أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في البداية أود أن أشكر إدارة هذا المسجد الطيب المُبارَك – إن شاء الله – وخصوصاً أخي فضيلة الشيخ محمد فاروق – بارك الله فيه – على هذه الدعوة الكريمة الطيبة، التي أبتهل إلى الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا فيها حُسن القصد وخلوص النية وأن يجعل أجرنا فيها موفوراً مذخوراً لنا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۩ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ۩.

عنوان المُحاضَرة أو عنوان هذا الدرس البسيط السريع – إن شاء الله – تبارك وتعالى – كما أخبر فضيلة الشيخ محمد فاروق هو عن تعامل رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – مع الصبية أو مع الصغار من الأطفال، وهذا ما طلبه إلىّ أن أُحاضِر فيه اليوم مساءً، فأستعين بالله – تبارك وتعالى – وأستمد منه العون والتوفيق والفتح المُبين. اللهم آمين.

أيها الإخوة:

لا يخفاكم أن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – إنما ابتعثه الله رحمةً للعالمين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ۩، وبديهٌ أن يدخل في جُملة المرحومين ببعثته ورسالته – عليه الصلاة وأفضل السلام – الغلمان والأطفال والصغار، والدليل على ذلك تخصيصاً من بعد هذا الدليل الإجمالي العام قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث المُتواتِر الذي رواه ما يُناهِز الثمانية عشر صحابياً وأكثر، حين قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لجبريل – عليه السلام – إني بُعِثت في أمةٍ أُميةٍ، فيها الصغار والغلمان، ذكر هذا! ذكر الشيوخ والنساء والأُميين وذكر الصغار والغلمان، فالنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لم يكن فقط يتحسَّب أو يحسب اعتبار الكبار المُدرِكين المُكلَّفين، وإنما الصغار أيضاً، وهو يرى أنه مبعوثٌ إليهم، أي للصغار والغلمان، فلا جرم أن يكون لهم حظ ونصيب أيضاً من بركته ومن رحمته ومن دعوته، عليه الصلاة وأفضل السلام.

تتمة الأحاديث – إن شاء الله – التي ستلي بعد هذه المُقدِّمة ستشهد بصحة هذا الاستنباط – وهو ليس استنباطاً – بل لصحة هذا النص، أنه مبعوثٌ أيضاً إلى الصغار والغلمان، لقد بُعِث النبي – كما تعلمون أيها الإخوة الأفاضل – في أمة جافية غليظة، فيها غير قليل من القسوة والفظاظة، وبالذات بإزاء النساء وبإزاء الأطفال والصغار، وبتعبير أدق كانت هذه الأمة العربية لا تحترم ولا تتعاطف ولا ترحم كل مَن لا يحمل السيف ويذب عن الذمار ويُدافِع عن الحياض، ولذلك لم يكن لا للنساء ولا للصبيان أي وزن في هذا المُجتمَع.

في مثل هذا المُجتمَع يُبعَث النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ويرد الاعتبار كاملاً للنساء وللصبيان، الآن ليس المقام مقام الحديث عن المرأة وحقوقها، وإنما عن موقف الرسول من الصبيان، من الصغار! عليه الصلاة وأفضل السلام.

العجيب أنه – وهو رسول رب العالمين، بل خاتم الأنبياء والمُرسَلين، وقائد أمته في وقته وفي كل وقت، وأيضاً كان الرأس الأعلى في الدولة عليه الصلاة وأفضل السلام، وشخصية عالمية لها أعظم الوزن وأبهظ الثقل – مع كل هذه الاعتبارات – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يتعامل مع الصبيان والصغار على هذا النحو:

أبدأ – إن شاء الله – بالإجمال، وسنأخذ بعد ذلك بالتفصيل مع ذكر النصوص والأدلة والشواهد.

كان عليه الصلاة وأفضل السلام – يُكلِّمهم ويسمح لهم بالجلوس في مجلسه والتعلم  منه والجواب عن بعض سؤاله – عليه الصلاة وأفضل السلام – والقول في مجلسه، وكان ربما ماشاهم وطرح عليهم السلام ومسح رؤوسهم وبرَّك عليهم وسألهم، عليه الصلاة وأفضل السلام، والأعجب من ذلك أنه كان ربما ائتمنهم على بعض سره، عليه الصلاة وأفضل السلام، تعامله مع الكبار، عليه الصلاة وأفضل السلام.

وكان إذا مرض الصغير يأتي النبي ويرقيه، ويتفل عليه ويسأل له الله – تبارك وتعالى – الشفاء والعافية، وكان يحملهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – ويسمح لهم بأن يمتطوا ظهره، وكان يلتزمهم ويعتنقهم، وكان يُقبِّلهم، وكان يُعلِّمهم بطريقة عملية بعض ما يجهلون وبعض ما لا يحذقون، عليه الصلاة وأفضل السلام، وكان يُوصي بهم، وكان يُعطيهم من طعامه وشرابه، وربما قدَّمهم على الكبار، وكان يُعطيهم باكورة الثمر، يُعطي أصغر مَن حضر! عليه الصلاة وأفضل السلام.

وكان يسمح لهم بأن يمسوه وأن يأخذوا من بركاته وأن يُلاصِقوه، عليه الصلاة وأفضل السلام، وأكثر من هذا الشيئ الكثير، بل إنه كان يُمازِحهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما يُمازِح الكبار، ولا يقول إلا حقاً ولا يفعل إلا خيراً، عليه الصلاة وأفضل السلام، وكان يُوصي بهم أهليهم، إلى غير ذلكم من أشياء كثيرة وكثيرة جداً، تجعلنا نُوقِن بأنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما وصفه صاحبه وخادمه الذي خدمه تسع سنين كما في رواية عند مُسلِم أو عشر سنين كما في رواية أُخرى، هذا حين التحديث، وقت التحديث بهذا الحديث! وإلا فقد خدمه ربما أزيد من ذلك، أنس بن مالك – رضيَ الله عنه وأرضاه – حين وصفه بأنه كان أرحم الناس بالعيال والصبيان، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان أرحم الناس بالعيال والصبيان، كل ما سيأتي – إن شاء الله تبارك وتعالى – ذكره سيُؤكِّد لنا صدق وحقية هذه المقولة، أنه كان الأرحم من بين خلق الله بالعيال والصبيان، عليه الصلاة وأفضل السلام.

فنبدأ – إن شاء الله تبارك وتعالى – أولاَ برحمته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالصبية والصغار، من الشواهد والأدلة على ذلك أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يُوجِز صلاته، وهي أكثر ما يهتم به من أمر دينه، عليه الصلاة وأفضل السلام، الصلاة كان يُوجِزها إذا صلى جماعة إماماً لأجل بكاء الصبي يسمعه من خلفه، إني لأكون في الصلاة فأُريد أو أُحِب أن أُطوِّلها فأُوجِزها لما أسمع من بكاء الصبي، وفي حديث أبي مسعود عقبة البدري الأنصاري – رضيَ الله عنه وأرضاه – أنه قال يا رسول الله إني لأتاخَّر عن صلاة الصبح لأجل فلان لما يُطوِّل بنا، إمام يُطوِّل في الصلاة، فهذا الصحابي يأتي مُتأخِّراً، حتى لا يمل من كثرة التطويل، قال فقام النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فما رأيته أشد غضباً وغيظاً منه في تلك الموعظة، وعظهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – بأن مَن صلى منهم بالناس – أي إماماً – فليُوجِز، فإن فيهخم الكبير – أي الضعيف، الشيخ الكبير الضعيف – والصغير وذا الحاجة، إذن وصاية هنا أيضاً بالصغير، لأجل الرحمة بالصغار كان يُوجِز ويُوصي بأن نُوجِز في صلاتنا إذا صلينا جماعةً.

أيضاً من ذلكم أنه كان لا يتحمَّل بكاء الصبية عليه الصلاة وأفضل السلام, وكان يقول بكاء الحسن والحُسين يهتز له عرش الرحمن، وقد روى شيخ البخاري الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في مُصنَّفه أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – سمع مرةً بكاء الحسن أو الحُسين وكان نائماً في الليل فقام فزعاً – عليه الصلاة وأفضل السلام – وقال ألا إن الولد فتنة، لقد قمت وما أدري، أي قمت كأنني فقدت وعيي حين سمعت بكاءه، وهذا من شدة رحمته ومن وفور شفقته – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالغلمان والصغار.

ومن ذلكم أيضاً وصايته وتحفيزه وتشجيعه – عليه الصلاة وأفضل السلام – على أن نبرهم وأن نُحسِن إليهم وأن نُوسِّع عليهم، كما قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن وسَّع الله عليه فليُوسِّع على عياله، بل أكثر من ذلك جعل النفقة عليهم صدقةً، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما أنفقت من شيئ على نفسك فهو لك صدقة، وما أنفقت من شيئ على ولدك فهو لك صدقة، وما أنفقت من شيئ على أهلك – أي زوجك – فهو لك صدقة، وفي المُقابِل حذَّر كما في الصحيحين، كفى بالمرء إثماً أن يُضيِّع مَن يعول، عليه الصلاة وأفضل السلام.

الأعجب من ذلك أيضاً أنه صح عنه قوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن كان عنده ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأكرمهن وأحسن إليهن كُن له ستراً من نار جهنم، بل بلغ – عليه الصلاة وأفضل السلام – من وصايته بالبنات بالذات، لأنهن الجناح المهيض الكسير، وكان العرب – كما تعلمون – يكرهون البنات كرهاً شديداً ويئدوهن في مهودهن، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي رواه أبو داود في سُننه مَن كان عنده بنتٌ فلم يئدها – فلم يئدها أي فلم يدفنها في التراب – ولم يُهِنها ولم يُفضِّل ولده عليها – المُراد بالولد هنا الذكور، أي لم يُفضِّل أولاده الذكور عليها، فلم يئدها ولم يُهِنها ولم يُفضِّل ولده عليها – دخل الجنة، ببنت واحدة! فهي سبيل مُختصَرة، ولذلك قال بعض العلماء من أئمة هذا الإسلام – بارك الله فيه – أُحِب البنات وحُب البنات شيمة كل نفس كريمة، فشُعيب نبي لأجل ابنته أخدمه الله موسى كليمه، وهذه إشارة قرآنية عجيبة جداً في كرم وفي فضل وفي مثابة البنات، لأجل هذه البنت صار مَن سيكون كليم الرحمن – تبارك وتعالى – خادماً وأجيراً عند شُعيب، من أجل أن يتزوَّج ابنته، وهذا استنباط من ألطف ما يكون في حق البنات!

وقد روى أبو بكر بن أبي الدُنيا في كتاب العيال له بسنده، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا تكرهوا البنات، فإنهن المُؤنِسات الغاليات، وفي الصحيح – في البخاري – عن عائشة أم المُؤمِنين – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – أنها ذكرت أمراً أعجبها – أي أثار عجبها واستحسانها – لرسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، ذكرت له شأن أو ما كان من شأن امرأة فقيرة طرقت بابها، فجاءت ومعها ابنتان له، جاريتان! ابنتان لها، وكان عند أم المُؤمِنين عائشة قليل من التمر، تمر قليل جداً جداً، منزور! فأعطت المرأة تمرة وأعطت كلاً من بنتيها أو ابنتيها تمرة، فأكلت كل من البنتين تمرتهما، فما كان من الأم إلا أن أخذت تمرتها هي التي لم تأكلها وشقتها باثنتين – أي شطرين – وأعطت كل واحدة منهما نصبيها، آثرتهما على نفسها، هذا أعجب عائشة، هذه الرحمة أعجبت عائشة كثيراً، فذكرت ذلك للرسول، فثنى الرسول على إعجاب عائشة وقال بشِّريها بأن الله – تبارك وتعالى – كتب لها الجنة بصنيعها هذا، هذا الفعل فعل واحد بسيط جداً، لكنه يشي ويبوح وينم عن رحمة كبيرة بالعيال.

ولذلك النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن لا يرحم لا يُرحَم، وبالذات سبب ورود هذا الحديث المُخرَّج في الصحيحين كما روى أبو هُريرة – رضيَ الله عنه وأرضاه – أن الأقرع بن حابس – وهذا كان من المُؤلَّفة، هذا كان من المُؤلَّفة قلوبهم – دخل على النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فوجده يُقبِّل الحسن أو الحُسين – ابني فاطمة، عليهم السلام أجمعين – فقال يا رسول الله إن لي أو إن عندي عشرة من الولد، ما قبَّلت أحداً منهم، فقال له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وما أملك لك إن كان الله نزع الرحمة من قلبك؟ مَن لا يرحم لا يُرحَم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.

ومثل هذه القضية وقعت للفاروق عمر رضوان الله تعالى عليه وقدَّس الله سره الكريم – حين جاءه أحد عمّاله – أي أحد ولاته على الأقاليم، عمر هو الذي عيَّن هذا والياً، وجاءه – فوجده يُقبِّل بعض ولده – عمر يُقبِّل بعض أولاده – فقال تُقبِّله وأنت أمير المُؤمِنين! إني لي ولداً لا أفعل بهم شيئاً من هذا، فقال ليس ذنبي – عمر قال ليس ذنبي – إن كان الله – عز وجل – نزع الرحمة من قلبك، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ثم نزعه من عمله، قال لا وليت لنا عملاً بعد اليوم، إن كنت لا ترحم ولدك أفترحم الناس؟ وهذا تصرف سديد من الفاروق عمر، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

ومن ذلك أيضاً حمله – عليه الصلاة وأفضل السلام – للحسن وللحُسين في غيرما واقعةٍ، من ذلكم أنه مرة كان يخطب يوم الجُمعة على منبره – عليه الصلاة وأفضل السلام – ورآهما قد أقبلان يشقان الصفوف – صفوف الناس – في ثوبين أحمرين لهما يعثران، لأن الثوبين كان كبيرين أو واسعين عليهما، فلم يحتمل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يرى هذين الصبيين السبطين – عليهما السلام – يعثران، فنزل من على منبره يوم جُمعه وقطع الخُطبة حتى صار إليهما ثم احتملهما ووضعهما على جانبيه على المنبر وقال مُعلِّقاً على ذلك إني رأيت ابني هذين يعثران فلم أحتمل ذلك رحمةً بهما أو لهما، عليه الصلاة وأفضل السلام.

يروي عبد الله بن شداد – رضيَ الله عنه وأرضاه – أيضاً، يقول كنا خلف رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – نُصلي، أي جماعةً! فسجد النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأطال سجوده، حتى ظننا أن أمراً حدث، أي أن أمراً مكروهاً، ربما قُبِض النبي، ربما اُغتيل، لا ندري! قال حتى ظننا أن أمراً حدث، ولما رفع – عليه الصلاة وأفضل السلام – وسلم قلنا يا رسول الله قد أطلت السجود جداً، حتى ظننا أن أمراً حدث، قال كلا، ولكن ابني هذا – وأشار إلى الحسن أو الحُسين – قد ارتحلني – أي ركب على ظهري وجعلني كالراحلة، كالجمل – فكرهت أن أُعجِله، تركت له الفُرصة لكي يبقى على ظهري حتى يمل، حتى يقضي نهمته، هكذا يقول عليه الصلاة وأفضل السلام.

وكذلك يروي أيضاً أبو هُريرة في ذلكم – رضيَ الله عنه وأرضاه -، يقول لقد سمعت أُذناي هاتان وبصرت عيناي هاتان رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – وهو يضع كفيه الشريفين على كفي الحسن أو الحُسين وقدماه – أي قدما الحسن أو الحُسين – على قدمي رسول الله، يُرقيه، يقول له ترق، ووضع فمه على فمه يُقبِّله، وفي رواية أنه قال له حزقة حزقة – كلمة تُقال هكذا لمُداعَبة الصغار – ترق عين بقة، حزقة حزقة ترق عين بقة، يُرقيه عليه الصلاة وأفضل السلام.

ومن ذلكم أيضاً ما رواه الإمام أبو القاسم الطبراني في مُعجَمه عن سلمان الفارسي، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، قال كنا عند رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – فجاءت أم أمين، قالت يا رسول الله لقد ضل الحسن والحُسين، أي تاها! ذهبا ولم ندر أين ذهبا، فقال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لأصحابه – وهذا من رحمته أيضاً – قوموا فتِّشوا عن ابني، قال سلمان فأخذ كلٌ في جهة، وأخذ النبي في جهة، وكنت أنا في جهة النبي، أراد أن يصطحب النبي في رحلة البحث عن الحسن والحُسين، قال حتى جاء إلى سفح جبل فوجدهما وقد لزق أحدهما بالآخر، أي من الخوف! وشجاعٌ فاغرٌ فاه يفح فحيحاً، الشجاع هو الحية الذكر، وقيل الحيات عموماً، وشجاعٌ فاغرٌ فاه يفح فحيحاً، الحسن والحُسين يريان هذا الشجاع وهما في خوف شديد وقد لزق أحدهما بالآخر، فجاء النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ومُباشَرةً عمد إلى الشجاع فخاطبه، الشجاع خاطب النبي! كلَّمه بشيئ لم يسمعه الصحابة ولم يفهمه سلمان الفارسي، قال ثم انسل في شجر أو بين شجر، وأقبل النبي على ولديه وحمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر على عاتقه الأيسر وقال بأبي وأمي أنتما، ما أبرككما عند الله تبارك وتعالى! أي ما أعظم بركتكما عند الله تبارك وتعالى! وحملهما – كما قلنا – على العاتق الأيمن وعلى العاتق الأيسر، فقال سلمان مُعلِّقاً – رضيَ الله عنه وأرضاه – نعم الجمل جملكما، فقال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ونعم الفارسان هما وأبوهما خيرٌ منهما، أي عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكرَّم الله وجهه، قال ونعم الفارسان هما وأبوهما خير منهما، هكذا كان عليه الصلاة وأفضل السلام.

أيضاً من رحمته – عليه السلام – أنه ربما حمل أو احتمل أُمامة بنت أبي العاص من ابنته زينب – رضيَ الله عنها وأرضاها – في الصلاة، ربما احتملها معه في الصلاة، فكان إذا ركع وإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها معه في الصلاة – عليه الصلاة وأفضل السلام – رحمةً بها وشفقةً عليها.

ومن ذلك ما رواه البخاري وأحمد أيضاً بسند صحيح عن أم قيس بنت محصن – الصحابية الجليلة الشهيرة – عليها الرضوان والرحمة، أن النبي – عليه السلام – حمل ابنها وكان رضيعاً، وبال في حجر النبي، عليه الصلاة وأفضل السلام، كان لا يمتنع من حمل الصبيان، حتى الرضع الذين ربما يبولون على أنفسهم أو يُدنِّسون مَن يحملهم.

وقد دعته أم الجلاس يوماً – إحدى الصاحبيات الأنصريات – إلى بيتها واستوصته، فأوصاها بما فتح الله عليه، ثم أتت بابن لها مريض، وقالت يا رسول الله هذا صبي مريض، فارقه يا رسول الله، تطلب الرُقية منه، قالت فارقه يا رسول الله، فأخذه النبي وجعل يرقيه ويتفل عليه، والصبي يتفل على رسول الله، الصبي مُقلِّد! يُحاكي النبي، لا يعلم شيئاً، ولا يعلم أن هذا رسول رب العالمين، صبي صغير، ربما ابن سنة ونصف أو سنتين، النبي يرقيه ويتفل عليه، وهو يتفل على رسول الله، وأهله ينهرونه، يقولون له لا لا، والنبي يكفهم، يقول لهم لا، اتركوه، والنبي يكفهم، عليه الصلاة وأفضل السلام، يقول لهم لا، اتركوه، عليه الصلاة وأفضل السلام.

ومن ذلك أيضاً ما رواه وما حدَّث به الصحابي الذي كان طفلاً صغيراً وهو عبد الله بن جعفر، جعفر بن أبي طالب – جعفر الطيار – الشهيد في مؤتة، رضيَ الله عنه وأرضاه، وكان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عظيم الرحمة والشفقة بأولاد جعفر خاصة بعد استشهاده، يقول عبد الله بن جعفر كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا أقبل من سفر استُقبِل ببعض ولد أهل بيته، بالأولاد الصغار! يُحِب هذا النبي، حين يأتي من سفر يستقبلونه ببعض الأولاد الصغار من أهل بيته، يُحِب النبي هذا! قال فأتى مرةً من السفر فاستقبلته، فوضعني أمامه على الدابة – على الجمل أو الناقة – وجاء أحد ولدي فاطمة – يقول عبد الله بن جعفر نسيَ أهو الحسن أو الحُسين، المُهِم أحد ولدي فاطمة، أي الحسن أو الحُسين – فوضعه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة، النبي وأمامه عبد الله بن جعفر وخلفه الحسن أو الحُسين، أحد ولدي فاطمة!

وكان عبد الله بن جعفر – عليه الرضوان والرحمة – يفخر أحياناً بمثل هذه المناقب والكرامات من رسول الله على صحابة آخرين في مثل سنه، ولذلك قال مرةً لعبد الله بن الزُبير – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – تذكر يا عبد الله يوم أتى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فحملني وحمل عبد الله بن عباس وتركك؟ يغيظه بذلك، قال النبي حملني وحمل عبد الله بن عباس وتركك، تذكر هذه الواقعة؟ عليه الصلاة وأفضل السلام.

ومن ذلكم أيضاً ما يرويه أنس بن مالك خادم رسول الله، الصحابي الذي كان طفلاً وصغيراً أيضاً، أخدمته الرسول أمه – أم سُليم عليها الرضوان الرحمة – يوم قدم النبي المدينة المُنوَّرة، والحديث في الصحيحين وفي مُسنَد أحمد وفي غيرهم، يقول أنس ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، ولقد خدمت الرسول – صلى الله عليه وسلم – تسع سنين في رواية لمُسلِم – في إحدى روايات مُسلِم – وفي رواية أُخرى عشر سنين فما قال لي لشيئ فعلته لِمَ فعلته أو لشيئ تركته لِمَ تركته، وما قال لي أفٍ قط، وفي رواية عند الإمام أحمد وكان إذا أمرني بأمر فقصَّرت فيه أو ضيَّعته لم يلمني، فإذا لامني بعض أهلي يقول اتركوه، لو قُضيَ أو قُدِّر لكان، أي لو قضى الله هذا الأمر لكان أو لو قدَّر الله هذا الأمر لكان، لو قُضيَ أو قُدِّر لكان، لا يلومه عليه الصلاة وأفضل السلام.

في رواية مُسلِم أن النبي أمره مرةً بحاجة له، قال فقلت والله لا أفعل، أنس – طفل صغير – يبدو أنه تذمَّر وضجر من كثرة الخدمات والمشاوير، يُحِب اللعب! فقال للنبي والله لا أفعل، قال وفي نيتي أنني أنفذ إلى أمر رسول الله، أنا ذاهب! لكن هكذا يُريد أن يغيظ النبي، قال والله لا أفعل! قال وخرجت وفي نيتي أن أنفذ إلى أمره، فمررت على الصبيان بالسوق، فجعلت أُكلِّمهم وهم يلعبون، قالى فالتفت وإذا بالنبي وقد أمسكني من قفاي، قال أين أنت يا أُنيس؟ يُصغِّره، قال أين أنت يا أُنيس؟ أذهبت إلى حاجتي؟ فقلت أنا ذاهب لها يا رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام، هكذا كان يُمازِحه، لكن لم يقهره، لم ينتهره، ولم يتأفف منه لعشر سنين، وهذا من أغرب وأعجب الأحاديث على الإطلاق في عظم خُلق رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام، ولذلك قال أنس في هذا الحديث في بعض ألفاظه وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – أعظم الناس خُلقاً، نعم! لأن هذا الشيئ من المُستحيل حتى تقليده، من المُستحيل أن نفعل مثل هذا الشيئ، مُستحيل! هذا لا يقدر عليه إلا مَن أقدره الله مِن نبيٍ أو رسولٍ عليه، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أيضاً اصطحب أنساً مرةً معه إلى وليمة، دعاه غلام خيّاط، يقول دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – غلام خيّاط، قال فاصطحبني النبي معه، فدخلنا عليه فقدَّم لنا ثريداً وعلى الثريد دباء، أي القرع! وعلى الثريد دباء، وقام الغلام الخيّاط لعمله، يبدو أن عنده عمل، ربما يُنجِزه للنبي أو لغيره، يخيط بعض الثياب، قال وجعلت آكل مع النبي، وهذا أيضاً من رحمة رسول الله ومن تواضعه، يصطحب مع الغلام، الخادم الصغير! هذا طفل صغير، قال فجعل النبي يأكل وجعل يتتبع الدباء، فجعلت أتتبعه وأضعه أمامه، فما زلت أُحِب الدباء من يومئذ، لأن النبي كان يُحِبه، عليه الصلاة وأفضل السلام.

النبي لم يكن فقط قدوة عملية في هذا الباب لأصحابه ولأمهات المُؤمِنين وللصحابيات، وإنما كان يُوصي أيضاً نظرياً ويحث على مزيد المحبة ومزيد التلطف والتأنس للأطفال، من أعجب ذلك ما قاله – عليه الصلاة وأفضل السلام – مرةً للصحابي الجليل المشهود له عثمان بن مظعون، رضيَ الله عنه وأرضاه، رآه النبي مع ابنٍ له، قال له ابنك يا عثمان؟ قال قلت نعم، ابني يا رسول الله، قال تُحِبه يا عثمان؟ قلت إي والله، إني أُحِبه يا رسول الله، قال أفلا أزيدك محبةً له؟ أي أنا سأقول لك شيئاً يجعلك تحرص على مزيد محبتك لابنك هذا، كان يُحِب هذا! أن نُحِب أولادنا أكثر وأكثر، قال أفلا أزيدك محبةً له؟ قال بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال – هذا هو نص الحديث – مَن ترضى صبياً له أو غلاماً له حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى، أي الطفل إذا كان غضبان أو زعلان أو يُريد شيئاً وأنت تترضاه حتى تطيب نفسه ويُجبَر خاطره فرضيَ هذا الطفل فالله سيفعل بك مثل هذا الشيئ، مَن ترضى صبياً أو غلاماً له حتى يرضى ترضاه الله يوم القيامة حتى يرضى، شيئ غريب!

ويُشبِه هذا الحديث أيضاً ما قاله النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – لأحد الأنصار، رجل صحابي من الأنصار، من المدينة المُنوَّرة، رأى النبي معه ابنه، فقال له مَن هذا منك؟ قال ابني يا رسول الله، قال تُحِبه؟ قال أحبك الله كما أُحِبه يا رسول الله، أُحِبه جداً! أي الرجل يُبالِغ، يقول له إن الله يُحِبك مثلما أُحِبك، أي هذا شيئ عظيم، يدعو للنبي ويقول له أحبك الله كما أُحِبه يا رسول الله، أي أُحِبه جداً جداً حُباً غير عادي، أي حب تتيم! الله أعلم بحاله، ربما كان وحيده أو جاءهه كما يُقال على مُدة مُتطاوِلة من الزمن، لم يُرزَق فيها الولد، ثم تفقَّد النبي بعد ذلك فإذا بهذا الغلام قد مات، النبي سأل، قال ما فعل ابن فلان؟ قالوا مات يا رسول الله، فقال النبي لأبيه أما ترضى يا فلان أن تأتي يوم القيامة وما تستفتح باباً من أبواب الجنة إلا وابنك قد سبقك إليه؟ أي سيكون قبلك في الجنة وهو سينتظرك أيضاً! وقد ذكر النبي في حديث آخر أن أطفال المُسلِمين الذين يموتون صغاراً يأتي أحدهم يوم القيامة ويقف على باب الجنة مُحبنطئاً، هكذا قال! أي في حالة غضب أو في حالة زعل، لا يُحِب أن يدخل مع أنه من أهل الجنة حتى يدخل أبوه وامه، فيُدخِلهما الله كرامةً لهذا الصبي الصغير، قال أما ترضى يا فلان أن تأتي يوم القيامة وما تستفتح باباً من أبواب الجنة إلا وابنك قد سبقك إليه؟ فقال قلت بلى يا رسول الله، هذه كرامة عظيمة جداً، النبي جبر خاطره هنا بهذا الثواب الجزيل لمَن فُجِع بصغير له، فقال أحد الصحابة يا رسول الله له خاصة أو لنا كلنا؟ قال بل لكم كلكم، عليه الصلاة وأفضل السلام، فهذا أيضاً من حديثه.

ولذلك أيضاً هناك حديث – نختم به هذا الباب من الرحمة – أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق والإمام الديلمي في مُسنَد الفردوس على ضعف في الحديث بلا شك، عن أبي سُفيان القتبي، قال دخلت على مُعاوية وهو يومئذ أمير مُؤمِنين، أي أعلى رأس سياسي، قال وهو مضطجع وعلى صدره غلام له يُلاعِبه، أمير المُؤمِنين! قال فقلت يا أمير المُؤمِنين أمط عنك هذا، أي أبعد هذا، هذا لا يليق بك! يا أمير المُؤمِنين أمط  عنك هذا وأنت أمير المُؤمِنين، لأنك أمير المُؤمِنين لا يليق بك أن تنام هكذا، أي أن تضطجع ويعلو صدرك ابنك ويلعب، فقال لا، لا تقل هذا، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول مَن كان له صبي فليتصابى له.

لذلك يقول ثابت بن عُبيد ما رأيت رجلاً أجل في القوم ولا أفكه في منزله بين أهل بيته من زيد بن ثابت، ما معنى هذا الكلام؟ يقول زيد بن ثابت حين يكون بين الرجال يكون أكثر الرجال ركازةً ورصانةً وجلالاً، لكن حين يكون في بيته أو في منزله بين أهله يكون أفكه الناس، أي أكثرهم انبساطاً ولُطفاً ومزاحاً، هذا زيد بن ثابت، وهذا تعلَّمه من النبي عليه السلام، ولذلك قال عمر أيضاً – رضيَ الله عنه وأرضاه، وكلهم يسيرون في آثار النبي، ليس النبي وحده، كان قدوةً لهم – الرجل إذا كان في أهل بيته فليتصابي، فإذا اختُبِر أو فُتِّش ما عنده كان رجلاً أو وُجِد رجلاً، في مسائل الجد طبعاً يكون رجلاً ولا كل الرجال، لكن مع أهل بيته يكون مثل الصبي، يمزح ويلعب ويلهو ويتكلَّم ويُلاطِفهم، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

أما مُعامَلته – عليه الصلاة وأفضل السلام – للصغار بخصوص الطعام والشراب فمن ذلكم ما روُيَ عنه الصلاة وأفضل السلام، أنه إذا كان أُوتيَ بباكورة الثمار أخذها ووضعها على عينيه – وفي رواية قبَّلها ووضعها على عينيه – ودعا وقال اللهم بارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في ثمارنا وبارك لنا في مُدنا وبارك لنا في صاعنا بركةً على بركة، يقول الصحابي الراوي ثم يأخذها ويُعطيها أصغر مَن حضر مِن الولدان، يُعطي هذه الباكورة لأصغر مَن حضر مِن الصبية الصغار، عليه الصلاة وأفضل السلام.

ومن ذلكم أيضاً ما يرويه ابن أخي عيسى بن طلحة، يقول كنت مع عمي في المسجد، فدخل رجل قال هو السائب بن يزيد، هذا صحابي جليل، كان من صغار الصحابة، كان طفلاً أيام رسول، يقول فدخل رجل قال هو السائب بن يزيد، فقال عمي عيسى قُم إليه وقُل له عمي يسألك، يقول لك هل رأيت الرسول عليه الصلاة وأفضل السلام؟ قال فجئته فقلت له يا عم، إن عمي يسألك، يقول لك هل رأيت الرسول عليه الصلاة وأفضل السلام؟ فقال نعم، يا ابن أخي، رأيته عليه الصلاة وأفضل السلام، كنت في صبية، فوردنا عليه وبين يديه قناع فيه تمر يأكل مع أصحابه، فدعا به فقبض لنا قبضة فأعطانا وأطعمنا ومسح رؤوسنا، عليه الصلاة وأفضل السلام، وأيضاً هذا من رحمته عليه السلام.

هناك حديث أجمل وأحلى من هذا، وهو حديث جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، الذي كان غلاماً صغيراً وكان صبياً أيام رسول الله، عليه الصلاة وأفضل السلام، يقول جابر صليت مع النبي – عليه السلام – الظهر والعصر ثم أراد الناس أن ينطلقوا فقال لا تريموا، أي لا تتحرَّكوا، جرة فيها حلوى، جاءته هدية هكذا، جرة فيها حلوى! قال جرة فيها حلوى، فجعل يُلعِقمهم رجلاً رجلاً لعقةً لعقةً، كل واحد يأخذ لعقة من هذه الجرة، قال فلما أتى إلىّ ألعقني لعقة، ثم قال لي أزيدك؟ لأنه صغير، لمكانه من السن! طبعاً الصغير يشتهي أكثر، تكون شهوته أكثر للطعام والحلوى بالذات، ربما هذه الحلوى عسل! قال أزيدك؟ فقلت نعم يا رسول الله، فلعقني ثانية، ثم قال أزيدك؟ قلت نعم يا رسول الله، فلعقني ثالثةً، يقول جابر لصغر سني، قال وهكذا حتى أتى على آخرهم، أكمل الدور وألعقهم واحداً واحداً، حتى ألعق آخر رجل، عليه الصلاة وأفضل السلام.

هناك أيضاً الحديث الصحيح المعروف في الصحيحين من رواية أنس، رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين، يقول أُوتيَ النبي – صلى الله عليه وسلم – بلبن وكان على يساره الأشياخ وعن يمينه غلام، أي وعن يمينه صبي صغير، أما الأشياخ فهم عن يساره، والبداءة وفق السُنة تكون باليمين، فاستئذن النبي من هذا الغلام، لأنه صاحب الحق، أن تكون به البداءة، قال هل تأذن لي – النبي قال للصبي هل تأذن لي – أن أُعطي الأشياخ؟ فقال الصبي لا والله يا رسول الله، لا أُوثِر بنصيبي منك أحداً، وهذا من حُسن فقه هذا الغلام الصغير، لماذا؟ لأن كون المرء يشرب من خلف رسول الله مُباشَرةً ويضع فمه وشفتيه مكان شفتي رسول الله منقبة عظيمة جداً جداً، وفيها طهارة وفيها بركة وفيها سر وفيها خير وفيها نور، يدل على ذلك أحاديث وآثار كثيرة جداً جداً، أجتزئ منها بواحد يحضرني الآن وهو من رواية أنس أيضاً، يقول أنس جاء النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى بيت أم سُليم – هي أم أنس، أي أم سُليم، وكان النبي كثيراً ما يرد عليها في بيتها، هذه زوجة أبي طلحة – وقربة مُعلَّقة بعمود، فشرب منها النبي قائماً، يقول أنس فجاءت أم سُليم فقطعت فم القربة، فهي عندنا إلى اليوم، يفتخر أنس بهذا طبعاً للبركة، هذه مستها شفتا رسول الله ومن ثم ستبقى عندنا كما هي، قطعت فم القربةّ، يقول أنس فهي عندنا إلى اليوم، المُهِم قال لا والله يا رسول الله لا أُوثِر بنصيبي منك أحداً، فأخذه النبي فتلَّه في يده، أي جعله في يده، فتلَّه في يده! عليه الصلاة وأفضل السلام.

كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – يتعاطى ويُعامِل هؤلاء الصبية الصغار على أنهم كبار، لا يُشعِرهم بأنهم صغار لا يستحقون الثقة أو الاحترام أو الجد في المُعامَلة أبداً، كان يُعامِلهم أحياناً على أنهم كبار، ومن ذلكم أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – ائتمن مرةً – وهذه مرة من المرات – أنس بن مالك – وكان صبياً صغيراً يخدمه – على سر له، ويبدو أنه سر مُهِم، يقول أنس بعثني في حاجة له ائتمنني عليها وجلس في  الفيء ينتظرني، أي في الظل! ورثت أو تأخَّرت على أم سُليم – أي على أمه – فلم آتها في الوقت الذي كنت آتيها فيه، فلما أتيتها قالت ما الذي أخَّرك يا أنس؟ قلت بعثنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حاجة له، قالت ما هي؟ قلت لا أُفشي سر رسول الله، قالت نعم، لا تُفش على رسول الله سره، يقول راوي هذا الحديث – وهو حديث صحيح – ثابت البُناني – التابعي الجليل، وكان أنس يُحِبه جداً، ويحلف له بالله أنه يُحِبه كولده – فقال لي أنس – هذا متى؟ هذا بعد وفاة رسول الله بعشرات السنين، وأنس علت سنه وأصبح شيخاً كبيراً، وإلى اليوم يحفظه، إلى أن مات وهو يحفظ سر رسول الله – لو كنت مُحدِّثاً به لحدَّثتك به يا ثابت، لكن لا أُحدِّث به أحداً، ظل أميناً عليه لأن النبي جعله موضع ثقة، علَّمه أن يكون أميناً على السر.

ومن ذلكم حديث ابن عباس، أن غلاماً أتى النبي – عليه السلام – يُريد الحج، غلام أو طفل صغير يُريد الحج! فالنبي مشى معه، جعل يُودِّعه! ذهب يُريد الحج والنبي مشى معه، ثم دعا له، قال زوَّدك الله التقوى ووجَّهك في الخير وجنَّبك الهم، فلما قضى الغلام حجه أقبل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي عاد إلى الرسول، فدعا له النبي مرة أُخرى، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – تقبَّل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك.

ومن هذا أيضاً أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – مر بالصحابي الجليل الذي ذكرناه اليوم مرتين، مر بعبد الله بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان، يبيع في السوق – لكنه طفل صغير – كما يتبايع الغلمان، مر بعبد الله بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان فدعا له، قال اللهم بارك له في بيعه، وفي رواية في صفقته، يُعامِله كما يُعامِل الكبار، عليه الصلاة وأفضل السلام.

في الحقيقة طبعاً بقيت فقرات كان ينبغي أن أستوفي فيها الكلام، لكن أُحِب – أن شاء الله – أن أختم بسرعة وباختصار شديد، هناك فقرة لا ينبغي أن نتجاوزها، وهي المُتعلِّقة بمُلاعَبته ومُمازَحته – عليه السلام – للصغار.

من ذلكم أنه – عليه السلام – كان كما يروي أحدهم، يقول كان النبي يصف عبد الله وعُبيد الله وكثيراً من بني العباس، عبد الله وعُبيد الله وكثير هم أبناء العباس عم النبي، يصفهم صفاً ثم يقول لهم مَن سبق إلىّ – مُسابَقة جري – فله كذا وكذا، فيتسابقون ويقعون على صدره، فيأخذهم ويلتِزمهم ويُقبِّلهم عليه الصلاة وأفضل السلام، هكذا كان يُمازِحهم!

ومن ذلكم أيضاً ما رواه الترمذي والإمام النسائي عن أنس بن مالك، أن النبي كان يقول له – يُمازِحه – يا ذا الأُذنين، طبعاً كل إنسان له أذنان، ولذلك حين كان يُمازَح حتى أصحابه الكبار يتعجَّبون، النبي يُمازِح! فيقولون يا رسول الله إنك تُداعِبنا، يقول ولا أقول إلا صدقاً، أُداعِب وأُمازِح نعم ولا أقول إلا صدقاً، وفي رواية إلا حقاً، فيقول له يا ذا الأُذنين، يُمازِحه!

ومن ذلكم أيضاً ما رواه البخاري عن أحد صغار الصحابة، يقول لقد عقلت وأنا ابن خمس – وأنا ابن خمس سنوات – مجةً مجها رسول الله من بئر كانت لنا في وجهي، النبي أخذ هكذا من الماء ثم مجه في وجهه، هذا في صحيح البخاري، يُمازَحه! يقول لا أنسى هذا، وأنا ابن خمس سنوات حدث هذا، وإلى الآن أذكر هذه الواقعة، عليه الصلاة وأفضل السلام.

وأيضاً من ذلك أنه كان لصاحب رسول الله أنس بن مالك أخ من أمه ومن أبي طلحة، أي من أمه – أم سُليم – ولأبي طلحة، اسمه أبو عُمير، يُكنى بأبي عُمير، وكان طفلاً صغيراً يتيماً، فكان النبي – عليه السلام – يرى معه عصفوراً اسمه النُغر، فدخل النبي يوماً فإذا بأبي عُمير – هذا الطفل الصغير – محزوناً، فسأل النبي عن سبب حُزنه، فقالوا مات نُغره، عصفوره الصغير مات! فجعل النبي يُمازِحه، يقول يا أبا عُمير ما فعل النُغير؟ ويكنيه أيضاً، يكنيه! هذه كُنية، يقول يا أبا عُمير ما فعل النُغير؟

ذكر العلماء كالحافظ ابن حجر في فتح الباري وغيره أن هذا الحديث مع أنه في ظاهره ليس من أحاديث الأحكام – حديث عجيب – احتوى من الفوائد والإشارات واللطائف على الشيئ المُبارَك الكثير، حتى أن الإمام أبا العباس بن أحمد الطبري المعروف بابن القاص وهو من فقهاء الشافعية ألَّف جُزءاً مُفرَداً ذكر فيه ستين فائدة واستنباطاً علمياً من هذا الحديث، والأعجب من ذلك أنه تلاه بعض الشافعية أيضاً فأوصلوا هذه الفوائد إلى ثلاثمائة وخمسين فائدة، أي بزيادة قدرها ثلاثمائة فائدة من حديث يا أبا عُمير ما فعل النُغير؟

نكتفي – إن شاء الله – بهذا القدر، وهو بلا شك غيض من فيض مدرسته وهديه، عليه الصلاة وأفضل السلام، الذي كان ولا يزال وسيظل خير قدوة وخير أسوة للمُؤمِنين والمُؤمِنات مِمَن يُؤمِنون بالله واليوم الآخر.

لقد كان حقاً كما وصفه رب العالمين بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ۩، وهو رحمةٌ للعالمين، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، جزاه الله عنا وعن أمته وعن دينه وعن رسالته خير ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته ودينه ورسالته.

اللهم إنا نسألك أن تُحيينا على مِلته وسُنته، وأن تتوفانا على دينه، اللهم أحينا على مِلته وسُنته، وتوفنا على دينه وفطرته، واحشرنا يوم القيامة في زُمرته وتحت لوائه، اللهم وأنلنا شفاعته وأسعِدنا بها وأسقنا بيده الشريفة الكريمة شربة لا نظمأ بعدها أبداً.

اللهم إنا نسألك أن تجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، لا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا يائساً ولا بائساً ولا محروماً.

اللهم يمِّن كتابنا، اللهم بيِّض صحائفنا ووجوهنا يوم القيامة يا رب العالمين، اللهم قِنا عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم أجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها.

اللهم إنا نسألك أن تشفي مرضانا ومرضى المُسلِمين، وأن ترحم موتانا وموتى المُسلِمين، اللهم إنا نسألك أن ترحم رئيس بنغلاديش ضياء الرحمن إلى رحمتك الواسعة، اللهم تقبَّله في الصالحين واغفر ذنوبه أجمعين، اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله يا رب العالمين,

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: