إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَحَبِيبَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۩ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۩ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۩ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الكريمات:

نحن في هذه الأيام الفاضلة وفي هذه الأوقات الشريفة على موعد مع رحمة الله – تبارك وتعالى -، على موعد مع مغفرة جليلة كبيرة من الرب التوّاب الرحيم – لا إله إلا هو -، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ۩، وعلى موعد – إن شاء الله تبارك وتعالى – مع عتق من نار جهنم، عتق من غضب الله وسخطه، وذلكم – أيها الإخوة والأخوات – كله رهن التوبة الصادقة، مرهون بالتوبة والأوبة، بالإنابة والرجوع إلى الله – سُبحانه وتعالى -، ولِمَ لا نرجع إلى الله؟! هل تُرضينا أحوالنا؟ هل نحن قانعون بما نحن فيه وبما نحن عليه من هذا التنغيص، من هذا التضييق، من توالي الهموم، ومن تواتر التنغيصات والأحزان؟

أيها الأخ المُؤمِن، أيتها الأخت المُؤمِنة:

فتِّش نفسك، وراجع أحوالك، إذا وجدت أنك ضائق بعيشك، ضائق بحالك، فاعلم أن هذا من شؤم المعصية، من شؤم البُعد عن الله – سُبحانه وتعالى -، والطريق والحل ميسورة وسهلة – أيها الإخوة والأخوات -، أن نتوب وأن نعود إلى الله – تبارك وتعالى -، هل يضمن لنا أحد أن نعيش ساعة بعد هذه الساعة؟ هل يضمن لنا أحد أن نعيش يوماً بعد هذا اليوم؟ وهل يضمن لنا أحد أن نصوم رمضان القابل؟ لا والله، لا أحد يضمن شيئاً من ذلك ولا أقل منه، وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ۩ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۩، ما هو الأجل القريب؟

أيها الإخوة والأخوات:

حين يُكشَف عن الميت الغطاء – أي الميت الذي هو في سياق الموت، حين يُكشَف عنه الغطاء – يُعاين ويرى الملائكة الكرام، يرى ملك الموت، قال السادة العلماء والعارفون بالله فيتجدَّد له من الحسرة والندم ما لا يُقدِّر قدره إلا الله – تبارك وتعالى -، حسرة عظيمة، ندم عظيم، ويود لو أن الله – تبارك وتعالى – يُمهِله ساعة واحدة، فإذا كُشِف الغطاء عنه أخبره ملك الموت أن هذه هي ساعتك، فماذا يطلب العبد في هذه الساعة؟ يتوسَّل، يتذلَّل، يتحنَّن، ويقول يا ملك الموت أخِّرني يوماً واحداً، أستعتب فيه ربي، وأتوب إليه، وأُنيب، وأبغي نفسي صالحاً، أتزوَّد لنفسي صالحاً، فيقول ملك الموت فنيت الأيام فلا يوم، لقد فنيت الأيام فلا يوم، فيقول يا ملك الموت فأخِّرني إذن ساعة، ساعة واحدة! أستعتب فيها ربي، أطلب عُتباه – تبارك وتعالى -، أي مرضاته، يقول أستعتب فيها ربي، وأتوب، وأُنيب، وأتزوَّد لنفسي صالحاً، فيقول له ملك الموت قد فنيت الساعة فلا ساعة، هذه ساعتك، هذه آخر ساعة، إنها آخر أنفساك، يقول له قد فنيت الساعات فلا ساعة!

قال العارفون بالله وساعة إذ يتغرغر، وساعة إذ يتغرغر بروحه، وتتردَّد أنفاسه في شراسفه، ويُصبِح في حالة مُخيفة، في حالة خطيرة، لماذا؟ لأنه إذا علم أنه لا يُؤجَّل ولا ساعة واحدة اصطدمت عليه الأهوال والأحوال، فإن كان من أهل السعادة الذين سبق لهم من الله التوفيق والسعادة وُفِّق إلى قول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وهو في هذه الحالة من الاصطدام، في هذه الحالة من الدهشة، في هذه الحالة من الفزع والخوف والندم والحسرة، وإن كان – والعياذ بالله تبارك وتعالى أيها الإخوة والأخوات – مما سبق له من الله الشِقوة تخبَّط، تخبَّطه الشيطان، فهو مُندهِش، وهو مُفزَّع، وهو خائف، ومات في حيرة وشك واضطراب، فهلك هلاك الأبد، هذا هو الأجل القريب، يُريد أجلاً قريباً ولا أجل، لا يوم ولا ساعة، فنيت الأيام فلا يوم، وفنيت الساعات فلا ساعة.

أوصى لُقمان الحكيم – عليه السلام – ابنه يوماً، قال يا بُني بادر بالتوبة، فإن الموت يأتي بغتة، بادر بالتوبة، لا تُسوِّف، لا تُؤجِّل، فإن الموت يأتي بغتة، وهذا حالك حين تُباغَت بالموت، قال الإمام حُجة الإسلام الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم -، قال – رحمة الله تعالى عليه – وكل مُسوِّف هو بين خطرين، كل مَن سوَّف التوبة والأوبة والرجوع إلى الله – تبارك وتعالى – بين خطرين: بين خطر أن يدهمه الموت وأن يبغته، فلا يُدرى على أي حال يُختَم له ولا بأي شيئ يُختَم له، وبين خطر المرض والضعف، وإلى ذلكم خطر الران، أن تتوالى الذنوب والسيئات على القلب، حتى يكون منها الرين – والعياذ بالله -، حتى يكون منها الرين! ومع الرين قد يكون الختم والطبع، فلا فتح بعد ذلك ولا هداية.

شيخ كبير له ذنوب                                              تعجز عن حملها المطايا.

قد بيَّضت شعره الليالي                                             وسوَّدت قلبه الخطايا.

هكذا تتقدَّم بك السنون، ويسير بك قطار الزمن، وأنت تحتقب الآثام في حبل غضب الله وسخطه، فما الذي يصير؟ يشيب شعرك، ويُحنى ظهرك، وتضعف منتك وقوتك، وربما صار الران إلى قلبك – والعياذ بالله -، وبعد ذلك لا إحساس لا بالذنب ولا إحساس حتى بلذة الطاعة، حتى ينتهي الإنسان وهو على هذه الحالة.

يُحكى عن شاب من بني إسرائيل أنه كان في طاعة الله ومرضاته عشرين سنة مُتوالية، ثم إنه تنكَّس – والعياذ بالله، نعوذ بالله من الحور بعد الكور – فعصى الله عشرين سنة مُتوالية، ووقف يوماً أمام المرآة، فرأى الشيب قد وخط وقد غزا شعر لحيته ورأسه، فحصل له من ذلك فكرة وعبرة وأوبة إلى الله صادقة، وقال إلهي وسيدي ومولاي قد عصيتك، وها أنا راجع إليك، فهل تقبلني؟ فنام، فهتف به هاتف: قد أحببتنا فأحببناك، كنت في حُبنا عشرين سنة، لماذا تخليت؟ لماذا تنكَّست يا شقي؟ قد أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، فإن رجعت إلينا اليوم قبلناك، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ۩، كريم توّاب رحيم، والله لولا توبته علينا ما تاب منا أحد، ولولا هدايته لنا ما اهتدى منا أحد، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۩، كيف يتوب علينا – لا إله إلا هو -؟! وأصل التوبة من تاب، وتاب كثاب، كأناب، وآب، أربعة أفعال، كلها تعني الرجوع والعود، تاب وثاب وأناب وآب، ما معنى أنه – سُبحانه وتعالى – توّاب رحيم؟ توّاب أي عوّاد، يعود على عباده، بماذا يعود علينا؟ يعود علينا بالتوبة، يحملنا على التوبة، إذا أحبنا حملنا على التوبة، إن بالترغيب وإن بالترهيب، إن بالرضا والقبول وإن بلي الذراع كما يُقال وبالمصائب والبوائق رُغماً عنا، لأنه يُحِبنا، هذا معنى كونه توّاباً، يعود علينا بالتوبة، ويُيسِّر لنا التوبة، فإذا تُبنا عاد علينا بالقبول، لا إله إلا هو! فالفضل له أولاً وآخراً.

ولذلك نحن نسأله أن يتوب علينا حتى نتوب إليه، فيقبل توبتنا – لا إله إلا هو -، فإذا قبل توبتنا أحبنا، لأنه يُحِب التوّابين – إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ۩ -، والتائب حبيب الرحمن، حتى لو كان غارقاً في بحار المعاصي، وعاد إلى ربه، أحبه ربه، حتى وإن عاد قبل أن يتغرغر، في الترمذي عن ابن عمر إن الله – تبارك وتعالى – يقبل توبة عبده ما لم يُغرغِر، حتى في هذه السويعة الآخرة من ساعات العمر المُمتَد يقبل الله التوبة، والندم توبة أيضاً، والندم توبة!

اسمعوا بالله عليكم هذه القصة العجيبة الحزينة المُوجِعة، إلا أنها مُبشِّرة، وبطلها هو صاحب جليل، من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ورضيَ الله عنه أصحابه أجمعين وأرضاهم، وعنا وعنكم، والمُسلِمين والمُسلِمات، اللهم آمين -، وهو أبان بن عيّاش، عيّاش ليس بصحابي، ولكن أباناً صحابي، أبان بن عيّاش – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يقول خرجت من عند أبي حمزة، أنس بن مالك – رضيَ الله عنه وأرضاه – بالبصرة، وأنس عاش الشطر الآخر من عمره بالبصرة، وتُوفيَ بالبصرة – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال فرأيت جِنازة يحتملها أربعة من الزنج، أربعة فقط! ويبدو أنهم كانوا عبيداً، ليسوا من أحرار الناس، فقلت يا سُبحان الله، سوق البصرة وجِنازة مُسلِم لا يحملها إلا أربعة؟! لأكونن خامسهم – رضيَ الله عنه وأرضاه -، كانت لديهم نهمة ورغبة عجيبة في تحصيل الحسنات وفي فعل الخيرات والمبرات، وبلا شك أن مُعالَجة جسد خاو موعظة بليغة.

قال لأكونن اليوم خامسهم، قال فسرت معهم، فلما قدَّموه ليُصلى عليه قدَّموني، فقلت بل أنتم أولى، هو يحسب أنهم ربما كانوا من أهليه وقراباته، قالوا كلنا سواء، ما منا أحد يعرفه، نحن مثلك أيضاً، لا نعرفه، هذه المرأة دعتنا ورجتنا أن ندفن هذه الجِنازة، نحن لا نعرفه، ولا نعرف عنه شيئاً، كلنا سواء، فتقدَّم، قال تقدَّمت فصليت، وبعد أن فرغنا من الصلاة أدليناه في حفرته وعليه أهلنا التراب، وأهمني شأني، فقلت لهم ما حكايته؟ فقالوا سل تلك المرأة، لامرأة تقف ناحيةً، أي في جهة، بعيداً قليلاً، قال فسألتها، فقالت نعم يا بُني، أنا أمه، وقد كان ابني – رحمة الله عليه – غارقاً في المعاصي، مُذنِباً، ما ترك ذنباً إلا ركبه، مُسرِفاً على نفسه، فلما اعتل علة الموت قال يا أماه وصاتي إليكِ إذا أنا مِت فلا تُخبري أحداً من جيراني بموتي لئلا يشمتوا بي، والعباد يُعيِّرون ولا يُغيِّرون، يشمتون ولا يرحمون، ولكن الرب رحمن رحيم – لا إله إلا هو -.

قال فلا تُخبري أحداً من جيراني بموتي لئلا يشمتوا بي، واكتبي على خاتمي لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وضعيه في كفني، لعل الله يرحمني، فإذا فعلت ذلك يا أماه فضعي رجلك على خدي، وقولي هذا جزاء مَن عصى الله، قالت يا بُني ولقد فعلت كل ما أوصاني به، فوالله الذي لا إله إلا هو حين دفنتموه رفعت يدي لأدعو فإذا بصوته أسمعه فصيحاً يقول انصرفي يا أماه، فقد قدمت على رب كريم، لا إله إلا الله! 

كيف لا نتوب إلى هذا الرب؟ كيف لا نعود إليه؟ كيف لا نستحي منه؟ إذا لم نتب إليه خوفاً من عذابه وخوفاً من وعيده فلنتب إليه استحياءً من فضله وكرمه وتوبته ورحمته ومغفرته.

الفُضيل بن عياض – أبو عليّ، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – عشية عرفة يقف في الموقف الحاشد يوم عرفة بطوله، لم ينبس ببنت شفة، استحيا من الله أن يرفع يديه بدعوة، ولي أمة محمد في زمانه – رضيَ الله عنه وأرضاه -، فلما غربت الشمس قال كلمة واحدة: واسوأتاه وإن غفرت لي! يستحي من الله، حتى لو غفرت لي أين أُخبئ وجهي منك غداً يا رب العالمين؟ كيف؟ ألا نستحي من الله؟ فإن لم نتب إليه خوفاً وخشيةً فلنتب إليه حياءً وخجلاً، واسوأتاه وإن غفرت لي! أين نحن من هؤلاء العارفين؟!

فتح الموصلي – قدَّس الله سره، هذا الرجل كان من أعلام الصادقين ومن معادن الصدق والحق – سُئل يوماً عن الصدق، فقال الصدق؟ الصدق مع الله؟ وكان أمام كير حدّاد، أمام كير فيه الحديد وفيه النار الحامية اللاهبة، فتح الكير ووضع يده، وأخرج حديدة مُحماة هكذا بيده، وقال هذا هو الصدق، هذا هو الصدق! أتسألونني عن الصدق؟ هذا هو الصدق، لو وُضِع الصدق على حديد لقطعه، لو وُضِع على علة لشفى صاحبها.

سأله أحد تَلاميذه ومُريديه، قال بالله يا شيخنا أبكيت الدم من خشية الله؟ دخل عليه وهو يبكي بدم غزيز مدرار، وقد تغيَّر لونه، أي لون الدمع، فقال له بالله يا شيخنا أبكيت الدم من خشية الله؟ لأننا سمعنا أن عمر بن عبد العزيز بكى الدم من خشية الله، حتى نزل دمه – رضيَ الله عنه وأرضاه -، قال والله لولا أنك عزمت علىّ بالله ما أخبرتك، نعم يا أخي، قد بكيت الدمع وبكيت الدم من خشية الله، قلت بكيت الدمع، لِمَ؟ لِمَ؟ قال بكيت الدمع لأنني لم أف بحقوق الله – تعالى -، لتخلفي عن حقوق الله – تعالى -، فقلت والدم بكيته لِمَ؟ قال بكيته للدمع ألا يصل وألا يُقبَل مني، حتى بكائي وخشيتي وإنابتي، أخشى ألا يُقبَل مني شيئٌ من ذلك.

يقول تَلميذه فتُوفيَ إلى رحمة الله – تبارك وتعالى -، فعرض لي في المنام، فقلت له يا سيدي ما فعل الله بك؟ قال الحمد لله، غفر لي، وتجاوز، وسمح، وأكرمني، وقال لي وقد أوقفني بين يديه يا فتح تبكي هذا البكاء كله؟! لِمَ بكيت الدمع؟ فقلت يا ربي ومولاي وسيدي وخالقي بكيت الدمع لأنني لم أف بحقك، فقال والدم لِمَ بكيته؟ قلت لدمعي ألا يصل وألا يُقبَل، فقال تفعل هذا كله، وقد صعد إلىّ حافظاك أربعين سنة ليس في صحيفتك خطيئة واحدة!

الله أكبر، الله أكبر، أين نحن؟! صدق عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، في الحديث الصحيح يقول المُؤمِن يرى نفسه من ذنوبه كأنه في أصل جبل، يخاف أن يقع عليه، هذا هو المُؤمِن، أمثال هؤلاء! والمُنافِق يرى ذنوبه كذباب مر بأنفه، لا يهتم، يفعل الصغائر ويجمع إليها الكبائر، ثم لا يهتم، يأكل ويسمن ويشرب وينام ويضحك ويلهو ويعبث ويأمن ولا يدري أمُسخِط ربه أم مُرضيه – والعياذ بالله تبارك وتعالى -؟! هذا من الغفلة، هذا لأن الله قد قطعه وأسقطه من عينه وأبعده ولم يُباله بالاً، لو كان كريماً على الله لعذَّب الله نفسه، لأٌقلق ضميره، لألهب روحه، لأشعل كانون فؤاده، لأشعل مجمرة روحه، لكنه تركه، لأنه ليس لله فيه حاجة.

نسأل الله – تبارك وتعالى – ألا يُخلينا من فضله، وألا يتركنا من عنايته وكلاءته بالليل والنهار، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.

التائب إلى الله حبيب الله، حبيب الرحمن، لحق بني إسرائيل ذات سنة قحط شديد، فأتوا نبي الله وكليمه موسى – عليه الصلاة وعلى نبينا والتسليمات والتشريفات -، وقالوا له يا كليم الله اخرج بنا واستسق لنا ربك، فقد أوشكنا أن نهلك، فخرج بهم، وكانوا سبعين ألفاً أو يزيدون، ودعا موسى ربه، رفع يديه وقال اللهم اسقنا الغيث، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا يا ربنا بالأطفال الرُضع والبهائم الرتُع والشيوخ الرُكع، فما زادت السماء إلا تقشعاً والشمس إلا حرارةً، زاد القحط، زاد اللهيب، تقشعت السماء، لو كانت هناك قطع من الغيوم المُتباعِدة اختفت بالكامل، وزاد لهيب الشمس وحرها، فنكس نبي الله رأسه، وقال إلهي إن كان خلق جاهي عندك – ربما جاهي ومكانتي أصبحت بالية، ربما لأنني عصيت أو أذنبت، وهذا موسى، كليم الله، عليه الصلاة وأفضل السلام، مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩، كم نحن مغرورون بالله! لا إله إلا الله، كم نحن مغرورون! نفعل المعاصي، ويحسب أحدنا نفسه من أولياء الله، لو أقسم على الله لأبره، الله أكبر، الله أكبر، وهذا نبي الله، يُنكِّس رأسه، خجلان! يقول إلهي إن كان خلق جاهي عندك – فبجاه محمد الذي تبعثه في آخر الزمان إلا ما سقيتنا الغيث، هذا هو طبعاً! وكل الأنبياء وثقوا على مُبايعة محمد، كلهم يعلمونه علم اليقين، ويعرفونه جيداً، أكثر مما نعرفه نحن، فأوحى الله إليه أي يا كليمي ويا حبيبي ما خلق جاهك عندي، وإنك عندي لوجيه – اللهم اجعلنا من الوجهاء عندك في الدنيا والآخرة يا رب العالمين -، ولكن بينكم رجل يُبارِزني بالمعصية مُنذ أربعين سنة، وأنا أستره، مُره فليخرج، فبه منعتكم، أي بشؤم هذا العاصي المُجرِم، أربعون سنة! أربعون سنة وستر الله عليه مُسدَل ومُسبَل، وهو لا يعود ولا يرعوي.

قال مُره فليخرج، فبه منعتكم، قال يا رب أنا عبد ضعيف، وصوتي ضعيف، وأين يبلغ منهم وهم سبعون ألفاً أو يزيدون؟ قال يا موسى، يا كليمي، عليك النداء، ومني البلاغ، أنت تكلَّم وأنا سأُوصِل صوتك، قال عليك النداء، ومني البلاغ، فوقف كليم الله وقال يا أيها الناس إن منكم عبداً عاصياً، بارز ربه بالحرب أربعين سنة، وقد أوحى الله إلىّ أن به قد مُنعِنا، فليخرج من بين ظهرانينا، لنُسقى، فنظر هذا العاصي يمنة ويسرة وجلاً خزيان، فلم يجد أحداً خرج، فعلم أنه هو المطلوب، وتهمم بالخروج، ثم عاد إلى نفسه، ثم قال – قال في نفسه ولنفسه – إن أنا خرجت افتُضحت على رؤوس بني إسرائيل، سيُفتضَح أمري، فأدخل رأسه في جيب ثوبه، وقال إلهي وسيدي عصيتك أربعين سنة وقد سترتني، وقد تُبت إليك أفتقبلني؟ فما استتم كلامه – رضيَ الله عنه وأرضاه – حتى بعث الله سحاباً أرسله بأمطار كأفواه القرب، مطر غزير جداً، وعجب كليم الله، وقال إلهي وسيدي بِمَ سقيتنا ولم يخرج من بين ظهرانينا أحد؟ قال يا موسى سقيتكم بالذي منعتكم به، لقد تاب إلىّ، ومَن تاب إلىّ فهو حبيبي، قال يا رب دلني على هذا العبد الطائع، موسى يطلب بركته، دلني على هذا العبد الطائع يا رب العالمين، فقال الله – تبارك وتعالى – لموسى مُوحياً إليه يا موسى سترته وكان يعصيني، أفأفضحه بعد أن تاب إلىّ؟! الله أكبر، يا موسى إني أُبغِض النمّامين أفأكون نمّاماً؟! الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا هو، ما أكرمه! ما أرحمه! ما أتوبه على عباده! لا يهلك على الله إلا هالك، هكذا.

إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويُعبَد غيري، وأرزق ويُشكَر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلىّ صاعد، أتحبَّب إليهم بالنعم، وأنا الغني عنهم، ويتبغَّضون إلىّ بالمعاصي، وهم أفقر شيئ إلىّ، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل شُكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أُقنِّطهم من رحمتي، الله أكبر! إن تابوا إلىّ فأنا حبيبهم، لأنه يُحِي التوّابين، إن تابوا إلىّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأُطهِّرهم من الذنوب والمعائب، وهذا معنىً من معاني اسم الله التوّاب، كيف يكون توّاباً؟ يحملك على التوبة على الرُغم منك، يبتليك، وأنت ترى أحياناً أنه يُعاقِبك، نعم هو يُعاقِبك على ذنوب سلفت، وبالعقاب نفسه يرحمك، يُريد أن يُؤيك إلى جانبه، يُريد أن يُدخِلك في رحابه، يُريد أن يُحضِرك في حضرته يا مسكين، يا مُنقطِع، يا شارد، يا آبق، وأنت لا تدري، فإن فهمت الإشارة عُدت إلى الله مُباشَرةً، علمت أن هذا عربون حُب، أن هذا شاهد مودة، أن هذا بريد وصل، فعُدت إلى الله، وأعلنت بالتوبة، وسفحت الدمع، دمع الندامة، فقبلك الله – تبارك وتعالى -، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ۩، هكذا! وإن لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأُطهِّرهم من الذنوب والمعائب، حتى تعودوا إلىّ، هكذا هو توّاب، لا إله إلا هو.

أيها الإخوة:

كما قلت في صدر الخُطبة لا تدرون، لعل هذه الساعة آخر ساعة، فاجعلوها ساعة توبة صادقة، توبة نصوح، لعل هذه الليلة أو هذا اليوم آخر يوم وآخر ليلة، فاجعلوه يوم توبة واجعلوها ليلة توبة.

روى الإمام الترمذي في جامعه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مُستدرَكه، عن عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال حديث سمعته من رسول الله، لولا أني سمعته مرةً أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً، حتى عد سبع مرات، وعند ابن حبان عشرين مرة، لماذا كان النبي حريصاً على أن يُعيد هذا الحديث؟ النبي ساقه في أكثر من عشرين مجلساً، ونحن الآن نقول انتهى، لقد مللنا المواعظ، كلا! ينبغي أن نُبدئ ونُعيد دائماً في حديث التوبة والأوبة والرجوع والتذكير، لابد! هكذا كان هدي مولانا وحبيبنا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ليلين قلب قاس، ويؤوب شارد، عند ابن حبان أكثر من عشرين مرة، ماذا قال النبي؟ قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان الكفل من بني إسرائيل، ليس ذا الكفل، إنما الكفل، هكذا! أحد العُصاة وأحد المُجرِمين، قال كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورَّع من ذنب عمله، يفعل أي ذنب دون أن يتحرَّك فيه شيئ، القلب شبه ميت – والعياذ بالله -، لكن فيه بقية خير، قال كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورَّع من ذنب عمله، فأتته امرأة يوماً، فأعطاها ستين ديناراً، على أن تُمكِّنه من نفسها – والعياذ بالله -، امرأة مُحتاجة مُعوزة فقيرة، قال لا، إلا بهذا الشرط، فوافقت المسكينة، وهي امرأة شريفة عفيفة، ألجأها الزمان، وعضها الفقر بنابه، فوافقت، فلما قعد منها مقعد الرجل – والعياذ بالله – من المرأة أُرعِبت وبكت، فقال لها لماذا تبكين؟ أكرهتك؟ قالت كلا، ولكن هذا شيئ لم أفعله من قبل قط، قال ولِمَ تفعلينه إذن إذا كنت لم تفعليه من قبل قط؟ قالت الحاجة، قال الله أكبر، أنت لم تفعليه وتخافين وتبكين؟! فلأنا أحق منك بالخوف والبكاء، قومي ولك الستون الدينار لوجه الله، ثم قال والله لا يعصي الله الكفل أبداً، وأقسم! توبة نصوحة، انفتح باب القلب على مصراعيه، قال والله لا يعصي الله الكفل أبداً.

انظروا، هذا يُمكِن أن يتكرَّر كل يوم، لكن النهاية هي العجيبة، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فمات من ليلته، لقد كانت آخر ليلة له، هذه هي العبرة، آخر ليلة! يا ويله ويا ويحه لو لم يكن تاب، وهنيئاً له ويا سُعدى له ويا طيب عيشه، لأن الله يسَّر له التوبة في آخر أنفاسه، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على باب داره لقد غفر الله للكفل، اللهم اغفر لنا بتوبة صالحة يا رب العالمين، وتقبَّلها منا خير قبول، لقد غفر الله للكفل.

أيها الإخوة:

إن الله – تبارك وتعالى – لا يتعاظمه ذنب وإن جل وإن عظم وإن كبر أن يغفره، لكن الهلكة كل الهلكة في الإصرار والقنوط من رحمة الله، فـــ  لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۩، عودوا إليه بالتوبة، لعله يتقبَّلكم، فقد أوحى إلى داود نبيه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أن يا داود بشِّر المُذنِبين، وأنذِر الصدّيقين، قال يا رب وكيف أُبشِّر المُذنِبين؟! المُذنِب هو الذي يُبشَّر أم الصدّيق؟ كيف أُبشِّر المُذنِبين؟! وكيف أُنذِر الصدّيقين؟! قال بشِّر المُذنِبين أني لا يتعاظمني ذنب أن أغفره، الله يقول أنا مُستعِد أن أغفر كل الذنوب، حتى الشرك! لو كان مُشرِكاً مُلحِداً وتاب يتوب الله عليه، ولكنه لا يغفر الشرك لعبده إذا لقيه به يوم القيامة، أي إذا مات مُشرِكاً، فهذا لن يُغفَر له، لكن في الدنيا لو أشرك وعاد فإن الله يغفر ويسمح – لا إله إلا هو -.

 قال بشِّر المُذنِبين أني لا يتعاظمني ذنب أن أغفره، وأنذِر الصدّيقين ألا يُعجَبوا بأعمالهم، هكذا يهلك الطائعون بالعُجب، بالعُجب بالعمل، ألا يُعجَبوا بأعمالهم، فإني إذا وضعت عليهم عدلي وحسابي أهلكتهم ولا أُبالي، لا يُوجَد عُجب، تُوجَد دائماً الذلة، يجب أن يكون شأن العبد دائماً الذلة والتطامن والصغار بين يدي مولاه – لا إله إلا هو -.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُصلِحنا له بما أصلح به الصالحين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

استغفروا ربكم، فيا فوز المُستغفِرين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

يقول ولي الله أبو سُليمان الداراني – قدَّس الله سره الكريم – لو لم يكن من العبد فيما بقيَ من عمره إلا أنه قضاه ندماً وحسرةً وبكاءً على ما فاته من الطاعات فيما ذهب من عمره لكان حرياً به ذلك، لو الآن تُبت وحسنت حالك واستقامت سيرتك ثم قضيت ما بقيَ من عمرك ندماً وحسرةً وبكاءً على ما فاتك من الطاعات فيما انقضى من عمرك لكنت حرياً بذلك، أن تظل تبكي حتى تموت، لأنك ضيَّعت شطر عمرك في المعاصي في اللهو، في اللعب، وفي الهزؤ، تهزأ بنفسك وأنت لا تدري.

رجل كان اسمه دينار العيّار، وكان أيضاً أحد الفتّاكين وأحد المُسرِفين، له أم، وكان وحيد أمه، تعظه ولا يتعظ، تنهاه ولا ينتهي ولا يرعوي، إلى أن نظر الله إليه يوماً بعين الرحمة، اللهم  فارحمنا برحمتك الواسعة، التي وسعت كل شيئ، يا أرحم الراحمين، كان دينار ماراً بمقبرة فيها عظام بالية كثيرة، فأخذ عظماً من العظام فانفت في يده، فقال ويحك يا دينار، لحظة تجل إلهي، فتح الله عليه – على هذا الفتّاك المُجرِم – في لحظة، فقال ويحك يا دينار، كأني بك وقد أصبحت عظماً بالياً والجسم رفاتاً، وأنت الآن تُقدِم على معصية الله، لا إله إلا الله!

عاد إلى أمه باكياً، محزوناً، كسير الفؤاد، جاري العبرة، وقال أي أماه، ماذا يفعل السيد بعبده الآبق الهارب – لقد كنت هارباً من سيدي ومولاي، هذا المعنى – إذا عاد إليه؟ قالت يُخشِّن طعامه وملبسه ويضع الغُلة في يده ورجليه، قال وهكذا فافعلي بي، أُريد جُبة صوف خشنة، وأقراصاً من شعير، لن آكل إلا الشعير بعد اليوم، قال وأقراصاً من شعير، وضعي الغُلة في يدي ورجلي، قالت يا بُني… قال هكذا أُريد، أنا عبد آبق، عاد إلى مولاه، وهذه علامة العود، ففعلت به، فكان المسكين – عليه الرضوان والرحمات – إذا جنه الليل يظل يبكي إلى أن ينفجر الفجر، ويقول يا دينار كيف تعرَّضت لغضب الجبّار؟! فما أصبرك على النار؟! ويبكي، فتقول له أمه يا بُني ارحم نفسك، فيقول لها إليك عني يا أمي، فإن لي غداً بين يدي مولاي الجليل موقفاً، لا أدري إلى أين يُؤمَر بي فيه، إلى ظل ظليل أو إلى شر مقيل، فتقول له فاسترح قليلاً، فيقول الراحة أطلب.

سأُتعِب نفسي كي أصادف راحةً                       فإن هوان النفس أكرم للنفس.

وأزهد في الدنيا فإن مقيمها                          كظاعنها ما أشبه اليوم بالأمس.

يقول لها إنما أطلب الراحة، الراحة أطلب، أنا بهذا التعب والنصب أطلب الراحة، إلى أن مر – تقول أمه – ذات ليلة بقوله – تبارك وتعالى – فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ۩ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، فظل يُردِّدها حتى صرخ، صرخ ويبدو أنه فقد وعيه، جاءت أمه تُولوِل، نادت عليه فلم يُجِب، فقالت له يا حبيبي وقُرة عيني أين المُلتقى؟ فأجابها بصوت خفيت واهن إن لم تجديني في عرسة القيام فسلي عني مالكاً خازن النار، ثم فاضت روحه – رضيَ الله عنه -، فبكته أمه، وخرجت تصيح في الناس: أيها الناس تعالوا، صلوا على قتيل النار، صلوا على قتيل النار، يقول الراوي فما رُؤيَ يومٌ أجمع حشداً وأكثر ناساً وأغزر دمعاً من ذلك اليوم.

اللهم إنا نسألك أن تتوب علينا توبةً نصوحاً يا رب العالمين، اللهم تُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم، اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين، ويا خير الغافرين، يا رب العالمين، لا إله إلا أنت سُبحانك إنا كنا من الظالمين.

اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، اللهم خِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، واجعل غنانا في أنفسنا، وأمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا.

اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، اللهم انصر الإسلام وأعِز المُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم إنا نسألك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، اللهم ونسألك أن تقينا عذاب النار، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل يا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(15/11/2002)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: