بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

أيها الإخوة:

إن شاء الله كما أشرت في الإعلان أمس بعد صلاة الجُمعة درس اليوم سيكون – إن شاء الله – حول الكونفوشيوسية، نسبة إلى كونفوشيوس Confucius، كونفوشيوس Confucius كما يُسمى في الأدبيات الغربية – في الغرب – وأيضاً في الأدبيات العربية، اسمه بالصينية ليس كونفوشيوس Confucius كما يُكتَب بالإنجليزية، اسمه بالصينية ليس كونفوشيوس Confucius، اسمه بالصينية أسهل، اسمه كونغ فو تسو Kung Fu-Tzu، أي المُعلِّم كونغ فو Kung Fu، كونغ فو Kung Fu هذا اسم أما تسو Tzu لقب، كما قلنا لاوتسو Lao-Tzu مثلاً، وهكذا!

إذن اسمه بالصينية كونغ فو تسو Kung Fu-Tzu، تسو Tzu: المُعلِّم، أي المُعلِّم كونغ فو Kung Fu، في الغرب وفي الشرق العربي يُسمونه كونفوشيوس Confucius، وتُنسَب إليه الفلسفة الاجتماعية المعروفة بالكونفوشيوسية!

يقول أحد المُفكِّرين المُحدَثين وهو تشارلز جالتون داروين Charles Galton Darwin – ليس تشارلز داروين Charles Darwin صاحب أصل الأنواع، هذا كاتب مُختلِف، هذا اسمه تشارلز جالتون Charles Galton، بينهما كلمة جالتون Galton، إذن جالتون داروين Galton Darwin – في كتابه المليون سنة القادمة – The Next Million Years – مَن أراد أن يُؤثِّر في التاريخ الإنساني العالمي فلابد أن يتعاطى أمراً من أمور ثلاثة، إما أن يقوم بعمل أو بحدث سياسي كبير – كثورة، كانقلاب، كسلام، كحرب، حدث سياسي مُعتبَر، فهذا يُمكِن أن يُخلِّده وأن يجعله من صنّاع التاريخ – وإما أن يُساهِم في خلق عقيدة جديدة – فلسفة جديدة أو دين جديد أو أيديولوجية جديدة، أي عقيدة جديدة – وإما أن يعمل على إحداث تغييرات في المُورِّثات الإنسانية، أي في جينات – Genes – النوع الإنساني، بحيث يُغيِّر هذا النوع، يعمل على تغيير النوع – Species – كله، نوعنا!

استبعد هو الاحتمال الثالث ورأى أنه غير عملي، فحتى لو توفَّرت القدرة العلمية والفنية أي التقنية لإحداث هذا التغيير يبدو أن الشعوب والجماهير والسُلطات الحاكمة لن تسمع بهذا، أي أن الإنسان لن يصل إلى هذه الدرجة من الحماقة بحيث يسمح بزوال نوعه عبر التغير هذا ويُصبِح نوعاً آخر، الله أعلم ما هو، وهذا إلى حد بعيد صحيح، ونحن رأينا المعارك التي لا تزال قائمة إلى يوم الناس هذا حول موضوع الهندسة الجينية والخلايا الجذعية Stem cells، فليس بسهولة أن يحدث هذا، الإنسان على الأقل عنده بعض الفطنة التي يُجحِم معها عن احتقاب هذه الحماقة الكُبرى، كأن يعمل على إلغاء نوعه وتغييره، صعب جداً!

قال الفعل الأول في نطاق العمل السياسي ليس مضموناً دائماً، لأن أكثر السياسيين سريعو الزوال، السياسي يتألَّق في فترة مُعيَّنة، وبعد ذلك يُنسى، لا يبقى له أهمية، ساسة نادرون جداً هم الذين خُلِّدوا عبر التاريخ، أتحدَّث عن يوليوس قيصر Julius Caesar، نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte، بسمارك Bismarck مثلاً، المهاتما غاندي Mahatma Gandhi، مع أنه روحاني أكثر منه سياسياً، وهكذا! لكن فيما عدا ذلك عشرات آلاف الساسة اندثروا، لا يعرفهم إلا بعض المُؤرِّخين – أو المُؤرِّخون عموماً – المُهتَمون، قال بقيَ النطاق الثالث! انظروا إلى هذا، رجل يُفكِّر بطريقة ذكية جداً، قال وهو المُساهَمة في خلق عقيدة جديدة، وهذا صحيح!

انظروا الآن إلى أشهر الشخصيات على النطاق العالمي، هم مَن؟ مُؤسِّسو الأديان والفلسفات الكُبرى، أي موسى، المسيح، محمد، بوذا Buddha، لاوتسو Lao-Tzu، كونفوشيوس Confucius، أليس كذلك؟ هؤلاء تقريباً! زرادُشت Zoroaster، العالم يعرف هؤلاء، العالم كله يعرف هؤلاء ويدين لهم، يعيش في ضوء أنوارهم، يُولَد الناس تحت أشعة هؤلاء، المُسلِم تحت أشعة محمد، اليهودي تحت أشعة موسى، وكذلك تحت أشعة عيسى وبوذا Buddha وكونفوشيوس Confucius ولاوتسو Lao-Tzu وزرادشت Zoroaster، إلى آخر هذه الأسماء، هؤلاء هم الأكثر شهرة بلا شك، والأعظم تأثيراً!

وإذا كان ذلك صحيحاً – وهو صحيح بلا ريب – فإن كونفوشيوس Confucius هو الشخصية التي سنتحدَّث اليوم عنها وعن فلسفتها الاجتماعية، لأنها في نهاية المطاف ليست ديناً في نظري لا بالمعنى الأوسع ولا بالمعنى الأضيق للدين خلافاً لكثير من مُؤرِّخي الديانات، أنا لا أرى الكونفوشيوسية ديناً، وهذا سيضطرني ربما في المرة المُقبِلة – إن شاء الله – من باب التنويع أيضاً أن أتحدَّث عن الدين، ليس الإسلام وليس المسيحية وإنما الدين من حيث هو دين، ما هو الدين؟ ما هو تعريفه؟ كيف نشأ؟ يلبي ماذا؟ الاختلاف عنه، أنواعه، وتقسيماته، حديث طويل! هذا مبحث مُهِم جداً جداً شكَّل علماً برأسه أو بحياله اسمه علم الأديان، يُوجَد علم كامل اسمه علم الدين أو علم الأديان، وليس حديثاً عن الأديان بخصوصها كما نفعل، لا! هذا علم مُختلِف، نشأ في القرن التاسع عشر في أوروبا، ولكن له بدايات قديمة تعود إلى مئات بل إلى آلاف السنين، سنتحدَّث عن هذا، هذا مُهِم جداً! وسيُشكِّل هذا الحديث – إن شاء الله – الآتي أو المُقبِل خلفيةً أو قاعدةً أو أساساً لكل هذه المُحاضَرات، مُهِم جداً أن تكون مُحيطاً ببعض هذه المباحث والقضايا والمسائل!

فكونفوشيوس Confucius هو أحد الأشخاص أو إحدى الشخصيات الأكثر تأثيراً في تاريخ البشر وبوجه طبعاً أخص في تأثير الصينيين الذين يُشكِّلون رُبع العالم وعلى مدى يُناهِز بل يزيد عن ألفي سنة، فإذا ما استذكرنا – مثلاً – فتوحات وألق أو إشعاع الإسكندر المقدوني Alexander of Macedon أو يوليوس قيصر Julius Caesar أو سيزر Caesar أو حتى نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte فإن هؤلاء سيُعَدون إلى جانبه كأشخاص عابرين، سريعي العبور، ألفا سنة! شيئ عجيب، ما سر هذا التأثير؟

يُقال يُولِد الصيني في شُعاع كونفوشيوس Confucius، حكومات كاملة مثل حكومة هان Han، حكومة أو إمبراطورية هان Han هذه كانت تستلهم وتستثمر وتستعمل مبادءه وأفكاره وتعاليمه في تهيئة المُوظَّفين الإداريين الكبار والصغار، بعض الحكومات عملت على تأليهه بشكل نصف رسمي، في القرون الميلادية الأولى أُقيمت له المعابد، أمرت بعض الحكومات بتقريب القرابين له، مع أنه لم يكن شخصاً لاهوتياً بدرجة أولى، علَّم اللاهوت بشكل طفيف، كان يعرفه لكنه لم يُعن به كثيراً، سُئل عن خدمة أرواح الموتى فقال أنتم لا تُحسِنون خدمة الأحياء، لماذا تُعنون بخدمة أرواح الموتى؟ سُئل عن الموت وسره ولُغزه فقال أنتم حتى الحياة لا تفهمونها، فكيف تفهمون الموت؟ إذن لم يكن معنياً كثيراً بالماورائيات وبالغيوب وبقضية الإيمان الحقيقية أو قضية الدين الحقيقية، ومع ذلك أُريد له أن يتحوَّل إلى إله وإلى معبود تُقرَّب له القرابين وتُقام باسمه المعابد والأماكن المُقدَّسة التي يختلف إليها الناس ويزورونها.

إلى اليوم يُقال أيضاً إن كل صيني من الصينيين يلبس قُبعة كونفوشيوس Confucius أو قُبعةً كونفوشيوسية وعباءةً طاوية – الدرس الماضي كان عن الطاوية وفهمنا ما هي الطاوية، Taoismus بالألمانية أو Taoism بالإنجليزية – وصَندلَاً – Sandal – بوذياً أو حذائين بوذيين، يلبس حذائين بوذيين! هذا يعكس لنا مدى التصالحية والتوافقية في النظرة الدينية أو في الفلسفة الاجتماعية لدى الصينيين، على عكس الأديان الانحصراية كالتي نراها في الشرق الأدنى لدينا من يهودية ومسيحية وإسلام، وحتى أديان الهند هي أيضاً في نهاية المطاف أديان انحصارية، من الصعب جداً أن تكون هندوسياً وبوذياً في نفس الوقت، مُستحيل! نعم يُوجَد تسامح – التسامح موجود – لكن أن تكون بوذياً هندوسياً فلا، أن تكون مانوياً وبوذياً فلا، في الصين الأمر ليس كذلك، تكون كونفوشيوسياً وبوذياً وطاوياً وأيضاً – ربما في اليابان بإضافة الشنتوية، وسنتحدَّث عن الشنتوية في حلقة خاصة – تكون شنتوياً، وعلى طول الخط ومن المهد إلى اللحد مع بعض التوابل من الشامانية، وسنتحدَّث عن هذا الدين البدائي – الشامانية Shamanism – أيضاً ربما في حلقة مخصوصة بإذن الله تعالى، فهذا موجود، إذن له تأثير كبير!

إلى وقت قريب – في ألف وتسعمائة وخمسة زالت الإمبراطورية الصينية واختلفت الأوضاع سياسياً – كان الطالب يدخل المدرسة ويقف مُباشَرةً أمام طاولة وعليها لوحة مكتوب عليها اسم كونفوشيوس Confucius مُشبِّكاً يديه ويُلقي التحية، هذا في كل المدارس! هذا الرجل له تأثير عجيب جداً جداً على هذه الأمة العظيمة كثيرة العدد المعروفة بالصينيين، تأثير غير عادي!

طبعاً يُمكِن أن نقرأ تعاليم كونفوشيوس Confucius، هنا يُوجَد قدر كبير جداً جداً منها، جُمِع في القرون التالية، جمعه تَلاميذه وتَلاميذ تَلاميذه، لأنه كان يعزف عن كتابة تعاليمه، يرى أن تعاليمه يُوحى بها وتُلهَم وتُعاش، ولا تُكتَب وتُدرَّس كمواعظ، رفض! مع أنه عُنيَ بتحرير وتنقيح الكتابات الصينية التقليدية قبله، لكن لم يكتب هو بذاته شيئاً باسم المُحاوَرات، تقرأ هذه المُحاوَرات وتتألَّم فيها فتجد أنها تعاليم مألوفة، أفكار شبه عادية، جيدة وحسنة ومُتزِنة لكنها عادية، ليس فيها عمق ساحر مثلاً، ليس فيها استثنائية فكرية، ليس فيها! 

ولذلك ينطرح سؤال حول هذه المسألة التي كادت تُشكِّل سراً أو لُغزاً، لماذا حظيَ كونغ فو تسو Kung Fu-Tzu أو المعروف بكونفوشيوس Confucius بكل هذا الألق، بكل هذا الإشعاع، وبكل هذا التأثير مع أن تعاليمه وأفكاره مألوفة وعادية، ليست استثنائية بالمرة؟ ليست استثنائية!

هنا قد يقول لي أحدكم واضح أنه نجح في حياته إذن في فرض تعاليمه وصبغ الحياة بها، وهذا غير صحيح، الرجل مات بحسرته وألمه لأنه فشل سياسياً، فشل سياسياً ونجح في نطاق ضيق كمُعلِّم، نجاحاته توالت بعد ذلك وسوف نرى كيف، سوف نرى كيف تم ذلك، إذن ليس هذا السبب!

لماذا أحرز نجاحاً كبيراً عبر القرون لكن بعد وفاته مع أنه أخفق ومُنيَ بالهزيمة المعنوية في حياته؟ ولماذا له كل هذا التأثير إلى اليوم؟ هذا السؤال لا يجد جوابه إلا في معرفة الظروف السياسية والاجتماعية بالذات التي ظهر على خلفيتها كونفوشيوس Confucius أو المُعلِّم الأول كما يُعرَف عند الصينيين، يُسمونه المُعلِّم الأول! وهو لدى تَلاميذه أعظم المُعلِّمين والمُلهِمين على الإطلاق في تاريخ الدنيا وليس في تاريخ الصين، يرون أن السماء لم تُنجِب مثله!

طبعاً هذه الظروف يُمكِن لمُؤرِّخ مُتخصِّص أن يتحدَّث عنها في طول مُمِل كما فعل كثيرون، كل كتاب في تاريخ الصين يتحدَّث هكذا عن هذه الظروف، لكن باختصار من القرن الثامن قبل الميلاد بدأت الصين تتعرَّض لزلزلة وقلقلة في نظامها الاجتماعي أو بالأحرى في تقاليدها وأعرافها الاجتماعية القوية الرصينة التي كانت تُؤمِّن قدراً غير قليل من الأمن والانضباط والسلام والتصالح الاجتماعي بين الناس، بدأت تتقلقل! لماذا؟ لأسباب سياسية، حين جعل كل نبيل من النُبلاء نفسه كالحاكم المُستقِل، في هذه الفترة غدا النُبلاء كحُكّام مُستقِلين، كل نبيل بإقطاعيته – عدد من الناس يعملون في هذه الإقطاعيات – يتحارب مع النُبلاء الآخرين، يستخدم وسائل في البداية كانت إلى حدٍ ما مُستنكَرة، في النهاية انتهت إلى حروب مُدمِّرة وغارات كالصواعق تأتي على الأخضر واليابس، ما تذر من شيئ إلا جعلته كالرميم أو كالحُطام الهشيم!

في البدايات الأولى كانوا يُراعون آداب الفروسية والنبالة، في القرون السابقة وفي قرن كونفوشيوس Confucius اختلف الأمر، وقد وُلِدَ الرجل عام خمسمائة وواحد وخمسين قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وفي القرن الذي تلا كونفوشيوس Confucius بلغت هذه الصواعق والغارات – نستطيع أن نقول قاعها، ليس قمتها وإنما قاعها – قاع البربرية والهمجية واللاإنسانية، ما يقطع بالكامل مع كل موروث الصينيين وعاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم الاجتماعية، شيئ جديد بالمرة حدث، إجرام غير مسبوق على الإطلاق، توحش!

يُحدِّثنا تاريخ الصين عن مذابح جماعية في غزوات، في المرة الواحدة يسقط ضحيتها ستون ألفاً أو ثمانون ألفاً بل وحتى أربعمائة ألف، أي نصف مليون تقريباً في المرة الواحدة! يُحدِّثنا بعض المُؤرِّخين عن فرصة انتصر فيها بعض هؤلاء الغُزاة من الصينيين لصينيين فأخذوا المغلوبين وألقوا بهم في قدور عظيمة يغلي فيها ماء حار، ثم أجبروا ذويهم وأقرباءهم على أن يحتسوا من حسائهم وعلى أن يأكلوا من لحومهم المطبوخة، توحش رهيب جداً جداً جداً!

وهنا طُرِحَ أو انطرح من تلقائه سؤال المرحلة، كيف يُمكِن لنا أن نقف عن تحطيم ذاتنا، عن تحطيم أنفسنا؟ شعب يُحطِّم نفسه! وطبعاً واضح أن هذا بسبب الأنانيات الصغيرة، مثل العرب اليوم تقريباً، مثل الدول العربية، يُفرِّطون في شعوبهم وفي عروبتهم وفي إسلامهم وفي وحدتهم وفي مصالحهم حتى الآنية – ليست التي على المدى البعيد – من أجل شهوات حُكّام صغار جداً جداً جداً، لا يملكون لا حس زعامة ولا حتى بصراحة أن يُسموا زُعماء حقيقيين، ليسوا زُعماء! هم أوغاد ولصوص، عصبات تتحكَّم في أمتنا، يفعلون كل ما نراه وما نسمعه، شيئ فظيع جداً، هذا هو للأسف! يُسمَح لأربعة مليون صهيوني أن يذلوا أمة من ثلاثمائة مليون أو من مليار ونصف مليار من المُسلِمين، هذا هو! لكن وضع الصين كان أشد إزراءً وأشد حقارةً وتوحشاً كما سمعتم طرفاً منه، فانطرح هذا السؤال! كيف يُمكِن لنا أن نتوقَّف عن تحطيم أنفسنا؟

طبعاً الجواب لابد أن يأتي أيضاً من عقل المرحلة ومن مزاج المرحلة، ليس من خارجها! لا نستطيع ادّعاء الحكمة بأثر رجعي، الآن نحن نُملي عليهم اقتراحات وأجوبة ذكية، كانوا أغبياء لأنهم لم يهتدوا إليها، هذا أسلوب فاشل في التفكير طبعاً! أعني ادّعاء الحكمة بأثر رجعي.

عقل المرحلة أفرز جوابين: الجواب الواقعي والجواب الطوباوي، أي استجابة واقعية واستجابة طوباوية Utopian response، الجواب الواقعي عبَّرت عنه الفلسفة القانونية أو الاتجاه القانوني، وعموماً دائماً الاتجاه القانوني يكون اتجاهاً واقعياً، فهذا الاتجاه القانوني الواقعي قال لضبط الناس ووضعهم على سكة الانضباط وبالتالي الاستقرار والهدوء والسلام والتضامن وإرجاع روح المُجتمَع للأمة – لا ينطلق كل واحد كالقطيع المذعور، القطيع حين يُذعَر ينطلق كل واحد في سبيله وربما دهس إخوانه أو بقية الضعاف في القطيع وهكذا، لكن الأمر ليس كذلك، قالوا لابد من ماذا؟ الجواب كان سهلاً عندهم وقريباً ميسوراً – لابد من القانون والعقاب، قانون وتسنينات وتشريعات ثم عقاب!

قال أحد هؤلاء القانونيين الكبار بعض الناس يُنادي بأن يكون العقاب خفيفاً ولطيفاً، وأقول لهم لا، لابد أن يكون العقاب مُحقِّقاً للهدف منه، والهدف هو الردع، ولذلك لابد أن يكون العقاب في أكثر الأحوال عقاباً رادعاً، هذا طبعاً يُترَك للقانونيين.

الواقعيون إذن راهنوا على ماذا؟ على السُلطات الحاكمة، راهنوا على الحكومات، الحاكم هو مَن يفعل هذا، وإذن لم يُؤمِنوا ولم يُرهِنوا بالالتزام الشخصي، أن الإنسان يتحرَّك ضميره وتستيقظ مشاعره النبيلة والجانب الخيّر فيه والإنساني لكي يلتزم طريق السواء، قالوا لا!

طبعاً الواقعيون كما أيضاً ينبغي إنصافهم لم يكفروا بكل الإنسان، آمنوا – آمنوا وظلوا مُؤمِنين – بأن في الإنسان مشاعر نبيلة ودوافع جيدة حسنة، لكنها أضعف من أن تُلبي شروط إيجاد النظام والاستقرار والسلام، أضعف! بمعنى أنهم في نهاية المطاف قد قيَّموا الإنسان تقييماً مُنخفِضاً جداً أو نتيجة تقييمهم للإنسان كانت مُنخفِضة جداً، وهذا التقييم المُنخفِض للإنسان انطلق أو نبع من فرضيتين: الفرضية الأولى يا إخواني هي أن الشر أغلب في الإنسان من الخير، قالوا الجانب الشرير أو الجانب الوغد في الإنسان أغلب وأظهر وأقوى وأشرس من الجانب الخيّر، قالوا فيه خير وفيه نور لكنه قليل، فيه ظلام أكثر، مَن هؤلاء؟ الواقعيون القانونيون، والفرضية الثانية في هذا التقييم المُنخفِض جداً للإنسان هي أن البشر في العادة أو الجمهور في العادة قصير النظر، إذا وُكِلَ إلى نظره وإلى تقديره للمصالح والمفاسد وإلى موازينه فإنه سينظر دائماً موطئ قدميه أو حيث موطئ القدمين، لا أكثر من هذا! تماماً كالأم الحمقاء وافرة الشفقة والحنان على ابنها التي ربما تعمل وتُعطِّل عمل الصيدلة أو الطبيب بدافع الرحمة لأن هذا قد يُؤلِم ابنها، إجراء عملية جراحية قد يُؤلِم ابنها، ولكن قصر النظر هذا سيتأدى حتماً إلى هلاك ابنها المحبوب، ولذلك لابد من غل يديها وكفهما حتى يُمارِس الحكيم أو الطبيب دوره، لذلك يقول القانونيون على الحكومات أن تتدخَّل وتُمارِس دورها التقنيني والعقابي بغض النظر عن رضا الناس وسخط الناس، لأنهم قصيرو النظر، نُريد أن نحميهم من أنفسهم، أن نحميهم من قصر نظرهم!

قالوا هذا جوابنا، وطبعاً هذا الجواب القانوني يتردد عبر التاريخي! توماس هوبز Thomas Hobbes هنا في السياق الغربي – في العصر الحديث طبعاً وليس في العصور الوسطى – هو الذي أيضاً قرَّر نفس المبدأ، قال الإنسان بطبعه شرير، والشر فيه أغلب بكثير من الخير الضئيل جداً جداً جداً الذي لا يكاد يُذكَر، وكما قلت في خُطبة قُبيل أسابيع هذا الإنسان في أعلى درجات تألقه وتحضره وتمدينه يبقى هو ذاك الوحش الكاسر، ولا يُؤمِن حقيقةً لا بأخلاق ثابتة ولا بقيم مُمتَدة مُستمِرة أبداً، لذلك ينام بعد أن يُغلِّق أبوابه، حتى إذا نام في بيته ومخدعه غلَّق أبواب الخزنة، ولا يكتفي بهذا حتى يجعل المُسدَّس أو السكين أو البلطة تحت رأسه، هذا هو! إذا سافر فإنه يتسلَّح بكل أنواع الأسلحة ويأخذ معه الحرس إذا كان مُقتدِراً على ذلك، قال هذا هو الإنسان حتى في طور المدنية، الإنسان كائن وحش مُعتدٍ وأثيم، لابد من غله وتقييده بالقوة، وبلُغة هوبز Hobbes – توماس هوبز Thomas Hobbes – الإنسان هو ذئب الإنسان، هذا يُلخِّص فلسفة توماس هوبز Thomas Hobbes الواقعية السياسية، الإنسان ذئب الإنسان! نفس الشيئ، هؤلاء كانوا الواقعيين القانونيين الصينيين.

تعايش مع الواقعيين الصينيين جنباً إلى جنب في عهد كونفوشيوس Confucius الموهيون Mohists، نسبة إلى الموهية – Mohism – التي تُنسَب إلى المُعلِّم موزي، أي Mo-Tzu أو Mozi، يُذكَر بطريقتين، والموهية فلسفة أيضاً اجتماعية، لكنها على طرف نقيض من الفلسفة الواقعية القانونية، قالت الحل من هذه الورطة العمل على ضبط المُجتمَع ووضعه على سكة الانضباط والسلام والهدوء والتضامن والتكافل لا يكون بقوة القانون ولا بالعقاب الرادع ولا بما إلى ذلكم، إنما يكون بالحُب، بقوة الحُب! الإنسان كائن مُحِب، لأنه ابن السماء، الصيني الحقيقي هو ابن السماء، والسماء ما وُجِدَت إلا لإعطاء الرعاية والمحبة للأرض، بدليل أنها تُشرِق علينا كل يوم بشمسها وتُمطِرنا بغيثها، وهكذا! والإنسان فيه هذه الروح.

ولخَّصوا الحل بطريقة حالمة، فعلاً طوباوية مثالية! قالوا الحل في أن يستعفف ويتعالى المُحافِظون الذين يُديرون المُديريات والمُحافظات عن مغانمهم ومكاسبهم ومصالحهم المحدودة في مُستوى مُديرية، وأن يتعالى رؤوساء العشائر والأُسر الكبيرة عن مصالحهم العشائرية والقبلية القصيرة الضيقة، وأن يتعالى الفرد عن مصالحه الفردية الضيقة، وهكذا يُمكِن أن تنشأ أمة وأن يُحِب الجميع الجميع!

عادوا فلخَّصوا الوصفة الطوباوية بقولهم أن تنظر إلى مَن تحت السماء على أنهم جميعاً إخوةً لك وأخوات – طبعاً كونفوشيوس Confucius اعترف بهذا المعنى لكن مُقيَّداً، وسوف نرى هذا بعد قليل – وأن تُحِبهم كما تُحِب نفسك، كلام جميل جداً لكنه طوباوي، مَن يفعل هذا؟

لذلك ماذا قال كونفوشيوس Confucius حين سُئل – سأله أحد الساسة – هل حقاً يجب أن نُحِب أعداءنا؟ هذا كالذي قاله المسيح بعد خمسمائة سنة، أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلوا من أجل الذين يُسيئون إليكم، قال له هل هذا صحيح؟ هل أنت ترى أن هذا صحيح؟ قال كلا أبداً على الإطلاق، قابل الكراهية – مَن يكرهك ويُعاديك ويُسيء إليك ويُؤذيك – بالعدالة، وقابل المحبة والإحسان أو الخير بالإحسان، وإلا فإن إحسانك سيُهدَر! عنده فلسفة نصف واقعية ونصف مثالية، بين الموهية وبين القانونية، بين الاثنتين!

كونفوشيوس Confucius أو كونغ فو تسو Kung Fu-Tzu وقف ورفض الاتجاهين جميعاً وسخر منهما، وطبعاً كان يتسم إلى حد ما بروح الدُعابة كونفوشيوس Confucius، سخر من هذا الاتجاه ومن هذا الاتجاه، أما الاتجاه الواقعي – والمفروض أنه لا يزال أبعد من السُخرية – فقد رأى أن مقتله ونُقطة ضعفه فيما يُعوِزه من اللُطف واللياقة والكياسة والرحمة والمحبة والمرونة طبعاً!

إلى اليوم الشعب الصيني طبعاً ينتمي حقيقةً إلى روح كونفوشيوس Confucius وإلى الطاوية أيضاً، هذا الشعب لا تستبد به الروح القانونية، على العكس تماماً! واليابان نفس الشيئ، ولذلك أنا حتى في خُطب كثيرة – خاصة في خُطبي عن أنسنة الفهم الديني – شعرت أو استشعرت بعمق هكذا – ربما بحدس داخلي – أن المُسلِم المُعاصِر أو المُفكِّر المُسلِم المُعاصِر حتى أو العالم المُسلِم المُعاصِر أو الواعظ المُسلِم المُعاصِر للأسف استبدت به الروح التشريعية والروح القانونية، خُطبة أمس أيضاً في هذا الاتجاه لكن من زاوية مُعيَّنة، بعض الناس هكذا يظن، يظن عندنا روح قانونية وروح تشريعية، وهذه الروح – أنا أقول لكم – هي بحد ذاتها حق في مجالها وفي إطارها، حين يتم تعميمها تُصبِح مثل اللعنة، تُصبِح الأمة مثل أمة الفريسيين والصدوقيين الإسرائيليين وأمة مظاهر وأمة طقوس، شيئ فظيع جداً جداً جداً! تختفي المحبة، تختفي الليونة، تختفي الكياسة حتى، ويختفي جوهر الدين، الصينيون ليسوا كذلك واليابان، وهذا إلى اليوم إلى حد بعيد جداً أيضاً، لماذا؟

تُوجَد إحصائية – طبعاً لا تُوجَد إحصائية عن الصين للأسف لكن تُوجَد إحصائية عن اليابان – في وسط الثمانينيات، إزاء كل أربعة وعشرين مُحامياً في أمريكا – قضية نسبة طبعاً، ليس عدداً محضاً وإنما قضية نسبة – يُوجَد مُحامٍ واحد في اليابان، لا يحتاجون كثيراً هذا، لأنهم لا يحتاجون إلى المُحامين وإلى المحاكم والقضاء، في اليابان وفي الصين أكثر، هناك ما يُعرَف بماء الوجه Face، عندهم كارثة – أمر لا يُحتمَل أدبياً ومعنوياً – أن يذهب اثنان إلى القضاء وأن يُحكَم على واحد منهما، إذن ما المخلص؟ المخلص في الصُلح، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۩، لماذا قضاء ومُحامٍ وما إلى ذلك؟ هذا عيب! الآن حتى عند العربي الأصيل النبيل في العراق والشام ومصر والمغرب العربي – هذا العربي الأصيل – عيب جداً جداً جداً أن تُقاضي مَن لا ينبغي مُقاضاته من أخٍ أو قريب أو جار أو صديق، عيب يقول لك، أتذهب إلى المحاكم؟ أكبر عيب عندنا هذا، لكن الآن يُوجَد عرب – ما شاء الله – عرب العصر وعرب الحداثة، ليس عندهم أي شيئ، خلعوا كل شيئ! أمة تنهار، أمة تنحط دون أن تدري أنها تنحط بالمُناسَبة و تذوب، أمة تفنى! ليس عندها أي بقية الآن، بعض هؤلاء للأسف لا دين ولا عادات وتقاليد، لكن هؤلاء عندهم هذا عيب فلابد من الصُلح عبر مُفاوَضات وعبر حلول وسطى، تتنازل أنت شيئاً وأتنازل أنا عن شيئ، ويتم بذلك الصُلح، لذلك لا يحتاجون إلى مثل هذه الأشياء، قليلة عندهم نسبياً!

فكونفوشيوس Confucius رأى أن هذا يُعوزه الليان، الرحمة، المحبة، الرقة، المرونة، وأنه يتسم بالفظاظة والقسوة والغِلظة، كيف تقول لي هناك قانون وعقاب في كل شيئ؟ وتساءل كونفوشيوس Confucius – ومعه الحق مائة في المائة – كيف يُمكِن للقانون وشريعة القانون والعقاب أن تضبط علاقتي مع زوجتي؟ هل القانون أيضاً يقدر على هذا؟ بعض الناس يفعل هذا ويفشل مُباشَرةً طبعاً، هنا بين المُسلِمين حالات الفشل الزوجي وحالات الطلاق المُدمِّرة ما سببها؟ أُسر كبيرة تتفكَّك وعندهم أولاد قد يصل عددهم إلى ثلاثة وأربعة وبعضهم كبار وصغار، لماذا؟ لأن كلاً من الزوجين أو ربما واحد منهما يتحرَّك وينطلق وينشط بعقلية قانونية، عقلية هذا لك وهذا لي، هذا بحُكم الشرع وهذا بحُكم القانون، فيذهبون إلى المحاكم، حتى المحاكم النمساوية، عار! عار وحياة فاشلة طبعاً، وأول ما تلمس هذا اعلم أنها حياة فاشلة وأُسرة فاشلة، المفروض أنها شركة حقيقية، وحتى تعبير شركة أنا لا أرضاه حقيقةً، لا! فيه معنى تجاري، الزواج أعظم من هذا بكثير، سكن وأُنس ولباس، ما معنى لك ولي؟ في نهاية المطاف لو فكَّر الرجل العاقل أو فكَّرت المرأة لِمَ أنا أعمل؟ لِمَ أكسب؟ لِمَ أدخر؟ مِن أجل ماذا؟ هل هذا من أجلي أنا فقط؟ هذه أنانية قاتلة طبعاً، لو كنت كذلك فأنا زوج فاشل وأب فاشل وإنسان فاشل حتى، وطبعاً قطعاً سأكون صديقاً فاشلاً، الذي ينشط هكذا هو قطعاً صديق فاشل، أليس كذلك؟ ومُعلِّم فاشل وجار فاشل، فاشل! إذن في النهاية هو إنسان فاشل طبعاً، يموت – ما شاء الله – في ذهبه وفضته لكنه فاشل، ليس إنساناً!

فللأسف الشديد إما أن كلاً منهما أو أحدهما على الأقل ينشط بعقلية القانوني، قضية مُر الحق، الحدود الصارمة! وهذا لا يُمكِن، لماذا أكسب أنا؟ لماذا تكسبين أنتِ؟ من أجلنا، أنا لا أكسب من أجلي ولا من أجل أولادي ولا أنتِ تكسبين من أجلكِ، نكسب من أجلنا! أكسب من أجلنا، أي من أجلي في إطار كوني زوجاً وأباً، أكسب من أجل الأسرة، ما يجمعنا جميعاً هي الأسرة، هذا هو! لكن للأسف تسمع أن الزوجة عندها مشروع، مشروع ماذا؟ مشروع في بلدها في فلسطين أو في مصر أو في تونس، مشروع لها وتُريد أن تُكمِله، أو هو عنده مشاريع، مشاريع ماذا يا أهبل ويا أهطل؟ هذا غباء! ولذلك أنا دائماً أُكرِّر – ولن أمل من تكرار هذا والله العظيم – وأقول كل شيئ خلفه نظرية ومبدأ، فعليك إذن أن تجلس وتتعلَّم وتُفكِّر وتستشير وتستنصح وتستخير  رب العالمين لكي تُعيد النظر في مبادئك وقوانينك ومُنطلَقاتك، لا تظن أنك أوتيت الحكمة وأن كل شيئ تتصرَّفه هو تصرف سليم، غير صحيح! اجلس طويلاً جداً جداً جداً وأعد النظر في مبادئك وفي مُنطلَقاتك في الحياة، كيف تُعامِل أولادك؟ كيف تُعامِل زوجتك؟ كيف تُعامِل أصدقاءك وإخوانك؟ كل هذا فيه مُنطلَقات، عُد إليها! كيف تأخذ؟ كيف تُعطي؟ كيف تتكلَّم؟ كيف تقول؟ فيه مُنطلَقات والله العظيم! الكلمة التي تقولها أو التعليق الذي تقوله يُوجَد وراءه مُنطلَق، إذن لابد دائماً من أن تفحص وتُعيد فحص واختبار مُنطلَقاتك لكي تكون الإنسان النبيل الذي يتكامل، لعلك تُصبِح يوماً الإنسان الكامل والرضي المرضي – بإذن الله – عند الله وعند الناس وعند نفسك، اللهم أعطنا ذلك، نحن نحتاج إليه!

فكونفوشيوس Confucius فعلاً سدَّد هذا النقد بحق وبذكاء إلى منطق القانونيين، حتى مع الجيران ومع الأقرباء والإخوة والأصدقاء أتُريد أن تتعامل بمنطق قانوني؟ لا يُمكِن، أتُريد منطق مُر الحق؟ لا يُمكِن، هذا مُؤلِم جداً جداً وجارح وتعس، هذا المنطق تعيس بائر، هذا يُمكِن أن يُفيد مع الناس الأبعدين، وحتى مع الأبعدين الإنسان الكامل والفاضل يكون إنساناً مُتسامِحاً، والأديان كلها تُعلِّم هذا، أليس كذلك؟ لا يزال حتى الكرام – الناس الكرام، أي كرام النفوس – إلى يوم الناس هذا هكذا، من الصعب جداً أن تستدين من واحد منهم وأن يستوفي دينه على دائر المليم كما نقول، لا! يحط دائماً، يقول لك – مثلاً – أنا أعطيتك عشرة آلاف، تقول له معي ثمانية آلاف، فيقول لك سامحك الله في ألفين، هذا مُهِم! لا يقدر أن يكون غير ذلك، هو يخجل من نفسه، رُغن أن هذا دين يا أخي وهو استفاد منه، لكنه يقول لا، أنا هكذا، أنا نفسيتي هكذا، إنسان كريم! 

الصحابة كانوا كذلك والنبي كان يحث على ذلك، ألا تستوفي دينك كله، حُط بعضه! ومَن حط بعضه حط الله عنه، وهذا ما حدث في الحديث المُخرَّج في الصحيح عن رجل كان ليس له لا عبادة ولا صلاة وما إلى ذلك، رجل عاصٍ تائه لكنه كان مُتموِّلاً مُثرياً، عنده أموال – ما شاء الله – وتجارات واسعة، وكان كثير الإقراض، كان كريماً أيضاً، بعض الناس حتى القرض لا يُعطيه، يقول لماذا؟ أنا سأستثمره، أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك ومن لؤم نفسك، لا يُعطي! لا يُعطي ديناً، في كل شيئ يقول لك سأُعطيك ديناً لكن بفائدة أو سأُعطيك ديناً بشرط أن تُدخِلني شريكاً معك، الله أكبر يا أخي عليك، لا يُمكِن هذا!  يُريد أن يفطر على الدنيا ويتسحَّر على الآخرة كما يقول التوانسة، يُريد كل شيئ، يُريد أن يبتلع الدنيا كلها، نفس ضيقة، هذا فاشل! اعرف – والله أنا أُقسِم على هذا – أنه فاشل، أًقسِم بالله هو فاشل في حياته الزوجية، هذا إنسان فاشل، لأن هذا إنسان مادي ضيّق النطاق، مبادؤه معطوبة كلها، مبادئ سيئة جداً ومُرة، هذا الشخص القانوني! هذا ليس مُتديناً ولا مُحِباً ولا فيلسوف حياة أبداً ولا يعرف فن العيش، هذا إنسان فاشل، يعيش ويموت فاشلاً!

فكان هذا الرجل كثير الإقراض، وكان يقول لغِلمانه إذا آتاكم مَن يُسدِّد الدين فإن كان مُعثِراً فأنظروه، قولوا له ادفع فيما بعد وليس الآن، وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ۩، أي إنساء، فَنَظِرَةٌ ۩ مِن أنظره إذا أخَّره وأنسأه، أخَّروا له، لا تُوجَد مُشكِلة، قولوا له اليوم هو وقتك المُحدَّد الذي ينبغي أن تُعطي فيه لكننا لا نُريد هذا، أعطنا بعد شهرين يا سيدي أو بعد ستة أو بعد سنة، ليس عندنا مُشكِلة في هذا، أخِّروه! إلى أن يصير عند المسكين ما يدفعه، وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ۩، قال تعالى في نفس الآية وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، إذا حطيته كله وقلت له سامحك الله فالله قال هذا أحسن لك، ليس خيراً لك فقط من أجل أن تأخذ أجرك، لا! وليس خيراً لك في أن تأخذ درجات – ولك ذلك إن شاء الله – في الجنة، ليس هذا فقط! الله قال خَيْرٌ لَكُمْ ۩، هذا هو فقط، انظر إلى القرآن على إطلاقه، لا نتأستذ عليه ولا نُقدِّم بين يدي الله، قال خَيْرٌ لَكُمْ ۩ بالمُطلَق، في الدينا خيرٌ لك أيضاً، الآن خيرٌ لكم، وقت أن تفعل هذا خيرٌ لك، نفسياً خيرٌ لك، روحياً خيرٌ لك، معنوياً خيرٌ لك، أنت تنمو الآن، أنت تستثمر في شخصيتك وفي روحك، حين تفعل هذا تنمو وتتكامل، أنت تتكامل بهذا الفعل، قال الله خَيْرٌ لَكُمْ ۩ بالمُطلَق، من كل وجه خَيْرٌ لَكُمْ ۩، وعند الله وعند الناس طبعاً وعند النفس بإذن الله تعالى.

فكان يقول لهم إذا كان مُعثِراً فأنظروه وإذا كان مُوسِراً فضعوا عنه، أي خفِّفوا عنه، يقول له أحدهم أنا عندي ما أدفعه، عندي مال وأُريد أن أُعيد الدين، فيقول له كم دينك؟ يقول مائة، فيقول له هات تسعين وسامحك الله في العشرة، رجل عجيب هذا! وما كان يتعبَّد ولا يفعل أي شيئ أبداً، بل كان عاصياً حتى، فبُعِث يوم القيامة، لم تُوجَد له حسنة، الله قال انظروا إلى حسناته، فقالوا يا رب لا شيئ عنده، لا حج ولا اعتمر ولا صلى، لم يفعل شيئاً في حياته هذا، نعم الرجل مُسلِم مُوحِّد لكن لا تُوجَد حسنات عنده، مُنيتي أن يُعيد الوعاظ وأصحاب الظاهر والحروف النظر في هذه الأحاديث الصحيحة، هذه الأحاديث مُخرَّجة في الصحيح، هذه أحاديث صحيحة! هذا ليس كلام وعّاظ، هذا كلام رسول الله، يُوجَد سر وتُوجد رسالة وراء هذا الكلام، تُوجَد رسالة خطيرة جداً جداً يا جماعة، وهذا يجعلنا نُعيد النظر في جوهر التدين كله، ما جوهر التدين؟ حديث صحيح يقول رجل كان يُصلي ويصوم ويُقيم الليل وذهب إلى جهنم لأنه إنسان جاحد للمعروف أو إنسان مُر أو إنسان مُسمَّم أو إنسان حقود أو إنسان غشاش أو إنسان لئيم بخيل أو إنسان كذا أو إنسان كذا، وأحاديث أُخرى تقول لا صلى ولا صام ولا له حسنة، فيقول الله ابحثوا له عن حسنة، فقالوا ليس له إلا هذا، كان مُثيراً مُتموِّلاً وكان يفعل كذا وكذا، فالله قال فأنا أولى بالتجاوز عنه، تجاوزوا عن عبدي وأدخلوه الجنة، فدخل الجنة!

هذا جوهر التدين، المُعامَلة! لابد أن تفهم الناس هذا، لكن الآن انظر إلى الفهم المنكوس المعكوس المقلوب للدين، يجعل من الدين عبادات وطقوساً سلماً لتغوّل حقوق الناس – والعياذ بالله – ونهب ما لهم مع ضمير مُستريح، كما أقول دائماً – ولا أمل من هذا أيضاً – كأنها رشوة نُقدِّمها لله، ها نحن عملنا ما لك وقدَّمنا لك أشياء يارب، صلينا ونقرنا الأرض وما إلى ذلك، كأن الله يُحِب كثيراً أن نركع ونسجد، إذا ركعت وسجدت ولم تستفد ولم تنم روحياً فهذا كلام فارغ، تلعنك صلاتك هذه، ما رأيك؟ أنت تركع وتسجد وأنت في الصلاة أيضاً تُبرمِج وتُخطِّط وتقول كيف آخذ حق هذا؟ كيف أضحك على هذا؟ كيف أشهد على هذا شهادة زور؟ كيف أُضيِّع حق هذا؟ كيف أكذب على هذا؟ وبالقضاء! بالقضاء سأفعل هذا، أنا سآتي بشهود – شهود زور طبعاً – وسأحلف يميناً أمام الشيخ، ومن ثم سآخذ هذه الأموال، وتُصلي أيضاً؟ ألا تستحي من الله؟ مسكين! وهو مُستريح وضميره مُستريح، يقول الحمد لله يا أخي، يظن أن هذا يشفع له إزاء ما فعل، بالعكس! هذا يُزيده نقمة أو منقومية أو ممقوتية عند رب العالمين تبارك وتعالى.

فهذا المزاج القانوني والتشريعي خطير جداً، المزاج الثاني أفضل، إذن لا يُمكِن أن تُضبَط علاقاتنا مع جيرتنا وقراباتنا وأصدقائنا فضلاً عن أزواجنا وأولادنا بالمنطق القانوني، منطق الشريعة والعقاب أو القانون والعقاب، لا يُمكِن قال كونفوشيوس Confucius، قال هذا كلام يفتقد إلى كثير من الواقعية ويدّعي أنه واقعي، لا تُوجَد واقعية! ولو حياة الناس صارت مثل هذا لأصبحت جحيماً لا يُطاق.

في أوروبا إلى حد ما بدأت حياة الناس تأخذ – والعياذ بالله – هذا الإطار الحديدي، ما يُسمى عندهم بالترشيد، الترشيد أي العقلنة أو التعقيل، التعقيل Rationalisation! ما التعقيل؟ هو هذا، مزاج قانوني بحت يُحدِّد الأشياء بضبط غير طبيعي، أعلى من الضبط السيمانتيكي، ليس فقط سيمانتيكياً دلالياً، هذا شيئ فظيع! من الترشيد عندهم حين – مثلاً – يسألك سائل ويقول لك هل تستطيع أنت تُعطيني كوب الشاي؟ المفروض جوابك الصحيح أن تقول له أستطيع لكنك لا تُعطيه إياه، أنت لا تُعطيه إياه وتقول له فقط أستطيع، يقول لك هل تستطيع؟ وأنت تقول له أستطيع، Ich kann das ja aber ich will nicht، استطيع هذا لكنني لا أُريده، لا أُحِب هذا ولن أفعله لك، تخيَّل! مع أن لُغة هل تستطيع أن تفعل هذا لُغة مُؤدَّبة جداً وتحفظ ماء وجهي، لا تُحيلني شحّاذاً، لماذا تُريد مني أن أكون شحّاذاً؟ لا، الترشيد الأوروبي يُريد منك أن تكون شحّاذاً تقول صدقة لله، أعطني من فضلك، سأُقبِّل رأسك وحذاءك من أجل أن تُعطيني كوب الشاي، ثم يقول لك سأُعطيك أو لن أُعطيك، لكن يختلف الأمر حين تُحافِظ على ماء وجهك خلف عبارات رطبة هكذا ومرنة اسمها هل تستطيع أن تفعل هذا؟ Könnten Sie das für mich tun?، والجواب قد يكون Ja ich kann das، فظاعة! شيئ حقير جداً جداً جداً، هذا ما تنبأ به ماكس فيبر Max Weber، قال القفص أو السجن الذهبي، القفص الذهبي هذا دخلنا فيه قال، لكنه قفص في النهاية، قضبانه ذهبية لكنه قفص يا أخي، قتلتمونا! الإنسان ليس كذلك، باسم الترشيد والعقلنة يفعلون العكس، فهذا خاف منه كونفوشيوس Confucius كثيراً، وهذا مزاج مَن؟ القانونيين الواقعييين، قال لا، لا أُريده، لا أُحِبه هذا، غير صحيح وسيفشل، هذا سيفشل!

لذلك مَن فعلوا هذا بقوة الحرب وقوة القانون انهاروا في جيل واحد، أليس كذلك؟ الصين جرَّبت هذا، عملوا وضبطوا الأمور ووحَّدوا البلاد كلها والولايات وانضبط الناس وخافوا من القانون ثم انهار كل شيئ في جيل واحد، لا يُمكِن أن يستمر هذا، الإنسان ليس كذلك، هذا يتمرَّد عليه الإنسان بطبعه، وهذا يُذكِّرنا بالكلمة العظيمة لأحدهم – مأثورة – حين قال الحرب – ونحن نقول الحرب والقوة الآن والإكراه والسُلطة – يُمكِن أن تفعل بها ومعها كل شيئ إلا أن تقعد فوقها، لا تقدر على القعود فوق الحرب أنت، لا تقدر! أي أنها مثل النار، أليس كذلك؟ تقدر على أن تفعل بها شيئ لكنك لا تقدر على التقرفص فوقها، لا تقدر! وكذلك القوة والإكراه تفعل بهما كل شيئ لكن لا تستطيع أن تقعد فوقهما، لا يُمكِن أن تُؤسِّس مُلكاً أبدياً عليهما، صعب جداً! لكن الحمقى والأغبياء يفعلون هذا دائماً.

جوزيف ستالين Joseph Stalin في الاتحاد السوفيتي السابق – المُجرِم الطاغية – حين أراد أن يُنفِّذ غيته في بولندا قال له بعض المُستشارين بتخوف شديد وبأدب طبعاً وبذعر ماذا عن – ليس هل حسبت؟ أكيد لم يقولوا له هل حسبت الحساب؟ هذا صعب جداً، يقطع الرأس في هذه الجُملة، أكيد قالوا له ماذا عن؟ أي What about? – بابا الفاتيكان Vatican؟ معروفة صلة الفاتيكان Vatican ببولندا طبعاً، قال لهم كم كتيبة عنده؟ منطق غبي هذا! منطق غبي وسخيف جداً جداً، يظن أن المسألة بالقوة، جيوش أكثر وكتائب أكثر وينتهي كل شيئ، الأمور الأُخرى ليس لها أي اعتبار، وهذا غير صحيح، يجب أن تعتبر بأشياء أُخرى كثيرة، وسوف أتحدَّث عنها في أثناء المُحاضَرة.

كرومويل Cromwell الإنجليزي ينطبق عليه نفس الشيئ، قال صحيح يقولون لي الشعب يكرهني، خمسة وتسعون في المائة يكرهونني، لا بأس إن كانت الأسلحة في يدي الخمسة في المائة الباقية، هؤلاء معي قال، ودع الخمسة والتسعين يكرهوني، هذا لا يهمني! وهذا إنسان غبي أيضاً، أحمق هذا! ولذلك كرومويل Cromwell هذا أين تأثيره؟ معروف كاسم، لكن مُستحيل أن يُقارَن هذا ببوذا أو بكونفوشيوس Confucius أو بمحمد أو بموسى أو بعيسى أو بالمهاتما غاندي Mahatma Gandhi، يستحيل! هو نُقطة أو فاصلة حقيرة في التاريخ بالنسبة إلى هؤلاء.

بالنسبة إلى الشق الآخر وهو الفلسفة الاجتماعية الموهية – أي Mohism بالإنجليزية أو Mohismus بالألمانية – فأيضاً ينطبق عليها نفس الشيئ، كونفوشيوس Confucius قال هذه فلسفة تتأمل أكثر من اللازم، تُراهِن على الإنسان وعلى الالتزام الشخصي أكثر مما يسمح به هذا الالتزام، قال أنا على العكس من هذا، أنا أُقدِّر عاطفة ودافعية الحُب في الإنسان، وهي عاطفة ودافع نبيل جداً جداً، غريزة نبيلة في الإنسان، صحيح أُقدِّر هذا لكن ما عساه يفعل الحُب بلا مُؤسَّسات اجتماعية؟ وانتبهوا! كلمة مُؤسَّسة – Institution – في علم الاجتماع – وهذه الآن أصبحت بديهية – ليس شرطاً أن يكون معناها مُؤسَّسة حسية مادية مثل كل هذه الــ Foundations، لا! هناك مُؤسَّسات اجتماعية ومعنوية كالزواج، يقولون هذه مُؤسَّسة، مُؤسَّسة الزواج! أرأيتم؟ مُؤسَّسة هذه مثلاً، وهناك مُؤسَّسات طبعاً تأخذ حتى شكلاً حسياً، هو يتحدَّث عن المُؤسَّسات الاجتماعية بالمعنى العام، كما الآن هو مُقرَّر في السوسيولوجيا Sociology، قال بغير مُؤسَّسات اجتماعية الحُب وحده ما عساه يفعل؟ سيفشل! سيفشل ولن يجد طريقه ولن يفرض منطقه، فقال هذا جواب عام وإجمالي ويُراهِن بشكل زائد عن اللزوم على الدافع الشخصي لدى لإنسان، عكس الآخرون الذين يُراهِنون بشكل زائد عن اللزوم على السُلطة والحُكم والحاكم!

ماذا يفعل كونفوشيوس Confucius نفسه؟ طبعاً هذه المسألة بالمُناسَبة ليست فقط في الصين ومع كونفوشيوس Confucius، لا! هذه مسألة اجتماعية دائماً في تاريخ الدنيا وفي تاريخ البشر، وهذه المسألة ليست مُعضِلة – ما دام لها حل فليست مُعضِلة – لكنها صعبة وإشكالية ومُؤشكِلة، أي أنها Problematic، ليست فقط Problem، لا! إشكالية حقيقية هي ومُؤشكِلة دائماً، هل تعرفون لماذا؟ لأن الإنسان من حُسن حظه ومن سوء حظه في نفس الوقت بما يتعلَّق بهذه المسألة كائن غرائزه محدودة، لو نظرنا في الأنواع الحيوانية – والإنسان نوع حيواني – لوجدنا عنفاً طبعاً في عالم الحيوان بلا شك، مُفترِسات مُتوحِّشات كواسر ضوارٍ عوادٍ أوابد ووحوش، يُوجَد عنف! لكن هذا العنف يا جماعة ما الذي ميَّزه من عنف النوع الإنساني؟ أشياء كثيرة، لكنها في رأسها مُميِّز كبير جداً وفاقع، مُعظَم هذا العنف على الإطلاق بين الأنواع وليس في النوع الواحد، أليس كذلك؟ طبعاً، لا تجد عنفاً ضارياً أو مُخيفاً أو مهولاً في النوع – مثلاً – الواحد كالأسود مثلاً، بالعكس! يُوجَد تسالم مع بعضها وتُوجَد حياة اجتماعية مُمتازة، أو بين النمور أو بين الفهود المُرقَطة أو بين القرود وما إلى ذلك، لا! العنف أين يظهر؟ بين نوعين، بين الأسود – مثلاً – ونوع آخر يحدث عنف، إلا الإنسان فهو استثناء، العنف أين؟ في نفس النوع، يا ليت عنفه كان مُوجَّهاً إلى نوع آخر اسمه الشياطين مثلاً، القرآن حاول أن يفعل الكلام هذا ونجح، الناس فهموا هذا، دائماً يقول إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۩، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ۩، دائماً يُوجِّه العنف الذي عندنا والكره وطاقة التدمير ونوازع الشر هذه والعدوان على مَن؟ اتجاه الشيطان، يقول لك هذا عدوك، نحن إخوة، نحن بشر، سنظل هكذا في النهاية، أشهد أن العباد إخوة النبي يقول، يَا بَنِي آدَمَ ۩، انظروا إلى هذا، يُذكِّرنا بأخوتنا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ۩، من أب وأم، يُذكِّرنا لكن لا فائدة، لماذا؟ لأن هنا أيضاً يُوجَد سؤال آخر، سؤال آخر علمي وهو كبير أيضاً، ما الذي يجعل العنف داخل النوع الواحد من عالم الحيوانات أو في عالم الأنواع الحيوانية يتحرَّك في نطاق ضيق جداً جداً كالمعدوم ويُحوِّله إلى عنف بين نوعي، أي بين الأنواع؟ ما الذي يفعل ذلك؟ هل الثقافة تفعل ذلك؟ لا تُوجَد ثقافة، عن حيوانات نتحدَّث، ما الضوابط التي عندها؟ الغرائز، الغرائز تفعل هذا، الغرائز تقوم بدورها وبطريقة آلية.

لو وُجِدَ لدى الإنسان مثل هذه الغرائز – أنا أقول لك – لن يُوجَد عنف في المُجتمَع الإنساني، سوف يكون مثل الأنواع الحيوانية، لكن أيضاً من حُسن حظ الإنسان أن عدد وحجم الغرائز الآلية التي فيه محدود جداً إذا ما قيس بالحيوانات، الحيوانات غرائز أكثر ومُكتسَبات – أي عقل – أقل بكثير، الإنسان ليس كذلك، سُبحان الله! غرائز قليلة ومُجتمَع وعقل وتجربة وخبرة ودراسة وثقافة – Kultur بالألمانية أو Culture بالإنجليزية – كثيرة، ومن هنا طفولة النوع الإنساني أو طفولة الفرد الإنساني أطول طفولة بين الأنواع، أليس كذلك؟ ترون أنتم الحصان بعد أن يُولَد بنصف ساعة يرمح وحده، وهكذا! الإنسان لا يحتاج إلى سنة أو سنتين، تقريباً يحتاج إلى ثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، وفي الحقيقة بحسب حتى كونفوشيوس Confucius وبحسب الأدبيات الإسلامية يبدو مقضي على الإنسان – إذا بالغنا وتحدَّثنا بلُغة مجازية – أن يبقى طفلاً – إذا قلنا أن الطفل هو الذي يتعلَّم ويُرشَد ويُنصَح ويُعطى الاستشارة – إلى أن يموت، يبقى طفلاً بمعنى ما، قالوا من المهد إلى اللحد، هكذا يقولون! من المهد إلى اللحد، كونفوشيوس Confucius ماذا قال؟ قال من بطن أمه إلى القبر، نحن عبارتنا أجمل، من المهد إلى اللحد تبقى هكذا، والذي لا يرى نفسه هذا الطفل الذي يتعلَّم ويتهذَّب ويتكامل هو إنسان فاشل، حتماً سيُخفِق، هل هذا واضح؟ فهذا هو السبب إذن، هذا هو السبب الذي طرح هذه المسألة التي ظُنَت مُعضِلة، ليست بمُعضِلة لكنها مسألة مُشكِلة حقيقةً، مُشكِلة العنف الإنساني! وليس في النوع الواحد فقط، بل وفي المُجتمَع الواحد، وليس في المُجتمَع الواحد أحياناً، بل وفي البيت الواحد، في الأسرة الواحدة، بين الأخ وأخيه، بين الابن وأبيه، بين الزوج والزوجة، عنف يصل أحياناً إلى درجة الاضطهاد بل ربما يصل إلى درجة الاغتيال والقتل، شيئ مُحيِّر! إلى هذه الدرجة؟ ما الذي يحصل؟ ولماذا؟ هو هذا!

فكونفوشيوس Confucius لاحظ هذه المسألة، قال نعم، هو هذا السبب، هذا السبب! لذلك كونفوشيوس Confucius قال لا يُمكِن أكون ساذجاً أهبل بريالة وأُراهِن بكل طوباوية على الالتزام الشخصي، أي التزام؟ باسم المحبة، أن عندي محبة وطاقة حُب، قال هذا الكلام غير معقول، لا! إذن لابد من ماذا؟ لابد من استلهام التجربة واستنطاق التاريخ واستشارته، تاريخي يقول لي كصين قبل القرن الثامن للميلاد كنت مُجتمَعاً أتمتع بدرجة مُشرِّفة جداً بالاستقرار والأمان والانضباط والروح الجماعية، هكذا كان الصين فعلاً! لغاية أن أحد أو لحد أن أحد المُؤرِّخين الصينيين حكى عن امرأة نبيلة تُوفيت في قصرها مُحترِقةً لرفضها حين شبت النيران في القصر أن تخرج وذلكم بسبب أن الوصيفة كانت قد غادرت القصر، والتقاليد الصينية العريقة تحظر على السيدة – خاصة السيدة الحُرة الكريمة، من منبت أو من أرومة كريمة – بتاتاً – البتة – أن تخرج تمشي وحدها بلا وصيفة، وماتت السيدة! وجاء هذا المُؤرِّخ – وهذا المُؤرِّخ كان مُعاصِراً لكونفوشيوس Confucius، يُؤرِّخ لعصور قديمة قبل سبعمائة وثمانمائة سنة – وأثنى على موقفها وثمَّنه، قال هذا الصحيح، مع أن بعض الناس قد يقول لكن هي احترقت وماتت، أليس كان من الأفضل أن تتساهل وأن تأخذ بنوع من اللين إزاء هذا العُرف والتقليد القاسي جداً جداً وتخرج ريثما تجد وصيفتها؟ قال لا، قال سيما إنها سيدة كريمة، قال كيف هذا وهي سيدة كريمة؟ أشرف لها أن تموت، كانت هناك تقاليد لا أقول صعبة لكنها مرعية، يُطبَّع بها المُجتمَع، تسمعون عن التطبيع Normalization، ما التطبيع؟ نُفسِّره بعبارة بسيطة جداً جداً وعامية، التطبيع هو رضاعة أو إرضاع القيم والأعراف والالتزامات مع حليب الأمهات، كما قلنا أمس للأسف هذه مُشكِلتنا أيضاً نحن كمُسلِمين وكعرب، عندنا منابع مُمتازة جداً جداً، عندنا أفكار وهدايات – ليس هداية واحدة وإنما هدايات – ومُنطلَقات مُمتازة، لكنها لا تجعلنا ننطلق، لا تجعل سفينتنا تُقلِع، لا تمتلئ قلوعها بالهواء وتُبحِر، لا! نحن نجلس ورسونا، لماذا؟ علوم هذه، هذه مواعظ، هذه كلمات! كونفوشيوس Confucius كان يسخر من المواعظ، لم ير يوماً الحكمة على أنه مُراكَمة للمعلومات وسؤال وجواب، بعض الناس يقول لك سوف أُؤلِّف لك كتاباً فيه ألف سؤال عن الإسلام وينتهي الأمر أو ألف سؤال في الإصلاح، كلام فارغ! هذه خُطة بسيطة وبدائية، لابد أن يتمأسس هذا في نظر كونفوشيوس Confucius بشكل صحيح!

جُزء من عبقرية رسول الله – أنا أشرت إلى هذا أكثر من مرة قديماً، بعض الناس ربما لا يلتفت إلى هذا – وجُزء من نجاحه العجيب جداً جداً ما هو؟ هو نجاح نجاحاً غير عادي، الحمقى طبعاً – هذه اليوم فكَّرت فيها – المغرورون والمُنتفِخون كالبالون وكالمنطاد يأتون ويُحقِّرون الإنجازات التي هي فوق حتى خيالية، يقول الواحد منهم مَن محمد؟ محمد خضع لكذا، محمد عمل كذا وكذا، المُهِم أنت ماذا تفعل يا أهبل ويا أحمق؟ أنت كاتب صحفي أو كاتب مُتفلسِف أو دكتور في الجامعة أو أستاذ، أنت ماذا فعلت؟ أنت لم يخرج حتى من تحت يديك رجل يُصلِح المُجتمَع أو يُساهِم في إصلاحه، أنت فاسد مُفسِد، وليس بيدك أي شيئ لتفعله، أنت إنسان مُخفِق وفاشل Loser، أنت فاشل كبير Big Loser، وهذا الرجل الذي تُسميه محمداً أخرج أمة يا رجل وعمل حضارة، تسبَّب في وجود مدنيات وحضارات وأشياء ومُدن وحواضر عجيبة وعلوم وثقافات وفلسفات وفنون، وأنقذ حضارات أُخرى بأمته التي أخرجها من العدم إلى النور، شيئ هائل مُخيف وغير طبيعي بالمُناسَبة، جرِّب أنت أن تنجح في أُسرتك وتفشل وليس أن تنجح في أمة لم تكن أصلاً تُخرِجها، عملية مُعجِزة، فعلاً شيئ مُذهِل جداً جداً، لكن حقارة الإنسان – لأنه في ذاته يكون إنساناً حقيراً وغير جدي، ليس صاقاً Honest وليس جدياً في تناول الأشياء – تجعله يُحقِّر العظيم إنجازاً كان أو شخصاً أو حدثاً أو تاريخاً، ويسترقع – يأتي برقاعات – وما إلى ذلك، لكن ليست هكذا الأمور، ويبدأ – كما قلنا اليوم – يدّعي الحكمة بأثر رجعي، يقول كان على محمد أن يُدرِك في عالم السياسة كذا وكذا، يُدرِك ماذا يا أهبل؟ أنت قبل ستة أشهر لم تُدرِك هذا، أدركته بعد أن قرأت كتابي أو كتاب فلان أو كتاب فلان المُترجَم، أتأتي الآن وتتفلسف على محمد أنت لكي تُعلِّمه عبر أربعة عشر قرناً؟ ما السخافة هذه؟ لا تُوجَد مصداقية يا أخي، لكنك تجد حتى من أعداء الأمة وأعداء الرسول وأعداء الإسلام من العلماء الأثبات وما إلى ذلك مَن يكونون أكثر إنصافاً وأكثر إيجابيةً في تقييمهم لإنجاز الرسول، يقول لك الواحد منهم شيئ عجيب هذا، شيئ نادر، ليس له مثال في التاريخ مثلما قال إتش جي ويلز H. G. Wells، قال ليس له نظير الرجل هذا، ليس له نظير في التاريخ! الذي عمله مُعجِز!

جُزء من عبقرية رسول الله في هذا الإنجاز الضخم الفريد المُعجِز حقيقةً – لأنه فعلاً مُعجِز – أنه كان يدعو إلى مبادئ مثالية – مبادئ مثالية مثل حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه، هذا مبدأ مثالي جداً، وكما قلنا صعب جداً جداً أن تقول أنا أُحِب لغيري ما أُحِبه لنفسي، من الصعب جداً! مَن يزعم هذا؟ مَن يستطيع أن يزعم هذا؟ من أصعب ما يكون! – لكنه نجح أيضاً وخلق أُناساً يفعلون هذا في أبهى صورة، فكيف إذن؟ لم يكتف فقط بالمواعظ، أن يعظ بالأخلاق والمبادئ، لا! كان في نفس الوقت مُباشَرةً يضفر هذه الدعوة المثالية بمأسسة عملية، يُمأسس الشيئ النبي، وكان يحرص على هذه المأسسة – تخيَّلوا – ونجح، وكما قلنا الثورة الفرنسية نادت بالحرية والإخاء والمُساواة،الامُساواة يُمكِن أن نُمأسسها، الحرية سهل جداً أن نُمأسسها، أسهل شيئ! أول ما أنجزته وانقلبت عليها للأسف، لكن الأخوة كيف تُمأسسها؟ لم ينجحوا، فأكلت الثورة أبناءها، وأكل الأخ أخيه، أليس كذلك؟ وقصل الجلّاد الآن قاصل غيره، في النهاية حتى هناك مَن ذهبوا بعد أن قتلوا الآف، عشرات الآف من الناس!

الرسول حين نادى بالأخوة – إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ۩ وما إلى ذلك – لم يكتف بهذا، مأسسها! والقرآن مأسسها، أليس كذلك؟ القرآن مأسسها! كيف مأسسها؟ قال أنتم إخوة، تقاسموا مع عندكم الآن، ففعلوا! أنتم إخوة، يتحمَّل بعضكم عن بعض، هناك الديات والدماء والعقول والأروش، رجل قتل أو رجل جرح وما إلى ذلك، فتدفع معه كأنه أخ لك من الدم، أف! إلى هذه الدرجة؟ إلى هذه الدرجة قال لك، ماذا يحدث حين أموت؟ يرثك، من ضمن الورثة، ماذا يحديث حين يموت؟ ترثه، من ضمن الورثة، أف! أي أن هذه مُؤسَّسة حقيقية، حقيقية فعلاً! هذه المأسسة، لم يكتف بالنداء بالأخوة.

أنا أقول لك المُسلِمون أحياناً تجد فيهم – مثلاً – خطيب جُمعة بسيط جداً جداً، لا يعرف الفاعل من المفعول، لكن ما يشعر به – مثلاً – الجمهور أنه صادق وإنسان رباني وطيب ويقرأ القرآن بخشوع، يقف هذا الخطيب المسكين الذي ليس عنده حتى شهادة علمية قائلاً يا إخواني انظروا إلى إخوانكم في العراق وفي فلسطين كذا وكذا، ثم يجمع ألف يورو من أُناس فقراء ومساكين، قد يُخرِج أحدهم خمسمائة يورو ومُرتَب المسكين كله ألف يورو، أي أنه أعطى نصف شهر في لحظة! كيف يتم هذا؟ هذا الفعل نفسه – تحويل الشعارات إلى التزامات عملية – ناجح، وبعض الناس يفعل ما هو أنجح، أنا – مثلاً – لا أُحِب الشيئ هذا وأعرفه أنه ناجح بالمُناسَبة، لكنني لا أكتفي بالقول، هناك مَن يُجلِب عشرة أو عشرين رجلاً وكل واحد منهم يضع صندوقاً ويلف حول الناس، ويحدث هذا حتى قبل الصلاة أيضاً، لكي يضمن أن المُصلين غير مُستعجِلين من أجل العودة إلى بيوتهم، وفي كل جُمعة يجمع أموالاً هائلة، رأينا هذا – مثلاً – في فرنسا، تحديداً في ميلوز، واشتروا مكاناً عظيماً وبنوا مركزاً هائلاً جداً جداً، بسبب خطيب مُتواضِع مسكين وطيب مأسس ولم يكتف بالوعظ مثلي، أنا إلى حدٍ ما بحسب وجهة نظري أُراهِن على العقل والدافع الذاتي وما إلى ذلك، أُحِب الشيئ هذا، لكن ليس كل الناس هكذا، لأنهم لا يقدرون، ضعاف! الناس ضعاف عن هذا، كونفوشيوس Confucius أدرك هذا الشيئ، ولذلك كان واقعياً، هو مُعلِّم حقيقي واقعي، قال لا، الحُب وحده لا يكفي، لابد من أمور أُخرى، ماذا نفعل قال؟ قال نُحيي التقاليد، كيف نُحيي التقاليد والتقاليد موجودة؟ التقاليد ماتت ولم تف بشرط تلبية الواقع بإحيائه وإعادة ترميمه مثلاً، أدرك أيضاً هذا! لذلك ماذا قال؟ قال شرطان لابد من توافرهما في إحياء التقاليد، طبعاً بلُغة عصرنا العلماء تحدَّثواعن نوعين من التقليد، التقليد التلقائي والتقليد المدروس، التقليد التلقائي كالذي كان يُهيمن على الصين ويحكمها ويُلهِمها في قرون قبل الثامن الميلادي، هذا اسمه تقليد تلقائي، عموماً المفروض بعد فترة دائماً أن كل تقليد يتحوَّل إلى تقليد تلقائي، أليس كذلك؟ تماماً كالأفعال التي تُصبِح أشبه بالتلقائية، مثل فعل المشي، فعل قيادة السيارة، أليس كذلك؟ الرد على المُتحرِّك، وضرب حتى الأرقام في بعض المرات، الآلة الكاتبة مثل مشهور جداً جداً جداً، كان يُنظَر إليها كعلم شاق في البداية لكنه مدروس وواعٍ ويُوجَد مبدأ فيه، أين تُوضَع الأصابع؟ كيف تُحرَّك؟ كيف تُوضَع النُقط؟ كيف كذا وكذا؟ بعد فترة يُصبِح غير واعٍ، يُصبِح تلقائياً، كذلك في المسائل الاجتماعية تبدأ مدروسة اصطفائية واعية وتنتهي تلقائية غير واعية، تُصبِح كأنها غرائز، تُسمى في لُغة بعض علماء النفس الاجتماعيين بالطبيعة الثانية Second nature، هناك الطبيعة الأولى وهناك الطبيعة الثانية! 

كونفوشيوس Confucius في هذا الصدد طبعاً أكَّد أن المُراهَنة على الطبيعة الأولى خطأ كبير، كما فعل مَن؟ الموهيون، أي الفلاسفة الموهيون، قال لا! تُراهِن على الطبيعة الثانية، والطبيعة الثانية ليست سهلة، تحتاج إلى شغل ليل نهار ومن المهد إلى اللحد قال، شغل دائم قال، أنا نفس الشيئ، أنا أدعوكم وأنا تقريباً لا أرى نفسي نجحت إلا في مبدأ واحد من المبادئ الخمسة التي أدلكم عليها، واحد – قال – أقدر على قول أنني نجحت فيه، كان مُتواضِعاً وكان يُعلِّمهم التواضع، قال المسألة تحتاج إلى عمل مُتواصِل، ونحن نقول بلُغتنا أيضاً المجازية السهلة هذه الطريق – طريق التكامل – مثل طريق القائد، قائد السيارة أو سائق السيارة على خط سريع، لا يُمكِن أن تقول لي أنا أخذت الرخصة – License – وأخذت السرعة التي أُريدها وسأنام، سوف تموت في لحظة، سوف تُدمَّر في لحظة! تبقى من أول الطريق إلى آخره في مُنتهى التيقظ والانتباه، أليس كذلك؟ لحظة واحدة تُدمِّر كل شيئ، وكذلك الإنسان!

فالتقليد إذن التلقائي هو التقليد القديم، لماذا فشل؟ لأسباب كثيرة، الآن لا نُريد أن نتخلى عنه كونفوشيوس Confucius قال، لا نستطيع أن نتخلى عنه، جرَّبناه ونجح، وهذا الإنسان الواعي، وبالمُناسَبة هذا هو سر الثبات العجيب في الثقافة الصينية، لكن هذا لا يُسمى في الغرب الثبات، يُسمى الجمود! يقولون الجمود في الثقافة الصينية، الجمود في الفكر الصيني، الصيني أصلاً يفخر بهذا، يعتبره منبع فخره، يقول أنا عندي تقاليد سلوكية واجتماعية وفكرية عمرها ألفا سنة أو ألفان وخمسمائة سنة، يقول أفخر بهذا، هذا فخر لي، الغرب يراه شيئاً يُزدرى ويُحقَّر، يقول عجيب هذا، لا يتطوَّر! المنطق مُختلِف، أرأيت؟ لذلك أيضاً كونفوشيوس Confucius الآن – وسوف نرى هذا – راعى أشياء أو درس أشياء مُعيَّنة منها ضبط المُصطلَحات، أي ضبط اللُغة بضبط المُصطلَحات، تكلَّم عن جمود وتكلَّم عن حداثة أو تحرر، قال أنا لا أخاف من المُصطلَحات، لابد أن نتحدَّث في الأول عن ماذا تفهم من الجمود؟ وماذا أفهم أنا منه؟ لكي نستطيع أن نتكلم بعد ذلك ومن ثم نرى مَن على حق ومَن على باطل، هذه مسألة لطيفة وجميلة وهو سابق فيها، كان عنده فيها استبصارات سابقة لتاريخه وزمنه، فقال ماذا؟ قال التقليد الآن نُريد أن نبعثه، ولكي نبعثه لابد أن نبعثه مدروساً، مُستحيل أن يكون تلقائياً، وهذا صحيح! هذا الكلام صحيح، وهو يتكلَّم عن تقليد، وحين نقول تقليد فهذا يعني أننا نتحدَّث الآن عن ماذا؟ عن خلق سلوك أو سلوكات أو مِزاج لأمة، لشعب، ولجمهور، ليس لشخص! الآن يتوسَّع بعضهم ويقول تقليد عائلي، ليس بمعنى التقليد الاجتماعي، انتبهوا! يُقال فلان له تقليد، لكن هذا ليس بالمعنى السوسيولوجيا Sociology، غلط! أما كلمة تقليد في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا Anthropology ليست كذلك، دائماً تُراعي ماذا؟ المجموع، الجمهور، والشعب، جيد!

وطبعاً هذه لا تبدأ – كما قلنا – من فرد ولا تبدأ بطريقة حدية، ولا يُوجَد شيئ في التاريخ بالمُناسَبة يظهر في شكل حدي وينتهي في شكل حدي، غير صحيح! كل شيئ يظهر بشكل انبثاقي، كيف يكون انبثاقياً؟ مثل النبتة ومثل الجنين، كيف يتم الانبثاق؟ شيئاً فشيئاً وخطوة فخطوة نحو التكامل، هكذا هو! أما بشكل حدي هكذا – كَن فيكون – فهذا غير موجود، هذا غير موجود في الظواهر الاجتماعية، لعلكم تذكرون خُطبة العيد، كما لا تُوجَد ظاهرة وأد لا تُوجَد أيضاً ظاهرة حدث فردي، هذا كلام فارغ! لا تُوجَد ظاهرة اجتماعية تُفسَّر هكذا، هذا غلط علمياً!

فهو قال هذا التقليد التلقائي الآن نُريد أن نُحييه آخذين في الاعتبار أمرين، الأمر الأول لابد أن يكون التقليد المُحيا الآن والمدروس أو الواعي أو اليقظ أو الداري مُشكِّلاً استمراراً للتقليد البائد، لأن الناس أيضاً لا يقبلون أن ينبتوا عن ماضيهم بالكامل، حين تأتيهم بشيئ جديد من فراغ يرفضونه مُباشَرةً، انظر الآن – مثلاً – إلى الآتي، أين موقف الفكر الغربي أو الاعتقاد الغربي من الكتاب المُقدَّس مثلاً؟ يُوجَد بُعد – يُوجَد بُعد كبير – لكنه في البداية لم يكن كذلك، بالعكس! وُجِدَ تقارب شديد جداً جداً جداً، لأن الناس لا يبدأون من عدم، مثلاً هناك ما يُسمى بالنزعة الإنسانية – Humanism – في السياق الغربي، ما الــ Humanism؟ ماذا كان هذا الــ Humanism؟ بعثاً للماضي، الأنسنة الغربية كانت بعثاً للماضي، كانت بعثاً للتراث الإغريقي والمسيحي واليهودي والروماني إلى حد ما، بعث للماضي وأخذ لأشياء طيبة ثم إعادة تأويلها وإنتاجها، لأن فعلاً في التراث الإغريقي كانت هناك مركزية للإنسان، لا يبدأون من فراغ، لا يُوجَد شيئ من فراغ، لكن نحن أمتنا العربية مُبتلاة ببعض المُصابين بالهبل والعياذ بالله، هذا الشيئ يُجننين أُقسِم بالله! لأنهم ليسوا مُثقَّفين ولم يدرسوا شيئاً، ببغاوات! ببغاوات لا يفهمون شيئاً، هؤلاء مثل ضرب زيدٌ عمراً، هل تعرفون القصة هذه؟ تماماً! هذه الحماقة تنطبق على هؤلاء والله العظيم! ضرب زيدٌ عمراً، حين يعربها الواحد منهم يقول ضرب فعل ماضٍ وكذا وكذا، إلى آخره! وهناك فاعل وهناك مفعول، فتقول له ضرب سعيدٌ سيداً، فيقول لك ضرب فعل ماضٍ وكذا وكذا، أما كلمة “سعيدٌ” لا أعرف إعرابها وكذلك الحال مع كلمة “سيداً” على الحكاية، بعض العلماء كانوا هكذا، بعض طلّاب الأزهر كانوا هكذا، طلّاب صغار، لا يزالون طلّاباً صغاراً، لا يعرف الواحد منهم شيئاً، وهؤلاء مثلهم! درسوا مثالاً اسمه النهضة – Renaissance – أو النزعة الإنسانية – Humanism – أو التنوير – Enlightenment أو Aufklärung – الغربي، ولم يستطع الواحد منهم أن يستوعب أي شيئ غير المثال المدروس، ويأتي يُطبِّقه في غير نطاقه الجغرافي والزمني حتى، أي الكرونولوجي! ويُريد أن يُطبِّقه كما هو، هل هو مجنون؟ وإذا لم يُطبِّقه المسكين لا يجد مادة يتحدَّث فيها لا عن تنوير ولا عن نزعة إنسانية ولا عن نهضة، لا يقدر! لأنه أهبل، أحمق هذا يا أخي، هذا إنسان مُستنسَخ بليد.

هؤلاء يُريدون منا – مثلاً – أن ننقطع عن ماضينا بالكامل، يسخرون من محمد ومن الله ومن القرآن ومن عمر ومن أبي بكر ومن كل تراثنا، ثم يقولون لك ابدأ بداية جديدة والتحم بعصرك، أحمق يا أخي أنت، والله العظيم أحمق، أنت يا مَن يتحدَّث لا أعرف ما الذي لا تزال تستمسك به من قيم جيدة في الحياة، إذا كنت تستمسك – مثلاً – بقيمة اسمها قيمة الوفاء الزوجي فهذه ليست من فكرك يا أهبل ولا من فكر الغربيين، هذه من فكر مُجتمَعك الإسلامي العربي، من تقاليدنا هذه، أليس كذلك؟ انتبه! لو زوجتك أرادت أن تأخذ بأفكارك التي تأخذ بها من الآن تخونك، أليس كذلك؟ من الآن ستذهب وتُجرِّب، لماذا لا تُجرِّب يا حبيبي؟ لأن هكذا هي المبادئ في الحداثة الغربية، أليس كذلك؟ أنت تُؤمِن باحترام ابنك لك، تقول ابني يحترمني ويُطيعني وكذا وكذا، هذا ليس من الغرب يا بابا، ابنك في الغرب يضع حذاءه في وجهك، عادي! صار عندهم هذا عادياً، قبل عشرين سنة فقط كان عنهم هذا عيب، في بريطانيا بالذات إذا رفع أحدهم حذاءه قليلاً في وجه آخر يذهب به إلى المحكمة، هذا ليس إتيكيتاً Étiquette، ممنوع! لكن الآن اختلف الأمر، أمام أستاذه – رأينا هذا – وأمام شيخه يرفع حذاءه، تخيَّل! لأنه أحمق، فأنت لا تستطيع أن تفعل أي شيئ إذا انبتت من جذورك، لكن هناك مَن يعيش مفصوماً ولا يفهم ماذا يُريد، والأمان والاحترام والجدية والتقوى والرحمة وما إلى ذلك هذه كلها ليست من التراث الغربي، لم يسمع أحدك حين بشَّرت به وعرضت به، هذا من تقاليدنا ومن تراثنا نحن، أليس كذلك؟ نحن طبعاً! يُمكِن أن تكون فقيراً مسكيناً لا تجد الخُبز ومَن علَّمك هو عمك المسكين العامل الذي يشتغل كل يوم عشر ساعات، عمك! لماذا يلتزم بتعليمك عمك؟ هكذا تراثنا يقول، أنا عمه وهذا مثل ابني، هذا ابن أخي اليتيم أو ابن أخي  وهو فقير، أُعلِّمه! في الغرب صعب جداً أن يفعل أحدهم هذا لابن أخيه، يقول لماذا؟ ما علاقتي بابن أخي أنا؟ لا يفعل هذا لابنه في بعض المرات، أليس كذلك؟ ولا لابنته في بعض المرات، هنا تُوجَد بعض الحالات في النمسا – وهي كثيرة – عن هذا، يسكنون مع آبائهم فوق سن الثامنة عشرة ويدفعون أُجرة شهرية، الأب يقول لابنه – مثلاً – أنا غير مُلزَم بأن أجعلك تسكن عندي، أنا مسؤول عنك إلى سن الثامنة عشرة أمام الدولة، بعد ذلك تستقل بنفسك وتذهب خارج البيت أو تدفع لي، يُدفِّعه الأُجرة يا رجل.

المُهِم نرجع، قال تُشكِّل استمراراً وامتداداً سلساً مع الماضي، الشرط الثاني وهو ذكي جداً طبعاً – وبذكاء لاحظه كونفوشيوس Confucius – يمثل في أنه قال لكن لو كان هذا الاستمرار تمامياً تطابقياً ستفشل مُحاوَلاتنا في الإنقاذ، لماذا؟ لأن تقليد الماضي نفسه هذا هو الذي انتهى إلى ما نحن فيه، هو هكذا! أي أنه أخذ دورته والآن استُنفِذ أو استنفذ أغراضه، هل هذا واضح؟ كما قال أينشتاين Einstein، قال إذا كان جواب المُشكِلة يستند إلى السبب الذي ولَّدها فلن نصل إلى جواب، وهذا صحيح طبعاً! كيف تُريد أن تأتي بجواب من نفس السبب الذي ولَّد الإشكال؟ كيف ستأتي بجواب عن هذه المُشكِلة الاجتماعية؟ مُستحيل! فكونفوشيوس Confucius فهم هذا وكان مرناً، نعم كان يُقدِّر وربما يُبجِّل حتى الماضي لكنه فعل ذلك بذكاء، ليس بتقليدية كاملة تامة، قال على أن نُعيد مواءمة هذا التقليد بما يفي بشرط استيعاب الجديد في شروطنا وظروفنا وأحوالنا، هذا يُسمونه الآن ماذا؟ التجديد.

يجب أن نكون دقيقين، واليوم سوف نرى كونفوشيوس Confucius وهو يُحاوِل أن يُعلِّم الصينيين وربما يُعلِّمنا أن نكون دقيقين جداً جداً في ألفاظنا، اليوم تجد مُفكِّراً مُسلِماً يقول المُصلِحون الإسلاميون والمُجدِّدون والمُستحدِثون والإحيائيون، كلهم عنده بنفس المعنى! يُوجَد فرق يا أهبل، المُجدِّد شيئ، المُصلِح شيئ، الإحيائي شيئ، السلفي شيئ، والسلفي الأصولي شيئ، كلها مُصطلَحات دقيقة جداً جداً جداً، أليس كذلك؟ حتى من حيث اللُغة يُوجَد فرق بين المُجدِّد والمُصلِح، فإذا قلنا هذا الإنسان مُصلِح – أي Reformer – فالمفروض إذا كنا نستخدم الكلام في موضعه ونأتي به من مكامنه أن المُصلِح هذا ينطلق من فرضية أن الموجود كما هو صالح للعمل، لكن طرأ عليه عطب، فنُريد أن نستعيده كما هو، فيكون هذا المنظور سلفياً في النهاية، أليس كذلك؟ أو ما يُسمونه بالأصولي، هذا منظور أصولي، لا يُمكِن أن تقول لي المُجدِّد – إلا أن نعبث ونلعب – هو الذي يُعيد الشيئ إلى ما كان عليه، ليس دائماً، ليس صحيحاً، وليس شرطاً، ليس شرطاً بالمرة! هل تعرف لماذا؟ هم يأتون بمثال عن البناية، قالوا البناية نُجدِّدها، نعم يُمكِن أن نُجدِّدها لكن يُمكِن أن نُعطيها مظهراً مُختلِفاً تماماً، ما رأيك؟ طبعاً! هذا المثال يأتون به ويغروننا به ويغرون أنفسهم به، قالوا بناية! ما معنى تجديد – Renewal – البناية؟ لماذا لا نهدم البناء ونبني آخر؟ هذا سيصير بناءً جديداً، هذا بناء جديد وليس تجديداً، لكن تجديد البناء يكون بأن تزيد عنه الأغبرة والأتربة وما إلى ذلك، ثم تُعاوِد دعمه وتُقويه وتُرجِعه إلى حالته الأولى، ليس شرطاً! يُمكِن أن أستعيض بأشياء جديدة، يُمكِن أن أُغيِّر الواجهة، يُمكِن أن أُغيِّر الألوان، يُمكِن أن أُغيِّر في أشياء كثيرة، أليس كذلك؟ في الداخل أيضاً يُمكِن أن أُغيِّر الشبكات وأن أُغيِّر كذا وكذا، ويُمكِن أن أُعيد حتى مُخطَّط الشبكات بشكل أكثر عصرية لكي يخدمني أكثر، أليس كذلك؟ وكذلك الحال مع مواد الشبكات أيضاً، فهذا ليس شرطاً! التجديد عملية أكبر من هذا، ليست عملية فقط زخرافية ثم تقول لي هذا التجديد، وكذلك الحال مع التجديد في الدين.

المُهِم نرجع، قال لابد من استيفاء الشرطين، جميل! هذه كانت البداية، كيف يُمكِن ذلك؟ قال عندنا مُقدِّمة عامة، وسوف نرى تفاصيلها، المُقدِّمة العامة تقوم بالاصطفاء الفكري، لا نبدأ هكذا نحن هذه المسألة عفوياً ارتجالياً أو اعتباطياً، لابد من أن يجلس الناس الكبار – وهو واحد منهم طبعاً بلا شك بل هو كان زعيمهم إن لم يكن أوحدهم – هؤلاء وأن يُنعِموا النظر ويُطيلوا الفكر في مسألة ما هو القدر اللازم والواجب أو المُنبغي اصطفاؤه من الأفكار والقيم والمبادئ من التقليد عموماً لترميم حياتنا، لإنعاشها، ولتحسينها؟ ما هو؟ لا يُمكِن أن نقبل كل شيئ، ولا يُمكِن أن نرفض كل شيئ، أليس كذلك؟ كما قلنا لا نبدأ من الصفر، فلابد من أن ننتخب، كونفوشيوس Confucius قال هذا ضروري، ضروري أن نبدأ هذه البداية! وهذا طبعاً في مُستوى الفرد كما في مُستوى الجماعة، دائماً فعلاً شرط أولي.

قال بعد ذلك لا يكفي فقط هذا الاصطفاء والحديث عنه والتبشير به أو كتابته أو تعليمه، قال لا يكفي! هنا تأتي المأسسة، قال هنا لابد أن يتضافر المُجتمَع كله، الأسرة  في البيت، المدارس الرسمية وغير الرسمية، المعابد، المسارح، الشوارع، المحال التجارية، قال وحتى المهرجانات! كل هذا لابد أن يعكس هذه القيم المُنتخَبة، هذا شيئ جميل، وهذا فكر جميل.

هو يتحدَّث الآن عن شيئ يُمكِن أن تُسميه صناعة الثقافة، كيف تُصنَع الثقافة؟ كيف تتحوَّل العقيدة أو مبدأ أو مُنطلَق إلى ثقافة؟ هذه صناعة الثقافة، وفعلاً هكذا يتم صناعة الثقافة، وهذا يأخذ أجيالاً طبعاً، يأخذ فترات ويأخذ زمنية طويلة كما يقول علماء الاجتماع، يأخذ زمنية طويلة لكن هذه البداية الصحيحة.

قد تقول لي هذا أيضاً يقتضي لو أنعمنا النظر في باطنه نوعاً من الإرادة السُلطوية أو السياسية، أليس كذلك؟ زماننا هذا يقتضي أكثر طبعاً تدخل الإرادة السياسية، لماذا؟ لأن الإرادة السياسية أصبحت تقريباً مُحتكِرة حصرية لكل شيئ، تحتكر التعليم والإعلام والاقتصاد وتحتقر الثقافة حتى بصراحة إلى حد بعيد جداً، أيام كونفوشيوس Confucius لم يكن الأمر كذلك، وُجِدَ نوع من الفصل النسبي أو من الحرية النسبية لهذه القطاعات، هو قال لابد كلها تعمل في وقت واحد مُتآزِرة مُتضافِرة على صناعة هذه الثقافة الجديدة، التي هي نوع من التجديد والإحياء للموروث القديم للتقليد التلقائي، لكي يُصبِح مدروساً وينتهي بعد حين – بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة – بتقليد تلقائي، يُصبِح سلساً ويُصبِح سهلاً جداً جداً على الناس، في البداية يكون صعباً، كما في حياة الفرد، كما قلنا عن الآلة الطابعة وما إلى ذلك، فقال لابد من اتخاذ هذه الخُطوة!

هناك طبعاً خمسة معالم أصيلة في فكر كونفوشيوس Confucius تُفصِّل لنا هذه الجُملة العامة والتي قلناها كمُقدِّمة، المبدأ الأول يُسمى بالجين Jen، يُسمونه الجين Jen! ما الجين Jen هذا؟ هذا يا إخواني يأتي بمعنى العلاقة الرشيدة الطيبة مع الآخرين، هكذا يُمكِن أن نُترجِمه، وهو تركيب من كلمتين، جُزء مأخوذ من كلمة إنسان عندهم بالصينية وجُزء مأخوذ من كلمة اثنين، إذن من كلمتي إنسان واثنين، أي ليس الإنسان وحده، الإنسان ومعه آخرون، فالجين Jen هذا في فلسفة كونفوشيوس Confucius الاجتماعية هو تعبير عن هذا، بمعنى الإحساس بالآخرين، مُراعاة الآخرين، إدراك أنك تعيش وتتحدَّد هويتك بالآخرين وضمن الآخرين، أي باجتماعيتك!

بعض العلماء الشرّاح لهذه الفلسفة قال يُمكِن أن نُترجِم هذا سلبياً – هناك ترجمة إيجابية وهناك ترجمة سلبية، قال يُمكِن أن نُترجِم هذا سلبياً، الترجمة نفسها سلبية وليس الشيئ نفسه هو السلبي – بالقول المأثور جداً عن كونفوشيوس Confucius: لا تأت إلى الآخرين ما لا تُحِب أن يأتوه إليك، وهذا شيئ سلبي! أنا قلت في خُطبة – لكنني نسيت هذا – أن التعبير النبوي فيه شيئ مُتفرِّد عن كل مَن ذكرنا باستثناء تقريباً تعبير عيسى عليه السلام، ما هو؟ كلها باستثناء تعبير عيسى تعابير سلبية، لا تفعل، لا كذا، لا كذا، ولا كذا! رسول الله لم يقل هذا، ماذا قال؟ حتى يُحِب لأخيه، تعبير عظيم جداً جداً، المسألة ليست في أنني سأكف شري عنك وما لا أُحِب أن يقع لي لن أُحِب أن يقع لك، لا! هذا نصف الخير بصراحة، ونصف السلامة هذا ونصف التكامل، لا! ليس هذا فحسب، أنا سأُحِب لك ما أُحِب لنفسي، وطبعاً أنا لا أُحِب لنفسي الشر، فالسلبي يدخل في الإيجابي قطعاً، أليس كذلك؟ السلبي يدخل في الإيجابي، فتعبير النبي أكمل بكثير، ولذلك دستور هذه القاعدة الذهبية بصراحة هو الحديث النبوي، إذا العالم الآن أراد أن يُنتخِب تعبيراً كثقافة عالمية فلابد أن ينتخب تعبير محمد، ليس تعبير كونفوشيوس Confucius ولا تعبير بوذا Buddha ولا تعبير التوراة ولا تعبير زرادُشت Zoroaster ولا تعبير كذا وكذا، تعبير رسول الله محمد، النبي العربي! قال حتى يُحِب لأخيه ما يُحِب لنفسه، تعبير إيجابي هذا، ليس سلبياً!

فالجين Jen تعبير سلبي عن هذا، كما قال كونفوشيوس Confucius لا تأت إلى الآخرين ما لا تُحِب أن يأتوه إليك، جيد! الآن قال هذا الجين Jen يُترجَم في شكل عملي شخصي عياني، الشخص الذي ينعكس فيه هذا الروح وهذا المزاج يُسمونه تشون تسو Chun-Tzu، ونحن رأينا أن كلمة Tzu معناها المُعلِّم، فهذا يصير مُعلِّماً، من الناس الذين يقدرون على وضع أُسس للمُجتمَع، تشون تسو Chun-Tzu! ما هو التشون تسو Chun-Tzu؟ هو الترجمة العملية الشخصية العيانية لمبدأ الجين Jen، هو هذا!

ولذلك يُترجَم تشون تسو Chun-Tzu بالشخص السامي النبيل أو الشخص السامي الخيّر أو بشيئ كهذا! هذا الشخص – قال كونفوشيوس Confucius – من أهم خصائصه أنه ينطلق دائماً من احترامه لنفسه الذي يُلزِمه احترام الآخرين، وهذا معنى عميق ومُمتاز اجتماعياً، لا يُمكِن أن تجد شخصاً يحترم الناس إلا وهو في ذاته مُحترَم، أنا أقول لك هذا! المُحترَم يحترم، قد يقول لي أحدكم هذا مبدأ عادي، مبادئ الكونفوشية كلها عادية لكن أيضاً فيهما عمق، وهذا مبدأ عادي لكن فيه عمق شديد جداً جداً، أي لا يُمكِن أن يظفر أحد بنيشان أنا مُحترَم وهو لا يحترم الناس، كذّاب هذا، ليس مُحترَماً هذا! الذي يتطاول على الناس ويُحرِج الناس ويكسر خواطرهم ويُبهدِلهم ويتعدى على أعراضهم ويتكلَّم في أعراضهم وفي ظهورهم بل في وجوههم حتى ويُخيّبهم – إلى آخره – هو إنسان غير مُحترَم يا جماعة، غير مُحترَم! هو في ذاته غير مُحترَم، وأكيد في ذاته هو إنسان مُخفِق وفاشل وناقم على نفسه، طبعاً هو ناقم على نفسه أشياء مُحدَّدة في شخصيته، لا يقدر المسكين على التخلص من رقها، بخلاف المُحترَم الذي يرضى عن نفسه وعن قدره، وهذا طبعاً لا يتقاضى بل يتحسس جداً جداً جداً لمُحترميته، لا يسمح لأي إنسان تحت أي ثمن وتحت أي ظرف أن ينال من مُحترميته، عنده سُمعته وشرفه وماء وجهه بالدنيا وما فيها، يخسر ماله لكن لا يخسر احترامه لنفسه أو احترام الناس له، لا يرضى بهذا! لا يُمكِن أن يضع نفسه في موقف مُحرِج فتنظر إليه الناس إليه ولو في الباطن على أنه شخص حقير أو نذل أو سافل أو مُنحَط، لا يُمكِن! كيف؟ يُمكِن أن يكون صاحب سُلطة معنوية أو مادية على الناس أو على مَن حوله – على الفرقة التي حوله – ثم يحدث خصام، نفترض حدث خصام حول حقوق أو حول أموال أو حول أي شيئ، هذا الشخص المُحترَم – أنا أقول لك – يُمكِن أن يعرف نفسه من بيقين أنه صاحب الحق وأنه المظلوم، لكنه يقول لا، والله يبدو أن خللاً ما حدث في الحساب، كم لك أنت يا أخي؟ فيقول لي ثلاثة آلاف زائدة، فيقول له هذا صحيح، أضبطت هذا أنت لأنني لم أضبطه؟ يقول له ضبطته، فيقول له تفضل الثلاثة الآف، وهو يعرف أن هذا الكلام كله فارغ وقد ضبط هذا بنفسه جيداً، فلماذا فعل هذا إذن؟ لا يُريد أن يُناضِل ولا يُريد أن يُجاهِد حتى لا يقع بعض الناس في ظن أنه استغل سُلطته وهيمنته وتغوَّل حقوق الناس، لا يرضى بأن يخطر هذا على بال الناس حتى لا يُفكِّروا فيه بهذه الطريقة، يقول لا، أخسر مالي ولا أخسر احترامي عند الناس، وأنا أعرف بعض الناس الذين هم هكذا، وهم قلة قليلة رأيتهم في حياتي، وفعلاً يخسر الواحد منهم ماله والله العظيم، يخسر مالاً كثيراً، لماذا؟ يقول لك من أجل احترامي، لا أُريد أن أخسر احترامي، لكن بعض الناس تفعل العكس تماماً، لا أقول الواحد منهم يخسر بل هو مَن يشتري خسارة احترامه ويُؤكِّدها ويُبرهِنها ولا يلوي على شيئ، ومثل هذا ينطبق عليه قول المُصطفى إذا لم تستح فاصنع ما شئت، الذي لا يستحي – لأنه إنسان غير مُحترَم، هو إنسان غير مُحترَم – يفعل أي شيئ، انظروا النبي ماذا قال؟ الذي لا يستحي أي شيئ يُمكِن أن يفعله، ما لا يخطر على بالك الآن يفعله، لا تقل هذا لا يستحي لكنه يتورَّع، لا يتورَّع! يفعل أي شيئ، في الوقت المُناسِب يفعل أي شيئ، ما رأيك؟ يسرق هذا، يزني، يشرب الخمر، ويشتغل عميلاً لإسرائيل، عادي! يفعل أي شيئ هذا لأنه غير مُحترَم، والشخص المُحترَم وصفه كونفوشيوس Confucius بماذا؟ قال تشون تسو Chun-Tzuهذا دائماً وفي لمبادئه وإن تخلى الناس عن المبادئ، لا يتخلى هو! يقول لا، هذه مبادئ، مُستحيل التخلي عنه، لأن مبادءه في نهاية المطاف هي شخصيته، هي كيننونته، هي ذاته! لا يقدر على التخلي عنه، إذا تصوَّر أنه يُمكِن أن يفنى أو ينتحر أو يقتل نفسه فإنه يُمكِن أن يتخلى عن مبادئه، أما إذا كان لا يرغب في الفناء فلا يُمكِن أن يتخلى عن مبدئه، وأنا أزيد أيضاً وأقول لكم مثل هذا الشخص يتصرَّف بسهولة وبسلاسة، أنتم ترون أن هذا قد يكون صعباً جداً وتقولون كيف نفعل هذا؟ لكن هذا عادي، بالنسبة له – العكس – الصعب جداً ألا يفعل ذلك، الصعب عليه جداً جداً جداً أن يفعل العكس، في حين أن السهل على الناس جداً أن يفعلوا العكس، هو لا يفعل هذا!

أنا أعرف الآن – هذا حدث قريب جداً جداً – أخوين لي في الله، أحدهم لا يرد مَن جاءه في طلب مُساعَدة أو قرض، إذا عنده فلا يُمكِن أن يقول لك لا، أنا أعرف بعض الناس الأكرم من هذا نفسياً، إذا اقترضت منه وليس عنده فإنه يقول لك عندي بعون الله، غداً سأُعطيك، يقترض ويُعطيك، سُبحان الله! ليس عنده إمكانية أن يقول لأي أحد لا، ما هذا؟ نفوس عجيية نادرة، هذا الشخص لم يصل ربما إلى هذا المُستوى – الله أعلم – لكنه لا يرد أحداً، لذلك هو أقرض العشرات بل المئات، أعطى مبالغ كبيرة، من خمسة آلاف إلى ثلاثين ألفاً، إذا عنده فإنه يُعطي دائماً! وأقرض هذا الشخص – الأخ الثاني – مرات عديدة، في إحدى مرة أعطاه خمسة وعشرين ألفاً، عادي! أحوجته الظروف قبل فترة بسيط ليقترض من هذا الأخ، وهذا الأخ الآن يمتلك مبلغاً هائلاً، فكلام فارغ بالنسبة إليه أن يُعطي عشرة آلاف، لا شيئ هذا عنده، لا يشعر بهم! قال له يا أخي أنا أحتاج إلى عشرة آلاف لمدة شهرين أو ثلاثة على الأكثر، مُدة قصيرة جداً، أقل بكثير من المُدة التي كان يقرض فيها الناس، فقال له مرحباً، يا حيهلاً، سأُعطيك دون أي مُشكِلة إن شاء الله، لكن أنا عندي بعض الأشياء التي أُريد أن أفعلها فذكِّرني بعدها، ذكَّره وذكَّر ذويه مرة أُخرى بأنه يُريد كذا وكذا، لأنه يُريد أن يُسدِّد بعض الديون والأشياء، وجاء الرجل هذا بعد أن ذُكِّر من أهله وكأنه لم يسمع شيئاً، كأنه لم يقطع وعداً، هو يُريد أن يُعطيه قرضاً، هذه ليست صدقة يا حبيبي وليست هدية أنت تُعطيها، أنت تُعطي قرضاً لمَن أعطاك القرض مرات عديدة يا حبيبي، أعطاك ما هو أعظم من قرضك! 

جاء وجلس في بيته وتعشى عنده وأكل وشرب وتجشأ وكأنه لا يعرف شيئاً، ما هذا؟ وطبعاً شخص مما له علاقة بالمسألة كلها علَّق بكلمة واحدة، قال يبدو أنه امرؤٌ لا يستحي، فقلت له بالضبط، هذه هي القضية كلها! إذا لم تستح فاصنع ما شئت.

وطبعاً البطانة الحقيقية لهذا التعبير “امرؤٌ لا يستحي” أنه امرؤٌ لا يحترم نفسه، امرؤٌ ليس مُحترَماً، هذا شخص غير مُحترَم، لذلك – أنا أقول لك – لا تُراهِن على مثل هذا الشخص في أي أمر، هذا ليس له أمان والله العظيم، أُقسِم بالله! هكذا أنا في الأشياء هذه جمعي Collective، لكن مثل هذا الشخص ربما لا يستعف لا عن عرض ولا عن مال ولا عن أي شيئ، هذا شخص ليس له أساس، لا أعرف كيف! شخص هش جداً وضعيف، غير مُحترَم! وهذه كلمة كبيرة بالمُناسَبة، أف! غير مُحترَم هذه كلمة خطيرة جداً لو فهمها الواحد منها، هذا شخص غير مُحترَم، الشخص المُحترَم مُحترَم في نفسه ومُحترميته هذه – كما قلت – دونها حياته، يُقدِّم حياته ولا يفقد مُحترميته، وفي نفس الوقت وبطريقة تلقائية ومفهومة يحترم الآخرين، لماذا إذن؟ لأن الإنسان في نهاية المطاف – صدِّقوني – يُعامِل الناس بالمنطق الذي يُؤمِن به، بمبادئه هو! ومن مبادئه هو أن يبقى دائماً مُحترَماً ويعرف قيمة أن تكون مُحترَماً وهو يظن أن كل الناس حريصون على مُحترميتهم فيُعطيهم هذا، حتى يُعطي السخفاء وقليلي الأدب مُحترَمية، يُخاطِبهم بشكل لائق ويُعامِلهم بشكل لائق، المسكين يظن أنهم حريصون جداً على ذلك، بعض الناس ليس كذلك، يقول لك الواحد منهم لا تحترمني ولا أحترمك، اضربني بالحذاء لكن أعطني مائة يورو، والله العظيم! بعض الناس هكذا منطقهم، شيئ لا يُصدَّق يا أخي، وأنت ترى أن الإنسان الذي يحترمه ويُوقِّره لا يُقيم له وزناً، والإنسان الذي يُعطيه بالكف على وجهه لأنه أعطاه عشرة يورو يقول عنه إنه مُمتاز، يقول لك مُمتاز يا أخي هذا! وأنت تكاد أن تُجَن، ما هؤلاء البشر؟ ما الذي حصل للناس يا أخي؟ هذا ليس الإنسان، الإنسان لا يكون هكذا!

فالتشون تسو Chun-Tzu هو هذا، هو هذا الشخص المُحترَم في ذاته، الذي يحترم الآخرين ولا يتساهل في مبادئه، لا يتخلى عنها! ويتصرَّف بسهولة كما قال إيمرسون Emerson، قال القوي يتصرَّف بسهولة، والضعيف يتصرَّف بسهولة، أرأيت؟ فالمُنحَط ينحط بسهولة، من غير مُعاناة أخلاقية، والقوي يتعالى دائماً بسهولة، لأنه قوي أخلاقياً، أرأيت كيف؟ هذا قوي، كل واحد يتصرَّف بسلاسة مع طبيعته، مَن طبيعته قوية تسلس له، ومَن طبيعته ضعيفه يسلس لها، مُباشَرةً هكذا المنطق!

يقول كونفوشيوس Confucius أو تَلاميذه التشون تسو Chun-Tzu هذا لا يزدهيه عُجب ولا غرور إذا نجح وتفوق أبداً – يبقى في نفس تواضعه ومُحترميته، عادي! كأنه لم يفعل أي شيئ – ولا يُصاب بيأس أو إحباط أو بجزع إذا فشل أو خاب، لماذا إذن؟ مَن يقول لي ما الناظم؟ مع أن الله وصف الإنسان عموماً الذي لم يتأنسن بالإيمان بالهلع، قال إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۩، هذا ليس التشون تسو Chun-Tzu، التشون تسو Chun-Tzu هذا كأنه المُؤمِن عندنا، مَن يقول لي ما الناظم؟ ما الجامع المُشترَك بين هذين الشيئين؟ إذا نجح فإنه لا يزدهيه عُجب وما إلى ذلك، وإذا فشل فإنه لا يتكسَّر أو يتحطَّم، يبقى كما هو أيضاً، فتستغرب أنت! في الحالتين عنده حالة التوسط هذه والاعتدال، (ملحوظة) أجاب بعض الحضور عن سؤال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، فقال لهم نُريد أن نعرف بعمق لماذا، ثم قال لثلاثة من الحضور الكلام كله – كلامكم أنتم الثلاثة – فيه جامع مُشترَك وهو الغنى الذاتي، كما قلت أمس في الخُطبة وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، انتبهوا! أُريد أن يتعمَّق هذا المعنى عندكم وعندي، إذا الإنسان غناه ذاتي – من كينونته ومن ذاتيته – فالنجاح يبقى في العموم شيئاً خارجياً والفشل أيضاً يبقى شيئاً خارجياً، انتبهوا! نحن نتحدَّث عن النجاح، نجاح – مثلاً – في دراسة أو في تجارة أو في علاقة زوجية، تزوَّج واحدة ثم فشل معها وما إلى ذلك، كل هذا خارجي، هذه أشياء مُتخارِجة! الغنى الذاتي شيئ ذاتي، انتبهوا! هذا ذاتي، هو تكوينه هكذا، هل تعرفون ما الذاتي؟ وما الخارجي؟ مثل الذهب الآن، الذهب ذهب، أليس كذلك؟ إذا شكَّلته بالشكل هذا أو بالشكل هذا أو بالشكل هذا فإنه يبقى ذهباً، إذا وضعته في النار فإنه يتذهَّب أكثر، أليس كذلك؟ ينتفي خبثه، إذا وضعته في الثلج فإنه  يبقى ذهباً، إذا وضعته في وعاء خشبي فإنه يبقى ذهباً، أينما تضعه يبقى ماذا؟ ذهباً، لماذا؟ لأنه في ذاته ذهب، بعض الناس ببذكاء شديد جداً لكنهم غير واعين به طبعاً – هؤلاء غير واعين به – يقولون فلان ذهب، النبي عبَّر عن هذا بقوله الناس معادن، هو هذا! يتحدَّث عن الذاتيات، الناس معادن! مَن معدنه ذهبي يبقى ذهباً، أليس كذلك؟ إذا لطخناه بالتراب أو بالطين أو بأي شيئ أو لوَّنه بلون ثانٍ كلون القهوة والبُن فإنه يبقى ذهباً يا حبيبي، ويتصرَّف كذهب! فالحديد يصدأ لكن الذهب لا يصدأ، لأن هذا حديد وطبعه هكذا لكن هذا ذهب ولا يصدأ، رُغم أن هذا الصدأ عامل خارجي لكنه لا يصدأ، لا يتفاعل مع الأكسجين Oxygen وما إلى ذلك، فهذا الغنى الذاتي، الشخص ينبغي أن يكون غنياً ذاتياً، طبعاً لا يُولَد إنسان غنياً ذاتياً هكذا بحسب كونفوشيوس Confucius وبحسب حتى الأديان كلها، هذه طريق تكامل، لماذا قلنا اليوم نحن إن من الضروري جداً جداً إعادة اختبار مبادئنا ومُنطلَقاتنا وتصرفاتنا؟ لابد من أن تزن نفسك، واجعل أشد الحساب لنفسك – والله العظيم – وأشد الصدقية مع نفسك، إياك أن تُخادِع نفسك، لكي تقدر على التكامل، سوف تصير أحسن بكثير بإذن الله، فهو قال التشون تسو Chun-Tzu هكذا، لا يُعجَب ولا يُحطَّم، هل تعرف السر ما هو؟ غناه الذاتي، حين يكون غير غني ذاتياً يطلب دائماً الغنى من الخارج ويغتني بالخارج، وطالما الخارج موجود هو مُنتشٍ وغني الآن، لكن الخارج عنده طبيعة زوالية، أليس كذلك؟ الآن هو فرح في حفلة تتويج أو في حفلة تكريم، الناس يُصفِّقون له وهناك كاميرات – Cameras – وإضاءة وما إلى ذلك، لكن هذا لا يدوم يا حبيبي، والله لا يدوم لأي أحد، لم يحدث أن ملكاً ما أقاموا له حفلاً استمر – مثلاً – لعشرين أو ثلاثين سنة، لا يُمكِن يا أخي! قد تستمر الأحفال إلى شهر أو شهرين أو ثلاثة، وهذا للملوك الكبار، لكن الناس المساكين من أمثالنا لا يحدث معهم هذا إذا تخرج الواحد منهم وفعل شيئاً كبيراً، حتى الاحتفال جائزة نوبل Nobel كم يستمر؟ ثلاث ساعات، يُلقي خطاباً ويُلقون خطاباً وكذا وكذا ثم يُقال له مع السلامة، يذهب وينتهي كل شيئ ويُغلَق المسرح، هل لأننا سنُعطيك نوبل Nobel سنحتفل بك لمدة ثلاث سنوات؟ لا فائدة! هو هكذا، لذا هو يزعل فيما بعد، يُصوِّرونه ثم يذهب، يُريد نوبل Nobel مُستمِرة، لكن لا تُوجَد نوبل Nobel مُستمِرة، أليس كذلك؟ هناك مَن عقد صفقة ما – مثلاً – وربح اثنين مليون دولار، لذا يفرح وما إلى ذلك، جيد! ثم يحكي هذا للناس، ثم ينتهى من حكايته، فماذا بعد؟ سيضعهم في البنك Bank، وماذا بعد؟ وضعه وانتهى هذا الشيئ، هذا هو! هذه اللحظة زالت، لحظة الفرحة وانبهار الناس باثنين مليون دولار – يقولون الله أكبر وما إلى ذلك – زالت، لن ينهبر كل واحد حين يراك بالاثنين مليون ويصيح قائلاً الله أكبر، هذا يُسمونه هبل، لن يحدث الكلام هذا، هذا حدث مرة واحدة وانتهى الأمر يا حبيبي، وهكذا في كل شيئ! بخلاف الغنى الذاتي، تنام مع نفسك وتقوم مع نفسك وتحلم مع نفسك وتُسجَن في زنزانة مع نفسك، يضعونك في سماء أو في أرض أو في جنة أو في قبر أو في آخرة بعون الله مع نفسك، ستظل مُطمئناً! الله سماها النفس المُطمئنة، ما معنى أنها مُطمئنة؟ لا تتحرَّك، لا تتزلزل، مثل الجبل! الجبل مُطمئن، أليس كذلك؟ وكذلك الأجسام الضخمة المُطمئنة على الأرض، لا تقف ولا تمشي، مُطمئنة! وهذا مُطمئن، عاش أو مات أو أُحييَ أو بُعِث هو مُطمئن، هذه نفس مُطمئنة، لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، حتى يوم القيامة هو مُطمئن بإذن الله، يعرف نفسه! نعم لم يفعل أشياء كبيرة وما إلى ذلك ولم يكن عبقري التاريخ لكنه يعرف من نفسه أنه نظيف، مُنطلَقاته نظيفة وأفعاله نظيفة، الشيئ الذي أعطاه وفعله وعمله كعبادة كان يعمله لله بصدق، وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۩، الارتكاز والغنى ذاتي! أرأيتم؟

أنا أعرف أن كل واحد فيكم – وأنا منكم – سوف يقول يا حسرة، والله هذه أشياء بسيطة وواضحة لكننا – والله – لسنا كذلك، وأنا دائماً لست كذلك، وهذه ليست مسألة سهلة، وطبعاً هي ليست سهلة، ليست سهلة بالمرة! سوف ترون أن كثيراً جداً مما يفعله بعض الناس بل أكثر ما يفعل لا يفعله تثبيتاً من نفسه، يفعله للخارج وبالخارج وفي الخارج، هو دائماً طيّار – يطير كالطائر – عن نفسه، بعيد جداً عن نفسه المسكين هذا، وهذا الذي يهتز بسرعة وهذا الذي يتخلخل بسرعة وهذا الذي تتمايز مواقفه، مرة يطلع ومرة ينزل ومرة تجده راضياً ومرة تجده غاضباً، ما رأيك؟ ومن الصعب أن تثق به، اليوم يُحِبك وغداً يكرهك، اليوم يُثني عليك وغداً يذمك، هذا يُسمونه المزاجي Temperament! لأنه شخص فارغ، أنا أقول لك هو فارغ، لذلك هذا لا تنتظر منه أي شيئ، تقييمه حتى لك هو تقييم فارغ، لا تحتف به أبداً، وهذا مُبارَكته مثل لعنه، إذا كانت واعياً فلا تهتم به أيضاً، وحين يهتف بك كما يهتف بموتك لا تهتم به، فارغ هذا!

يقول كونفوشيوس Confucius التشون تسو Chun-Tzu هم الذين يُؤسِّسون لخلق مُجتمَع سليم، وهذا صحيح! فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۩، لأن الزبد خارج، الموج من الزبد، هذه الظاهرة يقولون عنها ظاهرة زبدية، بعض الأضغاث والريش والأشياء وما إلى ذلك مع الحركة تطلع إلى أعلى وتنتفش، كل هذا يذهب ويطير! وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۩، الجين Jen – وترجمتها الشخصية الإنسانية العيانية – والتشون تسو Chun-Tzu – قال كونفوشيوس Confucius – هؤلاء هم المُهيئون واللائقون بوضع أُسس أو بخلق أُسس مُجتمَع سليم، هم هؤلاء الناس! وفعلاً يا أخي أن تستغرب – كما قلنا اليوم – من هذا، ما معنى أن كونفوشيوس Confucius هو أبو الثقافة وأبو الروح الصينية عبر ألفي سنة؟ مَن الرجل هذا؟ ماذا فعل يا أخي؟ ماذا كان هذا الرجل؟ هل هو فيلسوف كبير مثل أرسطو Aristotle؟ لا، ليس عنده فلسفة مثل أرسطو Aristotle أبداً أو أفلاطون Plato أو غيرهما، لا! أشبه بسقراط Socrates، كان يطرح فقط أسئلة، أشبه بسقراط Socrates جداً، أنا أُسميها الروح السقراطية لكونفوشيوس Confucius، شبيه جداً به، وتقريباً هما مُتعاصِران إلى حدٍ ما، في نفس العصر تقريباً! فهو شبيه بسقراط Socrates إلى حد بعيد جداً جداً، ليس عنده فلسفة أو نظام أو مذهب – System – مُتكامِل يُفسِّر كل شيئ، لا! وكما قلنا هو رأى الحكمة في طريقة التصرف والعيش، فلسفة اجتماعية للناس، هذه هي الحكمة! ليست قضايا ماورائية وما إلى ذلك، هكذا حياته الرجل هذا، فلماذا؟ لماذا له كل هذا التأثير؟ لأنه تشون تسو Chun-Tzu، هو تشون تسو Chun-Tzu! هو إنسان فعلاً استطاع أن يستوعب كينونته الفردية الاجتماعية، أنا فرد في مُجتمَع!

كان يسخر من النُساك والزُهّاد وكانوا يسخرون منه طبعاً، هم لم يُحِبونه أيضاً! وكان يقول أنا لا أرى للفضيلة معنى في المُعتزَلات، أي أن تذهب وتعتزل في جبل وما إلى ذلك، لا يُمكِن أن تتحدَّث عن فضيلتك، كيف تقول لي فضيلتي كذا وكذا؟ فضيلة ماذا؟ كلام فارغ! أهذه فضيلة صدق؟ أهذه فضيلة أمانة؟ أهذه فضيلة عفة؟ أهذه فضيلة صدق؟ هذه فضيلة صدق مع مَن؟ هذه فضيلة عفة عن ماذا؟ هذه فضيلة أمانة على ماذا؟ أنت تعيش وحدك كطرزان Tarzan في الغابة، كلام فارغ! ليس عندك أي فضيلة، فضيلتك في أن تكون إنساناً في المُجتمَع، تعيش في المُجتمَع وتُجرَّب وتُمتحَن وتُختبَر ودائماً تنجح وتكون ذهباً، هذه فضيلتك! أو تتكامل وتتعلَّم من أخطائك، تتعلَّم من تجارب وإيحاءات الآخرين، هذه فضيلتك! ليست فضيلتك في العيش وحدك ثم تأتي وتقول أنا إنسان فاضل! لست فاضلاً – قال له – أنت، وهو لا يقدر على أن يفهم الإنسان خارج المُجتمَع، أي أنه مثل أرسطو Aristotle حين قال الإنسان كائن اجتماعي، هو قال هذا أيضاً، فلسفته هذه تُؤكِّد اجتماعية الكائن الإنساني، أنت لك دور في الاجتماع، أرنا شُغلك في المُجتمَع، في غير هذا لا أهتم بك.

ماذا بعد؟ عندنا العنصر الثالث، بعد الجين Jen هذه والتشون تسو Chun-Tzu عندنا اللي Li، ما اللي Li؟ تُترجَم أيضاً باللباقة واللياقة والكياسة، أي الشيئ الذي يُسمونه في أوروبا هنا بالإتيكيت Étiquette، كيفية التصرف مع الناس! كيف تتصرَّف مع الناس؟ تتصرَّف باحترام، بنُبل، بمجادة، بأدب، بإحساس، وبرونق، تعرف كيف تتكلَّم، كلامك! كيف تُؤشِّر؟ كيف تنظر؟ كيف تُعلِّق؟ بعض الناس في مواقف مُعيَّنة تشعر أنه إنسان ينتمي إلى طبقة مُعيَّنة، غير مُتعلِّم لهذه الأشياء، قد تقول لي هذه أشياء ظاهرية، لكنه عُنيَ بها، ونحن قلنا حتى في كلامنا عن الطاوية وغيرها أيام حتى الأديان الهندية إن كونفوشيوس Confucius عُنيَ إلى حد انتُقِد عليها بماذا؟ بالرسميات، وهذا من الرسميات، لكنه اعتنى بها كثيراً، طبعاً ليس لأنه غافل عن المُبالَغة هنا والإفراط ولكن لأن الرجل فلسفته كلها اجتماعية، هي ليست فلسفة روحية، ليست فلسفة البحث عن الله وعن قوى الكون، لا! هذه فلسفة ضبط العلاقات في المُجتمَع الواحد، رجع واهتم بالأشياء هذه أكثر مما اهتم بها الطاويون والهندوس والبوذيون هناك – مثلاً – في الهند، اهتم بها أكثر! 

أحد الأساقفة هنا في أوروبا في العصور الوسطى ماذا قال؟ قال التصرف بكياسة هو ما يجعل الإنسان إنساناً، أي أنه بالغ وهو أُسقف، رجل دين! قال حين تتصرَّف بكياسة تكون إنساناً، وهذا الآن يجد أيضاً سناده العلمي في بعض الدراسات العصبية والفسيولوجية، وطبعاً هناك دراسات نفسية! كيف؟ أنت الآن حين تتصرَّف كإنسان مُحترَم تبدأ تستحيل مُحترَماً فعلاً وتُصدِّق نفسك، يُمكِن أن يُوجَد شخص غير مُحترَم، نشأ في أسرة نقدر أن نقول عنها إنها من طبقة مُتدنية، لا يضبطون ألفاظهم ولا حركاتهم ولا كذا وكذا، لكن هذا بدأ يتعلَّم الشيئ هذا، وظل يتصرَّف ويمُثِّل هذا الشيئ، سيجد نفسه بعد قليل أو بعد حين اكتسب هذا الشيئ وأصبح ربما بتلقائية يتصرَّف به، فيصير إنساناً مُحترَماً، حاول! قد تقول لي النبي قال هذا، وهذا صحيح، نعم قاله، وقاله بشكل واضح وجميل جداً جداً وأحسن من الكلام هذا، قال إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومَن يتصبَّر يُصبِّره الله، ومَن يستعف يُعِفه الله، جميل جداً، كلام عجيب، هو هذا! فلا تقل لي عكس هذا، هذا صحيح! هناك أناس صبورون بالفطرة، بالجينات Genes! عندهم نوع من الهدوء والصبر، بعض الناس عنده لياقات علمية رهيبة بالفطرة، ومن وهو صغير تجده هكذا، شيئ عجيب! بعض الناس عنده حلم بالفطرة، مثل أشج عبد القيس، أليس كذلك؟ عنده هذا الحلم والأناة، وقال له خُلقان جبلت عليهما، يُوجَد مثل هذا! لكن بعض الناس ليس عنده هذا، هو عصبي Nervous وما إلى ذلك – الله خلق هذا المسكين هكذا – لكنه يُحِب أن يصير حليماً، النبي قال له تقدر لكن ليس بضربة واحدة، بالتفعل! حاول أن تُمثِّل، مثِّل دور الحليم، اكظم غيظك! وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ۩، هم مغيظون، شعروا بالغيظ فعلاً، لكن هل كل شيئ تشعر به تُعبِّر عنه؟ قد يقول لي أحدكم نعم، أنت علَّمتنا يا شيخ عدنان أن عندنا حُرية التعبير الانفعالي، لكن هذا سيُرجِعنا إلى كلامنا عن ضبط الألفاظ، لا يُوجَد شيئ اسمه حُرية وما إلى ذلك بالمُطلَق، كل شيئ له حدوده، كل شيئ حدود مضبوطة! تضبطها ضوابط مُعيَّنة، إما دينية وإما ذاتية وإما اجتماعية وإما أعراف وتقاليد – وطبعاً هي أوسع من الاجتماع – وإما غير ذلك، هذا موجود فلا تقل لي غيره، وهناك دليل على هذا، فلو كان عندك حرية تعبير انفعالي لذهبت في ستين داهية من الساعة هذه إلى يوم القيامة، لماذا؟ قد تمشي وتشتهي امرأة، فتقول أشتهي هذه المرأة والله، أعجبني صدرها، أعجبني ثديها، فيُقال هل أنت مجنون؟ لعنة الله عليك! الناس سوف يبصقون عليك، أليس كذلك؟ قد تقول والله أشتهي أن أراها عارية، لأنك هكذا تشتهي فعلاً! لكن أتقول هذا؟ كذب! مَن يقول إن عندي حرية تعبير عن كل شيئ؟ قد تقول أنا أشعر الآن بالحنق عليك يا شيخ عدنان، أشعر بالحنق لسبب مُعيَّن! قد تقول هذا، أشعر بالحنق على الشيخ عدنان، لكنهم سوف يضربونك! قد تقول انزل من على المنبر لأنني الآن أشعر بالحسد لك، لكنهم سوف يضربونك! غير مُمكِن أن تُعبِّر عن كل شيئ في نفسك، أليس كذلك؟ غير مُمكِن، كذب! فهناك حدود وهذا معروف، ومن ثم التعبير أيضاً له حدود، ليس بلا حدود، لا تقل لي أنا عندي حرية التعبير الانفعالي، لكن يُمكِن أن تُمثِّل، لا تُوجَد مُشكِلة يا أخي، حين تشعر بالغيظ قل أنا لن أُعبِّر عن غيظي الآن، أُريد أن أُعبِّر عن شيئ عكسه تماماً، وهو أنني حليم وراضٍ بالشيئ هذا وصابر عليه، وأنت لست صابراً ولا عندك أي شيئ، تشعر بالغيظ! لكن مرة على مرة على ألف مرة – سُبحان الله – سوف يُصبِح هذا طبيعة ثانية لك، ألم يقولوا العادة طبيعة ثانية؟ ألم يقولوا هذا؟ العادة طبيعة ثانية، ومن ثم ترجع، لكنك قد تقول لي أنت حكيت لنا عن كعب الأحبار أنه قال المُتخلِّق إلى أربعين ثم يعود إلى خُلقه، وأنا أقول لك في ظرف علمي دقيق جداً جداً جداً أنا لا أُؤمِن بهذه النظرية، وأنا انتقدتها قبل ربما سنتين أو ثلاث في خُطبة لي عن العلاج السلوكي، وأنا قلت في الخُطبة أيضاً الفلسفة التحليلية النفسية تُؤمِن بماذا؟ بأنه Too late أو Zu spät، تلخيص ما قاله فرويد Freud كله: Too late، يقول لك ضاع عليك هذا، ولذا هو يُجننا! فرويد Freud هذا جنني حين قرأته وأنا صغير، يجعلك تيأس، إذا آمنت به فأنك تيأس، لماذا؟ هذا هو والله عظيم، حتى لما صرنا أزواجاً وكنا لا نزال صغاراً كنا نخاف، لأنه يقول لك عندك خمس سنوات في غاية الأهمية، في أول خمس سنوات في حياة الولد – ابنك أو ابنتك – أي شيئ يُمكِن أن يصير له، كالنقش في الحجر هذا، وإذا أصابته عُقدة أو لوثة وما إلى ذلك فإنه سوف تظل معه إلى أن يموت، ويستحيل علاجها والتخلص منها، سوف تُؤثِّر على حياته كلها، بعد ذلك سوف تقول ما هذه المُصيبة السوداء التي حلت على رأسنا؟ أنا كنت جاهلاً وأهبل، وتسبَّبت في تخريب بيتي وأولادي، لكن العلاج السلوكي عكسه تماماً، قال هذا غير صحيح، ونحن عندنا شعار، أنا عبَّرت عنه بــ Never too late، لا يُمكِن في مرة أن يُقال فات القطار، القطار لا يفوت! هذا هو المعنى، Never too late، القطار لا يفوت! لا يُمكِن أن تكون مُتأخِّراً، وأن تاتي مُتأخِّراً خيرٌ من ألا تأتي أبداً، كلام جميل! هل فعلاً هذا مُمكِن؟ مُمكِن، هل من المُمكِن أن يكون عمري أربعين سنة أو خمسين سنة وأُغيِّر شيئاً في طبيعتي الأولى وفي عاداتي القديمة لكي آخذ أشياء أُخرى؟ مُمكِن والله العظيم، وسوف تُصبِح شيئاً آخر، وهناك تجارب عملية على هذا لكنها قليلة وصعبة جداً، وهذا الذي يجعل بعض الناس يُردِّدون:

كُلُّ امْرِئٍ صَائِرٌ يَوْمًا لِشِيمَتِهِ                              وَإِنْ تَخَلَّقَ أَخْلاقًا إِلَى حِينِ.

هذا الكلام في الجُملة صحيح، وكذاك كلمة كعب الأحبار، المُتخلِّق – قال – إلى أربعين ثم يعود إلى خُلقه، هناك مَن يُحاوِل أن يُمثِّل دور العفيف مثلاً، لكن المسكين بالكاد يستمر في هذا إلى ثلاثين يوماً ثم يُصاب بالهبل، يعود داعراً في النهاية، يعود داعراً! لأنه داعر، ليس عفيفاً هو، وكذلك الحال مع السرّاق، اللص الذي تعود على السرقة من صغره، يده طويلة! يدّعي أنه أمين وما إلى ذلك، قال أكبر مُدة يُمكِن أن يُمثِّل فيها هي أربعون يوماً، وبعد ذلك يعود إلى السرقة، لا فائدة! لكن هذا الكلام مُخيف، والنبي أيضاً قال – هذا حديث رواه الإمام أحمد، أنا لا أظن النبي يقول هذا الحديث، وأنا شككت فيه في خُطبة العلاج السلوكي – لو سمعتم بجل زال عن مكانه فصدِّقوا، ولو سمعتم برجل زال عن خُلقٍ كان عليه فلا تُصدِّقوا، كلام مُدمِّر يا أخي هذا! هذا عكس القرآن وعكس السُنة وعكس دعوتك يا رسول الله، معناه اجلس في بيتك كداعية أو كواعظ أو كمُصلِح ولا تعظ ولا تصلح ولا تدع، لأن لا فائدة، أليس كذلك؟ لن تُوجَد أي نتيجة، كلام مُدمِّر هذا يا أخي، غير صحيح! الله قال وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ ۩، هناك إمكانية، لكن تحتاج إلى رجال أقوياء.

أبو حامد الغزّالي – مثلاً – في نشأته في أول حياته وفي فترة تألقه العلمي كان رجلاً مغروراً، كان عنده عُجب عجيب جداً، كان يقول أنا، مَن مثلي؟ أنا الغزّالي، أُكسِّر رأس أكبر عالم وأكبر فيلسوف، لا يقدر أحد على الوقوف أمامي، اسكتوا واذهبوا، كلكم جهلة وكلكم لا تفهمون شيئاً، وفعلاً حين تقرأ له – مثلاً – كتاب المنخول تُذهَل، هذا ألَّفه وهو دون الثلاثين من عمره، كان لا يزال تَلميذاً عند الإمام أبي المعالي الجويني – عبد الملك – المُتوفى في سنة أربعمائة وثماني وسبعين للهجرة، أبو حامد تُوفيَ في سنة خمسمائة وخمس، فهو كان لا يزال تَلميذاً عند عبد الملك الجويني إمام الحرمين، وعلَّق من دروسه في الأصول تعليقة المنخول، المنخول في علم الأصول! فانظر كيف كان يتكلَّم بتبجح عجيب على أبي حنيفة حتى، قال أبو حنيفة يقول نعم هذا ينفع والوضوء بالنبيذ مُمكِن والإنسان الذي غمس نفسه في كذا وكذا ينفع له كذا، وبعد ذلك ماذا قال في النهاية علماً بأننا ذكرنا هذا عدة مرات؟ قال فهل هذه صلاة بعث الله بها رُسله؟ قال أبو حنيفة هذا لا يعرف شيئاً، هذا تائه! كيف؟ ما الجراءة هذه؟ أتتجرأ على إمام مذهب؟ مَن أنت بالنسبة إليه؟ لكن هكذا كان عنده جراءة، وبعد ذلك اختلف وضعه حين تصوَّف وتروحن وصفا وشف ورجع بعد خمس سنوات، رجع من رحلة استمرت خمس سنوات! خمس سنوات وهو بعيد عن بناته وعن أولاده وعن زوجته، لم يعد إليهم ولو لمرة واحدة، خمس سنوات مُتواصِلة! يُريد المسكين أن يُغيِّر نفسه، قال أنا انهلكت، كان عنده كل هذه العلوم – فقه وأصول ومنطق وما إلى ذلك – لكنها دمَّرته، قال هذه دمَّرتني، أخلاقي سيئة، أرى نفسي مغروراً وما إلى ذلك، فليس هذا دين الله، ليست هذه للآخرة، ليست هذه علوم الآخرة قال، مُستحيل! هذه سوف تذهب بي إلى داهية، وعنده فقه وأصول ما شاء الله، لكنه قال ليس هذا هو، فضلاً عن علام الكلام والعقيدة الذي كان أستاذاً فيه، عرف أن هذا كله سوف يذهب به إلى جهنم، فالله هداه فرجع، الفارسي في كتابه في التاريخ كان مُعاصِراً له، قال نحن لم نُصدِّق، مُستحيل! الشخص الذي رجع ليس هو أبو حامد الغزّالي الذي نعرفه، الأزعر! كان يُسمونه الأزعر، من الزعارَّة، والزعارَّة شراسة الخُلق، يُكسِّرك على عجل، يُظهِر جهلك، ويُكسِّر لك رأسك بالحُجة أمام الناس دون أن يهمه أي شيئ، لابد أن تفهم الناس مَن أنت ومَن أنا، هذا كان أهم شيئ عنده، الزعارَّة هذه يُسمونها! ليست زعارَة وإنما زعارَّة بالتشديد، أي بتشديد الراء! قال حين عاد لم يكن عنده هذا الشيئ، كان عنده إخبات وخشوع وتواضع ولين وكياسة ولُطف مع الناس كلها، الكبير والصغير والعالم والجاهل! قال لم نُصدِّق، ظنناه يتفعَّل هذا، أكيد هو يُمثِّل علينا، غير مُمكِن! قال حتى ثبت لدينا أنه صار كذلك، هو هكذا! إنسان مُختلِف تماماً، وُلِدَ من جديد، هذا ما يُسمونه New born، مولود ولادة جديدة، هذا معناها! وُلِد ولادة جديدة، كما قال المسيح الحق أقول لكم لا يرد الملكوت مَن لم يُولَد مرتين، أبو حامد وُلِدَ مرتين، إذن هذا يحدث، هذا مُمكِن!

بحمد الله أنا استخدمت هذا المنطق – المنطق السلوكي وقولي Never too lateبفضل الله – في الحفاظ على بناء أُسرة انهارت، لا نقول على وشك الانهيار، هي انهارت وانتهى كل شيئ، والآن هي أُسرة سعيدة بفضل الله ومُمتازة، كيف؟ الرجل يرتكب أغلاطاً، يذهب هنا وهناك، Zick zack! الزوجة تحمَّلت مرة ومرتين وثلاث وعشرين وثلاثين وأربعين، بعد ذلك قالت لا يا بابا، انتهى الأمر، لا يُمكِن! رأسها وألف سيف، لابد من الطلاق، المُهِم استدعاني بعض الإخوة في بيتهم، الأخ هذا زوجته نمساوية، وصعاب هؤلاء النمساويون يا أخي، قالت لا يُمكِن! لابد من الطلاق، المُضيفة قالت هذا، لماذا؟ قالت يكذب، في وجهه قالت إنه يكذب، هو كذّاب! يكذب كثيراً، كذب عليها مائة مرة، فضلاً عن أنه يعد ولا يفي، ويعود إلى ما كان عليه، انتهى الأمر! هي ليست مُصابة بالهبل وليست صغيرة، تُريد أن تمتلك نفسها، أحسن شيئ الطلاق يا شيخ عدنان، فقلت لهم فقط أعطوني فرصة لكي أتكلَّم، فقالت لي السيدة وهي مُتعلِّمة – مُتعلِّمة جيداً وتعرف اللُغة العربية بشكل مُمتاز – يا شيخ عدنان أنا أحترمك وأحترم موقفك وأحترم تدخلك وأحترم مجيئك هذا وما إلى ذلك لكن أنا من الآن أُطمئنك، لن أعود إليه، فقلت لها لماذا؟ أنتِ إنسانة مُتعلِّمة وذكية، كل إنسان لابد أن يُبرِّر اختياره وموقفه، فقالت لي نعم، عندي تبرير، لا فائدة فيه قالت لي، غسلت يدي منه، يئست! يستحيل أن ينصلح قالت لي، أعطيته مئات الفرص، قالت لي سنوات وأنا أتحمَّل، وفعلاً تحمَّلت الكثير، أنا من هنا يأتي تعظيمي وتكريمي للمرأة والله العظيم، المرأة يا أخي عجيبة، أعمق منا بكثير المرأة، وأصبر منا وأحلم منا يا أخي، والله اتضح أننا بريالة، نحن بسرعة نتصرَّف، اجعل أحد هؤلاء الرجال من أمثالنا الذين عندهم ريالة – لا قدَّر الله – يسمع أن زوجته – مثلاً – أقامت علاقة مع رجل ولو بالتليفون Telephone ثم اطلب منه أن يصبر عليه ليوم واحد، يستحيل! هذا مُستحيل، لا يقدر على المبيت لليلة، مُباشَرةً يأتي وينفجر فيها، يُريد أن يعرف ما الذي حصل وما إلى ذلك، لكن ماذا عن النساء؟ مر علىّ عشرات الحالات هنا في النمسا، شيئ غريب يا أخي! تعرف الواحدة منهن أنه مُتزوِّج عليها بالحلال أو يخونها بالحرام – وتعرف هذا من سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو ست – وتسكت، ما الصبر هذا؟ ما العمق هذا؟ ما هذه البُحيرة الراكدة التي تعتمل في الداخل؟ شيئ غير طبيعي، نحن ليس عندنا هذه القدرة، لكن المرأة عندها هذه القدرة، هل تعرف لماذا؟ ليس لأنها ضعيفة أو مُصابة بالهبل أو عاطفية، لا! عندها عقل، عندها عقل واعٍ، عندها هذا العقل الغرزي العميق جداً جداً جداً، المرأة دائماً تهتم بالعُش، تُريد أن تُحافِظ على عُشها، تقول هذا التافه الطيّار لا يفهم شيئاً، سوف يُخرِّب دياره وسوف يُنتِّف ريشه كله في النهاية، هذا الأهبل لا يفهم ماذا يفعل، وهي تُريد أن تُحافِظ على هذا الأهبل وعلى أولادها خصوصاً وعلى نفسها وعلى عائلتها، تتصرَّف وكأنها لم تسمع ولم تر، وهو فيما بعد يُجَن، بعد خمس سنوات يقول أعرفتي هذا من خمس سنوات؟ يُجَن! يقول كيف تخدعني هكذا؟ لكنها لم تخدعه، هو أهبل، غير قادر على أن يلتقط ما يحصل، لكن هي التقطت هذا وعرفت من أول يوم، ترى التغيرات بسرعة شديدة يا أخي وتشعر بها، المرأة عندها حدس، وتظل المسكينة ساكتة! فهذه السيدة فعلاً – انظروا إلى هذه أيضاً، هي حالة منهن – لم تسكت لأنه انكشف عدة مرات في وضح النهار لكنها كانت تسمح، في كل مرة تُهدِّده وما إلى ذلك وبعد ذلك تسكت وتقول له سامحنا! انتهى الأمر، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۩، لكن لا فائدة! قلت لها هل هذا مبدأك؟ فقالت لي نعم، فقلت له لكنه غير صحيح، فقالت لي كيف هو غير صحيح؟ هذا العلم وهذا الواقع، والإنسان حين ينشأ على شيئ لا يُغيِّره، فقلت لها هنا الخطورة، أي في الافتراضات هذه، وأنا أحترم موقفك وأحترم علمك هذا، لكن ما رأيك في أن أثبت لكِ العكس؟ فقالت لي كيف؟ قلت لها الإنسان قابل للإصلاح حتى قبل موته بساعة، ما رأيك؟ وخُضت لها في حديث علمي، فتأثَّرت جداً جداً، لأنها إنسانة مُتعلِّمة يا أخي، المُتعلِّم غير! وهي كانت تبني موقفها على تبرير علمي، قالت لو كانت هناك فائدة وفُرصة أُخرى لأعطيته إياها، لكن لا فائدة، لماذا أُضيِّع وقتي؟ لكنها فهمت أن الفرصة الجائية يُمكِن أن تكون مُفيدة بالمنطق السلوكي الجديد، فوافقت وحُلَّ كل شيئ، استغرب أهل البيت، جُنوا ولم يُصدِّقوا، هذا مُمكِن لكنه يحدث مع الإنسان المُتعلِّم.

نرجع إلى موضوع اللياقة التي يُسمونها اللي Li، حُسن التصرف والإتيكيت Étiquette مع الناس الآخرين، في هذه النُقطة بالذات عندنا نقاط فرعية نُريد أن نتحدَّث عنها، وهي مُهِمة جداً في الفلسفة الكونفوشيوسية الاجتماعية، خمسة أشياء ضمن اللي Li، انتبهوا! ضمن اللي Li نحن سنتحدَّث عن خمسة أشياء، أول نُقطة تصحيح اللُغة وتقويم الأسماء أو التسمية، كونفوشيوس Confucius أرأد هذا، قد تقول لي هذه مسألة بديهية، لكنها ليست كذلك، كونفوشيوس Confucius ماذا قال؟ قال إذا لا يتم استخدام العبارات الصحيحة بما فيها الأسماء طبعاً – خاصة الأسماء لأنها أهم الأفعال – فإن اللُغة لا تكون قويمة، اللُغة حين لا تكون قويمة الفكر نفسه يختل، إذا اختل الفكر يختل السلوك، يختل الفرد، يختل المُجتمَع، ويختل كل شيئ، قد تقول لي ها الكلام بسيط، لكنه ليس بسيطاً، هذا الكلام على بساطته ووضوحه انبثق منه علم في العصر الحديث اسمه علم الدلالة، أي الــ Semantics! هناك مَن يُسمونه الــ Semiology، هناك علم العلامة – Sign – أو علم العلامات The Science of Signs، قد تقول لي ما علاقة هذا بذاك؟ علم العلامات له علاقة طبعاً بعلم الدلالة لكنه أوسع، أي أن هناك علاقة عام وخاص، العلم الأعم هو علم العلامة، لماذا؟ لأنه يتحدَّث عن العلامات كل العلامات، الطبيعية وغير الطبيعية، المعروفة بالصناعية، ومن ضمن ذلك الحديث عن اللُغة، والآن الحديث عن الدلالة اللُغوية بالذات أو العلامات اللُغوية يُسمونه ماذا؟ الــ Semiology أو الــ Semantics، جوهر الــ Semantics أو الــ Semiology أو علم السيمياء أو السيميائية ما هو؟ ضبط العلاقة بين الألفاظ والمفهومات، أي المدلولات، بين العلامة والمُعلَّم، وبالتالي ضبط الفكر والواقع سوف يحدث، وعملية مُهِمة جداً هذه، هذا علم مُعقَّد وكبير وجميل، وفيه مدارس طبعاً كثيرة، وهو يترقى وفيه نظريات مُعقَّدة مثل نظرية الأفعال، أي الــ Acts كما يُسمونها، كلام طويل! فكونفوشيوس Confucius أعطاك جوهر العلم هذا، هل هذا مُهِم للدرجة هذه؟ مُهِم أكثر مما نتخيَّل، ما رأيك؟

أفلاطون Plato في عصر لاحق بقليل عليه – أقل من مائة سنة تقريباً – ماذا قال؟ قال لو أن الناس اتفقوا على معاني المُصطلَحات التي يتعاطونها لاختُزِلت مُعظَم خلافاتهم، ربما ثلاث أرباع الخلافات سوف يختفي! هناك أُناس نسبوا له أنه قال سوف ينتهي نصف الخلاف، وهذا غير قليل، خمسون في المائة! كيف هذا الآن؟ عندنا كما ذكرنا – مثلاً – حرية التعبير الانفعالي، هذا جيد! هذا مُصطلَح في علم النفس، عالم النفس الحقيقي يفهمه في إطاره بقدره وبحدوده، صعب أن يُخرَبط، لكن أنت حين تقرأ تفهمه وتأخذه من رأس الكوز – كما يقولون – ثم تبدأ تسب الناس وتقول هذه حرية تعبير انفعالي يا حبيبي، تنتقد الناس الأوادم وتقول هذه حرية تعبير انفعالي، سوف تُخرِّب بيتك وبيوت الناس باسم حرية التعبير الانفعالي، لا! نُريد أن نضبط المُصطلَح، ماذا تعني حرية التعبير الانفعالي؟ نحن أخذنا شيئ دقيق جداً وخاص – شديد الخصوصية – وهو لفظ الحرية – Freedom أو Freiheit – طبعاً، تُطالِب دائماً بالحرية وتقول الحرية قيمة إنسانية عظيمة، لكن قبل أن تتحدَّث عن الحرية وحقوق الإنسان قل لي ما هي الحرية؟ في أي نطاق؟ في أي خلفية؟ بأي فلسفة تتحدَّث عنها؟ بأي مفهوم؟ ما الحرية؟ وسوف تجد طبعاً مائة ألف تعريف للحرية، أليس كذلك؟ وكل تعريف يختلف عن الآخر، الديمقراطية فيها خمسون ألف مدرسة وخمسون ألف تعريف، صعب جداً! حين تتكلَّم تكلَّم عن تحديد مُصطلَحك، حدِّده بشكل واضح لكي نعرف أين نبدأ وأين ننتهي، أليس كذلك؟ لذلك أنا أعتقد حتى الآن كل أمة تُريد أن تنهض – ومنها الأمة الإسلامية – عليها أن تُعيد تعريف وتحديد المُصطلَحات الحيوية في حياتها والمُهِمة جداً جداً، مثل مُصطلَح الدين، مُصطلَح الإسلام، مُصطلَح التدين، مُصطلَح العبادة، مُصطلَح الإنسان، ما هو الإنسان؟ مُصطلَح الحرية، مُصطلَح المُساواة، مُصطلَح العدل، مُصطلَح الديمقراطية، حتى مُصطلَح العلمانية ومُصطلَح الليبرالية، الكل يقول هذا علماني أو ليبرالي وهو لا يعرف ماذا يعمل، لا يعرف بالضبط ما هو العلماني أو ما هو الليبرالي، بعض الناس العلماني عنده يُساوي الكافر، ليس شرطاً! ليس شرطاً أن يكون العلماني كافراً، يُمكِن أن يكون مُسلِماً ويُصلي أكثر منك، ما رأيك؟ وهو علماني مسكين، فهذا ليس شرط، لكن قد ينظر أحدهم إلى العلماني على أنه كافر زنديق، لأنه لا يفهم ما هي العلمانية بدقة، وكذلك الحال مع الليبرالي، كأنه زنديق أو إنسان داعر، ليس شرطاً يا أخي، فنحن نحتاج إلى أن نفهم، نُريد أن نُعيد الفهم، فكونفوشيوس Confucius قال نحتاج إلى ضبط الأسماء.

الشيئ الثاني عقيدة الوسط، عقيدة الوسط يُناظِرها تماماً في الفكر الإغريقي أو الغربي عموماً الوسط الذهبي لدى أرسطو Aristotle، أرسطو Aristotle في كتابه العظيم في الأخلاق الذي ترجمه أحمد لطفي السيد المصري – رحمه الله – يبني مذهبه في الأخلاق كله على مبدأ الوسط الذهبي، بمعنى لا تتطرَّف، توسَّط بين الحماس الزائد وبين اللامُبالاة، لأن مُعظَم الناس إما الواحد منهم لا يُبالي وإما يكون مُتحمِّساً بشكل ثوري، لا! لا تكن مُتحمِّساً إلى النهاية ولا لامُبالياً لغاية الجمود، كُن مُتوسِّطاً، تجد إنساناً مُتهوِّراً وإنساناً جباناً، المُتهوِّر يندفع ويُلقي بنفسه بين فكي الموت، يضيع هكذا في شربة ماء! والجبان لا يقدر على أن يتحرَّك أو ينتصر لأي شيئ حتى، ما الوسط بينهما؟ قال، الشجاعة، وهكذا!

عندك الإنسان المُسرِف – الكريم إلى حد الإسراف – والإنسان الكزاز البخيل، يُوجَد وسط اسمه ماذا؟ ما اسمه؟ الكرم، الكرم شيئ ليس بالإسراف وليس بالبخل، فأرسطو Aristotle عرَّف كل فضيلة أو كل الفضائل على أنها وسطٌ ذهبي بين طرفين، وكونفوشيوس Confucius عنده نفس الفكرة، قال توسَّط، كان يحترم هذا! الكونفوشيوسية تحترم ماذا؟ الشخص اللائق – كما قلنا – الذي يُراعي الإتيكيت Étiquette – وهذا من الإتيكيت Étiquette – والمُتحفِّظ، عجيب! هل التحفظ قيمة في الكونفوشيوسية؟ نعم، التحفظ قيمة ممدوحة عندهم، ما التحفظ؟ ألا تكون مهزاراً، ألا تُعلِّق على كل شيئ، لا تُسارِع إلى الكلام، هذا هو التحفظ بالمُناسَبة، لأن مِن الناس مَن يسمع كلمة التحفظ ولا يفهم لا معناها ولا معنى المُتحفِّظ، طبعاً نُوسِّع معناها ونجعلها التحفظ للحركات وما إلى ذلك، لكن التحفظ الأصلي يكون في ماذا؟ في القول، تحفَّظ! احفظ لسانك، لا يلدغنك إنه ثعبان، هذا هو، التحفظ تفعل من الحفظ، احفظ لسانك!

كونفوشيوس Confucius قال نعم، هذا الإنسان المُتحفِّظ هو إنسان نبيل، هذه إحدى سمات التشون تسو Chun-Tzu، أن يكون الإنسان مُتحفِّظاً، ولذلك لا يندم، العرب تقول في الأدبيات الإسلامية الكلمة تملكها ما لم تنطقها، فإن نطقت بها ملكتك، ضاعت عليك وسُجِّلت عليك، ثم تقول لا، قصدي كذا ولم يكن كذا، اقنع الناس بأن هذا قصدك، مَن يُحِبونك سوف يقتنعون، مَن يكرهونك سوف يقولون لا، هذا ليس قصده، هو كذّاب! كيف يكون هذا قصده؟ يا أخي الأمور واضحة، لكنك قلت هذا ليس قصدك، وهم لن يُصدِّقوا، ضاع عليك هذا، فتحفَّظ لكن لا تكن أبكم، تكلَّم في الوقت المُناسِب وبالقدر المُناسِب، هل هذا واضح؟ هذا الشخص المُتحفِّظ، فهو عنده هذا الوسط، وبالمُناسَبة هذا الوسط الكونفوشيوسي هو الذي حفظ الصين عبر التاريخ من أيام كونفوشيوس Confucius من الوقوع في براثن التعصب الذميم، ونحن رأينا أن ليس عندهم مفهوم انحصاري للتدين أو التفلسف في الحياة، لا! مفهومهم توافقي، كما قلنا يلبس القُبعة الكونفوشيوسية والعباءة الطاوية والصَندلَ – Sandal – البوذي، عجيب وجميل هذا! كيف؟ لوجود التوسط، فأنا لست كونفوشيوسياً حتى النُخاع – لا – ولا طاوياً حتى الأعماق ولا بوذياً حتى الفناء والنيرڤانا Nirvana، لا! أنا الثلاثة مع بعضهم أيضاً، وكما قلنا على طول الطريق تُوجَد بعض النكهات والتوابل من الشامانية، هكذا هو الصيني! بسبب ماذا؟ هذا الوسط الذهبي الكونفوشيوسي، فهذا عنصر مُهِم جداً لديهم.

بعد ذلك الشيئ الثالث، وهذا من أهم الأشياء على الإطلاق في اللي Li، الكياسة! ما هو؟ العلاقات الخمس أو الخمسة – نحن قلنا خمس علاقات، انتبه! ممنوع أن تقول خمسة علاقات، غلط! لأن كلمة علاقة مُؤنَّثة، فنقول خمس علاقات، لكن إذا قلت علاقات خمسة فهذا يكون صحيحاً، إذن العلاقات الخمس أو الخمسة – الثابتة، بعض الناس يُلخِّص الكونفوشيوسية كلها في هذه العلاقات الخمس الثابتة لأنها من أهم الأشياء، مع أنها مُكوَّن من مُكوَّنات اللي Li، مَن أحب أن يشرح اللي Li – الكياسة – ماذا يفعل؟ كيف يشرحها؟ بخمسة أشياء، نحن شرحنا تصحيح اللُغة وتقويم الأسماء، والآن نشرح العلاقات الخمسة، ويظل ماذا؟ الأسرة والعمر أو السن Alter، فهو قال العلاقات الخمسة الثابتة والناظمة لما بين الآباء أو بالأحرى الوالدين – لأن كلمة الآباء تعني الآباء فقط وليس الآباء والأمهات، لكننا نقصد الأب والأم – والأولاد، وبين الأزواج والزوجات، وبين الإخوة الكبار ومَن يصغرونهم مِن إخوانهم وأخواتهم، ليس عندنا كلمة في العربية مثل Geschwister، انتبهوا! أليس كذلك؟ ليس عندنا هذا، عندنا إخوة وأخوات، هناك كلمة واحدة وتصير للتغليب، كأن يقول أحدهم إخوانه وهو يقصد إخوانه وأخواته، فهذا للتغليب، قد يتفلسف أحدهم ويقول اللُغة العربية لُغة بطريركية ذكورية، حين تُغلِّب تُغلِّب الذكر، الشمس أُنثى والقمر ذكر فيُقال القمران، أي أنهم يُغلِّبون الذكر على الأُنثى، وكذلك يُقال العُمران، لأنها أسهل من الأبي بكرين، لا يُمكِن أن نقول هذا، وواضح إن عمر كان Sport أكثر وأنه كان شجاعاً ومهيباً، فاللُغة ذكورية، بعض الناس يتفلسفون هكذا! لكن هذا غير صحيح، أنا أقول لك إن اللُغة تعكس دائماً حاجة المُجتمَع، بحسب حاجة المُجتمَع تُمطَط وما إلى ذلك، وسوف ترى الآن الشيئ العجيب حين نتحدَّث عن العائلة في اللُغة الصينية بخصوص الألفاظ العائلية، شيئ ليس له نظير في العالم كله، مثل لُغة الثلج عند الإسكيمو Eskimo، ليس لها نظير في العالم كله، فهذا بحسب حاجة الناس إلى تمطيط وبسط ومد اللُغة، فنحن نقول هذا.

إذن – المُهِم – علاقة الإخوة الكبار بمَن يصغرهم سناً من إخوتهم وأخواتهم، وبعد ذلك الصديق الكبير وعلاقته بصديقه الصغير، هو هكذا! ليس علاقة الصديق بالصديق وإنما علاقة الصديق الكبير بالصديق الصغير، وأخيراً علاقة الحاكم بالرعية أو الحاكم بشعبه، يقول كونفوشيوس Confucius والعلاقات مُتبادَلة، أي أنها لا تفعل من جهة واحدة، تفعل من جهتين، أي كأنها مُتضايفة، فكيف؟ ففي الوقت الذي يجب فيه على الوالدين أن يُحسِنوا تربية أولادهم وأن يغمروهم بحنانهم وأن يُفيضوا عليهم من عطفهم – إلى آخر ما هنالك – يجب على الأولاد أن يُقابِلوا والديهم بالعرفان والبر والاحترام والطاعة، أهم شيئ هو هذا، هناك مُصطلَح في الكونفوشيوسية يُعرَف بالتقوى البنوية، التقوى – Frömmigkeit – البنوية نسبة إلى الأبناء أو إلى الابن، هذا شيئ مُهِم في المُجتمَع الصيني إلى اليوم!

كتب أحد الكونفوشيوسيين المُعاصِرين في اليوم الذي يُفرِّط فيه الأبناء في واجباتهم إزاء والديهم يختفي المُجتمَع والحضارة، ننحدر إلى أُفق بهيمي قال، طبعاً نحن سنرجع إلى هذا العنصر بالذات لكي نتكلَّم عن العائلة، وهي الرقم الرابع في اللي Li، نحن سنأخذه من هنا وسيصر رقم أربعة، وأخيراً عندنا السن أو العمر Alter، ثم ننتهي من اللي Li إن شاء الله، لذا سنرجع إلى هذا الآن.

إذن نفس الشيئ، في الوقت الذي ينبغي على الزوج أن يُحافِظ على زوجه وأن يمونها وأن ينفِق عليها وأن يغار عليها أيضاً وأن يدفع عنها الغوائل وأن يُعطيها حاجاتها المعنوية والمادية وأن وأن وأن – إلى آخره – يجب عليها أيضاً الاحترام والوفاء والعفة والمُحافَظة على أمانته في العِرض وفي المال والطاعة، الطاعة لازمة وأساسية عند مَن؟ عند الكونفوشيوسيين، الطاعة! هناك الطاعة دائماً، والطاعة – انتبه – لا تكون من الكبير إلى الصغير، تكون من الصغير إلى الكبير، ولا تكون من الزوج إلى زوجته، تكون من الزوجة إلى زوجها، عندهم هكذا! الزوجة تُطيع زوجها، وكذلك الشعب يُطيع الحاكم، الأولاد يُطيعون الوالدين، الصديق الصغير يُطيع الكبير، الأخ الصغير يُطيع الأخ الأكبر، وهكذا! وممنوع عندهم العكس، وإلا ستتقوَّض العلاقات قال، هكذا هي طبيعتها، لأن عندها مُبرِّر أيضاً داخلي، وهكذا نقول في الأشياء الأُخرى، لا نُريد أن نُفصِّلها، هذه الأشياء بسيطة جداً، هذا كذا وهذا كذا، علاقات مُتبادَلة!

نأتي الآن إلى موضوع العائلة، هل لاحظتم أنتم في الخمسة العلاقات المُتبادَلة هذه أن ثلاثة منها تدور في النطاق الأُسري؟ هذا صحيح، لماذا؟ الوالدون والأولاد، وبعد ذلك الأزواج والزوجات، ثم الإخوة وإخوانهم، كل أسرة! إذن ثلاثة من خمسة تدور في النطاق الأُسري، وهذا يُترجِم عن ماذا؟ عن الأهمية القصوى التي أولتها الكونفوشيوسية للعائلة، وهذه الفلسفة الاجتماعية العريقة ترى أن المُؤسَّسة الأولى والأهم والأخطر على الإطلاق في المُجتمَع هي العائلة، أي الأسرة! والأسرة عندهم ليست بالمعنى النووي مثل الآن في المُصطلَحات الغربية، لا! قد تبدأ نووية، لكن الأسرة الصينية هي الأكثر امتداداً، أسرة مُمتَدة – Extended family – بشكل عجيب، قد يعيش في البيت الواحد – بيتهم كبير بمرافق كثيرة – أجيال ثمانية، ثمانية أجيال! لم يحصل مثل هذا من قبل ويندر جداً أن يحصل في غير المُجتمَع الصيني، ثمانية أجيال! وقد يكون في هذا البيت الكبير مائة وعشرون أو مائة وخمسون أو مائتان من الأشخاص، وليس فقط الأصول والفروع بل والحواشي وفروع الحواشي، تخيَّل! فيُوجَد – مثلاً – العم وأولاد العم وبنات العم وأولادهم وبناتهم وإلى آخره، ويُمنَع في المُجتمَع الصيني – هذا ممنوع عندهم، وهذا من اللي Li، من حُسن الكياسة واللياقة أو الإتيكيت Étiquette – أن يُنادي – مثلاً – الأخ الأصغر أخاه الأكبر بلقب يا أخي، ممنوع هذا، قلة أدب هذه، لا! إذن كيف يُناديه؟ يجب أن يُناديه – عندهم هذا لأن لُغتهم تطوَّرت، استجابت إلى هذه الحاجة وطوَّرت ألقاباً – بما يدل على مثابته بدقة، أي بما يدل على أنه الأخ الأكبر فعلاً، فهذا أكبر واحد، وإذا كان دونه لكنه أكبر بالنسبة إليه فعنده لقب مُختلِف يُنادى به وينبغي أن يُنادى به دائماً.

وهكذا في العلاقات القرابية في الأسرة الصينية طوَّرت اللُغة الصينية مائة وخمس عشرة لفظة تُعبِّر بها عن مائة وخمس عشرة علاقة، تخيَّل! نحن عندنا – مثلاً – العم والخال وابن العم وابن الخال وابن الخالة والأخ الأكبر والأب والأم والجد والجدة وإلى آخره، أي أنك قد تجد ثلاثين عبارة – مثلاً – أو لفظة، لكن هم ليسوا كذلك، عندهم مائة وخمس عشرة لفظة، لأنهم يهتمون بهذا أكثر منا، أرأيت؟هم يهتمون بهذا كثيراً،  يهتمون جداً بهذه الناحية، عندهم شيئ مُقدَّس العائلة هذه، مُقدَّس جداً جداً جداً!

الغربي لا يستطيع أن يفقه هذا ويشمئز منه، يقول هكذا ضاعت الحرية، سُحِقت حريتي، وخاصة تحت مبدأ الطاعة، فهذا يُطيع هذا وهذا يُطيع هذا، وبعد ذلك سيأتيك مبدأ السن Alter، فمَن يكبرك بيوم لابد وأن تُطيعه وتحترمه يا حبيبي بل وتُسارِع إلى خدمته، لا يُمكِن غير هذا، هو هكذا! لكن الغربي يقول أنا ضعت، لأنه لا يقدر على أن يفهم هذا، كيف يُهرَع عشرة إلى شخص لأنه أكبر بسنة من أجل مُناوَلته الإبريق مثلاً؟ لأنهم أصغر منه بسنة أو بعشر سنوات – مثلاً – أو ما بين ذلك، العشرة يُقدِّمون له إبريق الشاي، العشرة كلهم! كلهم يتقاتلون من أجل هذا، لكن الغربي لا يفهم هذا الشيئ، يقول لك ما هذا؟ كيف هذا؟ لكن بالعكس، هذا له فوائد في المُجتمَع الصيني، فوائده العادية لن أذكرها، أنتم تعرفونها طبعاً، لكن هناك فوائد ثانية أيضاً غير الانضباط الاجتماعي، مثل امتناع الجريمة أيضاً، المُجتمَع يصير آمناً ومُستقِراً جداً جداً، يندر فيه جريمة، لذلك قالوا نسبة الجرائم مُتدنية بشكل غير عادي في هذا المُجتمَع التقليدي وفي الصين إلى وقت قريب أيضاً، لا تكاد تُذكَر، لا تُوجَد جرائم، المُجتمَع مُنضبِط، اليابان إلى وقت قريب أيضاً بالعادات التقليدية كانت كذلك، لكن للأسف الزفت المُسمى بالهوليوود Hollywood شوَّه كل أفكارنا، هذا زفت! هذه السينما Cinema التعيسة شوَّهت كل أفكارنا فعلاً، والله جنت علينا، أُقسِم بالله! علَّمتنا أولاً أن الهنود الحُمر هؤلاء كانوا مُتوحِّشين وبرابرة وكانوا يسلخون فروات الرأس، وهذا كله كذب، هؤلاء أُناس أوادم! تذكرون أكيد الخُطب التي عقدتها عن الشيئ هذا، أليس كذلك؟ وهناك شهادات حية من كتاب لاس كازاس Las Casas الذي طُبِع قبل سنتين أو ثلاث سنوات في خمس مُجلَّدات عن تاريخ السُكان الأصليين،  الهنود الحُمر هؤلاء! أُناس من أروع ما يكون والله العظيم! لكنهم للأسف ذهبوا، أُبيدوا جميعاً، بحسب تقويم لاس كازاس Las Casas كانوا ملياراً، ألف مليون! لكن هوليوود Hollywood هذه تقول ماتوا وكانوا عشرة ملايين، كيف يُقال كانوا عشرة ملايين يا كذبة؟ قولوا وصل عددهم إلى مائتين وخمسين مليون، فهذه إلى حد ما كذبة مقبولة، عددهم وصل إلى مليار، لاس كازاس Las Casas هذا قال إذا قلت ألف مليون فلن أكون مُبالِغاً، كانوا كثرة بشكل غير عادي، لكن يُقال عنهم كانوا يسلخون الفروات ويذبحون أنفسهم لأنهم كانوا مُجانين، هذا ما يُقال في الأفلام الغربية Western movies، وهذا كله كذاب، هذه كلها حقارة وكذب، مثل صورة الفلسطيني العربي اليوم، مجنون وعنده قنبل ذرية يُريد أن يُطلِقها، وهناك فيلم True Lies – أكاذيب حقيقية – وما إلى ذلك، وهذا كله كذب علينا، هم الذين أطلقوا القنبلة الذرية ثم كذبوا على العالم وقالوا العربي يُريد أن يُبيد نفسه بالذرة.

المُهِم هم شوَّهوا لنا صورة الهنود الحُمر، وشوَّهوا لنا صورة الصينيين واليابانيين، صار عندنا اعتقاد بأن اليابانيين والصينيين – والعياذ بالله – جميعاً من المافيوزيين، فهم خطيرون جداً جداً، يذبحون ويقتلون دون أن يخافوا من أي شيئ، وهذا غير صحيح! هذه شعوب مُسالِمة، تُحِب السلام والانضباط، ليس عندها جرائم وليس عندها مشاكل يا أخي مثل الغرب نفسه هذا، بالعكس! هم تعلَّموا هذا الشيئ منكم، والدراسات العلمية الاجتماعية الغربية تقول إن الجالية الصينية – مثلاً – أقل الجاليات جرائم، وتعرفون الــ China town، هذا كان فيلماً للمُمثِّل جاك نيكلسون Jack Nicholson، يتحدَّثون عن كل الذين في الــ China town – الحي الصيني – في أمريكا على أنهم عصابات تقوم بأعمال أجرامية، مثل المافيوز! وهذا غير صحيح، قالت الدراسات هم أقل الجاليات جرائم، لا تُوجَد جرائم! مُمتازون جداً جداً، الجالية اليابانية – قالت – ليس عندها هذا الشيئ، لا تكاد تسمع بالجريمة عندهم في أمريكا، لا يُوجَد هذا! أُناس هادئون مُنضبِطون ومُثقَّفون، عندهم ثقافات عالية يا أخي، راقيون! عندهم ثقافة عمرها يصل إلى ألفين وثلاثة آلاف سنة، أين أنت يا أمريكي يا حبيبي بالنسبة إليهم؟

هم شوَّهوا لنا صورتهم، هوليوود Hollywood هذه شوَّهت لنا كل شيئ، أُقسِم بالله! شوَّهت كل شيئ، شوَّهت فطرتنا، ذكرت مرة في خُطبة خطورة أن تتعوَّد عليها، يصل عمرك إلى عشرين سنة وتكون شاهدت خمسة عشر ألف فيلم أكشن Action ومسرحية، والعياذ بالله البطل – Hero – دائماً يمسك برشاشه أو يمتطي صهوة الأباتشي Apache أو حتى الإف-16 F-16 ويحصد أرواح الناس، رامبو Rambo طبعاً – رامبو Rambo الجُزء الأول، رامبو Rambo الجُزء الثاني، رامبو Rambo الجُزء الثالث، رامبو Rambo الجُزء الرابع – من أبشع ما يكون! تعرفون هذا الفيلم، هذا الفيلم من أبشع ما يكون، كله قطع للرؤوس وتفجيرات وما إلى ذلك، شيئ يُؤذي المشاعر، البشر ليسوا بشراً ولا حتى صراصيراً ولا فئراناً، والله العظيم! غبار ذري، ذرات هكذا ليس لها أي وزن، أليس كذلك؟ مثل فيلم سقوط الصقر الأسود في الصومال، أرأيت؟ للأسف! المفروض أن الإنسان الذي يتلقى هذا المشهد لأول مرة يفزع ويصرخ من فزعته، لأن ما هذا؟ مَن يفعل هذا؟ ما هذا الغرب؟ ما هذا الرامبو Rambo؟ ما أمريكا؟ هؤلاء قتلة ومُجرِمون مُتوحِّشون، لكننا صرنا مُتعاطِفين جداً جداً مع البطل هذا، نتمنى له دوام الصحة والعافية، أليس كذلك؟ وبالرفاه والبنين، ندعو له ولا نُحِب أن يُحاصَر أو أن يُجرَح حتى، حين يُجرَح نحزن وكذلك حين تأتيه طلقة وماإلى ذلك، فهم شوَّهوا لنا فطرتنا، صرنا نتعاطف مع القتل والجريمة ومع الوحشية واللاإنسانية واحتقار النوع الإنساني يا أخي، هكذا هي ثقافة الغرب، الغرب الأمريكي وهوليوود Hollywood! والعياذ بالله من أسوأ ما يكون! ثقافة لا إنسانية.

والأفلام الصينية التي ترونها أكثرها معمول في الغرب، تُوجَد أفلام صينية لكن أكثرها معمول في الغرب وباللُغة الإنجليزية، أليس كذلك؟ تُظهِر الصينيين بمظهر المُتوحِّشين الذين يُقطِّعون الرؤوس والأيدي، حياتهم كلهم ذبح في ذبح، وهذا غير صحيح، للأسف هذه ليست ثقافة، هذه تُذكِّرني بالأخ – كان من أصدقائي – الذي أخذ كل ثقافته من التلفزيون Television، عاشق للأفلام! حضر عشرات آلاف الأفلام، كلما فتحنا موضوعاً – أي موضوع فلسفي أو علمي في الجراحة أو الطب أو أي شيئ – يقول مضبوط أو غير مضبوط لأنني شاهدت فيلماً فيه كذا وكذا، فقلت له يا أخي متى ستستيقظ وتعرف أن الدنيا ليست هي الأفلام؟ اتق الله يا رجل، يظن أن كل شيئ في الأفلام هو هكذا في الدنيا، مسكين! وأمريكا نمطت العالم – صدِّقني – على شاكلة عقلية صنّاع الأفلام هؤلاء في هوليوود Hollywood، من غير أن يشعر العالم، دمَّرونا دون أن نشعر.

إذن بالنسبة إلى العائلة – كما قلنا – هذا شيئ مُهِم جداً جداً عندهم، الاسم في الصين لا يبدأ بالاسم الفردي، أي الـ Forename الخاص بنا، لا! يبدأ باسم العائلة، أي الـ Surname في الأول، اسم العائلة ثم بعد ذلك اسمك الشخصي، العائلة لها أولوية، فأنت تتحدَّد دائماً من خلال عائلتك، كما يتحدَّد الإنسان من خلال مُجتمَعه الأكبر، هذا من خلال البنية الأصلية، العائلة! فعندهم احترام مُقدَّس جداً للعائلة.

طبعاً احترام العائلات حتى لبعضها البعض – كما قلنا – هو الذي خفَّف من سُلطة وهيمنة الحس القانوني على الناس، صاروا دائماً يذهبون إلى التصالح والتفاوض، لا يُحِبون المحاكم وطريق المحاكم بسبب هذا الاحترام!

كونفوشيوس Confucius ماذا يقول؟ يقول – ربما هذا في تعليقه على هذه النقاط كلها – هكذا إذا حلت الرحمة والحُب في القلب صارت الأخلاق حسنة جميلة، إذا صارت الأخلاق حسنة جميلة وجدنا الأسرة الهانئة السعيدة، إذا وُجِدَت الأسرة الهانئة السعيدة وُجِدَ المُجتمَع المُستقِر المُنضبِط، إذا وُجِدَ المُجتمَع المُستقِر المُنضبِط وجدنا الأمة القوية المُطمئنة، إذن هذه كلها مُرتبِطة بتكوين هذا الواحد في البداية، لكن البداية الحقيقة سوف تكون بعد ذلك مع الأسرة.

أوجست كونت Auguste Comte في القرن التاسع عشر – يُعتبَر مُؤسِّس علم الاجتماع الغربي وفي الحقيقة المُؤسِّس هو ابن خلدون طبعاً – فعل نفس الشيئ، اعترف بهذا ولعله كان مُتأثِّراً بالفكر الصيني، قال وحدة المُجتمَع ليست الفرد، لا يُؤمِن بالفرد هو كعالم اجتماع، قال وحدة المُجتمَع هي الأسرة، وهذا صحيح! تخيَّل الآن وجود أفراد من غير أسرة، سوف يفنى المُجتمَع، أليس كذلك؟ سوف يفنى! قد تقول لي إنهم يُمارِسون علاقات، لكن المُجتمَع سوف يفنى، هؤلاء أفراد طبعاً ويُمارِسون علاقات، هذه العلاقات خارج مُؤسَّسة الزواج، لا يُوجَد زواج! يُمارِس هذا كل إنسان وحده وكأنه يعيش في فندق Hotel، ومن ثم سوف يفنى المُجتمَع تماماً، الآن الغرب يموت، ما رأيك؟ أنا عندي كتاب ضخم – Huge – جداً جداً – للأسف لم اقرأ كله، يحتاج إلى وقت يُخصَّص له وحده – اسمه فناء الغرب، كتاب وضعه علماء اجتماع كبار اسمه فناء الغرب، الغرب يفنى! مثل النمسا، ألمانيا، وفرنسا بالذات، قالوا بعد نصف قرن سوف ينتهي شيئ اسمه فرنسا أصلاً، سوف يضيع كل هذا، سوف تفنى هذه الأمم، سوف تفنى! لأن الأسرة غير موجودة، لا أعطاهم الله العافية!  وعقدوا مُؤتمَر السُكان في القاهرة، يظنون أننا بريالة، هُبل! وشارك في هذا الأزهر، ما هذا يا أخي؟ والجنس الثالث والجنس الرابع والعلاقة بين كذا وكذا، ما الهبل هذا يا أخي؟ يُريدون أن يُشرِعنوا أيضاً كل شيئ، يُريدون أن يُشرعِنوا لدمار المُجتمَع والتاريخ والحضارة والإنسانية يا جماعة الخير، هذا لا يصح!

نكتفي بهذا، نأتي الآن إلى نُقطة العمر وقد تحدَّثنا الآن عن العائلة، أليس كذلك؟ آخر شيئ العمر.

بالنسبة إلى العمر الكونفوشيوسية تُولي العمر أهمية خاصة، ليس على مبدأ الوفاء التعاقدي كما يفهم الغربي، بمعنى أنها – مثلاً – تفرض على الناس احترام الكبير لأنك غداً سوف تكبر وسوف تحتاج إلى مَن يحترمك ويُوقِّرك، قالت لا، هذا غير صحيح، ليس لهذا السبب، هذا يحدث – يحدث على كل حال – لكن هناك مبدأ أصيل حقيقي وواقعي عندهم، هكذا هم يرونه واقعياً تماماً، وهو أن حكمة الحياة لا تُؤخَذ من الكُتب والمواعظ بمقدار ما تُؤخَذ من مُكامَعة ومُعارَكة الحياة، كما يقول العرب العوام مَن هو أكبر مِنك بيوم أفهم مِنك بعام، وهذا الكلام في نظري حق وباطل بصراحة! أفهم مني في ماذا؟ هل هو أفهم مني في هذه العلوم التخصصية؟ غير صحيح، يُمكِن أن يكون عارفاً بالــ Alphabet فقط، لكن أن يكون أفهم مني ربما في بعض جوانب الحياة التي تحتاج إلى خبرة فهذا صحيح، لأنه مشى أمامي في درب الحياة بخطوات أبكر، فأكيد رأى وشعر بأشياء لا أعرفها، ولذلك يُمكِن أن يُوجَد شخص – كما قال كونفوشيوس Confucius – يعتزل الناس ويعيش وحده لأنه ناسك – صدِّقني – ويصل عمره إلى خمسين سنة، لكن بحسب منطق كونفوشيوس Confucius هذا ليس شخصاً اجتماعياً، هذا ليس إنساناً، هذا في النهاية عمره يصل إلى خمسين سنة لكن عمره الحقيقي المفروض أن يكون كم؟ عمره الحقيقي لم يتجاوز اليوم، لا يفهم شيئاً هذا! حين ينزل ويُكامِع المُجتمَع ويُعارِك الحياة العادية سوف يرى أنه من أجهل الجاهلين وأنه لا يفهم شيئاً.

أحياناً بعضنا يزعل من نفسه قليلاً ويلوم عليها حين يرى أن أكثر تقويمه في غير محله، يزعل ويبدأ يفقد الثقة في نفسه، وأنا أقول له أنت السبب، أنت السبب لأنك غير مُتحفِّظ، قد يقول أحدهم اليوم – مثلاً – أرأيت عدنان هذا؟ الله أكبر يا أخي، هذا إنسان فظيع، هذا كذا وكذا، هو الناطق باسم كذا وكذا، وغداً يقول أعوذ بالله يا أخي من عدنان هذا، مَن هذا؟ اتضح أنه خرتيت، هذا كذا وكذا، غلط! ليس عندنا مُشكِلة لكنه غلط، قد يقول اليوم أرأيت سعيداً؟ أسعده الله يا أخي، هذا فيه سعادة الدنيا والآخرة، هذا كذا وكذا، وغداً يقول أعوذ بالله من سعيد هذا، اتضح أنه من أبخل عباد الله، ثم يقول المسكين لنفسه هذا يعني أنني أهبل ويبدأ يلوم على نفسه، بعض الأشخاص يتصلون بي ويقولون لي بصراحة عملنا كذا وكذا ثم يلومون أنفسهم، لذل تحفَّظ ولا تُسرِع، ألم تُعلِّمك الحياة يا أخي؟ تعلَّم يا رجل، الإنجليز يقولون ببرود مَن وقع في حفرة فتباً لها، فإن وقع فيها مرة ثانية فتباً له، هل أنت أهبل؟ أنت الحياة لدغتك! لا تُسارِع إلى الحكم على الناس، لأن شكل أحدهم أعجبك أو أعجبتك ضحكته أو أسنانه أو حواجبه أو طول شعره وإلى آخره، ليس هذا هو! أو لأن اسمه أعجبك وما إلى ذلك، لا يا رجل، أو لأن نفاقه لك أعجبك، أعط نفسك فرصة!

النبي لم يكن مدّاحاً ولم يكن أيضاً قوّالاً في الناس، النبي لا يُسارِع إلى المدح فيُعطي نياشين في لحظة، لا!  تصبَّر قليلاً حتى تُجرِّبه، أليس كذلك؟ جرِّب صاحبك، اختبره! أنا خُدِعت في الكثير من الناس في حياتي، طبعاً الأمر نسبي، لم يكونوا كثيرين جداً لكنهم كانوا كثيرين إلى حدٍ ما، هذا حصل أكثر من مرة بصراحة، أكثرة من مرة! وخُدِعت خداعاً لا أقول ضرب ثقتي بنفسي لكن أقول ضرب غروري، كنت أظن أن عندي فراسة وعندي تحليل وما إلى ذلك، ضرب لي هذا في الصميم ضربة قاضية، فجعلني أتخفَّف من هذا الشيئ، والله العظيم! وفي بعض الأحيان امتد خداعي بشخص ما – مثلاً – لأكثر من عشر سنوات، تخيَّل! اتضح أنني لم أعرف طبيعته، اتضح أنه شخص آخر غير الذي كنت أتخيَّله تماماً، كنت أقيسه على نفسي، أنا ما في قلبي على لساني وأتكلَّم بشكل طبيعي، فكنت أظن أنه كذلك لكنه لم يكن كذلك، هو مُختلِف تماماً، تباً له! حتى لا أقول تباً لي، المُهِم أن الإنسان ينبغي أن يتعلَّم، لابد أن نتعلَّم، إذن قال العمر نفسه – هو هذا – يُكسِب الإنسان حكمة، ليس حكمة الكُتب والمواعظ وإنما حكمة الحياة، قال اسأل مُجرِّب ولا تسأل حكيماً، أي طبيباً، يقصد الطبيب! فلابد من المُجرِّب والتجربة.

والنبي – عليه السلام – قال هذا، لماذا نأخذ من كونفوشيوس Confucius؟ والله ديننا عظيم بصراحة، أنا أقول لك مَن يفهم دينه فهماً كخُطة للعمل والحياة – روشتة Rezept – والله لا يُنقِصه أي شيئ، لا أقول هذا لأنني مُسلِم لكن – والله – نحن لا ينقصنا أي شيئ، ولذلك أنا أقول لك أنني أجد هذه الفلسفات والعلوم قريبة جداً جداً من نفسي، وهي بسيطة ومفهومة وسلسة، أفهمها في ساعات، لأن عندي قاعدة، عندي قاعدة من ديني، دين عجيب هذا، بحر مُحيط يا أخي والله العظيم! هذه كلها أنهار، وديننا بحر مُحيط، فانظر إلى النبي، لخَّص لك أيضاً كل القضية هذه في حديث إسناده صحيح والحمد لله، قال لا حكيم إلا ذو تجربة، أرأيت؟ التجربة! لابد من التجربة، الحكمة تُؤخَذ بالتجارب وليس بالكُتب وليس بالخُطب، بالتجارب! لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة، النبي قال هذا، أرأيت؟ قال أي واحد يكون حليماً يخرج أحياناً عن طوره، ألا يقول أحدهم أخرجني عن طوري؟ المقصود بالطور هنا ليس الطور الفيزيقي وإنما النموذج أو النمط، أخرجني عن الــ Typ الخاص بي، الــ Typ الخاص بي أخرجني عنه، أنا لست هكذا، أنا حليم، نموذجي الحلم، هو أخرجني يا أخي عنه، صحيح! النبي قال لا حليم إلا ذو عثرة، يخرج عن هذا في بعض المرات، لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ولكل عالم هفوة، عادي! هكذا طبيعتها البشر، لكن لا حكيم – هذا العظيم في كلام النبي – إلا ذو تجربة، لابد من التجربة! يقول أنا جذَيلُهَا المُحَكَكُ وعُذَيقُها المُرَجَبُ، يُقال حنَّكته الأيام، أي أن أسنانه سقطت، ليس معناها أن أصبح لديه حنك، معناها أنه أصبح بحنك فقط من غير أسنان، لأنه كبر! هذا يعني أنه كبر، حنَّكته الأيام! هل تعرفون ما التحنيك؟ هذا هو التحنيك، يتكلَّم المسكين بالحنك – تعرفون أنتم هذا – لأن أسنانه وقعت، هذا يعني أنه مُحنَّك، فخف من هذا، مَن عنده هذا الشيئ يُخيف مَن حوله لأنه عميق، كالبحر العميق! أليس كذلك؟ هناك أُناس يحتقرون مَن عنده هذا الشيئ ويرونه ضعيفاً لكنه ليس كذلك، هو مُحنَّك!

فبالنسبة إلى العمر هذه فلسفة كونفوشيوس Confucius حول العمر، نأتي الآن إلى النُقطة الرابعة، نحن تكلَّمنا إلى الآن عن ماذا؟ تكلَّمنا عن فلسفته الاجتماعية في الإصلاح والإحياء وما إلى ذلك وقلنا يُمكِن أن نُلخِّصها في خمسة عناصر، أليس كذلك؟ أولها الجين Jen، والثاني اللي Li وهو الكياسة، أليس كذلك؟ هل هذا مضبوط أم لا؟ وفي اللي Li قلنا عندنا خمسة عناصر، وذكرنا شيئاً آخر وهو التشون تسو Chun-Tzu، التعبير الحي العياني! نأتي الآن إلى الرابع وهو السُلطة Power أو Autorität، أي التي Te، التي Te بالصيني معناها السُلطة أو القوة، لكن أي سُلطة؟ هناك أُناس غريبون يُمكِن أن يفهموها على أنها السُلطة المُجرَّدة، لا! السُلطة المُجرَّدة يكفر بها كونفوشيوس Confucius، مَن يُؤمِن بها؟ الواقعيون، وقد ذكرناهم، أليس كذلك؟ القانونيون! عندهم السُلطة المُجرَّدة، يُراهَن على الحاكم وعلى الإرادة السياسية، كونفوشيوس Confucius احترم الحاكم، وقال الراعي والراعية، أليس كذلك؟ ومثلما يقوم الراعي بكذا وكذا هي تقوم بالطاعة وبالوفاء والأمانة له ولعهده أيضاً، لا تنبذ العهود والمواثيق معه وتُطيعه أيضاً، لابد من طاعة الأمير أو الحاكم أو الرئيس أو الملك وإلى آخره، لكنه لا يُؤمِن بالقوة المُجرَّدة التي قد تُؤدي إلى الطُغيان والاستبداد، يُصبِح طاغية – Tyrant – هذا، يُصبِح طاغوتاً والعياذ بالله! قال لا، هذا خطير وسيئ جداً جداً، وهذا أسوأ شيئ!

وهناك قصة في الأدب الكونفوشيوسية جميلة جداً وحكيتها لكم على المنابر عدة مرات، عندك سطح أحد الجبال وهو تاي Tai- اسمه جبل تاي Tai الصيني – رأى كونفوشيوس Confucius امرأة مُنفرِدة تبكي بحسرة ومرارة، فسألها يا أُختي ما الذي يُبكيكِ؟ قالت له النمر، النمر هو سبب بلائنا، لقد أكل قبل مُدة أبا زوجي ثم افترس زوجي، وقبل أيام لقيَ ابني الوحيد مصير أبيه وجده، افترسه! وكانت المسكينة تلطم وتندب وتبكي، قال لها ما الذي يحملكم على الإقامة في هذا المكان وفيه النمر؟ قالت ليس له فيه حاكم مُستبِد، فيه حاكم عادل، لكن ليس فيه حاكم مُستبِد، قال اسمعوا لتَلاميذه، كان عنده دائرة ضيقة من التَلاميذ الذين كانوا دائماً مُتقِدي الحماس، عندهم إيمان شديد بمُعلِّمهم، قال لهم أرأيتم؟ اسمعوا قال لهم، الحاكم المُستبِد الفاسد شرٌ من النمر المُفترِس، هو أشر منه طبعاً! ويُوجَد تعبير أجمل لهوميروس Homer، سماهم أكلة الشعوب!

الذين يأكلون شعوبهم الحُكّام الظلمة المُستبِدون، يأكلون الناس هؤلاء، يأكل الواحد منهم الناس حقيقة في النهاية، يأكل الناس ويأكل أرزاقهم وحُرياتهم وبعد ذلك يأكل حتى أبدانهم، يُدخِلهم في حروب ومحارق من أجل أن يُحقِّق مغانم له، مُجرِم والعياذ بالله، مُجرِم!

 أين؟ أين الحاكم المُستنير الطيب العادل هذا؟ قليل جداً جداً هذا في تاريخ الدنيا، في التبت يُوجَد شيئ مثل هذا، وبحسب الدكتور هوستن سميث Huston Smith – باعترافه – وبحسب أوزفالد شبنغلر Oswald Spengler ماذا حدث في الفترة الأولى من تاريخ الإسلام؟ لا يُوجَد حتى أي غربي يُريد أن يعترف بأن خلافة الراشدين – وبصراحة ليس كل خلافة سيدنا عثمان، بصراحة جُزء منها، أنا أُحِب أن أكون صادقاً مع نفسي، يُوجَد شيئ غير جيد حصل – هذه كانت الفترة المثالية، الحاكم فعلاً عجيب، كان مثالياً، غير طبيعي! وئدت بل ذُبِحَت ذبحاً، يا ليتها وئدت فقط، لأن هناك خمسين ألف صحابي وتابعي طبعاً ذُبِحوا ويُقال كانوا سبعين ألفاً، دماء سُفِكت على يد مُعاوية بن أبي سُفيان، قام بالذبح هذا، ذبح! وإلى اليوم نحن في الذبح والأمة تسيب دماؤها بسبب هذا الفعل المقبوح والعياذ بالله من فعلته، فقليل هذا!

طبعاً رأينا أن كونفوشيوس Confucius لا يُراهِن على السُلطة المُجرَّدة، وكما قلنا يُراهِن على التقليد المُمأسس، لذلك كان يجب أيضاً أن يُعنى بالسُلطة طبعاً، يُوجَد تقليد وهو يُريد أن يُمأسسه، هناك مُؤسَّسات مُهِمة جداً جداً تابعة للسُلطة هذه التي يُمكِن أن تكون مُجرَّدة، فاهتم بها كونفوشيوس Confucius وقال السُلطة الصالحة تتسم أو تتصف بثلاث كفايات أو بثلاث خصائص، الكفاية ما معناها؟ حين أقول كفاية أعني الكفاءة أو الاقتدار، الأمر الأول الكفاية الاقتصادية، أي الكفاءة الاقتصادية، الأمر الثاني الكفاية العسكرية، والأمر الثالث – وهو أهم الأمور الثلاثة – ثقة الناس بها، لذلك كان كونفوشيوس Confucius عنده حس ديمقراطي، يتعاطف مع تأييد الشعب للحاكم وانسجام الشعب مع حُكمه ومع حاكمه، ولذلك عملياً كان يتعاطف أيضاً مع الفقراء والمساكين وخاصة من طلّابه، وكان لا يرى نفسه مُتميِّزاً، عنده الناس كلهم سواء، لأن هو نفسه أصلاً مُنحدر من طبقة اجتماعية ليست راقية، ليست مُنخفِضة جداً لكنها كانت وسطاً، ومات أبوه وعمره ثلاث سنوات واضطر أن يكسب لُقمته بعرق جبينه وهو طفل صغير مسكين، فهذا جعله يُلامِس ويُلابِس الناس في أحوالهم العادية الصعبة القاسية والمُجرَّدة، رأى هذا! رأى الرجل مُعاناة الناس وآلام وأوجاع الناس فأحس بهم، سُبحان الله! ربما هذا قدره، لو لم يتيم هذا في الثالثة من عمره ووجد والداً يكفله وما إلى ذلك لما أحس ربما بالناس ولما أنشأ فلسفة اجتماعية لخدمة المُجتمَع، ربك عنده كل شيئ لحكمة.

المُهِم نرجع، هو رأى أن الحاكم الصالح لابد أن يتميَّز بهذه الأشياء الثلاثة وأهمها ثقة الناس فيه، وهذه الثقة فيها عوامل طبعاً كثيرة تدعمها.

سأله مرة حاكم لو Lu – لو Lu هي المُحافَظة أو المُديرية كما يُسمونها التي وُلِدَ فيها أصلاً كونفوشيوس Confucius ومات فيها، هذه مُحافَظة لو Lu، الآن يُسمونها ربما باسم آخر، تغيَّر اسمها، غير موجودة الآن بهذا الاسم، لها اسم ثانٍ – كيف على الحاكم إذا أراد أن يحكم أن يحكم؟ كيف يبدأ؟ من أين يبدأ؟ ماذا يعمل؟ فأجابه فقط أن يجتهد أن يكون مُستقيماً، فإذا استقام ونضج رأى الرعية كلها تستقيم خلفه، وهذا صحيح! الحاكم مُلهِم للناس يا جماعة، وكل الشعوب عندها تقريباً هذا المعنى في صياغات مُختلِفة، الناس على دين مليكهم، نحن نقول ملوكهم! جمع ملك، المليك هو الملك، الناس على دين الملك، هذا صحيح إلى حد بعيد!

ذكرت لكم مرة اقتباساً من ابن كثير في البداية والنهاية جميلاً جداً، ابن كثير قال صدق مَن قال الناس على دين مليكهم، قال أنا تأملت – ابن كثير عنده في مرات كثيرة تأملات ذكية جداً واستقراءات عجيبة ولطيفة – في التاريخ الإسلامي – تاريخنا قال – ووجدت أن في أيام هشام بن عبد الملك كان الناس يُعنون بالأموال، وجدت هذا، شيئ عجيب! الناس كلها تهتم بالمال باستمرار، كل واحد يقول تاجرت وعملت كذا وكذا، حديث الناس كله في الأموال، في الأسواق وفي المساجد حديث الناس كله عن الأموال والتجارات والأرباح وما إلى ذلك، كأنهم رأسماليون، قال الوليد بن عبد الملك الناس عُنيَ بالبناء والقصور، وجد الناس كلها استبحرت في القصور والبناء، هذا بنى وهذا علّى وهذا زاده، الكل صار يهتم بالبناء، فلسفة بناء! سُليمان بن عبد الملك – سلف عمر بن عبد العزيز – كان يُعنى بالجواري، قال رأيت الناس كلها صارت تهتم بالجواري، كم جارية عندك؟ كم جارية عندي؟ بكم اشتريتها؟ كيف هذا؟ الحديث كله عن الجواري! عمر بن عبد العزيز – ومعروف ماذا كان هو، كان يُعنى بماذا؟ – يُعنى بالعبادة والتأله، قال وجدت الناس كلهم يُعنون بهذا، كم ركعة؟ كيف تقوم الليل؟ كم تحفظ من القرآن؟ هل ابنك يحفظ القرآن؟ الكل صار يهتم بالدين، قال فصدق مَن قال الناس على دين مليكهم.

طبعاً هذه مُلاحَظة جيدة في الجُملة لكنها لا تُعتبَر علمية الآن، لكي تصير علمية – أي مُلاحَظة ابن كثير – لابد من دعمها بالدرس العلمي الحقيقي، ما هو؟ لابد من أن تنظر إلى الأدبيات، كُتب الفقهاء وكُتب الأدب وكُتب الشعر وكُتب التاريخ الإسلامي، ينبغي أن ترى كيف تعكس الاهتمام بهذه الأشياء، لا تقل لي مُلاحَظة هكذا عامة، لا! أنت لاحظت الشيئ هذا، لكن كيف؟ هل قمت بعمل إحصائيات؟ هل قمت بعمل دراسات واستبيانات؟ كيف عرفت إذن؟ أليس كذلك؟ طبعاً أكيد هو عرف، لكن كيف عرف؟ عبر دراسة الأدبيات، اعكس لي إياها وأرني إياها إذن، أرني نموذجاً من هذه الأدبيات، هكذا يكون الدرس العلمي، وإلا تبقى مُلاحَظة فراغية – مُعلَّقة في الفراغ هذه – في العلم.

على كل حال قال مثل هذا، طبعاً هل حاول كونفوشيوس Confucius نفسه أن يُصبِح حاكماً؟ أحب ذلك جداً، ليس من أجل نفسه، لا! للأسف الزُهّاد والنُسّاك احتكروا أفكاره ومبادءه ورأوا أنه إنسان فارغ وجامد وإنسان يهتم بالمظهريات، كلها مظهريات ومُجتمَع ومُؤسَّسات وما إلى ذلك، أين الحكمة؟ أين النفس أو الروح؟ أين الله؟ أين الآخرة؟ أين الموت؟ وأين الحياة؟ لا يهتم بالأشياء هذه فاحتقروه!

الفلّاحون تقريباً لم يُعوِّلوا عليه كثيراً، وعد بأشياء ويعد ويُبشِّر بأشياء دون أن يروا نتاجاً على الأرض، لذلك المسكين تحفَّظ حتى في نظرته إلى نفسه بإزاء تَلاميذه الذين أولوه ثقتهم المُطلَقة وزعموا أنه فريد العصور وليس فقط عصره، هو كان يقول لهم لا، أنا واحد منكم، أنا صديق لكم، قد أكون أكبر من بعضكم وقد أكون أصغر من بعضكم لكن أنا صديق لكم، أنمو معكم وأنمو بكم، ولا أفضلكم! هكذا هو قدري، لماذا؟ كان المسكين يطلب أن يُقيم أنموذجاً عملياً على صحة أفكاره وكونها قابلة للتطبيق، وأكيد قابلة للتطبيق هي، لكنه يُريد أن يُقيم أنموذجاً على صحتها، ومن هنا سعى الرجل بحمية هكذا إلى أن يرأس، يُصبِح وزيراً أو يُصبِح حاكماً أو يُصبِح أي شيئ، يُريد هذا لكي يقدر على أن يُطبِّق أفكاره، وفعلاً زكاه بعض علماء عصره، وطبعاً حين نقول علماء لا نقصد العلماء بالمعنى الحديث، البيروقراطي الصيني كان عالماً، هكذا كان عندهم! لكي تصير بيروقراطياً أو تأخذ أي منصب إداري لابد أن يكون عندك علم، ندهام Needham في كتابه الذي أحضرناه في المرة السابقة عن الصين – هذا أعظم عالم إنجليزي في الصينيات – قال العجب أن فلسفة كونفوشيوس Confucius وروح كونفوشيوس Confucius جعلت الناس في مُباريات ومُبارزات، وطبعاً هذا أيضاً ليس في أيامه فقط، كان يُوجَد حتى قبل أيام، هو لم يبتدع هذا لكنه أكَّده، أكَّده تماماً! الطاوية أيضاً ساهمت هنا، نحن قلنا أنها ساهمت في هذا، الطاوية ساهمت في أن يكون الإنسان الحكيم الواعي في القمة وأن يكون الجُندي في القاع، والكونفوشيوسية أيضاً في نفس الإطار تقريباً، فهي لم تُول الجُندية أهمية عُظمى، أولت المُتعلِّمين أهمية كُبرى، المُهِم قال حدثت مُباريات ومُبارزات كالتي تحدث في عصرنا هذا، يتقدَّم ثمانمائة أو مائتان أو ثلاثمائة إلى منصب إداري واحد، مُباريات علمية! ويحدث اختبار علمي في الأدب، في الشعر، في اللاهوت، في الموسيقى، في الفن، وفي أشياء كثيرة، والذي يفوز يأخذ المنصب، والغريب أن في مرة فاز أحدهم وصار وزيراً في حين أن أباه كان سائقاً للبغال، يقول ندهام Needham هذا غريب جداً، أين مثل هذا؟ أين يحصل هذا؟ هل في العصور القديمة يحصل هذا؟ أقبل المسيح بخمسمائة سنة يحصل هذا؟ هذا الرجل أبوه كان سائقاً للبغال لكنه صار وزيراً، هذا كان مُستحيلاً قديماً، كيف يصير وزيراً؟ لأنه عالم وفاهم،  أي أنه مُثقَّف kultiviert! هنا قد يقول لي أحدكم هل كان عندهم علم؟ وطبعاً كان عندهم، تُوجَد موسوعة صينية الآن تُغطي خمسة عشر قرناً، هي عمرها من خمسة عشر قرناً، يُؤلِّفون فيها ويزيدون عليها ويُنقِّحونها، مثل الموسوعة البريطانية التي يصل عمرها إلى زُهاء مائتي سنة، لكن هذه عمرها ألف وخمسمائة سنة، يتحدَّثون عن الموسوعة البريطانية – موسوعة بريتانيكا Encyclopedia Britannica – بفرحة، مائتا سنة يا هُبل! ماذا عن هذه الموسوعة الصينية؟ الصينيكا هذه كم عمرها؟ خمسة عشر قرناً، في كم مُجلَّد؟ كم العدد الذي تتوقَّعون؟ البريطانية في حوالي أربعين مُجلَّداً بالمُلحَقات – Indexes – الثانوية، الصينية في كم مُجلَّد؟ أحد عشر ألفاً، الصينية أتت في أحد عشر ألف مُجلَّد، هذا مُهِم لكي تعرف يا أخي أن هناك أمماً عظيمة، لا تنظر هكذا باستخفاف إلى الآخرين، أحد عشر ألفاً! 

(ملحوظة) قال أحد الحضور هل هي مُترجَمة؟ فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم كيف تُترجَم هذه؟ مَن ترجمها؟ ومَن يُمكِن أن يُترجِمها؟ أنا لتقيت ذات مرة هنا ببروفيسور Professor ألماني – هو صديق لي لكن المُهِم أن هذا حدث هنا – وقال لي يا عدنان أنا تعلَّمت الصينية، فقلت له نعم، ما الذي حدث معك؟ قال لي في عشر سنوات كنت أحفظ ثلاثمائة كلمة ثم أنسى ما حفظت، صعبة جداً لُغتهم، أعطاهم الله العافية، لُغتهم مثل الزفت، اللُغة كلها رسوم يا أخي، رسوم! لا تُوجَد أحرف، كل جُملة يُعبِّرون عنها ببعض الرسومات، لابد أن تحفظ الرسومات كما هي حفظاً، صعبة جداً جداً، صعب جداً أن تتعلَّم الصينية، تُدمِّر حياتك! فقال لي يا عدنان في عشر سنوات كنت أحفظ ثلاثمائة كلمة ثم أنسى ما حفظت ثم أحفظ ثم أنسى ما حفظت، لا فائدة! وزوجتي مثلي، زوجته تتعلَّم الصينية أيضاً، صعبة جداً! فكيف تُريد أن تُترجِمها؟ مَن يُترجِمها؟ أحد عشر ألف مُجلَّد، لكن هناك ثقافة ضخمة، وهذه فقط موسوعة، أي أن كل شيئ ليس مذكوراً، هذا موجود بالطريقة الموسوعية، وهذا يعني أنها أمة عريقة جداً يا أخي، عندها فكر رهيب!

نحن حين نتحدَّث عن المُعلِّم كونغ فو Kung Fu هذا – أي كونفوشيوس Confucius – نظن أنه علَّم فقط الأشياء التي ذكرناها في الدرس، لا! كان يُعلِّم الموسيقى والفنون – الرسم والنحت وغيرهما، كان يعرفها جيداً – والرياضيات والتاريخ والإلهيات والملكية – ما الملكية؟ الحُكم، علم الحُكم، أي السياسة – وعلوماً غيرها، ما رأيك؟ كان يُعلِّم باقتدار ويفهم ماذا يُعلِّم، عندهم تراث واسع!

في درس ماضٍ أنا ذكرت ماذا قال برتراند راسل Bertrand Russell حين زار الصين، زار الصين سنة واحدة فقط وعلَّم فيها، كان هارباً في مشاكل في بريطانيا أيام الحرب، وعلَّم هناك لمُدة سنة، رأى الصينيين ورأى أفكارهم وماذا عندهم وكيف يُناقِشون وكيف كذا وكذا، قال وجدت أوروبا كالطبل الأجوف، كنا نقول نحن ونحن ونحن، وللأسف نحن – الشرقيين والعرب المُسلِمين – صدَّقنا هذه الأكذوبة، أن أوروبا هي البداية وهي النهاية، أصابونا بالهبل! يُريدون منا أن نتخلى عن كل شيئ من أجل أوروبا وأفكار أوروبا وفلان قال وفلان فعل، لا! هل أنت أهبل يا أخي؟ اعرف نفاسة ما عندك، الصين لم يتخل عما عنده والياباني لم يتخل عما عنده، فهل تتخلى أنت هكذا ببساطة وأنت عندك أعظم تراث إلهي؟ لماذا؟ أُخِذنا بالغرب! لأن ليس عندنا ثقافة، الصيني لا يتخلى ولا يُفكِّر لحظة في أن يتخلى، لأنه يرى الغربي هذا بسيطاً جداً وساذجاً، ليس عنده حتى عراقة، أين ثقافتك أنت يا غربي؟ ما الذي عندك؟ يقول لك لا شيئ، كلام فارغ! هؤلاء الناس عندهم أشياء عجيبة جداً وعندهم حس.

كونفوشيوس Confucius على ذكر أنه كان يُعلِّم الفنون والموسيقى بقيَ ثلاثة أشهر لا يدري ما يأكل ولا يُبالي ما يأكل، في حالة ذهول! فلماذا؟ ما الذي حصل له؟ هل مات ابنه؟ هل ماتت زوجته؟ لا! سمع قصيدة – قال – جميلة جداً جداً، أصابته بالهبل، أصابته بالهوس، أورثته حالة من الجذل والمُتعة – Pleasure – والاستمتاع – Enjoying – والإثارة أو المُستثارية، ثلاثة أشهر! تسعون يوم – قال – لا يعرف ماذا يأكل وماذا يفعل، بسبب القصيدة – قال – هذه، أف! هذا يعني أن عنده حس فنان، حس رهيب!

وقلنا في مرة سابقة الفنان الصيني لكي يرسم لوحة – شجرة في سفح جبل مثلاً – ماذا يفعل؟ لا يأخذ مثل الغربي الصورة ويبدأ يُقلِّدها، لا! يمكث بجانبه، يذهب إليها ويُجاوِرها، يقوم بعمل جوار أو مُجاوَرة، ليست مُجاوَراة في مكة وإنما مُجاوَرة في سفح الجبل، يُجاوِرها – قال – لعشرين يوماً أو لأربعة وعشرين يوماً أو لشهر أو لشهرين أو لثلاثة أشهر أو لستة أشهر، يُجاوِرها ويعيش معها! يعيش مع الشجرة والجمال، يُحاوِل أن يندمج فيهما، هذا الصيني وخاصة إذا كان طاوياً Taoist، هكذا هم الطاويون! بعد ذلك يبدأ يرسمها يا حبيبي، فيكون فنه عريقاً جداً جداً، ولا يكون فناً تقليدياً ولا فناً طبيعياً، بالعكس! يكون فناً تجريدياً أيضاً، ما رأيك؟ فيه روح لابد أن تفهما، فيه شيفرة لابد أن تحلها، هذا هو!

أنا أجد هذا في عملي الفكري أيضاً، حين كنت اُبتلى بتسجيل حلقات للتلفزيون – ربما أُسجِّل ستين حلقة – أشعر أن هذه مُصيبة، سوف تُدمِّر لي حياتي، لماذا؟ لأن هذا لابد وأن يقطعني من قراءاتي، وأنا أقرأ بمزاج، كيف بمزاج؟ الآن أُحِب أن أقرأ في الاتجاه هذا فأقرأ فيه لأسبوع أو أسبوعين وأنا سعيد ومُنشرِح، أتعمَّق في الشيئ هذا وأُحِبه وأُعلِّق عليه وأكتب فيه، لا تقل لي تعال، وقِّف هذا وتكلَّم عن أسماء الله الحُسنى، على رأسي وعيني – هذه أسماء الله الحُسنى – لكن ليس الآن، لا أُحِب أن أتكلَّم الآن في الموضوع هذا بصراحة، لا أُحِب لا أن أتكلَّم فيه ولا أنا أخطب فيه، تعال في الوقت الذي أُحِب أن أتكلَّم فيه عن أسماء الله الحُسني، سوف يكون هذا وقتي، هو هذا! فلكي أقدر حتى على أن أعقد لك مُحاضَرة عن شيئ لابد أن أنزع نفسي من كل اهتماماتي لفترة مُعيَّنة لكي أغوص في هذا الشيئ بمشاعري ومن ثم أقدر على أن أتفاعل معه، هذه ليست عملية ميكانيكية بحتة، احفظ وقل! غلط هذا، فالفنان الصيني كان يستغرق في هذه الحكاية عدة أشهر، ليس يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو أسبوعين، يستغرق في هذا عدة أشهر ثم يبدأ في العمل.

عندهم روح حقيقية، لذلك هذا الشعب أيضاً، قد يقول لي أحدكم هذا صحيح، عندهم أوائل وخوالد، أول مَن صنع الورق مَن هم؟ الصينيون، نعرف هذا نحن! أول مَن صنع المطبعة؟ قد تقول جوتنبرج Gutenberg، وهذا غلط! مَن جوتنبرج Gutenberg هذا؟ الغربيون يكذبون على الحضارة، الصينيون يا أخي هم الذين فعلوا هذا، أول صنّاع الطباعة المُتحرِّكة الصينيون، عندهم الشيئ هذا، ألواح خشب وتنظيف وكل شيئ، شيئ غريب، عقل جبّار! أول مَن صنع الصواريخ التي كانت بدائية طبعاً؟ الصين، أول مَن اكتشف البارود وطوَّره؟ الصين، عندهم الكثير! شيئ غريب! وكذلك الحال في الطب وما إلى ذلك، عندهم علوم وصناعات واختراعات وفن راقٍ جداً جداً، الفن الصيني، عندهم ما يُسمونه بالمُنمنَمات وهو فن راقٍ جداً ويُقلَّد، موجود في فارس وفي بلاد الصين بشكل مُمتاز جداً، أعني فن المُنمنَمات هذا!

على كل حال إذن بالنسبة إلى مَن زكاه؟ زكاه بيروقراطيون علماء، لأننا قلنا البيروقراطي هو العالم، زكوه! يقول التاريخ إنه تدرج سريعاً من منصب رفيع إلى وزير للعدل إلى رئيس للوزارة، أي صار رئيساً للوزراء Prime Minister، صار هكذا بسرعة! وبعد ذلك تقول الرواية الرومانسية – أكيد فيها قدر كبير من الرومانسية أو هم رومنسوها – في تلك الفترة التي كان فيها رئيساً للوزراء في اللو Lu – مُحافَظة أو مُديرية لو Lu – استتب العدل وضرب بجِرانه وهدأت خواطر الناس وارتاحت نفوسهم، وكُنت ترى الشيئ مُلقىً في الشارع لا تمتد إليه يد، أمانة، عفة، استقرار، وسلام! أكيد قدر من هذا كبير حصل، ربما ليس بهذه المُبالَغة الرومانسية لكن حصل قدر كبير منه، فتحرَّكت عقارب الغيرة والحسد في نفس مَن؟ حاكم المُديرية الذي استولى على الحُكم بالقوة، كان غاصباً ومُستبِداً، يُسمونه عندنا المُتغلِّب، بالقوة هكذا قفز على ظهر دباية صينية قديمة خشبية، المُهِم هذا بدأ يشعر بالغيرة من كونفوشيوس Confucius، قال ربما يُبايعه الشعب بعد ذلك ويصير حاكماً ويُطارِدونني وما إلى ذلك، فسأله يوماً سؤالاً ملغوماً، قال له أيها المُعلِّم ما هي أحسن خُطة لي لكي أحكم الناس حُكماً ناجحاً؟ طبعاً كونفوشيوس Confucius احتقره في الداخل، أنت أصلاً لا تستأهل أن تكون حاكماً، وكما قلنا كونفوشيوس Confucius يهتم كثيراً بضبط الأسماء وتصحيح الأسماء، مَن هو الحاكم؟ ليس كل مَن صار على العرش، لا! الحاكم الذي يُوجَد اتفاق عليه، أليس كذلك؟ وعنده كفايات ثلاثة، أهمها رضا الشعب به، لا تفرض نفسك! يُسمونك بالحاكم لكن أنت غير حاكم، أرأيت؟ هكذا هي الأمور، هذه هي!

أنا أُجَن حين يتحدَّثون عن زعيم خائن، كيف يكون زعيماً وكيف خائناً؟ ليس زعيماً، الخائن لا يكون زعيماً، يكون حذاءً وحاشاكم! يكون أي شيئ لكن لا يكون زعيماً، لا تقل لي إنه زعيم، الزعيم الفلسطيني أو الزعيم المصري! زعيم ماذا؟ وزفت ماذا؟ خائن – Verräter – هذا وصعلوك، رئيس عصابة هذا، مافيوز! لا تقل لي إنه زعيم، لا! الزعيم هو الرجل الذي فعلاً يحمل هم أمة، أليس كذلك؟ ويعيش معها ويعيش بها وفيها ولها، نجح أو فشل يظل زعيماً في النهاية، أليس كذلك؟ لكن لا تقل عن سرّاق إنه زعيم، زعيم خائن! هنا تُنتهَك اللُغة، أليس كذلك؟ أنا قلت تُغتصَب اللُغة، أليس كذلك؟ حين تقول هذا عالم دين فاسق، كيف يكون عالماً ويكون فاسقاً؟ الله لم يقل هذا، الله قال إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۩، العالم يخشى الله، أليس كذلك؟ والعالم لابد أن يكون عالماً، على الأقل لُغةً، لابد أن يكون فاهماً، فالأول ائتني بشخص يكون فاهماً ويخشى الله ويكون خشعاً وطيباً وأمّاراً ونهّاءً – إلى آخره – وبعد ذلك سمه عالماً وتكلَّم عنه، لا تأت برجل من الشارع كان كذا وكذا وكذا – يجمع صفات النذالة كلها – وتقوله إنه عالم ثم تنسب له بعد ذلك الفسق والعُهر والخيانة والعمالة وما إلى ذلك، كيف تقول إنه عالم؟ أنت بهذه الطريقة أسأت لعلماء الدين كلهم، كونفوشيوس Confucius يرفض هذه الخُطة، يقول في البداية حدِّد ألفاظك، فانزعج كونفوشيوس Confucius من هذا السؤال الملغوم، فأجابه نقدر على أن نقول بنوع من الجراءة أو من الإنكار، هل تعرف ماذا قال له؟ الأفضل لك – أرأيت؟ لم يترك السؤال في عمومه، قال له أنا أعرف أنك تسأل عن نفسك وليس عن الحاكم بالمُطلَق، قل أنا كيف أحكم جيداً إذا أردت أن أحكم؟ لكنه قال الحاكم وكيف يحكم؟ وأكثر الناس بالمُناسَبة لا يُحِبون إخراج السؤال مخرجاً واقعياً، لا يقول لك أنا، يقول أفتنا يا مولانا في مَن فعل كذا وكذا، لماذا تقول في مَن؟ أنت تقصد نفسك، تحدَّث وقل أنا بصراحة اختلفت مع أخي في مائتين يورو وحصل كذا وكذا، قل هذا لكي أحكم عليك تماماً، لكنه يجعلها عامة، يقول نُريد أن نستر أنفسنا ويأخذ الأموال، لكن لا! لابد أن تذكر ما حصل لكي نُلزِمك بتبعاته – أن تبدأ في تعلم كيف تحكم نفسك قبل أن تسأل عن كيفية حُكمك للناس، فقال لو كان هذا الجواب من غير كونفوشيوس Confucius لقُطِعَت رأسه، ولكن هذا الحاكم يعرف محبة الناس لكونفوشيوس Confucius، كان رئيساً للوزراء وما إلى ذلك، فسكت عنه ثم بعد ذلك حطه من منصبه – هذا منصب تنفذي، رئيس وزارة هذا – إلى منصب تشريفي له عنوان رفيع – مثل الكثير من المناصب – لكن بلا سُلطة حقيقية – قص له أجنحته – حتى لا يقدر على فعل أي شيئ أو تهيئة أي شيئ، فأدرك كونفوشيوس Confucius أن مُهمته قد انتهت، فترك الأمر!

قضى الثلاث عشرة سنة التالية على هذا الحدث السياسي الكبير في حياته في التنقل بين المُديريات والولايات، يعرض نفسه على الحُكّام والملوك والأمراء ليُفهِمهم مبادءه، عسى أن تلقى أذناً صاغية من بعضهم لتطبيقها، لا يُريد المسكين هذا من أجله، يُريد أن يُطبِّق أفكاره، لم يبحث عن مجد شخصي هو، وهو القائل الثروة والجاه اللتان يحصل عليهما المرء عبر البُعد عن الاستقامة والمبدأ عندي هما شرٌ من الموت ومن العار، ألعن من الفناء وألعن من العار! ليست المُشكِلة وليس المُهِم هو الثروة والجاه، كيف حصلت عليهما؟ بعض الناس ليس كذلك، لا يعتني بكيف حصل عليهما، أهم شيئ أن عنده ثروة وجاه وينتهي الأمر، لا! هذا الرجل عنده مبدأ وكان صادقاً مع نفسه، مثل سقراط Socrates كما قلنا، كان فعلاً صادقاً مع مبادئه، ولكن دائماً للأسف – من سوء حظه المسكين – كان يُقابَل بالتجاهل، لم يُوافِق أي أمير أو ملك على أن يأخذ بمبادئه وما إلى ذلك، دائماً كان يُقابَل بالتجاهل فأدرك أن أيامه قد دنت، ولذلك اعتكف في السنوات الخمس الأخيرة على مُمارَسة تعاليمه حصرياً لتَلاميذه المُقرَّبين والتنقيح الكتابي لتراث الصين التقليدي، لكن لم يكتب هو شيئاً من مبادئه للسبب الذي ذكرته في أول المُحاضَرة، حتى تُوفيَ الرجل عما يُناهِز تقريباً الثانية والسبعين من عمره في القرن الخامس قبل الميلاد، هو وُلِدَ في السادس وتُوفيَ في الخامس قبل ميلاد المسيح عليه السلام، فهذا ما يتعلَّق بموضوع التي Te أو السُلطة أو القوة.

أخيراً – النُقطة الخامسة والأخيرة، نحن قلنا هناك خمس نقاط، أليس كذلك؟ واحدة وهي اللي Li فيها خمس نقاط – الوين Wen، والوين Wen تعني فنون السلام مُقابِل فنون الحرب، الحرب لها فنون! يُوجَد كتاب مشهور جداً جداً اسمه فن الحرب في التراث الصيني، فالحرب لها فنون، والسلام له فنون، وهي مُقدَّمة طبعاً على فنون الحرب، تتمثَّل في الرسم، في الغناء، في القصائد الشعرية، وفي جميع ما ندعوه الآن بلُغتنا الثقافة Culture، بما فيها حتى الرسالات الدينية وما إلى ذلك، هذا كله يدخل في فنون السلام! 

كان يعتقد كونفوشيوس Confucius أن فنون السلام هي ما يجعل أمة مُتفوِّقة على أُخرى، ليس الحرب، ليس عدد الجيوش، وليس الانتصار في المعارك، قال لا، هذا غير صحيح! يُمكِن أن تنتصر علىّ لكن ليس بالحرب، طبعاً الصين تقريباً أكثر حضارة قديمة ووسيطة أيضاً كان عندها حدود مفتوحة مع الآخرين، يُقال الآن هي دولة في قارة، هكذا يقولون عنها، هي شبه قارة مثل أمريكا، دولة في قارة! رُبع سُكان العالم يا حبيبي، شيئ مُذهِل جداً جداً جداً، عندها حدود مفتوحة فدائماً كانت تتعرَّض للغزوات، غزاها مرات كثيرة التتار هؤلاء، المغول! الجنس المغولي هذا مرات عديدة غزاها، وهم الذين قضوا في غزواتهم على الإمبراطورية الرومانية مُبرَماً نهائياً، ساهم في ذلك أتيلا الهوني Attila The Hun وجماعته، البرابرة هؤلاء! لكن التتار غزوا الصين عدة مرات ودائماً كانت الصين تغلب، ليس عسكرياً وإنما روحياً ومعنوياً، كيف؟ تمتصهم، يدخلون غُزاة يُدمِّرون ويحرقون وما إلى ذلك وبعد قليل تمتصهم، يرون أن المغزيين المهزومين أعلى ثقافةً منهم، أعلى بكثير! ثقافة حقيقية على الأرض، فيبدأ الغازي الذي يكون قائداً في قوات التتار يتبجَّح بعدد الرؤوس التي يقطعها ويُكوِّن منها الأهرامات مثل جنكيز خان Genghis Khan وبعد ذلك ينتهي في النهاية إلى أن يجلس مُتعلِّماً بين يدي أحد المُعلِّمين الصينيين، يجلس لكي يتعلَّم، تَلميذ! ويكون غاية المُنى ومناط فخره أن ينسى الناس ماضيه كتتري منغولي وأن يُعَد صينياً ابناً للسماء.

النموذج هنا هو قوبلاي خان Kublai Khan، تسمعون به! غازٍ عظيم جداً جداً، أنشأ دولة عُظمى هذا، قوبلاي Kublai – قوبلاي خان Kublai Khan – تتري منغولي غزا الصين، وفي النهاية كان يقول مناط فخري أنني أصبحت ابناً حقيقياً للسماء، أي صينياً! صدَّق الناس أنه صيني، قالوا هذا صيني ووافقوا عليه ففرح جداً جداً، هذا حدث أكثر من مرة وحدث في أروع المرات مع مَن؟ مع المُسلِمين.

في الفصل الأول من كتابه العظيم جداً والفريد الدعوة إلى الإسلام – The Preaching of Islam – يقول طيَّب الذكر توماس أرنولد Thomas Arnold لقد حقَّق الإسلام أروع فتوحاته وأعظم إنجازاته يوم انثلم سيفه وانكسر، في اللحظات التي دُمِّر فيها الإسلام عسكرياً حقَّق أعظم الفتوحات، كيف؟ متى هذا؟ مع الغُز! الغُز الترك، الأتراك هؤلاء – أي جنس الغُز – هزمونا وسيطروا علينا، وبعد ذلك استوعبتم الحضارة الإسلامية وأسلموا، وهؤلاء قادوا العالم الإسلامي أربعمائة سنة، أربعمائة سنة على الأقل، أليس كذلك؟ غريب! كيف؟ كيف حدث هذا؟ وهذه كانت هجمات بربرية مُتوحِّشة، لكنهم صاروا مُتحضِّرين وبكّائين وأصحاب أشعار وإلهيات، شيئ غريب! والدرس الثاني ربما الأروع قليلاً بصراحة مع التتار، التتار معروفون، معروف مَن هم التتار، وهؤلاء التتار أنفسهم وسلالاتهم هم الذين بإسلامهم الجديد أقاموا إمبراطورية مجيدة عظيمة جداً جداً وإنسانية في الهند على مدى أكثر من ثلاثمائة سنة.

انظر الآن إلى تاج محل Taj Mahal، أعظم وأروع بناء على وجه الأرض، هذا بناه أحد ملوك هؤلاء وهو شاه جهان Shah Jahan – والد أورنكزيب Aurangzeb – لزوجته مُمتاز محل Mumtaz Mahal، وبناه بطريقة مُعيَّنة بحيث يراها حتى وهو نائم، شيئ غريب! وعنده نوع من اللُطف والألطاف والشفافية والرقة والروح الشاعرية العجيبة جداً جداً، ولذلك المرحوم عليّ شريعتي أذكر أنه لما جاء لكي يبحث في هذه الروح – هو جعل طبعاً الروح الصينية واليابانية والكورية والأجناس هذه مع المنغول روحاً واحدة، وعنده مُلاحَظة ذكية – قال أعجب ما لاحظت في هذه الروح أنها روح مُتطرِّفة في كلا معنييها، في كلا الجانبيين! إذا مارست الحرب وما إلى ذلك فإنها تكون عنيفة جداً جداً، يُدمِّرون ويجتاحون ويحرقون، لا يتركون شيئاً! إذا مارست الفن وصناعة الشعر والعواطف والأشياء الحلوة فإنها تكون لطيفة جداً جداً، حتى قال فنهم – كما قلنا قبل قليل – فن المُنمنَمات، أليس كذلك؟ يعتمد على النقاط الصغيرة جداً جداً والتفاصيل الدقيقة بشكل عجيب، قال روحهم لطيفة إلى هذا الحد أيضاً، يجمعون النقيضين! أليس كذلك؟ لكن هذا رهن الظروف المُهيئة، فحين يصطدمون بحضارة عريقة كالحضارة الصينية تظهر الجوانب الطيبة فيهم، أي هؤلاء التتار، هذا صحيح! حين اصطدموا بالحضارة الإسلامية ظهر شيئ عجيب، وطبعاً يُوجَد نموذج ثالث، أنا أحكي هذا وهذا طبعاً يُمكِن أن يحبط بعض المُسلِمين الذين يعتبرون أن هذه خصيصة للمُسلِمين، لكن هذه ليست خصيصة، نعم نحن نُشكِّل استثناءً لكن ضمن بعض الاستثناءات، كنا نظن أن فقط الحضارة الإسلامية التي دخل فيها الغالب في دين المغلوب، لا!  هذا حصل مع الصين أيضاً وكان هذا قبلنا بصراحة، وحصل أيضاً مع الغال، سُكان فرنسا الأصليون هم الغاليون، أليس كذلك؟ كانوا أشداء، أهل حرب وكانت كريهة كما يُقال، كانوا مُتمرِّسين في فنون الحرب فعلاً، ولكن عُدوا ويُعَدون في الدوائر الغربية الآن برابرة همجاً، لماذا؟ لأن ثقافتهم خام، لم تُصقَل، لم تُثقَّف! الثقافة من التثقيف، تثقيف الرُمح وما إلى ذلك، لكن عندهم لم تُثقَّف ولم تُهذَّب، ثقافة خام Roh Kultur، لا شيئ عند هؤلاء المساكين، اصطدموا بمَن هؤلاء؟ بالرومان، الرومان عندهم بقايا من هذا طبعاً، وهم أخذوا هذا من الألمان إلى حد ما، وعندهم حضارة على كل حال وهي أروع من حضارة الغاليين، وبعد غزوة القيصر – سيزر Caesar – لهم لم يشهد التاريخ انتفاضة للغاليين ضد الرومان، ليس بسبب القوة العسكرية، وإنما بسبب القوة المعنوية للرومان عليهم، هم أقوياء أكثر منهم، وهم مُتأدبون أكثر، وبعد ذلك تحوَّلوا، صارو جيشاً مُتحضِراً شيئاً فشيئاً، هذا حصل! فهذه ثلاثة أمثلة على الأقل فاقعة في التاريخ على صحة هذا الاستثناء، يحصل أحياناً هذا الاستثناء!

فكونفوشيوس Confucius كان واعياً بالشيئ هذا، لم يقل القوة العسكرية هي المُعوَّل عليه أو المحك، لا! قال القوة المعنوية، الوين Wen! فنون السلام، ماذا عندك من أدب، من علم، من شعر، من نحت، من رسم، من تصوير، ومن فلسفات كفلسفتي؟ كونفوشيوس Confucius يقول مثل فلسفتي أنا، مثل حكمة طاو Tao الأكبر مني، وإلى آخره، هذا هو!

ونعم التاريخ في النهاية يُؤكِّد هذا الشيئ، والقرآن أيضاً قال فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۩، الذي ينفع يبقى، ماذا عندك من النافع يا حبيبي؟ الذي ينفع يبقى، لذلك أنا أقول لك هذا ما يحدث حتى في المعارك الفكرية على أي مُستوى، فقهي أو غير فقهي بل ومُستوى حضاري أيضاً وبين حضاري وعبر حضاري وإلى آخره، أنا أقول لك – صدِّقني – في الأفكار والنظريات والمقولات والأشياء التي تُقال مَن هو فعلاً في ذاته نافع أو نفّاع أو إيجابي أو سينفع هو ما سيُكتَب له البقاء والنصر، وأما الأفكار الثانية كلها مهما حاولت أن تستدل لها بالبراهين العقلية والنقلية ومهما حاولت أن تأتي بها بالقوة وبالسُلطان وما إلى ذلك سوف تفنى، مبدأ قرآني يا حبيبي! وهذا يُؤكِّد لك – أنا أقول لك – أن الله هو روح هذا الكون والله مُدبِّر هذا الكون، وهذا الكون يعكس حقية الله، لأن الله اسمه الحق، والحق كلمة عجيبة ومُمتازة جداً جداً، من معانيها الثبات، أرأيت؟ من معانيها الثبات! يُوجَد شيئ ثابت، لا يُمكِن أن يزول، فهذا هو! النافع – قال لك – يمكث في الأرض، والثابت في ذاته اسمه حق، أي أن ثباته لا يحتاج إلى براهين، ثباته غير موقوف على البُرهان، صدِّقني ما يحتاج إلى براهين كثيرة هو المُتزلزِل، أليس كذلك؟ هل هذا مضبوط أم لا؟

نحن رأينا لاوتسو Lao-Tzu، ماذا قال لاوتسو Lao-Tzu؟ الكلمة التي عبَّر عنها علم الإدارة الحديث بقولهم مَن يقول لك أنا مُدير ليس مُديراً، هذا صحيح! مَن يقول أنا المُدير، أنا المُدير، أنا المُدير، ليس مُديراً! هذه كلمة في الطاوية، لماذا إذن؟ إذا كنت مُديراً حقاً وهذا ثابت عندي كما هو ثابت عندك فإنك لا تحتاج أن تقوله، لا تحتاج أن تُبرهِنه، متى سيُبرهِنه؟ إذا كان يشك في هذا، لأن هذا ليس حقه، ليس حقه أن يكون المُدير، لأنه كيف أخذ هذا؟ بالواسطة، يقول أحدهم أنا برلماني يا أخي، أنا عضو في البرلمان، لكن أنت أخذت هذا بألف وخمسمائة دينار أردني يا حبيبي، نحن نعرفك، أنت قلتها ووصلت إلينا، كيف هذا يا بابا؟ يقول أنا برلماني واحترموني لأنني برلماني، أو يقول آخر أنا دارس للعلوم، أنا دارس للفيزياء والكيمياء، أو أنا عندي دكتوراة في الشريعة، لماذا؟ ليس عنده ثقة، لا يُريد أن يفضح نفسه، أخذتها كيف الدكتوراة هذه؟ أرنا درجتك، ومَن الذي أعطاك هذا؟ مَن ناقشك؟ وكيف تمت العملية؟ اسكت يا رجل، فهذه هي!

لذلك أنا قلت مرة لماذا معركة الحجاب – مثلاً – في تونس وغير تونس السُلطة فيها خسرت وضروري أن تخسر، هل تعرف لماذا؟ حين تُحوِج الناس إلى أن يُبرهِنوا شيئاً غُلِبوا عليه سوف تخسر أمامهم، أليس كذلك؟ أنا أقول لك لو في تونس أو في غيرها قيل أنا ليس لي علاقة، أنا دولة ليبرالية تُؤمِّن الحريات الفردية والجماعية، مَن تُحِب أن تتحجَّب فلتتحجَّب وأنا سأقطع اليد التي تمتد إليها، ومَن تُحِب أن تخرج وهي سلط ملط كما يُقال – أي عارية – فلتخرج وهي سلط ملط، أي مثل أوروبا! سوف يخرج الكل سلط ملط إلا مَن رحم الله، وسوف تكسب جيداً، أنا أقول لك – وإن شاء الله لا يحدث مثل هذا – سوف تكسب جيداً وسوف تذهب بالناس إلى ستين داهية!

أحسن شيئ أن تفعل ما فعلته، تقول لا نُريد من أي أحد أن يتحجَّب، مَن يتحجَّب لن يدخل الجامعة أو المدرسة، سوف يدخل السجن، مُمتاز! الناس سوف تخاف في البداية، وبعد ذلك سوف يبدأون يشعرون – ليس شعور دينياً، أنا أقول لك هذا شعور إنساني غرزي – بالإزعاج، منعتنا من شيئ، فلماذا؟ هذا يعني أنك منعت حريتنا.

أنا رأيت في تونس في زيارة قبل سنتين امرأة ترتدي الجينز Jeans الضيق – أي المحزق كما يُقال – وصدرها – ما شاء الله – ظاهر وتضع الحجاب على رأسها، مطلوب ألا يُوضَع هذا لكنني سأضعه، لأنني حين أضعه أُثبِت أنني حرة، أنا لست محكومة بك، أنا حرة وسأفعل ما أُريد.

نفس الشيئ الآن، هل تُريد من شخص أن يبقى كالأهبل يُردِّد لازمة مُعيَّنة؟ اسلبه الاعتراف بشيئ هو له، يبقى يُناضِل حتى يموت قائلاً أنا هذا، أنا هذا، أنا هذا! لأنك سلبت منه الاعتراف بالشيئ هذا، أتُريد أن تُسكِته؟ قل له أنت هذا، طبعاً هو هذا! وسوف يسكت ويرضى جداً خاصة لو كان من الناس الأوادم الطيبين، سوف يسكت المسكين، هو هكذا! طبيعة الشعوب هكذا وطبيعة الأفراد هكذا، أرأيت؟ لذلك الاعتراف أيضاً فن.

ذات مرة أحد أصحابي – رجل مُتعلِّم ودكتور مُتخصِّص – قال لي أنا دائماً ما أضرب المثل بك يا شيخ عدنان، أقول لهم الشيخ عدنان هذا كذا وكذا، كأنه يُقدِّسني! فقلت له لماذا؟ أنا أُحِب أن أتساءل، وكنت حينها في الطائرة، فقال لي طبعاً بسبب علمك وفضلك، فقلت له لا، يُوجَد شيئ آخر في شخصيته أنا أعرفه في علاقتي معك ومع الناس وربما هو الذي يُعطيني الشيئ هذا، فقال لي ما هو؟ قلت له أنا عندي شيئ اسمه فلسفة الاعتراف، قلت له أنا ماذا أُسميك؟ فلم يفهم، لم يكن واعياً، قلت له أمام الناس وخاصة الغُرباء أقول عنك الدكتور، أقول الدكتور قال، أخونا الدكتور قال، فقال لي هذا صحيح وضحك، هو يُريد هذا طبعاً لأن الكل يُناديه باسمه هكذا، لأننا أصحاب مثل بعض، قلت له أنا أعرف أن الإنسان العادي – وهذا طبعاً ضعف بشري فينا – فيه نزوع إلى التعريف بنفسه، لابد وأن يعرفوا أنني دكتور خاصة لو كانوا غُرباء، ولابد أن يعرفوا هذا لكن ليس من خلالي، يُمكِن أن يعرفوا هذا قدراً حين أقول أنني دكتور، لكنني أريد أن يعرفوا هذا مِن خلال أن يعترف لي مَن حولي بالدكترة، هذا يعني أنني لم أفقد دكتري حتى باسم الصداقة والعمر الطويل معهم، فضحك صديقي واستغرب، قال لي أنت خطير، قال لي فعلاً أنا هذا يُعجِبني جداً جداً منك، فقلت له نعم، لابد أن تعترف، قلت له أنا أعرف الشيئ هذا وأنا أُعطيك إياه بكل ممنونية، لأن هذا حقك، لماذا أنا أسلبك حقك؟ سوف أكون إنساناً مريضاً إن سلبتك إياه، قلت له هناك أُناس مرضى على هذا النحو، يأتي الواحد منهم إليك وينعتك باسمك خاصة أمام الناس الأغارب الذين يحترمونك لكي يُحقِّر من شأنك لأنه إنسان حقير، قال لي غريب! فقلت له نعم، هذا يحدث، قلت له أنا أعرف بعض هؤلاء وأُلاحِظ الأشياء هذه، هناك أُناس مرضى يا أخي، والله العظيم! هناك أُناس مرضى وغير طبيعيين يا أخي، قلت له هؤلاء يُعانون، لكن أنا لا أُعاني، ليس عندي مُشكِلة، قال لي فعلاً، ربما هذا عنصر هام، فقلت له هذا العنصر الأكبر، لو كنت أسلبك هذا الاعتراف لتأذيت مني داخلياً، وليذهب علمي إلى الجحيم، لا علم ولا مشيخة ولا كلام فارغ! هل ستُريد علمي أنت؟ هناك أشياء بسيطة الناس لا تنتبه إليها.

إذن غير الحق – الذي لا يكون حقاً – أو الحق المشوب أو نصف الحق يحتاج إلى الاعتراف الدائم، يحتاج إلى براهين خارجية، وهذا يُذكِّرنا بالقصة التي وقعت للفخر الرازي، كان ماشياً ذات مرة فأتى إليه بعض الناس وقالوا له أنت إمام وأنت كذا وكذا، وكان علّامة طبعاً، هذا رجل عجيب! عنده ثلاثمائة وخمسين كتاب في علم الكلام والفلسفة وما إلى ذلك، عجيب! يكفي منها المباحث الإلهية، شيئ عجيب هذا الرجل، ضخم جداً الفخر الرازي رحمة الله عليه، هذا غير تفسيره، في مائة مُجلَّد التفسير الأصلي، ما وصل إلينا هو مُلخَّصه، لكنه في مائة مُجلَّد، أعني مفاتيح الغيب، رجل موسوعة! فسألت امرأة عجوز من طاقة البيت مَن هذا؟ فقالوا لها هذا الفخر الرازي، فقالت مَن الفخر الرازي؟ عجوز أمية! فقالوا لها هذا أقام ألف بُرهان على وجود الله، فقالت لهم لو علمتم حقيقته لرجمتموه بالحجارة، قالوا لماذا؟ قالت لو لم يكن عنده ألف شك لما احتاج إلى ألف بُرهان، وكلامها حق وباطل طبعاً، لا نقبله ولا نرده كله، لماذا هو حق وباطل؟ أنا سأقول لكم لماذا، هذه المسكينة غير مُتعلِّمة، مَن قال لكِ إن الألف شك – طبعاً يُوجَد ألف شك، هذا صحيح، هناك ألف شك اقتضت ألف بُرهان، هذا مضبوط، هناك ألف شُبهة اقتضت ألف جواب، هذا صحيح – ومَن ذا يقول إن الألف شك هي شكوكه هو وليست شكوك الشاكين؟ إذن ضاع عليها هذا، أليس كذلك؟ حين جاء إلينا أخونا عبد الرشيد وحكى لي هذه القصة قلت له هذا غير صحيح، وهي لا تفهم جيداً، فقال لي كيف؟ قلت له سأقول لك كيف، فقلت يُمكِن أن أنقد لك إياها في خمس أو ست جُمل في لحظة الآن، أولاً مَن قال لك إن هذه شكوكه هو؟ أنا الآن يُمكِن أن آتي ببراهين كثيرة على وجود الله ضد شكوك ليست شكوكي، هذه شكوك ماركس Marx ونيتشه Nietzsche وفلان وعلان، ليست شكوكي يا حبيبي، مَن قال لك إنها شكوكي؟ لكنها شكوك موضوعية، أي أنها وقعت في الواقع وهي مكتوبة في الكُتب، شكوك برتراند راسل Bertrand Russell لابد وأن نرد عليها، أنا لم أقتنع بدليل أن عندي جواب أيضاً، لكنني لم أقتنع بهذا، فهذا ليس شرطاً! لكن الحق أين؟ أن ألف بُرهان – نعم – تُقابِل ألف شُبهة، مضبوط! هذا لازم، أليس كذلك؟ هذا حق في حد ذاته، والمفروض أن هذه العجوز لو كانت مُنصِفة أن تُؤيِّد احترامه أم تبقى على موقفها؟ تُؤيِّد احترامه، لأن إنسان بصراحة يحوي في رأسه ألف برهان عن ألف شُبهة – ليس شرطاً أن تكون شُبهاتها، ربما لا يكون له فيها أي شُبهة والحمد لله – هو إنسان عميق جداً جداً وإنسان علّامة، هذا ليس أي كلام! مَن عنده ألف بُرهان عن وجود الله؟ صعب جداً، أليس كذلك؟ فهكذا يكون التفكير!

أعتقد أن هذا آخر ما أردت أن أذكره، ومن ثم نكون أكملنا النُقطة الخامسة، وهي فنون السلام، أي الوين Wen! هي ما يُعطي الأمة تفردها وعظمتها وانتصارها إزاء الأمم الأُخرى، ليس قوة الحرب وقوة العجلة الحربية، لا! قوة فنون السلام، وهذا الكلام – كما قلنا – في نهاية المطاف سوف ترونه، أنا نويت أن أقرأ لكم بعض المُحاوَرات لكننا سنعود مُبكِّراً إلى منازلنا اليوم – كما هو، أشياء عادية مألوفة بسيطة ومفهومة، سر تعظيم الصينيين لها هو ما ذكرناه لكم، أن هذه الفلسفة السياسية والاجتماعية فشلت في حياة مُؤسِّسها ومُعلِّمها ونجحت بعده بقليل – ليس بكثير وإنما بقليل – وفعلاً أعادت إلى الصين استقراراً عجيباً وروحاً أُممية مُمتازة، أي روح الأمة! لو قلنا أُمية لن تفهموا، لذا ننسب هذا إلى المجموع، مُمتازة! وإلى اليوم تقريباً لاحظ هذا الشعب أشياء عجيبة جداً، فمن ألف وتسعمائة وتسع وأربعين إلى ألف وتسعمائة وتسع وسبعين – قبل حوالي ثلاثين سنة أو أربعين سنة – نجحت الصين في ثلاثين سنة في القضاء على الفيضانات والأوبئة والمجاعة، في حدث سجَّلته بعض المُنظَّمات الغربية على أنه مُعجِزة حقيقية، غير مُمكِن يا أخي! رُبع سكان العالم تستطيع أن تُعالِج هذه الكوارث في حقهم في ثلاثين سنة! كيف هذا؟ شيئ مُذهِل، مما يُوكِّد أن هناك روحاً جماعيةً عجيبةً في هذا الشعب،وهذا كله يعكس فضل مَن؟ الفلسفة الكونفوشيوسية، هذا هو طبعاً! فعلاً كونفوشيوس Confucius أعاد لهم هذا، نجح الرجل يا أخي، نجح! ولذا فعلاً كل صيني يُولَد في ضوء أو في نور كونفوشيوس Confucius، مضبوط!

موضوع الازدياد السُكاني – Overpopulation – أو الانفجار السُكاني في الصين كان مُؤرِّقاً جداً، لكن في عقدين قضوا عليه مُباشَرةً! يُوجَد نوع من السمع والطاعة، يُوجَد نوع من الضباط، تُوجَد روح جماعية، يُوجَد احساس بالأمة وبالجماعة، ولذا هذا لابد أن يحصل، نعم يحصل في بعض المرات بوسائل عنيفة جداً وما إلى ذلك، لكن السر الحقيقي هو وجود نوع من الانضباط والروح الحقيقية، ولذا ينجحون في هذا!

الآن انظر إلى التقدم الموجود عندهم والتصنيع والتحديث، عندهم مجموعة دلالات غير مسبوقة في تاريخ الدنيا يا أخي، ما هذا؟ نفس الشيئ! هذه أمة مُتفرِّدة وخطيرة، وشريفة أيضاً وعندها تراث عريق جداً جداً جداً، يا ليت العالم العربي والإسلامي يُفتِّح عقله ومُخه ويتمخخ – كما يُقال – جيداً لكي يمد فعلاً جسور الصلة مع هذه الأمة العظيمة، وطبعاً سيئ الذكر الهالك – مات قبل عدة سنوات – هنتنجتون Huntington – صامويل هنتنجتون Samuel Huntington – تنبأ في كتابه صدام الحضارات – Clash of Civilizations – بأن أكبر خطر على الغرب سوف يكون التحالف الكونفوشيوسي الإسلامي، لأنه كان يفهم أن هؤلاء ليسوا حيوانات، نحن أننا لسنا مُجرَّد حيوانات، بشر عندهم عقل، وضروري أن يفهموا أن هناك جوامع مُشترَكة كثيرة بينهم وبين الصين وأن مُستقبَلهم أيضاً مع الصين ومُستقبَل الصين معهم، الصين فهمت هذا، انظر إلى موقفها من الدول العربية ومن إيران وما إلى ذلك، مُمتاز في الجُملة، أليس كذلك؟ فهمت أن مُستقبَلها هنا وليس هناك، لكن نحن لا نزال غير فاهمين، لأننا لا نُحِب أن نفهم، وخاصة حكامنا الذين لا يُحِبون أن يفهموا، لكن في اليوم الذي سيفهمون سيُدرِكون أن مُستقبَلهم معهم، لا تقل لي لا هنا ولا هنا بصراحة، هؤلاء ضاع عليهم هذا، هم مَن أضاعوا هذا على أنفسهم وعلينا، فضروري أن نُفتِّح عقولنا وأن نُحاول أن نشتغل مع أمة مثل هذه، والله العظيم! ومَن سأل عن الترجمة نقول له ابدأ في عمل مشروع خاص بك، اتقن اللُغة الصينية – وهذا سوف يكون صعباً جداً – لأننا نحتاج إلى الشيئ هذا، والله أعلم!

(ملحوظة) سأل الدكتور عدنان إبراهيم الحضور عن رغبتهم في طرح أي سؤال، وهنا طرح أحدهم سؤالاً فقال فضيلته هذا سؤال جيد – بارك الله فيك – وعميق، ولأنه عميق ندعو الله أن يُوفِّقنا في الجواب عنه حتى لا نُطيل.

اليوم كنت أشرح لأهلي في البيت أن اللُغة ليست شيئاً عرضياً، واللُغة ليست وعاءً للفكر أيضاً، واللُغة أيضاً لا أُوافِق على أنها نشاط ترميزي محض كما افترضت بدايات الدراسات اللُغوية لكنهم تخلوا عن هذا حقيقة، وهذا مُهِم للإنصاف العلمي أيضاً، هم تخلوا عن هذا! اللُغة ليست شيئاً عرضياً وليست وعاءً يُعبِّر عن أفكارنا، بالعكس! أنت تُفكِّر باللُغة، تخيَّل أنك الآن لا تمتلك لُغة، سوف يمتنع التفكير! لن تُوجَد إمكانية للتواصل مع ذاتك حتى، تخيَّل! لن تُوجَد إمكانية للتواصل مع ذاتك، أنت تتواصل مع ذاتك عبر اللُغة، ما رأيك؟ أليس كذلك؟ وأنت جالس كيف تتواصل مع ذاتك؟ عبر اللُغة، فاللُغة ليست وعاءً للتفكير فقط، هي منهج للتفكير وخُطة للتفكير بل قد تكون المنهج الوحيد أيضاً، ما رأيك؟ قد تقول لي لكن هي طبيعتها نظام ترميزي مثلما قال – نفترض – دي سوسير De Saussure السويسري الذي يُعتبَر المُؤسَّس لهذا، حين تكلَّم عن العلامة أو الدليل على أنه يحتوي على وجهين دائماً وهما الدال والمدلول، لكن الموضوع أعقد من هذا بكثير، كيف تم هذا اليوم؟ شرحت لزوجتي أمثلة من الواقع ونحن نتناول الفطور، بناتي كن يسألن بعضهن عن لون عيونهن، فإحداهن قالت عسلي، فقلت لزوجتي هل تعرفين أن اللون العسلي هذا غير دقيق بالمرة وسوف يُدخِلنا في حلقة مُفرَغة؟ فقالت لي لماذا؟ قلت لها المفروض أن التسمية تأشير، حين أقول كلمة فنجان يكون ما أعنيه الفنجان، لا أقول فلاشة وإنما أقول فنجان، هذا هو، أشَّرت! لكن لو أنا سميته باسم يُؤشِّر عليه وعلى أشياء أُخرى لأصبحت فاشلاً في التسمية، هنا أُجهِض المشروع التواصلي، أليس كذلك؟ هنا لم تصر هذه لُغة، قلت لها حين نقول عن اللون إنه عسلي يكون هذا كلاماً فارغاً، فقالت لي كيف؟ لماذا؟ فقلت لها ما لون العسل إذن؟ الذين قالوا الكلام هذا قالوه في بلاد – مثلاً – قد تكون مُتوسِّطية، لون العسل دائماً فيها هو ذاك اللون المعروف، ما بين الأصفر والبني الفاتح، هو هذا! ليس عندهم غيره، لو جاءوا ورأوا أوروبا ووجدوا خمسين ألف نوع من العسل بخمسين ألف طعم ولون ورائحة وما إلى ذلك – حتى في ليبيا هناك أنواع كثيرة – لترددوا في قولهم تُوجَد عيون لونها عسلي، عسلي ماذا؟ أي عسلي؟ قلت لها نفترض الآن – انتبه – عدم وجود عسل في بلد مُعيَّن، أمة مُعيَّنة لا تعرف العسل، الصين – مثلاً نفترض – أن العسل لا يُوجَد عندهم وأنهم لا يعرفون العسل، نحن نفترض هذا لكن هم يعرفونه جيداً، ونحن نقول عن شيئ إن لونه عسلي،  هذا عسلي اللون، هم لا يُوجَد عندهم عسل، ولذا سوف يقول أحدهم كيف؟ أين العسل؟ ولذا سوف نتورَّط الآن، سوف يقول ائتوني بالعسل، لكن أي عسل؟ يُوجَد في السوق عدة نماذج من العسل، أي عسل؟ وسوف نُفهِمه أن هذا عسل وهذا عسل وهذا عسل، سوف يقول كيف هذا إذن؟ كيف تقولون لونه عسلي؟ أي واحد؟ ولذا سوف نقول له والله نحن لا نعرف لكن هم يقولون هكذا، هم يقصدون هذا، لكنه سوف يقول لا، هذا مطّاط وغير دقيق.

قلت لها لذلك هذا يُلهِمني الآن موضوع أن اللُغة لا يُمكِن أن تكون ترميزاً محضاً، الترميز وحده لا ينجح في التواصل، ينجح التواصل بالترميز والاستدلال، دائماً يُوجَد استدلال! والاستدلال يُحيل على مواضعات، مواضعات تتسع وتضيق، دائماً الأمر هكذا! فقالت لي لست أفهم، فقلت لها سوف أُفهِّمك بأسلوب بسيط جداً، وأنتم سوف تفهمون الآن بأسلوب بسيط جداً.

أتيت بأمثلة كثيرة، وأنا جالس أقدر على أن ائتي بخمسين مثال من جلستنا هذه، مثلاً نفترض أن الآن شخص مسيحي – غير مُسلِم – جاء إلى هذه الجلسة – نأتي الآن بمثال من الجلسة – وبعد ذلك قال أحدكم هل يُمكِن أن ننصرف؟ فسأل رجل ثانٍ هل صليتم العشاء؟ هذا الأجنبي لن يفهم القضية هذه، من الصعب أن يفهمها إلا بضرب من الإجهاد، سوف يقول ما علاقة هل صليتم العشاء بهل يُمكِن أن ننصرف؟ هل يُوجَد ربط طبيعي بين السؤالين؟ لا يُوجَد ربط طبيعي، إذن ما القصة؟ كيف هذا؟ هذا ليس جواباً عن السؤال، كيف فهمتم هذا أنتم؟ هناك مواضعات بيننا تُفيد بأنه لا ينفع ولا يجوز لو أُذِّن للصلاة أن نجلس أو نذهب دون أن نُصلي الجماعة، فقد عصى أبا القاسم أبو هُريرة قال، ممنوع، هذا ذنب! أرأيت كيف؟ لكن المسيحي لا يفهم الفقهيات الإسلامية، أليس كذلك؟ فهل هذا شكَّل جواباً؟ شكَّل جواباً، لكن هذا جواب ضمن مواضعات، مَن لا يفهمها لن يفهم الجواب، سوف يقول هذا ليس جواباً Answer، الجواب إما تقدرون أو لا تقدرون.

مثلاً أتت ابنتي رواند من المدرسة، فقلت لها يا رواند درِّسي لأخيكي الأعداد، فقالت لي لم أتغد بعد، وهذا كان جواباً، ترميزياً يستحيل! الترميز لا يُفسِّر لي الآن كيف هذا جواب، أليس كذلك؟ الترميز لا يُفسِّر، قالت لم أتغد بعد، انتبه! هذا يتضمن الآن مُستوى واحد، في المُستوى الترميزي تُخبِر أنها لم تتغد، وهذا لا يُشكِّل جواباً عن أمر علِّمي أخاكي الأعداد، أليس كذلك؟ الجواب إما أن يكون سأفعل أو لن أفعل، هي في الحقيقة قالت لن أفعل الآن، قالت هكذا! قالت لن أفعل الآن لكن كيف؟ عبر عبارة لم أتغد بعد.

هناك مواضعات تُفهَم عند أكثر الأمهات والآباء بصراحة وعند أكثر أطفال المدارس، بعد يوم شاق من الدراسة استمر إلى الساعة الوحدة ظهراً ولم أتناول غدائي سوف يكون هذا مُرهِقاً جداً لي ولن أقدر على القيام بما كُلِّفت به، وهذا يعني أنني أرفض الآن، ريثما أتغدى أنا سأكون مُستعِداً لفعل ذلك، فهذه عملية استدلالية يا حبيبي، ليس ترميزاً! يُوجَد استدلال، والاستدلال هذا لا يتم إلا عبر مواضعات، هل هذا واضح؟

تستطيع أن تضرب أمثلة نهائية على هذا، قلت لزوجتي هذه هي البنية الحقيقية للُغة، ليس الترميز! مَن يقولون هذا نظام اعتباطي ترميزي فقط سُذج، وجعلوا اللُغة ساذجة وفارغة، ولذلك أنا أقول لك من الصعب جداً جداً أن يفهم الكمبيوتر Computer أو الحاسوب الذكي لُغات البشر يا بابا، من الصعب جداً! تحتاج إلى أن تُلقِّنه معلومات بكميات مهولة وغير عادية، وبعد ذلك سوف تُوجَد مُشكِلة أيضاً، هل تعرف ما هي؟ كيف يُمكِن أن يجتاز الكمبيوتر Computer اختبار التفرقة بين مقام الجد ومقام الهزل، ومقام التعريض ومقام التصريح؟ أليس كذلك؟ أنا يُمكِن أن أقول لم أتغد بعد اليوم ثم أضحك، لكن الضحك ليس له وزن عنده، لكن نحن نفهم هذا استدلالياً، يُوجَد ربط مواضعاتي في المُجتمَع بين إنجاز الأعمال وبين التقوي بالغذاء، فإذا قال المُجيب الذي يُكلَّف بأي عمل لم أتغد بعد فهذا يُساوي أو يُعادِل لا أُريد أن أقوم بهذا الآن، لست مُستعِداً له لأنني ضعيف عنه، لكن هذا لا يزال غير كافٍ، هل تعرف لماذا؟ يُمكِن أن يكون هذا الشخص صائم ويقول لم أتغذ بعد لكنه يقصد ماذا؟ يُنظِّر بحالة لواحد صارت بيننا مضرب مثل للسخرية، لأنك كلما كلَّفته بعمل يقول لك لم آكل إلى الآن، لأن بطنه على ركبه كما يقولون، صعب جداً أن يفهم الكمبيوتر Computer هذا، هذا فهمتم؟ من الصعب جداً! لكن نحن نفهم هذا، والمواضعات هنا تكون أضيق، كيف؟ تصير مواضعات الضحك بعد لم أتغد بعد بيننا نحن لأننا نفهم القصة، أليس كذلك؟ هل فهمتم كيف؟ تعرفون قصة أبي فانتظ الذي كلما قلت له شيئاً قال لك لم آكل إلى الآن، هذا صرنا نضرب به المثل، لكن أين هذا يا بابا؟ هذه مسألة صعبة جداً جداً جداً، يبقى التواصل بين البشر هو تواصل بين بشر يا حبيبي، هذه كائنات مُتفرِّدة! لا يُمكِن أن تأتي بآلة ثم تقول سوف أُلقِّنها وأُدخِل فيها عشرة مليار معلومة، هذا من الصعب جداً! لأن هناك سياقات Contexts، والسياقات هذه تتولَّد باستمرار وهي أبدية، لا تنتهي! نحن الآن مجموعة نخلق سياقاً بيننا، الآن قد يخرج أحدكم ويقول هذا مثل أبي كذا فيضحك مَن معه، لكن لن يفهم أي أحد خارجنا ما معنى هذا مثل أبي كذا، مَن حضر المُحاضَرة سوف يفهم، سمع كلمة حنَّكه – مثلاً – ورأى الشيخ وهو يُشاوِر على أسنانه للدلالة على أنها سقطت ورأى الناس وهي تضحك ولذا سوف يفهم معنى هذا مثل أبي كذا، لكن لن يفهم أحد خارج هذا السياق معنى هذا مثل أبي كذا، أليس كذلك؟ هذه مواضعة ضيقة جداً جداً حصلت بيننا، فلا يُمكِن أن تكون اللُغة نشاطاً ترميزياً.

هذا كله كان تعليقاً على كلمتك يا أخي الفاضل حين قلت اللُغة شيئ عرضي مُقابِل شيئ جوهري، لا! اللُغة ليست عرضاً، انتبه! لو كانت عرضاً لأمكن أن يتعلَّمها أي كمبيوتر Computer ولصار – ما شاء الله – من أحسن ما يكون.

بالمُناسَبة الآن تُوجَد مشاكل في الترجمة الآلية، لماذا الترجمة الآلية فيها مُشكِلة؟ لهذا السبب، لأننا نقول كلاماً في لُغتنا قد لا يُلقَّن للكمبيوتر Computer، الآن كلمة مُحنَّك مثلاً، إذا لم يلقَّن الكمبيوتر Computer أن كلمة مُحنَّك تعني المُجرِّب الذي عنده كذا وكذا فلن يستطيع الترجمة، أليس كذلك؟ هناك ألفاظ غير مشهورة بين الناس، مثل ثالثة الأثافي، هذه لم يضعها المُلقِّن للكمبيوتر Computer، يأتي الكمبيوتر Computer – إذا لقَّنته كل المعاجم العربية كألفاظ – ويقول ثالثة تُترجَم إلى Dritte، والأثافي أحجار ثلاثة تُوضع عليها القدر فوق الموقد، ومن ثم سوف يُترجِمها إلى الحجرة الثالثة، وهذا غير صحيح! لن يقول لك كانت مُصيبة المصائب أو زاد الطين بلة، لن يقول لك هذا، صعب جداً! وكل لُغة فيها هذا النظام، وقلت لك هذا النظام لا يزال محصوراً في المُعجَمية والدرس الدلالي، الدرس السياقي الواقعي بين البشر مفتوح، مفتوح – Open – هذا، مفتوح! مفتوح إلى يوم القيامة، واللُغة تتواصل، لكن ليست اللُغة وحدها، لا! أنا أقول لك الذهن الإنساني يستخدم اللُغة وقدراتها التشفيرية لكن عبر عمليات لا تتناهى من ماذا؟ من الاستدلال، لذلك انظر إلى نظرية الأفعال – Acts – اللُغوية كما يُسمونها، فهي تنبَّهت إلى الشيئ هذا، ودعني أقول مثالي أنا، لم أتغد بعد! بحسب نظرية الأفعال هذه يُمكِن أن نُخرِج ثلاثة مُستويات للقول.

يقولون أولاً هناك الفعل القولي، وهو الفعل الذي يكون أُنجِز بمُجرَّد القول، فهنا ابنتي قالت لم أتغد بعد، لم آكل إلى الآن، وهذا يعني أنها أنجزت بكلمة لم آكل إلى الآن أول مُستوى، هذا اسمه الفعل القولي، هذا صحيح! لا نقدر أن نفهم منه الجواب أنها لا تُريد هذا، لا نقدر على أن نفهم الرفض منه.

ثانياً هناك المعنى المُتضمَّن في القول، وهذا فعل وحده، ما هو المعنى هنا؟ لا أُريد أن أُعلِّم أخي الأعداد، وهذا صحيح، هو هذا! لا أُريد، وهذا ليس من عندي، هذه نظرية كاملة مُعقَّدة اسمها نظرية الأعداد، ولا تزال تقصر عن فهم أشياء مُعيَّنة، تقصر عن تفسير التخييل والكذب في اللُغة، أشياء غريبة! علم، وأنا أقول لك هذا كله نواته في الكلمة التي قالها كونفوشيوس Confucius، ضبط اللُغة! سوف تخرج علوم رهيبة جداً جداً ودقيقة ومُتفلسِفة ومُتخصِّصة.

ثالثاً – المُستوى الثالث لهذا القول الذي قالته – هناك التأثير بالقول، التأثير! والمقصود هنا التبرير Justification، تبرير الشيئ أو عقلنة الشيئ، هي حين قالت لم أتغد بعد أفهمتني أنني أرفض وحاولت أن تُقنِعني بالرفض أيضاً، عبر ماذا؟ تعبانة قالت، لي سبع ساعات في المدرسة ولم آكل وأنا طفلة صغيرة، أحتاج إلى أن آكل في الأول، سآكل وأستريح وأهنأ وبعد ذلك سوف أقدر على أن أقوم لكي أشتغل معه وأُعلِّمه، ولذا أقنعت أمها بالجواب، في لحظة حين قالت لم أتغد بعد قالت أمها فليكن هذا فيما بعد، فهمت كل هذا في لحظة، هذا ليس بالترميز، أليس كذلك؟ الترميز مع لم أتغد بعد لا يُشكِّل جواباً، إذن اللُغة ليست ترميزاً فقط، اللُغة أعمق مما نظن، لذلك يُوجَد اتجاه مُتطرِّف آخر، قالوا نحن لا نُعبِّر باللُغة ولا حتى نُفكِّر باللُغة، انظروا إلى هذا، عميق أن نُفكِّر باللُغة، هي سبيلنا وطريقنا، مثل النهر، النهر ما هو؟ ليس الماء، يُوجَد ماء مثل ماء الفيضان، ليس نهراً هذا، ماذا عن المجرى؟ يُوجَد مجرى جاف، المجرى ليس نهراً، إذن ما هو النهر في النهاية؟ مجموع الماء والمجرى وطريقة الجريان، كل هذا اسمه النهر، شيئ يتكوَّن من ثلاثة أشياء مثلاً، أليس كذلك؟ هذا هو، وكذلك الفكر، الفكر هو لُغة بكل ما تُعرَف به وهو قدرة ذهنية استدلالية وسياقات، كل هذا مع بعضه، شيئ مُعقَّد جداً!

المُهِم، يُوجَد تطرف، هناك أُناس قالوا لا، ليست اللُغة هكذا فقط، فنحن لا نُفكِّر حتى بها، تطرف! قالوا اللُغة تُفكِّر من خلالنا، أف! تطرَّفوا كثيراً هؤلاء، قالوا لا، اللُغة هي التي تُفكِّر بنا، كأن عندها عالمها، وأنا لا أُؤمِن بهذا الشيئ، هذا نوع من التجريد البحت الكامل، لا! كأن عندها عالمها وقوانينها الخاصة وتحايلاتها وتماكراتها لكي تقدر على أن تُوصِّل ما تُريد، لا! ليست هكذا، حقيقةً لا، نحن نرى أن المُتوسِّط والصحيح وغير المُتطرِّف هو هذا، اللُغة نظام ترميزي استدلالي، أو الفكر حتى نظام ترميزي استدلالي، يستخدم اللُغة وسيلة، وهناك قدرة ثانية في الإنسان، لكن تبقى هذه القدرة هيولانية، هيولة! أرأيت؟ تتشكَّل عبر ماذا؟ عبر قدرات اللُغة ولياقات اللُغة، عمليات مُعقَّدة!

نرجع، إذن يا أخي موضوع ضبط المُصطلَحات وضبط اللُغة لكي نضبط فكرنا ليس موضوعاً سهلاً وليس موضوعاً ساذجاً، لا! موضوع عميق وجدي – حقيقةً جدي هو – ومُمتاز، أنا ذات مرة في خُطبة قلت أمثلة بسيطة لأن هذه الأشياء مُعقَّدة، أعرف أنها مُعقَّدة! لذا حين يُؤتى بمثال بسيط تُفهَم، قلت في خُطبة يحدث بين زوج وزوجة خلاف، ينفجر فيها ويقول لها أنتِ غير نظيفة وأنتِ كذا وكذا، فتقول له أنا غير نظيفة؟ أعوذ بالله، أُقسِم بالله كذا وكذا، فتحدث مشاكل ويُتحدَّث عن الطلاق وما إلى ذلك، وفي النهاية ماذا قلت؟ في الحقيقة سر الاختلاف بينهما يكمن في الفهم، لا هي كذّابة ولا هو كذّاب، هي تحلف أنها من أنظف النسوان وهو يحلف أنها رمة! بالمصري هي وسخة ولا تشم رائحة النظافة، وكلاهما صادق! هل تعرفون لماذا؟ اختلاف الفهم، المُصطلَح واحد وهو النظافة، لكن هي تفهم النظافة في حدود مُعيَّنة، النظافة عندها تُفهَم في حدود مُعيَّنة كأن تُنظِّف بعض الأشياء وينتهي الأمر، فتشعر بأنها أدت ما عليها، لكن هو نشأ في أسرته بطريقة مُختلِفة، أمه مُصابة بوسواس قهري في النظافة، في كل يوم لابد أن تأتي بشيئ لكي تُنظِّفه، تقول هناك عنكبوت – شعشبون كما يُقال – يُعشِّش في البيت ثم ترغب في أن تُنظِّف مكانه، وبعد ذلك لابد أن تأتي بالفونيك Fonic – اسم مُطهِّر – وما إلى ذلك لكي تمسح، وفي كل أسبوع لابد وأن تُنظِّف كل السجاد وكل الكنب، كله! ثم تمسح الأرض كلها وتغسلها وما إلى ذلك، وهناك أُناس يغسلون الحوائط كلها بالماء والمواد المُعقِّمة، شيئ عجيب! هي لم تنشأ هكذا يا حبيبي، نشأت على النظافة السريعة، وفي بعض المرات تضع التراب تحت التخت أو تجره مرة واحدة، تضع التراب والأغبرة تحت السجاد وتُغطي عليهم ثم تقول نظَّفت، هي ترى أن هذه هي النظافة، هي هكذا نشأت! هكذا هو مضمون النظافة عندها وعند أمها وما إلى ذلك، لكن هو عنده مضمون النظافة مُختلِف تماماً، أليس كذلك؟

أنا أحياناً أعتب على نفسي، مثل أمس سألني أحدهم سؤالاً فعلَّقت على بعض العلماء واجتهاداتهم، أعتب على نفسي! بعض الناس المساكين حين يسمع هذا يُحبَط، وأنا بهذا أكون أسأت لنفسي أيضاً وليس له فقط، غلط أن تقول هذا الكلام، أقول لنفسي غلط أن تقول يا عدنان هذا الكلام أمام هؤلاء المساكين، مَن يُعرِّف هذا الشخص ما العلم وما التحقيقات؟ فأنت حين تنقص له من قدر تحقيق لعالم مشهور يُخرَبط ويتيه، يتيه في صحراء بلا معالم وصور ومنائر، يقول ما هذا؟ لا يفهم، هو يحترمك ويقول هذا يفعهم وهو عالم لكن هؤلاء علماء أيضاً كبار، ما القصة يا أخي؟ غلط أن تُسمِعه الكلام هذا، المسكين ليس من أهله، عنده مفهوم العلم مفهوم شُهرة، المشهور أنه عالم والناس عمَّدوه كعالم فإذن هو عالم وانتهى الأمر، وأنت عالم ونحن عمَّدناك كعالم وانتهى الأمر، مَن الذي يقدر على أن يُميِّز فيقول هذا ليس علماً، هذا جهل، هذا اسمه حماقة، هذا هبل في العلم؟ أُناس أعلم من هذا، أليس كذلك؟ وأمامهم هذا يظهر، لكن هذا صعب! فيُوجَد اختلاف في المفهومات وليس اختلاف مُصطلَح، المفهوم يختلف عن المُصطلَح، مثل الحرية! أليس كذلك؟ كل أمة تقول عندنا حرية، علِّم أولادك الحرية وعلم بناتك الحرية، ماذا يقصدون بالحرية؟ حرية التعبير، التعبير عن الرغبات المشروعة في حدود لياقات المُجتمَع، التعبير عن كذا وكذا، هذا تعبير عن الحرية، فتقول الحمد لله علَّمت أولادي الحرية، حين يطلبون مصروفهم من أبيهم يُقال هذه حرية، حين يُناقِشون في مسألة دينية يُقال هذه حرية، البنت في الغرب هنا عندها الحرية في أن تذهب لكي تُمارِس كل أنواع الجنس والعياذ بالله، الجنس الجماعي والليسبية وأي شيئ! يُقال هذه حرية، لأن الحرية عندها تتضمَّن حتى حرية التصرف في جسدها بشكل كامل بلا حدود، هذا في بلادنا شيئ مُدمِّر، مُصيبة هذه! مُصيبة المصائب، والمُصطلَح واحد، فبالعكس هناك خلافات كثيرة جداً جداً.

الإرهاب الآن، ما مُشكِلتنا ما الغرب؟ هناك مُصطلَح بيني وبينك، أمريكا رفضت أن تُعرِّفه، والعالم كله يطلب تعريفه وتحديده، حدِّد ما هو الإرهاب بالضبط، وهم عندهم القدرة على هذا، ونحن عندنا القدرة على أن نُعرِّف هذا الشيئ، هذه عملية صعبة، لكن أمريكا رفضت، لماذا؟ لأنها تعرف أن الإرهاب إذا تحدَّد تماماً – إذا حدَّدناه – فأكثر ألعايبها سوف تسقط من تلقائها ولن يقبل الناس أن يُنعَت البلد الفلاني بالإرهابي والشخص الفلاني بالإرهابي والقول الفلاني بالإرهابي، سوف يقولون هذا كلام فارغ، لن يقبلوا أن يُنعَت الدين كله بالإرهاب، دين أمة يُنعَت بالإرهاب وكتابها يُنعَت بالإرهاب، غير مُمكِن! لن يقبل العالم كل هذا الكلام، لكن طالما أنت تتحدَّث بلا تحديد فلكل أحد أن يحمل ما شاء على ما شاء، أليس كذلك؟ فتقول لا، أنا أقصد من الإرهاب كذا وكذا، لكن أنا لم أوضَّح هذا، لا يُوجَد تواصل، هنا تُستكرَه اللُغة وتُغتصَب بل تُبتذَل وتُمتهَن، اللُغة ما جئت من أجل هذا، وفي الحقيقة ليست اللُغة – أنا أقول لك – وإنما الفكر، لا نقول اللُغة، فهذه ليست مسألة لُغة كاللُغة الإنجليزية أو الألمانية أو اليابانية، لا! الحديث عن الفكر الإنساني، ونحن رأينا أن اللُغة مُقوِّم أساسي في الفكر، لكن الفكر أعمق منها، أليس كذلك؟ لا يزال أعمق منها كنظام ترميزي كما قلنا، إذا قلنا هناك نظام ترميز مع استدلال فسوف يُوجَد الفكر، سوف تُعادِل اللُغة الفكر والفكر يُعادِل اللُغة وانتهى الأمر، فلابد من هذا، هذه مسألة مُهِمة.

الشيئ الثاني الذي طرحته كان عن الحجاب وما إلى ذلك، لكنني لا أقدر على أن أتهم الجماعات الإسلامية حقيقةً – هذا سوف يكون ظلماً مني – بأنها عملت على تكثير العرض، كأنها تُريد العرض فقط، لا! الجماعات الإسلامية كلها بغض النظر عنها تُريد من المُسلِمين أن يعودوا إلى دينهم، بشكل عام هكذا! بعضهم يُركِّز على أشياء كالعبادات وأشكالها وطقوسها وهيئاتها وبعض مظاهر الزي، عندهم هذا مُهِم جداً جداً، ليس الحجاب فقط، بل والنقاب أيضاً واللحية وطول اللحية وإلى آخره، وبعضهم ليس كذلك، يُركِّز على جانب ثانٍ اجتماعي أو سياسي أو فكري أو علمي وإلى آخره، يختلفون! لكن عموماً ليس فيهم جماعة تُريد فقط المظاهر مبتوتة عن جوهرها وعن حقائقها وقالت هذا، لا! لكن الذي حصل – أنا أقول لك – أن أجزاءً من هذا الخطاب أو بعض هذا الخطاب لم تكن جوهرية ولم تكن عميقة، كانت خطاباً مُتسرِّعاً وتجييشياً وتعبوياً، يُسمونه الصحوة! هيا عليهم، ادخلوا المسجد، هيا افعلوا كذا وكذا، كالشخص الذي ذهب وبنى مسجداً فذهبت الناس إليه وما إلى ذلك، في حين أن آخر بنى مسجداً ولم يذهب إليه أي أحد، فوق واحد وظل يقول هيا، صلاة بلا وضوء! المُهِم أن يدخل الناس المسجد، كثِّر المساجد وكثِّر عدد المُصلين، هذا المُهِم! مثلما يحدث الآن، حتى في بعض الآثار والأخبار مساجدهم عامرة بهم وخربة من التقوى، مورود هذا في الأخبار عن رسول الله، هذا سوف يحدث في آخر الزمان، المساجد مليئة بالمُسلِمين – هذا صحيح – لكن التقوى غائبة، أنا لا أكذب عليكم، أنا شخصياً أستبشر قليلاً ولا أستبشر كثيراً بهذه الظاهرة، ما عدت أستبشر بها، وأنا صغير كنت فرحاً بها، وأنا شاب حتى صغير! لكن بعد ذلك اختلف الأمر، الحياة علَّمتني ألا أستبشر بها، وحكيت لكم عن الشيخ سيد قطب حين قالوا له جماعة الإخوان المُسلِمين – ما شاء الله – وجدت في السودان أرضاً خصبة ومرتعاً وفعلت كذا وكذا، فقال لهم لا، لا تستبشروا كثيراً ولا سريعاً، لا يهمني – قال لهم – العدد والكم والكثرة، قال لهم غير مُهِم أنهم في خلال سنتين صاروا مائة ألف وخمسين، لا قال لهم، أهم شيئ الكيف! علماً بأن النبي نجح بالكيف، أليس كذلك؟ سبعون أو ثمانون شخصاً كان يُربيهم في ثلاث عشرة سنة ليل نهار، هذا هو يا أخي، هؤلاء حملوا الإسلام على أكتافهم، ليس بالكثرة هذه – مئات الآلاف والملايين – من غير حقيقة ومن غير جوهر، فهذا الذي يحصل الآن، يحصل هذا لماذا؟ لأن الخطاب هذا فعلاً في جُزء منه كان سطحياً نوعاً ما، وكان يدعو إلى الإسلام والأخذ بالإسلام – ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ۩ – من غير تعميق، كيف ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ۩؟ ليس كعنوان فقط، عمِّق لي هذا، قلت أنا أنتقد دائماً – مثلاً – خُطبة يتحدَّث فيها الخطيب – نفترض – عن التقوى، يستطيع هذا كل واعظ، عملية سهلة هذه، خاصة الآن في حضور الإنترنت Internet والأسطوانات المُدمَجة والكُتب التي عندنا، عادي! هناك المكتبة الشاملة والمكتبة الألفية ومكتبة التراث وما إلى ذلك، عادي! يُمكِن أن يكتب أي أحد كلمة تقوى وسوف يخرج له خمسون ألف حديث عن التقوى والورع وما إلى ذلك وعشرون قصة وخمسمائة ألف بيت شعر عن التقوى، فيأتي ويحفظ ما يشاء ثم يصعد المنبر ويُردِّد ما حفظ، كلام فارغ! هذا كلام فارغ، يظن أنه حفّاظ كبير، ليس هكذا العلم، بالعكس! ائتني بحديث واحد أو مسألة واحدة أو جُزئية واحدة وتكلَّم عنها من زاوية التقوى – مثلاً – وعمِّقها من عدة زوايا، وكما قلت قبل ذلك – قلت هذا أيضاً في درس من دروس السبت – بعض الإسلاميين أو كثير منهم للأسف أو أكثرهم في الحقيقة لكي أكون مُتواضِعاً – أكثرهم في الحقيقة هو هكذا، لأن خطابهم وكُتبهم وخُطبهم ومُحاضَراتهم أكثرها كذلك – يكتفون فقط بالديباجة الإسلامية، أي قال الله وقال رسوله وقال شيخ الإسلام فلان وشيخ الإسلام علان، وفقط! ألا يُوجَد عندكم أمثلة يا إخواني من التاريخ، من حياة الناس، من واقع المُجتمَع، من علوم أُخرى تُضيئون بها هذه المسائل، كعلم النفس، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الأدبيات، القصص، الحكايات، السياسة، وإلى آخره؟ ليس عندهم، ليس عندهم ثقافة، فهذا طبعاً يجعل الأمر فقيراً جداً جداً جداً كما رأينا! رأينا أن كونفوشيوس Confucius كان أذكى من هؤلاء، كونفوشيوس Confucius قال لا، لا تكفي مواعظي التي لن أكتبها، ليس هذا! هذه القيم التي يُمكِن أن يعظ بها ويكتفي بالوعظ بها لابد أن تتمأسَّس من خلال كل مُؤسَّسات المُجتمَع وتُرضَع مع لبن وحليب الأمهات عبر المسرح وعبر المعبد وعبر قصيدة الشعر وعبر التمثال وعبر الرسمة وعبر الموسيقى وعبر المهرجانات حتى الشعبية قال، أليس كذلك؟ وأنا أعطيتكم أمثلة، أجمل ألف مرة أن أحضر مُسلسَلاً لنور الشريف عن عمر بن عبد العزيز من أن أحضر مُحاضَرة عنه أو حتى عشر مُحاضَرات، أليس كذلك؟ المُسلسَل هذا عنده جاذبية خاصة، هناك جاذبية! جاذبية الفن يا أخي، العمل المُتلفَز هذا أو السينمائي له جاذبية عجيبة جداً جداً جداً، والإنسان يتعلَّم بالصورة ما لا يتعلَّمه من غيرها، نحن دائماً ما نتحدَّث عن الصين وهناك مثل صيني يقول صورة خير من ألف كلمة، مثل صيني قديم جداً وعريق، يقولون الصورة الواحدة خير من ألف كلمة، كتابتهم كتابة صورية أيضاً، ما رأيك؟ وتصويرية، المثل الصيني يقول صورة خير من ألف كلمة، وهذا صحيح! قد تقول لي الصورة هذه والتعليم الصوري من خلال التلفزيون Television أو الفيديو Video أو الإنترنت Internet سوف يُضعِف عند الإنسان حاسة التجريد، وهذا صحيح! سوف يصير كائناً عملياً أكثر منه فيلسوفاً مُجرِّداً، ولذلك الصين بالمُناسَبة ليس فيها فلسفات بالمعنى الغربي للفلسفة عميقة جداً، لا! فيها فلسفات اجتماعية، حتى قال بعض الدارسين الغربيين كل فلسفة صينية في نهاية المطاف هي فلسفة اجتماعية في روحها، وهذا صحيح! الموهية والطاوية والكونفوشيوسية تظل فلسفات اجتماعية في النهاية حقيقةً، لها علاقة بضبط الأشياء بمعنى أو بآخر، هم يعرفون هذا ولذلك هم قالوا الصورة أحسن من ألف كلمة، هناك حضارات ثانية ليست كذلك، تُركِّز على الكلمة كثيراً جداً جداً جداً مثل الحضارة الإسلامية، أليس كذلك؟ لذلك يُمكِن أن تكون أُصيبت بداء التجريد دون أن تدري، والله أنا في هذه الفترة سمعت بعض المُحاضَرات لبعض العلماء المُسلِمين الذين يتحدَّثون في أصول الفقه وحكمة الشريعة وتعيين الأحكام والمقاصد، شيئ مُؤذٍ جداً جداً، أُقسِم بالله يُؤذيني في نفسي بطريقة صعبة، لأن لا يُوجَد فكر، الفكر مُتناقِض، الفكر غير سليم، غير دقيق، غير صحيح، وكارثي! كارثي والله العظيم، ويقبلون أي شيئ لأن الشاطبي الذي قاله أو الغزّالي الذي قاله، لا تقبل كل شيئ يا رجل، هؤلاء ليسوا أنبياء، طبعاً مع توقيرنا وتقديرنا لهم، ونحن نعرف حجمنا، مَا نَحْنُ فيمن مَضَى إلاّ كبَقْلٍ في أُصولِ نَخْلٍ طُوالٍ، لكننا نظل أيضاً بشراً وعندنا اجتهادنا وعندنا استقلالنا، نحن لسنا حمقى، حين تأتي وتقول لي – مثلاً – الإمام الشاطبي – رحمة الله عليه – يتحدَّث عن أن الأمر في ذاته وامتثاله مقصد، كلام فارغ! أنت بهذه الطريقة قوَّضت أصول المقاصد كلها بصراحة، لأن ماذا سيصير معناها في النهاية؟ سيصير معناها أن الأمر الإلهي أو النهي طبعاً – الانتهاء عنه – سواء فهمت حكمته أو لم تفهم حكمته ودريت بها أو لم تدر بها سوف تمتثل إليه كما هو لأن هذا مقصد، لا يُمكِن يا أخي! المقصد شيئ غير هذا، المقصد لابد أن يكون شيئاً معقولاً ومفهوماً لي، وعند التطبيق يبدو لي من خلال جُزئيات الفهم، أفهم لماذا؟ لماذا الله أمر بهذا؟ ولذلك يُوجَد تناقض، قد تقول لي العبادات في عمومها لا تُعلَّل وهي غير معقولة المعنى، أليس كذلك؟ فمن الصعب الوصول إلى مقاصدها الجُزئية، أقدر على أن أفهم المقصد العام الكلي، مثلاً الصلاة عندها مقاصد – أكيد عندها مقاصد – كُلية، أليس كذلك؟ إذا تعلَّق الأمر بالناحية الروحية فهي عندها مقاصد كُلية، لكن لماذا هذه ثلاثة وهذه ثنتان؟ من الصعب أن تفهم هذا، من الصعب! وحتى لو لم أفهمه لابد أن أمتثل له، هذا صحيح! لأنه تعبدي، غير معقول المعنى! لكن المقصد في الأصل أو الأصل فيها أن تكون معقولة المعنى، في الكُلي وفي الجُزئي، في الجُملة وفي الأفراد، فحين تقول لي لا – هو عمل قاعدة وقال من المقاصد امتثال الأمر في ذاته – تكون هدمت البناء علىّ كله بصراحة وتكون غير قادر على أن تُعلِّل لي أيضاً أو تُفسِّر لي أو تُبرِّر لي كيف علَّق الصحابة بعض الأحكام في بعض الأحيان، أُناس عاقلون عطَّلوا بعض الأحكام، ويُوجَد شيئ أكثر من التعليق بصراحة – نحن قلنا هذا ألف مرة وشرحناه – عن سيدنا عمر وغير سيدنا عمر، بصراحة يُوجَد شيئ مُختلِف، وهذا سوف يسد علينا أبواباً، لكن لا يُوجَد عمق حقيقي ولا يُوجَد وعي بما يقولون وبما يُقال لهم وبما يقرأون، هل هذا واضح؟

ما قصدت أن أقوله لابد أن يتعمَّق الخطاب الإسلامي، لا أقول قليلاً وإنما كثيراً حقيقةً، لابد وأن يتعمَّق كثيراً جداً، ولا ينبغي أن تكون عينه على غير هذا، قد تقول لي لابد بكل تواضع يا عدنان أن تُفرِّق بين الخطاب المسجدي وبين الخطاب الأكاديمي الدراسي، أنا أقول لك بصراحة للأسف – وهذا يُزعِجني جداً جداً جداً – الفرق بينهم ليس واسعاً جداً، هل تعرف لماذا؟ هناك دليل، أنا أرى هذا الأكاديمي الذي أخذ دكتوراة وظل يدرس على مدار عشر سنوات ويكتب ويُلخِّص ويقطع ويُلصِّق حين يصير إماماً لمسجد أو حين يأتي لكي يخطب جُمعة أو يُعطي مُحاضَرة يختلف وضعه، أنا قديماً حضرت بصراحة مُحاضَرات ليست مسجدية، مُحاضرَات لأناس مُتعلِّمين ضمن دورة تعليمية، شيئ فظيع جداً المُستوى، ما شاء الله! لكن هذا صار نادراً، وهذا شيئ مُؤلِم جداً جداً، هذا هو! وإذا رأيت شيئاً رائعاً وجيداً أحياناً يكون مُعظَمه من الكُتب والمنقول والمقصوص والملصوق، ليس من فكر هذا المسكين وليس من قدرته الفكرية، ولذلك الفارق بين هذا الأكاديمي وهذا المسجدي بسيط جداً جداً، موجود لكنه بسيط، ليس عميقاً جداً، أليس كذلك؟ وبعد ذلك بصراحة الخطاب المسجدي نفسه غير مُرضٍ، ليس لأنه غير أكاديمي، هو غير مُرضٍ! خطاب تجييشي تعبوي وغير معقول، لا عقل له! أنا أرى أن ليس عنده حتى منطق في أشياء كثيرة، فحين يُخاطِب الناس أيضاً لا يُنمّي فيهم العقل والمنطق والتبرير، يُنمّي فيهم – كما قلت لك – روح تجييشية وقطيعية وينتهي الأمر، هذا غير كافٍ يا أخي، أمتنا تحتاج إلى عقل، ولذلك قد تقول لي أين خطورته؟ أنا سأقول لك أين خطورته، خطورته أن في أي لحظة يُمكِن لأي أحد من هذا الجمهور أن يتحوَّل إلى قاتل، إلى إرهابي، إلى عدو لجيرانه، إلى عدو لإخوانه، إلى عدو لبلده، وإلى عدو لنفسه، هذا شيئ مُخيف جداً جداً، الذي حصل في العراق والذي حصل في غير العراق – لن أحكي – شيئ مُنذِر بخطر شديد جداً جداً، أنا أقول مَن يدخل المساجد ويسمع دروساً وخُطباً ويتعلَّم لسنوات المفروض أن يصير عصياً على التوظيف السريع وعلى الابتسار بصراحة وعلى تغيير دوافعه ونوزاعه حتى لا يُحوَّل المسكين إلى إرهابي أو قاتل أو مُفجِّر لنفسه أو لمُكفِّر للناس وما إلى ذلك، لا! ينبغي أن يصير عصياً على هذا، يصير عنده حصانة، وهذه الحصانة ليست تعصبية وإنما عملية، يصير عنده قدرة حتى على النقاش، يُناقِش! وربما يُناقِش حتى علماء ويُظهِر لك عوارهم، وهذا يحصل – الحمد لله – في بعض المرات، هناك مَن يقول لا، العالم هذا كلامه غلط، كلامه مُتناقِض، غير صحيح، هذا ينقض هذا! هذا ما أُريد، لِمَ لا يا أخي؟ وخاصة أن العذر الوحيد لهذه الروح التجييشية التسطيحية التعليبية المُقوِلبة – وهذا العذر فاسد – أنه يُخاطِب العوام، يا أخي حياك الله وأطال في عمرك، العوام هذا أصبح مفهوماً قديماً جداً كما أراه، حين كان أُميين – Analphabet – ولا يعرفون كيف يكتبون يا أخي، هذا أيام جدي وجدك، لكن أنت اليوم تُخاطِب أُناساً أكثرهم من الجامعيين يا حبيبي، أقلهم – هذا على الأقل – حصل على ثانوية عامة، أليس كذلك؟ ودرس فيزياء وكيمياء وهندسية وتاريخ حديث وعرف عصر النهضة وما إلى ذلك، كيف تقول لي هؤلاء عوام؟ عوام ماذا يا حبيبي؟ اليوم ابن الثانوية العامة هذا عنده معلومات وأشياء أرسطو Aristotle لم يعرفها، أليس كذلك؟ عن العالم والحقائق والتاريخ والسياسة والدين، كيف يا أخي تقول هؤلاء عوام؟ ما معنى أنهم عوام؟ ماذا تقصد بكلمة عوام أنت؟ ما هذا؟

تستخدم كلمة عوام كنوع من الوصاية على الناس ونوع من استحقار الجمهور، العوام لا يفهمون شيئاً! أنا هذه الكلمة سمعتها كثيراً من بعض العلماء، بعضهم يقول لي ارحم الناس يا شيخ عدنان، نحن نعرف – ما شاء الله – كذا وكذا لكن لا تُخاطِبهم بهذا، فقلت لهم مَن هؤلاء؟ هل هؤلاء شباب صغار أو أطفال يَحبون؟ هؤلاء أُناس مُتعلِّمون يا أخي، لماذا الاحتقار للناس؟ يُزعجِني هذا! لابد أن يُوجَد احترام، وسوف ترى – بعون الله تعالى – أن حتى العامي أو الذي تراه عامياً وقد يكون بسيطاً وحاصلاً على السادسة الابتدائية بعد أن يسمع لسنة أو سنتين أو ثلاث – أنا أقول لك – سوف يصير مُمتازاً، من إخوانكم هنا من حدث هذا معهم، ولعل بعضهم يجلس معنا الآن، هم الذين حكوا لي هذا، ليس أنا مَن يقول هذا، هم الذين حكوا لي هذا، أحدهم قال لي حين كنت في مصر جلست مع بعض المُتعلِّمين وبعضهم قيادات كُبرى في حركة كفاية – قيادات – وإذا بأحدهم يقول لي يا دكتور من أين حصلت على الدكتوراة؟ وأخونا هذا معه ثانوية عامة فقط، والله العظيم! فقال له لم أحصل على الدكتوراة، دكتوراة ماذا؟ فقال له كيف لم تحصل على الدكتوراة؟ إذن كيف تُناقِش في هذه الأشياء؟ كيف كذا وكذا؟ صُعِق الرجل! قال له هذا تعلَّمنا، فقال له أين تعلَّمتم هذا؟ في أي جامعة؟ فقال له في المسجد، لم يُصدِّق أن يتكلَّم إنسان بهذه الآفاق، آخر من إخواننا هنا – لا نُريد أن نحرجه – ذهب ذات مرة لكي يدخل امتحان فلسفة، قال لي لم أدرس فيها شيئاً، لم يكن عندي أي وقت، فقط ما أسمعه منك كوَّن عندي ذهنية فلسفية، لكنني ذهبت، والبروفيسور Professor نفسه الذي كان يمتحنه استغرب جداً، قال له أنت عندك عقل فلسفي مُمتاز، هل أنت قرأت كثيراً؟ قال له لم أقرأ شيئاً، فقال له غير مُمكِن، كيف؟ أين تعلَّمت هذا؟ فقال له أنا تعلَّمت هذا من شيخي، أي من شيخي في الدين، قال لي وأخذت علامة مُمتازة جداً، والله العظيم شيئ لا يُصدَّق! رجل من إخواننا أيضاً هنا أنهى دراستين، من أول شهر قالوا له أنت أول طالب يمر علينا بالمُستوى هذا، كيف؟ قال لهم أنا تَلميذ عدنان إبراهيم، فقالوا له نحن نعرفه، مضبوط! هو هذا، هم أنفسهم قالوا هذا، مُستشرِقون قالوا له هذا صحيح، إذا كان الأمر كذلك فمفهوم عندنا أن تخرج بهذا المُستوى، وهكذا!

هناك الأخ الذي أخذ دكتوراة بسبب مُحاضَرة عقدتها، حكيت هذا عدة مرات! أخذ دكتوراة في براتيسلافا بدرجة عُليا، قال لي بدرجة امتياز! مُحاضَرة في ثماني ساعات حوَّلها إلى دكتوراة، استأذنني فقلت له أئذن لك فأخذ عليها دكتوراة، فبالعكس! أنت يُمكِن أن تُسدي للناس خدمة عظيمة جداً جداً من خلال هذا، أنا أقول لك مُحاضَرة مثل هذه بسيطة لكنني أرى أنها طويلة للأسف ومُمِلة، بعد شهر أو شهرين سوف تجد أنك تفهم أديان العالم بطريقة يُمكِن أن تُخوِّلك إلى أن يظن مَن لا يعرفك أنك مُتخصِّص، ما رأيك؟ سوف يكون عندك تعمق في بعض الحيثياث والأشياء الدقيقة وما إلى ذلك، كيف هذا فهمها؟ مُمكِن! يُمكِن أن أضحك عليكم بكلمتين عن كونفوشيوس Confucius وأدّعى أنني أفهم الأمر وينتهي كل شيئ، وكذلك الحال مع الطاوية أو الهندوسية وما إلى ذلك، لا! لماذا؟ لابد من الجدية، اعمل الشيئ بجدية، إن الله يُحِب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقِنه.

أنا في بعض المرات أقول لنفسي لماذا تهلك نفسك؟ هذه كلها مُحاضَرة سوف يحضرها خمسة عشر رجلاً، لماذا تأتي بخمسين ألف كتاب وتقرأ وتُترجِم وتقول وما إلى ذلك؟ أحشد نفسي حشداً يليق بمُحاضَرة عالمية، أنا هكذا! طبيعتي هكذا، جوِّد إذا تكلَّمت، احضر شيئاً جيداً، لا تحضر شيئاً يقدر أي أحد أن يقرأه في كتاب أو في موسوعة، لا! احضر شيئاً لكي يعرفه لابد أن يقرأ ثلاثة أو أربعة آلاف صفحة في النهاية ثم يقول هذه حصيلتهم، هذه الشطارة! هذا اسمه تجويد في العمل، وأنا أستفيد طبعاً، كيف لا أستفيد؟ أستفيد، أكثر واحد فيكم يستفيد أنا بصراحة، وأنتم تستفيدون، لِمَ لا؟ نحن في كل الأحوال سنجلس وسنُضيِّع الوقت، فعلينا أن نُضيِّعه في شيئ له ثمرة، أنا أُحِب هذه الجدية والمصداقية Credibility، لابد من المصداقية!

لكن هناك جماعة بصراحة – والله – ليسوا كذلك، لا أقول من سنة أو سنتين بل من عشرين سنة وهم على المنبر وفي الفضائيات – هلكونا – يُردِّدون نفس الكلمات ونفس الجُمل! يُوجَد شخص مشهور جداً ومشهور على أنه من أشهر الدُعاة المُعاصِرين وعلى أساس أنه ذكي وعلّامة كبير، لكنني في حياتي لم أره هكذا، هو ليس علّامة ولا ما يحزنون، لأنني سمعت له ذات مرة مُحاضَرة مُمتازة حكى فيها بعض القصص من التراث وذكر بيتين من الشعر وما إلى ذلك، فقلت هذا جيد، مُمتاز! فصيح الرجل، قلت هو أحسن من غيره طبعاً بكثير، ثم سمعت له شيئاً ثانياً فوجدت أن تسعين في المائة من المعلومات هي نفسها وهو يُردِّدها، فقلت ما هذا؟ لعل الرجل نسيَ، ثم سمعت شيئاً ثالثاً فوجدت نفس الشيئ، ظهر في التلفزيون Television وقال نفس الأشياء! تسمعه ألف سنة وتجد أن عنده أشياء مُحدَّدة، يحفظها كالقرآن ويذكرها بشكل سريع فتقول أف، هذا فظيع!

من إخواننا مَن فهمه، قال لي أحدكم هذا الذي يقول كذا وكذا، فقلت له بالضبط، أنت فهمته! فقال لي طبعاً، هذا واضح، في كل درس هو هكذا، بدأ ينكشف! إخواننا يعرفونه، هذا واضح! وهذا يأكل من وراء الناس حلاوة، لا ينفع يا حبيبي، العلم ليس هكذا، العلم شطارة! كيف تقول لي هذا علم وفكر وما إلى ذلك؟ التحدي أن تُقدِّم في كل مرة الجديد النافع، في كل مرة! وإلا لن تُوجَد فائدة، أما تكرار نفسك فشيئ غير مقبول، هذه جريمة في حقنا نحن كمُستمِعين وكقارئين، أليس كذلك؟

أعجبتني مُحاوَلة الليبي محمد يونس، هذا الدكتور احترمته كثيراً جداً، هو أستاذ الآن في الإمارات، تحديداً في الشارقة، كتب كتاباً له عن الـ Islamic pragmatics، أي الخطابيات الإسلامية، Pragmatics نحن نُنترجِمها بالتداوليات أو علم الخطاب، Pragmatics! انتبهوا فهذه ليست Pragmatism، تلك شيئ مُختلِف تماماً، تلك فلسفة اسمها الذرائعية الوسلية أو النفعية الخاصة بويليام جيمس William James وجون ديوي John Dewey وهؤلاء الجماعة، لا! الــ Pragmatics مُصطلَح لساني، هذا Linguistic term، هذا مُصطلَح في علم الــ Linguistic معناه التخاطبيات أو يُترجِمونه بالتداولية، علم مُستقِل هذا! وهذا الرجل رائع، لماذا؟ درس تراث الأصوليين بالذات، الجمهور وبعض الحنابلة – ترك ابن حزم لظروف مُعيَّنة ذكرها – وابن تيمية – رحمة الله عليه – بشكل خاص، عجيب! وضَّح لك أن الكثير من الأُسس لهذه التداوليات أو علم الخطاب موجودة في تراثنا، وأحياناً بصراحة بشكل يفوق كثيراً آخر ما توصَّل إليه الباحثون في هذا الحقل في الغرب، هذه الدراسة! الدراسة طبعاً بالإنجليزية، أخذت أيامها – أعتقد في الخامسة والتسعين تقريباً – الدكتوراة رقم واحد على مُستوى بريطانيا في تلك السنة، ما رأيك؟ رقم واحد! هذه هي الجدية، هذا العلم الجدي، هذا مُحترَم! يتكلَّم في العلم باحترام ويفهم ما يقول، لماذا لا يكون دارس التفسير دارساً للعلوم هذه؟ مثلما درس محمد يونس ادرسها يا أخي، اتقن لُغة أجنبية – ألمانية أو فرنسية أو إنجيزية أو غير ذلك – وادرس هذه الأشياء من مصادرها، تعلَّمها يا أخي لكي تُفيد علم التفسير، لكن هناك مَن يأتون وكلهم يُردِّدون نفس الكلام القديم بصياغة حديثة، ما الذي فعلوه؟ لن أذكر أسماء حتى لا أنتقص علماءنا وأفاضلنا، لكن ما الذي فعلوه؟ أنت صغت المعلومات القديمة في كُتب التفسير القديمة بلُغة عصرية يا حبيبي، حرام عليك! أضعت عمرك والله العظيم، وجعلتني أيضاً أُكبِّر مكتبتي وأدفع مالاً في كلام له فائدة منه، ماذا تفعل أنت؟ أليس كذلك؟ وضربت أمس مثالاً بالذي حصل معنا حين اصطدمت بشُبهة ذي القرنين وهي شُبهة مُزلزِلة، تُخوِّف بصراحة، من أقوى الشُبهات في التفسير على الإطلاق! القرآن يتحدَّث عن شخص اسمه ذو القرنين قام بعمل رحلة إلى الغرب ثم إلى الشرق ثم إلى بين السدين وبعد ذلك في رحلته تلك رأى الشمس تغرب في عين حمئة من طين ثم ذهب عند يأجوج ومأجوج وبنى السد – إلى آخره، ثم وجدت كل هذه المعلومات موجودة بنفس الترتيب وبنفس الأشياء في كتاب خُرافي كاذب – ليس كتاباً تاريخياً – اسمه رومانسيات الإسكندر Alexander romance لسودو كالّيسثينيس Pseudo-Callisthenes، وهو كان موجوداً قبل محمد – عليه السلام – بأربعمائة سنة، وكتابه مُترجَم إلى الحبشية وبعد ذلك تُرجِم إلى اللاتينية وكان معروفاً، شيئ مُخيف! ثم وجدت أن تاريخ كاليسثينيس Callisthenes الحقيقي – كاليسثينيس Callisthenes هذا كان ابن أخي أرسطو Aristotle – بارئ من كل هذه الأشياء، لم يذكر عنها أي شيئ! لكن أكثر المُفسِّرين قالوا ذو القرنين هو الإسكندر المقدوني Alexander of Macedon، وآخرهم الآلوسي أيضاً وألح على هذا، والطبري كان منهم، وكذبوا على الرسول وقالوا ذو القرنين هو الإسكندر Alexander، باني الإسكندرية! أحاديث كاذبة، أنت بهذه الطريقة ورَّطتني في ورطة مُخيفة ستخلع من نياط قلبي الإيمان، وبها سنصدِّق قولة النضر بن الحارث لعنة الله عليه، أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ۩، قصص وحكايات، قال لهم اسألوني أنا، أنا عندي رحلات – قال لهم – إلى بلاد فارس بالذات وسمعت القصص هذه، محمد الذي تتحدَّثون عنه كان يسمع قصصاً في الرحلات كان يُتاجِر، ولم يقدر أحد أن يُجِيب على هذه الشُبهة لأنه كان تاجراً، مَن كان معه؟ ومَن كان يعرفه حين كان يذهب ويجيء؟ كان تاجراً! فكان يسمع ويجلس لأنه لم يكن معروفاً ولم يكن مشهوراً، كان يسمع هذا في كل مرة وظل هذا يختمر في عقله، وبعد ذلك في لحظة مُعيَّنة بدأ الرجل يُؤلِّف ويحكي لهم القصص، وهذه ليس لها علاقة لا بالإسكندر Alexander ولا بغير الإسكندر Alexander، هذه قصص كاذبة ألَّفها سودو كالّيسثينيس Pseudo-Callisthenes، شيئ مُخيف!

رجعت إلى سيد قطب وابن عاشور والشعراوي وأمين الخولي وطنطاوي جوهري وغيرهم، رجعت إلى كل المُفسِّرين، ولم أجد أحداً تعرَّض إلى هذه الشُبهة، ليس لهم علاقة بها رُغم أن الشُبهة قديمة، ليست من يوم أو يومين وليست من ثلاثين أو أربعين سنة، لكنهم لا يعرفون شيئاً! وكلهم يذكرون نفس الهبل ويتحدَّثون عن اليمن وما إلى ذلك، لماذا؟ لأنهم لم يدرسوا، لم يُجدِّدوا في التفسير، أُناس تُريد أن تُؤلِّف فقط الكُتب يا أخي، لماذا فعلتم هذا؟ لا يُمكِن!

أنا لكي أعقد خُطبتين عن الإسكندر Alexander اضطررت إلى أن أحضر رومانسيات الإسكندر Alexander romance من الأمازون Amazon، أحضرته وقرأته بالإنجليزية، رأيت ماذا يقول الكتاب الأصلي بالضبط، ثم نزَّلت من جوجل Google والحمد لله – من الكُتب Books الخاصة بجوجل Google – مُجلَّدين من تاريخ هيرودوتس Herodotus الكبير، أبو التاريخ، أبو علم التاريخ! هذا كان مُعاصِراً لكورش Cyrus، هو الذي أرَّخ لكورش الأخميني Cyrus the Great، وقرأت كل ما كتبوا عن الأُسرة الأخمينية وبالذات عن كورش Cyrus الكبير هذا، بالإنجليزية هذا مكتوب، موجود ومُتاح! أحضرت الكتاب وأنزلته بصيغة بي دي إف PDF، قرأت الشيئ هذا وعملت بحثاً، وأكثر مَن أسعفني بصراحة – له الفضل الكبير علىّ وذكرت هذا بالاسم مائة مرة، لأن لابد أن اكون علمياً، لا يُمكِن أن أكون كاذباً – أبو الكلام آزاد قدَّس الله سره، العلّامة والسياسي الهندي العظيم المُسلِم الذي اقتضاه الموضوع بضع عشرة سنة من البحث المُتواصِل، أرأيتم كيف تكون المصداقية العلمية؟ هذه هي المصداقية العلمية، تُوجَد شُبهة أمامك مُخيفة، مَن هو ذو القرنين؟ نُريد أن نفهم يا أخي! أنا أقول لك لو لم تجد جواباً حقيقياً عن المسألة هذه – أُقسِم بالله – لكان إيماني في مهب الريح، ولشعرت بوجود شيئ مُخيف عندي، لأن هذه ليست شُبهة فحسب، هناك دليل على وجود خُرافات وأكاذيب غير تاريخية، وقيل إن محمداً نقلها كما هي – شيئ يُجنِّن يا أخي – وقال لنا هذا تاريخ أوحى الله لي به، شيئ يُخوِّف! وبعد البحث كله هذا ظهرت الحقيقة، وكما قلت لكم حجر الزاوية بصراحة والمحور في كل عملي هذا هو أبو الكلام آزاد – جزاه الله عنا خير الجزاء وقدَّس الله سره الكريم – الذي لم يهتم أي مُفسِّر بعمله، بعضهم اقتبس منه اقتباسات  سريعة هكذا، لكن الرجل عمله جبّار، بضع عشرة سنة والرجل يبحث، تخيَّلوا! قرأ وبحث وزار، ذهب إلى أماكن لكي يزورها يا إخواني ثم نقد الأقوال، لا أتخيَّل كيف يقول الطاهر بن عاشور إن ذا القرنين هو أحد ملوك تشانج وهو باني صور الصين العظيم، هل الذي بنى هذا واحد؟ بُنيَ في مئات السنين، ثم إن هذا بين جبلين، هناك أربعة آلاف كيلو متر يا حبيبي، ولا يُوجَد حديد أو نحاس، كله من الحجارة! كيف ترضى بهذا القول يا شيخ ابن عاشور؟ رحمة الله عليه، علّامة وإمام، لكنه أراد هكذا أن يُعطيك هذا القول فأعطاك إياه، غير صحيح!

نظرت في البحث العلمي، واتضح في النهاية – هذا بفضل الله تبارك وتعالى، الله أنقذنا والحمد لله – أن هذا إعجاز علمي مُذهِل، الرجل ليس الإسكندر المقدوني Alexander of Macedon، طبعاً هذا مُستحيل، هناك رواية تقول أنه قاتل أبيه، هذا مُجرِم وذبّاح الشعوب، غير صحيح يا أخي! فاسد مُفسِد هذا، لا! اتضح أنه كورش الأخميني Cyrus the Great، وبفضل الله عرضوا حلقة لمُدة نصف ساعة في رمضان – وبعد ذلك أعادوها فسجِّلتها والحمد لله – ضمن مُسلسَل طبعاً عن تاريخ إيران، أول حلقة كانت عن الأسرة الأخمينية، والتي عملتها امرأة ألمانية، باحثة ومُؤرِّخة ألمانية! حين رأيت الحلقة بكيت واقشعر بدني، لأنني قرأت الكلام هذا بصيغ أُخرى في تاريخ هيرودوتس Herodotus عن كورش Cyrus، يا أخي كورش Cyrus هو ذو القرنين القرآني فعلاً، مائة في المائة! يا أخي هذا شيئ عجيب، وهناك أشياء مكتوبة من عهده باسمه، رجل إلهي، رجل عدل، رجل سلام، رجل عطاء، ورجل كرم، فعلاً كان إنساناً إلهياً يا أخي، وكان مُوحِّداً لله، هذا هو! هذا كورش Cyrus، لكن هناك مَن قال إنه كان زرادشتياً ويعبد النار، لأن هؤلاء لا يفهمون شيئاً، يقولون كلاماً أهبل، البحث العلمي يحتاج إلى جدية، يحتاج إلى تعب، يحتاج إلى ترجمة، يحتاج إلى مُقارَنة، ويحتاج إلى أخذ الأمور فعلاً مأخذ الجد يا جماعة، لكن هناك مَن يُريد أن يُفسِّر رغم وجود كل هؤلاء المُفسِّرين، في النهاية لا فائدة، في رأسه موال يُريد أن يُغنيه، ماذا تُريد من الكلام هذا؟ هناك مَن قال لي أنا لا أقصد يا شيخ عدنان المُستوى هذا، أنا أقصد الناس البسطاء والناس العاديين المساكين، سأُعطيهم مُجلَّدين أو ثلاثة أو أربعة، بحيث يقرأون هذه المُجلَّدات ويفهمون، فقلت له إذا هذا كان قصدك فلتتوكَّل على الله، مع أنك يُمكِن أن تنصحهم بكُتب موجودة، قلت له والله تُوجَد كُتب من أحسن ما يكون، فصفوة البيان للشيخ مخلوف رائع جداً، مَن يُحِب أن يفهم الآية من ناحية لُغوية وأن يفهم معناها بشكل عام وبشكل سريع عليه بصفوة البيان لمُفتي مصر، علّامة كبير ومُفسِّر – عنده قدرة على التفسير – تقليدي، صاحبنا هذا مع احترامي له – وهو يعتبر نفسه من تَلاميذي وأحبابي – سمعت دروسه في الإنترنت Internet – هذا الكلام اقطعوه لأنه سيُحبِطه – ووجدت أنه مسكين لا يعرف اللُغة العربية، يتكلَّم في دروس تتعلَّق بالمواعظ والتفسير ويُخطئ أخطاء فظيعة، كل كلامه أخطاء لُغوية وصرفية، مُستحيل أن يكون مُفسِّراً! الشيخ مخلوف علّامة، مُفتي مصر علّامة، أُقسِم بالله! حين تقرأ كُتبه تُدهَش، ما هذا؟ علّامة مثل الأوائل، الرجل عنده لُغة عربية عجيبة، شيئ عجيب! هذا المُفسِّر يُفسِّر لكنه تقليدي أيضاً، أنا أُريد مُفسِّراً عصرياً، أليس كذلك؟

ثم لماذا تُفسِّر القرآن كله؟ أنا الآن يُمكِن أن أكتفي بإحضار بعض الأبحاث التي عملتها والتي أُريد أن أعملها بخصوص آيات مُعيَّنة وسور مُعيَّنة ثم أطبعها في مُجلَّد أو مُجلَّدين والله يُحِب المُحسِنين، أنا عندي إضافات في هذه المسائل، انتهى! وغيري سوف يُكمِل، أليس كذلك؟ لماذا أُفسِّر القرآن من أوله إلى آخره لكي أعطيك ألفي صفحة أو ألف صفحة زائدة؟ لا! سوف أطبع هذه الإضافات وحدها، أليس كذلك؟ هذا أفضل وفيه مصداقية أكثر، أليس كذلك؟ ابن عاشور حين ألَّف النظر الفسيح – جزاه الله خيراً – لم يقل أنا ابن عاشور وأُريد أن أكتب تفسيراً لشرح البخاري، ما الجديد الذي سوف يأتي به؟ هل سوف يأتي بأشياء أكثر من ابن حجر؟ يستحيل! الشوكاني أعلم من ابن عاشور بمراحل في الحديث طبعاً، ابن عاشور ليس مُحدِّثاً حقيقياً أصلاً، وهذا معروف! مثل علماء تونس ومثل علماء الأزهر في وقته، عنده معرفة جيدة لكنها ليست معرفة مُحدِّث حقيقي، لا! انظروا إلى حُكمه على الحديث حتى في كُتبه، حُكمه ضعيف وغير مُتقَن، لكن الشوكاني حافظ ومُحدِّث كبير رحمة الله عليه، حين قالوا له ألَّف شيئاً على البخاري قال لا هجرة بعد الفتح، هل يُمكِن أن أقول شيئاً بعد ابن حجر؟ يُوجَد فتح الباري! قال لا هجرة بعد الفتح، فتح الباري موجود، ماذا سوف أُقدِّم؟ انظر إلى هذه المصداقية، ابن عاشور – قدَّس الله سره – كان عنده نفس المصداقية، لكنه ماذا فعل؟ قال النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح، قال هناك بعض الأحاديث التي قصَّر عنها العلماء، لم يأتوا بجواب أرتضيته، أنا سوف أتحدَّث عن هذا، وهذا جميل، جميل جداً! وبصراحة – اكتُشِف هذا بعد ذلك – وُجِدَ في مكتبة الإمام الراحل كتاب اﻟﻤﺘﺠر اﻟرﺒﻴﺢ واﻟﻤﺴﻌﯽ اﻟرﺠﻴﺢ واﻟﻤرﺤب اﻟﻔﺴﻴﺢ ﻓﻲ ﺸرح اﻟﺠﺎﻤﻊ اﻟﺼﺤﻴﺢ لابن مرزوق، مَن ابن مرزوق؟ أستاذ الشاطبي، هذا أستاذ الإمام الشاطبي! وُجِدَ أن ابن عاشور استفاد منه كثيراً جداً في كتابه، للأسف لم يُشِر إليه وأخذ الاسم منه، هذا اسمه اﻟﻤﺘﺠر اﻟرﺒﻴﺢ واﻟﻤﺴﻌﯽ اﻟرﺠﻴﺢ واﻟﻤرﺤب اﻟﻔﺴﻴﺢ ﻓﻲ ﺸرح اﻟﺠﺎﻤﻊ اﻟﺼﺤﻴﺢ، وذاك سماه النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح، كان عليه أن يذكر أنه استفاد منه، وهذا الكتاب وُجِدَ في مكتبة الإمام ابن عاشور مخطوطاً، كان مخطوطاً! وهو كتاب كبير وفيه بدائع، استفاد منه – ليس في كل شيئ وإنما في بعض الأشياء – لكنه لم يُشِر إليه، كل شيئ يظهر، سُبحان ربك! فالواحد لابد وأن يتقي الله دائماً، ما لي لي وما لغيري سأقول إنه لغيري، أليس كذلك؟ لن أقول أنا كعدنان كذا وكذا وأنسب لنفسي تحقيق أبي الكلام آزاد، مَن أنا؟ هذا تحقيق أبي الكلام آزاد، وإلا سوف يُكتشَف في النهاية أمري ومن ثم سوف أهون في نظر نفسي وفي نظر الناس، لابد من وجود أمانة علمية كاملة.

على كل حال نحن طوَّلنا وذهبنا وشرَّقنا وغرَّبنا، وحتى الأخ الذي طرح السؤال ذهب إلى بيته أو ذهب إلى الحمام، نكتفي بهذا القدر ونسأل الله لنا ولإخواننا العلماء وطلّاب العلم مزيداً من التوفيق والفتوح والإلهامات والصدقية في العلم وأن ينفع بنا وأن ينفعنا وأن يُعلِّمنا ما لم نعلم ويجعل فضله علينا عظيماً، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله والسلام عليكم ورحمة الله.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: