إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ۩ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ۩ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ۩ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ۩ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۩ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ۩ قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ۩ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۩ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ۩ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ۩ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ۩ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ۩ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.

قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ۩، أخذها – أيها الإخوة والأخوات – شاعر مُسلِم فقال:

يتمنَّى المرءُ في الصيف الشتاءَ                     فإذا جاء الشتاء أنكره.

فهو لا يرضى بحال واحدٍ                               قُتلَ الإنسانُ ما أكفرَه.

فهم هذا الشاعر أن كفر الإنسان هو هذه الحالة التي تعتوره وتعتاده، حالة الملل والسأم، إنه لا يرضى بحالة حتى وإن كانت جيدة، حتى وإن كانت هنية، إنه ينزع دائماً إلى التغيير وإلى التبديل وإلى التجريب وإلى الإغناء، إغناء الخبرة، إغناء الحياة، إغناء الفهم، وإغناء الإدراك، فهل فعلاً قُتِلَ الإِنسَانُ ۩ وهل فعلاً مَا أَكْفَرَهُ ۩ لأجل هذا المعنى كما فهم الشاعر؟ نحن نُخالِفه، نُخالِفه في هذا الاستنباط، ونُخالِفه في هذا الاقتباس الذي جاء في غير محله، بل استناداً إلى القرآن العظيم الذي نفى السأم عن الملائكة وهو منفي في الأرجح وفي أغلب الأحوال عن البهائم أيضاً والحيوانات يبدو أنه خصيصة إنسانية، يبدو أنه ميزة وخصيصة إنسانية، تُؤشِّر في عُمقها إلى ذلكم الجُزء الإلهي من الإنسان، وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩، طبعاً ليس بمعنى الجُزئية التبعيضية، لا! وإنما المصدرية، هذا الجُزء الذي مصدره الله تبارك وتعالى، هذا السر المخلوق لله، ليس بمعنى أنه جُزء، ليس بمعنى جُزء مُبعَّض، أستغفر الله! هذا تجسيم وهو كفر وإلحاد، وإنما ذلكم الأصل الإلهي المُمتاز في هذا الإنسان، الملائكة لا سأم ولا ملل لديها، لماذا؟ والحيوانات كذلك! لأنه لا تطلعات لديها، الملائكة ليس لديهم تطلعات أبداً، الملك مخلوق ومطلوب منه أن يمكث راكعاً، يبقى راكعاً إلى ما شاء الله، حتى يأتيه أمر الله، يبقى راكعاً، لا يسأم ولا يمل، كأنها كائنات مُبرمَجة تماماً.

وبالمُناسَبة في هذا المجال يطيب لي أن أُذكِّر بهذه المسألة التي لم يُلتفَت إليها، كُتِبت كتابات كبيرة وكثيرة وعميقة بلا شك وعلمية وفكرية على الفروقات التي ينبغي أن تُحدَّد كفروقات بين الإنسان وبين الإنسان المُصنَّع، بين الإنسان وبين الروبوت Robot ذي الذكاء المُصنَّع والذكاء الصناعي، تكلَّموا عن فوارق كثيرة، أنا أقول من أهم هذه الفوارق الملل، الروبوت Robot لن يمل، لن يشعر بالسأم، لن يشعر بالملل، تماماً كما أن هذا الحاسوب أو الكمبيوتر Computer لو طلبت إليه أن يُعيد إليك حساب مسألة مُعيَّنة مليون مرة سيفعل مليون مرة دون أن يقول لك كفى، دون أن يقول لقد أمللتني، سيفعل هذا باستمرار، أما الإنسان فلا يستطيع ذلك إطلاقاً، لا يستطيع ذلك إطلاقاً! هذا يقضي عليه، هذا يُدمِّره، أي التكرار اللا نهائي هذا أو شبه اللا نهائي.

الملائكة كائنات مُبرمَجة تماماً كالحواسيب، ولذلك لا تشعر بالملل، الإنسان ليس مُبرمَجاً، هو حامل الأمانة، وفيه هذا الجُزء المُمتاز ذي المصدر الإلهي، وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي ۩.

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ۩، وهو لا يتجاوز مقامه، يعلم أن هذا مقامه، انتهى! الملك يعلم أن هذا مقامه، لن ينقص عنه ولن يزداد، لن ينحط عنه ولن يرتقي عنه، مقامه – كما قلنا في خُطب قديمة – مقام رقمي رياضي، رقم اثنان – مثلاً – يبقى اثنين، الاثنان تبقى اثنين دائماً، لا يُمكِن غير هذا، تقول لي ألا ترتفع؟ إذا ارتفعت فلن تكون اثنين، ستكون ثلاثة، هذه ليست اثنين، أما اثنان فهي دائماً في هذا الموضع بطريقة واضحة، كذلك الملائكة، وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ۩، الإنسان ليس كذلك، صاحب نزوعات انحطاطية وارتقائية، ينحط مرة ويرتقي مرة، في الحق ينحط مرات ويرتقي مرة، لأن الانحطاط أسهل، لأن الانحطاط أسهل عليه، ولذلك يتآكله الملل، يتآكله السأم والإعياء أحياناً، ويتآكله الإحباط واليأس في بعض الأحوال، لأنه كائن فريد، كائن مُتميِّز.

في الخُطبة السابقة تكلّمنا عن هذا، وطبعاً لم نجد بُداً أن نصل الكلام في هذا الموضوع، لأن أكثر الكلام الذي مر كان أقرب إلى النظريات والتنظير وفهم المسألة من هذه الزاوية، اليوم لابد أن ندخل شيئاً ما في التطبيق، كيف يُمكِن أن نقضي، كيف يُمكِن أن نُحارِب، وكيف يُمكِن أن نُقاوِم إلى حد ما هذه الظاهرة التي تُسبِّب لنا حالة – كما قلنا – من الفالج أو من الشلل النفسي والمعنوي، الإنسان الملول السئمان إنسان تقريباً في كثير جداً من الحالات إنسان غير قادر على الإنجاز، وكما قلنا الإنجاز والنجاح لا يتشارك ولا يتصالح مع الملل، ليس لملول أو سئمان إنجاز، من المُستحيل! لا يلبث أن يشرع في شيئ حتى يقطعه، لا يلبث أن يسير في طريق حتى يرتد، هذا هو السئمان، لا يستطيع أن يُواصِل.

الأخطر من ذلك – كما قلنا – هذه الظاهرة قد تُسبِّب إنهاء صداقات وتخريب أسر، قد تُسبِّب تخريبات وأضرار وأخلال معنوية واجتماعية كبيرة جداً، وفي نهاية المطاف هي تُدمِّر الإنسان، لذلك بعضهم اعتبرها جوهر الشر، بالغ كفلاسفة الوجودية واعتبرها جوهر الشر، أكبر مُكابَدة أنطولوجية عندهم هي السأم، هي الملل! كل أدب ومسرح العبث أو اللا معقول – Absurd اسمه – تسعون في المائة منه تقريباً على الأقل يدور حول السأم والملل، وهو في أكثره سأم حضاري ناتج عن نمط جديد أو أنماط جديدة أفرزتها الحضارة المدنية الصناعية، وحصل من جرائها حالة اغتراب للإنسان عن نفسه، لقد اغترب الإنسان وانفصل عن جوهره، وهو يحن إلى العود ولا يعرف الطريق، ومن هنا أدب العبث أو اللا معقول ومسرح اللا معقول أكثره يدور حول ظاهرة الملل وحول ظاهرة السأم، لذلك نراه غير معقول، لكن هذا هو الواقع المعقول، إنه واقع سئمان وواقع يغص ويرشح بكثير من الملل.

يوم ألَّف بعضهم روايات عن الملل الناس لم يقرأوها ولم يهتموا بها، فقال هذه أكبر تحية لي، لأنها تُؤكِّد أن الحياة فعلاً مليئة بالملل، قال أكبر تحية ألا يقرأ الناس رواياتي، لأنها عن الملل، وهم في حالة ملل، والملول لا يُريد أن يتعاطى مع أي شيئ، هي حالة فقدان! فقدان للاتصال وللتحسس بما وبمَن حولنا، حالة تشرنق، لكن في نفس الوقت – كما قلنا وهذا هو الخيط الفاصل الدقيق الذي يفرق بينها وبين حالة الاكتئاب – ليست حالة تشرنق بالمُطلَق، يتشرنق لكن في نفس الوقت يطمح أن يبحث، يُريد أن يبحث عن بديل، الجوهرة في يده يخالها حجراً تافهاً، مع أنها جوهرة، لكن هو في حالة عجز أن ينفض عنها التراب والأغبرة، ولو فعل لتبدَّى له جوهر هذا الشيئ.

المُهِم والخطير في هذه الناحية أنك حين تمل – كما قلنا – سيارتك أو بيتك أو عفش بيتك لن تكون المسألة نهاية الدنيا، لكن حين تمل زوجتكَ أو تملين زوجكِ أو تمل صديقك العزيز أو تمل مَن لهم قدر ولهم دور ولهم اعتبار وحيثية في حياتك ستكون هذه ظاهرة خطيرة جداً جداً جداً، طبعاً لماذا تملهم؟ أنت تملهم وهناك تبرير، الزمان الذي يُنضِج الثمرة – كما قال حكيم – هو نفسه الذي يُصيبها بالتعفن، الزمان! نحن نُحِب الثمار النضيجة، أليس كذلك؟ نُحِب الثمار النضيجة، فالزمان الذي يُنضِج لنا هذه الثمار هو نفسه الذي يُصيبها بالتعفن، فهل تتعفَّن الشخصيات والجواهر الإنسانية كما تتعفن حبات التفاح – مثلاً – وكما تتعفن الأشياء؟ الزمان ينخر في هذا الخشب، في هذا القماش، في ذاكم الحديد، وفي كل شيئ، سيارة بعد عشرين سنة ليست كسيارة في أول أيامها، بيت لدى الفراغ من إنشائه وتعميره ليس كمثله بعد عشرين سنة، يختلف! هذا هو الزمان، هو الذي أنضج وهو الذي كمَّل وهو الذي يُدمِّر وهو الذي يعيث فساداً.

تقول لي هذه هي الحالة عينها مع البشر، زوجتي كانت شابة وجميلة وذات رواء وذات بهاء وذات ألق، الزمان ضربها، كما ضربك، لا تنس أيضاً، كما ضربك أنت، لكن للأسف هذه الفلسفة ساقطة، وهي فلسفة مادية وغير صحيحة، تصدق فقط في الماديات، صحيح الزمان يُنضِج الثمار ويُصيبها بالعفن، لكن الزمان نفسه هو الذي يعمل دائماً وبشكل مُستمِر – إذا أحسنا أن نسير وفق خُطة مُتكامِلة وعاقلة وصحيحة في الحياة – على إنضاجنا باستمرار، نموت ونحن ننضج، ولذلك الذين يفهمون الحياة وعندهم فن الحياة وفن العيش وفن التجوهر وفن التأنسن يعلمون هذا، ينبغي سنة عن سنة وشهراً من وراء شهر أن نزيد إنسانيةً، أن نزيد عُمقاً، أن نزيد إدراكاً، أن نزيد تأملاً، وأن نزيد غوصاً في أسرار أنفسنا، في أسرار شخصياتنا، في أسرار كياناتنا، وفي أسرار جواهرنا.

سنكتشف حينها فقط – بالعكس – أن الذين أحببناهم شباباً من أصدقائنا ومشايخنا وجيراننا وأزواجنا وآبائنا وأمهاتنا صاروا أجمل وصاروا أحكم وصاروا أنضج، تجوهروا! ظهر فيهم سر جديد، بدأ يتكامل فيهم معنى الإنسانية، هذا إن عاشوا وفق خُطة صحيحة، انتبه! ليست القضية أن تعيش طويلاً، كلما سمعت عن مُعمَّر أُفكِّر في هذا، قبل أسابيع رأينا مُعمَّراً تونسياً، نسأل الله أن يُكمِل القرن والنصف، حلال عليه! ابن مائة وسبع وعشرين سنة، شيئ جميل، مُمتَّع بصحته – ما شاء الله – وبشبابه المُتأخِّر، عاش مائة وسبع وعشرين سنة، أكبر مُعمَّر في العالم من تونس، جميل! لكن السؤال الذي يلح علىّ دائماً – ليست القضية أن تعيش مائة سنة ومائة وخسمين – كيف تعيش؟ وماذا فعلت؟

يقول الفيلسوف يتمنى الإنسان دائماً ويتوق إلى الخلود، مع أنه ليس عنده ما يقوم به في مساء يوم مطير، لو يوم في المساء – بعد العصر مثلاً – تُمطِر الدنيا فهذا يحتبس في بيته، إذا احتبس في بيته ليس عنده ما يشتغل به، لأنه إنسان فارغ أو شبه فارغ، وحين يحتبس المطر يخرج يُزجي أوقاته في لا معنى بطريقة عبثية، أوتطلب الخلود؟ ماذا تُريد من الخلود؟ ولذلك أنا فهمت من خلال كلمة هذا الفيلسوف الحكيم الآتي، قال الرسول ما من حليم إلا ذو عثرة وما من حكيم إلا ذو تجربة، لذلك – انتبه – التجربة مَهِمة، إذن هذا الزمان، نتحدَّث عن الزمان، الزمان إذن الذي ينخر والذي يُصيب بالعفن هو نفسه الذي يُعطينا قطرات الحكمة، صنبور الزمان هو الذي يُقطِّر لنا الحكمة يوماً فيوماً وشهراً فشهراً إن عشنا وفق خُطة صحيحة، فأنا فهمت من كلام هذا الحكيم المُجرِّب – ولا حكمة حقيقية إلا عن تجربة وإلا عن مُعايشة – هذا، ولذلك إذا ذهبت حتى إلى تراث المُسلِمين تبحث عن الحكمة – أنا سأكون واضحاً معك وصريحاً – أول ما تجدها عند العُرفاء، عند المُتصوِّفة، الصادقين منهم، وعند أولياء الله، لن تجدها عند فقيه ظاهري أو عند مُحدِّث، هذا كلام فارغ، مُستحيل! لن تجدها، لن تجد حكمةً، الحكمة الحقيقية والمعنى الحقيقي ستجده عند هؤلاء الناس.
كبار المُفكِّرين في الغرب الذين اقتنعوا بالإسلام وأُعجِبوا به وشدتهم جاذبيته وسحاريته أكثرهم على الإطلاق من باب هؤلاء العُرفاء في التاريخ الإسلامي، لأنهم عندهم ما يقولون للبشرية وليس للمُسلِمين، مولانا جلال الدين الرومي – رحمة الله عليه – تُرجِمت أعماله إلى مُختلف لُغات الدنيا، لا تجد مُفكِّراً في الشرق والغرب إلا ويعرف مولانا، لكن يندر أن تجد عربياً مُثقَّفاً أو غير مُثقَّف هو سمع بمولانا، لأننا لا نزال نعيش في السطحية، ونظن أن المسائل قريبة المُتناول والحكمة سهلة والمعنى واضح وكل شيئ لا يحتاج إلى بحث، مثلما تأكل تأخذ الحكمة، هذا كلام فارغ، لأننا غير مُجرِّبين.

أحد هؤلاء الحكماء – ولنستقصي هنا عرضاً – حضره الموت، اسمعوا إلى هذه القصة، ما أجملها! ما أعمقها! ما أروعها! ترشح بالحكمة وبتجربة الحياة وبمعنى الحياة، وقد صرَّح في آخرها أنه ابن الحياة وتَلميذ الحياة، قال أنا ابن الحياة، مدرستي الكُبرى هي الحياة، لمَن كان له سمع أو بصر أو عقل، يسمع أو يرى أو يعقل، فاحتُضِر – أي حضره الموت، وليس احتضر، الله هو الذي يحتضر، أي يطلب حضور الروح، احتُضِر الرجل، كما قال نُزِع أو يُنزَع – فسأله أحدهم، قال له يا شيخ، أيها العارف الكبير دلني على أساتيذك، على مشايخك، وعلى مُعلِّميك الذين استقيت منهم هذه الحكمة الجليلة، قال أوه يا بُني لو أردت ذلك لأزجيت شهوراً وراء شهور – أحتاج إلى شهور – لكي أدلك على أساتيذي ومشايخي، كثيرون جداً هم، وليس في الوقت مُتسَع، نحن نرتحل الآن، هو يموت! وهو حتى مُتماسِك في هذه اللحظة، قال دلني على أهمهم، هذا سؤال له معنى، قال دلني على أروع وأهم وأخطر الأساتيذ في حياتك، فسكت سُويعة ثم قال نعم يا بُني، إنهم ثلاثة، ثلاثة! ثلاثة فقط، هؤلاء أروع الأساتيذ ضمن آلاف المشايخ والمُعلِّمين، مَن هم؟ قال لص وكلب وطفل صغير، أكبر مشايخي وأكبر مُعلِّمي هم ثلاثة، كيف؟ قال عُدت ذات يوم إلى بيتي وكُنت مُسافِراً واستودعت جارةً عجوزاً لنا مفتاح الدار، فخجلت أن أُوقِظها في فحمة الليل، فإذا بلص يدهمني، وأنا لا أعرف أنه لص، قال ماذا هناك؟ قلت أُحِب أن أدخل بيتي ولا أعرف، قال أنا أفتحه لك، قلت كيف تفتحه؟ قال هذه صنعتي، مهنتي! ففتحه، قلت جزاك الله خيراً، انزل علىّ ضيفاً الليلة، فقال على الرحب والسعة، ليس عندي بيت أصلاً أنا، مُتشرِّد! قال فنزل عندي الرجل، وعنده جواب إنسانية، مَن قرأ دون كيشوت Don Quixote لثيربانتس Cervantes يعرف كيف أن اللصوص عندهم أحياناً قيم، حتى على الأقل فيما بين بعضهم البعض، عندهم قيم! قيم الإنفاق والشهامة والفروسية والعدالة، العدالة مع بعضهم على الأقل، الحياة لا تسير بغير قيم، لا تسير! يستحيل أن تسير بغير قيم، المُهِم قال فضافني – نزل علىّ ضيفاً – لشهور، مكث لشهرين ثم لثلاثة ثم لأربعة، أين موضع التعليم هنا والأستذة؟ قال يا بُني كان يخرج كل يوم من الصباح وأنا جالس أتأمل، صوفي يتأمل! يُحِب أن يفهم الدنيا من خلال قوقعة التأمل، من خلال بؤبؤ النظر، قال وأنا جالس أتأمل، وهو يخرج يرتزق، تعرفون كيف يرتزق الآن! يخرج يرتزق، ثم يعود المساء خالي الوفاض، صفر اليدين، ليس عنده شيئ! أقول له ماذا؟ يقول إن شاء الله يرزق الله تبارك وتعالى، اليوم لم يتحصَّل شيئ، عنده طموح، عنده إقبال، وعنده حُب للحياة، شيئ غريب! لا ييأس الرجل، مُواصِل! عزيمة من حديد، لا ييأس! وليس ضجراً، لا يتضجَّر من القضاء والقدر، يقول الحمد لله، يحمد الله! يقول الحمد لله، لم يرزق الله شيئاً، نُجرِّب من غد إن شاء الله، من الصباح! في البكور، بكور كبكور الغراب – كما تقول العرب – وجهاد كجهاد الحمار، أكرمكم الله، بكور كبكور الغراب، يُبكِّر! وقال هكذا كل يوم، حتى صار يقول لي ابق أنت في تأملك وأنا أذهب أرتزق، الحياة تُريد حركة، الحركة بركة كما يقول عوام المُسلِمين في كل أنحاء الأرض، الأتراك والبوسنويون وغيرهم، كلمة مشهورة في العالم الإسلامي كله وهي صحيحة، ويا ليت فلسفة حياة المُسلِمين تُترجِم عن هذه المقولة الشائعة بين شعوبهم! أي الحركة بركة، لأننا أكثر أمة أعتقد مُصابة بالقصور الذاتي، لا نُحِب الحركة، لا نُحِب التغيير، نُحِب الجمود، مُصابون بالقصور الذاتي! قال فتعلَّمت منه الكثير، وكما قال الإمام عليّ مَن كان له فكرة كان له في كل شيئ عبرة، يتعلَّم حتى من لص!

قال وأما الكلب فرأيته يلهث عطشاً، يُسابِقني إلى جدول ماء، فيه عُرض هذا الجدول، عريض! قال فلما أقدم يبدو أنه رأى شكله وصورته في الماء ففزع فعاد، لكن العطش غلبه وعاد ثم ارتد فزعاً، وهكذا مُحاوَلات كثيرة، وأنا أرقب حالة هذا الكلب المسكين، قال لكن العطش – دافع العطش – غلبه فألقى بنفسه في الماء، طبعاً هو في صراع، ألقى بنفسه في الماء وهنا اختفت الصورة، ما الدرس هنا؟ عميق هذا الشيخ رحمة الله عليه، عميق هذا العارف بالله، كأنه يقول لنا أكثر معاركنا وأكثر صراعاتنا وأكثر حروبنا وأكثر مخاوفنا هي أوهامنا، أوهام نخلقها ثم نُسقِطها على الواقع ونُصدِّقها، يقول أحد علماء النفس الكبار إن بالغت في الخوف من شيئ فخوفك أسوأ من هذا الشيئ نفسه، مهما كان هذا الشيئ فظيعاً خوفك أسوأ منه، خوفك الآن أصبح موضوعاً آخر وليس رد فعل على موضوع، ليس انفعالاً إزاء موضوع، أصبح بحد ذاته هو الموضوع الآن، أصبح مصدراً للخوف وليس رد فعل على ما يُخيف، أوهامنا! كما قال النبي – عليه السلام – الناس من خوف الفقر في فقر، قال والناس من خوف الذل في ذل، هذا هو طبعاً!

ولذلك – أيها الإخوة والأخوات – ليست الوقائع وليست الظروف هي كل شيئ، لها اعتبارها بلا شك حتى لا نكون طوباويين، ولكن أهم من الوقائع وأهم من الشروط والظروف موقفنا منها، نظرتنا إليها، وردود أفعالنا إزاءها، كيف نتعامل معها؟ هذا هو الذي يُشكِّل أهمية أعظم من الأشياء ومن الشروط ومن الظروف والمُعطيات، زاوية النظر!

اسمعوا هذه العبارة العجيبة، أتمنى لو أن مُسلِماً يقول مثلها، يقول أحدهم – سنذكر اسمه لاحقاً – حين أفتح عيني كل صباح لا أفتحها على العالم وإنما أفتحها على مليون عالم مُحتمَل، نحن نفتحها على العالم، بل ليس على العالم وإنما على جُزء حقير وتافه جداً من العالم، إنه العالم الذي يشغلنا ويُهِمنا ويأخذ بنواصينا، إنه العالم البسيط جداً جداً، عالم رزقي أو عالم خصمي أو عالم حقدي أو عالم نزاعاتي أو عالم كذا وكذا، أشياء بسيطة جداً، هذه كل عالمك! تنام عليه وتقوم عليه، ولا ترى غيره، لا ترى في الحياة إلا هذا العالم، أما هذا الكاتب الوجودي يقول لا، حين أفتح عيني لا أفتحها على العالم، وإنما أفتحها على مليون عالم مُحتمَل، كيف؟ هذا كولن ولسون Colin Wilson، يقول على مليون عالم، يُمكِن أن ترى في الدنيا مليون دنيا وفي العالم مليون عالم وفي الشروط مليون شرط، هذا يعني أن الخيار لك، اختر أنت عالمك، اختر أنت طريقك، اختر أنت وجهتك.

العوام يقولون – وهذه فلسفة لكن لا يُدرِكونها – اضحك – مثلاً – تضحك الدنيا معك، تقولون هذا كلام في الأغاني، لا! هذه فلسفة عميقة، مثل كلام ولسون Wilson هذا، لكنها غير مُلبوَرة بصيغة فلسفية واضحة، ما معنى اضحك تضحك الدنيا معك؟ أي اعبس أيضاً تعبس الدنيا في وجهك، أي الدنيا كأنها شيئ حيادي، أنت تُسقِط عليها وتُحيلها إلى ما تُريد.

ألم تُدرِكوا يا إخواني الآتي؟ أنا هذا يحدث معي في كل سنة مرتين مُنذ أربعين سنة على الأقل، أي في السنوات التي كنت أعي فيها هذا الشيئ تقريباً، كيف؟ في كل عيد حين أخرج في سيارتي أو في المُواصَلات أو مع أصدقائي إلى العيد هنا في المسجد أو أي مكان آخر لأُعيِّد معكم أشعر أن النمساويين أيضاً يُعيِّدون، أشعر أنهم جميعاً في عيد، أشعر أن الدنيا في عيد، ثم أثوب إلى رُشدي وأقول لا، لكنهم هم لا يُعيِّدون، لكن أشعر أن كل شيئ مُعيِّد، كل شيئ فيه عيد، لماذا؟ لأنني أنا مُعيِّد، مُعيِّد ظاهراً وباطناً وفرح بالعيد، فأشعرب الفرحة في وجوه الكل، وأود ألو أُحيي جميع الناس وأُبارِك لجميع الناس، ثم ارتد وأقول لا، ولكنهم ليسوا من أهل هذا العيد، ليس لهم! لماذا؟ هذا يحدث معي مُنذ صغري، وأعتقد يحدث مع كل واحد فينا، يشعر أن الدنيا كلها في عيد، ويستغرب لماذا هم الآن – مثلاً – يذهبون إلى العمل؟ لماذا لا يجليون في البيوت لكي يُبارِك بعضهم لبعض؟ لأنه ليس عيدهم، أن تشعر أن الدنيا كلها عيد لأنها عيدك، فاجعل منها عيدك كل يوم، لماذا لا؟ اجعل من الدنيا عيدك يومياً، ولذلك أنت حين تفتح عينيك لا تفتحها – كما قال ولسون Wilson – على عالم واحد، وإنما على مليون عالم مُحتمَل، ولك الخيار، اختر عالمك، اختر الوجهة التي تُريد، اختر اللون الذي تُريد، هذه قدرة عجيبة، الله أعطى الإنسان هذا الشيئ، وهو شيئ غريب، الحمد لله أنه لم يُبرمِجنا، الحمد لله أنه لم يجعلنا ملائكة، أنا سعيد بأنني إنسان ولدي هذه القدرة من الثراء والخصب والتنوع، تستطيع أن تُلوِّن عالمك كل ساعة وكل يوم، تستطيع أن تُغيِّر الشروط والظروف بهذه القدرة النفسانية الروحانية المعنوية العالية لكن يوم تكون عميقاً، يوم تكون عميقاً وتتعلَّم أن تكون عميقاً في فهم الحياة وفي فهم نفسك، وكما نقول دائماً – هذا تقريباً في آخر خُطب، وهذا يُنسَب إلى النبي، وليس حديثاً، لكنه من كلام العُرفاء أيضاً – مَن عرف نفسه فقد عرف ربه، يطيب لي الآن أن أشرحها شرحاً ستطربون له، ستقولون ما أجمل هذه الكلمة! لكننا لم نفهمها ربما من هذه الزاوية، انتبهوا! أنتم تفهمونها جميعاً، لكن انتبهوا إلى هذه الزاوية من الفهم.

مَن عرف نفسه عرف ربه، كيف؟ كيف لي أن أُحصِّل وأُحرِز خُطوات جديدة على درب المعرفة بالله – تبارك وتعالى – عبر نفسي؟ كيف؟ الآن مُخترَع أو جهاز بين يديك، كلما أفلحت في فهم الخُطة التي بُنيَ عليها كنت أقرب إلى عقل مُهندِسه، كيف بُنيَ هذا الجهاز؟ كيف رُكِّب؟ فهمت هذا! أنت لا تستعمله فقط، فرق كبير بين إنسان يتمتع بجاذبية الأرض وأموره كلها مُستقِرة وبين نيوتن Newton الذي فهم مبدأ الجاذبية أو حاول أن يفهمه، هو يتمتع أكثر ويعرف خُطة عمل الله في الكون أكثر مني ومنك، انتبه! لذلك العلماء لديهم درجات أرفع من العوام من أمثالنا، لأن الواحد منهم يُحاوِل النفاذ إلى خُطة الله وإلى كيفية عمل الله في هذا الوجود، هذا هو العلم، هذا هو الفهم، وهكذا يقترب! فهذا الجهاز بين يديك، فأنت إذا استطعت أن تفهم وأن تقف على معالم وتفاصيل الخُطة التي ابتُنيَ على أساسها ثم تفهم بعد ذلك خُطة تغذيته وآليات أو ميكانيزمات – Mechanisms – عمله وآليات إصلاحه إذا انعطب أيضاً ستكون أقرب بكثير إلى ماذا؟ إلى عقل مُهندِسه، إلى عقل صانعه! وصلت الرسالة.

إذن كلما فهمت نفسك أنت والخُطة التي خُلِقت على أساسها والخُطة والآليات التي تعمل على أساسها كلما عرفت الله، كيف تعمل أعصابك؟ كيف تعمل مشاعرك؟ كيف تعمل غرائزك؟ كيف تعمل وظائف أعضائك حتى في الميدان البحتي؟ كيف؟ كيف؟ كيف؟ ما هو الجانب المُتعالي فيك؟ ما هو الجانب الروحي النفساني غير المادي؟ ما هي طموحاته؟ ما هي آفاقه؟ ما هي آماده؟ ما هي اندياحاته؟ ما هي اتساعاته؟ وما هي انبساطاته؟ كل هذه الأسئلة تُحاوِل أن تطرحها، طرحها – مُجرَّد الطرح – يدل على ذكاء، يدل على تعمق، ويدل على تعالٍ، لكي تفهم شيئاً لابد أن تتعالى عليه، أليس كذلك؟ لابد! لا يُمكِن أن تفهم شيئاً فهماً كاملاً حتى تتعالى عليه، فأنت تُحاوِل أن تتجاوز نفسك، تتجاوز ذاتك، وتتجاوز قصورك الذاتي لكي تفهم نفسك، وهذه هي الميزة الوحيدة للعقل الإنساني التي لا يتمتع بها إلا العقل الإنساني، العقل الإنساني قادر على أن يتعقَّل نفسه، وبالتالي قادر على أن يتجاوز نفسه، شيئ خطير وشيئ مُخيف هذا! العقل يتعقَّل نفسه، يتجاوز نفسه أيضاً، ويعرف حدوده، شيئ عجيب! هذا من سر الله في هذا الإنسان الذي يحسب نفسه جِرماً – أي جسماً – صغيراً، وفيه انطوى العالم الأكبر.

نعود إذن، نعود إلى قصة ذلك أو ذلكم العارف الحكيم، هذا معنى مَن عرف نفسه فقدر عرف ربه، كلما عرفت هذا أكثر كلما أحرزت خُطوات جديدة – إن شاء الله – وفسيحة على درب المعرفة بالله تبارك وتعالى، هذه السبيل! هذه هي السبيل، لا تُوجَد سبيل أكثر من لك، لأنه رب العالمين تبارط وتعالى، جل أن يُحاط به، وهو بكل شيئ مُحيط، لكن هذه خُطوات على الطريق، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩، اقتراب! هذه مسألة اقتراب، كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا ۩، إذن هذه قصة الكلب، مخاوفنا! مخاوفنا التي نصنعها هي التي تُتعِبنا وهي التي تُعيينا.

بعد ذلك المُعلِّم الثالث، قال طفل، كيف هو طفل؟ قال طفل رأيته يوماً – وأنا أخشى على الأطفال من اللعب بالنيران – وفي يده شمعة قد أضأها، خشيت أن تُحرِق ملابسها، فقلت له يا بُني مَن أضاء هذه الشمعة؟ قال أنا، قلت هذه الشمعة كانت طفئة، من أين آتاها النور؟ قال فنظر إلىّ باحتقار، أي الطفل! هل أنت أتيت لكي تتفلسف علىّ بهذه الأسئلة العجيبة والغريبة؟ قال فأنا أقول لك لكن مُتسائلاً شيئاً، أي قال له أنا أُريد أن أُجيبك لكن في شكل سؤال، قلت تفضَّل يا بُني، قال اطفأتها، أين ذهب النور؟ قال فأدركت كم كانت بسيطاً وغبياً! أي ساذجاً، كم كنت ساذجاً وغبياً! وقلت في نفسي هذه الأنوار أو هذه الأضواء أو هذا الشعاع البرهان في روحي وفي قلبي – مُتفاوِت طبعاص من عارف إلى عارف ومن شخص إلى شخص – لا أدري كيف أضاء ومتى، ولا أدري بعد أن تهمد هذه الروح وتُفارِق البدن أين يذهب، هذه المعرفة التي عندي! قال ومُنذ تلك الساعة آليت على نفسي إلا أن أُسِر بمعارفي وجواهري وسوانحي وخواطري إلى الأشجار وإلى المياه في الغدران وفي الأنهر وفي البحار وإلى الريح وإلى الليل وإلى النجوم وإلى البشر – الكبار والصغارـ المُوحِّدين وغير المُوحِّدين، الذكور والإناث -، لابد أن يتشارك الكون كله معي هذه المعرفة، معرفة زائد معرفة لا تُولِّد معرفتين، تُولِّد معرفة ثالثة من نمط جديد، أي معلومات زائد معلومات في عقل الإنسان وروح الإنسان ووجدان الإنسان لا يكون الحاصل منهم هو مُجرَّد حاصل جمع، وإنما حاصل كيفي جديد، وهكذا تترقى الحياة ويترقى المعنى ونزداد اقتراباً من الهدف، معرفة الله تبارك وتعالى!

فمَن كان عنده خُطة يحيا عليها في الحياة يعلم هذا، بالنسبة لي كمُؤمِن – وأعتقد لكم جميعاً ولكن جميعاً – لا أفهم الحياة ولا أفهم الخُطة إلا أن تكون خُطة إيمان بالله عز وجل، بغير إيمان بالله لا يُمكِن العيش، أنا عاجز – أُحاوِل دائماً – أن أتصوَّر خُطة حقيقية للحياة أو لفهم هذه الحياة، مُستحيل! كل خُطة ستؤول في النهاية إلى عبث وإلى عدمية وإلى لا شيئ، وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩، قال تعالى وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩، فإن لم تبلغ المُنتهى تُهت فيه صحراء الضياع والعبث والعدم، وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ۩، ولذلك يبدو أنه لا يستحق الخلود عند الله تبارك وتعالى، ويبدو أن هذا الخلود مُتفاوِت، والسادة العلماء – رضوان الله عليهم – نصوا على هذا بشكل واضح، صحيح إن شاء الله نكون جميعاً نحن وكل إخواننا المُسلِمين والمُسلِمات من أهل الجنة بإذن الله تعالى – اللهم آمين، اللهم أعطنا ذلك – لكن جنتك غير جنتي، انتبه! وجنتها غير جنته وغير جنتها، كل واحد عنده جنته، تقول لي طبعاً بأشجارها، لكن ليس بأشجارها وقصورها فقط، بمَن يجتن فيها أيضاً، بمَن يجتن فيها! كل جنة وكل نعيم وكل تجربة هناك أيضاً ستختلف عن الأُخرى، وهذا يتوقَّف على ماذا؟ على مدى عُمق التجربة هنا في الدنيا، على مدى عمق التجربة، المعرفة، الإدراك، الوعي، والتجوهر هنا في الدنيا، انتبه!

لذلك لماذا نحن أعدنا قضية مَن عرف نفسه عرف ربه؟ لأنه إذا عرفت نفسك معرفة مُبتسَرة ومعرفة محدودة وبسيطة لن تعرف ربك، وكما قلنا في الخُطبة السابقة بعض الناس لا يفهم نفسه كمُؤمِن إلا أنه مُطالَب بالعبادات وبالطقوس وبالذكر وفقط، وهذا كل شيئ! وماذا عن الجوانب الأُخرى؟ هو يظن أنه لن يتكامل ولن يتتام عبر الجوانب الأُخرى، هذا غير صحيح! هذا رجل فشل في قراءة رسالة الله الخلقية، إذن لماذا خلق الله في النزوعات الأُخرى، الغرائز الأُخرى، التوجهات الأُخرى، والفضول الآخر؟ عندي فضول! وهذا هو سبب الملل كما قلنا، حتى العبادة تُمِل، العبادة وحدها تُمِل، لا تُمِلوا إلى أنفسكم عبادة الله، ليس بالعبادة وحدها يتكامل الإنسان، لا! بأشياء أُخرى مُرادة لله، الله خلقنا هكذا، الله لم يجعلنا ملائكة، لو أراد أن نتكامل بالعبادة وحدها لخلقنا على نحو ملائكي، لكنه خلقنا على نحو مُتفرِّد إنساني، نتكامل بالعبادة وبكل ما فينا استعداد له.

وكما قلت لكم أنا أرفض أن أقول قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ۩ لأنه يمل، بالعكس! الإنسان يمل وهذا مُؤشِّر على الجانب الإلهي فيه، لماذا؟ لأنه أوسغ وأغزر وأغنى من أن يقف عند محطة، هو لا يقنع بأي محطة، لا يلبث أن يستريح في المحطة حتى يطلب أن يُجاوِزها إلى التي تليها، إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ۩، إنه مُتعلِّق بشيئ أعلى، ومن هنا في النهاية الذي يُحصِّل كل شيئ وفق خُطة محدودة ومُختزَلة ومُبسَّطة – أي Reduzierer – في الحياة ينتهي إلى عدمية وربما إلى الانتحار، يشعر أنه كان يُحِب أن يصل، ولكن حين وصل وجد أنه لم يصل، فيضيع فيُنهي حياته، أما المُؤمِن فليس كذلك، المُؤمِن مهما ظن أنه وصل فهو يعلم أن المحطة الأخيرة لا تزال – لسه كما نقول – أمامه، أمامه! وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩.
مَن ارتحل من كون إلى كون – يقول ابن عطاء الله قدَّس الله سره الكريم – كان كحمار الرحى، المكان الذي ارتحل إليه هو الذي انتقل منه، لا فائدة! يدور مكانه، إلا الذي يذهب إلى الله تبارك وتعالى، هذا يغتني مع كل مرحلة، وينضج مع كل حقبة، حتى إذا تم له خمسون أو ستون أو سبعون سنة كان كنزاً خصباً ثرياً من الحكمة والخبرة والعُمق والتجوهر، كان شيئاً فريداً جيداً، البركة مع أكابركم، مخزن للبركة الحقيقية، ليست بركة الدروشة والهبل والسذاجة في الحياة، بالعكس! الخبرة والنُضج الحقيقي الذي لا يُغني عنه لا كتاب ولا غيره، لأن الكتاب إن كان صورة خبرة فإنه ليس الخبرة، انتبه! تقول لي نعم، أنا أستقطر قطرات خبرة الآخرين، لكنك والله لن تفعل، هذا كلام فارغ، لكنه جيد، كما قال بعضهم أُحِب الشاب الذي يزدان بحكمة الشيوخ وأُحِب الشيخ الذي يزدان بألق وحماسة الشباب، ومَن عاش وفق هذه الخُطة فإن هرم جسمه فإن عقله ونفسه لم يهرما، سوف يبقى شاباً مُتألِّقاً، كلام عظيم! كلام يدخل فعلاً في فن الحياة الحقيقية، لماذا؟ لأن – كما قلت – هذه خبرة وهذه صورة خبرة، ألا تجد فرقاً بين الزهرة في روضها وفي مرجها وبين الزهرة على شاشة التلفاز؟ طبعاً على شاشة التلفاز أجمل من الزهرة في الكتاب، وتهتز أمامك ريّانة غضة طرية، لكن أين ريحها؟ أين رواؤها؟ لا شيئ! وهذه هي الخبرة، الخبرة التي عشتها أنا من خلالي آلامي وتباريحي وترقياتي ونكوصاتي وارتداداتي أيضاً، ومن خلال تجاوزاتي ومن خلال تعالي، هذه الخبرة هي التي أستقطرها، أما أنت فتأخذ صورتها، تماماً كما تأخذ صورة الزهرة، أليس كذلك؟ لا يُمكِن لك أن تستعطر بصورة زجاجة عطر، لا يُمكِن مهما كانت الصورة جميلة ومُعبِّرة ومُجسَّمة، كلام فارغ! فهذه صورة خبرة وهذه خبرة، فخُذ خبرتك واحرص عليها، وهذا معنى كلام رسول الله، لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو خبرة، لم يقل ولا حكيم إلا ذو قراءة أو ذو معرفة أو ذو اطلاع، لا! قال إلا ذو خبرة، لن تتحصَّل على الحكمة إلا بخبرة، لكنك تُضيِّع هذه الفُرصة لأنك لم تفهم الحياة ولم تفهم خُطتها ولم تبن سيرك ومسالكك وسلوكاتك على خُطة سليمة مُتكامِلة، ضاعت الفُرصة، انتهى! ضاعت الفُرصة والذي يُؤسي أكثر أنك لم تشعر بأنك ضيَّعت الفُرصة، لأن الفُرصة لم تلح لك بشكل واضح، لماذا؟ لأنك لم تبحث عنها، وأنت لا تشعر بأنك ضيَّعت شيئاً وتقول الحمد لله.

قبل أيام سألت هذا السؤال: ما الذي فعله هذا المُعمَّر؟ وجاءني الجواب: الحمد لله خلَّف نسلاً وما إلى ذلك، كلام بسيط جداً، لا يُقنِع هذا، عند المُتأمِّل لا يُقنِع، خلَّف نفسك وما إلى ذلك، كلام فارغ! أنا أُحدِّثك عما فعله هو، هو! لا تقل لي أبو جهل خلَّف عكرمة وهو صحابي، انتبه! هذا عكرمة وهذا أبو جهل، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، قل لي أنت ماذا فعلت؟ أنت! ليس ماذا فعل أبناؤك وماذا فعل ذراريك، ماذا فعلت أنت؟ ما الذي يُوجَد فيك أنت؟ أنت يوم القيامة ستعيش في جنتك وفي خلودك بأنت، بأنت أنت! وليس بأنت أبنائك وأولادك، انتبه! بعُمقك الداخلي أنت، ليس بجلباب آخر تستعيره، هذا هو المعنى الذي أبحث عنه، انتبه!

لذلك علينا ألا نُضيِّع هذه الفُرصة، وتذكَّروا دائماً مَن عرف نفسه فقد عرف ربه، للأسف يضيع الوقت دائماً في التنظيرات، نجتزئ في هذه الدقائق الباقية بعناوين سريعة، كيف نُحارِب هذا الملل؟ أولاً بالانفتاح، الانفتاح! انفتحوا على كل جديد، أعطوا أنفسكم فُرصة أن تُجرِّبوا، طبعاً في حدود الأحكام الشرعية، لا يُجرَّب ما حرَّمه الله، لأن النتيجة معروفة سلفاً، لا تقل لي سأُجرِّب تجربة كذا وكذا، انتبه! هذا كلام فارغ، وهذا كلام بالنسبة لنا عبثي كمُسلِمين، لا! في حدود ما أحل الله جرِّبوا، لكن لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ۩، لأن هذا من العدوان.

قلت مرة اخلقوا فُرصةً للفرفشة، للبهجة، للسعادة، والإسعاد، خاصة لإسعاد مَن هم حولكم، لمَن تربطكم بهم مشاعر حميمة وعلاقات قوية متينة ووشائج مُعزَّزة، في الدراسات المُتخصِّصة حميمية العلاقة الأُسرية زائد طيب العلاقات مع الأصدقاء وطيب العلاقات مع زملاء العمل والجيران تُشكِّل في مجموعها سبعين في المائة من السعادة الشخصية، قضية خطيرة جداً جداً! هل تُريد أن تكون سعيداً؟ لا يُمكِن ان تكون سعيداً وأنت أناني، وأنت مُتشرنِق، وأنت مُكتفٍ بفلسفة ما لي وما لي أنا، لن ينفع هذا أبداً، يجب أن تُطوِّر علاقات مُمتازة وراسخة وواثقة وطيبة ومُرتاحة وعفوية وسعيدة مع أهلك، أصدقائك، معارفك، زملائك، وجيرانك، إن نجحت في هذا ستُحرِز سبعين في المائة من السعادة، أنت أحرزت سبعين في المائة من السعادة والهناء والرضا الذاتي أو الشخصي إن فعلت هذا، فالمسألة خطيرة جداً.

المُهِم حين قلت هذا ضربت مثالاً لبعض إخواني، قلت – مثلاً – استغل فُرصة عيد ميلاد ابنك. نُقطة! قبل أن أُكمِل قيل بدعة، مَن تشبَّه بقوم فهو منهم، سأنتهز فُرصة هنا لكي أُؤشِّر إلى قاعدة، هكذا أفهمها! النبي يقول مَن تشبَّه بقوم فهو منهم، بأي معنى هو منهم؟ هذا الكندي أو هذا النمساوي أو ذاك الأمريكي – مثلاً – أسلم وهو كندي أو نمساوي أو أمريكي، فهل بعد أن أسلم الكندي – مثلاً – هل كف عن أن يكون كندياً؟ هو منهم، هو كندي، هو من القوم! إذن ما معنى هو الآن منهم أو ليس منهم؟ هو ليس منهم مِلياً، ليس منهم عقدياً، كان كندياً مسيحياً، وهو الآن كندي مُسلِم، إذن ما الفارق؟ هل الفارق في اللون أو البشرة أو اللُغة أو العرق – الــ Race – أم في المِلة والدين؟ في المِلة والدين، ولكن هذا الكندي المُسلِم لا يزال يركب سيارته كما كان يركبها، لا يزال يسكن بيته كما كان يسكنه، لا يزال يلبس كما كان يلبس، كما نلبس نحن الآن بالضبط! الجاكيت والكرفتة وما إلى ذلك، نفس الشيئ! وهو ليس منهم عند رسول الله، لماذا؟ لأن الذي فرقه عنهم هو فقط الاعتقاد، انتبهوا! هؤلاء الذين عقَّدوا الدين وضيَّقوا الحياة وسوَّدوا علينا حياتنا وعيشنا يقولون لا تتشبَّه يا أخي، فهذا تشبه بهم، ستذهب إلى جهنم، والله ألَّفوا كُتباً عن الكرفتة، ما رأيكم؟ كُتيبات على الإنترنت Internet يقولون إنها عن الكرافتة، ما هذا العبث بالدين؟ ما هذا اللعب؟ تركوا الأعماق وجاءوا ليس إلى السطوح وإنما إلى الأوهام.

أنا قلت مرة – وهذا في البخاري وفي مُسلِم – النبي لبس ثوباً فارسياً، ومرة أُخرى لبس ثوباً رومياً، ولم يقل هذا ليس على ديني، لماذا؟ لأن اللباس الذي كان يلبسه أصلاً هو أيضاً – وأستغفر الله – كلباس آبائه وأجداده، لن أقول كلباس أبي لهب وأبي جهل، أعوذ بالله! ولكن هو حقاً لباسهم، أيضاً كان كلباسهم، لكن لن أقول هذا تنزيهاً له وعدم تعريض ولو من بعيد، النبي لم يختلق ولم يستجد خُطة لباس جديدة عما كان يلبس أبو لهب وأبو جهل وعبد المُطلب وأبو طالب، نفس اللباس! ويوم جاءه لباس يفي بشروط العفة والصيانة والشروط حتى الصحية والبيئية من فارس لبسه ولم يتحرَّج، لم يجد أدنى حريجة في نفسه، جاءه لباس من الروم، لا بأس! يا أهلاً بلباس الروم، جاءه لباس من المقوقس – من مصر بعث له لباساً – أيضاً، يا أهلاً بلباس المقوقس، ما المُشكِلة؟ المُشكِلة أن تلبس لباساً يدل على دين وعلى عقيدة، أي يكون شارة مِلية، هنا المُشكِلة! وذلك يوم تلبس لباس القسس والرُهبان والرابيين وتضع الزنار، مَن يراك يقول هذا قسيس، أليس كذلك؟ لماذا تفعل هذا؟ لأنك تُصادِق على دينهم – مثلاً – أو مِلتهم وتقول لا تُوجَد مُشكِلة، لا! إذن هذا هو التشبه الممنوع، فلا تقل لي عيد الأم ممنوع، عيد الأم نعوذ بالله منه، كل يوم عندنا عيد، هذه خطابيات فارغة، ليس فيه شيئ، فُرصة تُدخِل فيها السرور على نفس أمك يا حبيبي، من باب التغيير تُعطيها خمسين يورو أو مائة يورو وتُقبِّل يديها، فتفرح هي وتقول لك لا يا ابني وتدعو لك وما إلى ذلك، ليس فيه شيئ! تقول لي هذا عيد ولعن الله قوماً كثرت أعيادهم ، اسمه عيد وضحكوا عليك، أنا قلت لك مرة لا تخلط بين الحقيقة والمجاز، أنت تُعيِّد في الفطر والأضحى، هل هكذا هو العيد؟ العيد شعائر أُممية شعبية، تنطلق إليها الأمة كلها، عندها طقوس وعندها كذا وكذا، وتُشارِك فيها بشكل احتفالي مجموعي، هذا عيد! ليس حين يذهب إنسان يذهب إلى أُمه ويُقبِّل يديها ويُعطيها شيئاً تقول لي هذا عيد ولعن الله قوماً كثرت أعيادهم، انتبه وكُن دقيقاً، كُن دقيقاً!

ولذلك التشبه المذموم – انتبهوا فهذه قاعدة – هو في الخصائص المِلية، إذا أصررتم وقلتم لا وهذا التفكير غير سليم فكلكم الآن مُتشبِّهون، كل هذا اللباس الذي أراه ليس لباس محمد رسول الله، أليس كذلك؟ هذا اللباس كلباس ماركس Marx وكلباس أينشتاين Einstein وكلباس أولمرت Olmert وكلباس بوش Bush، نفس اللباس هذا! لكن لا بأس، لأن هذا اللباس إذا رأيته لا تُميِّز به ديانة صاحبه، هل تُميِّز به بين بوذي ومُسلِم ويهودي ومسيحي؟ لا والله، لأن الكل يلبسونه، هذا ليس شارة دينية، انتبهوا! ليس شعاراً دينياً هذا، لا بأس، لا تُضيِّقوا الحياة على الناس، لا تُضيِّقوا بفقه عجيب مُتطنِّع وبفقه مُتشدِّد، غير صحيح! بعضهم يُحرِّم الكرفتة لكن يلبس البنطال، لماذا يا مولانا؟ نفس الشيئ يا حبيبي، أليس كذلك؟ وبعضهم يُحرِّم البنطال، شيئ مُتناقِض، انتبهوا ولا تُشدِّدوا.

هذه فُرصة أن تُغيِّر الحياة، كما قلنا يُمكِن أن تستغل فُرصة عيد الميلاد، تقول هذا عيد ميلاد ابني، ولو لم تُرِد أن تقول هذا عيد ميلاد ابني قل هذه مُناسَبة ميلاد ابني، لأن فعلاً هو ليس عيداً، ليس عيداً! يُسمونه عيداً وهذا كلام فارغ، هو ليس عيداً، قل هذه مُناسَبة ميلاد ابني، فتجتمع الأسرة، تأتون بتورتة، تغني له، وما إلى ذلك، ستستنكر الغناء الآن، لكن لا تُوجَد مُشكِلة، يُمكِن أن تنشد له، فُرصة! يُوجَد تغيير، يفرح الولد، تلتقط صوراً تذكارية، ومن ثم سوف تتذكَّرون وتنتبهون إلى هذه اللحظات الهاربة، هذه يُسمونها اللحظات الهاربة! خاصة لحظات السعادة، فهي هاربة دائماً، وكذلك لحظات الهناء، هذه فُرصة جديدة فيها تغيير للحياة، التغيير لابد منه في كل مجالاته فيما فيما أحل الله تبارك وتعالى.

سيقول أحدكم زوجتي أخرجت لي قروناً – “طلَّعت لي قرون” كما نقول بالعامية – لأنها كل يوم تُغيِّر الديكور Decor، والله بارك الله فيها من زوجة، أنا أُؤيِّد الشيئ هذا، مُمتاز! النساء عندها الحس الجمالي وحس التغيير، نحن عندنا عجز وعندنا قصور ذاتي زائد عن اللزوم، أعني الرجال، نُحِب كل شيئ كما هو، ولذلك نُحبَط ونمل، بالعكس! غيِّر، تُغيِّر المرأة الديكور Decor، لابد وأن تُغيِّر، غيِّر حتى غُرفة النوم كلها، لو تقدر على هذا سيكون أحسن، اجعلها في مكان ثانٍ وغيِّر الديكور Decor، غيِّر الألوان كل سنة أو سنتين، غيِّر الألوان وغيِّر الستائر، وستشعر بأنك تعيش في بيت جديد وفي ظروف جديدة، الزوجة أيضاً تُغيِّر، واذهب واستفت الكُتب الشرعية، كل شيئ مُمكِن لها أن تفعله فلتفعله، ستقول لي ماذا عن صبغة الشعر وقصة الشعر الكاريه وغير الكاريه؟ استفت، الحلال تفعله، انتبه! تفعل الحلال، ولا تأخذ بتحريم بغير دليل، وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۩، انتبه! أخطر شيئ أن تقول هذا حرام، هذا أخطر شيئ، بالعكس! الذي يقول في أشياء من هذه الأشياء ويكون من أهل الاجتهاد إنها مُباحة ويُجاوِز ربما الحق بالاجتهاد هو في مأمن إن شاء الله تعالى، لكن الذي يُخطئ ويُحرِّم هو أقرب إلى الهلاك، خطير جداً! خطير جداً أن تُحرِّم.

لذلك كان الإمام أحمد يقول أكرهه، حافظ لمليون حديث وفقيه وعلّامة كبير، رحمة الله عليه، مَن يحفظ مليون حديث؟ لم نسمع إلا عن الإمام أحمد، كان يحفظ مليون حديث، ثابت هذا عنه، ليس أسطورة! هذا الرجل كان يُسأل في مسائل لو سُئل فيها طُويلب علم شدا من العلم عشرة أحرف اليوم لسارع مُباشَرةً في مثل فراغ الميم أو ضيق صدر اللئيم إلى الجواب مُقرمَطاً: حرام حرام حرام، لكن الإمام أحمد كان يقول أكرهه، أكرهه! وكثيراً ما يعني بأكرهه هذه أنه حرام، لكن يخاف أن يُنطِق لسانه كلمة حرام، هذا من اختصاص الله، عملية خطيرة جداً جداً! يُقال ما حُكم هذه يا مولانا؟ فيقول حرام، من الكبائر! يُقال ما حُكم هذا؟ فيقول حرام، سُئل مرة خطيب فقال هذا في رأيي حرام، وماذا بعد؟ لم يُعجِبه هذا، قال بعد ذلك يُمكِن أن يكون فاعله ملعوناً، كيف؟ هذا حرام، وهذا الحرام قد يكون حراماً من الصغائر أو اللمم التي يغفرها الله بالاستغفار وبالوضوء وبأي شيئ، انتهى كل شيئ! قال لأن هذا وإن كان من الصغائر – هو يعرف أنه من الصغائر – فالإصرار عليه يُحوِّله إلى كبيرة وفاعله ملعون، أي لا يرضى إلا باللعنة، لا يستبشر إلا أن يلعنك هو، أن يُشعِرك بأنك ملعون، هل انبسطت؟ هذا هو، هذه الفتوى! لماذا؟ ارحموا عباد الله، لا إله إلا الله!

فالتغيير يا إخواني مُهِم، التغيير التغيير! حين تتحرَّك – التغيير حركة، أليس كذلك؟ معنوية أو مادية، اضحك تضحك الدنيا معك – ماذا تشعر؟ تشعر أن كل شيئ يتحرَّك، أليس كذلك؟ كالذي يتحرَّك في سيارته، يشعر أن الأشجار تتحرَّك والعمائر تتحرَّك والسماء والأرض يتحرَّكان، كل شيئ يتحرَّك، في الحقيقة لا تتحرَّك، هو الذي يتحرَّك!

ألم تُؤنِسوا من أنفسكم الآتي حين يعود أحدكم من سفرة فقط امتدت عشرة أيام؟ ذهب أحدكم وسافر إلى مصر عشرة أيام ثم رجع، ما أول سؤال يسأله؟ يقول ما الذي حصل يا جماعة في غيابنا؟ فيُقال له لا شيئ، “على حطة يدك” كما يُقال، فيقول فعلاً لم يحصل أي شيئ؟ لم يستوعب أنه غاب عشرة أيام ولم يحصل في النمسا شيئ جديد، لا لم يحصل، أنت عشت سنة ولم يتغيَّر شيئ وعندك هذا وضع طبيعي، لأنك جامد، عندك إنيرشا Inertia، أي قصور ذاتي، قاعد مكانك! لكن يوم تحرَّكت وتغيَّرت ورأيت الآن بلداً جديدة وأُناساً جديدة ومناطق جديدة وأشياء جديدة كل شيئ تغيَّر، أحسست بالزمان خصباً وحاملاً وولوداً في عشرة أيام، زمان كريم جداً في عشرة أيام! فكيف لا يكرم على أهل النمسا كلهم في عشرة أيام؟ والله لم يتكرَّم، كل شيئ “على حطة يدك” كما يُقال، لا جديد تحت الشمس، الحركة! بالحركة تشعر بالتغيير، تشعر بالثراء، وتشعر بالحيوية.

يقول أبو تمام:

وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخ                   لديباجتيهِ – أي لخديه – فاغتربَ تتجددِ.

فإني رأيْتُ الشَّمسَ زيدتْ مَحَبَّةً                         إلى النَّاس أَن ليْسَتْ عليهمْ بِسرْمَدِ.

الشيئ الثابت يُصبِح مملولاً، أليس كذلك؟ الشيئ المكرور هو أكبر والد شرعي للمملول، هو أبو الملل والمملول المكرور، اغترب – قال -، تجدَّد، تحرَّك، لابد من التنويع يا إخواني، التنويع مع الانفتاح، انفتح وجرِّب!

أنا أقول حتى – مثلاً – لمَن يجدون لذة مِن أمثالنا ربما في القراءة الآتي، أقول لمَن يُحِب هذا أنت تجد لذتك في القراءة، لكنك لا تزال تقرأ إلى اليوم – مثلاً – في علم مُعيَّن، أياً كان! دينياً أو دنيوياً، الطبيب يقرأ دائماً في الطب حتى يمل الطب ويكره الطب والمجلات الطبية، انتهى! زهق هذا من الطب، والشيخ قرأ في التفسير إلى أن مل، سأم من التفسير، قرأ الآلوسي والطبري والقرطبي وغيرهم، لم يترك شيئاً، وماذا بعد؟ نفس الكلام! ويسمع شخصاً يُفسِّر نفس الكلام الذي يعرفه من عشرين سنة، انتهى! أقول لهذا وأقول لهذا ولغيرهما الآتي، جرِّب أيها الشيخ أن تقرأ في علم النفس، هل قرأت في هذا يوماً؟ لا، جرِّب، اخرج من حالة القضور الذاتي، سوف تجد عالماً آخر برّاقاً بألوان أُخرى، بمداخل أُخرى، وبمناظير أُخرى، جرِّب هذه النظّارات، هذه نظّارات مُلوَّنة ترى بها العالم من وجهات نظر مُختلِفة وبألوان أُخرى يا أخي، ومن ثم ستجمل حياتك، اقرأ في الأنثروبولوجيا Anthropology، علم الأناسة، علم الإنسان مثلاً! اقرأ في علم الاجتماع، في السياسة، في الفلك، وفي العلوم المُبسَّطة، اقرأ وجرِّب يا أخي، وأنت أيها الطبيب مثله، يا أخي جرِّب أن تقرأ في رياض الصالحين، اقرأ في الترغيب والترهيب، اقرأ في تفسير قطب، اقرأ في تفسير ابن كثير، جرِّب وغيِّر عالمك هذا.
وفي كل شيئ جرِّبوا الجديد، تخرجوا من حالة الملل، أيضاً مُهِم جداً في التجريب مسألة الرياضة، تحريك الجسم! يقول أحد الفلاسفة الظهر الجالس يُساوي دماغاً كسولاً، دائماً قاعد، قاعد باستمرار، لا! تحرَّك، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا ۩، الله يقول دائماً سِيرُوا ۩، ولذلك يقول هذا الفيلسوف – وهذا عجيب، كيف وصل إلى هذه الفكرة؟ – أنا أنصح لكم بالآتي، كل فكرة خرجت من دماغ جالس لا تأخذوها، فإنها أقرب إلى التعفن، فكرة مُتعفِّنة! لكن خُذوا الفكرة التي تولَّدت في الهواء الطلق، مع حركة البدن، تكون أقرب إلى الصحة.

حدَّثني الدكتور المسيري مرة، قال أروع أفكاري تأتيني وأنا تحت دش الماء، طبيعي! هل تعرفون لماذا؟ هذا طبيعي، لأن هذا الماء الساخن – دش ماء ساخن – يُحرِّك الدورة الدموية ويُنشِّطها، مثلما تتحرَّك بالرياضة والحركة واستنشاق الهواء الغض الفريش Fresh الطري، أليس كذلك؟ فيُصبِح التفكير أكثر التماعاً، يتجدَّد التفكير طبعاً، شيئ طبيعي أن يحدث هذا تحت دش الماء طبعاً، وتعرفون يوريكا يوريكا Eureka Eureka، كلمة أرشميدس Archimedes، أليس كذلك؟ وتعرفون قانون الطفو، أرشميدس Archimedes أين اكتشفه؟ وهو في البانيو، كان جالساً في الماء الساخن واكتشفه، فخرج الرجل بدون ثياب وهو يقول يوريكا يوريكا Eureka Eureka، أي وجدتها وجدتها، قال أنا وجدتها، طبعاً في الماء الساخن وجدتها! لكن هذا لا يحدث في الهواء المُتعفِّن، لكن أنت لا تفتح حتى نوافذ البيت ولا تُغيِّر شيئاً، غيِّر عطرك، العطر لابد وأن يُغيَّر، هناك مَن يقول هذا عطري، كيف يكون هذا عطرك؟ لا يُمكِن أن يكون عطرك، هذا عطر مَن صنعه، كل شهر أو شهرين احضر زجاجة عطر جديدة، غيِّر وجرِّب، الجمود قاتل، الجمود مُقزِّز، يقول ثلاثون سنة وهو يستخدم نفس العطر، وهو عطر أراميس Aramis، يا أخي هذا انتهى، توقَّفوا عن تصنيع أراميس Aramis، يستخدم أراميس Aramis من ثلاثين سنة، لم يعد ليُصنَّع الآن هذا، لن تجده بعد ذلك، سوف تتوقَّف عن التعطر، تعطَّر كل أسبوع أو كل شهرين بعطر جديد، فليكن عندك معرض، لا تُوجَد مُشكِلة، والثوب غيِّره، غيِّر الكثير من الأشياء التي تُوجَد في حياتك، غيِّر حذاءك البالي، غيِّر هذا الحذاء، غيِّر قدر ما تستطيع أن تُغيِّر في الحدود المُباحة، غيِّر! تتجدَّد حياتك، تتجدَّد معنوياتك، لابد من التغيير زائد الانفتاح زائد ترك المنوالية.

في التغيير يهمني – لأن الموضوع طويل، والأخوات قمن بمُعاتَبتي، قلن الموضوع فرحنا به كثيراً ثم اتضح أنه موضوع نظري، نُريد أشياء عملية لنا ولأزواجنا، تُوجَد مشاكل تصل إلى الطلاق – أن أقول أيضاً لا تُغيِّر فقط ديكور Decor البيت وغُرفة النوم وما إلى ذلك وإنما غيِّر في كل شيئ، غيِّر في أوضاع العلاقة، لا مُؤاخَذة! أتحدَّث في الدين قبل أن أتحدَّث في العلم، النبي في صحيح البخاري ومُسلِم يقول لجابر ليلة دُخلته على زوجته الثيب وأنت الليلة تأتي زوجك، فالكيس الكيس، كُن شاطراً – قال له – وتعلَّم، المسألة ليست بسيطة، هذا ليس أي كلام، قال له تعلَّم، وطبعاً النبي أُوتيَ جوامع الكلم، لن يقدر على أن يُصرِّح أكثر من هذا، الظروف لا تسمح، لكن عليك أن تفهم.

الله – عز وجل – في كتابه العظيم قال نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۩، يا أخي ما هذا الإعجاز؟ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۩، ما هذا الإعجاب؟ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۩،هل تعرفون هذه في العلم المُختَص بهذا الشأن ماذا يُسمونها؟ في نظري أحسن ترجمة لها التقديمات، يُسمونها الــ Foreplays، Fore قبل، أليس كذلك؟ هذه الــ Foreplays، أي التقديمات، الله أكبر! يُوجَد علم مُختَص في هذا الحقل، الله قال وَقَدِّمُوا ۩، يأتيكم الشيخ الدرويش ويقول لكم وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۩ الزكاوات والصدقات، أين هذا يا مولانا؟ قطَّعت الآية أنت، مزَّعت الآية يا حبيبي، مزَّع الآية ويقول إنه يُفسِّر القرآن، الله يقول نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأنفسكم وَاتَّقُواْ اللَّهَ ۩، لا تفعل الحرام، انتبه! لا تقل أُريد أن أُجرِّب كل شيئ، هناك أشياء ممنوع أن تفعلها، وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، لكن هذا الشيخ يقول وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۩ القرابين والذبائح وما إلى ذلك، يا مولانا مزَّعت الآية، قصقصت الآية يا حبيبي، أين السياق؟ ألا تُؤمِن بالتفسير السياقي؟ حرام عليك! لأنه غير قادر ولا يُحِب أن يفهم الآية من هذه الزاوية، هو غير مُؤهَّل أن يفهمها من هذا المنظور، غير صحيح! وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۩ هو الــ Foreplay actions، هذه هي! غيِّر، غيِّر وتعلَّم، ستقول لي ما الذي يُعلِّمني؟ تُوجَد كُتب يا حبيبي، تُوجَد كُتب في الإنترنت Internet وفي المكتبات، إذا لم يكن معك المال الذي تشتريه بها فيُمكِن أن تجدها في الإنترنت Internet، تعلَّم! مُهِم أن تتعلَّم، اقرأ يا سيدي رسائل الجاحظ، لن أدلك على ما هو أكثر من هذا، الجاحظ عنده رسائل هامة، شيئ عجيب، ويتكلَّم لأنه كان رجلاً فاهماً ومُثقَّفاً، كان ابن عصره، نحن لسنا أبناء عصرنا، نحن أبناء عصور ما قبل التاريخ، لذلك غيِّر، غيِّر قدر ما تستطيع.

أحياناً أنصح – إذا هذا مُمكِن – بأن تأخذ زوجتك وتذهبا لكي تباتا ليلة في فندق، ما رأيك؟ يُمكِن أن نستفتي على هذا الأمر، ولن نجد أحداً يقول أنا فعلتها، إلا إذا كان مُسافِراً، سيقول أحدهم هل أنا أهبل؟ كيف أدفع مائتي يورو؟ ستُنقِذ أسرة، نحن كل شيئ عندنا مادي، نحسبها مادياً، كل شيئ مادي، حتى هذا سيقول لي نعم أنا وافقت على فكرتك يا عدنان في موضوع عيد ميلاد ابني، لكن هذا سيُكلِّفني ثلاثين يورو يا أخي هذا، سأشتري بوب كورن Popcorn وأشياء وحلوى وكوكاكولا Coca-Cola، يا رجل اتق الله، السعادة أكبر من هذا، لا تُضيع الفُرصة، ارتق وانضج أنت وأهلك، انضج حتى ترضى، صدِّقني! الإنسان غير الراضي أشك فيه، أنا أشك في اتجاه وفي مِزاج كل إنسان مُختَل المِزاج ومُصاب بحالة اكتئاب، طبعاً أنا لا أعتب عليه، لكنني أشك فيه، أنا من حقي أن أشك في مِزاجه، أشك حتى في فتواه، وفي وجهة نظره، وجرِّب هذا، جرِّبه الآن! أنت رأيت موضوع الخُطبة والحضور ضحك وانبسط، علماً بأن الخُطبة السابقة كانت مُؤثِّرة، تقريباً مُنذ سنوات لم تأتني تحيات وتشكرات وامتنانات شخصية على خُطبة كالخُطبة السابقة، وشعرت أنها حاجة شخصية لكل واحد منا، شعرت أنها حاجة شخصية، كل واحد يستشعر حاجته الشخصية إلى هذه الموضوعات، وأنا أولكم طبعاً، أنا أتعلَّم معكم، لكن على كل حال خُذ رأي المُكتئب الــ Melancholic السودوي الملول السئمان في هذه الخُطبة، وسيقول لك خُطبة ماذا؟ أهذه خُطبة؟ لن تُعجِبه، هو طبعاً لا يُعجِبه العجب ولا الصوم في رجب، هذا أنا أشك في مِزاجه وفي رأيه، في أي شيئ يُقدِّمه شك فيه، انتبه! لأنه ليس ابن الحياة، وبالمُناسَبة الصوفي الذي تعلَّم من ثلاثة من ضمنهم كلب كما رأيتم ومن لص ومن طفل في النهاية – كما قلت لكم – قال من ذلك الحين وأنا ابن الحياة – عندي معلومات وما إلى ذلك لكن أنا ابن الحياة – وتَلميذ الحياة، وهي مدرستي الكُبرى، الحياة! يجب أن نتعلَّم من هذه الحياة، فالتغيير هام، خُذها وباتا في فندق، إذا شعرت أن هذا سيكون غالياً حين تدفع مائتي يورو فيُمكِنك أن تأخذها إلى بنسيونات، لأن أسعارها أقل، لا تُوجَد مُشكِلة، يُوجَد موتيل بخمسين يورو يا سيدي، اذهب وغيِّر، اقض ليلة مع زوجتك هناك، يُوجَد أكل وشرب وبذر وما إلى ذلك، وهذه كلها أشياء حلال والحمد لله، وتُوجَد كولا Cola أيضاً، أو يُمكِننا الاستغناء عن الكولا Cola، فهذه دعاية أمريكية وتُوجَد مُقاطَعة، خُذ أي شيئ تُريده، خُذ أي شيئ ثم اذهبا وباتا ليلة هناك، جميل جداً! الأحسن من هذا أن تأخذها مع أولادك ثم تذهبوا إلى زالتسبورغ Salzburg، يُمكِن أن تروا البُحيرات وأن تقضوا ليلتين أو ثلاث لكي تُغيِّروا الجو، جميل يا أخي هذا، افعل هذا مرة ومرة.

صدِّقوني هذا مُهِم، سأختم بقصة وقد أطلت عليكم ولم أذكر كل شيئ، كانت عندي قائمة من عشرة عناصر لكنني ذكرت عنصرين فسامحونا، قبل سنوات عالجت أخت ممسوسة بالجن، انتبهوا! وأنا عندي موقف من حكاية مس الجن، نحن الجن، أنا الجن، أنت الجن، زوجها الجن، صدِّقوني! طبعاً ذهبت ووجدت شيخاً، كان فاتحاً أو ناشراً المُصحَف الشريف ويقرأ عليها، فقلت أعانها الله، دخلت – أول ما دخلت – ورأيت الآتي، سأختم بهذا لأن فيه عبرة، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ۩، البيت كئيب جداً، أنا أكره البيت المُعتِم، أنا أُحِب الإضاءة القوية، النور! أُحِب النور والشمس، لكن البيت كان مُعتِماً، هو كان واضعاً لمبة للتوفير – Sparen – طبعاً، ربما اللمبة التي وضعها بقوة خمسة عشر وات Watt، كئيب جداً، البيت كئيب! الرائحة المُنبعِثة كريهة، والحال نفسه مع الترصيف والتحفيش الموجود في البيت شيئ، لا أراكم الله، قلت يا أخي لو عشت هنا سيركبني الجن بعد خمسة أيام، أنا سأصير ممسوساً نفسانياً طبعاً، هو الجن، ابنته الجن، فهمت اللعبة مُباشَرةً بفضل الله، لست أهبل أو درويشاً، دخلت عليها فقالت لا، لا تلمسني، أنا أفعل، فقلت لها لا يهم، وطلبت عصا وقلت لها أُريد أن أُكسِّر كذا وكذا، سأفعل هذا، فقالت لا، لا يا مولانا، فقلت لها تعالي، ما قصتك؟ فقالت أنا أُريد أن أتحدَّث وحدي معك، فقلت له اقعد عند الباب هنا، اجلس هنا، وقلت لها ما الأمر؟ لم تعرف كيف ترد، كانت المسكينة تشعر بالخجل، فأعطيتها طرف الخيط وقلت لها كم لكِ – سُبحان الله، أدركت الشيئ – لم تزوري أهلكِ؟ قالت أهلي! لم أذهب إليهم من ست سنوات، فقلت لها هل تُحِبين أن تذهبي إليهم؟ فقالت نعم، أُحِب هذا “موت”، أي بشدة، وأهلها في مصر، هذه ليست فلسطينية مثلنا لا تقدر على أن تذهب لكي تزور أهلها، هذا ممنوع لأن المعبر مُغلَق، أهلها في مصر، تقدر من غد أن تذهب إلى مصر يا أخي، هذه نعمة عندكم، كل واحد عنده وطن وعنده طيارة ومطار، هذه نعمة فاستغلوها يا أخي، تواصلوا مع أوطانكم ومع أهليكم، ادفعوا مالاً، لا تُوجَد مُشكِلة، اسألوا الفلسطيني المحروم عن هذا، فهو لا يقدر على أن يزور أهله يا أخي، يموت أبوه أو أمه ولا يقدر على أن يذهب إليه لكي يُودِّعه، قالت لي ست سنوات! قلت لها هل هناك لهفة؟ قالت لي كل اللهف، كل اللهف أن أزور أهلي، فإذن لماذا لا تزورين؟ قالت لا يرضى، فقلت لها جميل، فهمنا! هذا أول جني ركبها، نأتي إلى الجني الثاني، قلت لها كم تجلسون مع بعض لكي تتبادلوا أطراف الحديث؟ قالت لي كم؟ هل نحن نراه؟ قالت لا نراه أحياناً في الأربع والعشرين ساعة نصف ساعة في الليل، “سبع صنايع والبخت ضايع” مع أهله طبعاً، لا نراه! الرجل عنده لهف شديد جداً على كنز المال، يكنز ماله من هنا ومن هنا، يا أخي زوجك ضاعت، أبناؤك ضاعوا، أنت ضائع! هو نفسه مُكتئب، حين ترى شكله وحين ترى مشيته تعلم أنه إنسان مُكتئب مُحطَّم، لماذا؟ وهكذا في كل شيئ، المُهِم هذه حالة البيت، فهمت كل شيئ، وقلت لها أعطاكِ الله العافية، خرجت وقلت له هل تُريد رأيي؟ أنت أتيت بي، وكان يُحدِّثني وهو – والله – يبكي، يتحدَّث بالدموع الساحة، قلت له هل تُريد رأيي؟ أنا لا أُحِب الخداع ولا أُحِب Zick zack، أُحِب أن أكون صوابياً، أتُريد الصوابية؟ قال نعم، قلت له اتق الله في نفسك وفي أهلك، بالله إما أن تُغيِّر هذا البيت يا أخي – قلت له – أو تُغيِّر عفشك وتُغيِّر لونه، وزِد الإضاءة والإنارة، قلت له اتق الله، اترك عملاً أو عملين، أعط أهلك فُرصة كل يوم أربع أو خمس ساعات أن يروك يا أخي، أن تخرج معهم، أن تدخل معهم، وأن تتباحث معهم، وبالله – هذه وصيتي الشخصية وقلت له هذا – أرسل أهلك إلى أهلها، ثم – آخر شيئ قلته له – انزع نقابها، ما رأيكم؟ أنا أقول هذا على المنبر وأنا شيخ، لأنني قلت لها يا أختي هل هو مَن ألبسكِ النقاب؟ قالت لا، لكن أعلم أن عنده رغبة وليس عندي مُشكِلة وما إلى ذلك، وأنا عملت هذا برغبتي، قلت لها أصدقيني، هل أنتِ مُرتاحة مع هذا النقاب؟ فبكت، قالت كيف أكون مُرتاحة؟ قالت أنا في آخر حادثة وقعت لي ذهبت لكي أشتري شيئاً وكانت المرأة مشغولة، حين رفعت رأسها ورأتني صرخت، ثم فتحت الباب وخرجت تُهروِّل في الشارع، قالت كيف كان شعوري؟ قلت لها أعرف كيف كان شعورك، شعور خزي وعار، حدث هذا هنا في أوروبا، لأنها تضع نقاباً، قلت لها انزعي هذا النقاب، امشي بالحجاب يا أختي مثل كل نسائنا وأخواتنا، امشي بالحجاب، اترك العُقد والتعقيدات والضغط النفساني الزائد علينا باسم الدين هنا، يا أخي دع الناس تعيش مُرتاحة، بعد فترة قال بارك الله فيك، فعلت بعض الأشياء، وتحسَّن الوضع جداً، هل أدركتم الآن أننا نحن الجن؟ في هذه الحالات طبعاً وليس دائماً، في هذه الحالات نحن الجن ونحن الذين يركب شؤمنا بعضنا البعض.

نسأل الله – عز وجل – أن يفتح علينا وأن يُفهِمنا وأن يُعلِّمنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا، اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

اللهم حقِّق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا.

اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين.

اللهم أصلِح ذات بيننا، اللهم ألِّف بين قلوبنا، اللهم اهدنا سُبل السلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ۩، وأصلِح أزواجنا وزوجاتنا وأبناءنا وبناتنا، وأصلِحنا جميعاً لك بما أصلحت به عبادك الصالحين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكرو الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (23/3/2007)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: