إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ۩ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۩ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ۩ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

أبدأ خُطبتي هذه بتعزية حارة وصادقة إلى أهالي الشهداء الضحايا الثلاث الذين سقطوا بنار التعصب والغدر والإرهاب في الولايات المُتحِدة الأمريكية وساءت هذه الجريمة الإرهابية المُسلِمين جميعاً حول أرجاء المعمورة، وأُثنّي أيضاً بالتعزية الصادقة الحارة إلى إخواننا الأقباط في مصر الكنانة بسقوط واحد وعشرين قبطياً مسيحياً بأيدي داعش ليبيا من العمّال الذين ذهبوا واغتربوا يطلبون رزقهم ومعاشهم في بلاد الله، فقُتِلوا جميعاً ذبحاً كما أعلن التنظيم.

في الحقيقة استمعت أمس واليوم إلى تصريحات من جهات إسلامية مسؤولة ومن مُؤسَّسات أو مِمَن ينتمون إلى هذه المُؤسَّسات المسئولة فضلاً طبعاً عن تصريحات لا تُعَد ولا تُحصى وتعليقات وتنفيسات لمُسلِمين حول العالم بصدد الحادث الإرهابي في الولايات المُتحِدة الأمريكية، طبعاً بلا شك الإنسان كإنسان – ونحن من بني الإنسان – له أن يضج وأن يُعبِّر عن استنكاره وغضبه وانزعاجه من كل حادث إرهابي جبان يستهدف الأبرياء المدنيين العُزل الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل هذا الجنون الجرائمي المُنفلِت حول العالم، لكن أريد أن أكون واضحاً معكم وصادقاً، إلى أين يُمكِن أن نمضي نحن المُسلِمين في استنكارنا لهذا الحادث الإرهابي الغادر في أمريكا؟ إلى مسافة قريبة، ثم سنقف، لماذا؟ لأن الحادث إلى الآن على الأقل حسبما توارد من أنباء ومن تحليلات حادث إرهابي مُجرِم عنصري غادر معزول، سم الذي قام به ما شئت أن تُسميه، كارهاً للإسلام أو ضاغناً على المُسلِمين أو عنصرياً أو مجنوناً أو مُجرِماً أو ملعوناً أو إرهابياً، هذا حادث معزول، واضح أن الرجل إلى الآن لم يثبت أنه ينتمي إلى تنظيم واسع وتنظيم كبير يعمل على ذبح المُسلِمين أو تصفيتهم أو تهجيرهم من الولايات المُتحِدة، هذا غير ثابت بالمرة ولم يترشَّح شيئ يدل عليه، وسنُعلِّق طبعاً تعليقنا – أي التعبير عن موقفنا – على ما قيل من تفسير قدَّمته للأسف الشرطة وربما الشرطة الاتحادية، أنه حادث نشب على إثر خلاف حول موقف السيارات Parkplatz، لن نُعلِّق على هذا لأنه جاء تفسيراً وتبريراً عاجلاً جداً، بنفس العجلة التي يُنسَب بها كل شيئ إلى الإسلام والمُسلِمين، جاء عاجلاً لكي يُبرّئ هذا العنصري المُجرِم الإرهابي، أنا أقول لكم حتى لو كان خلافاً على موقف سيارات سيكون أمعن في الإجرام، هذا يعني أن هذا المُجرِم وهذه العقلية المُجرِمة ستكون أكثر إجراماً من داعش تقريباً أو بنفس المُستوى، لماذا؟ لأنه بسبب خلاف على موقف سيارات أخرج رشاشه – واضح أنه كان مُستعِداً ومُبيِّتاً النية – وأردى ثلاثة، اثنتان منهم نساء، فتيات! امرأة وأختها تقريباً، جبان! إرهابي جبان ومُجرِم، الإجرام مُتأصِّل فيه، داعش وغير داعش يُبرِّرون قتلهم بأنهم يقتلون مَن جاء يقتلهم وينتقص مِن حدود دولتهم وسُلطتهم التي تُريد أن تُطبِّق الإسلام والشريعة وتنتصر للمُسلِمين، إلى آخر هذا الكلام الفارغ، هذا الهراء الكاذب الذي نعلم أنه كاذب، أنا هنا أكاد أقسم بالله الذي لا إله إلا هو – وسأفعل هذا تقريباً حتى تُسجَّل علىّ شهادة يتذكَّرها مَن شاء أن يتذكَّرها من الناس – أن وراء هذا التنظيم مكرٌ كبيرٌ شيطاني، الهدف الأول منه الإسلام، والإسلام الآن يُنزَف، الإسلام الآن تتراجع صدقيته في العالمين، وبين أبنائه أولاً، مكر عجيب – تقريباً غير مسبوق – لذبح الإسلام بدم بارد، الإسلام هو الذي يُذبَح على أيدي هذا التنظيم للأسف الشديد.

على كل حال أعود وأقول هذا ربما يكون أكثر إرهاباً، لأن خلافاً على موقف سيارات يُبرِّر له أن يُردى ثلاثة بدم بارد دون أن يطرف له جفن ويُسلِّم نفسه، إرهاب! كان على المُنصِفين في الغرب قبل الشرق أن يستنكروا هذا وأن يدقوا ناقوس الخطر، لكن – كما قلت لكم – لن نُحمِّلهم بمُبالَغة وبدفق عاطفي أكثر مما نحن مُقتنِعون به، وهو أن الحادث معزول، يحدث هذا في بلاد العرب والمُسلِمين بين الإخوة، لن أقول لكم أين حدث، لكنه حدث في بلد عربي مُسلِم، وأردى الأخ أخاه وأطفال أخيه الصغار الثلاثة في المهد حتى لا يطلبوا ثأره، فهذا يحدث! مثل هذا الجنون ومثل هذه اللعنة تحدث في كل مكان، لكن في المُقابِل للأسف الشديد – ولا أريد أن أُقلِّل من جرائمية ودموية هذا الحادث اللعين في الولايات المُتحِدة الأمريكية، لكن هذا في المُقابِل – حين يُعلِن التنظيم عن قتل واحد وعشرين من الأقباط نقول لماذا؟ هل هم عملاء؟ هل حملوا السلاح عليك؟ هل وهل؟ أم فقط لمُجرَّد أنهم أقباط يختلفون ديناً؟ تريد أن تُوصِل هذا للمُسلِمين المُغيَّب أكثرهم والمُخدَّر معظمهم، سأكون واضحاً! هذا الوضوح الذي يكرهه بعض الناس مني ولا أستطيع أن أتخلى عنه – والله العظيم – لأنني أعلم أنني مسؤولٌ عنه بين يدي الله، أنا حين أقوم وأتكلم أنا أؤودي شهادة، أنا أشهد! لابد أن أشهد بما يطمئن به قلبي، قد أكون مخطئاً، لا بأس، لست معصوماً، لكن لابد أن أُعبِّر عما أنا مُقتنِعٌ به داخلياً، مُعظَمنا أصبح مُخدَّراً ومُغيِّباً، يُريد أن يخدم الدين وهو لا يعرف كيف يخدمه، يُسيء إليه من حيث – وأنا هنا أُحسِّن الظن بالنوايا – يظن أنه يُحسِن إليه.

بالمناسبة قد يسأل سائل لِمَ تلوت هذه الآيات الكريمات من أواخر الحجرات؟ ما وجه اعتلاقها بخُطبة اليوم وبالمسائل التي تُباشِرها خُطبة اليوم؟ وسأقول لكم الجواب، تقول الآية الكريمة يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، المنّ له منطقٌ خفي ومنطقٌ مُستخفٍ، أننا حملة الإسلام، دُعاة الإسلام، ونصرة الإسلام، وبالتالي على الإسلام إذا لزم الأمر وإذا لم يلزم أن يتحمَّل وزر فهومنا الكاسدة ومسالكنا الفاسدة، عليه أن يُبهَظ بكل تشويه، بكل إساءة، بكل تلطيخ لسمعته، وبكل اضمحلال وزوي لمصداقيته نتسبَّب فيه، لأننا حملة الإسلام، دعاة الإسلام، ونصرة الإسلام الذين نُجاهِد في سبيله ونهجر بيوتنا وأهلينا وبلادنا في سبيله، إذن فليتحمَّل الإسلام كل شيئ، لا! الله حين نهى وحين فنَّد وحين سخَّف هذا المنطق وهو منطق المنّ – يَمُنُّونَ عَلَيْكَ ۩ – أراد أن يقطع الطريق على كل تبرير لكل تشويه وإساءة إلى الإسلام وإلى العالمين، سواء كانوا مُسلِمين أو غير مُسلِمين، لا يحق لك لأنك تزعم وأنت مرتاح جذلان عند نفسك – أنك مُحِب، نصير، داعية، ذاب، ومُدافِع عن الإسلام – أن تسيء إليه، فيما الآخرون يسكرون ويعربدون وغير مُلتزِمين بأوامر ونواهي شرع الله تبارك وتعالى، فيحق لنا أن نفعل ما نشاء لأننا أهل الإسلام، هذا منطق ملعون، منطق المنّ منطق ملعون!

في المُقابِل أيضاً لا يجوز لعالم أو داعية كبير قضى عمره في الإسلام أن يختم حياته بتشويه الإسلام وتأليب الامة بعضها على بعض وتمزيق هذا الدين والإساءة إليه كنوع من دُفعة تحت الحساب أو ثمن وجزاء كفاء أو بعض كفاء ما جاهد في سبيل الله وعلّم ودّرس وكتب وزبر، هذا منطق المنّ أيضاً، ومنطق المنّ هذا مرفوض، مرفوض! مَن يعمل لا يطلبن الأجر إلا من الله تبارك وتعالى، هذا منطق الرسالة، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۩ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ۩، وهو الرسول! إن جاز لأحد أن يمنّ على الدين وأمة الدين فهم الأنبياء والرُسل، لكنهم لا يمنّون أبداً، ويقولون نتقاضى أجرنا من الله تبارك وتعالى، فلنبتعد عن منطق المنّ، منطق خفي ومنطق خبيث جداً وخدّاع، يأتي ليُسوّغ ويُبرِّر – كما قلت لكم – فهوماً فاسدة أو فهوماً كاسدة ومسالك فاسدة أبهظت الإسلام وأثقلت أهله وأوزرتهم أيما وزر، أيما وزر إخواني وأخواتي!

إذن فرقٌ كبير بين حادث إلى الآن واضح أنه معزول وبين غيره، هذا الإرهابي المجنون اللعين لم يرفع الكتاب المُقدَّس وهو يقول باسمه أقتلكم، لم يصح بصيحة تعادل صيحة الله أكبر التي أصبحت صيحة كراهية وصيحة عنف وصيحة إرهاب، قلت لكم مرة – وسأعيدها للمرة الثانية أو الثالثة – حين أكون في محل عام ويؤذن هاتفي أُغلِقه مُباشَرةً، أُبادِر مُباشَرةً إلى إغلاقه لأنه يُحرِجني، سأكون واضحاً لن أتحدَّث بعقلية معيارية، كأن يُقال ومَن قال لك إن كلمة الله أكبر تُحرِج؟ يا أخي ليس هذا، ليس المعيارية وإنما الوضعية الواقعية، ما يجري أن العالم الآن يخاف من هذه الكلمة، أنت الآن لو رأيت مجموعة من شباب مُسلِم ملتحٍ يُهرَعون إلى مكان ويُكبِّرون ستخاف، أنت ستخاف، ستقول ما هذا؟ يذبحون مَن؟ يذبحون ماذا؟ يُهجِّرون ماذا؟ أنت كمُسلِم ستقول هذا، فمن باب أحرى وبالحري غير المُسلِم حين يسمع الله أكبر سيخاف، أصبحت مُخيفة، جعلناها هكذا بأيدينا، بدمائنا، بسكاكينا، وبأحزمتنا الناسفة، جعلناها صيحة كراهية وصيحة إرهاب وصيحة تدمير، أنا أستخدمها على هذا المنبر من سنين – بفضل الله – صيحة رحمة وصيحة إعجاب بالرحمة، حين أقول الله أكبر يا رسول الله، الله أكبر، بعد أن فعلوا بك وفعلوا أتقول هذا؟ الله أكبر، وهكذا أتعمَّد هذا، لأنها في الحقيقة صيحة رحمة، هل تعرفون ما معنى هذا؟ ربما المعنى الأول لكلمة الله أكبر ليس هو الله أكبر من هُبل واللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى، قطعاً هو أكبر منها، لكن ليس هذا فحسب، هُبل وعزى ومناة ما الذي جعلها آلهة تُشرَك مع الله في العبادة والتأليه؟ ما الذي جعلها هكذا؟ جنون الإنسان، غباء الإنسان، وهبل الإنسان، وإلا فهي أحجار، هي أحجار لا تنفع ولا تضر، ولا تُقدِّم ولا تُؤخِّر، هي أحجار في مكانها، قبل أن تكون هُبل واللات والعزى كذلك كانت أحجاراً، وبعد أن صُيَّرت آلهة لم تخرج عن حجريتها، ظلت أحجاراً! الهبل والجنون في عقل الإنسان، ولذلك أنا أقول لكم الله أكبر أول معنى لها أنها أكبر من خُرافاتك، أكبر من أوهامك، وأكبر من غرائز الوحش والبهيمة فيك، لأن فينا غرائز الوحش، حين أقتل وأنتقم بغير وجه حق الوحش يتحرَّك هنا، الوحش هو الشاخص، ليس الإنسان، غاب الإنسان! حين أعدو على عِرض غيري وأغتصب وألوث الأعراض أعلم أن البهيمة هي التي تتحرَّك، البهيمة هي الماثل، ليس الإنسان، ليس خليفة الله – تبارك وتعالى – مَن يفعل هذا، فالله أكبر تعني الله أكبر من غباوتي.

اليوم سأقول كلمة مفتاحية، وسيُقال هذا الرجل أمعن في جلدنا، لكن أنا أجلد نفسي، أنا من هذه الأمة، لم أتخل عنها بفضل الله تبارك وتعالى، أنا مُسلِم، أسأل الله أن أحيا وأن أموت وأن ألقاه مُسلِماً مُوحِّداً، صافي المُعتقَد، وخالص الدين والمُنتحَل، إذن أجلد نفسي، لكن لابد من هذا، فهذا نقد وليس جلداً، لكن أمة لا تُريد أن تسمع الحقيقة تعد كل نقد جلداً، وتأبى إلا أن ترى نفسها كاملة تامة على أنها تتداعى، والاستثناء في مشهد التداعي قليل، سلوا أنفسكم أين هي الاستثناءات الفاقعة المُبشِّرة المُطمئنة في مشهد التداعي؟ هل نتداعى أو لا نتداعى؟ نتداعى على جميع المستويات، روحياً، أخلاقياً، مسلكياً، سياسياً، أقوامياً، بلدانياً، عسكرياً، ودينياً نتداعى، كل شيئ يتداعى في عالم العرب والمُسلِمين الآن تقريباً! والعرب للأسف هم الأوفر حظاً من الكارثة، تركيا بخير، ماليزيا بخير، وإلى حدِ ما بلدان أخرى، لكن العرب بالذات هم الأكثر حظاً والأوفر حظاً في التداعي والدمار، وفي نهاية المطاف شئنا أم أبينا العرب قلب الإسلام، قلبه جغرافياً، قلبه تاريخياً، وقلبه مصدراً ومنبعاً، إن لم يقم بهذا الأمر على وجهه حق القيام ترون مَن سيقوم به؟ مَن؟ للأسف لا استثناءات مُطمئنة في مشهد التداعي وفي مشهد الخراب الكُلي الشامل، إذن فلنعد إلى النقد.

أنا أقول لكم حيث يفشو الغباء كل شيئ يُصبِح له مساغ، يجد مساغه! أنا أقول لكم حين يفشو الغباء يتصدَّر الساحة ويعتلي المنبر وخشبة المسرح أولئك الذين يُوزِّعون علينا الكفر والإيمان – هذا كافر وهذا مُؤمِن -، الدين واللادين، والصلاح والطلاح، ومن ثم الجنة والنار، قل في تاريخ المُسلِمين بطوله – خمسة عشر قرناً تقريباً – أن شهد العالمون أناساً وعلماء كباراً يُقسِمون بالله أن فلاناً في النار وفلاناً تلتهب عليه نار جهنم الآن، كما قلت مرة اغتصبوا صلاحيات الله، لا أدرى ما الذي أبقوه لله من صلاحيات؟ أصبحوا كالنماريذ، كنمروذ يُحيون ويُميتون! يقولون هذا يستحق القتل فأقتلوه، وهذا جنون، جنون حقيقي!

ما الفارق في الجنون، في مسافة الجنون، وفي طيف الجنون – ما الفارق في طيف الجنون أو على مطياف الجنون – بين مَن ذكرنا وبين ذاكم الشاب الحلبي المُسلِم المُتحمِّس الذي طعن شاباً في الحادي والعشرين من عمره في صفحة عنقه بخنجر صغير؟ طعنه في صفحة عنقه! لماذا؟ لكي يقف نزيف سوريا، لكي تؤذن الفتن بانتهاء، فتن سوريا وغير سوريا! لماذا يا أخي؟ ما علاقة هذا الشاب المسكين؟ قال لأنه الأعور الدجال، لقد أُوحيَ إلىّ أنه الأعور الدجال، الولد المسكين مولود بعيب خلقي، إحدى عينيه مطموسة، وتتدلى عليها قطعة لحم، وهذا عيب خلقي، موجود ملايين مثله في العالم، قال لقد رأيت أنه المسيح الدجال، الأعور الدجال! فقتلته حتى أُريح الأمة، هذا جنون، جنون حقيقي! مسخرة وكوميديا سوداء، ما الفرق على مطياف الجنون بين هذا الجنون وبين الذي يأتي إلى عالم أو مُفكِّر أو كاتب أو… أو… أو … – إلى آخره – ويُعطي فتوى بقتله وبإردائه بالرصاص لأنه كافر وزنديق يبغي الإسلام وأهله كل شر وكل خبال؟ لا يُوجَد أي فارق، كله جنون! هذا جنون وهذا جنون، هذا مُستنِد إلى اسطورة الدجال وهذا مُستنِد إلى أسطورة المعصومية، أن لديه قدرة على التمييز ومعرفة المُؤمِن من الكافر بحيث يُعطي أمراً بالقذف في نار جهنم، يقول اقتلوه لكي نُعجِّل به إلى النار، عجِّلوا به إلى النار، الله أكبر! لو كنا نعلم أن هذا لك لاتخذناك مع الله إلهاً آخر.

أين هؤلاء المعاتيه المجانين من عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – فيما يرويه عنه مسروق بن الأجدع الهمداني؟ يقول كتب كاتبٌ لعمر هذا ما رأى الله وعمر، فقال بئس ما قلت، لم يفرح ولم يقل هذا ممتاز لأنهم يُعظِّمونني، أنا كهنوت، أنا بابا المُسلِمين، أنا الذي أحل وأربط، قال بئس ما قلت، ولكن قل هذا ما رأى عمر، فإن يكن حقاً فمِن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر، خطئي أنا! لا تُحمِّلوا معرة الخطأ على الإسلام، لا تُحمِّلوا الإسلام معرة خطأ البشر، وهذا البشر ليس مولانا فلان وسيدي فلان والعلّامة فلان، هذا عمر بن الخطاب، على المُستوي السياسي هو أمير المُؤمِنين، خليفة المُسلِمين، وحاكم ثلث الدنيا، على المُستوى الروحي هو ابن الإسلام، وأحد نصرة الإسلام المُتقدِّمين المُهاجِرين البدريين، هذا عمر رضوان الله تعالى عليه، عمر أحد الأربعة الراشدين، ليس مثل أي إنسان، هو مُلهم الإسلام وفاروق الإسلام، غضب غضباً شديداً، وهو الذي علَّم ودأب على أن يُعلِّم الناس ومَن حوله على هذا، قال لهم يا أيها الناس – قام خطيباً، يُؤسِّس ويُؤصِّل لأصول مُختلِفة تماماً عن لك التي تُولِّد الجنون اليوم والجرائميات والعبثيات والعدميات – إنما كان رأي رسول الله صواباً – الرسول حين يكون له رأي من غير حتى وحي إلهي يكون صواباً رأيه، يكون صواباً في الجملة – لأن الله يريه، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۩، قال بِمَا أَرَاكَ ۩ ترى وتجتهد في النص، قال هذا الرسول الله يُريه، عنده دعم خاص، وكما قلت في الخطبة السابقة الرسول ليس مُجرَّد ساعي بريد كما يقول القرآنيون اليوم، لهم موقف عجيب جداً جداً، يرفضون كل شيئ عن رسول الله، شيئ غريب يا أخي، شيئ غريب! والناس – كما قلت ألف مرة – تأثر عن كرامها وكبارها من الفلاسفة الألباء والحُكماء الأذكياء كلمات ومقولات وأفعالاً ومسالك يأثرونها ويتروونها ويستفيدون بها، أتُحرم أمة محمد من تراث محمد بهذه الحُجة؟ هذا شيئ غريب جداً جداً، لا يُوجَد منهج، هذا منهج عبثي ومنهج صبياني، على كل حال الرسول ليس مُجرَّد ساعي بريد، هو رجل مُؤيَّد من السماء ، فضلاً عن عقله التام الكامل، صلوات ربي وتسليماته عليه، لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۩، ومع ذلك حين يند قليلاً بحسن نية لا يُسمَح له بهذا واقرأوا تكملة الآية، وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ۩ وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ ۩ تعليق وعتب شديد – يقول الطبري – وتأديب، وهذا لخطأ وقع فيه رسول الله تعلمونه وتلوته عليكم غير مرة.

قال إذن هذا رسول الله وإنما الرأي منا – أي نحن، يقول عمر أنا وأمثالي من الصحابة الكرام الكبار – الظن والتكلف، رأينا نحن إما ظن وإما تكلف، وقد نصيب وقد نخطئ، انظروا إلى هذا التواضع! قال إنما السُنة ما سنَّه الله ورسوله، ولا تجعلوا خطأ الرأي سُنة للأمة، إنما السُنة ما سنَّه الله ورسوله، ولا تجعلوا خطأ الرأي – خطأ رأيي وأمثالي – سُنة، لا تقولوا هذه سُنة عمر، قال هذا كذب، لا! السُنة ما سنَّه الله ورسوله، لكن نحن عندنا آراء، نُصيب ونُخطئ، فلا تجعلوا خطأ اجتهاداتنا سُنة للأمة زعمتم، لا تقولوا هذه سُنة الصحابة مثلاً، وهذا لم يحصل بفضل الله، بالعكس! القاعدة أن الحديث الموقوف على الصحابي – موقوفاً – حُكمه من حيث هو – هذا الأصل فيه – أنه ضعيف، غير مُلزِم لنا، هذا الصحيح، غير مُلزِم!

لدينا نبي واحد معصوم كما قلت لكم، نبي واحد معصوم! كلما فكَّرت في عصمة النبوة وفي خاتَمية النبوة – والله العظيم – أمدني الخيال ورفدني الفكر بمزيد مغزى وعميق معنى، في كل مرة! لا تنتهي الحكمة من معصومية النبي وإن كان هناك ثمة خلاف كبير في تحقيق حدود ومدى المعصومية – هذا مبحث آخر – ومن خاتِمية أو خاتَمية النبوة بالذات، بعض المغازي التي خطرت لي لخاتَمية النبوة هل تعرفون ما هي؟ لا يحق لأحدٍ كائناً من كان شخصيةً حقيقة كانت أم إعتبارية – مثل حزب أو جماعة أو طائفة أو مذهب أو تنظيم أو نظام حكم أو غير هذا، فهذه شخصية إعتبارية، أو شخصاً حقيقياً كان مثل أنا وأنت وهو وهي، بغض النظر عن كل هذا – أن يُنصِّب نفسه ضمانةً لحقية وصدقية ما يدعو إليه ويقوله، ما الضمانة يا أخي على أن برنامجك حق، أن اجتهادك حق، وأن قولك حق؟ الضمانة أنا، أنا وتاريخي! أنا التنظيم الفلاني، أنا الطائفة الفلانية، أنا الحزب الفلاني، أنا فلان العالم، العلّامة، الرجل الفهّامة، الذي لا يُشَق له غبار، تاريخي ناصع أبيض حافل مُضيء وبرّاق، انظروا في تاريخي، فقد لبثت فيكم عمراً من قبله، أي من قبل هذا الاجتهاد، أنا! لكن نقول لك لا يا حبيبي، لا يا بابا، لا والله، لا يا بابا، لا ينبغي أن يسوغ هذا إلا على الأغبياء، لا يُمكِن لأحد أن يدعو إلى فكرة أو يُبشِّر بفكرة أو برنامج ثم سيجعل من نفسه ضمانة حقية وصدقية الفكرة، هل تعلمون هذا لمَن فقط – لمَن ولمَن فقط – ومع استثناء وتعقيب أيضاً؟ للأنبياء والرُسل، النبي حين يقول لك أنا أدعو إلى هذا – ومن هنا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۩ – لا تقل له ما هي الضمانة؟ الضمانة أنه الرسول، أنه رسول الله الذي يُبلِّغ ما أوتيه وما أُوحيَ إليه، هذا رسول! له عليك حق الطاعة، لكن – وعدتك بالاستثناء – مع استثناء، مع ضميمة، ومع استدراك، لكن حتى الأنبياء والرُسل ابتداءً يؤيَّدون بماذا؟ بالمعاجز، وذلك تأييداً وتصديقاً لدعواهم أنهم أنبياء ورُسل، وبعد أن تثبت لهم النبوة والرسالة لهم علينا حق الطاعة، لكن أنا وأنت والشيخ والشيخة والعالم والعلّامة والحزب والجماعة لا يُوجَد عندنا هذا الكلام، إذا لم يُوجَد هذا الكلام في حقنا، فإذن ما الذي يُوجَد؟ ما الموجود؟ الموجود العقل النقدي، الحس النقدي، حُجة تقرَع بحُجة، ورأى يُصارَع برأى، هذا هو! لن نُسلِّم عقولنا، لن نُستلحَق، لن نُستعبَد، ولن نعيش عبودية العقل والعاطفة مِن ثم.

للأسف الشديد بعد أن يُجرِّفوا عقلك – يُوجَد تجريف، تُوجَد عملية تجريف لا أدري ممنهجة أو غير ممنهجة، لكن يُوجَد تجريف للعقل المُسلِم – تُستعبَد العواطف، ونُصبِح نتحرَّك بعواطف مُنفلِتة مجنونة، لا تدري شيئاً! كما قلت تُريد أن تُحسِن فتُسيء، لأنها عواطف، آليات هذا التجريف وآليات هذا الاستلحاق كثيرة، منها هذا المنبر، هذا المنبر الذي دأب الناس من قرون على أن لُغته وخطابه في الأصل فيضٌ وتضخمٌ – Inflation – عاطفي وإنشائي، تسمع كل جمعة كلاماً إنشائياً وعاطفياً، أين روح المنطق فيه؟ أين روح النقد؟ أين روح المُساءلة؟ أين روح المُوازَنة والمُقارَنة؟ تقريباً غياب كامل، فائض في العاطفة والإنشاء، وفقر دم مُقلِق بل مُزعِج في النقد والتحليل والمُساءلة الفكرية، هذا هو! فخرَّجت عندنا أجيال من المُخدَّرين والمُسرنَمين، مِمَن يسيرون نياماً! يقبلون تقريباً كل ما يُلقى إليهم، وحين أُميط عنهم اللثام وجد الكثيرون منهم أنفسهم مدعوين شبه دعوة اضطرار إلى أن يتركوا هذا الدين كله، إلى أن يغادروه!

كما قلت لكم حين يشيع الغباء يُوجَد مساغ للدجاجلة المُختدِعين، الذين يختدعونك عن البديهيات، فضلاً عن الحقائق الراسخات، فيُوزِّعون عليك الجنة والنار، الكفر والإيمان، الصلاح والطلاح، والذكاء والغباء، عجيب! هؤلاء الخدّاعون يُوزِّعون الذكاء والغباء، يقولون هذا فهمٌ غبي وهذا فهمٌ ذكي رائق عبقري، يُسمون الغباء ذكاءً والعبقرية غباءً، يُوزِّعون الذكاء والغباء والناس تُصدِّق، يُصدِّقون أن هذا الغباء والهراء الذي يسمعون ذكاءً وعبقريةً وفتحاً واجتهاداً، لماذا؟ لماذا يسوغ هذا كله؟ لانتشار الغباء، هذا لا يسوغ ولا يتحرَّك إلا في انتشار الغباء،، انتبهوا! في انتشار الذكاء والحس النقدي والعقل – خاصة عقل المساءلة – كل هذا يتراجع وينكشف، والله العظيم يا إخواني! يُفتضح كله، ونبدأ نضع أقدامنا على أول الطريق، طريق الاستنارة والوعي، أمة تتحرَّك بنور وبصيرة وعقل، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۩، لا يُمكِن التلصص لهؤلاء الخدّاعين الدجّالين إلا في ظُلمة الجهل.

قبل أيام أزعجني أحد هؤلاء، يقول يدّعون أن محمدهم رحمة، يسخر! طبعاً هذا الرجل تابعت له بعض الساعات، لم أجده يُثني على محمد أو الإسلام في كلمة واحدة، ضاغن وكارهٍ جداً، أنا أقول له مُشكِلتك ليست في عاطفتك وقلبك – أنت حر – لكن في عقلك الأجوف، واضح أن عقلك أجوف وغير علمي، ذهبت أو جئت – وأنت لم تذهب ولم تجئ – لا يمكن أن تُشكِّل عُشر بُعيشير كبار المُستشرِقين وقادة الفكر في الغرب الأوروبي والأمريكي، مِمن اعترف العشرات بل المئات والمؤون منهم بفضل محمد وبيد الإسلام البيضاء عليهم وعلى حضارتهم، اعترافات جاءت في مكانها حقيقة! لكن أنت لا ذهبت ولا جئت بالقياس إلى هؤلاء، لماذا؟ وهؤلاء أيضاً بعضهم ملاحدة، بعضهم نصارى، وبعضهم نصارى مُتعصِّبون، فلماذا اعترفوا؟ لأنهم يحترمون عقولهم، لا يُحِبون أن يجتافوا عقولهم، أما أنت فعقلك أجوف، عقلك مُفرَغ! وتظن أنك بالذكاء هذا – بالذكاء الاجوف طبعاً، ذكاء التذاكي هذا يستحيل غباءً – تريد إقناع المُسلِمين وغير المُسلِمين بأن محمد كان جحمة، كان قطعة من الجحيم، كان قطعة من النار، لم يكن رحمة! كيف؟ قال أنتم قلتم إنه قال اذهبوا فأنتم الطلقاء، فأين هذا؟ أين هذا؟ من أين أتيتم به؟ علماء الإسلام أنفسهم كالشيخ الألباني طبعاً ضعَّفوا هذا، قالوا هذا مُعضَل، مُنقطِع، وغير صحيح، ما شاء الله على الذكاء! ويظن أننا لا نعلم هذا، نعلم هذا مُذ كنا صغاراً في الابتدائية والإعدادية ومُذ قرأنا تخريجات العلّامة الألباني – رحمة الله تعالى عليه – على فقه السيرة للشيخ الغزّالي، الكل يعلم هذا! لكن ما لا تعلمه أنت وأمثالك أنه ما هكذا تُورَد الإبل، لو كان لديك الحد الأدنى – واحد في المائة – من الحس التاريخي ومن الحس النقدي التاريخي لكان عليك أن تُباشِر مُعالَجة مسألتين، المسألة الأولى ذكرتها وأشرت إليها ولفت إليها في الخُطبة السابقة، لماذا ضحايا وصرعى وقتلى – لن نُميِّز ونقول شهداء وقتلى وإنما سنقول ضاحايا وصرعى وقتلى – كل حروب النبي في أعلى تقدير على الإطلاق لم يزيدوا على ألف وخمسمائة في زهاء ثلاثة وستين حرباً؟ لماذا؟ هذا الرقم لا شيئ، هذا لا شيئ! في تاريخ الحروب وفي تاريخ الدعوات وتأسيس المدنيات والأمم والحضارات لا شيئ، هذا لا شيئ، هذا عدم على أنه رقم غير دقيق بالمرة وغير علمي، الرقم يدور حول خمسمائة وأقل بالتحقيق العلمي، هذه صنعتنا! لكن لا علينا من هذا، سلَّمنا لك بألف وخمسمائة، أنت لم تُجِب عن هذا، وهذا الرقم بذاته وحده كافٍ أن يُثبِت أن محمداً كان رحمة، لم يكن دموياً، ولم يكن مُتعطِّشاً للدماء أبداً، وهذا أولاً! نأتي إلى الشيئ الثاني، مَن عنده الحد الأدنى من الحس النقدي التاريخي عليه أن يُباشِر جواب سؤال أو مسألة هي المسألة الثانية، محمد لم يصح عنه كما قال العلّامة الألباني وغير الألباني – رحمة الله عليهم أجمعين – أنه قال اذهبوا فأنتم الطلقاء – جميل جداً – لكن الذي صح عند الجميع أن محمداً أتى إلى مكة بعشرة آلاف مُقاتِل، في كل كتب السير أتى بعشرة آلاف مُقاتِل! هو هزم المكيين في بدر بثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، هم كانوا أكثر من ألف وثلاثمائة تقريباً، والآن أتى بعشرة آلاف، فلا تُوجَد إمكانية للمُواجَهة بالمُطلَق، عشرة آلاف هي التي أطلقت لسان أحد الصحابة بالقول اليوم يوم الملحمة ولسان آخر بالقول لا قريش بعد اليوم، طبعاً لأن يُمكِن أن تفنى قريش في ربع ساعة، عشرة آلاف يُمكِنهم أن يذبحوا كل شيئ على طريقة سفر التثنية، اقتلوا الرجال والنساء والصغار والحمير والبغال، التحريم! اسمه مُصطلَح الحريم في التوراة، فعلى الطريقة هذه وبمنطق سفر التثنية لن يبقى أحد، السؤال الآن كم عدد الألوف التي ذُبِحَت؟ لا يُوجَد، أين أنهار الدماء التي جرت وسالت؟ لا تُوجَد، إذن بالحس التاريخي – من غير أسانيد وألباني وضعيف ومُنقطِع ومُعضَل ولا يستند – واضح أن محمداً عفا عنهم، سواء قال اذهبوا فأنتم الطلقاء أو لم يقلها هو عفا عنهم، هذا واضح يا مُؤرِّخ ويا مَن تتكلَّم في التاريخ، أهكذا يُدرَس التاريخ؟ أهكذا نتلقى التاريخ؟ أُسائل هذا الرجل وأمثاله! على أنه إن أراد أن نتصارع بمنطق الأسانيد وحدَّثنا وأخبرنا وانبئنا فمنطق الأسانيد لن يخذلنا هذه المرة أيضاً، فقد صح الآتي، والحديث في مُسلِم والحديث عند البيهقي والحديث عند الطبراني ورجاله رجال الصحيح كما قال في مجمع الزوائد نور الدين الهيثمي وغيرهم وغيرهم وغيرهم، فضلاً عن أن الألباني صححه طبعاً لأنه في مُسلِم، الألباني لم يرد إلا أن يُصححه، عثرت خيالة رسول الله على الثلاثة الكبار الذين خرجوا يستطلعون الأخبار، أخبار الكارثة الوشيكة، أخبار ألوف النيران يرونها في الليل، ما هذه النيران؟ جيش يقدم إلى مكة ليفتحها، يا لله ولمكة! أخذتهم خيالة رسول الله، أخذت أبا سُفيان، بديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام، أتوا بثلاثتهم إلى رسول الله فحادثهم عامة الليل، فانشرحت صدورهم بالإسلام وأسلموا وكان أبو سفيان آخرهم إسلاماً، ثم طلب الأمان – الحديث صحيح – أبو سفيان، دعني مِن اذهبوا فأنتم الطلقاء! قطعاً قالها وقالها بشكل أجمل من هذا أيضاً، قال وفعلها، لم يقلها لكنه فعلها، فهل يعجبك هذا؟ قال أبو سفيان الأمان يا رسول الله، أي أنه يطلب الأمان، قال الأمان يا رسول الله، فقال مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومَن دخل المسجد فهو آمن، وعند مُسلِم بدل مَن دخل المسجد فهو آمن مَن ألقى السلاح فهو آمن، حين لا تُقاتِل تكون آمناً، لن نُحرِّمك على طريقة سفر التثنية، لن نُحرِّمك ولن نذبحك، أنت آمن!

قلت لكم مائة مرة هذا الذي هز وجدانات كثير من المُستشرِقين، مثل واشنطن إيرفنج Washington Irving وغيره، قال لو لم يكن فيه علامة إلا هذه لكانت تكفي لتدل على أنه نبي من عند الله، هذا العفو لا يقدر عليه إلا الأنبياء والرُسل، البشر العاديون لا يقدرون عليه فعلاً، عشرة آلاف! هنا يُعلِّمنا علماء النفس في الغرب الأوروبي والأمريكي – وحدَّثتكم بهذا مرة – أنك حين تحمل فقط المُسدَّس أو الطبنجة أو الخرطوش فضلاً عن الرشاشات تُصبح مُباشَرةً مُختلِفاً وتعود لا ترى الدنيا إلا من خلف فوهة السلاح، ما رأيكم؟ هذا هو طبعاً، لذلك أنا أقول لكم السلاح في أيدي شخصيات ضعيفة، شخصيات مهزوزة، وشخصيات لم تعلم معنى الله أكبر ولم تضبط الغرزي الوحشي البهيمي فيها خطير جداً جداً جداً، يُمكِن أن يُذبَح به ليس فقط القبطي البريء بل والمُسلِم البريء وغير المُسلِم البريء والعالم كله، يُمكِن أن يذبح بعضنا بعضاً به كما تفعل داعش، يُصفي بعضها بعضاً! يُصفي بعضها بعضاً على مُستوى القيادات وعلى مُستوى القاعدة، شيئ مُخيف مُرعِب! لكن هؤلاء كانوا عشرة آلاف ومعهم السلاح، كتيبة حين مرت أبو سفيان رُعب منها، مر بنو سُليم، فقال ما هؤلاء يا عباس؟ فقال بنو سُليم، فقال ما لي ولبني سُليم؟ ثم قال ما لي ولمُزينه؟ وهكذا! ثم قال مَن هؤلاء؟ لا يُرى منهم إلا الحدق، عليهم الدرق والتروس، ولا يرى منهم إلا حدق العيون، قال هؤلاء المُهاجِرون والأنصار، على رأسهم رسول الله، فرُعب أبو سفيان، شيئ مُرعِب! ومع ذلك قال النبي اليوم يوم المرحمة، اليوم تُكسى الكعبة، حقاً لقد فعلها وأطلقهم، قالها أو لم يقلها هو فعلها، صلى الله عليه، هذا قدوتي وهذا حبيبي، الله أكبر! الله أكبر يا رسول الله، لقد فعلتها حين لا يُمكِن تقريباً لغيرك أن يفعلها إلا ما شاء الله، وأين هم؟ لن أقول قليلٌ ما هم، بل سأقول أين هم أصلاً؟ فقال مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومَن دخل المسجد – أي الحرام – فهو آمن، ومَن أغلق عليه بابه فهو آمن، إذن فمَن غير الآمن؟ الذي يُريد أن يُناطِح السحاب، الذي يُريد أن ينال الشمس بيده وأن يُطفئها بنفخة من فيه المغرور الغافي، الذي يخرج بسيفه ورُمحه، يُريد أن يُقاتل عشرة آلاف، هذا طبعاً سيُذبَح، لكنهم لم يفعلوا، بعضهم هرب واستُؤمِن له فأمنه الرسول وعاد كعكرمة، قيل له أهلاً وسهلاً بك أخاً في هذا الدين، لا يُوجَد ثأر، لا يُوجَد انتقام، لا تُوجَد أحقاد يا إخواني، يُوجَد صفاء! هذا صفاء النبوة، هذا صفاء الرسالة، هذه عظمة الرسالة.

هذه كانت تعريجة سريعة إخواني وأخواتي، إذن – أيها الإخوة والأخوات – علينا أن نُحذِّر كثيراً من غيابات الجهل وغمامات الغباء، علينا أن نُحالِف العلم والوعي والسؤال والمساءلة والنقد.

سننتقل الآن إلى نُقطة أخرى يهمني أن أُباشِر أيضاً علاجها في هذه الخطبة، ما الذي يحدث للمُسلِمين؟ ما الذي يحدث لهذه الأمة؟ ولماذا لا يُبشَّر بما سأذكر وإن كان بعضهم فعل هذا؟ في الحقيقة فعلوا حتى أكون صادقاً مع الحقائق ولكنهم قلة، وللأسف أكثرهم ليسوا من نطاق الحقل الإسلامي، وإنما من نطاق ليبرالي وعلماني، بعضهم أناس مُحايدون فكرياً، لكنهم مُسلِمون وبعضهم غير مُسلِمين، فعلوا هذا! ما هو؟ الذي يحدث أننا نتأخَّر ولا نتقدَّم، قبل زُهاء تسعين سنة شرع الإسلاميون يُبشِّرون العالم الإسلامي بالذات طبعاً ويُحذرِّون ويتوعدون العالم الآخر بأفول الغرب واضمحلاله، الغرب يأفل والغرب ينحط، أي Decline of the west، تحدَّثوا عن حالة انحطاط وتراجع، قالوا الغرب سينتهي، كان هذا يشوقني ويلذ لي وأنا طفل صغير في ميعة الصبى، كنت أقرأ هذه الأشياء وأنتشي بها، لماذا؟ لأن البديل هو الإسلام والمُسلِمون، فنحن البديل، الغرب يزول ونأتي نحن نقود ركب الحضارة التائه، في أول خطبة ألقيتها على مسرح – كنت ولداً صغيراً جداً – قلت هذه الكلمات والله، البشرية التائهة الحيرى نمد لها طوق الإنقاذ والنجاة! والناس كانوا مُعجَبين جداً بولد صغير ممتلئ يقيناً بهذه النبوءة، والذي يحصل اليوم أمام أعيننا – نعيش هذه الكارثة – أن الذي يأفل الآن لن أقول الإسلام وإنما المُسلِمون، المُسلِمون هم الذين يأفلون، هم الذين يزوون، وهم الذين يضمحلون، حتى أن بعضهم – وذكرت لكم هذا – كتب مقالة عن انقراض الإسلام، وقلنا الإسلام لن ينقرض بإذن الله تعالى، هذا يقيننا! ما دمنا مُؤمِنين به كدين وبكتابه كنص مُقدَّس محفوظ فنحن نُوقِن أنه لن ينقرض، لكن نحن سننقرض، أي أنا وأنت، هذه الأجيال اللاغبة الغافية التائهة، لكن الإسلام سيُبعَث ولو من رجل واحد كما بدأ برجل واحد، الإسلام القريب بدأ بمحمد – رجل واحد – والإسلام البعيد بدأ بإبراهيم – رجل واحد – الذي كان أمة، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۩، بدأ بواحد! فهذا عادي، الله – تبارك وتعالى – قادر على هذا، كما قال الأول:

لَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ                                     أَنْ يَجْمَعَ العَالَمَ فِي وَاحِدِ.

قادر على أن يُعيد الإسلام ولو من واحد، فالإسلام لن ينقرض، يُمكِن أن ينقرض الناس – أجيال المُسلِمين – فقط، ما يحدث الآن هو فعلاً انقراض لهذه الأجيال، أفول! وواضح أن الغرب لا يأفل في المُستوى القريب، لا يأفل! بل هو قوي عفي يُمارِس قوته وهيمنته وإدارته للغباء في عالم المُسلِمين، افهموا هذا وفسِّروه بطريقتكم الخاصة، كيف هذا الغرب الذكي القوي يُمارِس إدارة – Management – الغباء في عالم المُسلِمين؟ للغباء! والله العظيم يُدير الغباء – أُقسِم بالله – ويحصل على أعظم النتائج التي يُريد، افهموا هذا وفسِّروا هذا كيفما تريدون، تأخّر!

وبما أنني ذكرت الاضمحلال والأفول فهذا أذكرني بشيئ يُمكِن أن نعقد مُقارَنة سريعة بسببه بين إسلامين: الإسلام الإصلاحي التجديدي الذي وُئِد صبياً – لم يشب حتى شباباً حقيقياً وإنما وُئِدَ وأجهض – والإسلام الصحوي المُسمي بالأصولي والمُسمى بالسياسة، فإسلام الصحوة والإسلام السياسي والإسلام الأصولي كلها تسميات لمسمى واحد، هو هذا الإسلام الذي انتهى إلى ما نراه اليوم، إلى كل هذه الجرائميات والعبثيات التي نراها اليوم طبعاً! وإلى ما قبل ربما أشهر كان يُمكِن لبعض الإسلاميين المُتحمِّسين أن يقولوا لا، نحن براء من كل هذا الدعش والداعشية، لكن للأسف الوضع الآن تعقَّد.

– (تنويه: حدث عطل فني فاضطر الدكتور إلى أن يختم الخُطبة الأولى على أن يُكمِل حديثه في الخُطبة الثانية)

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

إذن يا إخواني هناك مُقارَنة بين الإسلام الصحوي وإسلام الإصلاح والتجديد الذي تمثَّل في جهود الإمام الشيخ محمد عبده – مُفتي مصر رحمة الله تعالى عليه – وخلفائه وأجيال تَلاميذه الأولى والثانية والثالثة، خاصة من الأزهريين، محمد عبده، محمد رشيد رضا، محمد الطاهر بن عاشور، محمد جمال الدين القاسمي، شكيب أرسلان، وغير هؤلاء كثيرون، ثم بعد ذلك الشيخ عبد الرازق، الشيخ المراغي، الشيخ المدني، الشيخ دراز، والشيخ شلتوت، حتى محمد فريد وجدي ينتمى إلى هذه المدرسة، وإلى حد بعيد جداً الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد يعتبر نفسه أيضاً من تَلاميذ مدرسة محمد عبده، كل هؤلاء بشَّروا بأشياء واشتغلوا على أشياء تقريباً عكسها الإسلام الأصولي تماماً، قطع معها وعكسها! وطبعاً أنا من خلال فقط ذكر الرموز والأسماء التي ذكرتها الآن فقط يُمكِن لكم أن تتبينوا الفرق الهائل بين الإسلام الصحوي السياسي وبين الإسلام الإصلاحي، هناك أسماء مثل رشيد رضا، محمد عبده، القاسمي، وابن عاشور، هناك أشياء تتركنا مبهوتين لفرط الأعلامية والإمامة والتدقيق، إمامة! إمامة حقيقية ووعي كبير، فضلاً عن أمثال هؤلاء، رضوان الله عليهم أجمعين، شكيب أرسلان يكتب كتابه المشهور جداً لماذا تأخَّر المُسلِمون وتقدَّم غيرهم؟ وواضح أن السؤال يقع في اتجاه وعي واقعي بحقائق الأمور، أننا مُتأخِّرون، أننا في حالة انحطاط، وأن الغرب في حالة تقدّم، الإسلام الصحوي الأصولي مُنذ بداياته الأولى تقريباً مع كتابات سيد قطب – رحمة الله عليه – وغيره يُبشِّر بأفول الغرب، كأنه يقول لك لا تنتمي إلى هذا التقدم، هذا التقدم قشوري، هذه قشرة ستنقشع عما قليل وسينتهي كل شيئ، هذا الغرب منتهٍ مُضمحِل ونحن البديل، ويكتب سيد قطب – رحمة الله عليه – المُستقبَل لهذا الدين، وطبعاً واضح أنه يريد المُستقبَل للدين بقرائته هو وقراءة جماعته، فبهذه القراءة المُستقبَل لهذا الدين للأسف، انظروا إلى هذا، هذا اتجاه وهذا اتجاه.

الإسلام الإصلاحي التجديدي ذهب خطواتٍ مُعجِبة جداً في سبيل التسامح والتواصل مع الآخر، الآخر بالمُطلَق! الآخر الديني، الآخر الطائفي، الآخر المذهبي، والآخر الفكري، تواصل عبر الاطلاع، عبر التلاقح والتثاقف، وعبر التجادل والتحاور، ونشهد محمد عبده – رحمة الله عليه – يرد على مستر هانوتو Mr.Hanotaux الفرنسي وعلى مستر رينان Mr.Renan، إرنست رينان Ernest Renan! يرد عليه كما رد جمال الدين الأفغاني أستاذه من قبل على بعض هؤلاء، هذا محمد عبده رحمة الله عليه، حاول أن يتعلم الإنجليزية وشيئاً من الفرنسية، هذا مُفتي مصر الإمام محمد عبده الذي مات وهو دون الخامسة والخمسين من عمره، يتجادل بأسلوب علمي مُحترَم نظيف وراق جداً، دون أن يُحيل على مُؤمَرات وعلى مُخطَّطات كونية وعلى حرب صليبية أبداً، فقط نقاش علمي! هذا رأيهم وهذا رأينا، هذا ما تقولون وهذا ما لدينا، فقط نقاش علمي!

مجلة المنار للعلّامة الشيخ محمد رشيد رضا – الوارث الأكبر والأول لمحمد عبده ونهجه وتراثه – تُفسِح صدرها وصدر مهارقها وأوراقها وصحائفها للجميع، أفسحت صدرها للملاحدة من أمثال شبلي شميل، المسيحي الذي صار مُلحِداً، يُبشِّر بالمادية والمذهب الطبيعي ونظرية داروين Darwin بتضميناتها الإلحادية، ومع ذلك كان يكتب في هذه المجلة، وهذه المُعامَلة السمحة المُتفتِّحة وهذه المُلاينة والمُحاسَنة أطلقت لسان المُلحِد شبلي شميل – علّامة كبير هذا الرجل، مات وعمره تقريباً أقل من خمس وأربعين سنة، كان عجيباً هذا الرجل في علمه واطلاعه وترجماته وقدرته، هذا شيئ عجيب! وكان شاعراً أيضاً، وهو في الأصل كان طبيباً طبعاً، أي تخرج طبيباً، لكن هذا المُلحِد كان مُفكِّراً كبيراً – بمدح رسول الله في قصائد عصماء، وكان يفتخر بأنه – ليس كأمثال بعض الناس اليوم – يرى محمداً من زاوية تجعله أعظم من تلك الزاوية التي ينظر إليها ومن خلالها المُسلِمون أنفسهم، يقول لرشيد رضا أنت تنظر إليه على أنه نبيك، فبالحري تراه عظيماً وكاملاً، وأنا مُلحِد، لا أؤمن لا بالله ولا بالنبوات، وأرى العظمة في محمد، فمحمدي أعظم من محمدك إذن، وهذا كلام فيه نصيب كبير من الحق! يكتب قصيدة تعجب أنت أن يكتبها مُلحِد في مدح محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، ما الذي أطلق لسانه بهذا؟ ليس فتاوى التكفير، كأن يُقال هذا المُلحِد الكافر المُبشِّر اقطعوا لسانه، فلا مكان للإلحاد بيننا، هذه عنجهيات فارغة! الفكر لا يُقاوَم إلا بالفكر، الحُجة تقرعها الحُجة، ليس بالسيف وليس بالحزام الناسف، هذا كلام فارغ، هذا يجعل حملة هذا الفكر مهما كان في نظرك سيئاً وشريراً ومُلتاثاً شهداء يُلهِمون غيرهم، يُصبِحون قدوة ونماذج لغيرهم، يُحِبون أن يحتذوا بهم طبعاً، فالفكر بالفكر، السؤال بالجواب، وليس بالرصاص، غير معقول هذا! لو هذا المنطق يصح أن يُعمَّم إذن يجوز لتنظيم شيوعي وتنظيم إلحادي وتنظيم غير مُسلِم وغير إسلامي أن يُعامِل الإسلاميين والمُسلِمين بالرصاص أيضاً على أفكارهم ومن ثم تُصبِح الدنيا غابة، لماذا منطق الإسلاميين – ليس كل الإسلاميين طبعاً وإنما بعض هؤلاء الإسلاميين – يُريد أن يُحيل الدنيا إلى غابة وعلينا أن نقبله على أنه منطق الدين؟ هذا منطقكم أنتم، ليس منطق الدين، هذا فهمكم أنتم للدين، ليس فهمنا، وليس الدين بالحري طبعاً، إذا كان فهمكم ليس فهمنا فقطعاً لا يُمكِن لأحد أن يقول أنه الدين نفسه إذن، هذا فهمك، هذا فهمي، وهناك فهوم كثيرة جداً للدين، تُوجَد قراءات كثيرة جداً، تكون مُتعارِضة أحياناً ومُتضادة ومُتناقِضة للدين.

إذن انفتاح وتسامح وتواصل وتجادل بالتي هي أحسن، كل هذا انقلب مع الإسلام الصحوي إلى عكسه تماماً، في إسلام التجديد والإصلاح يكتب إسماعيل أدهم – الشاب الصغير المُهندِس الحاصل على أكثر من دكتوراة في الفلسلفة والعلوم والهندسة وكان ملحداً – رسالته لماذا أنا ملحد؟ لم يفت أحد من مشايخ الإصلاح ولا من مشايخ الازهر بقط عُنقه أبداً، يرد عليه أحد تَلاميذ محمد عبده، وهو العلّامة – عُرف بالعلّامة من وقت مُبكِّر – محمد فريد وجدي، الذي دبجَّت يراعته أول موسوعة مُتكامِلة في عهد العرب والمُسلِمين، موسوعة حقيقية! وهي دائرة معارف القرن العشرين في عشر مجلدات، كتبها رجل واحد! ولم يكن هناك لا الشيخ جوجل Google ولا الشيخ ياهو Yahoo أبداً، قراءات واطلاعات وتجميعات فقط، اليوم أي أحد يُمكِنه أن يُؤلِّف موسوعة، قص والصق ومن ثم يُمكِن أن تعمل موسوعة في شهرين من الزمن، لكن هو لم يكن كذلك، كان عنده اطلاعاته الواسعة، محمد فريد وجدي – رحمة الله عليه – موسوعة، هذا علّامة كبير، اسمه العلامة! يرد عليه بــ لماذا هو ملحد؟ ويكتب لماذا أنا مُؤمن؟ يقول (الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم) بكل احترام، ليس لدي خصومة شخصية معك أنت، خصومتي مع أفكارك، لذا سأكون شرساً جداً معها وعلمياً أيضاً، وسأكون حنوناً ولطيفاً جداً ورفيقاً معك، ليس عندي مشكلة شخصي معك، أنا أتمنى لك الهداية.

بالمناسبة خطر لي مرة أُخرى أيضاً بعد أن قضيت خطبة الجمعة السابقة حين تلوت قول الحق – تبارك وتعالى – في آخر النحل وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ۩ أن الروايات وأن المنقول يتحيَّف على الرسول، ولابد من إنقاذ الرسول من هذا المنقول بصراحة، يُؤلِّفون أشياء وما إلى ذلك، ونُصدِّق نحن خاصة إذا صح السند كما يقولون لك، لكنه مُعارِض للقرآن ولروح الآية! ليس في الآية تصريح بهذا، تقول لي هناك إشارة وطريقة، لكن بالعكس! الآية تعطيك العكس تماماً، يبدو أن الذين أرادوا أن يعاقبوا بأكثر مما عوقبوا به – أي وأن ينتقموا وأن يثأروا – جماعات من الصحابة، جماعات من الصحابة مِمَن وُتِروا بأودائهم وأحبائهم في أحد، أما النبي فيبدو أنه لم يكن كذلك، القرآن يقول هذا! النبي كان حزيناً على هؤلاء الصحابة، وكان حزيناً على الكفار الذين ذبَّحوا أهله وأصحابه في أحد، ولذلك اقرأوا الآتي: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ۩ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ۩، إذن هذا موقف حزن، لم يكن موقف غضب وإرادة ثأر وانتقام وأنه أقسم بالله ليُمثِّلن بسبعين منهم بدل حمزة، كأن هذا لم يحدث، هذا كذب على الرسول! هذه الدسائس المُغرِضة أرادت فعلاً أن تضرب صورة رسول الله في الصميم، وساغ المنقول على أمة فقدت الكثير من العقل والعقول، للأسف صدَّقت هذا، الآية تقول وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ۩، كيف لا تحزن إذن؟ أنتم أفهمتمونا أنه كان غضباناً جداً وأقسم ليُمثِّلن بسبعين من المُشرِكين لقاء ما فعلوا بعمه حمزة – أسد الله – عليه السلام، لكن الآية لا تقول هذا أبداً، لا يُوجَد الكلام هذا، الآية تقول وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ۩، إذن الموقف النبوي الدائم من مكة إلى آخر المدينة الحزن، أرأيتم كيف هذا؟ إذن الآية تقول وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ۩، موقفه الثابت الحزن، هذا محمد عليه الصلاة وأفضل السلام.

سأكون صريحاً معكم وأقول لكم لو سمع أحدكم كل ما يُثار من عجاجة على رسول الله من أفواه شانئيه وكاريه والضاغنين عليه قد يشك في نبيه، وللأسف هم لم يأتوكم إلا بما تلته النقول، روى فلان وروى علان وروى هيان وروى بيان، وبعض هذا المروي صحيح وبعضه ليس صحيحاً – أنا لا أقول كثير منه لكن أقول بعضه صحيح – ولذا أنا أقول لكم في نهاية المطاف إذا لم تكن لديكم المنهجية الصحيحة وبدأتم تستخدمون عقولكم وتتخففون من العواطف غير العاقلة ستبدأون تشكون في نبيكم، سوف تقولون هل كان نبياً حقاً؟ من المُمكِن أن نكون مخدوعين يا أخي، لماذا نحن نفترض أن كل العالم مخدوع ونحن غير مخدوعين؟ النصارى مخدوعون، قطعاً مخدوعون! ولا يعرفون عارفين الحقيقة، اليهود مخدوعون، قطعاً مخدوعون! الكونفوشيوسيون والطاويون وأصحاب ديانة الزن والهندوس والبوذيون أيضاً كذلك، إلا نحن غير مخدوعين، مَن قال لك هذا؟ ستبدأ تشك وتقول لماذا؟ قد أكون أنا المخدوع، قد أكون أن ضحية كذبة كبيرة اسمها الإسلام ومحمد والكلام هذا، حين تقرأ هذه النقول بالذات وحين تُصَك بها أذنك مرة ومرة ومرة وألف مرة تبدأ تشك، لذلك أنا أقول بفضل الله – تبارك وتعالى – هذا، الله أعطاني الشجاعة والجرأة أن أفعل هذا من سنين وأن أدفع في صدر ما يُسمى أحياناً الصحيح وغير الصحيح، هذا لا يهمني، وأقول دائماً هذا لا يهمني، لا تقل لي لا البخاري ولا مُسلِم، أنا عندي كتاب الله، حين يتعارض البخاري ومُسلِم مع كتاب الله بطريقة لا تُنصِف ربي ولا كتابي ولا نبيي أُقسِم بالله أنني أتعبد إلى الله وأتقرب خاشعاً إلى الله برده واستسخافه والسخرية منه، أي من هذا المنقول، لا يُعجِبني ولن أدافع عنه مرة، هذا الذي أفعله! تماماً كما قيل ليحيى بن سعيد القطان يا إمام أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تتكلَّم فيهم جرحاً خصمك يوم القيامة؟ أي خصومك، والخصم يأتي أيضاً للجماعة، وأعتقد أنني ذكرت هذا في خُطبة أو في درس قريباً، فقال لأن يكون هؤلاء خصمي خيرٌ من أن يكون رسول الله خصمي، يقول لي لم تذب عن ديني أو عن سُنتي؟ نحن نُريد أن نذب عن جناب نبينا الآن، الآن ليس المُستهدَف حديثاً أو فعلاً من الأفعال، المُستهدَف هو شخص رسول الله بالكُلية، هل كان نبياً أم غير نبي؟ أحسنهم يقول لم يكن نبياً لكنه لم يكن كذّاباً، كان واهماً، صدَّق وهماً في عقله، أنه نبي، كما يُصدِّقه كثيرون مِمَن يوحى إليهم بطريقة أو بأخرى، مثل هذا الهراء والكلام الفارغ طبعاً، ويبدأ أبناؤنا يُصدِّقون، لذا المسألة خطيرة!

بعض الدُعاة اليوم يقولون حين بدأنا نُطالِع ما يقول الشباب – أي الشباب المُسلِم – ويكتب الشباب ويتساءل بصدده الشباب علمنا أننا لم نكن نفهم الشباب، وهذا صحيح طبعاً، أنا أقول لك انتبه، إياك أن تسقط ما في نفسك وعقلك على الشباب وتظن أنهم يقتنعون بما تقتنع به أنت ويُسلِّمون بما تُسلِّم به أنت، اقترب منهم وحاول أن تستمع إليهم، ستجد قدراً أكبر بكثير من التحرر لديهم وقدراً أكبر من العقلانية وأقل من العاطفية، هل تعرف لماذا؟ لأنهم يُواجِهون الشُبهات الصُلبة العنيدة، لكن أنت لم تُواجِهها، أنت لم تُحِب أن تستمع إليها، طبعاً أي داعية قرأ كتابين إلى عشرين أو إلى ثلاثين – بعضهم مئات الكتب – في نقد النصرانية، خاصة إذا كان يتصدى للنصارى، وهذا جميل! لكن كم كتاباً قرأ في نقد الإسلام لكبار المُستشرِقين والمُبشِّرين والناقدين الحاقدين مثلاً؟ بعضهم عنده حقد حقيقي وليس نقداً علمياً، وبعضهم عنده نقد فيه وفيه، فيه وفيه! كم كتاب؟ يقول لك هذا لا يعنيني، لا يعنيني!

في إطار الحقل الإسلامي – أنا أحكي قصة حدثت معي في مكة المكرَّمة – قال لي أستاذ جامعي – أستاذ وليس أستاذاً مساعداً، أي Full Professor، وهو أستاذ كبير في السن ولديه لحية عظيمة – أنا أصلاً لا أقرأ أي كتاب للأشاعرة، ولا يعنيني أن أقرأ لهم، قلت فكيف تُهاجِمهم؟ قال أعرف حقيقتهم، هو يعرف حقيقتهم من خلال أعداء الأشاعرة، هذا في الحقل الإسلامي نفسه! وهو يمتن عليهم بأنه لا يُكفِّرهم لكنه يُفجِّرهم ويُفسِّقهم ويُضلِّلهم ويرميهم بكل شنيعة وبكل بشيعة ويُردِّد وراء شيخ الإسلام ابن تيمية هم مخانيث المُعتزِلة، كما كان المُعتزِلة مخانيث الجهمية والمُعطِّلة، وهكذا! أستاذ جامعي وليس عنده استعداد أن يقرأ للأشاعرة، مَن الأشاعرة؟ الإمام النووي، الفخر الرازي، أبو بكر بن فورك – الشهيد رحمة الله عليه -، الشهرستاني، ابن حجر العسقلاني، السيوطي، وأبو إسحاق الشيرازي، هؤلاء علماء الإسلام ونجوم الأمة وهم أشاعرة، لكنه قال لا، أنا لا أقرأ لهم، فهل هذا يقرأ الآن لكافر أو مُلحِد أو نصراني أو يهودي أو بوذي ينقد الإسلام؟ مُستحيل! لكن أنا أقول لك لا تفرح للأسف الشديد، الشباب يفعلون، الشباب يقرأون، الشباب يُحاوِرون، والشباب يتعرَّضون لكل هذه الشُبهات، ما لم تُجِب عنها بمنهجية صارمة حقيقية ضاع الشباب وضاع دينهم، ضياع ديني هذا! ضياع ديني لأجيالنا بين أيدينا، وقد لا نرى هذا لكننا سنُفجأ به مرة واحدة، فالأمر جد يا إخواني!

أعود، الأفكار في الحقيقة كثيرة فاسمحوا لي على هذا الاستطراد، أعود إلى ما كنت فيه، إخواني وأخواتي:

أحب أن أقول لكم أن الإسلام الإصلاحي التجديدي كان مُشتغِلاً بتنمية الفكر والثقافة والعقل تماماً بعيداً عن المشغلة السياسية، ومعروفة كلمة الإمام محمد عبده بعد أن عارك السياسة وعاركته، فهو أدرك أن إصلاح الأمة من باب السياسة غير مُجدٍ في هذه المرحلة، قال قبل هذا هناك ما هو أهم، إذا كنت تظن أن المسألة تبديل نظام حكم بنظام آخر – كما ظننا نحن – فالنتيجة واضحة، النتيجة واضحة! نحن أبناء ثقافة واحدة، هذه نفس الثقافة، ثقافة الإقصاء وثقافة الإلغاء، علماً بأن هذه ليست ثقافة محمد عبده، هذه الثقافة أجهضتكما قلت لكم، أُجهِضت وشُطِبَ عليها، لو استمرت هذه الثقافة واستبحرت وضربت بجِرانها لكنا اليوم أحسن حالاً، وطبيعي أن تختلف العقلية والمِزاج في عموم الأمة عند العسكري وعند الدبلوماسي وعند المُثقَّف وعند المُسلِم وعند العلماني وعند غير هؤلاء، هذه أمة كاملة! بدأت تتوفَّر على ثقافة مختلفة وعلى عقلية مختلفة، أليس كذلك؟ لكن هذا لم يحدث، هذا تم إجهاضه، العناية بالفكر وتنمية العقل والحس النقدي وحس المساءلة و حس السؤال تم إجهاضه تماماً، وأتينا إلى إسلام صحوي أصولي – كما يُقال – أو إسلام سياسي يُعلِّمنا ألا ننظر إلى الآخرين المُختلِفين ديناً وطائفةً ومذهباً وفكراً داخل المذهب والطائفة والدين أيضاً، لا تنظر إليه إذا اختلف حتى معك فكرياً في مسائل مُعيَّنة إلا من الزاوية التي ترى أذاه وقذاه، هذا اسمه فكر الرسوبيات وفكر المُؤاخَذات! فما رأيك؟ وسوف تجد أدبيات ضحلة عاطفية كثيرة تتحدَّث عن نقد أفكار مصطفى محمود وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وعباس محمود العقاد وطه حسين، إلى آخره! لكنها ليست دراسات علمية وافية ومنهجية، دراسات فقط تترصد ماذا؟ ما تراه أذى وقذى، وتُكبِّره وتقول لك هذا العقاد، مُستشرِق في مسلاخ مُفكِّر إسلامي فلا تثقوا به، كيف لا أثق بالعقاد؟ العقاد دافع عن الإسلام أحسن دفاع، وطبعاً لا يُوجَد إنسان – كما قلنا – معصوم، المعصوم محمد، النبوة خُتِمت بمحمد، فهل تُريد أنت إنساناً كاملاً؟ هل أنت كامل؟ هل تُحسِن أن تكتب كما كتب العقاد؟ هل لدى أعلامك من الإسلاميين الكبار مَن لديه قلم العقاد، أسلوب العقاد، كلمة العقاد، وثقافة العقاد؟ ما هذا بالله عليك يا أخي؟ هؤلاء أصابونا بالجنون يا أخي، هذا غير معقول! رجل قرأ سبعين ألف كتاب ويُدافِع عن الإسلام، فما المنطق الذي يتسلَّح به هذا الرجل؟ منطق مُختلِف تماماً، منطق عقلاني ومنطق قوي ومنطق عميق ومنطق علمي، في حين أن رجلاً قرأ في حياته ثلاثمائة كتاب، أنا حدَّثني رجل عن عميد كلية عقيدة في عاصمة إسلامية زارني في البيت قبل زهاء خمس عشرة سنة، قال لي سأكون صادقاً معك يا شيخ، هذا العميد أخذ الدكتوراة من المُؤسَّسة الفلانية – أكبر مؤسَّسة إسلامية في العالم وهي الأزهر وهو ليس عربياً – لكن هل تعرف كم كتاباً قرأ حتى نال الدكتوراة؟ قلت كم؟ من المُؤكَّد أن الأمر يصل إلى المئات طبعاً على الأقل، قال كل مصادره ومراجعه التي رجع إليها ثلاثمائة، فقلت حسنٌ، لا بأس! قال لا، هل تظن أنه قرأها؟ علماً بأن الذي حدَّثني ليس هو العميد وإنما صديقه يُحدِّثني على لسان العميد أنه حدَّثه، والله يُحِب الصادقين وهذا الذي حصل، فصديقه حدَّثني عن العميد وقال هذا ما سمعته من لساني، قال إنه قال له هل تظن أنني قرأتها؟ فقال إذن ماذا؟ مُجرَّد تصفح، تصفح! انقل من هنا وضع هنا، تصفح وينتهي كل شيئ، ثم يتكلَّم ويحصل على الدكتوراة ومن الأزهر، وهو عميد الآن كلية يُسمونها كلية الإلهيات في بلاده، ولك أن تتخيَّل هذا، هذا وضع الإسلاميين، ثم يتحدَّثون عن العقاد وطه حسين وزكي نجيب محمود وغير هؤلاء، فهم لا يُعجِبهم أحداً، لكن ليست هكذا تكون الأمور أبداً، فليكن لديكم التثاقف والعمق.

بنفس العقلية كارل ماركس Karl Marx يُلخَّص في عشر صفحات، سيجموند فرويد Sigmund Freud يُلخَّص في خمس صفحات، هربرت ماركوزي Herbert Marcuse يُلخَّص في نصف صفحة وهذا إذا تعاطوا معه أصلاً، نظرية داروين Darwin في التطور تُلخَّص في صفحتين ونصف أو عشر صفحات، وهكذا في كل شيئ! مُلخَّصات مبتورة سخيفة وصغيرة، ثم يُفهِمونك أنك فهمت وعندك القدرة أن تنتقد وأن تتكلَّم، ويقولون لك أنت الذي تمتلك طوق النجاة الفكري والثقافي، لكن أنت لا شيئ عندك، ضحالة! كما قلت فائض خطابي وفائض إنشائي مع فقر تحليلي ونقدي مُطلَق ومُزعِج، هذا الذي حصل، فطبعاً وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

هل تعلمون ما هي العقلية التى يُمكِن أن تُبريء النزعة الداعشية عند المُسلِمين؟ أنا أكاد لا أُصدِّق نفسي ولكني في الحقيقة أُصدِّقها لأنني لا أتوقَّع أحسن من هذا حين أقرأ بعض الدفوع – بلُغة المُحاماة – عن جرائم داعش وخزايا وفضائح داعش وأمثال داعش، مثل بوكو حرام وغير بوكو حرام، تقرأ بعض الأشياء وتجد أن المسكين الذي يكتب – وأنا أرثي له – أنه ذكي بل أنه أذكى منا جميعاً ومن أمثالنا ونحن مُتهَمون على الإسلام لكن هو غير مُتهَم، ثم يبدأ يدافع بمنطق… ماذا أقول؟ لن أُعلِّق! لكن لماذا يحصل هذا؟ وقد يكون شاباً جامعياً وقد يكون أنهى المرحلة الجامعية ومع ذلك يكتب بهذا المنطق، وهذا شيئ لا يكاد يُصدِّق، ونحن سمعنا طبعاً هذا من مشايخ ودكاترة، ولهم منطق – يا له من منطق! يا له من منطق يبرأ منه كل منطق! – في الدفاع عن الدعشنة، عجيب! ما الذي يحصل؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا العقل الأصولي المُسيَّس جعل في المركز من اهتمامه ليس التربية والتعليم والثقافة والفكر والتلاقح، إنما المشغلة السياسية والهم السياسي، ظنوا أن الوصول إلى الكرسي والوصول إلى السُلطة هو الطريق الأقصر لكل إصلاح، أنا أعطيتك السُلطة فماذا ستُقدِّم؟ أنت فارغ أصلاً، ليس لديك الخزين الحقيقي لكي تكون أستاذاً لي ولكي تُلهِمني، ليس عندك هذا، فكيف ستفعل؟ قد تقول سنبدأ، لكن هل ستبدأ الآن؟ سوف تفشل لأن الناس لا تنتظر، الناس ينتظرونك داعية مُبشِّراً واعداً، لكنهم لا ينتظروك وأنت في سُدة السُلطة، الناس تُريد من أول يوم إنجازات، إذا لم يكن هناك إنجازات فلن نريدك، أنت فاشل إذن، لذلك سأقول على هذا المنبر وأطلقها شعاراً: لا يُراهِنن أحد على الإسلام، أكبر جريمة وأقسم بالله على هذا أن تُراهِنوا على الإسلام، إياكم أن تفعلوا هذا، هذه أكبر جريمة في حق الإسلام، في حق الدين، وفي حق القرآن ومحمد! لماذا؟ راهن على فهمك الإسلامي، قل هذا فهمي، وهذا اجتهادي في الإسلام، وحين يخيب ويخسر ويفشل هذا الفهم لن يتحمَّل الإسلام معرة هذا، أليس كذلك؟ سوف تتحمَّله أنت، وسوف تقول هذا أمر عادي ومن ثم سوف أتحمَّل هذا، لأن اجتهادي كانت غالطاً، لكن لا يُمكِن أن تُفهِم الناس أن هذا هو الإسلام وأن الإسلام هو الحل وتعالوا إلى الإسلام وهذا مُرشَّح المُسلِمين وإذا لم تنتخبوه فأنتم كفار، وأعتقد أنكم رأيتم هذا في اليوتيوب YouTube، تكفير لمَن لم يُرشِّح مرشحهم! شيئ لا يكاد يصدق، هذا أغبى رهان على الإسلام، كأنه يقول لك أنا والإسلام شيئٌ واحد، نحن النُسخة المُطابِقة للإسلام تماماً بلا زيادة وبلا نقصان، وهذا – والله – كذب يا إخواني، والآن طبعاً حين وقعت الفأس في الرأس – كما يُقال – ما الذي صار يُقال؟ لا دخل الإسلام بكل هذه النزعات، ولا دخل الإسلام باحتراف الفشل، هناك أُناس احترفوا الفشل وأدمنوا الفشل، أُقسم بالله! عقود وهم يفشلون ويفشلون، ومع ذلك مُصرِّون على أن يفشلوا ويُفشلوا، احترفوا الفشل وأدمنوا الفشل، يُحِبون الفشل ولا يُحِبون النجاح، يُقال لك كل ما يحصل الآن وما يتعلَّق بداعش وبوكو حرام لا علاقة له بالإسلام الصحيح، إذن بأي إسلام له علاقة؟ أنا أقول لك والله العظيم المنطق الذي تستند إليه داعش هو منطقك أنت، لا في حز الرؤوس وحرق الناس أحياء – ليس هذا – وإنما في المُطابَقة بينك وبين الإسلام، داعش لا ترى نفسها تقرأ الإسلام وإنما ترى أنها تتلوا الإسلام، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۩، هم يتلونه! يقولون هذه تلاوة، نحن نتلوا الأحكام ونُرتِّلها كما هي، هذا ليس اجتهاداً وليس فهماً وليس قراءة كما يقول أصحاب الـ Hermeneutics وهذا الكلام الفارغ المُستورَد، هذا الإسلام! الإسلام كما هو، أليس كذلك؟ ولذلك لا يترددون في الحرب والذبح والدمار والقتل، لا يطرف لهم جفن، وكما ترون دائماً يُكبِّرون مُنتشين جذلين مسرورين، نفس المنطق عندك حين تُكفِّر مَن لا ينتخب مُرشَّحك، أنت تُطابِق بين نفسك وبين الإسلام وإن لم تكن داعشياً وإن لم تفعل أفعالهم وإن لم تٌفت بفتاواهم، لكن هذا نفس المنطق وهذه نفس البنية في التفكير، كأنك تقول أنا والإسلام شيئ واحد، هل سمعتم كيف تبرأ عمر من مثل هذا المنطق؟ قال لا، لا تقل قال الله وعمر، لا تقل هذا رأي الله وعمر، قال هذا رأيي أنا، من المُمكِن أن يكون غلطاً، في ستين داهية! لكن الله لا يتحمَّله، هذا رأيي أنا، عمر- رضوان الله عليه – كان فاهماً لهذا الشيئ بشكل سليم، لذلك نصره الله ونصر به، نعشه الله وأنعش به الحق، رضوان الله عليه وعلى أمثاله، هذا هو! لكن اليوم يُوجَد منطق المُطابَقة مع الإسلام، فلا تُراهِنوا على الإسلام، وإلا بهذا المنطق أيضاً سيقول لك أي واحد مسيحي غربي بالذات لا علاقة للصليبيات – أي الحروب الصليبية – والصليبيين بالمسيحية، في الحقيقة هناك علاقة بين الصليبيات والصليبيين والمسيحية، أم لا تُوجَد علاقة؟ تُوجَد علاقة، هناك ثمة علاقة بين الكتاب المَّقدس! وطبعاً أنا قرأت كتباً ويُمكِن لكل أحد أن يقرأها – كتب كبيرة في مئات الصفحات – مثل الكتاب المُقدَّس والاستعمار والكتاب المُقدَّس والإبادات الجماعية لمُؤرِّخين كبار أوروبيين وأمريكان، ولديهم دقة عجيبة، هذا ليس لعباً، هؤلاء أناس مُتخصصِّون، نفس الشيئ يحدث اليوم، الكتاب والسُنة والداعشية، الكتاب والسُنة وقتل الناس وحرق الناس والإرهاب العالمي، عادي! يُمكِن أن تكتب في هذا تماماً دون أي مشكلة، إذن ما الذي حصل؟ إذا أصررتم على أن ثمة علاقة بين الصليبيين والصليبيات وبين المسيحية فإذن لابد أن تعترفوا بتواضع أن هناك ثمة علاقة بين الداعشية والبوكو حرامية وأمثال هؤلاء وأخواتهم وبين الإسلام، لكن كيف؟ انتبهوا لكي تتكلَّموا علمياً وتناقشوا منطقياً، كيف؟ ما هذه العلاقة؟ أنا أقول لكم هذه علاقة قراءة، الصليبيات كانت قراءة في الكتاب المُقدَّس وخاصة العهد القديم، قراءة! هذه القراءة واضح أنها مُتحيِّفة وكاذبة، كذبت على روح عيسى – عليه السلام – وعلى رسالة عيسى وهي رسالة المحبة، كذبت! هذا كذب واضح، كانت هناك أهداف استعمارية واقتصادية، وهذا معروف! اقرأوا رنسيمان Runciman وغير رنسيمان Runciman وأكابر الذين كتبوا في تاريخ الصليبيات، واليوم ما تفعله داعش وبوكو حرام وأمثال هؤلاء من الإرهابيين قراءة في الإسلام، قراءة داعشية، قراءة بوكو حرامية، وقراءة جماعتية حزبية إرهابية! ليس عندنا مُشكِلة لكننا لم ننته إلى الآن، هذا كلام غير كافٍ وغير وافٍ، السؤال المُلِح الآن الذي يثور من فوره هل ثمة قراءات أخرى مُغيَّبة؟ هل ثمة قراءات أخرى مُجنَّبة مدسوسة مخبَّأة وغير موجودة؟ هل ثمة قراءات موازية أخرى؟ هل هناك قراءات أخرى؟ هذا أولاً، ثانياً إذا كان هناك ثمة قراءات فابرزوها لنا، هل ثمة مَن يعظ بها؟ هل ثمة مَن يُبشِّر بها؟ هل ثمة مَن ينتصر لها بالدليل وبالبرهان ويُحاوِل أن يُثبِت بنضال فكري وصراع عقلي كبير محموم أنها أقرب إلى روح الإسلام؟ بالنسبة للمُطابَقة لا تُوجَد مطابقة، كلها مُقارَبات Approaches، كلها مُقارَبات! قراءة أبعد وقراءة أٌقرب، هل فهمتم؟ قراءة أبعد وقراءة أقرب، وهذا يحتاج إلى منهجية! لكي تقولوا هذا أبعد وهذا أقرب ستحتاجون إلى منهجية، وسأعطيكم مثالاً سريعاً له علاقة بكل ما تفعله داعش أو بأكثر ما تفعله داعش.

لو قرأتم كتاب الله مجرداً بعيداً عن المفروضات والقبليات والمُسلَّمات – وأنا أشهد الله على أنني فعلت جهدي إن شاء الله أو بعض جهدي أو أكثر جهدي، وفعل هذا مُستشرِقون أجانب، وفعله طبعاً كتّاب إسلاميون بالمئات بفضل الله تبارك وتعالى، كثيرون جداً – سوف تجدون أن كل الآيات المُتعلِّقة بالجهاد والقتال – والله – تترامى إلى تقرير غايةٍ ومعنى واحد، وهو أن القتال لا يكون إلا دفعاً للعدوان، ولا يُمكِن أن يُسمَح به شرعاً لكي يكون قتال عدوان، وطبعاً أنا لست في صدد التفصيل، هذا موضوع يحتاج إلى مُحاضَرة طويلة وسأفعل هذا، فعلت قبل هذا لكنني سأفعله مرةً أخرى ومن زوايا جديدة، لكي أقطع الشكوك قدر المُستطاع، سيُرمى في وجهك بالآية الخامسة من التوبة وبالتاسعة والعشرين وبالسادسة والثلاثين، وكل هذا عنه جواب ستسمعونه، وهو جواب قوي وواضح، سيُرمى في وجهك – كما قلت ألف مرة -بالنسخ، سوف يُقال هذا منسوخ وهذا منسوخ وهذا منسوخ وهذا منسوخ ونحن مع هذه الآية، وأنا الآن سأعطيكم قسمة منهجية لأول مرة أتلوها عليكم أو ألفت إليها، ما هي؟

لو تنزَّلنا وسلَّمنا اعتباطاً بأن هناك نسخاً سوف نقول لدينا سؤال منهجي Methodically، هل النسخ حين يقع ينبغي أن يعمل في اتجاه مقاصد القرآن وغاياته الكُبرى العامة أم عكس اتجاه الغايات الكُبرى العامة؟ طبعاً في اتجاه الغايات، لأن هذا دين نهائي وهذه رسالة خاتمة، ألقت السماء كلمتها الأخيرة، لذا إذا جاز أن يُوجَد ناسخ ومنسوخ فلابد وأن يُنسَخ الذي كان لا يعمل في اتجاه روح القرآن العامة ولا يعمل لتعزيز مقاصد الدين الكلية، كان يعمل عكسها لظرفيات – لأمور ظرفية – طرأت على الرسالة والرسول والمُرسَل إليهم من المُسلِمين والكافرين، جميل! السؤال الآن أنت لديك مئات الآيات تُقرِّر حرية الاعتقاد والدين والضمير وآيات كثيرة في خصوص القتال تُقرِّر أن القتال لا يكون عدواناً وإنما يكون دفعاً للبأس ودفعاً للأذى وقطعاً لدابر الفتنة، أن نُفتَن عن ديننا! نُطرَد ونُعذَّب ونُقتَّل حتى نترك التوحيد، هذا هو! وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ۩، لكن في المُقابِل لدي آية أو آياتان أو ثلاث أو أربع أو خمس آيات تقول لا، القتال للمُشرِكين بعنوان كونهم مُشرِكين، وطبعاً هذا لا يجوز عليك خُطوة واحدة، قتال حتى مُشرِكي القارة الهندية والصينية لم يخطر على بال الرسول والصحابة، وطبعاً لا تُؤيِّده كل وقائع السيرة، لأن حين أتت هذه الآية كان هناك مُشرِكون في عهد مع رسول الله، وممنوع أن يُقاتِلهم، والآية ما قبلها يُؤكِّد هذا وما بعدها مرتين يُؤكِّد هذا، أن هؤلاء تفي لهم بعدهم، إذن مَن هم المُشرِكون الذي يُمكِن أن تُقاتِلهم؟ هم مُشركِون مخصوصون، أنت تُقاتِل مُشرِكين مخصوصين عدوانيين ظالمين، وهذا أمر واضح بعيداً عن أن نتفلسف، لكن على كل حال لدينا المئات من الآيات ولدينا خمس آيات يُقال تنسخ، فهل يعقل أن تنسخ الخمس آيات روح القرآن العامة في هذا الباب الكبير؟ هذا له علاقة بالقانون الدولي نفسه، أليس كذلك؟ له علاقة بالقانون الدولي، فهل يُمكِن هذا؟ ويُقال بعد ذلك الإسلام يُشرِّع للعدوان ويُشرِّع للظلم ويُشرِّع لكذا وكذا، هل يكون رحمة؟ دين يُشرِّع للعدوان هل يكون رحمة؟ المانيفستو Manifesto الإسلامي الأول – إن جاز التعبير – وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، هذه هي روح القرآن، روح القرآن بكلمة واحدة رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ۩، إذا جاز أن يُوجَد نسخ فلابد أن يكون في اتجاه ما يُعزِّز هذه الروح، وليس في اتجاه ما يشطب عليها ويتنكَّر لها ثم تقول لي هناك ناسخ ومنسوخ، على كل حال هذا اجتهادي وقد أكون مُخطئاً وقد تكون داعش على صواب في نظر بعض الناس، ليس عندنا مُشكِلة، يُطرَح هذا الرأي على الأمة ويُطرَح هذا الرأي على الأمة.

السؤال الآن: هل ثمة قراءات أخرى؟ نعم، اللهم نعم، ثمة قراءات أخرى، السؤال الثاني الحرج – أنا مُحرَج أن أطرحه ومُحرَج أن أجيب عنه – هل القراءات الأخرى تستحوذ على أكبر نصيب من المقبولية والاهتمام؟ اللهم لا، هذا يسوءني، أقول هذا وأنا حزين، يسوءني! ومن هنا أنتم الآن انفك أمامكم اللغز، لماذا هذا التأييد الكامن الخفي والظاهر المُتبجِّح لداعش من كثير من شباب المُسلِمين أحياناً؟ يُقال لكنهم كذا وكذا يا أخي، لكنهم كذا وكذا، دائماً ما يُقال لكنهم كذا ولكنهم كذا، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ لأن الخطاب المُتاح للأسف الشديد – أكثر الخطابات، أكثر ما تبثه المنابر والمنائر والكتب والصحف والفضائيات – هو الخطاب الثاني، أكثر رسائل الدكتوراة والماجستير هو الخطاب الثاني، انتبهوا! هناك أشياء كثيرة ورثناها عن الأسلاف ليست صحيحة وليست قراءات دقيقة للدين.

سأختم هذا بالإشارة إلى مسألة مُهِمة من ناحية فكرية ومن ناحية نقدية، سأقول لكم قناعتي – قناعتي الحقيقة – وهي مَن يقرأ القرآن بروحه قراءة دقيقة – كما فعل كثيرون في الشرق والغرب – غير مُتحيِّزة سيعلم أنه تم وفي وقت مُبكِّر تقريباً نسبياً الانحراف عن روح القرآن الكريم في مُعامَلة الآخرين فيما عُرِف بالحروب والفتوح الإسلامية، يُقال قاتل وافتح، أليس كذلك؟ إلى آخره! انحراف في البداية وانحراف في النهاية، انحراف في الغاية وانحراف في الآليات والوسائل أيضاً، شيئ غريب! هذا انحراف كبير، لكن لكي لا أكون طوباوياً ولكي لا أكون إنساناً ساذجاً من ناحية علمية ونقدية سأقول أيضاً ما يُريح ضميري العلمي والعقلي، ما هو يا إخواني؟ السادة الشافعية – مثلاً – من عهد مُبكِّر أضافوا مُصطلَحاً ثالثاً جديداً في القانون الدولي الإسلامي البكر – كما يقال – الجنين، هناك دار الإسلام وهناك دار الحرب، أضاف الشافعية وهناك دار العهد، فأصبح الدور كم دار؟ ثلاثة دور، وهذا عند الشافعية من وقت مُبكِّر، دار إسلام ودار حرب ودار عهد، ما هي دار العهد؟ هل هي دار إيمان؟ لا ليست دار إيمان، هي دار كفر أيضاً، دار كفر وشرك! لكنها ليست مُعادية لدار الإٍسلام، وإنما دخلت مع المُسلِمين في عهد، عهد سلم وكف، مثل اليوم تقريباً، كل دول العالم الإسلامي داخلة مع دول في أوروبا ومع أمريكا وما إلى ذلك في حالة تمثيل دبلوماسي، لا تُوجَد حرب بينا وبينهم مُعلَنة، أليس كذلك؟ مثلاً الشافعية حين فعلوا هذا فعلوه استجابة لماذا؟ هل فعلوا هذا استجابة لنصوص مُجرَّدة فراغ أم لوقائع حية مُتجدِّدة على الأرض؟ لوقائع حية مُتجدِّدة على الأرض، ولهم طبعاً سلف في مُعاهَدة الرسول لدار الشرك المُحارِبة بالأمس، وهي مكة وما حولها في الحُديبية، وأصبحت دار عهد واختلفت الأحكام، ولهم في هذا ما نوَّروا به مذهبهم وطريقتهم ولا بأس، لا بأس بهذا! إذا فهمنا هذا فعلينا أن نفهم في المُقابِل أن الذي أوحى للسادة الشافعية بصك مُصطلَح دار العهد هي الحالة الدولية في العصور القديمة والوسطى طبعاً، هذه كانت عصور وسطى، ما الحالة التي كانت سائدة؟ الحالة التي كانت سائدة إن لم تتغد بي تعشيت بك، هو هذا! القوة لا تعرف الزُهد، لا تعرف التراجع، ولا تعرف التواضع، كل الأمم كانت هكذا، لو طُلِب من المُسلِمين أن يتماشوا مع روح القرآن التامة كما هي وألا يأتوا بحركة حتى يُغزوا في عقر دارهم فالعرب تعرف من الجاهلية أنه ما غُزيَ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا وأن الدفع خيرٌ من الرفع، والأفضل بذلك المنطق – وطبعاً هذا المنطق كان همجياً، منطق العصور الوسطى حقيقة منطق همجي عدواني – فعلاً كان أن أتغدى بك قبل أن تعشي بي، على كل حال هل هذا حدث استجابةً لروح القرآن أم لإملاءات الواقع؟ لإملاءات الواقع، هل هذا حدث استجابةً للخُطة الهدائية للقرآن أم لإكراهات الظروف؟ لإكراهات الظروف، المُسلِمون فعلوا هذا، لم يكن عندهم ترف ألا يفعلوا، لذلك أنا أجبت الآن عن مسألة الفتوحات بمنطق علمي، هذا المنطق على كل حال يقبل به كل مُؤرِّخ دارس للتاريخ، ليس المُتسوِّر على علم التاريخ وإنما المُؤرِّخ المُختَص، في الغرب هنا كلهم يقبلون هذا، المُؤرِّخون الكبار الحقيقيون يقبلون هذا، لا أتحدَّث عن الحاقد والضاغن والمُبشِّر الذي جاء ليُسدِّد سهامه للإسلام وإنما أتحدَّث عن العالم المُؤرِّخ، فهم يقبلون بهذا ويفهمونه تماماً بل يُثنون على الإسلام أنه حين كان يفتح ويغزو كان رحيماً، وكان عنده خُطة غير مسبوقة في الرحمة وترك الناس وما يدينون وترك الحريات لقاء جزية بسيطة تُمثِّل بالفعل بدل حماية وليس أكثر من هذا، ولا تسمعوا كل الكذب والهراء الذي يقول هذه ليست بدل حماية، هي – والله العظيم – بدل حماية، بدليل أنها لا تدفعها المرأة، لأن المرأة لا تُقاتِل، أليس كذلك؟ لا يدفعها الشيخ الكبير، لأنه لا يُقاتِل، لا يدفعها الراهب، لأنه لا يُقاتِل، لا يدفعها الطفل، لأنه لا يُقاتِل، مَن الذي يدفع الجزية؟ فقط الشاب الذي عنده القدرة على حمل السيف، هل هذا واضح يا إخواني؟ فلذلك أنا أقسم بالله أنها بدل حماية، لا تستطيع أن تضحك علىّ وأن تُزيِّف وعيي، لأن طبعاً أعداء الإسلام يقولون لك هذا كذب، لكن هذا ليس كذباً، وإنما هو حق بنسبة مائة في المائة، الجزية بدل حماية، وهي بدل مُتواضِع وبسيط، هذه خُطة مقبولة في الجَملة وعليها مُلاحَظات جمة، أليس كذلك؟ لكن علينا أن نميز بين هذا وبين هذا.

الآن ليست هذه فكرتي، فكرتي أن حين تم ذلك كان طبيعياً أن يستجيب العقل المُشترِع والعقل الفقهي لهذا الواقع، الاستجابة الإسلامية الإمبراطورية لهذا الواقع بماذا؟ بمنظومة أُفهومية أو منظومية مفاهمية فقهية جديدة تُبرِّر لهذه المساعي والمشاغل الإمبراطورية، تُبرِّر وتقول لك بالعكس! في الإسلام نغزوهم قبل أن يغزونا دينياً، بالنص الديني! لكن ماذا عن آيات العدوان؟ يقولون لك كلها منسوخة، الإسلام الصحيح ليس أربعمائة آية وخمسمائة آية وإنما هو خمس آيات، وفي الحقيقة هذه الآيات تعود إلى آية واحدة يُسمونها آية السيف، وهي آية غائمة عائمة، لا يعرفون أين هي بالضبط، آية واحدة تُعلِن حرباً مفتوحة على العالمين وخُطتها رحيمة، قالوا بعد أن نغزوهم وأن نستذلهم بأن نكسر شوكتهم ونفل حدهم نُعطيهم الخيار بين دخول الإسلام فيصيروا لنا أخوة وبين أن يدفعوا الجزية وبين أن يُعرَضوا على السيف، هذا هو الإسلام، لكن هذا ليس الإسلام، هذا ليس القرآن، هذه منظومة جديدة تم إلحاقها بالإسلام وحملها على كاهل القرآن والدين تبريراً للمشاغل والمساعي الإمبراطورية، طبيعي أن يفعل الفقهاء هذا كما يفعله رجال القانون، هذا يحصل طبعاً، لكن وظيفتي كناقد مُسلِم وكمُفكِّر مُسلِم وكعالم مُسلِم أن أفهم هذا وأن أميِّزه وأن أقول هذه أضمومات وهذه لواحق وهذه زوائد تحمَّل بهاظتها الدين نفسه، ما ينبغي أن يتحمَّلها إلى اليوم، لكن ما الذي حصل؟ عبر العصور الوسطى كلها ظل الحس الإسلامي النقدي مُتصالِحاً مع هذه الأضمومات بشكل عادي، لماذا؟ لأن هذه روح القانون الدولي الذي لم يكن موجوداً أصلاً كما قلت لكم، إذا لم تغز غُزيت وإذا لم تتغد تُعشيَ بك، هو هذا والكل يقول هذا، كل مؤرِّخو القانون الدولي يقولون هذا، لكن متى حدث الانكسار والصدمة؟ مع مُواجَهة الغرب بأنظوماته الفكرية الجديدة وخاصة الحقوقية – خاصة التي تتعلَّق بحقوق الإنسان – في العصر الحديث، وبعد أن مضت مدة استوعبنا فيها هول الصدمة، وبدأ رفاعة الطهطاوي وابناء رفاعة يستوعبون ويقرأون ما عند الآخر، ليس بروح عدائية وإنما بروح تُحِب الفهم وتُحِب الاستطلاع، فتساءلوا ماذا عنده؟ ما الذي أعطاه مزايا تفضيلية علينا؟ لماذا غزانا؟ لماذا كان أقوى منا؟ لماذا تقدَّم علينا؟ ولماذا تأخرنا؟ الآن طبعاً للأسف في هذا العصر المعيش – ليس في العصر الحديث وإنما في الفترة المُعاصِرة – الأنظومة الحقوقية الغربية حظيت وفازت بقبول عالمي على مُستوى كوني، في العالم كله أصبحت أعلى ما يتمنى البشر ويُبشِّرون به، فهنا حدث الانكسار، لأول مرة يجد المُسلِم الواعي الذي عنده اتصال بالعالم – ليس المُغيِّب الذي يعيش في جوف صخرة أو في قلب منبر ولا علاقة له بالعالم كله، ولا حتى بعالمه هو – يرى نفسه مُحرَجاً ومضطراً إلى مُساءلة أنظومته المفاهمية الفقهية بجدية، كم هي إنسانية؟ كم هي رحيمة؟ كم هي إيجابية؟ كم هي فاعلة؟ كم هي مقبولة؟ كم يُمكِن أن أُبشِّر بها؟ وكم يُمكِن أن أُكوننها وأُعولمها؟ تقريباً هذا غير مُمكِن، بهذا بالمنطق غير مُمكِن! لأول مرة تلقينا هذه الصدمة الآن وعلينا أن نجيب، نحن نفعل هذا ونجيب – بفضل الله تبارك وتعالى – ولا نجد أي حريجة.

الآن آن الأوان أن نُعيد الحق إلى نصابه والسيف في قرابه ونقول القرآن بريء من كل هذه الأضاميم والزيادات واللواحق والإضافات التى ولَّدها العقل الفقهي الإسلامي المُشرِّع أو الاشتراعي استجابةً لإملاءات الظروف وإكراهات الوقائع في عصور خلت وتم نسخها وصرنا نعيش في عالم جديد، علينا أن نستجيب لعالمنا الجديد بتطوير قراءة جديدة، وأنا أقول لكم هذا من حُسن حظنا فصدِّقوني من غير تبجح، أنا ختمت بهذا رسالتي للدكتوراة والتي أُجيزت بفضل الله بأعلى درجة، كتبت هذا وليس من السهل أن يقبل به مُستشرِّق كبير، فانتبهوا! لا يُمكِن لمُستشرِق عالم أن يقبل هذا التبجح وسيقول لك على كل حال هذه لغة غير علمية فاحذف هذا، لكن هذا لم يُطلب مني حذفه – أقسم بالله – وهو موجود وسيُطبع، أنا طالبت بهذا وذكرت في ختام الأطروحة العلمية أن الإسلام لم يستنفذ أغراضه، بل في الحقيقة الإسلام لم يُحقِّق إلا الحد الادنى من أغراضه، ختمت الرسالة بالقول: هناك وعد – Promise – إسلامي كبير، وهو وعد حضاري، وعد إنساني، ووعد عظيم جداً، البشرية في انتظاره.

أحبتي في الله، إخواني وأخواتي في الله:

أطلب إليكم، أرغب إليكم أيها الأخوة، أقول لكم كونوا أنتم المُبشِّرين بهذا الوعد بإذن الله تعالى، كونوا أنتم حملة نبراس هذا الوعد، حقِّقوا هذا الوعد وتخفَّفوا من المنطق التجريفي، والله لن تسعدوا إلا بالإسلام وقد عاد بوجهٍ جديد وروح جديدة ومنطق جديد يفتح القلوب، لا يفتح البلاد ولا يُسقِط الحصون وإنما يفتح القلوب ويفتح العقول، وسيُصبِح الوعد الإسلامي هو الوعد المُنير والمُضيء بإذن الله تعالى، كونوا يوسف هذه الأحلام، يوسف هذه الرؤيا، وتخفَّفوا من المنطق الداعشي والمنطق الإقصائي والمنطق التجريفي والمنطق الانتقامي الغضبي الذي يُراد فقط منه ومن خلاله التعبير عن عواطف الغضب ورغبات الانتقام، لا أكثر من هذا، لا يُراد به نُصرة الإسلام، ولا نُصرة القرآن، ولا نُصرة محمد عليه الصلاة وأفضل السلام.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاَ ورشداً برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلط ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

انتهت الخُطبة بحمد الله

فيينا (13/2/2015)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: