إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ  وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، و أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

 

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ۩ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۩ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

“ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد”، فلا أفضل ولا أشرف من أن يُمعِن وأن ينفذ المُؤمِن والمُؤمِنة في معرفة الله – تبارك وتعالى -، وهذه المعرفة تدورُ في حقيقة أمرها على توحيده – لا إله إلا هو -، توحيده في ذاته، في إسمائه، في صفاته، في أفعاله، والإقرار واليقين له بالآحادية، غير مُركَّب من شيئ ولا يفتقر إلى شيئ – لا إله إلا هو -، وإليه يفتقرُ كل شيئ، وهذه الآية الجليلة من سورة آل عمران من أبلغ الآيات في تقرير توحيده وتفرّده: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩

روى الإمام الطبراني في المُعجَم الكبير عن ابن عباس. رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين:

 قال صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم:

إسمُ الله الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب في هذه الآية من آل عمران: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء ۩

كما روى الإمام الطبراني في الكبير وفي الصغير – في الكبير عن ابن المُسيّب عن مُعاذ وفي الصغير عن أنس رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – أنه – عليه الصلاة وأفضل السلام – افتقد مُعاذاً يوم الجُمعة – في صلاة جُمعة افتقد مُعاذ بن جبلٍ رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – فلما رآه بعد الصلاة قال له: يا مُعاذ ما لي لم أرك؟!

فقال “يا رسول الله – صلوات ربي وتسليمه عليه وعلى آله وأصحابه – ليهودي علىّ دينٌ مقدار أوقية من تبر – من ذهب غير مسبوك – فذهبت إليه فحبسني عنك”، ومن ثم هذا اليهودي حبس مُعاذ عن صلاة الجُمعة، فقال له صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم: يا مُعاذُ ألا أُعلِّمك دعاءً تدعو به لو كان عليك مثلُ جبل صبرٍ – وهو جبلٌ باليمن، وفي الصغير مثلُ جبل أُحد – ديناً قضاه الله عنك؟!
فقال “بلى يا رسول الله”، قال” قل اللهم مالك المُلك تؤتي الملك مَن تشاء وتنزع الملك مِمَن تشاء وتعز مَن تشاء وتذل مَن تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيءٍ قدير، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، تُعطيهما مَن تشاء وتمنعهما مِن مَن تشاء، ارحمني رحمةً تُغنيني بها عن رحمة مَن سواك”.اللهم آمين.

وفرقٌ بين داعٍ وداعٍ، بين داعٍ يدعو وهو يفقه ما يدعو به ويتحقَّق بما يدعو به – أي داعٍ تحقَّق بحقيقة أنه لا ملك ولا مُتصرِّف في هذا المُلك في الملكوت كله إلا هو. لا إله إلا هو – وبين داعٍ يدعو وقلبه ونظره وطمعه في العباد وفي الأسباب وفي الوسائل، أنى يُستجاب له؟!

ونظام هذه الآيات بديعٌ جداً، فبعد هذه الآية وما ولى قال تعالى لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء ۩،أي من دون المؤمنين، فلماذا تتخذونهم  وأنتم عبادٌ لمالك المُلك؟!

فهل مَن عبد ووحَّد مالك المُلك – لا إله إلا هو – يصير قلبه وولاؤه وهواه لغير المُؤمِنين، للكفّار طمعاً في مالهما، طمعاً في سُلطانهم، طمعانهم في عُدتهم، في عديدهم، في عزهم، في جاههم؟!

كلا، وهذا هو نظام الآيات، هذا هو السر، وهكذا تعتلق الآيات، هكذا تعتلق الآيات وتأخذ بحجز بعضها، لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ۩، أي ليس في شيئ في دعواه الإيمان، ليس في شيئ في دعواه المحبة والولاية والنُصرة، ليس في شيئ من دعواه أنه آمن بأن الله هو مالك المُلك وحده، ليس في شيئ وهو مُجرَّد مُمثِّل، مُجرَّد تاجر، مُجرَّد إنسان يتكلَّم بكلمات، وهذا حال كثير من خلق الله تبارك وتعالى.

مالك المُلك إسمٌ من أسماء الله العُظمى الحُسنى، وقد ورد ذكره في التسعة والتسعين عند الإمام الترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقي في الشُعب وفي السُنن الكُبرى من حديث أبي هُريرة، وأصل الحديث في الصحيحين من غير ذكر التسعة والتسعين ” إن لله تسعة وتسعين إسماً مَن أحصاها دخل الجنة” – في الصحيحين -، لكن هو الله، ثم عدَّها: هذا فيما ذكرت، في الترمذي وابن حبان والحاكم – شيخ البيهقي – والبيهقي في الكُبرى وفي شُعب الإيمان. رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.

وهو حديثٌ مشهورٌ جداً مذكور في أواخرها “مالك المُلك”، إنه من أسمائه، علماً بأن الإمام أبو عبد الله القرطبي – رضوان الله تعالى عليه – قال “هذا الإسمُ من أجمع الأسماء”، فهذا الإسم – مالك المُلك – من أجمع أسماء الله لأنه انطوى على معاني أكثرها بل كلها فيه، حيث أن القرطبي قال ” أكثرها  ” ثم  اضرب فقال ” لا لا لا لا، بل كلها”، ولذلك لا يُعارِضه إسم، فغير بعيد أن يكون هو الإسم الأعظم، مَن دعا به بيقين لبّاه الله – تبارك وتعالى – لأنه مالك المُلك، أنت تدعو مالك المُلك فماذا تُريد؟!

هل تُريد أن ينصرك على مَن عاداك؟!

يفعل إن كنت مظلوماً.

هل تُريد أن يُغنيك من فقرٍ؟!

يفعل إذا علم الخير لك في ذلك.
هل تُريد أن يقضي عنك دينك، أن يُفرِّج عنك كُربتك، أن يستر عورتك، أن يسد خلتك، أن يُعلِّمك من جهل، أن يرزقك الولد والخلف الصالح؟!

يفعل إن أراد  – لا إله إلا هو – لأنه مالك المُلك، مَن يعجزه؟!

مَن يحول بينه وبين ذلك؟!

مالك المُلك – لا إله إلا هو – غير بعيد أن يكون هو الإسم الأعظم، ولكن يحتاج إلى الدعاء به إلى يقين وتحقّق، ومن هنا قال القرطبي “من أجمع أسماء الله لأنه انطوى على معاني أكثرها بل كلها فيه”، فما أصل هذا الإسم؟!

قال العلّامة ابن فارس في مُعجَم مقاييس اللغة”الميم واللام والكاف أصلٌ صحيحٌ يدلُ على القوةِ والحفظِ والصحةِ”، فيُقال ” ملكت العجين ” إذا أحسنت عجنه حتى اختلط بعضه ببعض وتماسك،  الملائكة قيل من الألوكة وهى الرسالة، وهذا أقوى منه وأحسن ويتفق مع الأصل الصحيح الذي ذكره صاحب المقاييس لأن الله شدَّ بها مُلكه، إذ هى المُقسِّمات والمُدبِّرات والذاريات ذروا والنازعات غرقاً والناشطات نشطاً وإلى آخره، ومن هنا شدَّ المُلك بها فهى ملائكة، ملَّكت الشيئ إذا قوَّيته وشددتُ أركانه، فالله – تبارك وتعالى – مالك المُلك وهو المليك المُقتدِر وهو الملك وهو المالك. لا إله إلا هو.
معانٍ كثيرة تدور على أصلٍ واحد: الصحة والقوة والحفظ والطلاقة، طلاقة التصرّف ولا ريب فهو الرب لا إله إلا هو .

علماً بأن العرب تُكثِر استخدام الرب في السيد المالك الذي يُربّي الأشياء حتى يُبلِّغها كمالاتها المقدورة في علمه – لا إله إلا هو -، فضلاً عن أنه يُقال “ملكت كفي بالطعن” إذا استحكمت منه وطعنته طعنة جيدة ، قال قيس بن الخطيم:

مَلَكْتُ بها كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَها                    يَرَى قائمٌ من دونِها ما وَراءَها

يصف طعنة من طعناته أنفذها، حيث أنه أنفذ المطعون حتى يرى القائم ما وراء الطعنة، أي خزقه وثقبه بها، ولذا يقول:

مَلَكْتُ بها كَفِّي فأَنْهَرْتُ فَتْقَها                    يَرَى قائمٌ من دونِها ما وَراءَها

المَالك ، وهناك المَلك، المَلك من المُلك، والمالك من المِلك – بالكسر-، أما المُلك فهو الاستيلاء على جماعة من الناس – جماعة من الخلق – والتصرّف بهم وسياستهم، فالمَلك هو ذو المُلك وهذا هو المُلك وهو أخصُ من المِلك لأن المِلك يكون التصرّف بالأشياء عموماً أما المُلك فمُختصٌ بالتصرّف في العُقلاء ولذلك يُقال “مَلِكِ النَّاسِ  ۩ “، ولا يُقال “مَلك الأشياء ومَلك الدواب ومَلك البهائم” كما أفاده الراغب في مُفرَادته، فالمِلك أعم والمُلك أخص، ولكن الله – تبارك وتعالى – ذكر من أسمائه الحُسنى في كتابه العزيز “المَلك والمالك والمليك ومالك المُلك”، ذكرها كلها على أنها من أسمائه  – لا إله إلا هو -، وعبَّر مُلكه – سبحانه وتعالى – بعبارات أخرى كالتعبير بلام الاختصاص فقال لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۩ فهذا تعبير أيضاً بلام الاختصاص، وهناك أشياء أخرى كنحو قوله  قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ۩، لا إله إلا هو، يملك كل شيئ، لا يُوجَد شيئٌ –  يُمكِن أن يستقل بجهةٍ من جهاته من دون الله – تبارك وتعالى – أبداً، لا يُوجَد شيئ كذلك لا صغير ولا كبير، لا جدير ولا حقير، لا مما ظهر ولا مما استتر، لأن الملكوت كله لله وليس يختص الملكوت كما فهم بعضهم بما غاب لأن هذا يرد عليه قوله تبارك وتعالى فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ۩، فالملكوت صيغة مُبالَغة “فعلوت”، علماً بأن الواو والتاء للمُبالَغة كجبروت ونهبوت ولاهوت وطاغوت، فالواو والتاء للمُبالَغة وهذه المُبالَغة سيظهر لكم بعض وجهها على ما فتح الله – تبارك وتعالى – في أثناء الخُطبة – إن شاء الله تعالى -، ولكن لماذا عبَّر هنا بالملكوت؟!

الملكوت ملكوت كل شيئ، قال تعالى وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، علماً بأنني نبَّهت مرة أنه لم يقل ” والأرضَ ” – أي بالفتح – لأن الأرض داخلة في الملكوت، إذن ليس الملكوت مُختصاً بما غاب، هذا غير صحيح وإن كان شائعاً سائداً للأسف لدى كثيرين من العلماء، هذا غير صحيح والقرآن يرد عليه وقد تنبَّه لهذا أبو بكر بن العربي  ومن ثم قال ” غير صحيح، هذا مردود بالقرآن، فالقرآن قال مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ۩ إذن كله داخل في الملكوت”، لماذا؟!

لأنه مُلك مَن لا مَلك إلا هو، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ ۩، حتى المَالكون الآخرون لا أحد يملك شيئاً، فهذه مجازات واعتباريات، ومَن ملك شيئاً أو تملَّك على شيئ فإنما يتملَّك ويملك في طول مُلك الله لا في عرضه – وقد شرحت لكم هذه المُصطلَحات قبل أشهر – فلا مُنازَعة ولا مُنافَرة، تماماً كما نشاء في طول مشيئته لا في عرضها، فلا يُمكِن أن يُقال “شاء العبد شيئاً ضد مشيئة الله”، هذاغير صحيح وهذا تكذيب للكتاب الكريم وهو مروق من الدين، فالله يقول وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ۩، إذن نحن نشاء ومشيئتنا في طول مشيئة الله، لو لم يشأ الله ما كان لنا أن نشاء أصلاً، لو لم يُملِّكنا الله – عزَّ وجلَّ – أي شيئ كأسماعنا وأبصارنا ما تملَّكنا شيئاً، فالله يقول هذا عبر قوله أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ۩، فلو لم يُملِّكنا السمع والبصر ما ملكناه، وقد خلق الله أُناساً عُمياً وخلق أُناساً صُماً، وهذا الخلق كله من قسم المُمكِن، بمعنى – ببساطة – كان يُمكِن ألا يكون ولكنه كان لأن الله شاء أن يكون، “ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن”، وهذا معنى الإمكان في اللغة الفلسفية، في لغة علم الكلام، علم العقيدة، فكل شيئ من العرش إلى الفرش موجود لأن الله شاءه أن يكون، ولو لم يشأه ما كان، وهذا لا ينطبق فقط على السمع والبصر والأموال والعز والسُلطان والجمال والصحة، وإنما على كل شيئ، ولذلك هو موجود ومملوك في طول مُلك الله – تبارك وتعالى – وينبغي أن نُوقِن بهذا جيداً فهذا لُباب التوحيد، هذا جوهر التوحيد، إذن هو المَلك الحق فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ  ۩، علماً بأنه ذكرها في موضعين “في طه وفي آخر المُؤمِنون”.

روى البخاري ومسلم – رضيَ الله تعالى عنهما – عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه – أنه قال:

قال صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم:

يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطمس ويطوي السماوات بيمينه – وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩ – ثم يقول أنا المّلك، أين ملوك الأرض؟!

وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ ۩ وهو المَلك لا إله إلا هو، ولا مَلك إلا هو، ومن هنا يقول:  أنا الملك، أين ملوك الأرض؟!

يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ۩، فالمُلك له يوم القيامة، قال الله في الأنعام قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ ۩، كما قال يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ  لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ۩، وقال في الحج الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ۩، وقال أيضاً في سورة الفاتحة مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فهو مَالك يوم الدين، وله المُلك يُنفَخ في الصور، له المُلك يوم هم بارزون لله – تبارك وتعالى – وله وله وله، ولكن له المُلك دائماً وأبداً، له المُلك اليوم، الآن في هذه الساعة، فلماذا خصَّ ذلكم اليوم وتلكم الأحوال بأنه المَالك وله المُلك. لا إله إلا هو؟!

لانكشاف الأمر، حيث ينكشف الأمر على سويته لمَن آمن ولمَن كفر، لمَن أطاع ولمن عند، ظهر ظهوراً مُطلَقاً بيّناً لا خفاء فيه، أما المُؤمِن المُستبصِر – جعلني الله وإياكم وإياكن منهم ومنهن – فهو يرى هذا بعين البصيرة الآن، الساعة وفي كل ساعة، يرى أنه لا مَلك ولا مُتصرِّف ولا مَالك إلا هو، ولذلك هو المَلك الحق، فهو يُؤمِن بهذا حقاً ويسلك عليه حقاً، لا يُؤمِن به دعوى وزعم وإنما يُؤمِن به اعتقاداً ويقيناً، ويسلك وفق هذا، فسلوكه يُؤكِّد أنه لا يثق إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يطمع إلا في الله، لا يرجو شيئاً إلا مِن الله تبارك وتعالى.

إليك وإلا لا تُشد الركائبُ                           ومنك وإلا فالمؤمِّل خائبُ

وفيكَ وإلَّا فالغرامُ مضيَّعٌ                           وعنك وإلَّا فالمحدِّثُ كاذبٌ

كل حب، كل حديث، كل غرام، كل لجأ، كل ابتهال، كل تأميل في غيره هو باطل باطل باطل، هو قبض الريح، ولذلك هو الحق – لا إله إلا هو -، هو المعبود الحق، هو الوجود الحق، هو الملك الحق، ولو استعرضنا الآيات – وهى كثيرةٌ جداً في كتاب الله تبارك وتعالى – التي تتحدَّث عن المَلك الحق – لا إله إلا هو – لوجدنا العجب، فهو المَلك الحق وهو المليك المُقتدِر وهو المالك لكل شيئ وبيده الملكوت ومَالك المُلك أولاً لأنه الخالق الذي أوجد مِن عدم حيث قال

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ۩الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ۩ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۩ إلى آخر الآية، إي أنه يقول: أنا الخالق فمَن يُنازِعني في المُلك؟!

أنا الخالق، أنا الذي أوجدت كل شيئ من لا شيئ، أنا الذي أيَّست الليس كما يقولون أخرج الأيس من الليس، أخرج الشيئ من اللا شيئ، ومن هنا أصعب سؤال على الإطلاق يُواجِه العقل الإنساني هو لماذا كان الشيئ شيئاً؟!

لماذا كان الموجود موجوداً؟!

مَن الذي شيَّأ الشيئ؟!

مَن الذي أوجد الموجود؟!

لا إله إلا هو، قال “ولذلك أنا لي المُلك وحدي”، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ۩ فهو بيده وحده، فهو لم يقل “تبارك الذي المُلك بيده”، وإنما قال ” تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ ۩”، أي بيده لا بيد سواه، وهل يستطيع أحد أن يُنازِع في هذا وأن يقول أنا خلقت، أنا خلقت نبتون Neptune أو بلوتو Pluto، أنا خلقت القمر، أنا خلقت هذا الإنسان؟!

لا أحد، لا أحد إلا الحمقى من الذين طمس الله على أبصارهم وبصائرهم، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ۩، فهو ليس مَلكاً، ولكن الله هو مَن ملَّكه، ملَّكه في طول مُلكه – لا إله إلا هو – وأعطاه مُلكاً، لُعبة صغيرة إسمها المُلك – مُلك بابل – فهذه كلها أوهام، ومن هنا قال  أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ۩، أي كأنه يقول”أنا اختبرته  بهذا، أعطيته شيئ يفرح به إسمه المُلك، فكفر وألحد وصدَّق أنه مَلك حقيقي”، مَلك على ماذا؟!

هل هذا يستطيع أحد هؤلاء الملوك – نمرود وفروعون وملوك اليوم وظلمة اليوم والأمس وغداً والمُستقبَل – أن يملك منا السمع والأبصار؟!

أبداً!

هل يستطيع أن يملك لنا أن نفعل الضر من دون الله؟!

مُستحيل.

هل يستطيع أن يحول بين أحدٍ من رعيته – أي واحد من رعيته – وبين أن يُسيء الظن به، بين أن يلعنه في سره؟!

مُستحيل، فأنا من المُمكِن أن أدعوعليه كما أشاء، ولكن مع الملك الحق الأمر مُختلِف لأنه يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩ويحول بينك وبين قلبك إذا شاء، لو أراد لا تستطيع أن تُفكِّر إلا بما يُريد، ولذلك لو شاء لهدى الناسَ جميعاً، فهو يملك قلبك دونك، إذن دخلنا في شيئ آخر، ولكن قبل أن نتكلَّم عن الصيانة والتدبير والحفظ ومُقتضيات ولوزام ذلك سنتكلَّم عن العلم إذن، عن علمه بخلقه – بهذا الخلق الكثير -، فهذا الخلق بالنسبة للعقل الإنساني كثيرٌ جداً، ولكن بالنسبة لله لا كثير ولا قليل، لا كبير ولا صغير، علماً بأن هذا اعتقادي، فلا شيئ عند الله يُمكِن أن يُعَدّ كبيراً أو صغيراً، كل شيئ عند الله لا شيئ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۩ وهو قائم بالله فقط، بإرادة أن يبقى، إرادة إلهية أن يبقى فيبقى طالما أراد الله ذلك، ومن هنا يقول إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فلا أنا ولا أنت ولا علمك نستطيع أن نفعل هذا، ويُحدِّث أحد المشائخ الفضلاء قائلاً”أعرف أحد الناس من روّاد مسجدي وهو رجل فاضل ومن أصحاب الغنى والمال ولكنه خرج من بيته فما هو إلا أن خرج حتى لم يعد يعرف كيف يعود إلى بيته”، أي أنه فقد الذاكرة في لحظة، فقط خرج من بيته يُريد جهةً مُعيَّنة، يقصد شيئاً، ولكنه لم يعرف، فلقيه  بتوفيق الله بعض مَن يعرفه فدّلوه على بيت واحد من أبنائه، إذن الله يستطيع أن يُسلَب عقلك في لحظة، فنسأل الله ألا يسلبنا إيماننا أولاً ولا عقولنا وبصائرنا.

ترون – والله الذي إله إلا هو – بعض عباد الله – واُقسِم بالله – يعيش – والله العظيم – كأنه لا عقل له وهو يظن أنه أعقل مني ومنكَ ومن الناس أجمعين وهو لا عقل له، فهو يتصرَّف وواضح أنه لا عقل له، وكيف يعقل أنه لا عقل له؟!

أحد المُفكِّرين اليوم أراد أن يُمثِّل هذا بطريقة طريفة فقال:

لو قيل لأحد الناس هل تُوافِق على أن نستبدل دماغك بدماغ عالم كبير حائز على جائزة نوبل Nobel – مثلاً  – فإن قال ” نعم ” تورَّط، وإن قال “لا” تورَّط، لأنه إن قال “نعم” سنسأله: لماذا وافقت على أن تستبدل دماغه دماغك، تُحِل دماغه محل دماغك؟!

إن عرفت هذا بعقلك أنت وقوَّمت وحاكمت بطريقة ذكية فدماغك إذن لا يُستبدَّل، دماغ ذكي جداً جداً جداً يعرف الخير والشر ويعرف الصح والغلط، فلماذا تستغني عنه إذن؟!

أنت بم اتخذت هذا القرار؟!

بدماغك هذا،إذن هو دماغ صاحٍ، دماغ يقظان، دماغ ذكي!

وإن قال “لا، لا أُريد” فأيضاً هو مُتورِّط، لأننا سنقول له:

لماذا فعلت هذا وأنت لم تُجرِّب دماغه ولم تعرف كيف تكون الحياة بدماغه؟!

 فلماذا ترضى بدماغه؟!

ولذلك هذه ورطة، فإذا سلب الله العبد عقله ونور بصيرته سيحلف بالله الأيمان الجاهدة المُغلَّظة أنه من أذكى ومن أكثر عباد الله بصراً وهو أعمى أصم، وإلا كيف يعرف أنه أعمى المسكين؟!

لا يعرف، فقلبه مريض ميت، يعتقد  أنه الأحسن وأن وضعه سليم وهو غير كذلك.

فنسأل الله أن يحفظ علينا عقولنا وقلوبنا وأن يُنوِّر بصائرنا ويجعل هوانا تبعاً لما يُريد ويرضى ويُحِب وإلا فالهلاك قريب، فهذه هلكة والله العظيم، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ۩، إذن علمه  – لا إله إلا هو – يشمل كل شيئ، ولا يُوجَد شيئ كثير وشيئ قليل، ولا يُوجَد شيئ كبير وشيئ صغير، كما أنه لا يُوجَد  قريب أو بعيد ولا  صعب وسهل، فنسبة الله واحدة من خلقه كلهم لأن الكل منسوج من خيطي الكاف والنون كُنْ فَيَكُونُ ۩، فإذا أراد الله أن يخلق بروتوناً Proton أو أقل من بروتون Proton يخلقه بكُن، وحين خلق العرش خلقه بكُن، ولذلك الله – عزَّ وجلَّ – كما تعلمون وتُوقِنون زمَّن الزمان ومكَّن المكان، ولذلك نسبته من أي شيئ كما نرى نحن في الزمان والمكان واحدة، ليس عند الله أمس واليوم وغد وبعد مليون سنة، كل هذا كلام فارغ، فهذا  يُوجَد عندنا نحن فقط أما عند الله فلا يُوجَد مثل هذا الكلام أبداً، وسأضرب لكم مثلاً بسيطاً ينجلي به المقصود – إن شاء الله – ويضح:

شخصٌ يجلس في غرفة تُطِل على شارع تزحمه السيارات – المركبات، العربات – ولكن لا يُتاح له النظر إلا من خلال ثقبٍ ضيق ، فكلما نظر رأى سيارة واحدة أو جزءً منها تمر، فصارت السيارات عنده ثلاثة : سيارة مرت – ولذلك رآها قُبيل قليل – وسيارة تمر وسيارة ستمر.

انتبهوا فهذا يصدق في الزمان والمكان، ولذلك التقيّد والمحدودية كما يقول الفلاسفة فرع التزمن والتمكن، لأنك كائن مُتزمِّن ومُتمكِّن في المكان فأنت مُقيَّد ومحدود.

والآن اذهبوا بخيالكم إلى سقف هذه الغُرفة وإلى شخص يقف على سطح الغُرفة، فيرى السيارات الماضية والموجودة والتي ستُوجَد في نفس اللحظة، فلا يُوجَد لديه سيارة مرت وسيارة تمر وسيارة ستمر، فهذا كله عنده مارٌ اللحظة لأنه المشهد المكاني أوسع، أما الأول فهو مُقيَّد مكانياً فالسيارات ثلاثة، وتقيَّد زمانياً لأنه مُقيَّد مكانياً زمانياً فعليه أن ينتظر بضع ثوانٍ أو بضع دقائق حتى تمر هذه وتأتي سيارة من المجهول ليراها، أي عليه أن ينتظر المُستقبَل، أما رب العالمين لا يُقيِّده لا زمان ولا مكان، لا مُدة ولا مادة – لا إله إلا هو -، ولذلك الأشياء كلها حاضرة عنده، والصحيح أن علم الله بالوجود كله علمٌ حضوري وليس علماً حصولياً، وبهذا المثال المُبسَّط دون أن أُصدِّع أدمغتكم وضح لكم ما معنى العلم الحضوري، فالأشياء حاضرة دائماً عنده، لأنه علة الأشياء، هو علة العلل، فلا يُوجَد شيئ إلا عن إرادة الله أن يُوجَد، إلا عن قوله كُنْ فَيَكُونُ ۩، فهو العلة، ومن ثم كيف لا يعلم بها وهو علتها، ضرورة ارتباط المعلول بعلته وحصول المعلول عند علته بل حضور المعلول عند علته فالكون كله حاضر عند علته، عند مُوجِده. لا إله إلا هو؟!
ولذلك يقول بعض العارفين “علمه فعله”، وإن اختلفا في المفهوم فالعلم غير الفعل ولكن في المصداق يتصادقان ويتحدان، وكل شيئ موجود في نهاية المطاف يُشكِّل علم الله، يقول الله – تبارك وتعالى – مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ ۩، خلق مئات المليارات من البشر مثل خلق بشري واحد، مثل خلق كائن بشري واحد، كله نفس الشيئ بــ كُنْ فَيَكُونُ ۩، بتوجه الإرادة – لا إله إلا هو – وتسلط القدرة ينتهي كل شيئ، أما في البعث فالله يبعث واحداً لحسابه مثلما يبعث المليارات، نفس الشيئ، وكذا يُحاسِب الواحد مثلما يُحاسِب المليارات، فهذا نفس الشيئ أيضاً، ومن هنا معنى قوله أو بعض معنى قوله سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩، الله أكبر، وبالمُناسَبة قوله  سَرِيعُ الْحِسَابِ  ۩ تقريب لنا، والأمر فوق ذلك ووراء ذلك، فما هو الحساب؟!

الحساب هو استعمال العدّ – فمعنى أن تحسب أن تعدّ، فهى من العدد – أو استعمال العدد، والحساب لا يقع إلا في ظرف الجهل، فإن انتقلنا من ظرف الجهل إلى ظرف الواقع نفسه فلا حساب، وسأُوضِّح هذا لأن هذه المفاهيم عقدية وعميقة قليلاً، فالحساب لا يقع إلا في ظرف الجهل بمعنى أنني سأسألكم الآن:

ما حاصل ضرب خمسة في سبعمائة وخمسة سبعين ألف مقسومة على الجذر التربيعي لأربعة ضرب خمسين ناقص سبعة آلاف؟!

لا يعلم أحد فيكم الجواب إلا إذا أحضر الآلة الحاسبة، وحتى هؤلاء البشر الخارقون لابد أن يستغرق الواحد منهم وقتاً ويُجري عمليات سريعة جداً وبعد ذلك يقول لنا النتيجة، والطفل الصغير الذي يشدو أو شدا من الحساب مبادءه يحتاج عندما تسأله عن خمس ضرب خمسة ناقص سبعة إلى وقت المسكين، ولكن مَن كان يعلم النتيجة لا يحتاج إلى الحساب، ولكن السؤال الآن: هل الله يعلم النتيجة أو لا يعلم؟!

يعلم، وهو يعلم ماذا فعلت تماماً ، ويعلم كل شيئ أخفيته في ضميرك، أخفيته من الناس وأخفيته حتى من الملائكة الحاسبين الكاتبين الحافظين، يعلمه – لا إله إلا هو -، وهو يعلمه قبل أن تفعله، فليس عند الله قبل وبعد، أما علم البشر دائماً يتبع المعلوم، فيحصل الشيئ ثم يحصل العلم به، وفي حق الله المعلومات تتبع العلم طبعاً، لأن كل شيئ معلوم له أزلاً ومُقيَّد حتى في أم الكتاب قبل خمسين ألف سنة، قبل خلق الدنيا بخمسين ألف سنة، فكله معلوم له، والمعلومات تتبع علمه طبعاً، ولذلك الله – تبارك وتعالى – سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩ لأن حسابه واقع في ظرف الوجود لا في ظرف العلم والجهل، بمعنى أن كل شيئ تفعله يتبع علمه ويتبع إراته في خلقه، يتبع مشيئته أن يكون هذا الشيئ وإلا ما لم يشأ لم يكن، لم تكن لتستطيع أن تفعل هذا لو لم يأذن لك، لو لم يشأ هذا حتى وإن كان معصية، فعليك أن تنتبه إلى أن هذاواقع في ظرف الوجود، في ظرف الواقع، في عين الواقع، إذن أي حساب؟!

الحكاية مُنتهية، وعند الله كله مُنتهي طبعاً وكله معروف قبل أن يخلق الدُنيا، ولذلك الخلق والبعث والحساب كله عند الله في لمح البصر، في لا زمان، ومن هنا يُحاوِل أن يُفهِمك كيف أنه سَرِيعُ الْحِسَابِ ۩، كما قال وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ۩ أي حسابنا مُختلِف تماماً، جزء كبير من هذا الحساب الذي لا يتعلَّق بالعدد إنما يتعلَّقبعين الواقع ومتن الخارج كما يقولون، وهذا يتم تلقائياً، فالأعمال نفسها تُنتِج آثارها، قال – تبارك وتعالى – ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ  ۩، علماً بأن هذه الآية من أغرب الآيات وهى في سورة الروم، فما هى عاقبة هؤلاء التي قالها الله؟!

أَن كَذَّبُوا ۩، لا إله إلا الله، فالله قال أن هذا هو الجزاء، ولذلك الذنب تراه بعد الذنب يكون جزاءً له، جزاءً عليه، فأنت أذنبت وسوف تُحاسَب على ذنبك بماذا؟!

بذنبك نفسه، ذنبك هذا طمس شيئاً من نور بصيرتك كما تأكل بعض المأكولات المُضِرة بالصحة، أكلك نفسه هو عقابك، فتأكل وتستضر صحتك في نفس الوقت، ولذلك فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۩ أي يرى عمله، هذا هو، فجزاؤه هو نفسه، ومن هنا قال ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ  ۩، أي أنه قال أن كفرهم وتكذيبهم هو العاقبة، هو الجزاء.

لا إله إلا الله، القرآن يُحاوِل أن يفتح العيون على مسائل عميقة جداً جداً جداً جداً ومع ذلك لا ينتبه إليها الناس العام ، فهو يُحاوِل أن يفتح عيوننا – عين البصيرة -ولذلك يُحدِّثنا الله – تبارك وتعالى – عن علم الظاهر وعلم الباطن بقوله يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، فقال لا تكونوا مثلهم، لأن هؤلاء عُميان فيعلمون الظواهر فقط، أما أهل اليقين وأهل النفاذ فيعلمون شيئاً من باطن الأمور وحقيقتها، يرون يد الله كيف تعمل – لا إله إلا هو – وحكمته كيف تسري وتنفذ وأمره كيف لا يُرَد وحُكمه كيف لا يُعقَّب عليه – لا إله إلا هو -، يرون هذا بعين البصيرة، والآن بعين الميكروسكوب – Microscope – وبعين الكاميرات – Cameras – المُتخصِّصة جداً، فهناك العشرات من أنواع التصوير بأنواع الأشعة المُختلِفة التي رأينا بها أعماقاً لأشياء وبواطن لم تكن تخطر على بال بشر، وحين كنا صغاراً كنا نرى الوزغ ونضربه ونقتله ونأثُر فيه حديث رسول الله يعني في قتله ولم نكن نتساءل: كيف يُمكِن لهذه الوزغة أن تمشي على الحائط وأن تمشي على السقف وعلى الزجاج بسهولة؟!

علماً بأن هذا حيَّر العلماء لعشرات السنين، فما رأيكم؟!

ولم يعرفوا الجواب إلا قبل بضع سنين ولكن ليس بالعقل والتأمل، وإنما  ميكروسكوبياً بوسائل التصوير الـ Microscopic التي تُكبِّر مئات الألوف، فالطريقة التي يسير بها أبو بُريص كيف بيمشي مُعجِزة علمية، فهذا الشيئ ليس سهلاً بالمرة، فنحن نعلم الظاهر ولا نعلم شيئاً، ولكن العلماء أحبوا أن يعرفوا وأن يتخطوا الظاهر إلى الباطن قليلاً فكبَّروا هذا ووجدوا أن له في كل يد خمسة أصابع – سبحان الله -، ورأوا في أصابعه – في أطراف أصابعه – نتوءات فقالوا”لعل هذه النتوءات هى السبب”، ثم كبَّروا بالميكروسكوب Microscope  أكثر ليجدوا أن هذه النتوءات مُبطَّنة بطبقة مُخملية، وعندما كبَّروا أكثر وجدوا هذه الطبقة المُخملية فيها مئات ألوف الزوائد الهدبية الصغيرة لتتماسك بها، وفي كل واحدة كم؟!

نصف مليون، خمسمائة ألف.

 فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ ۩، ومن هنا نسأل دوكنز Dawkins وأمثال دوكنز Dawkins متى كان للتطوّر- Evolution – وقت كافٍ لكي يُطوِّر كل هذه المليارات من الأهداب وبشكل مُعجِز مُحيِّر؟!

فهذا هو أبو بريص فقط وهو كائن بسيط، فماذا عن الإنسان إذن ؟!

ما خفيّ كان أعظم!

ولكنهم لم يكتفوا بهذا وجعلوا يكبَّروا – آخر مرة – مائة ألف ضعف آخر، فوجدوا أن في كل هُدبة من النصف مليون تُوجَد نتوءات صغيرة جداً جداً بالملايين بحيث أن رأس دبوس يتسع لمائة مليون منها، وهذا الشيئ رآه العلماء وصوَّروه بالميكروسكوب – Microscope – الإلكتروني، وبعد ذلك فهم العلماء سر قدرة الوزغة – أم بريص – على أن تمشي على الحائط وعلى الزجاج وقدرتها على أن تمشي على الثقوب بسهولة، فهموا هذا فالقصة إعجازية وغريبة جداً جداً جداً جداً، فهناك مليارات من الأهداب، وطبعاً في قانون أعتقد دارسو الفيزياء يعرفونه جداً وهو قانون القوة المعروفة بقوة فان دير فالس  Van der Waals force  –   نسبةً إلى العالم الهولندي الشهير فان دير فالس Van der Waals  -، وهذه القوة باختصار هى هذه القوى التي تسمح لهذه الجُزيئات الصغيرة جداً جداً جداً أن تعمل مع بعضها كعمل المغناطيسات، أي كأنها Magnet ، وهى قوى صغيرة جداً جداً جداً جداً تكاد تضمحل أو تتلاشى إذا كان الأمر على مُستوى أهداب صغيرة، ولكن إذا جمَّعنا هذه المليارات من الأهداب تُصبِح قوة كبيرة ومُخيفة تسمح بحمل ليس فقط أبو بريص وإنما حيوان آخر يضعفه وزناً عشرات الأضعاف، فيُمكِن أن تحمله أيضاً على السقف ويمشي بسهولة، ليست مسألة سهلة جداً أن يشاء الله أن يخلق حيوان مُقزِّز وكذا مثل أبو بريص وينتهى كل شيئ، فعلينا أن ننتبه إلى العلم والحكمة واللطف الخفي العجيب لله – لا إله إلا  هو – في خلق كائن مثل هذا لا تكاد تلحظه العين ولا تهتم به، فماذا لو انتقلنا إلى السماوات والأرض والعرش والفرش والنجوم والكواكب والملائكة والإنسان والجن والعجائب في هذه الأشياء التي طبعاً لم تظهر كلها إلى الآن قطعاً، بل لم يظهر إلا أقلها.

قال “يا داود أدرِك لي خفي اللطف ولطيف الفطنة”، قال “أدرِك أنه إذا وقعت عليكَ ذبابة فلو التقى مَن بالسماوات ومَن بالأرض على أن يرفعوها لم يرفعوها إلا أن آذن أنا بها” ، ومن هنا آمن هكذا، حاول أن تُؤمِن هكذا، حاول أن يتحصَّل لك مثل هذا اليقين، ولكن هذا لا يأتي باللعب وبالعبث وبالحلف بأيمان الله كذباً من أجل بضعة يوروات وبضعة دراهم، فالإيمان شيئ مُختلِف تماماً، وهذا هو خفي اللطف ولطيف الفطنة، قال له “إن أردت ذرة  –  ليس درهماً ولا حبة، بل واحد على ستين من الدرهم – فلا تسأل إلا إياي، لا أحد يستطيع أن يُعطيك ذرة، لا تجعل ثقتك إلا بي”

وانظر إلى سيد المُوحِّدين – صلوات ربي وتسليمه عليه – وتاج العارفين وإمام الصادقين حين قال قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ۩ علماً بأن في يونس العكس ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ ۩، أي أنه يقول لا أملك لنفسي أي شيئ، لا أستطيع أن أهش ذبابة عن وجهي، وأحياناً يكون الماء على بُعد متر أو مترين من رسول الله فيضرب الأرض ليتيمم ثم يذهب إلى الماء، وعندما سُئل رسول الله عن سبب هذا قال” ما يُؤمِّنني أن أبلغه”، أي كأنه يقول : هل عندكم هذا اليقين  بأن هذا الماء قريب؟!

قال: أنا اُحِب أن أكون على طهارة، وعندي نية الطهارة ونية الصلاة، فأتيمم ثم أذهب إلى الماء لكي آخذ منه وأتوضأ.

إذن المُلك والخلق، ومن هنا نعود إلى الآيات حتى نُرتِّب أفكارنا:

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ۩ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۩، فقال أنا مَلك مُتوحِّد لأنني خلقت كل شيئ وطبعاً لا أحتاج إلى ولد يُعينني في كبري فأنا لست مثلكم ولا أحتاج إلى شريك أو وزير يُعينني على أمري وإدارة رحى  الوجود، فأنا أُديرها بــ كُنْ ۩، فأنا كما خلقتها بــ كُنْ ۩ أُديرها بــ كُنْ ۩، بعلمي الذي لا يعزب عنه مثقال شيئ،  مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ۩

ولذلك لما قال لموسى وهارون اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ ۩ كذا قالا هذا رجل عصبي ومجنون ومن هنا نخاف أن يفقد أعصابه وتحدث مُصيبة – قَالا رَبَّنَا 

إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا ۩ – ولكن الله قال لهم اذهبا ولا تخافا – قَالَ لا تَخَافَا ۩ – لأنني في لحظة أستطيع أن أحول بينه وبين قلبه، بينه وبين لسانه، بينه وبين مُراده ، حيث أنه قال لهما إِنَّنِي مَعَكُمَا ۩ فلا تخافا ومن ثم ذهبوا، هذا هو الإيمان، علماً بأن فرعون هذا ليس كأي أحد ، هذا ليس مُجرَّد مُخابَرات أو ضابط عادي، فرعون قتل ألوف البشر، ذبَّح ألوف الأطفال ولم يطرف له جفن، ومع ذلك لا يُوجَد مشكلة ومن هنا قال موسى لفرعون وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ۩، أي أنه يُريد يقول له أنت سفيه خسران وضائع وتائه، فهو كان خائفاً  في الأول فقط ولكن بعد ذلك قال له أنت مثبور، أنت خسران وضائع يا فرعون، ففرعون هو مَن قال أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ – أنا مَلك – وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ۩، نعم لا نُبصِر، ومن هنا الله قال له أنت تقول تجري من تحتك الأنهار ولكن نحن سنُجري الماء فوقك من جنس ما كفرت، فهل أنت مَن أجريتها من تحتك يا كذاب ؟!

إذن نحن سنُجريها من فوقك فادفع عن نفسك هذا، إذن فرعون شأنه كشأن نمرود فالله أخبر عنه بقوله  أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ۩ ومع ذلك أنكر وجحد – قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ۩-، ولكن إبراهيم لم يُلق بالاً إلى هذا المُهاتِر وتحدَّث بطريقة أوضح فقال 

فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ – الشمس هذه شيئ مُخيف فهى تتسع لمليون أرض، لمليون وثلاثمائة ألف أرض، تبتلعها وتقول هل من مزيد؟! لأنها كرة عظيمة مُخيفة يُحرِّكها الله من جهة إلى جهة  –  فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ  – تفضَّل افعل هذا يا نمرود، يا مَن ادّعيت أنك مَلك وأن هذا المُلك لك  – فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۩، ولذلك قال الله – تبارك وتعالى – يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ 

لَهُ الْمُلْكُ ۚ ۩، هذا هو المُلك، ومن هنا قال أنا المَلك، فأنا لم أخلق فقط وإنما أنا الذي أُسيِّر الكواكب والنجوم وأُمسِك هذه في مصامها واُسيِّر هذه في داراتها ومساراتها، فآتي بالليل بعد النهار وبالنهار بعد الليل، لأن هذا مُلكي، وكله يُدار  بــ كُنْ ۩، فهكذا يكون المَلك!

قال ” ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ۩ “، أي أن الله يقول لك اذهب وادع مَن تشاء مِن الملائكة والإنس والجن وعيسى وعزير وكل مَن تُريدون، فلن يملكوا لكم من الأمر شيئاً، ومن هنا الله يقول في سبأ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۩، حتى مثقال الذرة لا يملكونه فلا تسألها أحداً، سلني إياها، سل الذي أبوابه لا تُحجَبُ، سل الله أبداً!

إليك وإلا لا تُشد الركائبُ                           ومنك وإلا فالمؤمِّل خائبُ

وإن نزل بك ضرٌ أو ضيمٌ أو ظلم فاستنصر الله، لا تُعمِل ذكاءك ودهاءك وشطارتك ومكرك وخُبثك، ولا تستعد بالناس بعضهم على بعض، اترك هذا وقل “إني مظلومٌ، إني مغلوبٌ، إني مهضوم فانتصر لي يا رب العالمين”، فاترك الباقي على الله!

مولانا عبد القادر الجيلاني – قدَّس الله سره – يقول:

أيْدِرُكنِى َضْيٌم وأنت َذِخيَرتِى                     وُأظْلُم في الُدنْيا وأنْت نَصِيرِى 

وعارٌ عَلى رَاعِى اْلحمى وَهُوَ فِى الْحِمَى       اذا ضَاعَ فِى الْبَيَدَا عِقَالُ ِبعِيِرى

يقول شقيق ابن عبد الله البلخي – قدَّس الله سره -عن سر توبته:

 كانت بداية توبتي – علماً بأن هذا الرجل كان عادياً ثم أصبح من رؤوس وأعلام الأولياء في هذه الأمة المرحومة – بسبب سنة، أجدب الناس فلا مطر ولا زرع، وصار الناس في جُهدٍ أو في جَهدٍ شديد، فلا ترى أحداً إلا تعلو وجهه الكآبة والحزن لعدم تواجد الأكل والشرب، ورأيت عبداً – وواضح أنه عبد رقيق – فرحاً مسروراً يترنم – أي يُغني ويُنشِد أشياءً – فقلت له: يا عبد الله تعال، ما لي أراك فرحاً مسروراً والناس كلهم في جَهدٍ شديد؟!

قال: وما لي لا أفرح ولا أُسَر ولسيدي ضيعة أدخلها متى شئت؟!

أي أن عنده ضيعة يُخزِّن فيها أشياء كثيرة كالغلال والحبوب والفواكه، وفيها أيضاً الشراب وكل شيئ.

قال:

 فأقبلت على نفسي وقلت: يا الله، هذا عبدٌ رقيق لم يجد الحُزن إلى قلبه سبيلاً لأنه لسيده ضيعة فيها بعض شيئ، فكيف أحزن أنا وأبتئس وأنا عبدٌ لسيد الخلق أجمعين ومَالك المُلك ؟!

قال:

 فانتبهت – أي أنني كنت نائماً من عشرين أو ثلاثين سنة  مثل مُعظم الناس، حيث أنهم يغطون في النوم ويظنون أنهم ليسوا كذلك وأنهم أيقاظ – وتأهَّبت ووثبت قائلاً “أنا عبدك وأنت سيدي، أنت تدفع عني، أنت تُغنيني، أنت تحسبني، أنت تكفيني، أنت تُعطيني”

وحتى الله حين يُعطي وحين يمنع وحين يأخذ فالإيمان يُصيِّر هذا كله خيراً، لأن هذا يحدث لخير يعلمه – إن شاء الله – إن لم يكن عقاباً على ذنبٍ أسلفته، ولذلك قال ؟!- تبارك وتعالى – وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۩ ولم يقل “والشر” وإنما اكتفى بقوله الْخَيْرُ ۩ فقط، ولذلك تمليكه أحداً أو نزع من المُلك من أحدٍ، إعزازه أحداً، إذلاله أحداً، إعطاؤه أحداً، منعه أحداً،  كل هذا يتم بعنوان الخير، فهذا هو الخير، ومن ثم هذا كله خير، فالله قال “لا أفعل إلا الخير أنا، الشر ليس إلىّ، الشر للأشرار وللأبالسة ولأتباعهم، أما أنا فلا أفعل إلا الخيرفي العطاء والمنع، في الإعزاز والإذلال، في التمليك والنزع”،  ولذلك تنبَّهوا إلى أن مثل هذه الأسماء “الرافع الخافض، المُعِز المُذِل، المُعطي المانع وإلى آخره” لا تُذكَر إلا مُثناة مُزدوَجة، فعليكم أن تنتبهوا إلى هذا وان تتأدبوا مع الله، فلا تذكروها إلا مُثناة مُزدوَجة، لأنه لا يأخذ إلا ليُعطي بطريقة لا نفهمها أحياناً أو في أكثر الأحايين، لا يُذِل إلا ليُعِز – لا إله إلا هو -، وهكذا فلابد أن تُذكَر هذه الأسماء مُثناة  مُزدوَجة، لا تُذكَر وحدها، فلا يُقال “يا مُذِل كذا كذا كذا” أبداً، وإنما يُقال “يا مُعِز يا مُذِل”، وكذلك لا يُقال ” يا مانع كذا كذا كذا ” أبداً، وهكذا، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ  ۩ إلا هو.

أسأل الله – تبارك وتعالى – أن يدلّنا عليه دلالة الصادقين وأن يُعرِّفنا به كما عرَّف به الأولياء الصالحين. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا  محمداً عبده ورسوله  وصفوته من خلقه، صلى الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

المَلك – لا إله إلا هو – يتصف بنزاهة الصفات وقدسية الذات، ولذلك ورد في الكتاب العزيز الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ۩، أي أن أنه اتبعها – اتبع كلمة المَلك – بالتقديس حين قال الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ۩، فهو المُنزَّه – لا إله إلا هو -، مُنزَّه عن الظلم، مُنزَّه عن العجز، مُنزَّه عن البخل واللؤم، ولذلك هو مَلك قدّوس، ومن هنا ملوك الدنيا أملكهم مُلكاً وأشرفهم شرفاً هو الذي يتصف بهذه الصفة أو بهذه الصفات على قدره، فأحد الملوك رأى مرةً راعياً وقد عمد إلى فرس المَلك يُمثِّل أنه يُعطيها شيئاً لتأكل، وأخذ جوهرةً مما حُلّيَ بها الفرس، ورمقه المَلك وحده فأغضى كأنه لم ير شيئاً، ثم إن الرجل أخذته الرعدة فخاف الآن وتعرَّق، ومن هنا سأله المَلك: يا عبد الله كأني أراك محموماً!

قال “نعم أيها المَلك الجليل”، فقال “لا بأس، لا بأس، لعل هذا من كثرة التعب فأنت تتعب كثيراً”، فقال ” أتعب – والله – وأحتاج الآن راحة”، لأن المسكين يُريد أن يهرب خوفاً من أن يُكشَف بأي طريقة، فقال له “لا عليك ولا تعب عليك بعد اليوم، فهذه الأرض كلها التي تراها  – وهى مساحة كبيرة – أقطعتك إياها يا عبد الله”، فهذا هو المَلك ومن ثم هو يتصرَّف بشرف، فلم ينتقم ولم يقل له “تعال إلى هنا لقد أمسكنا بك، هيا اقطعوا يده”، لم يقل هذا أبداً، ولذلك لا زال الإغضاء من شيم الملوك.

ثم جاء بعض رعية الملك فقالوا “يا أيها الملك ضاعت جوهرة”، فقال “وليكن، أخذها مَن لا يردها ورآها مَن لا ينم عليها”، ولذلك الذي يليق بالملوك هو الإغضاء، فإن كنت تُحِب أن تكون من الملوك عليك بالإغضاء والتسامح والتجاوز والمغفرة.

ولذلك كون رب العالمين مَلك الملوك هذا يُبشِّرنا – إن شاء الله – لأنه لا يأخذ بالذنب وبالجريرة بسرعة هكذا، بل يسمح كثيراً، ولكن إياك أن يخرج بك الأمر إلى قلة الأدب مع الله بعد ذلك، نعم أنت غلطت وغلبتك نفسك مرة أو نسيت وسهوت أو خفت أو خوَّفوك ولكن عليك أن ترجع إلى الله ولا تتمادى فتخرج إلى قلة الأدب فيأخذك أخذ عزيزٍ مُقتدِر لأنه أيضاً هذا من صفات الملوك، لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ۩، فهو يقهر الجبابرة والظالمين الذين تمادوا وعتوا، هو قهَّار أيضاً – مَلك قهَّار -، فهو مَلك يليق به الكمالات – لا إله إلا هو -، قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۩، قال “عنده صفات أدخل في الكمال، فليس هذا هو الكمال، الكمال لايكون بالمُلك الوراثي ولا يكون بالأموال”، ومن هنا قال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ  ۩، أي أنه قال له أن عنده علم وحكم وبسطة في الجسم طبعاً كعادة ملوك زمان لأن الملوك كانوا هم الذين يقودون مُقدَّم حروبهم، فيقف المَلك في الصف الأول على عكس اليوم، فكان يُقاتِل والناس من ورائه، ومن ثم كان لابد أن يكون لدى المَلك بسطة في الجسم، أما اليوم فلم يعد شرطاً ولكن لابد أن يكون عنده بسطة في العقل، فهذه كلها كمالات، ومن هنا قال مَن عنده بسطة في العلم والجسم يستحق أن يكون مَلكاً لأن المُلك يقتضي الكمالات، يستلزم الكمالات، علماً بأن المُلك – كما قلنا – يقتضي القهر، والآيات كثيرة في هذا الشيئ، بل هى  كثيرة جداً، وبحسب المُقرَّر للملوك أحكامٌ وتصرّفات عند غلق الباب وأحكامٌ وتصرّفات عند رفع الحجاب، وأحكامٌ وتصرّفات مع الخاصة وأحكامٌ وتصرّفات مع العامة، وأحكامٌ في القبض وأحكامٌ في البسط، وأحكامٌ عند الرضا وأحكامُ عند الغضب، وفي الصحيحين “إن ربكم غضب اليوم غضباً لم يغضب من قبل مثله قط”، ولذلك نكص وكع الأنبياء كلهم من آدم فنوح فإدريس فإبراهيم فموسى فعيسى، لم يستطع ولن يستطيع أحد أن يأتي يسأله – تبارك وتعالى – الشفاعة في الخلق، وهذا هو المقام المحمود الذي ادُخِر لشخصٍ واحد وحيد وهو سيد خلق الله أجمعين – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله وأصحابه إلى يوم الدين وأبد الآبدين -، ومن هنا فإن الله في حال الغضب له أحكام وتصرَفات مُختلِفة، ولذلك على المرء أن يكون مُحاذِراً وأن يتصرَّف بحذر، فيتصرَّف بحذر مَن يتصرَّف في حضرة مَلك الملوك الذي لا تخفى عليه خافية ولا تعزب عنه عازبة.

اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا، اللهم قدِّس سرائرنا ونوِّر ضمائرنا وافتح علينا فتوح العارفين بك وافتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزقنا عملاً بكتابك واتباعاً لسُنة نبيك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – واجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، اللهم اجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا واجعل محبتك أحب الأشياء إلى قلوبنا، وإذا أقررت أعين أهل الدُنيا من دُنياهم فأقر عيوننا من عبادتك بلطفك ورحمتك يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا مَالك المُلك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩

اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من فضله من يُعطكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.    

(22/10/2010)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: