الحرب الأهلية أخوك، صاحبك، جارك، قريبك، وربما أدنى الناس إليك، هو عدوك، هو الذي يترصدك، وأنت تترصده أيضاً، لعنة! لعنة تحيق بالأمة.

أشك أن التاريخ عرف شيئاً أبشع وأفظع وأشنع من الحرب الأهلية أو سيعرف حتى، أبشع شيئ يُمكِن أن تُرمى ويُمكِن أن يحيق بأمة من الأمم وبشعب من الشعوب، حرب الكل ضد الكل، الجنون المُنفلِت العقال، المُطلَق السراح، هذه هي الحرب الأهلية.

تبدأ – إخواني وأخواتي – بيوم يصطلح أهل البلد المحروبين طبعاً على أن يُسموه وينعتوه باليوم الأسود، لما يهولهم فيه من عدد الذين سقطوا من الأبرياء صرعى بعمل جبان خوّان أثيم، عشرة سقطوا، أكثرهم أطفال ونساء وشيوخ عجزة، وربما عشرون، وربما خمسون، ثم لا يلبثون بعد ذلك أو لا يلبث هذا الشعب المُحترِب المُتصارِع أن يكتشف أن كل أيام الأسبوع أو سبعة أيام الأسبوع وأربعة أسابيع الشهر وشهور العام وعام بعد عام، كلها أصبحت أشد اسوداداً، سوداً مُدلهِمة، أكثر حُلكة من اليوم الأسود الأول، الذي صار لا شيئ، صار مأنوساً تماماً، صار طقساً يومياً، طقس الدم! تشبع غيلان الموت، ينتشي جنون الجريمة يا إخواني، يُغادِر العقل الساحة، ويبقى الجنون – كما قلت – يُعربِد، هذه هي الحرب الأهلية، حرب الكل ضد الكل!

لو كان هوبس Hobbes يعيش بيننا ويسمع هذا الكلام لقال هذه هي حرب الكل ضد الكل، أي الحرب الأهلية، إنها السرطان – إخواني وأخواتي -، السرطان الذي يشرع في إفناء وفي تدمير جسمه الذي يحتضنه، وينتهي به المطاف أن يفنى هو بفناء الجسم، أن يذوي هو بذواء هذا الجسم، لأن الجسم هو الذي يحمله، الحرب الأهلية تغريق لسفينة المُجتمَع، السفينة التي تقل الجميع وتحمل الجميع، هذا ينزع منها لوحاً، هذا يُحدِث في أرضيتها نقباً، وهذا يحرق جانباً منها، حسنٌ! ستغرق السفينة، ويغرق الجميع بغرقها، سيطويهم لُج اليم في باطنه الأسود السحيق العميق، وينتهي الجميع، إن لم يأذن الله – تبارك وتعالى – بوقفها عن طريق عقلاء القوم أو عن طريق عقلاء الشعب، إن لم يأذن – سُبحانه وتعالى – بأن يبرز مِن بينهم مَن يقول كفى لهذا الجنون، كفى!

هناك الدرس البالغ – إخواني وأخواتي – الذي يتعلَّمه الناس ويتعلَّمه الأيقاظ البُصراء من بني آدم من تاريخ الحروب الأهلية، وللأسف عالم العُرب إلى اليوم لا يزال يشهد بعض أحداث مُسلسَل الحروب الأهلية العربية، لم يتعلَّم بعضنا من بعض، كأننا لم نر شيئاً، لم نسمع شيئاً، والعجيب أن منا مَن يُصِر على أن ينطق نطقاً معيارياً باسم المُحِق والمُبطِل أو الصح والغلط.

وهنا يا إخواني اللسان لا ينبغي أن يكون لساناً معيارياً، لابد أن يكون لساناً واقعياً وضعياً، لأن النُطق بالحقيقة أحياناً في مثل هاته الظروف يُعتبَر بمثابة صب بنزين وزيت على النار، فقد نتأخَّر قليلاً، قد لا نتكلَّم، وقد لا يعنينا أن نفرز مَن المُحِق ومَن المُبطِل، لأن هذا يُؤجِّج النار ويزيد الأوار، وليس هذا ما نبغيه، وإلا استمرت المذبحة، واستمر الدمار، وتوالت الكوارث.

وفي الحرب الأهلية – في كل حرب أهلية إخواني وأخواتي – بسبب انهيار الوحدة المُجتمَعية وتفكك النسيج الاجتماعي وحلول الفوضى والاحتراب والاصطراع عوض ذلك ومحله ماذا يحدث؟ يحدث أن تدس أطراف خارجية إقليمية أو دولية أصابعها – دائماً تقريباً هذا يحدث -، تدس أصابعها في الميدان، أي في ميدان الشعب المحروب أو الشعب المكروث بنفسه والملعون بنفسه، لماذا؟ لتُصفي حساباتها، هذه القوى الإقليمية والدولية تُريد أن تُصفي حسابات لها على هذه الأرض، وفي هذا الميدان – كما قلنا – المجنون، مُطلَق السراح، لكن بأي ثمن؟ مَن الذي يدفع الثمن الباهظ والأكلاف الصعبة المُرة من الدماء والأشلاء ومن المرارات والدموع والحزازات؟ الشعب نفسه، الشعب الذي يُحارِب بعضه بعضاً.

ولذلك الأطراف الخارجية تُصِر وتُقسِم خمسين يميناً أنها لن تنفك حتى تُصفي الحسابات، لكن بآخر طفل صغير من أطفال هذا الشعب المحروب، ليس بأطفالهم هم، إنما بآخر طفل منكم أيها المُحترِبون، وبآخر طوبة في آخر بناية أو بآخر حجرة في آخر بناية، لكن في بلادكم، من أبنيتكم، من أرضكم أنتم.

هذا ما يحدث دائماً يا إخواني، فمتى يستفيق هذا الشعب الذي غُلِب إذن على عقله، الذي زايلته الحكمة، والذي لم يتعلَّم من درس التاريخ؟ كم بُرهان يُريد! ما هي البراهين التي يُمكِن أن تُقنِعه أن النزاع والاختلاف المُجتمَعي لا يُمكِن ولا يسوغ ولا يجوز أن يُحَل بالعنف واصطناع الإرهاب والتلويح بالقوة والتهديد والقول أنا ولا غيري وأكون أو لا أكون؟ أبداً! إنما يُحَل دائماً بالتفاوض السلمي، بالكلام، بالحوار، بالصبر، بالصفح، بالتسامح، وبتوسعة الصدر وتوسعة أمداء أو مدايات العقل أيضاً، هذا هو التاريخ – إخواني وأخواتي -.

والتاريخ طويل، أي تاريخ الحروب الأهلية يا إخواني، في أوروبا حدثت حروب بل سلسلة حروب استمرت ثلاثين سنة، في جُزء منها بلحاظ مُعيَّن هي حروب أهلية، وفي الجُزء الآخر هي حروب إقليمية ودولية، حروب الثلاثين عاماً، من سنة ألف وستمائة وثماني عشرة، إلى سنة ألف وستمائة وثماني وأربعين، ثلاثون سنة عجاف، تورَّطت فيها مُعظَم دول أوروبا الوسطى والغربية ودول شمال أوروبا، لم تنج منها إلا إنجلترا وروسيا، والسبب الأول كان سبباً دينياً، صراع بين البروتستانت والكاثوليك، استمرت لثلاثين سنة!

أكثر دولة أو أكثر نطاق جغرافي كُرِث ألمانيا، ألوف القُرى دُمِّرت، ألوف القُرى! الجيش السويدي وحده دمَّر في ألمانيا زُهاء ألفي قلعة، وثمانية عشر ألف قرية، وألف وخمسمائة مدينة، وهذا وحده يُعادِل أو يعدل ثُلث مُدن ألمانيا كلها، وبحسب ويل ديورانت Will Durant في قصة الحضارة فإن تلكم الحرب المُدمِّرة المجنونة هبطت بسكان ألمانيا من ثلاثين مليوناً إلى ثلاثة عشر مليون من البشر فقط، أكثر من النصف أُبيدوا، أكثر من خمسين في المائة أُبيدوا بالكامل، في ثلاثين سنة يا إخواني!

بوهيميا في تشيكوسلوفاكيا لاحقاً، بوهيميا نفس الشيئ يا إخواني، من بين خمسة وثلاثين ألف قرية في بوهيميا فإن تسعة وعشرين ألف قرية غادرها أهلها، تركوها ونزحوا منها، وتركوا أملاكهم وبيوتهم ومزارعهم ومعائشهم، وهبطت الحرب مرة أُخرى بسكان بوهيميا من ثلاثة ملايين إلى ثمانمائة ألف، تقريباً زُهاء سبعين في المائة قضوا في الحرب، وهكذا! حرب مجنونة، يعجز الشيطان أن يشن مثل هذه الحروب، لكن الإنسان يفعلها، الإنسان يفعلها يا إخواني!

ولذلك يُعلِّق فرانسوا فولتير François Voltaire، يقول لولا ما كان من صُلح  وستفاليا – صُلح أو مُعاهَدة وستفاليا الشهيرة جداً في التاريخ الأوروبي هي التي وضعت حداً لحروب الثلاثين عاماً – لكانت ألمانيا اليوم ستكون مُجرَّد صحارى، تتقعقع فيها وتلوح عظام الضحايا من البروتستانت والكاثوليك والذين يُنادون بتجديد المعمودية، قال هذا ما كان سيبقى من ألمانيا، لن يبقى منها شيئ، شيئ مُخيف!

الحروب الدينية في فرنسا نفس الشيئ، الحرب الأهلية الأمريكية من سنة ألف وثمانمائة وإحدى وستين إلى سنة ألف وثمانمائة وخمس وستين بين الشمال والجنوب كما تعلمون، بسبب ملف العبيد، حين اشتعلت هذه الحرب الأهلية قدَّر الناس أنها ستنتهي وتنقضي في أسابيع يسيرة، فاستمرت زُهاء خمس سنوات عجاف – والعياذ بالله -، قضى فيها في أكثر التقديرات تواضعاً زُهاء ستمائة ألف، أكثر من نصف مليون في أكثر التقديرات تواضعاً! 

الحرب الأهلية الروسية من سنة سبع عشرة إلى إحدى وعشرين ملايين قضوا فيها، ملايين يا إخواني! هناك الحرب الأهلية الإسبانية، وهذه مشهورة جداً، حرب فرانكو Franco مع الشيوعيين، من سنة ألف وتسعمائة وست وثلاثين إلى سنة ألف وتسعمائة وتسع وثلاثين، قضى فيها ثلاثين ملايين في زُهاء أقل من أربع سنوات، ثلاثة ملايين ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية، التي خلَّدها الرسامون والشعراء مثل بيكاسو Picasso وغيره في لوحاتهم وفي أعمالهم الشعرية.

هناك الحرب الأهلية في رواندا بين الهوتو والتوتسي في شهور يسيرة قضى تسعمائة ألف، أي زُهاء مليون في شهور يسيرة يا إخواني، كان يقتل الجار جاره وقد جاوره وحاسنه ولم ير منه إلا كل خير عشرين سنة، في لحظة مجنونة أصبح يقتله ويقتل عائلته وأولاده، مليون في شهور يسيرة! شيئ مُخيف مُفظِع، هذه هي الحروب الأهلية يا إخواني وأخواتي.

الحرب الأهلية في الجزائر من عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين إلى ألفين واثنين، قضى بسببها ومن جرائها ربما ثلاثمائة ألف أو أكثر من ثلاثمائة ألف من أهل الجزائر المُوحِّدين المُسلِمين، وتعرفون ما هو السبب، السبب أنه حيل بين المُسلِمين أو بين الإسلاميين وبين الحُكم، لو أنهم استخدموا عقولهم وقالوا ظلمٌ حل بنا، نصبر على ظلم ذوي القُربى، من أجل الدين ومن أجل الوطن ومن أجل الحُرمات ومن أجل المُستقبَل ومن أجل العقل، لما حدث الذي حدث، لكنهم لم يصبروا وكان ما كان، فهل تعلَّم غيرهم؟ هل تعلَّم الناس في العراق وغير العراق؟ هل يتعلَّم الناس اليوم في مصر هذا؟ إن شاء الله يكونون قد تعلَّموه أو على استعداد أن يتعلَّموه، وإلا فالنتائج مُخيفة، يجب أن نتعلَّم.

الحرب الأهلية في العراق أنا أظن أنها لا تزال مُستمِرة، لكن بوتيرة طبعاً أخف، بجنون أقل حدةً، من عام ألفين وستة إلى سنة ألفين وثمانية يقولون، لكن لا تزال مُستمِرة، هناك حروب أهلية كثيرة جداً، كالحرب الأهلية الفيتنامية يا إخواني، من عام خمسة وثلاثين إلى عام خمسة وسبعين مُستمِرة، ومعروف أدت إلى ماذا، وفي الوسط كان تدخل الأمريكان.

الحرب الأهلية اليوغوسلافية استمرت زُهاء أيضاً عشر سنوات، من المُسلِمين وحدهم قضى زُهاء أيضاً ثلاثمائة ألف، فقط بسبب هذا النزاع الأهلي، وطبعاً هناك الحرب الأهلية اللبنانية، من سنة ألف وتسعمائة وخمس وسبعين إلى سنة ألف وتسعمائة وتسعين، بدأت طائفية بامتياز، مُسلِم ضد مسيحي، ومسيحي ضد مُسلِم، ثم انتهت لتُؤكِّد أن الحرب الأهلية هي الحرب الأهلية، انتهت لتكون حرب الكل ضد الكل، حرب الأخ لأخيه، حرب الجار لجاره، حرب جعجع لعون وعون لجعجع وكلاهما مسيحيان، ميليشيات أمل الشيعية ضد ميليشيات تابعة لإيران الإسلامية، شيعي ضد شيعي، الميليشيات الفلسطينية ضد المُنظَّات الفلسطينية، فلسطيني ضد فلسطيني، وطبعاً بعد ذلك اعملوا توافيق وتباديل، وهذا ضد هذا، وهذا ضد هذا، حرب الكل ضد الكل، جنون! فعلاً جنون مُنفلِت العقال، مُطلَق السراح يا إخواني وأخواتي.

إذن الحرب الأهلية بكلمة انتحار جماعي، الجماعة حين تنتحر، الفرد ينتحر، الجماعة أيضاً تنتحر، كيف تنتحر الجماعة؟ حين تكون الحرب الأهلية هي خيارها، وطبعاً لا يقول أحد أو لن تجدوا مَن يقول الحرب الأهلية خياري، لكنه يتكلَّم وينطق ويُنظِّر ويسلك وينشط ويشتغل بما يُؤكِّد ألا خيار عنده إلا الذهاب إلى الحرب الأهلية أو جر غيره إلى الحرب الأهلية، مسكين هو! لأنه مُصِر على أن ينتصر، مُصِر على أن ينتصف، ومُصِر على أن يُقاتِل، ومَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، دون دمه فهو شهيد، دون دينه فهو شهيد، ودون أهله فهو شهيد، كما في حديث النسائي، ويقول لك هذا دين يا أخي، أليس ديناً؟! وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ۩.

نقول له هذا من الدين الذي لا تفهمه، لأن الدين يحتاج إلى عاقل ليفهمه، أنت فهمت شيئاً وغابت عنك أشياء وأشياء وأشياء، لا يصح أن يُعضون الدين وأن يُجزأ الدين وأن يُقسَّم وأن تفهمه كيفما شئت، وسوف نرى حقيقة هذا الفهم ونروز هذا الفهم استناداً إلى النصوص وإلى الوقائع من السيرة الشريفة، نستدعي الكتاب والسُنة والسيرة، ونرى مدى نصيب ومدى ما لهذا الفهم الكسيح للأسف وهذا الفهم الإجرامي، هذا فهم مُجرِم، الفهم الذي يُنظِّر لحل النزاعات داخل البلد الواحد بالسيف وبالدم وبالنار هذا فهم مُجرِم وفهم خوّان، يخون الدين ويخون العقل ويخون الوطن ويخون الشعب ويخون أبناء الوطن يا إخواني، ليس هكذا! ليس هكذا على كل حال.

ولذلك يقول عالم النفس السلوكي الكبير – هو عمدة من عمد علم النفس السلوكي – سكينر Skinner، يقول الحرب تبدأ أولاً في الرؤوس، لذلك مُهِم جداً أن نقف أو أن نتوقَّف، نتوقَّف في هذه اللحظة لكي نتكلَّم، لكي نتحادث، لكي يسمع بعضنا بعضاً، ولكي يقول كل ما عنده، لكن انتبهوا، لا بعقلية الإفهام وعقلية الإلجاء، لا! بعقلية الاستفادة، أن أستفيد مما عندك، أن أُحسِن الإصغاء، وأن تُحسِن أنت أيضاً الإصغاء لما عندي وأن تستفيد، ليس بعقلية – كما قلنا – واحد مُقابِل صفر، لا! عقلية واحد إلى واحد، أنا أربح وأنت تربح، أنا أتكلَّم وأنت تتلكَّم، أنا أستفيد وأن تستفيد، وأنا أستمع وأن تستمع، وفي نهاية المطاف لا أحد يخسر، الكل يربح، وإلا فالكل سيخسر، وإلا فالكل خاسر، والكل نادم، قريباً أو بعيداً، اليوم أو غداً أو بعد غد، الكل سيندم.

لذلك الحرب تبدأ في الرؤوس، فلابد من تسليح الرؤوس أولاً، قبل أن نُفكِّر أن نُسلِّح اليد ولو بطوبة، لا! لا تُسلِّح الأيدي، إياك، لا تُسلِّح، خلها فارغة، اتركها فارغة مُرسَلة، وابدأ بتسليح الرؤوس، وستفهم بعد ذلك أن هذه الأيدي بدل أن تتذابح وبدل أن تحمل سكيناً ستتصافح – بإذن الله تبارك وتعالى -، ولذلك يقول مكسيم غوركي Maxim Gorky – الروائي الروسي الكبير – لابد أن نبدأ بتسليح الرؤوس قبل تسليح الأيدي.

فهل من كلمة في كتاب الله – تبارك وتعالى – بصدد الحرب الأهلية؟ قد يقول لي أحدكم غريب، فهذا الموضوع لا نعتقد أن له أصلاً في كتاب الله، بالعكس! له أصل أصيل، والقرآن تحدَّث عن الحرب الأهلية بشكل مُباشِر، ولذلك أقول لكم وقبل أن نتكلَّم ماذا في القرآن وماذا في السُنة وماذا في السيرة الشريفة لابد أن نُهيء أنفسنا لنكون مُستعِدين يا إخواني أن نتعلَّم، ألا نتورَّط في الحماقات والغباوات ألف ألف مرة أو مليون مرة، شيئ غريب جداً!

بعض المُؤرِّخين يقول درس التاريخ يُعلِّم أن الناس لا يتعلَّمون من التاريخ، يا أخي شيئ غريب! القرآن يُعوِّل كثيراً على درس التاريخ، القرآن تجدونه يُعوِّل كثيراً على درس التاريخ في الوقت الذي لا يُعوِّل فيه كثيراً على تفاصيل الحديث التاريخي، فيترك الشخصيات دون تسمية، يتركها دون تحديد حتى سياقاتها الزمانية، وفي المُقابِل يُركِّز كثيراً على العبرة، على الاستخلاص، على الدرس، وعلى فحوى الحدث، هذا هو القرآن الكريم.

وبهذا المعنى لا يُمكِن أن يُجادَل في الحاجة إلى التاريخ، أننا مُحتاجون إلى التاريخ، أما فيما عدا ذلك فالمُؤرِّخون إلى اليوم لا يزالون يختلفون في علمية التاريخ، هل هو علم أو غير علم؟ لكن بغض النظر عن هذا لابد أن نتعلَّم أن أهم ما في التاريخ أن تُستخلَص منه العبرة، فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ ۩.

أينشتاين Einstein مرة كتب يقول شيئان لا حدود لهما: الكون والغباء الإنساني، وإن كنت في شك من قضية الكون، الكون قد يكون محدوداً، أما الغباء الإنساني فيبدو أنه لا حدود له، لكن ما هو الغباء عند أينشتاين Einstein؟ 

هذا السؤال اللطيف نسمعه بعد هذا الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

إذن ما هو الغباء لدى أينشتاين Einstein أو في تعريف أينشتاين Einstein؟ الغباء – يقول أينشتاين Einstein – هو أن تفعل الشيئ نفسه بالطريقة نفسها والخُطوات ذاتها ثم تنتظر بعد ذلك نتائج مُختلِفة.

نحن جرَّبنا الحروب الأهلية وجرَّبنا هذا الاحتراب الداخلي، لم نذق منه إلا الويلات، لم يبق منه إلا الحزازات والمرارات والكوارث وصنوف الدمار أو الدمارات – إن شئتم -، إذن من الغباء أن نُحاوِل مُجدَّداً يا إخواني، هذا ليس في مصلحة أحد.

ماذا يقول الله – تبارك وتعالى – عن الحرب الأهلية في القرآن الكريم؟ يقول – تبارك وتعالى – قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۩، هذا هو توصيف الحرب الأهلية، أن تتفرَّق الأمة الواحدة، يتفكَك النسيج المُجتمَعي أو الاجتماعي، تُضرَب وحدة الأمة، ثم بعد ذلك يحرص كلٌ على أن يضر كلاً، على أن يكرث كلاً، على أن يُؤذي كلاً، وعلى أن يُحارِب كلاً، هذه هي الحرب الأهلية!

ولذلك في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله لما نزل قوله – تبارك وتعالى – قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ۩ قال أعوذ بوجهك، قال أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ۩، قال أعوذ بوجهك، قال أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۩، قال هاتان أيسر أو أهون، على أنهما من اللعنات التي تحيق بالأمة، وهذه كلها وجوه عقاب، شارة حين تختلف الأمة وحين يشتد بأسها بينها، هذه شارة وأمارة وعلامة على أن الله ساخط عليها وغاضب عليها بما كسبت أيديها.

ولذلك في الحديث الصحيح الآخر النبي سأل ربه ألا يُسلِّط على أمته عدواً من غيرها فيستأصل شأفتهم فأعطاه، وسأله ألا يُهلِكهم بالسنة – أي بالجدب وبالقحط – فأعطاه، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم شديداً فلم يُعطِه، لماذا؟ لأنهم مهما تفرَّقوا وتعادوا لابد أن يكون بأسهم بينهم شديداً، كأن الله يقول له على أمتك أن تتعلَّم، الكرة في ملعب أمتك، على أمتك أن تتعلَّم أن حل النزاعات لا يكون بالحرب، وإلا فهو البأس الشديد، وإنما يكون بالكلام، وهذا ما فعله النبي، وأكَّد عليه القرآن، في مكة وفي المدينة على سواء، ليس في مكة وحدها، ليس في المرحلة المكية فقط.

في القرآن الكريم أيضاً وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۩ ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩، الآية تتحدَّث بوضوح عن الحرب الأهلية، الله – تبارك وتعالى – واثق بني إسرائيل أو أخذ عليهم الميثاق والعهد المُؤكَّدين، أنهم لا يقتلون أنفسهم، ما معنى لا تقتلون أنفسكم؟ أي لا تقعوا في حرب أهلية، لا تحتربوا احتراباً داخلياً، ممنوع أن يقتل المُواطن أخاه المُواطن، ممنوع أن يقتل الأخ أخاه والجار جاره، ممنوع! لكن بني إسرائيل كانوا يفعلون، وكان يقتل بعضهم بعضاً.

والغريب أن القرآن يُزري بعقولهم، يقول يقتل بعضهم بعضاً، أما حين يُؤسَر بعضهم على يد عدو خارجي فإنهم يفدونه بالأموال، أي كأن هذا فيه معرة، لكن المعرة الأعظم أن يقتل بعضنا بعضاً.

وأيضاً هناك إشارة ثالثة عجيبة – من أعجب ما يكون – في كتاب الله إلى الحرب الأهلية، لما ذهب موسى – عليه السلام – إلى الطور لمُناجاة ربه – سُبحانه وتعالى – وترك أخاه هارون أوصاه، وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ۩، كانت هذه وصاته إلى أخيه هارون.

لما عاد موسى راعه أن وجد أنفاراً بل جماعات – شطراً من بني إسرائيل – نكصوا – والعياذ بالله – على أعقابهم وارتدوا وعبدوا العجل الذهبي، وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۩، في سورة طه ماذا قال هارون؟ بماذا أجاب هارون؟ وطبعاً موسى لم يكد يُصدِّق، ولماذا لم تفعل شيئاً يا هارون؟ كيف تركتهم ينكصون هذا النكوص ويرتدون هذه الردة ويعبدون العجل الذهبي؟ لم تركتهم وأنت خليفتي وأنت نبي؟ أنت خليفتي في قومي!

قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ۩، هذه سياسة هارون لبني إسرائيل، ما معنى إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩؟ كأنه يقول لنا بلسان فقه عصرنا أو بلسان عصرنا وبلُغتنا اليوم، كأنه يقول – أي هارون، عليه السلام – أنا وازنت بين مصلحتين: مصلحة حفظ الجامعة – ما الجامعة؟ الوحدة، الوحدة الوطنية، أي مصلحة حفظ جامعة الأمة، وحدة الأمة، وحدة المُجتمَع والشعب – ومصلحة حفظ الدين والعقيدة، أي حفظ التوحيد، أن لا إله إلا الله، تعارضت المصلحتان، فبديت وقدَّمت مصلحة حفظ الجامعة ووحدة الأمة على حفظ العقيدة والدين، لماذا؟ 

لأن حفظ العقيدة والدين يُمكِن أن يُتدارك، الدين إن لم يُحفَظ اليوم وحدثت ردة والتباس واشتباه بل ردة صريحة يُمكِن أن يُتدارك هذا غداً أو بعد غد أو في أي يوم، يُمكِن! أما إن ضُرِبت الأمة في وحدتها وتقاتلت واحتربت وذبح بعضها بعضاً فهذا قد لا يُتدارك إلا في عشرات السنين، وقد لا يُتدارك، قد تفنى به الأمة.

بعض العلماء يقول موسى لم يُقِره، بالعكس! ظاهر القرآن الكريم أن موسى – عليه السلام – أقر هارون على هذا الاجتهاد الاستصلاحي والاجتهاد المقاصدي في سياسة أمته، كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، هذه سياسة نبي، لماذا؟ لأنه سكت عليه، لم يتكلَّم بعد ذلك، تركه ثم ذهب إلى السامري، التفت إلى السامري، وجعل يُخاطِبه ويُحاقِقه، أي يُناقِشه الحساب، فهذه واضحة جداً يا إخواني.

في السيرة النبوية الشريفة والسُنة النبوية الشريفة أول ما يلفتنا – إخواني وأخواتي – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ظل حريصاً طوال الفترة المكية على الاعتصام بالسلامية وبروح الصفح والصبر والعفو، ونهى أصحابه من عند آخرهم أن يتعرَّضوا لجلّاديهم ولمُضهديهم وللقتلة ولسدنة الشرك والوثنية، الذين أذاقوهم العذاب ألواناً، وأنزلوا بهم صوراً من الخسف والإذلال والاضطهاد، تعجز عن حمل أمثالها الجبال، تنوء بها الجبال! ومع ذلك دائماً كان يأمرهم بالصفح، يأمرهم بالعفو، بالمُسالَمة، وبالصبر.

يروي الإمام البخاري في صحيحه عن خبّاب بن الأرت، قال أتينا النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – نشكوه، أو نشكو إليه، وهو مُتوسِّد بُردة له في ظل الكعبة، يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ بلغت أذية المُشرِكين بهم مبلغاً عظيماً، كأنهم أوشكوا ألا يصبروا عليها، عيل صبرهم كما يُقال، عيل صبرهم! فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – قد كان مَن قبلكم يُؤخَذ الرجل منهم، فيُحفَر له في الأرض، فيُوضَع فيها – أي في الحُفرة -، ثم يُؤخَذ أو يُؤتى بالمنشار، فيُوضَع على رأسه، فيُجعَل نصفين – والعياذ بالله -، يُنشَرون بالمناشير!

وفعلاً – سُبحان الله – النبي قال هذا، وهذا ثابت في تاريخ الشهداء المسيحيين، كانوا يُنشَرون وكانوا يُشعَلون مشاعل، كانوا يُشعِلونهم مشاعل، يُضيئون بها الطرقات، فربما رأيت في طريق واحدة – مثلاً – مائتي شهيد، يُقابِلهم على السكة الثانية أو الجهة الثانية من الطريق مائتي شهيد، وقد أُحرِقوا، أُولِع بهم كأنهم مشاعل – والعياذ بالله -، عصر الشهداء معروف في تاريخ المسيحية في الإمبراطورية الرومانية، والنبي تحدَّث هنا عن المناشير.

ويُمشَط – أي الرجل منهم – بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، فاصبروا! فوالله ليُتمن الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون، غريب! النبي يأمر بالصبر إلى هذه الدرجة! كأنه يقول لهم حتى ولو فُعِل بكم مثلما فُعِل بشهداء النصرانية عليكم أن تعتصموا بعُروة الصبر، هو الصبر وليس غير الصبر، عجيب!

قد يقول لي أحدكم طبعاً معروف هذا ومفهوم، لأنهم كانوا قلة، وكانوا مُستضعَفين، لكن حين أسلم حمزة هل تغيَّر الحال؟ لم يتغيَّر، والنبي لم يأذن إلا بالصبر وبالعفو والصفح والمُسالَمة، وحين أسلم عمر هل تغيَّر الأمر؟ لم يتغيَّر، ثلاث عشرة سنة في المشهور وقيل عشر سنوات ولم يتغيَّر الحال، ثلاث عشرة سنة – أيها الإخوة والأخوات – ولم يتغيَّر الحال، الصبر، الصبر، العفو، والصفح.

القرآن الكريم ريّان وملآن من الآيات التي تأمر النبي وصحبه وأتباعه بالصفح والصبر والهجر الجميل والمُسالَمة والعفو، فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ۩ في آخر الزخرف تماماً، صفح وعفو، وانتبهوا! صفح وسلام، مَن الذي يصفح؟ القوي، ليس الضعيف، الضعيف الذي لا يستطيع أن يصفح لا يُقال له اصفح، أما القوي الذي يستطيع أن ينتصف وينتصر حين يُقال له اصفح فهذا مفهوم، انتبهوا! هذا مُهِم حتى نفهم القرآن جيداً.

 فَاصْفَحْ عَنْهُمْ ۩، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، في آخر أيضاً الأعراف، والأعراف مكية، خُذِ الْعَفْوَ ۩، يقول له اعف، مَن الذي يعفو؟ هل الضعيف يعفو؟ ليس ضعيفاً بالمعنى الذي نظن، قد كان يستطيع النبي ويستطيع أشداء أصحابه أو أقوياء أصحابه أن ينتصروا على الأقل بعض انتصار، مَن كان يحول بينهم وبين أن يغتالوا فلاناً وفلاناً من قادة وسدنة الشرك؟ لا أحد، كانوا يستطيعون، لكن النتيجة معروفة، احتراب داخلي، ستدور دائرة القتل المجنونة على الجميع، هذا يقتل هذا، وهذا يقتل هذا، وطبعاً بعد ذلك ستتسنى أعظم حُجة لتكون بين أيدي المُشرِكين وعلى ألسنتهم أو أطراف ألسنتهم، سيقولون هذا هو محمد وهذا هو دينه، ما جاءنا إلا بالقتل وما جاءنا إلا بالذبح، كنا وادعين موفورين، يأتينا رزقنا رغداً من كل مكان، آمنين مُطمئنين، فآتنا بهذا الدين الذي سلَّط الأب على ابنه والابن على أبيه والأخ على أخيه والجار على جاره، وذبَّحنا وأذاقنا المرائر، ألا تباً له وتباً لهذا الدين، وكانوا سينجحون، انتبهوا! لا يُمكِن هذا، الصراع المُجتمَعي لا يُحَل بالعنف، ولا يُحَل بالقوة، حتى وإن ظُلِم بعض أطراف المُجتمَع، نصبر ونحتسب ونعفو ونصفح ونتسامح، لئلا يخسر الجميع.

لكن منطق شمشون Samson (علىّ وعلى أعدائي) هذا منطق مجنون، منطق شمشون Samson الجبّار هذا منطق مجنون، هذا منطق الخونة، الذين خانوا الضمير والدين وخانوا الوطن، ليس علىّ وعلى أعدائي أبداً، الوطن لا يكون عدواً لك، المُواطن ليس عدواً لك مهما اختلفت معه، مهما اختلفت معه واختلف معك.

وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ۩، وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ۩ في المُزمل، هجر جميل وصبر يا إخواني، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ۩ في آخر الأحقاف، وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ۩ في سورة الأنعام وهي مكية، آيات كثيرة جداً جداً! وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۩ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ۩ في فصلت، وفصلت مكية، آيات كثيرة! 

الله يقول في الفرقان وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۩، هذا هو! الله جعل الكافر فتنةً للمُؤمِن، والمُؤمِن فتنةً للكافر، لكن يقول أَتَصْبِرُونَ ۩، في الفرقان أَتَصْبِرُونَ ۩، الله يُعلِّم الرسول وأصحابه من سير الأنبياء وأتباع الأنبياء السابقين السالفين، ماذا قال أولئكم الأتباع البررة؟ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ۩، لن نرد أذاكم بأذى، سنصبر، سنحتمل، سنُقتَل ونُسجَّن ونُهجَّر ونُعذَّب ونُذَل، لكن لن نُقاوِم الشر بالشر، ولن نرفع السلاح في وجه إخواننا في الوطن.

القرآن سمى يا إخواني الكفّار إخواناً لأنبيائهم، وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۩ – مثلاً -، هم إخوانه، وهو أخوهم، في ماذا؟ هل هم إخوة في الدين؟ هم كفرة عُتاة، ولكن في الوطن، هذه إخوة الوطن، إخوة الشعب الواحد، وعلى كل حال آيات الصبر والصفح كثيرة جداً في القرآن المكي.

الآن يا إخواني الذي ساد ويسود بيننا ويُمكِن أن تسمعوه من كل طفل صغير – أي ابن عشر سنوات، يرتاد المساجد ويسمع الدروس الدينية – هو الآتي، يقول لا، لم تأت بجديد، كلنا نعلم هذا، وتعلَّمنا هذا، وهذا منطقي ومعقول ومقبول ومفهوم، لأن النبي وأصحابه كانوا قلة قليلة، قلة مُستضعَفة مُستوحِشة، ولو أنه أذن لهم بالانتصار والانتقام والانتصاف لكانت الفُرصة الأسعد للكفّار والمُشرِكين، لاستأصلوهم من عند آخرهم، كثرة إزاء قلة! القلة تُهزَم، لذبَّحوهم تذبيحاً يا إخواني، لما أبقوا منهم باقيةً، نقول له هذا هو السائد للأسف الشديد، هذا هو الفهم السائد، ولكنه بالضبط – وتقريباً مائة في المائة – فهم غير سديد، سائد وغير سديد، غير صحيح بالمرة، ويعجز عن تفسير أمور كثيرة، لفتكم إلى شيئ منها.

يعجز عن تفسير أمر النبي ومَن معه بالصفح وبالعفو، مَن الذي يعفو – كما قلت لكم – مرة أُخرى ومَن الذي يصفح؟ هل الضعيف يعفو؟ لا، الضعيف لا يُقال إنه يعفو، هو عاجز، لم يكن النبي وأصحابه يا إخواني من الضعف بذلكم المكان، حتى يُقال إنه عاجز عن العفو وعن الصفح، بالعكس! هو قوي، وكان يستطيع أن ينتصر وأن ينتصف ولو نسبياً، ولذلك قيل له اعف، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، قيل له فَاصْبِرْ ۩، ولا يُقال لمَن ليس بيده حيلة اصبر، أليس كذلك؟ العاجز لا يُقال له اصبر، هو عاجز، كيف يصبر؟ ليس بيده حيلة سواء عليه صبر أو لم يصبر، لكن يُقال لمَن بيده حيلة ولمَن يستطيع أن يحتال اصبر، يُقال له اصبر اصبر، لا تستخدم هذه الحيلة، لا تستخدم هذه الوسيلة، لا تنتصر لنفسك، وكذلكم في سائر الآيات.

إذن هذا لا يُفسِّر، ثانياً هذا لا يُفسِّر أيضاً يا إخواني – وهذه مسألة مُهِمة – استمرار القرآن الكريم بأمر النبي أن يصفح عن أهل الكتاب الذين كانوا معه في المدينة، وربما تكون هذه فائدة وربما يُناقَش فيها على كل حال، أهل الكتاب – اليهود بالذات يا إخواني – بعضهم كان في داخل المدينة، القبائل الكُبرى كانت تعيش خارج المدينة، بنو النضير، بنو قينقاع، وبنو قريظة، كانوا خارج المدينة، وهذه تُعتبَر تقريباً أطرافاً خارجية، دخلت في أحلاف مع النبي، دحلت في هُدنة، وفي مُوادَعة تقريباً مع النبي، أما في الداخل فكانوا أقرب إلى أن يكونوا أهل ذمة، أطراف مُجتمَعية، داخل النسيج المُجتمَعي، ولذلك بعض هؤلاء كانوا يشنأون النبي بين الفينة والفينة ومرة ومرة، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ۩، عجيب! حتى عن هؤلاء ونحن الآن في المدينة ونحن كثرة ونحن ظاهرون وظافرون وأقوياء، المُجتمَع مُعظَمه على الإطلاق الآن من المُسلِمين ومن المُؤمِنين، والله يقول اعفوا عنهم واصفحوا.

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩، عجيب! أمر بالعفو، وأمر بالصفح، والأعجب من هذا شأنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – مع المُنافِقين، المُنافِقين الذين سجَّل عليهم القرآن الكريم بالكفر، كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ۩، ارتدوا ردة صريحة، سبوا النبي، طعنوا فيه، ليس فقط في عرضه وفي سُمعته، إنما طعنوا فيه، في شخصه الكريم، ووصفوه بأشياء تُنبئ بكفرهم الأصلع الأقرع بلا مثنوية، وليس هذا فحسب، وارتكبوا جرائم من قبيل الخيانة حتى، الخيانة الوطنية! هل تُريدون أكثر مما فعل عبد الله بن أُبي بن سلول في معركة أُحد؟ تعرفون أن النبي استشار الصحابة، قال هؤلاء – أي كفّار قريش – أتوا إلينا، فهل نخرج إليهم أم نستعصم بالمدينة؟ رأيي – يقول النبي – أن نستعصم بالمدينة، فإن دخلوا المدينة حاربتهم النساء وحاربهم الرجال والغلمان، وإن بقوا بقوا في مُعسكَرهم، أي لا طائل من اعتصامهم بالمُعسكَر، لن ينجحوا، ولن يصلوا إلى شيئ.

لكن للأسف الشباب المُتحمِّس وخاصة الذين لم يُشارِكوا في معركة بدر قالوا لا، نخرج إليهم، ومن الذين كانوا مُتحمِّسين أو تحمَّسوا للخروج حمزة بن عبد المُطلب، قال يا رسول الله والله لا أطعم طعاماً حتى أُجالِدهم بسيفي هذا خارج المدينة، ولما رأى النبي رأي الأكثرية على الخروج قال لا بأس، عبد الله بن أُبي بن سلول طبعاً مُنافِق، هو رأس النفاق، كان من رأيه أن نبقى في المدينة، إيثاراً للسلامة، لا يُريد الخروج، لكنه خرج، خرج مع رسول الله، ولما اقترب رسول الله من مُعسكَر المُشرِكين بالشوط ورآهم ورأوه ماذا فعل هذا الخبيث ورأس النفاق؟ انخذل وتراجع مُتمرِّداً بثُلث الجيش، بثُلث العسكر، بثلاثمائة مُقاتِل! والعجيب أن ثلاثمائة وافقوه، وبقيَ زُهاء سبعمائة، ثلاثمائة وافقوه وعادوا معه، وقال علام نقتل أنفسنا؟! عصى رأيي، عصاني – قال -، ولم يأخذ برأيي، وأطاع الغلمان، وعاد الخبيث، هل قتله النبي؟ هل حرَّض على قتله؟ هل أذن في قتله؟ على أنه كافر – البعيد -، ظهر كفره وارتداده، وأيضاً خذل المُسلِمين، هذه خيانة، خيانة وطنية! هذا بلُغة العصر ليس له إلا القتل.

ماذا فعل النبي مع أبي عامر الراهب؟ ماذا فعل النبي يا إخواني مع أبي عامر الراهب – وهذا كان نصرانياً -؟ ماذا فعل النبي مع أهل مسجد الضرار الذين بنوا مسجداً وراسلوا أبا عامر الراهب عند هرقل في القسطنطينية – عاصمة بيزنطة – وائتمروا بالنبي ودينه ومدينته وأرادوا أن يُقوِّضوا هذا المشروع الإسلامي الناهض يا إخواني؟ عاد النبي من العُسرة، أي من تبوك، وجاء الوحي وأخبره بحقيقة مسجد الضرار، اكتفى النبي بأن أمر بتهديم هذا المسجد، فقط! لم يقتل أحداً منهم، لم يأمر بقتل، ودائماً كان يُستأذن، يا رسول الله لنقتل هذا المُنافِق، لنقتل هؤلاء، لكنه كان يقول لا أُحِب أن يتحدَّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.

إذن يا إخواني ليست المسألة مسألة أننا قلة ومُستضعَفون، لا! لماذا اعتصم النبي بهذا الموقف دائماً؟ النبي يقول لنا هكذا بكلمة واحدة جهيرة واضحة مُبينة الصراع داخل المُجتمَع الواحد سواء كان مع مُسلِمين أو مع مُنافِقين أو مع مُرتَدين – داخل المُجتمَع الواحد! هذه سياسة هارون أخي موسى عليه السلام – لا يُحَل إلا سلمياً، إلا بالعقل، إلا بالهدوء، بالصبر، بالاحتمال، وبالمُفاوَضة، لا يُحَل بالسيف!

الآن نأتي – إخواني وأخواتي – إلى الأحاديث التي يحتج بها هؤلاء، مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو – رضيَ الله عنه وأرضاه -، وهذا حديث سعيد بن زيد عند النسائي، مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، مَن قُتِل دون دينه فهو شهيد، مَن قُتِل دون دمه – أي نفسه – فهو شهيد، مَن قُتِل دون أهله فهو شهيد، وعند النسائي أيضاً مَن قُتِل دون مظلمته فهو شهيد.

أقول لكم كل هذه الأحاديث وأمثالها تُحمَل على النزاع الفردي، أنا في بيتي وجاء واحد  مارد عفريت – والعياذ بالله – من عفاريت البشر، يُريد أن يتسوَّر على عرضي، أنا أُقاتِل عن عرضي، حتى لو قتلته فهو في جهنم – أي هذا البعيد -، وإن قتلني فأنا شهيد، أو يُريد أن يأخذ مالي بالقوة، لا! أُقاتِل عن مالي، هذا هو، نزاع مع واحد – كما قلنا – لص أو مع واحد مُجرِم، لكن يختلف الأمر في النزاع المُجتمَعي وفي الفتنة، النبي يُسميها الفتنة، حين تقع الفتنة تصطرع الأطراف في المُجتمَع الواحدة، فرقة وفرقة، طائفة وطائفة، إياك أن ترفع السلاح، تأتي هنا أحاديث صحيحة كثيرة، تقول لك لا سيف، لا سلاح، ولا نزاع، اسكت، التزم البيت، كُن حلساً من أحلاس بيتك، ما معنى الحلس؟ الحلس هو الكساء الذي يُوضَع على ظهر البعير، مثل سجّاد الأرض، الزم بيتك.

روى أبو داود يا إخواني وأخواتي في سُننه – اسمعوا هذا الحديث الجليل، وعليه جلال النبوة – عن أبي ذر – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال قال لي عليه الصلاة وأفضل السلام – يا أبا ذر، قلت لبيك يا رسول الله وسعديك، قال كيف أنت إذا أصاب الناس موت يصير فيه البيت بالوصيف؟ البيت هو القبر، ومعنى يصير البيت بالوصيف أي من كثرة وقوع الاقتتال ومن كثرة اهتمام الناس ومشغولية الناس لا يجد مَن يموت مَن يدفنه، فإن وجد فيشترط هذا الدافن ثمن وصيف، والوصيف هو العبد، والوصيفة هي الأمة، أي ربما يطلب مئات الدنانير أو مئات الدراهم، حتى يحفر قبراً ويدفن هذه الجُثة، أو لكثرة المُوتان وكثرة الجُثث، يُصبِح ثمن القبر بثمن العبد أو الأمة.

قال كيف أنت إذا أصاب الناس موت يصير فيه البيت بالوصيف؟ قال قلت الله ورسوله أعلم، أو قال ما خار لي الله ورسوله، قال تصبر، أو اصبر، عليك بالصبر، ثم قال لي يا أبا ذر، قلت لبيك يا رسول الله وسعديك، قال كيف أنت إذا رأيت حجارة الزيت وقد غرقت بالدم؟ هذه الحجارة في الحرة، أي في حرة المدينة، تغرق بالدم، حرب أهلية مُخيفة – والعياذ بالله -، ماحقة ساحقة!

قال قلت الله ورسوله أعلم، أو قال ما خار لي الله ورسوله، فقال عليك بمَن أنت منه، أي عليك بهديي، عليك بطريقتي، ورأينا كيف كانت طريقة النبي في مكة وكيف كانت طريقته في المدينة، لا يُمكِن غير هذا، في النزاع الداخلي لا يُوجَد سيف أبداً، قال فقلت يا رسول الله أفلا أحمل سيفي فأضعه على عاتقي؟ أُقاتِل مع الحق، ضد المُبطِلين، أُقاتِل لصالح المظلومين، لصالح المُهمَّشين، قال شاركت القوم إذن يا أبا ذر.

قال شاركت القوم إذن يا أبا ذر، شيئ غريب! قال فما تأمرني يا رسول الله؟ قال تلزم بيتك، اجلس في بيتك، تلزم بيتك، قلت فإن دُخِل علىّ بيتي يا رسول الله؟ أي ماذا لو هؤلاء – أي أصحاب الفتنة في الصراع الأهلي – دخلوا علىّ بيتي؟ هم دخلوا علىّ بيتي، وأنا مُلتزِم بيتي، فماذا أفعل؟ قلت فإن دُخِل علىّ بيتي يا رسول الله؟ قال إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف ألق بثوبك على رأسك، يبوء – ويُمكِن أن يكون أصلها  يبؤ على كل حال – بإثمه وإثمك، أي فيكون من أصحاب النار – والعياذ بالله -، حديث غريب وعجيب جداً!

ولذلك صحت عنه – عليه السلام – الأحاديث التي تقول إن الفتن كقطع الليل المُظلِم، يُصبِح فيها المرء مُؤمِناً ويُمسي كافراً، ويُمسي مُؤمِناً ويُصبِح كافراً، ويبيع دينه بعرض من الدنيا، قيل فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال كسِّروا قسيكم – والقسي جمع القوس -، وقطِّعوا أوتاركم، ودقوا أو اضربوا سيوفكم، وكونوا أحلاس بيوتكم، التزموا وكسِّروا السلاح، ممنوع! ولذلك بيع السلاح في الفتنة من أكبر الكبائر ومن أفحش المُحرَّمات، ممنوع أن يظهر السلاح في الفتنة، ممنوع أن يبيع الإنسان ولو نصل حديدي في الفتنة، هذه أحاديث رسول الله، وهي أحاديث كثيرة يا إخواني.

في صحيح مُسلِم حديث عن أبي بكرة، هذا الحديث يرويه ابن مسعود، كما أخرجه أبو داود أيضاً، ويقول ابن مسعود – يزيد على أبي بكرة، نُفيع بن الحارث الثقفي – هذه الفتنة قتلاها كلهم في النار – والعياذ بالله -، فأبو بكرة يسأله متى؟ متى يكون هذا؟ قال له هذا في أيام الهرج، حين لا يأمن الجليس جليسه، كما قلت لكم حرب الكل على الكل، قال فما تُوصيني إن أدركني ذلك الزمان؟ قال تكف يدك ولسانك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك.

نكتفي بهذا القدر، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يحفظ أوطاننا، وأن يحفظ شعوبنا، وأن يحفظ أدياننا، وأن يعصم أممنا وشعوبنا، وأن يحقن دماءنا جميعاً، وأن يُصلِح ذوات بيننا.

وإلى أن ألقاكم في حلقة جديدة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: