إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه سُبحانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ۩ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ۩ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

آية التكريم والتفضيل هذه ستكون مُرشِدنا في هذه الخُطبة إن شاء الله تعالى، وسأبدأ بسؤال، لو سألنا أي إنسان أو كل إنسان عن الدين – ما هو الدين؟ – فسيُبادِر إلى الجواب بأنه دينه، سينطلق من فهمه لدينه، الدين هو دينه، هذا هو الدين، لو سألت المُسلِم عن الدين سيُعطيك صورةً مُباشَرةً عن الدين كما يفهم هو الإسلام، وكذا اليهودي والمسيحي والهندوسي والبوذي والزني، إلى آخره، إلى آخره!

وهذه بلا شك علامة على طفولية عقلية، فالصبي الصغير لو سألته عن الأب فالأب أبوه، ولو سألته عن الأم فالأم أمه، طفولية‍! لم يصل بعد إلى درجة أو مقام التجريد، الذي يُمكِّنه أن يُجرِّد من آحاد ومصاديق المعنى أو الاسم أو المُصطلَح معنىً عاماً مُجرَّداً شاملاً.

هذه طفولية، لكن المُشكِلة تكمن في أن كل أهل دين أو كل مُتدين بلا شك ولأنه مُتدين مُقتنِع بالتمام والكمال – مُقتنِع بشكل مُطلَق – بصحة ما هو مُتدين به، بصحة دينه! قال – تبارك وتعالى – كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، حتى المُشرِكون يعتقدون أن دينهم صحيح، وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ۩، لأنه يُنافِح عن دينه ويُدافِع عن دينه، دين الشرك والوثنية ضد الدين الباطل، أي الإسلام والوحدانية، يراه باطلاً، يراه خُرافات وتهاويم!

هنا تكمن دراما الإنسان، دراما اختلاف البشر حول هذه النُقطة، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ۩، الكل راضٍ بما هو عليه ومُقتنِع، إذن ما الحل؟ فعلاً هذه مأساة وإشكالية تُوشِك أن تكون مُغلَقة، أليس لها حل؟ لابد أن يكون هناك حل ما، الحل يكمن في كشط القشور والسطوح التي تعمل دائماً على تزويدنا بإمكانات مُتجدِّدة للاختزال والابتسار والتسويغية والتبريرية لمفاهيمنا، لمُعتقَداتنا، لمسالكنا، لمُنطلَقاتنا، ولقيمنا التي تستمد تبريرها من الروحاني، الحل هو لابد أن نكشط كل هذه السطوح، وأن نلج وأن نغوص إلى الأعماق، أن نبحث عن الجوهر وعن الروح، ما هو روح الدين؟ ما هو جوهر الدين؟

إذا وصلنا إلى جواب مُقنِع على الأقل ولو لخُطوات عن هذا السؤال الكبير والإشكالي – لكنه لن يكون مُغلَقاً إن شاء الله تعالى – يُمكِن بعد ذلك أن نصل إلى حل لهذه الإشكالية الأعظم أو الإشكالية الأكبر، التي يُمثِّلها ويُترجِم عنها هذا السؤال، إذن هذا هو! وإذا أخفقنا في الجواب عن هذا السؤال فسنقع في وهدة أو هُوة سجالات تنتهي الدنيا ولا تنتهي، لماذا؟ لأن كل أهل دين سيُهرَعون إلى تبرير دينهم وتسويغه بالجانب السطوحي القشوري، أي سيغدو الدين في النهاية مُجرَّد شعائر وعبادات وطقوس، لماذا هذه الطقوس دون هذه الطقوس؟ طبعاً الطقوس بالذات لديها قدرة غير مُتناهية على أن تُفسَّر رمزياً، كل أهل دين عندهم القدرة أن يُفسِّروا طقوس دينهم رمزياً، بطريقة تسويغية، وبالنسبة إليهم مُقنِعة تماماً، ولن يكون تسويغك أنت أكثر معقوليةً أو مقبوليةً من تسويغهم هم، فهذه المُشكِلة! أما الجوهر والروح فهو الذي يجعل العقل يجثو على ركبتيه، الذي يجعل الإنسان كإنسان حتى وإن لم يكن يدين برؤية كونية روحانية أو دينية، قد يكون عِلمانياً أو عَلمانياً وقد يكون عِلموياً وقد يكون مُلحِداً وقد يكون شكّاكاً وقد يكون لا أدرياً، لكنه سيُضطَر أن يُسلِّم بالخُطوات الأولى، إذن ما هو جوهر الدين؟ هذا هو السؤال!

طبعاً مثل هذا السؤال أنا مُتأكِّد أن المُتدين العادي لا يخطر منه على بال، لا أتحدَّث عن فيلسوف دين ولا دارس للأديان المُقارَنة ولا إنسان مُفكِّر عميق ولا صاحب تجربة صوفية أو روحية مُعمَّقة وغزيرة وخصبة، لا! أتحدَّث عن المُتدين العادي، مثل هذه الأسئلة لا تخطر منه على بال، ولا تعنيه، كل ما يعنيه أنه مُتدين بالدين الحق، لكن يوم يبدأ يسأل هذه الأسئلة سيقع نهباً لتشوش فكري، لفوضى داخلية، ولقلق روحي، سيغتاله الشك فعلاً، كيف أُبرهِن أن ديني خيرٌ من غيره؟ لماذا هو خيرٌ؟ لماذا لا يكون غيري بقناعته أيضاً وصدقه مع نفسه وبتدينه وتعمقه في دينه هو على حق أيضاً وقد أكون أنا على باطل؟ القرآن عرض أيضاً لهذه المُراوَحة بقوله – تبارك وتعالى – وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ۩، المسألة أكثر إعضالاً وأكثر حراجةً مما نظن.

المداخل أو المُقارَبات التي يُمكِن أن نصطنعها للجواب عن هذا السؤال الإشكالي كثيرة جداً، كثيرة جداً للجواب عن سؤال أين يكمن جوهر الدين؟ أين يستكن روح الدين؟ مُقارَبات كثيرة جداً، لكن سنختار منها مُقارَبة، نحن نرى أن لها أولوية، لاعتبارات لا نُريد أن نُفصِّل بذكرها الآن، وهي أن الدين – وكما يزعم كل دين – شأنه كالتالي، وبالمُناسَبة بحسب التصور القرآني كل تصور للوجود يشمل ويفي بالجواب عن المسائل الرئيسة وهي منشأ الوجود أو منشأ الكون أو منشأ العالم، منشأ الإنسان،الهدفية، العلة، والمغزى – هذا إن وُجِد، لأن بعض الأديان لا تعترف بهذا وهي أديان آسيوية وأشبه بالأديان الشركية الوثنية، لكن الأديان الإبراهيمية مثلاً الثلاثة تعترف بهذا، بالمغزى، بالهدف، بالعلة، بالقصدية، وبالهدفية، أي رسالة الإنسان أو ما عبَّرت عنه لوحة الفنان العالمي الشهير بول جوجان Paul Gauguin، لوحة مَن نحن؟ وإلى أين نسير؟ ومن أين أتينا؟ هذه الأسئلة طبعاً لم يطرحها جوجان Gauguin، طرحها الفكر الإنسان مُذ كان الإنسان، هي ألم وقلق وهم الإنسان الأكبر، مَن أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ لكن نحن وسَّعنا هذا النطاق، وتحدَّثنا عن منشأ الوجود نفسه ومنشأ الإنسان، منشأ الوجود الآن تُعنى به علوم الفيزياء الكونية أو الكوزمولوجيا Cosmology بشكل عام، لكن هذا لا يكفي، منشأ الإنسان يُعنى به علم الأحياء التطوري مثلاً، وأيضاً هذا لا يكفي، لكن غاية الإنسان، هدف الإنسان، مغزى الوجود، وهدف الوجود العلم ينفض يديه بل للأسف يتبجح في خُطوة غير صحيحة منهجياً ليدّعي أن هذا السؤال لا مُسوِّغ له وسؤال بلا معنى وسخيف، لأن الوجود لا هدف له، وهذه هي العِلموية، ربما نتطرَّق إلى إيضاحها في تضاعيف الخُطبة – هو دين.

على كل حال كل دين يفي بجواب – أياً كان هذا الجواب وكيف كان – عن هذه الأسئلة هو دين، حتى  لو كان في نهاية المطاف ينتهي بنا إلى رؤية كونية أو تصور للوجود، ما يُسمى بالــ Big picture، أي بالصورة الكبيرة، أو الــ World view، أو الــ Weltanschauung، أو الرؤية الكونية، كل هذه مُصطلَحات لمُسمى واحد في لُغات مُختلِفة، مُصطلَحات لمُسمى واحد! كل دين يفي بهذا هو دين بحسب القرآن الكريم، لذلك الله – عز وجل – يقول على لسان نبيه ومُصطفاه مُخاطِباً الوثنيين لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، هل هذا دين؟ هل هذه الوثنية والشرك دين؟ نعم دين، لأنها تفي بالجواب بطريقة ما وعلى نحو عن هذه الأسئلة وأمثالها، فهي دين.

إذن كل تصور كوني هو دين، هل يخلو الإنسان من دين؟ لا، يبدو أن من المُستحيل أن يخلو الإنسان من دين، بمعنى أنه إذا صح أن نُعادِل بين الدين وبين التصور الوجودي – بين الرؤية الكونية، بين صورة العالم، وبين الصورة الكبيرة كما يُقال – فلن يُمكِن إذن أن يخلو الإنسان من دين، حتى وإن كان لا أدرياً أو شكّاكاً أو مُلحِداً، لأنه وفق علماء النفس الإنسان لا يستطيع أن يرى شيئاً إلا ضمن خلفيته، هذه الخلفية هي التصور الوجودي للعالم، لا تستطيع أن تتعاطى مع أي شيئ – لا مع نفسك، لا مع المُجتمَع، لا مع الوجود، ولا مع الأفكار – لكن تزعم إلا طبعاً وفق رؤية كونية ما، كيف كانت وأياً كانت! لكن للأسف ما بعد الحداثة – Postmodernism – وما بعد الحداثيين بشكل عام يزعمون أن الإنسان يُمكِن أن يسير بلا رؤية كونية، وهذا غير صحيح، هم أنفسهم لهم رؤية كونية على نحو ما، هم أنفسهم لهم رؤية كونية على نحو ما تتأدى بهم إلى العدمية على حد ما قالت حنة آرندت Hannah Arendt، قالت لا يستطيع الإنسان الحسي أن يسير مُتجاهِلاً ما فوق الحس دون أن يُفضي به هذا إلى العدمية، مُستحيل! وقد قال عالم النفس الأمريكي التجريبي ويليام شيلدون William Sheldon – مشهور جداً في علم النفس التجريبي – إن تجاربي الطويلة على مدى عشرات السنين ومُلاحَظاتي العلمية قد انتهت بي إلى هذه الحقيقة، وهي إن في الإنسان توقاً – أي شوقاً ونزوعاً وميلاً – هو أكبر بكثير من غرائزه الجنسية ومن توقه إلى التملك ومن توقه إلى تحقيق السُلطة المُجتمَعية أو الاجتماعية، أي المكانة والمثابة والاعتبار والحيثية، كما يقولون الحيثية الاجتماعية، ما هو؟ قال إن فيه توقاً إلى معرفة الاتجاه الصحيح، إلى أين؟ هذا عالم نفس! عشرات السنين يقرأ هذا الإنسان.

ألفرد أدلر Alfred Adler مُؤسِّس علم النفس الفردي، وهو نمساوي طبعاً، يهودي نمساوي، تَلميذ سيغموند فرويد Sigmund Freud، واختلف معه اختلافاً كبيراً جداً، أدلر Adler يقول في كتابه عن البحث عن الإنسان عبر تجاربي وتطبيبي لمرضاي – المُختلِفين طبعاً، ذكور وإناث وكبار وصغار ومن جنسيات وأعراق مُختلِفة – تبيَّنت أنه لا تُوجَد حالة واحدة من المرض أو الاضطراب النفسي دون أن يكون وراءها – أي سبب عظيم جداً ورئيس من أسبابها – افتقار الإنسان إلى رؤية كونية مُنسجِمة ومُعتدِلة، هذه هي! أي تصوره للوجود وتصوره لنفسه ولحقيقته.

طبعاً بعض الناس يقول هذا الأمر محلول، لكنه ليس محلولاً، هذه دراما الإنسان، هذه مُشكِلة الإنسان التي لا تزال فاعلة إلى اليوم، وتقف خلف النزاعات وخلف الاختلافات، بل خلف الحروب والصراعات بجميع مُستوياتها، إن سؤالاً يسيراً وقد يبدو بريئاً من قبيل ما أنا؟ مُرشَّح لإفراز طيف عريض ووسيع من الجوابات أو الأجوبة من قبيل أنا عربي، أنا بربري، أنا أوروبي، أنا أوروبي نمساوي، أنا أمريكي – شمالي أو جنوبي -، أنا مكسيكي، أنا نرويجي، أنا من البيرو، أنا من تشيلي، أنا ذكر، أنا أُنثى، أنا مُسلِم، أنا يهودي، أنا مسيحي، أنا بوذي، أنا شيعي، أنا سُني، أنا طويل، أنا قصير، أنا أحمر، أنا أصفر، أنا أسود، أنا أسمر، أنا أبيض، أنا… أنا… أنا… أنا… كل هذا الطيف الوسيع هو جواب، يُمكِن أن يُشكِّل جوابات أو أجوبة عن هذا السؤال البريء القصير، ولكن هذه الأجوبة حال اكتفينا بها ووقفنا عندها مُرشَّحة بدورها أن تُفجِّر صراعات ونزاعات مُستمِرة بين أبناء البلد الواحد والدين الواحد، بل بين أبناء الكرة الأرضية الواحدة، في الــ Mother Earth، أي أمنا الأرض كما يُقال، نفس هذه الجوابات.

وقد يقول بعضكم هذه هي الجوابات المُمكِنة والصالحة للترشح، لكن هناك جواب تجريدي وأعلى منها، وهذا يُذكِّرنا بخُطبة أُسبوع مُنصرِم عن المحدودية، هذه هي المحدودية، مُشكِلة الإنسان ومُشكِلة النوع البشري الإنساني، هناك جواب بالنسبة إلينا هو جواب قرآني، أنا في نهاية المطاف وأولاً وأخيراً عبد الله وخليفته في أرضه، عبد الله! وهذا أخي في الإنسانية، النبي كان يُناجي ربه في الليل، يقول اللهم إني أشهد أن العباد كلهم إخوة، يشهد ويتعبَّد إلى الله بتقرير وترسيخ هذه المعاني وهذه المفاهيم، إذن أنا عبد الله وخليفته في أرضه، وهذه صيغة بسيطة جداً، أحالها بطريقة مسجوعة لكنها عبقرية الإمام محمد عبده إلى مقولة الإنسان عبدٌ لله وحده، سيدٌ لكل شيئٍ بعده، خطيرة! صيغة خطيرة جداً جداً، يُمكِن لو تم تدعيمها وليس إلقاءها بهذه الطريقة المنبرية – كلام نطرب له لأننا عرب بالذات، نطرب للشعر، وأبناء عمومة الشعر، السجع والجناس وأمثال هذه الأشياء، عبدٌ لله وحده، سيدٌ لكل شيئٍ بعده، جميل جداً ومقبول هذا، لأنه شعر -أن تحل مُعضِلات بشرية، يُمكِن إذا تم تدعيم هذه المقولة كمفاهيم، كمُدرَكات، وكإتجاهات – ليس كمقولة وإنما كاتجاهات حقيقية، اتجاهات حقيقية في الطريق وفي المسيرة – أن تحل مُعضِلات بشرية، لم تجد لها حلاً عبر عصور، هل المُسلِمون نجحوا دائماً في خلق اتجاه عالمي كوني يستند على هذه الفلسفة القرآنية؟ لا، لم ينجحوا دائماً، هم اليوم يُعانون أكثر من غيرهم، من قصور علمائهم ومشايخهم ومُفكِّريهم ودُعاتهم وعماتهم وخاصتهم عن فهم روح الدين من خلال أمثال هذه المُقارَبات، أكثر أمة تُعاني للأسف الشديد! لأننا قشوريون، لأننا سطحيون، ونرضى بأن نكون سطحيين، ونحن بذلك مُغتنون وراضون، لا علينا! راضون للأسف، لكننا ندفع الثمن، بل ندفع الأثمان المُبهِظة الباهظة الثقيلة، إذن هكذا!

فنعود، المُقارَبة التي أريد أن أصطنعها تستند على الآية المُرشِدة، التي تُرشِدنا في مسيرة خُطبتنا هذه، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ۩، قال إذن وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ۩، هذه المُقارَبة تعتمد على أننا إذا أردنا أن نتلمَّس ونتحسَّس جوهر شيئ وحقيقة شيئ فلابد أن نبحث عن رسالته، الدين! كما قلنا الدين هو كل تصور وجودي، الدين! كل رؤية كونية هي دين، حتى وإن كانت ثانوية أو وثنية أو إلحادية، بالتالي هي دين، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، وإن كان صحيحاً أن الدين المرضي عند الله هو الإسلام، أي الاستسلام لله بالمُطلَق، الخضوع لله تبارك وتعالى، طبعاً ليس للفقهاء، ليس لنا، ليس للمشايخ، ليس للذين يختطفون كلمات الله ويُفسِّرونها بعدساتهم الضيقة والمُهترئة، المُحدَّبة مرة والمُقعَّرة مرة، وقل أن تكون مُستوية، وحين تكون مُستوية قل أن تكون شفّافة مُتألِّقة تعكس المعنى بوضوح ودقة، قل! وإنما الخضوع لله، ولن تخضع لله ولن تُفلِت من قبضة الفقهاء المُشوِّهين والمُتمشيخين المُحرِّفين لكلام الله – في كل دين طبعاً، هذه مأساة كل الأديان، السماوية وغير السماوية – إلا بالوصول إلى جوهر الدين، في إنجيل لوقا Luke – مثلاً – المسيح – عليه السلام – يقول هؤلاء الذين أوصدوا الأبواب ومنعوا الكل من الدخول، طبعاً! اختطفوا الكتاب إذن، اختطفوا النص الإلهي، وهؤلاء بلُغة علماء الإسلام قطّاع الطريق إلى الله تبارك وتعالى، القرآن يقول إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۩، وكثير من علماء الأمة يمشون أيضاً في سبيل وطريق الأحبار والرهبان، نفس الشيئ! لسنا معصومين، لسنا خيراً حالاً من حيث المبدأ للأسف الشديد، لكن لن تستطيع أن تُفلِت من قبضتهم وأن تنجو من أشراكهم وفخاخهم إلا بالوصول إلى جوهر الدين، بفهم حقيقة الدين! حينئذ ستغدو أعمق منهم في فهم دينهم ودينك، ستغدو مُعلِّماً لهم لو تواضعوا وتخفَّفوا من حشو غرورهم، لأن بعضهم محشو غروراً وكبراً وعنجهية لا مُبرِّر حقيقاً لها، لو تواضعوا سيتعلَّمون منك، أنت البسيط المُتواضِع، لكن العميق في فهم رسالة الدين!

إذن علينا أن نُحدِّد الهدف، لماذا؟ الغاية! كما نقول دائماً – ولعل هذا من مُختَصاتي – الدين من السماء لكنه ليس للسماء، انتبهوا! الدين من السماء لكنه ليس للسماء، الطقوس تُصِر على أن تجعله للسماء، لأنها طقوس! الطقوس باختصار إذا وقفنا عندها فهذا يعني أننا عُنينا بالقفص وتركنا الطائر يطير ويفلت منا، راح الطائر! نهتم بالقفص ونُشغَف بالقفص، هذا يعني أننا نعكف على المحار وعلى الأصداف، أما اللؤلؤ فنُلقي به، اللؤلؤ المُستخرَج من الأعماق! ولا يُستخرَج من السطوح أيضاً، اللؤلؤ لا يُستخرَج إلا من الأعماق بالغوص، كل معنى عميق لا يُستخرَج إلا بالغوص، لا يأخذه المُترَفون التاعبون اللاغبون الساهون المُرتاحون المُستهتِرون والمُستخِفون بالأشياء، لا يُمكِن! وإنما أصحاب المُعاناة العقلية والعاطفية والروحية الصادقة، وهذا يحتاج إلى أزمان، يحتاج إلى أوقات، ويحتاج إلى مُقارَنات.

يُمكِن لكم أن تُؤكِّدوا معي وأنتم واثقون أن القراءة – أن تقرأ وتقرأ وتقرأ وتتعرَّف على كل ما يُمكِن أن تتعرَّف عليه في عُمرك القصير – سبيل مُرشِدة وسبيل هادية في نهاية الطريق، مائة في المائة! دائماً دأبنا على أن نُكرِّر أن أول كلمة في آخر كتاب وآخر رسالة اقْرَأْ ۩، غافلين عن أن اسم هذا الكتاب ذاته القرآن، ليس فقط أول كلمة فيه هي اقرأ، وإنما اسمه هو ذاته القرآن، في إشارة أكثر من عبقرية وأكثر من مُوحية إلى قدسية فعل القراءة، اسمه القرآن فقط! وأول كلمة فيه اقْرَأْ ۩، اقْرَأْ… ۩، أقرأ ماذا؟ لم يقل، مُستعيناً بالله ومُستهدياً بالله، لكن اقْرَأْ ۩، اقْرَأْ ۩ كل شيئ، كل شيئ! وحينئذ يستطيع هذا القارئ المُتعمِّق، هذا القارئ المُقارِن، وهذا القارئ المُتفتِّح، الضارب في صحارى، وفي مباهج أيضاً حدائق المعرفة أن يدّعي أن لديه ما يقوله، لديه امتياز أن يقول، لديه حق وعليكم أن تستمعوا، لماذا؟ لأنه فتح أبواباً لم تفتحوها، وقلَّب أحجاراً لم تفعلوا وتُقلِّبوها، إذن لديه هذا الامتياز، اقْرَأْ ۩ والقرآن!

فنعود مرة أُخرى، إذن الدين من السماء لكنه ليس للسماء، وكل دين على ما يبدو يزعم أنه جاء للإنسان، لهداية الإنسان، لإرشاد الإنسان، لإسعاد الإنسان، ولراحة الإنسان، أليس كذلك؟ لاستنقاذ الإنسان من غول الطبيعة، من غول الغريزة، من غول الثقافة أحياناً، ومن غول نفسه ومن شر نفسه، كل دين يقول هذا! إذن في نظري هذه هي المُقارَبة الصحيحة، ينبغي أن نبحث وينبغي أن نتساءل وبمقدار ما نجد الدين – أي دين – يفي بإبراز وبلورة مُقارَبات أكثر كونيةً وأكثر عالميةً تتمحوَّر حول الإنسان وقُدسية الإنسان وكرامة الإنسان وإسعاد الإنسان وأُخوة الإنسان – أي وحدة الإنسان، وحدة الإنسانية، بارئة من كل اللوثات والنزعات العرقية والعُنصرية الضيقة، أيضاً من كل النزعات الامتيازية والحصرية، نحن فقط وليس أحد غيرنا! هذه حصرية لا يُمكِن أن ينضح بها ويرشح بها دين إلهي حقيقي جاء من رب الكل ورب العالمين، بالعكس! لابد أن يفي هذا الدين ببلورة أكبر قدر مُمكِن من هذه المفاهيم الكونية والعالمية، والتي تعمل أيضاً في نفس الوقت وذاته على عدم تعويق مسيرة ترقي الإنسان العلمية، بالعكس! على دعمها وعلى تثميرها وتكثيرها، وفي نفس الوقت على إرشادها إذا مست الحاجة – يكون أكثر مقبولية، الدين الذي يفي بهذا الغرض – هذه مُقارَبة – سيكون ديناً مقبولاً أكثر من غيره، سيكون دين الإنسان! لماذا؟ لأنه من رب الإنسان.

لكن هذه المُقارَبة سنُفصِّل بعض الأجزاء منها، ولا يُمكِن لخُطبة مهما طالت أن تُفصِّلها كلها، لأنها تتحدَّث كما رأيتم عن جوهر الدين، أي دين! لا نُريد أن نتعجَّل لكي نُسجِّل أو نستخلص أن الإسلام هو أكثر من فعل ذلك، هذا يحتاج إلى نقاش، يحتاج إلى مُقارَنات، يحتاج إلى اقتباسات واستدعاءات ومُساجَلات كثيرة ومُقارَنات، فلا نُريد أن نستعجل لكي نكون فعلاً علميين، لكن ما أود أن أذكره في هذا المقام أن البشر بشكل عام في عصورهم الماضية كانوا يعتمدون على الدين – ولنقل هكذا بالمُطلَق أيضاً – في تحصيل الجواب عن المسائل الرئيسة المُنوَّه بها، وفي العصر الحديث اختلف الوضع تقريباً لأول مرة، لأول مرة! أول الآثار الإنسانية التي عثر عليها العلماء المُختَصون كانت تُسجِّل أيضاً فواعل ومناشط الإنسان الدينية، قبل أي شيئ! لم تتحدَّث لا عن الجنس، لا عن الطعام، لا عن المأوى، لا عن التكنولوجيا القديمة، ولا عن النار والعجلات أبداً، تحدَّثت عن شغف الإنسان الروحاني، عن صلة السماء بالأرض!

يروق لي أن كلمة Religion في هذه اللُغات الأوروبية مُشتَقة من كلمة لاتينية وهي Religio التي تعني الربط وإعادة الوصل، يروق لي هذا جداً، لأن حقيقة الدين فعلاً هي ربط السماء بالأرض وإعادة الصلة كلما انقطعت، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ۩، وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ ۩، توصيل! ولذلك وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ۩، كلما غبر ودرس عهد نبي بعث الله نبياً آخر، الربط وإعادة الوصل! لا نقول هذه عبقرية اللُغة، بالعكس! هذه وصفية اللُغة، اللُغة سجَّلت الحقيقة كما كانت، أي كما هي، Religio! الربط وإعادة الوصل، هذا هو الدين.

ما أُحِب أن أقوله لأول مرة في تاريخ البشر وفي تاريخ البشرية جاء العلم ليدّعي أنه بدوره يمتلك رؤيةً كونيةً، أي Scientific world view، هكذا يُسمونها! هذا تصور كوني علمي أو رؤية كونية علمية، فهل من شأن العلم أن يفعل ذلك؟ في الحقيقة لا، العلم نفسه حين يتواضع يقول هذا ليس عُشي وينبغي أن أدرج منه، هذه ليست ساحتي، لكن يبدو أن هذا ما حدَّثنا عنه الفيلسوف باروخ سبينوزا Baruch Spinoza حين قال – لكن هو قصرها على دائرة الأفراد – أن كل فرد أيضاً فيه نزوع إلى التوسع، إلى الشمولية، إلى الطُغيان، إلى تعدي حدوده، وما لم يُوقَف بإزائه وبوجهه ويُقال له لا، هذا ليس حشيشك وإنما حشيشي أنا، هذا ليس حدك وإنما حدي أنا، هذا ليس ملكي فتراجع، فإنه لن يتراجع، كلام سبينوزا Spinoza هذا ينطبق على الدول وعلى الإمبراطوريات، هل سمعتم بقوة في العالم يصلح أن تكون إمبراطورية ولم تفعل؟ كلهم فعلوها، حتى المُسلِمون، كلهم! ليس هناك قوى عُظمى مُتقشِّفة، هل سمعتم بقوى عُظمى زاهدة؟ غير صحيح، كل القوى العُظمى طاغية أو مُتوسِّعة الآن، حتى لا نُعمِّم، هذه طبيعة الأشياء، لأن الطبيعة لا تعرف الفراغ، أليس كذلك؟ الدول الضعيفة والقوى المُتزهِّدة الضعيفة تركت فراغاً، لابد أن تملأه القوى العفية الفتية القوية والمُؤهَّلة أن تكون إمبراطورية، أي خارج حدودها، هذا معنى إمبراطورية، قوى خارج حدودها تمتد، هكذا! وهكذا أيضاً هي المناهج للأسف والأفكار والطروحات والأيديولوجيات أيضاً، ليس فقط الأفراد، ليست القوى، وإنما أيضاً المناهج والأفكار، فالعلم لم يعرف حدوده ولم يتواضع بالتزامها، لأنه لم يكن يوماً هكذا، للأسف لم يُثبِت أنه يوماً كان هكذا، يبدو أنه مُنذ البداية – أي هذا العلم المُعاصِر – كان على هذا النحو، وطبعاً لا أُحِب أن أفهم على أنني أنظم أهجوةً في العلم، بالعكس! أنا من الذين يُقدِّرون العلم حق قدره، وأنا أرى أن تخلف المُسلِمين وتخلف أي مُتخلِّف في الحقل العلمي هو سبب رئيس في تخلفه وانحطاطه، لا يُمكِن أن تضمن مُستقبَلاً تُثبِت فيه حيثيتك ومثابتك وتُحسِّن فيه من أوضاعك لكن لاعتبارات ولجهات مُعيَّنة دون أن تتفوَّق علمياً، بالعكس! العلم مكانته معروفة، والعلم لا يحتاج منا أيضاً إلى مثل هذه المدحة، لأنه ضرورة حقيقية، ضرورة حضارية، ضرورة تمدينية، ضرورة نعيش بغيرها أو نموت، فلسنا في معرضة نظم أهجوة للعلم كما يُحِب أو ربما كما يُمكِن أن يتخيَّل بعض الناس، ليس هكذا! لكن نُريد أن نتحدَّث نظرياً.

فالعلم لم يكن يوماً ولم يُثبِت يوماً أنه فعلاً عرف حدوده وتواضع بالتزامها للأسف، العلم يُبرِز رؤيةً كونيةً تعتمد على أمرين، الأمر الأول هو أنه لا يعرض نفسه على أنه طريق لتحصيل الحقيقة أو الحقائق، للأسف يعرض نفسه على أنه طريق وحيدة لتحصيل الحقيقة، وهذه كارثة! هذا ليس العلم إذن، هذا ما يُعرَف بالمذهب العلمي، أي الــ Scientism، الــ Scientism هو المذهب العلمي، أي العلم حين يستحيل إلى شيئ أشبه بالأيديولوجيا، لأن المذهب هو أيديولوجيا بمعنى ما، هذه الأيديولوجيا العلمية، الأيديولوجيا العلمية أو المُعتقَدية العلمية! أي الــ Scientism، قال أنا أصل إلى الحقائق أو أنا فقط!

أحسن مَن عبَّر عن هذه الأيديولوجيا أو العِلموية سيغموند فرويد Sigmund Freud النمساوي – مُؤسِّس التحليل النفسي – حين قال إن علمنا هذا ليس وهماً، مع أن الوهم أو في حين أن الوهم – قال فرويد Freud – هو ألا ينال العلم شيئاً ثم يُزعَم أن بإمكاننا أن نناله في شيئ آخر غير العلم، قال هذا هو الوهم! ما معنى هذا؟ معنى هذا أن العلم إذا سكت عن القول في مسألة فينبغي على كل المصادر الأُخرى أن تسكت، على الفلسفة أن تسكت، على الفن أن يسكت، على الدين أن يسكت، وعلى الحدس أو المذهب الطبيعي أيضاً أن يسكت، عجيب! وإذا قال العلم فصدِّقوه، فإن القول ما قال العلم، أي إِذَا قَالَتْ حَذَامِ.

إِذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا                                         فَإِنَّ القَولَ مَا قَالَتْ حَذَامِ. 

انتهى! إذن هو طريق وطريق وحيدة، هذه نصف الكارثة!

نصفها الآخر – الأمر الثاني – أن ميدان العلم هو المادة، ولا شيئ سوى المادة، العلم لا يدين ولا يُؤمِن ولا يُصادِق على شيئ اسمه الروح والروحانيات والماورائيات والميتافيزيقيات، كله كلام فارغ وأوهام وخُرافات وأساطير الأولين، المادة فقط! حتى الإنسان فيه ما يُعرَف لدى علماء النفس أو العلماء الروحانيين وعلماء الأديان بأنه مظاهر نفسانية أو روحانية أو روحية، وعند العلم هي أعراض مادية فقط، أعراض للتنظيم الدقيق المُركَّب – شديد التركيب – للمادة، فالعقل عندهم هو عرض لماذا؟ للمُخ، ولا شيئ غيره، بدون مخ لا يُوجَد عقل، انتهى كل شيئ، هذه هي القضية، فالإنسان مادة، لكنها رفيعة وشديدة التركيب، يُسميها عقلاً في لحظة من اللحظات، المُشكِلة أيضاً لأنه لا عقل في الكون إلا هذا العقل، أي العقل الإنسان، العلم لا يُؤمِن ولا يُوافِق على أن في الوجود كله عقلاً إلا العقل الإنسان، لا يُوجَد عقل إله، لا يُوجَد تدبير إله، ولا يُوجَد أي شيئ آخر، مادة! وليس إلا محض المادة.

لو ذهبنا نعقد مُقارَنة سريعة بين الأمور الأكثر أهميةً في الرؤيين أو بين الرؤيين – الرؤية الدينية والرؤية العلمية – لوجدنا كالتالي، في الرؤية الدينية – ونحن هنا نستند أساساً على الرؤية الإسلامية، ولكن أكثر الأديان الأُخرى أيضاً تُوافِق على ذلك – والإسلامية خصوصاً الإنسان مخلوقٌ لله، الإنسان مخلوقٌ لله كما الطبيعة والوجود كله أيضاً، وهذا ينبني عليه أشياء كثيرة جداً جداً، ينبني عليه أن الإنسان هو عقل أصغر وليس العقل الأكبر، وعقل ثانٍ وليس العقل الأول، عقل من درجة ثانية! كيف؟ بلا شك أن علم الله وحكمة الله – طبعاً لا يجوز لنا كإسلاميين أو كمُسلِمين أن نقول عقل الله، هذا غير وارد ولا يجوز، لكن نقول علم الله، حكمة الله، وكُلية علم الله – أكبر بكثير بما لا قياس مع علم الإنسان ومع حكمة الإنسان، بل نحن نزعم – وأيضاً هذا بحسب أُسس قرآنية في التصور لهذه المسألة – أن عقل الإنسان وعلم الإنسان ومُعرَفة الإنسان مُستمَدة من معرفة الله وحكمته وعلمه، كيف؟ لأن الإنسان الخام لو تركناه هو كما هو هكذا – هو كما هو، معزولاً ومفصولاً عن الكون كله – لن يكون كائناً عاقلاً، سيكون أشبه بالجمادات، أشبه حتى بالجمادات وليس بالعجماوات، طبعاً وما سمعتم يُؤكِّد هذا، ليس لو كان فقط مفصولاً عن العالم – لو فصلته ليس عن العالم المادي – وإنما لو كان مفصولاً فقط عن العالم الإنساني الاجتماعي، سيبقى أقرب إلى العجماوات في هذه اللحظة، في الحالة الأولى سيكون أقرب إلى الجمادات، في الحالة الثانية سيكون أقرب إلى الحالة العجماوات.

طبعاً خُرافة حي بن يقظان عند ابن طُفيل تعرفونها، الذي نشأ في جزيرة مُنعِزلاً، وكذلك روبنسون كروزو Robinson Crusoe عند دانييل ديفو Daniel Defoe، هذه مُجرَّد خُرافة يسخر منها العلماء جميعاً الآن، سواء علماء الأنثروبولوجيا Anthropology أو علماء السيكولوجيا Psychology أو علماء السوسيولوجيا Sociology، كلام فارغ! الإنسان إذا نشأ وحده في غير مُجتمَع بشري هو وحش، لا أكثر ولا أقل! لن يكون فيلسوفاً، ولن يكون صانعاً، ولن يكون مُدبِّراً كما هو في حي بن يقظان لابن طُفيل أو روبنسون كروزو Robinson Crusoe، هذا كلام فارغ، ليس علمياً بالمرة، فكيف لو نُزِع من الكون كله وتفرَّد بالوجود وحده؟ سيكون جماداً، لا شيئ! 

إذن هو يستمد وعيه وعلمه ومعرفته وحكمته من نظام الكون، الذي هو نظام لمَن؟ لله، الخالق سُبحانه وتعالى، هكذا! إذن هو عقل أصغر في مُقابِل ما هو أكبر، وهو وعي وحكمة ومعرفة صُغرى في مُقابِل العُظمى الكُلية، في الرؤية العلمية الوضع معكوس تماماً، هذا كلام خطير، هذا ليس فلسفة، هذا هو الواقع، وهذا بعض مأساة العصر، بعض الناس يقول هذا كلام جميل وجيد وصحيح ولكن نحن لا نحتاجه، طبعاً لا نحتاجه لأننا مُتخلِّفون، هل تعلمون لماذا؟ لأننا لا نُعنى بالعلم ولا بفلسفة العلم، ولم يدخل العلم حقيقةً في حياتنا، العلم الغربي لم يدخل في حياة المُسلِمين إلى الآن حقيقةً، بالعكس! نحن في مُؤخَرة القافلة تماماً، لن أذكر أسماء لكن أنا ساءني وأحزنني ويسوءني حين أسمع بعض كبار علماء العرب في العلوم الطبيعية الغربية هذه إذا تحدَّثوا في أمثال هذه القضايا، أطفال! هم أطفال للأسف، لا يعرفون شيئاً، استمعت إلى رجل حائز على جائزة كُبرى وهو بلا شك عالم في ميدانه، لكنه ليس ابن هذا العلم بالثقافة، هذا العلم ناشئ من رحم ثقافة مُعيَّنة، وهو لا دراية له واسعةً بهذه الثقافة ولا بأصول منشأ هذا العلم، حين تحدَّث عن أمثال هذه القضايا تحدَّث تماماً بلُغة عامية، تحدَّث عن دخول الموبايل Mobile في بلادنا وهذا تقدم، تحدَّث عن بعض الجسور والطرق وهذا تقدم لا بأس به، فحزنت به! هل هذا الحائز على هذه الجائزة يتكلَّم بهذا المُستوى؟ طبعاً هو عالم بالمعنى المهني، بالمعنى المهني في الكُتب! لكنه ليس عالماً بالطريقة الكُلية هذه للأسف، الموجودة عند الغربيين طبعاً، فهذا الأمر إلى الآن لا يعنينا، لأننا لسنا من العلم في شيئ للأسف إلا قليلاً، يوم يُصبِح الأمر كذلك سترون، ستُدهَم الأمة بطوفان من أمثال هذه التشكيكات والتساؤلات والتنظيرات المُحيِّرة المُقلِقة، معروف! انظروا إلى مُجتمَعاتنا، فقط بمُجرَّد أن تنفتح أبوابها أو نوافذها على أشياء محدودة مما عند الآخر فإن نظام وجودها يختل تقريباً بالكامل، وتنشأ لدينا ظواهر مُحيِّرة ومُخزية ومُحزِنة جداً، لأننا لسنا أصلاء، وليس لدينا قدرة التمالك أمام هذه الصدمة، لم نأخذه بالتنشؤ والتزيد، وهذه مُشكِلة، فلابد أن نستبق.

ثم إننا لاحظنا للأسف الشديد حتى في بلاد المُهاجَر – مثل هذه البلاد – الآتي، الذين يعكفون فعلاً في محاريب العلم ويتفوَّقون يكونون مُفتقِرين إلى درجة بائسة ومُحزِنة إلى رؤية كونية مُنسجِمة وعميقة ومُحترَمة، للأسف! فهذا أحياناً يُمكِن أن يُلهِمنا أو يبوح بمعنى ماذا؟ أن استغراق الإنسان في التخصص قد يحرمه ويُفقِره إلى إمكانية أن يُولِّد أو يتوفَّر على رؤية كونية واضحة للأسف، يكون مُتخصِّصاً دقيقاً جداً جداً في فرع فروعي يسير، لكنه فقير جداً في هذه الرؤى المُجرَّدة الكونية، فقير! والأمر أحياناً لا يعنيه، لكن هل تستمر حياته بنمط مُتوافِق مُنسمِج وسعيد؟ كلا، لأن هناك هُوةً لا تُردَم ولا تُجسَّر إلا بالروحاني، إلا بالديني، إلا بالماورائي، هو هكذا! هذا هو الإنسان، هذا هو الإنسان وهذا هو الأكثر جوهريةً في الإنسان، هذه هي النُقطة الأكثر جوهريةً في الإنسان!

حضارة العصر للأسف والحداثة كلها للأسف رسالتها هي نحن سعداء بمقدار ما نمتلك، وهذا الكلام غير صحيح إطلاقاً، نحن سعداء بمقدار ما نمتلك! أنا أرى أن هذا الشعار نفسه هو هروب وتعويض عن الخواء الروحي، حين يزعم الماديون أن الروحانيين أو المُتدينين هم أشخاص هروبيون، يهربون إلى الصوامع، إلى المساجد، إلى الكنائس، إلى المحاريب، إلى الكُتبَّب المُقدَّسة، إلى التراتيل، وإلى الأعياد، إلى آخره! يهربون إليها لأنهم هروبيون، غير صحيح! مَن الهروبي؟ مَن الهروبي: صاحب المسعى الجاد لمُقاوَمة طوفان الغرائز وإغراء التملك – إغراء أن تتملَّك – أم الذي يُدمِن على المُسكِرات وعلى المُخدِّرات ويقوم من فجر الله كما يُقال – من الساعة السادسة أو السابعة صباحاً – ليصطف في طابور طويل ويقضي من عمره ثلاث أو أربع ساعات أمام محل يُدشِّن افتتاحه الأول لأنه أعلن عن خمس وسبعين في المائة – أي Occasion – لكي يشتري مجموعة من الملابس الداخلية أو الخارجية هو لا يحتاجها، لأن عنده الآلاف مما يصلح للكب والرمي وللصدقة؟ لكن هذا هو الهروب الحقيقي، هروب من خواء روحي، يظن أن في هذا إشباعاً وأن في هذا إمتاعاً، هذا هروب! هذا هو الهروب الذي يُمارِسه إنسان العصر دون أن يدري المسكين، التسكع في الحانات، والتسكع في الشوارع وفي السينمات Cinemas بشكل مُستمِر ومُبتذَل، هذا هو الهروب، هذه مساعٍ غير جدية، لكن مساعي هذا المُتدين – بالعكس – أكثر جديةً، لذلك تُكسِبه نوعاً من الانسجام والتناغم والرضا والإشباعية.

في إحصائية غريبة مُثيرة في إحدى الولايات الأمريكية تبيَّن أن الذين لهم مناشط دينية ويرتادون الكنائس يعيشون بنسبة سبع وعشرين في المائة أطول – أي أعمارهم أطول – من الذين لا يفعلون ذلك، وأنا أُصدِّق هذا طبعاً، أُصدِّق هذا تماماً! لأن هناك جوانب أساسية جوهرية تم إشباعها في نفوسهم، قال مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۩، المُؤمِن الذي يُحقِّق شرط الإيمان وعمل الصالحات الله وعده بأنه سيُحييه في الدنيا حياةً طيبةً، حين قال عقب الآية المفتاحية المُرشِدة اليوم بآية وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ۩.

نعود إلى الرؤية أو المُقارَنة الأولى بين الرؤيين، الأعجب من ذلك أن في الرؤية أو في التصور الديني الإنسان يجد نفسه مُنسجِماً مع الكون ومع الوجود، تقريباً كل التصورات التقليدية وهي دينية طبعاً في مُجمَلها – لا يُوجَد تقليد إن لم يكن دينياً، كله تقريباً كان دينياً بنحو أو بآخر – فعلاً أبرزت هذا الانسجام، حتى في الأديان الشرقية الآسيوية، فضلاً عن الأديان الكتابية الإبراهيمية، هذا الانسجام بين الإنسان وبين الكون، بين الإنسان وبين أمه الأرض!

الإسلام طبعاً جاء بتعابير ودلالات عجيبة جداً جداً، أفهمنا أن هذا الكون كله يُشارِكنا العبودية لله والتسبيح لله، بل ترجيع تسبيح المُسبِّحين، يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۩، عن داود عليه السلام، النبي يقول إن أحداً جبل يُحِبنا ونُحِبه، النبي يُسبِّح الحصى في يديه وفي يد جماعة من أصحابه، يستقبل المطر بصدره الشريف ويقول إنه حديث عهدٌ بربه، علاقته بالنبات وعلاقته بالحيوان – بالفراخ وما إلى ذلك – معروفة جداً، لا نُريد أن نُطوِّل بهذا، حتى التصورات الأُخرى فيها هذا، وسأقتبس فقط جُملة من أحد هنود قبائل  كولومبيا الحُمر يقولها لأمريكي طبعاً غازٍ، يقول له تطلب مني أن أشق الأرض – يتحدَّث عن الحراثة – لأبذرها لكي تُنبِت، فهي تُنبِت! هل تطلب مني أن أشق ثدي أمي؟ هو يراها أمه، تطلب مني أن أحفر الأرض لأستخرج الحجارة، أعمال الحفر وأنواع من التعدين والتنجيم! هل تطلب مني أن أشق عن عظم أمي؟ هذا فيلسوف، أي الهندي الأحمر هذا، هذا قد يكون صاحب رؤية تصورية أعظم بحضارة بأكملها لم تُحسِن ان تفهم ضرورة الانسجام بين الإنسان وبيئته، ضرورة التوافق بين الأإنسان والطبيعة والكون، وليس العدوانية والتغلب وغزو الفضاء وغزو الطبيعة، كله غزو في غزو في غزو! والطبيعة ستُدافِع عن نفسها، لابد أن تُدافِع عن نفسها، بتدميرك طبعاً، بإهلاك هذا الولد المُهترئ، سيء الأدب، والذي لا يرعى الحُرم، ثم يقول تطلب مني أن أجز الحشيش وأجعل تبناً لأبيعه وآخذ ثمنه، هل تطلب مني أن أقص شعر أمي؟ هكذا! 

المُؤرِّخ الروماني بليني Pliny – بليني الأكبر Pliny the Elder طبعاً، هذا غير بليني الأصغر Pliny the Younger – كان يدعو مُتخوِّفاً إلى عدم المُجازَفة بالتعدين والبحث عن المعادن في جوف الأرض، لأن هذا اعتداء على حريم الــ Mother Earth، أي أمنا الأرض، قال وأُخمِّن – هو كان يُخمِّن – أن هذه الهزات الأرضية هي عقوبة على هذا العدوان على حريمها غير اللائق، هذا موجود! هذا التصور كان موجوداً والقرآن أبرزه، لكن – انتبهوا – في الرؤية الكونية الإسلامية القرآنية لم يبلغ الأمر هذا الحد، لم يبلغ حد التقديس والتنزيه الكامل، بالعكس! لماذا؟ لأن هناك رؤية كونية في هذه النُقطة تقوم على المُسخَّرية، أن هذا الوجود مُسخَّر لك، نعم أنت مُتناغِم معه ومُتوافِق، أنتما جميعاً مُنسجِمان، ولكن – هذه حكمة الله، مشيئة الله، مركزية الإنسان، سيادة الإنسان، وأولوية الإنسان – مع ذلك هذا الكون الطبيعي وهذا العالم مُسخَّر لك، لكن وفق أُسس ووفق ضوابط مُعيَّنة، كما قلنا في خُطبة البيئة تقوم على الصلاح والإصلاح، وليس على الفساد والإفساد، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۩، هذه الآية الناهية تتناغم تماماً في تصور المُسلِم مع آية المُسخَّرية بل مع آيات المُسخَّرية، لا تتناقض، تتواقف تماماً! هذه مُسخَّرية الكون.

طبعاً أيضاً مبدأ المُسخَّرية مبدأ ليس هيّناً وليس يسيراً، كان هناك في القرن التاسع عشر عالم أحياء ألماني مُلحِد ومُتعجرِف اسمه إرنست هيكل Ernst Haeckel، هيكل Haeckel وليس هيجل Hegel الفيلسوف، هيكل Haeckel! إرنست هيكل Ernst Haeckel قال لو كان ثمة سؤال واحد أضمن الجواب الموثوق عنه لأطرحه فسيكون هذا السؤال، يُعجِبني فكر الكبار! هذا مُلحِد لكنه كبير بلا شك، عقول كبيرة، هؤلاء علماء، فلاسفة، ومُفكِّرون، عندهم اهتمامات غير ما يهتم به آحاد الناس حقيقةً، آحاد الناس يقضي أحدهم عُمره – يقضي ستين أو سبعين سنة – ما بين المأدبة وما بين بالوعة المرحاض للأسف الشديد، هذا هو! ماذا يأكل؟ ماذا يشرب؟ النساء، الدخان، والمُتع! ما هذا؟ هل خُلِقنا لهذا؟ هل هذا الإنسان سيد هذا الوجود المُسخَّر له؟ أهو مخلوق لهذا؟ ما الفارق إذن بينه وبين الدابة أو بينه وبين العجماوات؟ مٌستحيل! لذلك نحن نحترم هؤلاء بلا شك، ونُخالِفهم في منازعهم وفي أيضاً مُستخلَصاتهم الفكرية، لكن نحترم هذا الشغف المعرفي وهذا العمق أيضاً الفلسفي عندهم، قال أنا سأطرح سؤالاً واحداً، هل تعرفون ما هو؟ قال أُريد أن أعرف هل هذا الكون صديق لنا أم عدو؟ الله أكبر! هذا الرجل أعتقد أنه لو تُليت عليه آيات المُسخَّرية سيندهش، آيات واضحة! تقول إن ما في السماوات والأرض مُسخَّر، لكن ليس بطريقة اعتسافية أو اعتباطية، أن تفعل ما تشاء كيف يروق لك، لا! وفق أيضاً فلسفة، فلسفة التسخير المُتكامِلة في كتاب الله تبارك وتعالى.

للأسف أدركنا الوقت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وتقدَّموا – جزاكم الله خيراً – حتى نُفسِح لإخواننا في آخر المسجد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                           (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

الكون أو الوجود أو العالم أو الطبيعة في المنظور القرآني – وهو المنظور الإلهي – هو كون هادف أو هدفي، له هدف، له مقصد، وله غاية، تعكس قصد الله – تبارك وتعالى – من خلقه، هي قصد الله نفسه – سُبحانه وتعالى – من خلقه، والإنسان طالما شعر بالانسجام بينه وبين هذا الكون ثم شعر أن هناك هدفاً له وأن هناك هدفاً للكون فإنه بلا شك ومن غير إرهاق ذهن أو اتعاب عقل يستخلص أنه والكون في يد أمينة وفي يد حانية، فيغمره شعور من السكينة، شعور من الطمأنينة، وشعور من العناية، ما يُعرَف بالعناية الإلهية التي يسخر منها الملاحدة والماديون، عناية حقيقية! ولها إشاراتها ولها دلائلها ولها رموزها، أما في التصور الآخر – ونحن ما زلنا في العلم، لم نتطرَّق إلى الفلسفة كثيراً – فلنستمع إلى العالم الذي حاز مع البروفيسور Professor أحمد عبد السلام جائزة نوبل Nobel في أواخر السبعينيات في الفيزياء النظرية وهو ستيفن واينبرج Steven Weinberg، لا زال حياً إلى اليوم على ما أعتقد، يقول كلما تعمَّقنا في فهم الكون أكثر كلما بدا لنا الكون بغير معنى، مُصيبة! تصور مثل هذا مُصيبة، تصور مثل هذا مُباشَرةً يتلقي مع التصور الفلسفي العبثي – الــ Absurd – لألبير كامو Albert Camus، الوجودي الفرنسي، من أصل جزائري، والذي قال لو كنت قطةً لانسجمت مع هذا الذي أُعارِضه بكل وجودي، لأنني لست قطة قال، لأنني إنسان، لا أرى أن هناك ما يُمكِن أن ألتقي عليه أنا وهذا العالم، هذا العالم يُخالِفني تماماً، لا! هذا عالم الضياع، عالم العبثية، عالم اللا معقول، هو لا يجد له أي معنى معقول، تماماً مثل التشيكي اليهودي أيضاً – وعنده منازع وجودية واضحة – فرانس كافكا Franz Kafka، الذي قال إن نظام العالم كذبة عُظمى، إن نظام العالم – تقول لي نظام وحكمة – كذبة عُظمى، جميل جداً!

سارتر Sartre أيضاً – زعيم لهؤلاء الوجوديين والملاحدة – يقول علينا أن نعيش ونتعلَّم أن نعيش في هذا العالم بلا أمل، الله أكبر! يقول بلا أمل، أما الرؤى الدينية كلها – بالعكس – تقوم على إبراز الأمل في أي أُفق قد يُظَن مسدوداً، الأمل موجود! كيف يُمكِن أن يعيش الإنسان ويموت ويقضي أو تعيش الأجيال أحياناً – ليس الإنسان الفرد، أي أنا وأنت، وإنما أجيال من الأمم، من الشعوب، ومن الجماعات – وتقضي في المُعاناة، في الويلات، في العذابات، وفي شتى صنوف الاضطهادات، ثم يُقال لها لابد أن تتقبَّلي الأمر على أنه هكذا وبلا أمل؟ لا! في الرؤية الدينية – بحمد الله – الأمل موجود، الأمل المُسعِد المُبهِج حتى في الدنيا موجود، هناك العودة الثانية للمسيح عند المسيحيين، وعودة أو نزول المسيح المُخلِّص عند اليهود، أما عند المُسلِمين فهناك عودة ثانية للمسيح، المُسلِم في هذه المرة – والأحاديث مُتواتِرة كما يُقال – يُؤمِن بهذا، وأيضاً هناك المهدي عند المُسلِمين، لكن بغض النظر عن هذه النهايات الدنيوية – لأن القصة لا تتوقَّف عند حدود هذا العالم الدُنيوي – هناك نهاية – نهاية النهايات – في عالم أُخروي، تُوضَع فيه الموازين وتُعاد فيه الأمور إلى أنصبائها، كل أمر يُوضَع في نصابه الصحيح، على الأقل هذا يُعطينا أمل يا إخواني، يُعطينا أمل!

طبعاً هنا سيبرز لنا نيتشوي عنيد ليقول لا، من أجل هذا حاربنا الأديان، أو سيبرز ماركسي مُتشبِّث، لأنه بلُغة ماركس Marx نحيب المُضطهَدين، تنتحبون فقط، تنتحبون على أنفسكم وعلى ويلاتكم، لا تفعلون شيئاً، نيتشه Nietzsche يقول هذا هو الدين، هو صنعة، صنعها الأقوياء ليُخدِّروا بها الضعفاء، ورضيَ بها الضعفاء، ومارسوا أيضاً إعادة إنتاجها وصناعتها، لكي يُسوِّغوا أحوالهم، أحوال المقهورية والمهانة والذل والوضاعة، نقول لهما غير صحيح، التاريخ نفسه – تاريخ كل المُتدينين، مُسلِمين وغير مُسلِمين – أبرز لنا أعلى درجات التضحية والصبر وروح الاستشهاد، أليس كذلك؟ هؤلاء يبدو أن نيتشه Nietzsche نسيهم، أكثر ناس صبروا على الاضطهادات وعلى العذابات وتحدوا الطواغيت وأكلة الشعوب والظلمة هم مَن؟ هم المُتدينون، المُتدينون! النبي أخبر أصحابه في مكة بهذا وقال اصبروا، فوالذي نفسي بيده ليُظهِرن الله هذا الدين، وقد كان مَن كان قبلكم يُؤتى بأحدهم فيُنشَر – والعياذ بالله – بالمُنشَار، يُشَق نصفين، ويُنشَر أيضاً ما دون لحمه – والعياذ بالله -، أي يبلغ من العظم، ما يُثنيهم ذلك عن دينهم، فاصبروا، ليُظهِرن الله هذا الدين.

هذه هي روح الاستشهاد، روح الصبر، روح التضحية، وروح مُقارَعة ومُكامَعة الطواغيت والظلمة وأكلة الشعوب، عند مَن؟ هل هذه عنده الضعفاء الذين وصفهم نيتشه Nietzsche؟ كلا، عند المُتدينين، الذين عندهم أمل في الله وفي موعود الله وفيما عند الله تبارك وتعالى، والدين مثل كل شيئ آخر – مثل العلم – بلا شك يُمكِن أن نطبع منه نُسخاً مُحرَّفة ونُسخاً مُعدَّلة ومُنقَّحة، تُبرِّر أسوأ الأوضاع وأعظم الظُلمات وأردأ المهانات، يُمكِن! فالأمر في النهاية يعتمد على ماذا؟ هل هذا يعتمد على الدين سطحاً أو الدين عُمقاً؟ هل هذا يعتمد على الدين قشراً أو الدين لُباً وجوهراً؟ الدين عُمقاً ولُباً وجوهراً لا يُمكِن إلا أن يرضى بماذا؟ بكرامة الإنسان وقدسية الإنسان ورفعة الإنسان وحرية الإنسان وأولوية الإنسان في النهاية.

كل الذين تنكَّروا للرؤى الدينية للعالم وللوجود وفي مُقدَّمتهم الآن ما بعد الحداثة وما بعد الحداثيين يُراوِحون في انعكاسات الرؤى الدينية رُغماً عنهم، ما بعد الحداثيين الآن – مثلاً – يتحدَّثون عن ماذا؟ عن العدالة، يُطالِبون بالعدالة، سنقول لهم العدالة مفهوم ديني أصلاً، ولهذا مقام آخر.

اللهم إنا نسألك أن تُعلِّمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علَّمتنا، وأن تفتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين.

اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك، وألهِمنا طاعتك، وأعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.

اللهم إنا نسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى، حقِّق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.

(ملحوظة) يُوجَد قطع في نهاية الخُطبة للأسف الشديد.

(16/2/2007)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: