إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – في مُحكَم التنزيل بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ۩ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ۩ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ۩ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۩ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۩ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ ۩ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ۩ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ۩ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۩ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ۩ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ۩ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

ليست تُوجَد في القرآن الكريم إشارة واحدة إلى التضحية بالبشر، إلى تقريب البشر الآدميين قرابين وضحايا على مذابح الآلهة، لأنها حين تُقدَّم لابد أن تُقدَّم ليس على مذبح الإله، إنما على مذابح الآلهة، أي الآلهة الزائفة المأفوكة المكذوبة، لا يُمكِن أن يكون خليفة الله الذي أنبأ باستخلافه له قبل أن يخلقه وجعله مسجود الملائكة أن يكون في يوم من الأيام قرباناً أو أُضحيةً لله، يستحيل! فهذا الخليفة وهذا المسجود – مسجود الملائكة – سُخِّر له الكون كله، سُخِّر له ما في الأرض بل ما في السماوات أيضاً جميعاً من لدن الله سُبحانه وتعالى، كيف يُقدَّم قرباناً؟ كيف يُقدَّم أُضحيةً؟

لكن ما حال هذه القصة؟ إنها امتحان، هذا مُجرَّد امتحان من الله تبارك وتعالى، امتحان لقلب إبراهيم، امتحان لعبودية إبراهيم لله، لوله إبراهيم بالله، لحُب إبراهيم لله، وكان فيما نُقدِّر ونرى أصعب امتحان، أين منه الإلقاء في النار؟ لقد كان امتحاناً سهلاً على إبراهيم، أن يُلقى في النار كان أسهل بمراحل من هذا الامتحان الذي يُوصَف بأنه بلاء مُبين، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ ۩، لا نقول أن تُضحي، خطأ! لا نقول أن تُقرِّ، خطأ! ليس أُضحيةً وليس قرباناً، إنما أن تذبح، إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي ۩… هل قال أَنِّي أُقرِّبك؟ هل قال أَنِّي أُضحيك؟ لا، قال أَنِّي أَذْبَحُكَ ۩، هذه مسألة امتحان، بعيدة جداً عن مسألة تقريب البشر وتضحيتهم على مذابح الآلهة، بل جاءت إشارة توحيدية إلى تهجين هذا الفعل وإلى انبغاء إنهائه بالمُطلَق وأبداً، وهذا ما حصل على الأقل في الشرائع التوحيدية، ولله الحمد والمنّة.

إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ۩، أن يذبح شيخ كبير في علو سنه ابنه صعب، ناهز المائة عليه الصلاة وأفضل السلام، لأنه بحسب التوراة نفسها أو سفر التكوين – من أسفار التوراة – رُزِق بإسماعيل وله ست وثمانون سنة، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ۩ كان قريباً من مائة، يسعى مع أبيه ويسعى أيضاً في حوائجه، يسعى في حوائجه! كأن يرعى معه وما إلى ذلكم، كان قريباً من مائة، شيخٌ يُمتحَن في نُقطة ضعفه، في شعور من أقوى المشاعر الإنسانية، إنه شعور الأُبوة، وأبوة مَن؟ أبوة شيخ كبير بوحيده، بحسب التوراة قد أُمِر أن يذبح وحيده، ابنه الوحيد! ومن هنا نُؤكِّد أنه إسماعيل وليس إسحاق كما تقول التوراة، التوراة تُصرِّح بإنه إسحاق، وهذا غير صحيح لأن التوراة نفسها تُكذِّب هذا، التوراة نفسها تُكذِّب هذا! التوراة لابد أن تُبرهِن كما سيأتيكم الآن أنه إسماعيل وليس إسحاق، مع أنه تُصرِّح بأنه إسحاق، وهذا غير مُتسِق.

أن يذبح وحيده صعب، وحيده الذي يعني شيئاً أكبر وأبعد وأعمق وأعز من ابن، إنه ابن وحيد في علو السن، بعد عطش دام عقوداً، بعد عطش وتشوف دام عقوداً، فوافى شيخوخة عالية واهنة، فيها ضعف هذه الشيخوخة، الإنسان كلما علت سنه كلما أصبح ضعيفاً أمام مشاعره، أمام مشاعره وأمام ما يُحِب أيضاً، فكيف إذا كان هذا الذي يُحِب هو ابنه الوحيد؟ عليهما الصلوات والتسليمات، إنه أمله، إنه حُبه، إنه عقبه وخلفه، إنه ذُخره، إنه اسمه من بعده، هذا الإسماعيل عليه الصلاة وأفضل السلام.

قال لابد أن تذبحه، امتحان صعب جداً، مُوازَنة – ويا لها من مُوازَنة! – بين حُبك لهذا الذي تُحِب أكثر من أي شيئ وبين حُبك لله الذي هو فوق المُوازَنة وفوق المُقارَنة، هكذا ينبغي أن يكون حال النبي وحال الصدّيق، إبراهيم لم يتردد، إبراهيم هو الصفاء كله والنقاء كله والصدق كله، ومن هنا جاءه الأمر رؤيا، لم يرتب ولم يبحث عن تأويل ولا تفسير ولا مخرج، لماذا؟ لأن إبراهيم يتسق ظاهره مع باطنه، يُوافِق باطنه ظاهره، لا يخضع للصراعات التي يخضع لها أمثالنا مع أنه بشر مثلنا، لكن لفرط صفائه ولفرط صدقه وصدّيقيته لا يخضع لهاته الصراعات، سبب هاته الصراعات المسافات الفاصلة بين ظاهرنا وبين باطننا، بين شعورنا ولا شعورنا، بين الوعي منا وما هو على هامش الوعي وتحت الوعي وفي اللا وعي ذاته، أما إبراهيم وعيه ولا وعيه وظاهره وباطنه شيئ واحد، هذا معنى الصدّيقية المُطلَقة، ولذلك كان خليل الرحمن، وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ۩.

فالذي يراه في المنام هو حق كما يراه، ولا يحتاج حتى إلى تعبير، رأى أنه يذبح ولابد أن يذبح، هكذا! بمقدار صدّيقيتك يأتيك الخبر على وجهه من السماء، كما كان نبينا – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إذا رأى رؤيا – هذا في أول نبوته وقبل أن يدهمه الوحي، أي جبريل، الناموس الأكبر – في حديث الوحي من كتاب البخاري أو صحيح البخاري تأتي مثل فلق الصبح، مثل فلق الفجر، تأتي مُباشَرةً كما هي، لا تحتاج إلى تأويل، هذا لفرط الصفاء والنقاء والصدّيقية يا إخواني وأخواتي.

على كل حال ما دمنا قد أشرنا هذه الإشارة السريعة أُحِب فقط ومن التوراة أن أقول الآتي، لأن المُسلِمين اختلفوا كثيراً، كثيرون من المُفسِّرون رجَّحوا أن الذبيح هو إسحاق، وفي رأسهم شيخهم ابن جرير الطبري، وأتى بأدلة كثيرة، لكنها في نظرنا ليست بشيئ، أتى بآثار وأخبار ليس يصح منها شيئ، أشياء كثيرة عن صحابة وعن تابعين ليس يصح منها شيئ، خالفه آخرون وفي رأسهم ابن كثير – رحمة الله عليه – الذي يعتمد عليه في تفسيره وأتى بأشياء كثيرة ليس يُقطَع منها بشيئ، أخبار وآثار أيضاً، وبعضها عن نفس أولئكم الصحابة والتابعين وتبعهم في هذا الأمر، لكن التوراة نفسها تُؤكِّد أن الذبيح إسماعيل وليس إسحاق، حسدونا عليه لأنه جد العرب، لأنه أبو العرب، لأنه أبو رسول الله، الذي كان يُعرَف بابن الذبيحين، الذبيح الأول الأكبر هو إسماعيل، والذبيح الثاني هو عبد الله بن عبد المُطلِب والد رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، وإن لم يصح الخبر بذلك، أنه كان يُلقَّب بهذا، لكن هذا موجود ومأثور ومعروف.

التوراة تقول – ونكتفي فقط بهذا الدليل، هناك أدلة كثيرة، لكنه أقواها على الإطلاق – إن الذبيح ومَن أُمِر إبراهيم بذبحه كان وحيده، إذن لابد أن يكون إسماعيل، لماذا؟ لأن إسحاق لم يكن يوماً وحيد إبراهيم، بالتوراة نفسها! ارجعوا إلى سفر التكوين، في سفر التكوين أن إبراهيم رُزِق بإسماعيل وكان له من العمر ست وثمانون سنة، في التوراة نفسها في سفر التكوين ورُزِق بإسحاق وله من العمر مائة سنة، يقول سفر التكوين هذا! إذن إسحاق جاء ولم يكن وحيداً، وجاء بعد الوحيد بأربع عشرة سنة، مَن عساه يكون الذبيح إذن؟ إنه إسماعيل، لذلك نقطع بأنه إسماعيل.

في سياق الآيات التي تلوناها اليوم جاء على الولاء – أي بعقبه مُباشَرةً من غير فاصلة – من قصة أو من حكاية ذبح هذا الذي لم نعرف حقيقته إلى الآن تنزلاً قوله – عز من قائل – وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِياًّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ۩، إذن جاءت البشرى بإسحاق بعد قصة الذبح والذبيح، إذن إسحاق ليس هو الذبيح، إسحاق ليس هو الذبيح وإنما اغتر بعض المُفسِّرين بأن إسحاق هذا الذي بُشِّر به في قوله – تبارك وتعالى – وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ۩، أي كابن له، كذُرية لإسحاق، قالوا المُبشَّر به هو الذبيح وهو إسحاق بنص الآية، لماذا؟ لأن الله قال في الآيات التي تلوناها رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ۩، قالوا هذا هو المُبشَّر به، والمُبشَّر به هو مَن أُمِر بذبحه، وهذا تناقض وغير صحيح.

أكثر نُقطة يُضعَّف ويُوهَّن بها هذا القول هي نفس الآية، قوله تعالى فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ۩، كيف يُؤمَر بذبح إسحاق؟ وإبراهيم على كل حال لم يكن يعرف أنه سيُفدى، هو مضى إلى ما أُمِر وفي يقينه أنه سيذبحه وأن الله لن يحول بينه وبين ذبحه، كيف يستقيم في عقل إبراهيم – وهو من أذكى بل أذكى أذكياء البشر في زمانه – أنه سيذبح هذا الإسحاق – عليه السلام – مع أنه بُشِّر بابن له من إسحاق؟ غير صحيح، لن يبقى إلا أن يكون إسماعيل، ونكتفي بهذين الدليلين.

أيها الإخوة:

لقد كان يُضحى بالإنسان، نحن لا نُفرِّق بين الأُضحية والقربان، لكن علماء الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية في الغرب هنا – وهذا أدق – يُفرِّقون، يقولون الأُضحية ما كان بحيوان أو بإنسان، بذي نفس! ما كان بحيوان أو بإنسان تُسمى أُضحية، أي Sacrifice، أما القربان فهو أعم، قد يكون أُضحية وقد يكون حتى بسنابل وبغلال وبحبوب وبأشياء كثيرة، فيُسمى Oblation أو Offering بالإنجليزية و Opfer بالألمانية، فهذا هو الفرق بينهما.

على كل حال كان يُقرَّب وكان يُضحى بالأوادم، بالآدميين، ببني البشر! على مذابح الزيف، زيف الأديان الوضعية والسماوية المُزيَّفة أيضاً، السماوية التي طرأ عليها وطرقها الزيف والتضليل والتغبيش والخداع للأسف الشديد، إلى أن ارتقى الإنسان – يقولون – فانفك عن هذه العادة السيئة، عادة الإجرام والعياذ بالله، وعادة تصديق الآلهة الكاذبة والزائفة التي لم يكن نهمها يشبع، وفي الحقيقة هو لعله نهم الوهم ونهم الجهل والضلال، وأحياناً نهم البشر الكهنة وأصحاب الامتيازات في مُجتمَعات مُعيَّنة، ولا يصدق هذا التفسير دائماً، لكن أكثر ما يُبرَّر به هذا هو الوهم والجهل وعبودية الإنسان لما يصنع من أكاذيب ومن أساطير، جاء الإسلام ليُحرِّرنا من كل هذا، الإسلام دين الله طبعاً، الذي هو دين آدم ودين سائر الأنبياء إلى محمد، صلى الله عليهم وآل كل وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

عرف هذا الزرادشتيون، المانويون، أصحاب ديانة الــ Totem أو الطوطم كما يقول العرب، الذين عبدوا الكواكب، الذين عبدوا النجوم، الذين عبدوا الأشجار، والذين عبدوا الحيوان، عرفوا التضحية بالإنسان، تقريب الإنسان! عرفته أيضاً ديانات الهند، عرفه قدماء المصريين، قدماء اليونان، وقدماء الرومان، ظل معمولاً به عند اليونان على ما أنجزوا من تفوق وسبق ربما عقلي وفلسفي رائع، لكن عرف اليونان التضحية بالبشر إلى القرن الثاني بعد ميلاد السيد المسيح عليه الصلاة وأفضل السلام، أما الرومان فظل شائعاً وسائداً هذا النظام السيء – نظام الإجرام – عندهم إلى القرن الأول قبل الميلاد، حيث صدر أول مرسوم ملكي إمبراطوري في سنة سبع وتسعين قبل الميلاد بتحريم هذا، لكنه لم ينفع في قطع دابر هذه العادة السيئة، فاستُصدِر بعد ذلك أكثر من مرسوم في نفس القرن، كان يُضحى بالإنسان!

عرفته ديانات أمريكا اللاتينية، المايا والآزتيك – سكان المكسيك الأصليين إلى ما قبل الفتح الإسباني أو عشية الفتح الإسباني، كانوا هم السكان الأصليين -، كانوا يُضحون بالبشر أيضاً على مذابح الآلهة، أكثر ما كانوا يُقدِّمون لإله الذرة، لأن الذرة تُشكِّلأ محصولهم الغذائي الرئيس الأساسي، لإله الذرة كان يُقدِّمون في السنة ما يزيد عن خمسين ألف أُضحية بشرية، خمسون ألف تُقدَّم كل سنة، جريمة كُبرى! ليس هذا مقام الإنسان.

جاءت هذه القصة العظيمة التوحيدية لكي تقول كفى لهذا الوهم وكفى لهذا الزيف، المسرح كان منى بالأرض المُبارَكة في جزيرة العرب، منى! حيث يكون الحجّاج في المناسك المعروفة، وخاصة يوم النحر، ينحرون هداياهم وأُضحياتهم هناك في المكان، حيث كان ينبغي أن يكون النحير أو الذبيح هو إسماعيل عليه الصلاة وأفضل السلام، وهناك عرض الشيطان الإبليس – لعنة الله تعالى عليه – لخليل الرحمن ثلاث مرار، يُريد أن يُثنيه عن ذبحه، كيف تذبح ابنك؟ أملك، قلبك، فؤادك، ذكرك، عقبك، حُبك! كيف؟ ثلاث مرات، وكانت قصة الرجم المعروفة، ويسيخ في الأرض في كل مرة، ثلاث مرات! لماذا ثلاث مرات؟ ثلاث مرات برهن فيها إبراهيم أنه واعٍ تماماً – واعٍ على المُستوى النظري، على المُستوى العقدي، وعلى المُستوى المسلكي أو السلوكي العملي – أن رب الناس هو الله، أن ملك الناس هو الله، أن إله الناس هو الله، ثلاث مرات!

وإذا ما أدرك الإنسان أن رب الناس هو الله وأن ملكهم هو الله وأن إلههم هو الله فقد تحرَّر تماماً من كل عبودية ومن كل زيف، إذا لم يُدرِك هذا أو قصَّر حتى في واحدة منها سيقع حتماً ضحيةً، ضحيةً أو قرباناً، سيُقرَّب هو قرباناً على مذبح الجهل والخُرافة والأسطورة والعبودية لغير الله، وأسوأ ذلك العبودية للنفس، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ۩، فمَن لم يكن عبداً لله هو عبد لنفسه مُباشَرةً.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۩، الذي خلق وذرأ وبرأ وأمد وأعد هو الله تبارك وتعالى، الذي يرزق ويُعطي ويمنع ويهب هو الله تبارك وتعالى، وليس سواه، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ۩ مَلِكِ النَّاسِ ۩، الذي يملك آجالنا وأرواحنا ونفوسنا ونواصينا بيده هو الله، لا يستطيع أحد أن يشترينا بأمواله، اليوم عبودية السوق، دين السوق، الآن بدأوا يصرخون هنا في الغرب، الواعون المُتعمِّقون الأخلاقيون بدأوا يصرخون كما صرخ أحدهم في فرنسا قبل سنوات قائلاً نعم لدولة السوق – تُريدون دولة سوق – لكن لا لمُجتمَع السوق، بالعكس! الآن دولة السوق ومُجتمَع السوق وإنسان السوق، حتى على المُستوى الفردي هو إنسان السوق، انتهى! الإنسان الآن عبد – عبودية مُطلَقة – لأنانيته، لهواه، لشهواته، لمصالحه، ولمُكتسَباته، انتهى كل شيئ! هذا يُنذِر بالفناء، فناء المُجتمَع، فناء الحضارة، فناء الأخلاق، وفناء القيم، يحتاج هذا إلى تفصيل طويل جداً، لكن هذا هو الحادث.

إذن الذي خلق وذرأ وبرأ ويرزق وأعد ويُمد – سُبحانه وتعالى – هو الله، ليس الفرعون، انتبهوا! ليس الفرعون، لا أحد يستطيع أن يزعم هذا، وإلا كان طاغيةً، كان فرعوناً، سنكفر به! الذي يملك آجالنا ونواصينا وأقدارنا وحظوظنا وقسمنا هو الله، ليس قارون، لا يستطيع قارون أن يشترينا بكل أمواله، لا تستطيع السوق وقيم السوق أن تشتري حراً، عبداً لله، الذي هو رب الناس وملك الناس، إذا أدركت أنه رب الناس وأنه ملك الناس فقد رجمت شيطانك، ليس بسبع حصيات، وإنما بسبعة مليون حصية أو بسبعة مليون حصاة، الآن تأخَّر وسيتأخَّر، لم يبق إلا أن تتشرَّف بالصعود في السلم الأرقى والمعراج الأكمل الأوفى، إِلَهِ النَّاسِ ۩، إله الناس له نسجد ونعبد، ولمنهاجه وشرعه نُطيع، لا لأي منهاج آخر ولا لأي شرع آخر، الحلال ما أحله الله، الحرام ما حرَّمه الله، واسألوا التاريخ ولا تسألوا الكُتب المُقدَّسة، كل مَن خالف في هذا لا نقول باء بإثمه وإنما باء بلعنة الدنيا قبل الآخرة، انقلبت عليه المقاصد، انقلبت عليه أغراضه، عاش تعيساً ومات عاثراً ملعوناً، انتهى! 

إذن هو أيضاً إله الناس في النهاية، تتويجاً ليقين وعقيدة أنه رب الناس وملك الناس، بهذه الحصيات الأخيرة سينتهي إبليس من وجودك، لن يبقى له إلا الوسوسة البعيدة، لن يجرؤ أن يظهر لك كما ظهر لإبراهيم مرة أُخرى، لن يجرؤ! انتهى كل شيئ، ولذلك هو عاد ثلاث مرات وضُرِب ثلاث مرات، مرة باسم رب الناس، ومرة باسم ملك الناس، والثالثة باسم إله الناس، وبعدها أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ۩، انتهى! سأكون مُستعِداً لفعل أي شيئ، حتى وإن كان – يقول لسان حال الخليل عليه السلام – ذبح وحيدي، لكن يا لهذه السكين التي لا تعمل! إنها مشحوذة أحسن شحذ وماضية أحسن مضاء، لكنها تتثنى ولا تفعل، تعطَّلت! ما الذي عطَّل هذا السبب؟ إنها مرة أُخرى قصة النار في وجه آخر، النار هناك لم تحرق والسكين هنا لم تقطع، كيف تحرق يا خليلنا ويا حبيبنا هناك وكيف تقطع هنا؟ كيف تعمل الأسباب وأنت قد ارتقيت عن أُفق الأسباب؟ أنت طهَّرت نفسك باطناً وظاهراً، مُعتقَداً ومسلكاً، في كل نفس من أنفاسك، بمُسبِّب الأسباب، برب الأسباب والمُسبَّبات، كيف تعمل فيك الأسباب؟ 

وفي المُقابِل كيف تُخرَق لك العوائد وأنت بنفسك لم تخرق العوائد؟ أما إبراهيم فقد خرق كل عائدة، خرق السائد وخرق العائد بالمُطلَق! وجهته هو الله – تبارك وتعالى – فقط، ونجح في الامتحان، إبراهيم الآن نجح في الامتحان الأصعب، في امتحان البلاء المُبين، وجاء الله – تبارك وتعالى – في كتابه لكي يقول له ولنا لست بحاجة إلى بشر يُقرَّبون، أنا من أجلهم قرَّبت موائد هذا الكون، من أجلهم سخَّرت كل شيئ، أنا أحللتك أيها الإنسان ضيفاً على كوني بعد أن أحسنت إعداده في مُدة مُتطاوِلة، جئت الكائن الأخير، لأنه أحسن مضيفة لك، أحسن مثابة لك، أنا أردت هذا، انتبه! في القرآن الكريم أنت الذي تُضحي، أما الفدية وأما الفداء فمَن الذي يُعطيه؟ الله، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ ۩ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩، انتبه! التضحية منك، والتضحية هي سلوك روحاني، سلوك عقدي، سلوك نفس، وليست تقريب مائة وخمسين يورو، ليست هذه التضحية، انتبه! إذا وقفت على أن معنى الأُضحية هي أن تشتري بمائة يورو أو بمائتي يورو كبشاً وأن تُضحيه وتُظهِر نفسك ضحيت أنت ما فهمت شيئاً من مغزى ومقصد الأُضحية، لم تفهم شيئاً!

كلنا الآن – وخاصة هنا في هذا الغرب المُتبحبِح – يستطيع أن يُضحي خمس مرات في السنة وليس مرة واحدة، وهذا لا يُؤثِّر على ميزانيته بالمُطلَق، ليست هذه التضحية، التضحية أن تُضحي إسماعيلك، إبراهيم أراد أن يذبح إسماعيله، كما قلنا لا يصح أن نقول يُضحي، لا يُوجَد معنى للتضحية هنا، أراد أن يذبح إسماعيله، وبإرادته ذبح إسماعيله هو أراد أن يُضحي نُقطة الضعف فيه، نعم هو أراد أن يُضحيها! نُقطة الضعف فيه، أكبر نُقطة ضعف في إبراهيم هي إسماعيله، حُبه، تعلقه، شغفه، وولهه بهذا الإسماعيل المُبارَك الميمون عليه السلام، أراد أن يُضحي هذه النُقطة بالضبط والتمام، وعند هذه النُقطة تماماً ومرة أُخرى وبالضبط وبالتحديد حين أراد أن يُضحي أو استعد – وقد أنجز ذلك – أن يُضحي أكثر نقاطه ضعفاً تحرَّر إبراهيم، تحرَّر! الآن برهن أنه رباني، أنه قوي، رباني وليس رباً، أنه إلهي، عبد إلهي عاشق طائع مُذعِن خاشع أواه مُنيب، لكنه ليس إلهاً، ولا فيه جُزء منه الإله، طبيعته شيئ والله – تبارك وتعالى – شيئ مُختلِف تماماً، وهذا بعض مغزى القصة.

ما الذي يجعل شيخ الأنبياء ومُعبِّد طريق التوحيد للثلاثة العظام – موسى وعيسى ومحمد، عليهم الصلوات أجمعين – يخوض هذا الابتلاء الصعب المُر الكئيب؟ يُريد أن يقول لنا رب إبراهيم ورب الناس أجمعين إبراهيم يبقى عبداً، يخضع للامتحان، ليس إلهاً ولا فيه شيئ من إله، ليس رباً ولا يستطيع أن يزعم أو تُزعَم له الربوبية أو شطرها أو كسرها، يبقى عبداً شأنه شأنكم جميعاً، ويخضع للامتحان، وعليه أن يُلبي، ولو قد رسب في هذا الامتحان لعُد من الراسبين، لانتهى شأنه كعبد مُقرَّب، ولكن – انتبهوا – الامتحانات تتوالى حتى تخرج هذه النفس، امتحان الله – كما نقول دائماً – هو امتحان دائم، ما دمنا في هذه الدار فنحن مُعرَّضون للامتحان، بعبارة عيسى – عليه السلام – الشقاء العام، الابتلاء بلُغة القرآن، ونسأل الله أن ننجح وألا نكون من المفتونين، بل من الجائزين، لسنا أقرب من إبراهيم، رصيدنا ليس أكثر من رصيد إبراهيم، إبراهيم عنده رصيد في النار، قال داود مرة يا رب أسمع أناساً يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني رابعاً، قال إبراهيم قُذِف في النار لي، وهذه بلية لم تنلك، ماذا فعلت أن حتى يُقال ورب داود؟ صحيح أنت نبي، لكن لست بهذه المثابة، العدل الإلهي! ليس رصد أحد منا مما يُمكِن أن يُقارَن برصيد إبراهيم المقذوف في النار – عليه الصلاة وأفضل السلام – أبداً، ومع ذلك يُمتحَن في حدود المائة من عمره، في شيخوخته وعلو سنه وضعفه يُمتحَن أيضاً، انتبهوا! نسأل الله التثبيت، نسأل الله أن يمنّ علينا بدوام الإيمان وثبات الإيمان حتى نلقاه ولا نتلجلج ولا تختلج في نفوسنا خليجة من شك أو حرج من دينه وشرعه وأمره، لا إله إلا هو! وإلا فقد هلكنا، ولا يهلك على الله إلا هالك.

إذن لابد أن تكون مُتهيئاً ومُستعِداً أن تُضحي إسماعيلك، مَن هو إسماعيلك؟ أنت أدرى، إسماعيلي أنا أدرى به، كلٌ منا له إسماعيله، نُقطة ضعفك، نُقطة الضعف فيك! قد يكون المال، قد يكون الجمال، قد يكون السُلطة، قد يكون السؤال، قد يكون الإنجاز، وقد يكون الولد، لا ندري! كلٌ منا له إسماعيله، أما إن كنت تظن أنك تسلك طريق إبراهيم حين تُضحي كبشاً فهذا خطأ، الكبش يا حبيبي في الحقيقة هو فدية وليس أُضحيةً بحسب القرآن، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ۩، الكبش هو فدية، عليك أن تُضحي أولاً لكي يأتيك الفداء.

إذا أردنا أن نكون مُتناسِقين تماماً مع المنطق القرآني – انتبهوا – فالتضحيك منك والفداء من الله تبارك وتعالى، وهذا منطق لا يتخلَّف، هذا منطق إلهي جزائي لا يتخلَّف، فمَن ترك شيئاً لله – يقول النبي المعصوم، صلى الله عليه وسلم – أبدله الله – أي عوَّضه الله – خيراً منه، أبدله الله خيراً منه! ما الذي أُبدِله إبراهيم؟ أراد أن يذبح ابنه ففُديَ وأُعطيَ إسحاق نبياً من الصالحين، وبُورِك عليه وعلى إسحاق، نعم! وظل له إسماعيل، خلى له إسماعيل، وأُضيف إليه إسحاق وذُرية إسحاق، يعقوب أبو أنبياء إسرائيل، حتى النظرة البسيطة هذه مَن تركها يُعوَّض، النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، النظرة! النظرة إلى ما حرَّم الله، نظرة وليست جريمة كُبرى، ليست كبيرة من الكبائر الآثمة والفاحشة في إثمها، النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، مَن تركها لله أبدله الله حلاوة الإيمان يجدها في قلبه، هكذا! عليك أن تُضحي وتنتظر الفداء من الله، هذا هو كبشك، كبشك حلاوة الإيمان، أُضحيتك نظرة تركتها لله.

علينا أن نفهم فلسفة ومغزى ومقصد الأُضحية من هذه الزاوية وبهذا المعنى، فيا مَن أراد أن يُضحي عليك أن تُضحي أولاً أهواءك وأصنامك وعُجبك وغرورك وكبرك وتثاقلك إلى الأرض، عليك أن تُضحي هواك ومصالحك ومنافعك وأكاذيبك وأوهامك وزيفك، عليك أن تُضحي بكل هذا، وسيأتيك الفداء الذي يُجوهِرك ويُعيدك جوهراً نقياً آخر، جوهراً مُتألِّهاً ربانياً، ستُصبِح خليلياً، ستُصبِح إبراهيمياً، ستُصبِح مُوحِّداً حقاً، ستُصبِح تعي أنك عبدٌ لرب الناس، مليك الناس، إله الناس، لا إله إلا هو! وستنطلق من هذا، وستستأنف حياة جديدة بالمرة هذه المرة، بالمرة هذه المرة!

هكذا علينا أن نفهم مغزى الأُضحية ومعنى الأُضحية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                (الخُطبة الثانية) 

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

لكن لماذا كان لابد من الفدية؟ لماذا أُنزِل الكبش؟ انتهى! نجح إبراهيم الخليل في الامتحان، فليصطحب ابنه وحيده بكره، ولينطلقا بسلام مُشرَّفين رافعي الرؤوس، لكن لماذا نزل الكبش؟ لماذا إذن من الكبش بدٌ؟ لماذا لابد من الكبش؟ لأن الله سيقول لنا عبر هذا الامتحان وحده إلى هذه الحدود لا تكتمل الدائرة، السلم الروحي والمعراج الرباني والطريق الإلهية ليست تُقطَع فقط بهذا القدر من الامتحان ومُجاوَزة الامتحان، إنها تمر بعباد الله، لابد أن تمر بالآخر، تمر بعباد الله! هؤلاء أصحاب الأكباد الحرى والمِعد الجائعة والعيون الدامعة والدموع المسفوكة، لابد أن تمر الطريق الإلهية بهم، معراج الله هم درجه، هم درج معراج الله! لذلك كان لابد من هذه الفدية، لابد من هذا الكبش، هل لكي يأكل منه الرب؟ أبداً، هل لكي يستنشق ريحه الله كما تقول التوراة؟ أستغفر الله العظيم! في التوراة – هذا بحسب التوراة – الله – تبارك وتعالى – يلذ له جداً أن يجد روائح هذه المحروقات، المُحرَقة هي الأُضحية تُحرَق في مذبح اللاويين، الذي يقوم عليه أبناء ليفي Levi أو لاوى كما نقول نحن العرب، من أبناء يعقوب! والله يلذ له هذا جداً ويستنشق هذه الرائحة، كلام فارغ! هذا من بقايا الوثنيات عند الأمم البدائية التي كانت تعتقد أن الله – تبارك وتعالى – يستفيد بالأضاحي والقرابين، يُحييها مرة أُخرى وينتفع بها، ويتخذ منهم – خاصة إذا كانوا بشراً، ذكوراً وإناثاً – وصيفات وخدماً يقضون له حوائجه، أستغفر الله، إلحاد! إلحاد في الله، في أسمائه وصفاته، في تنزيهه وقُدسه وجلاله، لا إله إلا هو! التوراة تقول هذا أيضاً، علماً بأن التوراة فيها إشارات واضحة جداً جداً إلى أن الأصل كان هو التضحية بالبشر، لذلك هم استعدوا بعد الخروج الكبير – أعظم حدث تاريخي لبني إسرائيل كما في التوراة أيضاً – أن يُضحوا أولادهم، أول مولود لإناثهم الآدمية وأول مولود أيضاً للحيوان، تقول التوراة لكن الله أبى وخفَّف عنهم، فوضع عنهم التضحية بأول مولود بشري، قال هذا لا أُريده، وبقيَت التضحية بأول مولود من إناث الحيوان، غير صحيح! في نظرنا هذا افتراء على الله، الله لم يكن يوماً ليرضى بأن يُضحى البشر ثم أنه خفَّف، لم يحدث يوماً، انتبهوا! مع أن القرآن واعٍ ويُريدنا أن نكون واعين أيضاً بهذه الحقيقة، القرآن يقول لنا نظام التقريب ونظام التضحية نظام قديم جداً قدم الإنسان، في الأصل هو نظام ديني، ولم يكن يوماً بحسب خلو القرآن من هذه الإشارات ليكون تضحيةً بالبشر كنظام ديني صحيح وليس زائفاً، بدليل الإشارة في سورة المائدة، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ۩، يتحدَّث عن ابني آدم في أول درج مشوار البشرية، يتحدَّث عن نظام القربان، ليس فيه إشارة إلى تقريب البشر وإلى التضحية بالبشر أبداً، غير موجود في القرآن الكريم.

على كل حال جاء القرآن وجاء الإسلام لكي يقول لنا هذه الأضاحي تمر بالبشر، ومن هنا رضا الله – تبارك وتعالى – القائل لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا – لحومها لن تبلغ الله – وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ ۩، هذه واحدة، الله لا يفرح بلحمها ولا بشحمها، إلا إن كان يفرح بذلك على أنه مدد للفقراء، مدد لأصحاب المسغبات، لكن ليس له هو، لا إله إلا هو! جل عن ذلك سُبحانه وتعالى، جل عن ذلك! قال فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۩، أطعموا الذي يسأل وأطعموا الفقير الذي يطيف ولا يسأل، هذا معنى الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۩، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا ۩ البائس الفقير، كلوا منها أنتم، هذه لكم وللبؤساء الفقراء منكم، لكن لحمها لن ينال الله ودمها لن ينال الله.

ومن هنا تكتمل أو بهكذا تكتمل هذه الحلقة، فالطريق إلى الله تمر بالآخرين، الآخرين المساكين المحاويج الضعفاء، لن نصل إلى الله إلا عبرهم وإلا بهم، كما قال – صلى الله عليه وسلم – لا أقول في إشارة بل تصريحاً هل تُرزَقون وتُنصَرون إلا بضعفائكم؟ بصلاتهم وصلاحهم، أو قال باستغفارهم، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

تقول أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – فيما أخرجه الترمذي وابن ماجة في سُننهما، تقول قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ما عمل أحد يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، أي من إهراق دم، دم الأُضحية والهدي في الحجيج! هدي القارن المُتمتِّع أو حتى المُتطوِّع، حتى المُتطوِّع به يجوز ويُستحَب له، ما عمل أحد يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، هذا أحب الأعمال إلى الله يوم النحر، يوم العيد عندنا هنا نحن الذين لسنا بحجيج، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – وإنه – أي وإن الشأن، ولذلك قال وإنه ولم يقل وإنها – لتأتي بقرونها وأظلافها وأشعارها – تأتي يوم القيامة طبعاً -، وإن الدم ليقع من الله – تبارك وتعالى – بمكان قبل أن يقع على الأرض – مكان ماذا؟ مكان المقبولين، أنه يقبله ويتقبَّله، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ۩، وإلا لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۩ مرة أُخرى -، فطيبوا بها نفساً، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فطيبوا بها نفساً.

في الحديث الذي أخرجه أحمد في مُسنَده وابن ماجة في سُننه عن زيد بن أرقم – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – سُئل – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، السائل إما زيد أو إما غيره، شك الراوي، قال قلت أو قالوا – يا رسول الله هذه الأضاحي ما لنا فيها؟ قال بكل شعرة حسنة، الله أكبر! فقيل يا رسول الله فالصوف؟ قال بكل شعرة من الصوف حسنة، لذلك صح عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – من رواية أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – أنه قال مَن وجد سعةً فلم يُضح فلا يقربن مُصلانا، ولذلك جماهير علماء الصحابة والتابعين وتبع التابعين وأئمة الدين أنها سُنة مُؤكَّدة عن رسول الله، لم يقل بوجوبها إلا الإمام أبو حنيفة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – على مَن وجد سعة.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعيد هذه الأعياد علينا وعلى أمة الإسلام جمعاء باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام والخير والبركة والنصر والغُفران.

اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت.

اللهم أنت أصلحت لك الصالحين فأصلحنا بما أصلحت به عبادك الصالحين، اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت، وبارك اللهم لنا في أسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(14/12/2007)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: