إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول المولى الجليل – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩ 

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، والأخوات الفاضلات:

نحن بحمد الله ومنّه – سُبحانه – على أبواب شهر عظيم كريم مُبارَك كما تعلمون، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ۩، شهر الصوم، شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، شهر الرحمات الموصولة والنعم السوابغ، شهر تشتعل فيه مجامر القلوب، وتتحرَّك فيه الأشواق على وتي المُجاهَدة والرياضة، طالبةً بلوغ حضارات القُرب، شهر فيه من صنوف المُواساة والمُجاهَدة والمُعاناة الروحية ما ليس في غيره.

ولن أُطيل في تقريض هذا الشهر، لأنني – أحسب – لن أذكر إلا ما تعلمون، ولكنني سأُجاهِد وأُحاوِل – إن شاء الله تعالى – بتوفيقه وتيسيره، سأُحاوِل تعميق إيماننا بمعنى الصوم، لأننا – أيها الإخوة والأخوات – لا نفي إلا لما نُؤمِن به، ما لا نُؤمِن به يسهل علينا أن نخونه، كما تخون الوطن، حين تكفر به، كما تخون الصداقة، الأسرة، الزوجية، والقيم بعامة، لا يخون الإنسان إلا ما لا يُؤمِن به، أو ما يكون به إيمانه ضعيفاً، جد ضعيف، وإلى هذا المعنى أشار المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام – بقوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِن، نعم! مُستحيل هذا، لو كان إيمانه في هذه الساعة قوياً ما اقترف هذه الفاحشة، إذن نحن لا نخون إلا ما يضعف إيماننا به.

كثيرٌ منا يُمسِك عن الطعام والشراب وعن شهوة النساء، ولكنه يخون صيامه، فما أكثر المُمسِكين! وما أقل الصائمين! لماذا؟ لماذا نخون هذه الأمانة التي استأدنا الله؟ لماذا نخون هذه الأمانة التي استأدناها الله – سُبحانه وتعالى -؟ لأننا لا نُؤمِن بها جيداً، لا نُؤمِن بها عميقاً، ونحن لا نُؤمِن أصلاً بأي شيئ أو بأي معنى إلا على قدر إدراكنا، على قدر فهمنا، على قدر ما نحس ونشعر، بهذا الذي نُطالَب بالإيمان به، فإذا فقدنا الفهم والإدراك والشعور والإحساس والحُب والتعشق لهذا المطلوب الإيمان به لن نُؤمِن، وإن آمنت ألسنتنا، وإن آمنت مظاهرنا وسلوكاتنا المُتبدية، لا نُؤمِن! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، ومن هنا حقيق بنا وحق علينا أن نُعمِّق وأن نتعمَّق معنى الصوم، طلباً لمزيد الإيمان به.

ولنجعل هذا السؤال مفتاحاً لدرس هذه المُشكِلة الكبيرة: بأي روحية ننتظر هذا الشهر؟ وبأي روحية ننظر إلى الصوم نفسه كعبادة؟ بعض الناس لا يُجاوِز في نظره وانتظاره حقيقة أنها عبادة ثقيلة وشاقة وعسيرة، ليست باليسيرة، يتربَّص بها الأيام، كيما تُغادِر ويفرغ منها، وهو يستعين الله في ذلكم وبين ذلكم على أدائها، مثل هذا لم يفهم ولم يُؤمِن بالصوم، مثل هذا يرى في الصوم تعذيباً ونكالاً وإعناتاً، وبعيد جداً أن يعود عليه الصوم بعائدة طيبة، إنه لم يفهم الصوم!

ليس من مقاصد الشارع بتة أن يُعنِت المُكلَّفين وأن يُحرِجهم وأن يُضيِّق عليهم، وقد سمعنا في سياق آيات الصيام يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ۩، المادي المحجوز المُنجحِر في قفص المادية الضيق وإن كان ذهبياً لا يُمكِن أن ينظر إلى الصوم إلا بهذه الروحية، على أنه تعذيب وإحراج وإعنات وحرمان بلا طائل، أما المُؤمِن ضعيف الإيمان الذي لم يفهم ولم يتعمَّق مغزى ومقصد الشارع من الصيام فهو ينظر النظرة ذاتها، مُضيفاً إليها طلب الثواب عند الله يوم القيامة، كيما تثقل الموازين، وتقصر الخطوات إلى الجنة، فقط هذه هي القضية، لم يفهم! نستطيع أن نسلكهما في نظام واحد، أي نستطيع أن نسلك هذين الرجلين – المُؤمِن والكافر – في نظام واحد.

روى الإمام البخاري والإمام مالك في الموطأ وغيرهما عن ابن عباس – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -، أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بين كان يخطب – أي على منبره – رأى رجلاً واقفاً تحت الشمس، في حر الشمس! فسأل عنه، مَن هذا؟ قالوا يا رسول الله هذا أبو إسرائيل، هذه كُنيته، هكذا كان يُكنى، هذا أبو إسرائيل، نذر لله أن يقف تحت الشمس، لا يقعد، ولا يستظل، يصوم النهار ولا يُفطِر، ويصوم عن الكلام ولا يتكلَّم، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مروه، فليستظل، وليقعد، وليتكلَّم، وليُتِم صومه، هذه لا معنى لها، لا معنى ولا مغزى ولا طائل من ورائها، إنها محض تعذيب، الله غني عنها، ولأنهام حض تعذيب نفاها الشارع ونهى عنها، ولكنه لم ينه عن الصوم، قال مروه، فليُتِم صومه، فالصوم فرق هذه الأشياء من حيثية التعذيب، إنه ليس بتعذيب، وليس بإعنات، هناك سر ومقصد وراء ذلك، وأكبر من ذلك.

كما روى الشيخان – أي البخاري ومُسلِم – في صحيحيهما عن أنس – رضوان الله تعالى عنهم أجمعين – أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – رأى الآتي، الروايات الأُخرى تُؤكِّد أنه رأى ما رأى في طريق الحج، وهنا لم يُصرَّح به، ولكن هذا واضح في روايات أُخرى، والحديث أخرجه الجماعة أيضاً، لكن هذا نظم الشيخين في بعض الرواية، رأى – عليه الصلاة وأفضل السلام – رجلاً – شيخاً كبيراً – يُهادى بن ابنين له، ومعنى يُهادى بينهما أي يعتمد عليهما، لأنه ضعيف ذاوٍ، شيخ كبير، يُهادي بين ابنين له، فسأل عنه – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أي ما شأنه؟ ما له؟ فقالوا يا رسول الله هذا نذر أن يمشي، الروايات الأُخرى تُؤكِّد أنه نذر أن يمشي إلى الحج، أي نذر أن يحج ماشياً، ولذا يُترجَم لهذا الحديث تحت باب النهي عن الحج ماشياً، بعض العلماء يُحِب له كذلك.

نذر أن يحج ماشياً، لكن هل يُقبَل من مثل هذا أن يحج ماشياً؟! أنت لا تستطيع أن تمشي أصلاً، أنت تُهادى بين ابنين لك، تُهادى بين رجلين قويين، فأمره – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يركب، قال مروه، فليركب، وقال – صلوات الله وتسليماته عليه – إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، قال إن الله عن تعذي هذا نفسه لغني! إذن معنى التعذيب مُنتفٍ أصلاً في كل العبادات الشرعية، أبداً! يستحيل أن الله – عز وجل – يُريد بنا ويُريد منا أن نُعذِّب أنفسنا وأن نُعنِتها وأن نُحرِجها، أبداً! مُستحيل هذا، الصوم شيئ يختلف عن هذا تماماً.

المُؤمِن الذي تعمَّق معنى الصلوم وسره ومغزاه ومقصده – أيها الإخوة والأخوات – ينتظر هذا الشهر الكريم، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُبلِّغناه، وأن يُبارِك لنا فيما أبقى لنا من شعبان، اللهم آمين، المُؤمِن الذي وصفت حاله ينتظر رمضان وينظر إلى الصوم بروحية مُختلِفة تماماً، ينظر إليه على أنه فُرصة، لا تُقادَر، لا يُقادَر قدرها ولا تُقدَّر بثمن للإصلاح الكياني، وأنا أعني هذه الكلمة، للإصلاح الكياني! مُجمَل كيان الإنسان، المادي والروحي النفسي المعنوي، هناك إصلاح مادي، نعم! قال – تعالى –  وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۩، وسأُرجئ تفصيل هذه الجُملة ربما إلى الخُطبة الثانية، لأن الجُملة الأُخرى أهم وأشرف منها، وكذلك إصلاح الكيان المعنوي النفسي، كيف؟!

أولاً هناك بعض الناس الذين يظنون أننا نصوم ونُعنِت أنفسنا طلباً للثواب عند الله في الآخرة، هؤلاء ما فهموا أصلاً فلسفة الثواب في الإسلام أبداً، الثواب كما يكون أُخروياً يكون دنيوياً، فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ۩، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ ۩، إذن هذا ثواب دنيوي، وهناك ثواب أُخروي، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ۩، النصر والفتح كانا ثواباً أيضاً، هذا ثواب، هناك أثوبة وأجزية كثيرة، ساحتها الدنيا، ساحتها المعاش، بالعكس! الذي أراه والله – عز وجل – أعلم أن حقيقة الثواب تكون في الدنيا، أما الثواب الأُخروي فهو أشبه بالمجاز، إنه محض فضل من رب العزة – لا إله إلا هو -، محض فضل، لا تستطيع أن تقول هذا جزاء على عملي، لا! هذا محض فضل من الله، أما هذا العمل الذي تقوم به وتُؤديه فهو لك، حتى العبادة المحضة من الصلاة وصيام وحج وعُمرة هي لك، هل تعرف ما هو ثوابها؟ هي ثوابها، ثواب الصوم هو الصوم، ثواب الصلاة هي الصلاة، ثواب القرآن هو قراءة القرآن، هو ثوابه! كيف؟ كيف؟ كيف تكون العبادة هي ثواب نفسها؟ هي ثواب نفسها، نعم! هي ثواب ذاتها، هنا نبدأ نتعمَّق معنى الصوم، وهنا يلوح لنا هذا التكليف الثقيل الغليظ الذي يؤود ويُتعِب وقد آض من محاب العابد ومن معشوقاته، لا يستطيع عنه صبراً، بالعكس! يبدأ يُفكِّر كيف يسلك سبيلاً وسُبلاً أُخرى لشُكر المُنعِم – تبارك وتعالى – على هذه النعمة، نعمة جليلة كُبرى علينا، كيف نشكره على هذه العبادة؟! وهكذا يُصبِح التكليف محبةً، من محاب الإنسان، محبوباً، معشوقاً، ومُراداً للإنسان.

لكن قبل أن أُفصِّل هذا المعنى أُحِب أن أُشير إشارة بين قوسين، وهي إشارة مُهِمة، (كل هذه الأشياء علماً وعملاً لن تُفهَم ولن نستثمرها ولن نستفيد منها أن لم نفهمها) وأيضاً هنا أفتح قوسين آخرين لكي أقول (صدِّقوني، لا أقول كثيرٌ منا وإنما يُوجَد فينا مَن لا يستفيد من هذه العبادات، بعضنا لا يستفيد من هذه العبادات للأسف، يدخل هذه ويخرج منها كما هو، وأحياناً أسوأ، بعض الناس يتربَّص بهذا الشهر كيما يتصرَّم، لماذا؟ لكي يتوسَّع بعد رمضان في ماذا؟ في شهواته، في ملاذه، مما أحل وحرم، لماذا؟ لأنه أدى الضريبة، تعبنا شهراً كاملاً، انتهى! إذن ليكن هذا بمثابة ممحاة، تمحو ما سنستقبل من آثام وآصار وذنوب، الله أكبر! ما هذا؟! هذا لم يفهم شيئاً، لم يفهم شيئاً).

ذاكم الحاكم العربي الذي هلك وأفضى إلى ما عمل، الذي كان يُردِّد تقريباً كل سنة إذا أزف رمضان وشرف أن الصوم هذا تقف به عجلة الإنتاج، يقف به العمل، ومصلحة الجمهور ومصلحة الشعب وخدمة الإنسان والمُجتمَع والجمهور تقتضي أن نعمل وأن نُنتِج، حتى نعيش في مُستوى عالٍ كريم لائق بنا، كالشعوب الحرة الكريمة، هذا الرجل لن أفترض فيه سوء النية، لكنني سأقطع بأنه كان قصير النظر، وكذلك كل مَن أفرغوا عن لسانه، ليس هذا فقط، لأنه هناك أُناساً إلى اليوم يُفرِغون عن لسانه أو عن مثل لسانه وعن مثل منطقه، يقولون هذا الصوم يُؤخِّر الإنتاج، تتباطأ عجلة الإنتاج بسبب الصوم، يُتعِب الناس، يُتعِب العاملين، فلماذا الصوم؟ والعمل عبادة، إذن نترك عبادة لعبادة، بمثل هذا الاستخفاف يتناولون شرائع الله – تبارك وتعالى – المفروضة اللازمة لكل الأمم، كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ۩، لسنا بدعاً من الأمم في فرضية هذه العبادة الراقية السامية.

أقول أنا مُوقِن بأن هذا وكل الذين يُفرِغون عن منطقه ولسانه أوتوا من قبل قصر النظر، هذا الرجل وقد أفضى إلى ما عمل أراد – هكذا يظن – أن يُحرِّر الإنسان، وأن يُكرِّم الإنسان، وأن يجعله أولوية، فمسخه وقزَّمه وأحاله إلى أشبه دابة، وبالاصطلاح الأجنبي ألينه، الألينة! من الــ Alienation، جعله يتغرَّب عن ذاته، يُسلَخ من حقيقته ومن جوهره، كيف؟ 

هذا الرجل المسكين وكان حاكماً – يحكم أمة بأسرها – جهل أن الإنسان ليس مُجرَّد معدة، وليس مُجرَّد جلد يُزوَّق ويُزخرَف ويُلبَس أحسن اللباس، الإنسان عشق، الإنسان حُب، الإنسان روح ونفس، الإنسان جوانية بلُغة عثمان أمين – الفيلسوف المصري -، جوانية عميقة، الإنسان استشراف للماورائيات، للصفيح الأعلى كما يُقال، مُحاوَلة الاتصال بالملأ الأعلى، هذا هو الإنسان! الإنسان قيم، تطلعات لا يُمكِن أن تقف عند حدود السجن المادي الضيق، فحيث أو من حيث أراد أن يُكرِّم الإنسان بوهمه وظنه مسخ وقزَّمه وأحاله إلى مُجرَّد آلة أو بهيمة، يعمل ليل نهار أو نهاراً بلا ليل، كيما ماذا؟ كيما يُنتِج، ويُنتِج كيما يُعلَف، كما يُعلَف حيوان علفاً جديداً، لابد أن يُعلَف بطريقة جيدة، كيما يُعلَف تماماً كما تُعلَف الحيوانات، ويُعلَف جيداً، لماذا؟ لكي يستطيع أن يعمل بالتالي في دورة استلابية، اغترابية، بهيمية، طبيعية، لا إنسانية، أهذا الذي يُريده للإنسان؟! أهذا هو المُراد من الإنسان؟! للأسف الشديد! لكن كما قلت قصر النظر هو آفة هؤلاء، ويحسبون أنهم دُرة تاج العقل والعقلاء للأسف الشديد.

نعود إلى ما كنا فيه، كيف يكون الصيام والقرآن والعبادات بل الأعمال الصالحة ثواب ذواتها أو أثوبة لذواتها؟ هذا سهل جداً، ومن المُمكِن تصوره بضربة واحدة أو بخُطوة واحد، أنت حين تقرأ القرآن ما الذي يعود عليك؟ وما علاقة هذا الذي يعود بموضوعنا؟ هذا هو الثواب، كلمة ثواب ما معناها؟ أصلها كما قال العلماء من ثاب يثوب، إذا رجع يرجع، إذا رجع! فالذي يرجع عليك من عملك حسناً كان هذا الراجع أو سيئاً هو الثواب، الذي يرجع والذي يرتد عليك، وكل عمل له مرجوعات، أي له أثوبة، هذه المرجوعات أو المراجيع هي أثوبة العمل، ولذلك الثواب يكون حسناً كما يكون سيئاً، قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ۩، قال مَثُوبَةً ۩، سيئة! طبعاً لأنه هو ما رجع به عليهم عملهم أو أعمالهم، هذه هي المثوبة، هذا هو الثواب، عملك يرجع بطريقة تكاملية، أو بطريقة تآكلية، تأتي على ما تبقى لك من رصيد أصلاً، هذا هو! هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ۩، أيضاً ثواب سيء هنا، فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ۩، ثواب سيء، أما الثواب الحسن فهو في عشرات الموارد من كتاب الله وتعلمونها، أنتم تعلمونها ومن ثم لسنا مُضطَرين إلى التنبيه عليها والإشارة إليها.

إذن انظر، انظر إلى هذا الذي يعود ويرجع عليك حين تفتح دفتي المُصحَف وتبدأ تقرأ وتُرتِل وتتدبَّر وتقرأ، هناك سكينة، طمأنينة، راحة، بهجة، أكثر من ذلك: اتساع في النظرة، اتساع في المنظور، الذي تنظر من خلاله إلى نفسك، إلى علاقتك بالآخرين، إلى فلسفة الوجود، إلى فلسفة الحياة، إلى فلسفة الموت، وإلى فلسفة الإنسانية كلها والقيم، من خلال كتاب الله، أعظم كتاب وأعظم كلام، هل تُريد ثواباً أكثر من ذلك؟ ماذا تُريد؟ أتُريد ثواباً أكبر من ذلك؟

ولذلك لابد أن نُعيد النظر أيضاً في الطريقة التي نُنشّئ بها وعليها أولادنا، لماذا نُرغِمهم تقريباً على أن يقرأوا في كتاب الله؟ خُطة فاشلة، لا تصلح أبداً، لا نرتضيها، لا يرتضيها واحد، أو نُرغِمهم على أن يقرأوا الكُتب الثقافية والعلمية، خُطة فاشلة، أبداً! إذا لم يتناول الولد الكتاب على أن قراءته هي في حد ذاتها جائزة – قراء الكتاب جائزة – فلا حاجة أن يتناوله، سيُصبِح صاحب شهادة فقط، صاحب لقب، لكن لن يستفيد منه المشوار العلمي بكلمة جديدة، بابتكار حقيقي، وبإضافة إبداعية، لن يُثري حياته، لن يُخصِبها، ولن يُعمِّقها، بالعكس! سيكون بيروقراطيا فاشلاً، حتى إن كان شيخاً أو عالماً أو مُخترِعاً، هو مُجرَّد محض بيروقراطي فاشل، أما الذي يتناول كتاب الله والكتاب العلمي والثقافي والأدبي – أياً كان ميدان هذا الكتاب علمياً – ويقرأه وهو يعلم أن هذه القراءة في حد ذاتها أكثر من مُتعة فشأنه مُختلِف، إنها الثواب، إنها الجزاء، جزاء ماذا؟ جزاء ذاتها، وهكذا قراءة القرآن.

هناك الصدقة، حين تتصدَّق أنت قد تقول أنا أتصدَّق وأخرج عن مالي ومال أولادي ورزق عيالي، طلباً لما عند الله فقط، نعم! هذا صحيح ومشروع لك، لكنك قصير النظر، لست مُتديناً أصالةً، قد قلت مرة هنا إن التدين الأصيل امتياز لفئة قليلة جداً مِن الناس، قليل مِن الناس مَن يفهم ما هو الدين، قليل! حتى العلماء وحتى المشايخ، قليل! الذين يفهمون العبادات والثواب بهذه الطريقة لم يفهموا الدين، الدين أعمق وأعظم من ذلك بكثير، والدين بهذه الطريقة التي يفهمها هؤلاء السطحيون قد يزهد فيه العلمانيون والكفرة، يقولون لا، لا حاجة لنا به، لأننا لا نُؤمِن أصلاً بالماورائيات، لكن الدين بالمعنى الديني الصحيح المأخوذ من محض النصوص حتى الكفّار والملاحدة سيجدون أنفسهم ملزوزين أن يحترموه وأن يتهيَّبوه، إنه يروعهم ويُعجِبهم، كيف؟ انتبهوا!

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، كل واحد منا ينطوي على قابليات، ينطوي على استعدادات، لكن هذه الاستعدادات تنتمي إلى عالمين مُتعارِضين مُتشاكِسين تماماً: عالم التقوى، وعالم الفجور، استعدادات تقائية، واستعدادات فجورية، ولا تتجاوز فقط، بل تتفاعل، هذه القابليات والاستعدادات تتفاعل، ومن هنا صعوبة أن يُشحِّر الإنسان نيته، صعوبة أن يُشحِّر وأن يُخلِّص ويستخلص النية الصادقة والعزيمة المحضة، لأن هذه القابليات لا مُتجاوِرة فقط، وإنما مُتداخِلة مُتمازِجة مُتفاعِلة، لكن ليس هذا هو المبدأ، المبدأ – انظروا، شرحت هذا في الدروس، وسنتعمَّقه اليوم خُطوة إلى الإمام – هو الآتي، وَالشَّمْسِ ۩… وَالْقَمَرِ ۩… وَالنَّهَارِ ۩… وَاللَّيْلِ ۩… وَالسَّمَاءِ ۩… وَالْأَرْضِ ۩… وَنَفْسٍ ۩… النفس هي الوحيدة التي ذُكِرت ماذا؟ مُنكَّرة، لماذا؟ كل تلكم العوالم العُلوية والسُفلية ذُكِرت مُعرَّفة، بمعنى أن لها كينونات ناجزة، الشمس كينونة ناجزة، وكذلك الليل، النهار، القمر، الأرض، والسماء، هناك كينونات ناجزة، انتهى! هذه هي، كينونات ناجزة، أما النفس فهي أصلاً ليست كينونة ناجزة، إنها مشروع يتكامل.

في سورة البقرة وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ۩، قال بَلَدًا آمِنًا ۩، لماذا؟ لأنه لم يكن بلداً أصلاً، كان مُجرَّد وادٍ، غير ذي زرع ولا ماء، قطعة أرض قاحلة، هذا لا يُسمى بلداً، أليس كذلك؟ فطلب من الله أن يجعله بلداً، وبعد أن جعله الله جاء إبراهيم في سورة إبراهيم ليدعو ثانية، فقال هَٰذَا الْبَلَدَ ۩، أعطاه ألف ولام التعريف، لماذا؟ لأنه صار كينونة مُتكامِلة، قبل ذلك لم يكن ناجزاً، فلا ينبغي أن يُحلى بألف ولام، هنا نُدرِك هذا في هذه الآيات العجيبة، هذه قراءة فلسفية في مُنتهى العُمق والأهمية لنا كمُسلِمين، لكي نفهم الدين، لكي نلتحق بأولئكم المُمتازين، الذين يمتازون بفهم الدين، وكما قلنا هو امتياز، فهم الدين هو امتياز لندرة من الناس، لقلة مندورة منزورة من الناس.

قال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩، هذه النفس لا تكون كياناً ناجزاً، بالعكس! إنها تتكامل إذا تكاملت، عبر ماذا؟ عبر العُمر، وآثار الأعمال لا تظهر في زمانية قصيرة، في يوم ويومين وسنة وسنتين، بالعكس! آثار أعمالنا ومُعتاداتنا تظهر في زمانية وسيطة مُتوسِّطة، أو في زمانية طويلة أكثر طبعاً، إذا أحببت أن تعرف هذا فسل نفسك الآن الآتي، قل أعمالي الصالحة التي اعتدتها وألفتها بحمد الله مُنذ عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، الآن ما هي آثارها علىّ؟ لن تتردَّد في أن تجزم قولاً واحداً أنها آثار تكاملية بحمد الله، أعطتك أصالة في الشخصية، أعطتك مزيداً من السكينة والطمأنينة والثقة بالنفس، وكذلك الإيمان بالذات، ليس الإيمان فقط بالله، تُؤمِن بالذات وبالنفس، أعطتك رفعاً وترفيعاً لمُستوى توقعاتك من ذاتك، ولذلك المُؤمِن فاعل بل فعّال، المُؤمِن الذي قال فيه محمد إقبال – رحمة الله عليه – لو صح إيمانه وعزمه ما وقع في هذا الكون إلا ما يُرضيه، فعّال! إنه شخصية تكاملية، شخصية تكاملية استطاعت عبر نضال وجهاد صعب جداً أن تتغلَّب على شتى أنواع القصورات الذاتية.

حين تركب سيارةً – هذا لمَن لا يعرف هذا المُصطلَح، وهو مُصطلَح مشهور جداً ومُبتذَل، أعني مُصطلَح الإنيرشا Inertia – ثم تنزل منها وهي تعدو، تنهب الأرض بسرعة أربعين أو ثلاثين كيلو متراً، لن تستطيع إلا أن تندفع في اتجاهها، لماذا؟ القصور الذاتي، كذلك الذي اعتاد أن يُدخِّن، يجلس في مجلس قد يكون فيه كبراء ومُحترَمون، فإذا رأى علبة السجائر لا يستطيع إلا أن يمد أُصبعه مُباشَرةً، ويُعاقِر واحدة بين شفتيه، قصور ذاتي! ثم يعود إلى نفسه، فيقول لا، هذا لا يليق، لأن هناك كبراء ومُحترَمين ومشايخ، هذا قصور ذاتي، قصور ذاتي عاداتي، قصور ذاتي اجتماعي، قصور ذاتي اجتماعي يجعل الإنسان لا يترك لنفسه مسافة تقويم ومسافة نظر وإعادة نظر قبل أن يخضع للامتثالية الاجتماعية، أن يسير مع الجمهور، عفواً! مع القطيع، أن يسير مع القطيع، كما تسير شاة أو معز أو أُنثى معز، يسير! هذا قصور ذاتي اجتماعي.

كذلك الذي اعتاد أن يجلس كل يوم إلى شلة الأُنس ليلاً أو نهاراً، يغتابون ويكذبون ويأكلون ويُقرِّضون أعراض البرآء، بعد أن يحضر خُطبة – مثلاً – ويبكي من خشية الله ويُعلِن التوبة بينه وبين ربه، إذا عاد إلى هذه الشلة لا يجد نفسه إلا وقد خاض في أعراض الناس، قصور ذاتي اعتيادي، الإلف والعادة! قصور خطير هذا، وهو الذي يُؤثِّر فينا.

ومن هنا نحتاج إلى تربية وإلى كوابح استثنائية، كيما نتغلَّب على شتى أنواع هذه القصورات الذاتية، والغريزة أيضاً قصور ذاتي، إنسان شاب عزب أو حتى مُتزوَّج لكن في مُقتبَل عمره، يشم رائحة امرأة جميلة، فينظر هكذا، فإذا هي على درجة عالية من الجمال، لا يملك نفسه إلا أن ينظر وينظر وينظر، يتشبَّع ويتوسَّع في النظر المُحرَّم الشهيان، إنه قصور ذاتي غرزي، العقل يتعطَّل، الإيمان يتعطَّل، وكل شيئ يتعطَّل الآن، هذا قصور ذاتي غرزي، لكي يتحرَّك في اتجاه الغريزة، الغريزة هكذا تسير، وهو يتحرَّك في اتجاهها، وهذا قصور ذاتي.

إذن نحتاج إلى كوابح استثنائية، وإلى قدرة نضالية من نوع مُتميِّز، كيما نتغلَّب على هذه القصورات، وبلُغة القرآن العظيم كي نقتحم العقبات، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۩، لابد أن نقتحم العقبات، لا تستطيع أن تقتحم العقبات وأنت خاضع للقصور، مُستحيل فيزيائياً! أليس كذلك؟ تحتاج إلى قوة أكبر من قوة القصور، كيما تقتحم ماذا؟ العقبة، هذا فيزيائياً ومحفوظ رياضياً، ويأتي الصوم هنا، إنه الوسيلة الأكثر نجاعةً، التي تستطيع أن تُؤدي هذه المُهشمة على وجه مُمتاز بل مُتميِّز، الصوم هو الذي يُعيد بل يُصحِّح توقعاتنا الذاتية، ما أعظم تواضعنا! نحن مُتواضِعون جداً في التوقع من أنفسنا، المُدخِّن الذي يُدخِّن من ثلاثين سنة يقول لك يستحيل أن أترك التدخين في هذا العُمر المُتأخِّر، إن توقعه من ذاته جد مُتواضِع وسخيف، لكن يأتي الصوم بضربة واحدة لكي يقول له كلا، أنت مُضابِع بطريقة خاطئة، أنت لا تعرف قدر نفسك، أنت كافر بذاتك، إذا أردت أن تُعلِن إيمانك بالله إيماناً حقيقياً لابد أن يرتد وأن يعود وأن يثوب هذا الإيمان في شكل إيمان بالذات، إيمان بنفسك أيضاً، ويستحيل أن تُحقِّق إيمانك بالله على وجه مرضي لله إذا كنت كافراً بذاتك، إذا كانت توقعاتك في مثل هذا المُستوى النازل الواطئ، لا! يأتي الصوم ليقول لك لا، كلا! تستطيع ذلك، وبضربة واحدة، في ضُحى واحد، يُؤذِّن مُؤذِّن الفجر، فتترك السيجارة، تستطيع إذن، تستطيع هذا، في يوم غير يوم رمضان لا تستطيع ذلك، مُستحيل أن تستطيع ذلك ثلاث ساعات أو أربع ساعات، بين قوسين أقول (وفق توقعك)، مُستحيل توقعياً، لكن إمكانياً هل هذا مُستحيل؟ كلا، إنه مُمكِن، ومُمكِن جداً، الصوم يُعيد إليك إيمانك بذاتك إذا أردته، وهنا – كما قلت لكم – أُريد أن أُسجِّل حقيقة أُخرى، إذا أردته!

الذي يستمع إلى خُطبة كخُطبة اليوم يُمكِن أن ينتفع كثيراً أو قليلاً، وهو يقول مفهومة واستفدت منها، واحد آخر يقول لا، هذه فلسفية ولم أفهم، لأنه مُعتاد أن يستمع إلى مشايخ المنابر أو مشايخ الفضائيات وهو يشرب الشاي ويتكلَّم في الموبايل Mobile وهو نصف نعسان، ومع ذلك يفهم، في الحقيقة لأنهم لا يقولون شيئاً، إنهم يقولون له كل ما يعلمه وهو صغير، ولذلك يفهم، وهو مُرتاح ومُلتذ، لا! لكن هل تفهم إذا أردت أن تفهم اليوم أو لا تفهم؟ تفهم وبسهولة، بل وتنتفع، ومن هنا تأكيد القرآن العظيم على ماذا؟ على الإرادة مَدخلاً للوعي، وعلى الوعي مَدخلاً للسلوك، هذه فلسفة الإصلاح القرآنية، كيف؟

الله يقول وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ۩، قال لِمَنْ أَرَادَ ۩، ذَلِكَ خَيْرٌ – في سورة الروم – لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۩، إذا أردت، إذا عندك الإرادة، إذا أردت أن تقرأ القرآن وأن تفهم، فسوف تستطيع أن تقرأ وتستطيع أن تفهم، إذا أردت! والعكس إذا لم تُرِد، لن تفهم، حتى لو قرأت، فالإرادة مُدخل للوعي، نحن نفهم أن الإرادة مَدخل للعمل، هذا صحيح، و هو مفهوم لنا جميعاً، لكن لم نفهم بشكل قرآني وعميق أو مُعمَّق أن الإرادة مُدخل للوعي، مُدخل للتعمق، مُدخل لاختبار وإعادة اختبار المفهومات، نعم! أي المفاهيم، مُدخل لاختبار وإعادة اختبار المفهومات، الإرادة! هذا موضوع آخر، يحتاج إلى مُناسَبة أُخرى، لكي نتوسَّع فيه، الإرادة مُدخلاً للوعي، مُدخلاً للفهم، والوعي المُدخل الوحيد للسلوك، للعمل الصالح، للعمل المُبرَّر والمبرور عند الله، الوعي! وليس العادة، وليس التقليد، وليس الإلف، انتبهوا! 

ومن هنا هذا الدين العظيم لم يُحرِّج بل لم يُحبِّذ أصلاً أن نصوم كل يوم، لماذا؟ لأن هذا العمل بهذا الاعتياد الدائمي لا يتبرَّر عند الله، يُصبِح عادة، لا! لذلك كان أحب الصيام إلى الله هو صوم داود، كان يصوم يوماً ويُفطِر يوماً، وهذا ما يكسر أسر العادة، يعتق الإنسان من رق وعبودية العادة.

إذن الإنسان فيه تلكم الإمكانات وهذه الاستعدادات التي أشرت إليها، التقائية والفجورية المُتمازِجة، التي تحتاج إلى نضالية عالية مُتمرِّسة، كيما نُشحِّر النوايا ونُصفي القلوب ونصدق الله – عز وجل – العزم والقصد، هذا نضال عالٍ جداً جداً، ونُحارِب أيضاً على جبهات ماذا؟ على جبهات المُكامَعة مع كل أنواع القصورات الذاتية، والصوم – كما قلت – يأتي رقم واحد في هذه السبيل، الصوم!

النبي حين يقول فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم، إني صائم، هل يفهم أحد من هذا القول النبوي الكريم أن الرفث والفسوق والعصيان والمُشاتَمة والمُسابة في غير رمضان لا بأس بها إذن؟ لا، هذا مُستحيل، النبي لا يقول هذا، كل هذه الأشياء مرذولة ومقبوحة في رمضان وفي غير رمضان، للصائمين وغير الصوّام، ولكن لماذا خُصَّ الصوم بالذات؟ حين تُطرَح هذه القضية نعلم أنه خُصَّ الصوم بالذات لأن الصوم كما بان ووضح لنا جميعاً هو الذي يستطيع أن يُحطِّم أسر العادة، هو الذي يستطيع أن يُنقِذنا من مُجاراة ماذا؟ من مُجاراة القصورات المُختلِفة، الصوم! فهذه رسالته أصلاً، هذه هي رسالته – أيها الإخوة والأخوات -، هذه رسالة الصوم التي يحتاجها النبي والولي والمُؤمِن والمُؤمِنة والكبير والصغير والذكر والأُنثى والفقير والغني، الكل يحتاج إلى هذه التربية، هذه هي حكمة الصوم التي تنطبق وتنطلي على الجميع، كل مَن أراد أن يصوم صوماً حقيقياً ينضوي تحت هذه الحكمة وهذا المقصد، الكل! ليس فقط الأغنياء، كيما يشعرون بالفقراء، لا! هناك شيئ أبعد من ذلك بكثير، هو هذا.

ولذلك الصوم – حين نصوم – هو جزاء ذاته، ماذا تُريد أكبر من هذا الجزاء؟ أنك تتغلَّب على غرائزك، تتغلَّب على قصوراتك، تخرج من أسر العادات، وفي هذا إشارة إلى أن مُعظَم – إن لم يكن كل – مُعظَم ذنوب العباد المُهلِكة المُوبِقة إنما منشأها ماذا؟ الإلف والعادة، صدِّقوني! الإلف والعادة.

الذي يزني مرة أو يسرق مرة أو يغتاب أو… أو… أو… إلى آخره! مرة واحدة، على سبيل غلبة الشهوة وإغواء الشيطان، ثم يتوب توبةً نصوحاً، يُعفّي الله على آثاره، بالعكس! ويُبدِّل الله سيئاته حسنات، انتهى! عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۩، لكن الذي يفعل هذا بشكل دائم، لا يكاد يفرغ من التوبة حتى يتقحَّم ورطة المعصية مرة أُخرى، وهو يبكي، ويُقسِم الأقسام المُغلَّظة وأنا أُصدِّقه أنه لا يُريد، وأنه كان صادقاً في توبته، أقول ولكنه ليس صادقاً في إيمانه، لم يفهم كيف يكون الإيمان، لم يفهم كيف يستعين بالصبر والصلاة، لابد من الصبر، الصوم! إنه شهر الصبر، لم يفهم كيف تكون الاستعانة بالصوم.

ولذلك – صدِّقوني – أنا أحياناً أكون مُحبَطاً، أشعر بأن رمضان سيأتي، ونستفيد منه بعض الفوائد المرحلية الموقوتة، ريثما فقط يترحَّل، ثم نعود كما كنا، لم نستفد، ليس هذا الصوم الذي يُريده الله – تبارك وتعالى -، مُستحيل أن هذا الصوم الذي يُريده الله، وصدِّقوني – كما قال نبينا عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن صام هذا الصوم فصومه وفطره عند الله سواء، مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، النبي يقول هذا، وطبعاً ليس قول الزور وحده، فهناك شرب الخمر والزنا والغيبة والنميمة والغش والأحقاد والنفس المُلتاثة المريضة التي لا تسعد بسعادة المُؤمِنين ولا تشقى بشقائهم، بل العكس هو الصحيح، العكس هو الصحيح! ألا ينطبق كل هذا عليها؟ كل هذا ينطبق عليها، لكن النبي دائماً يأتي بمثال واحد، العقل لابد أن يقوم بمُهِمة التجريد، أليس كذلك؟ النبي أتى بمثال، يعني ماذا؟ هناك البغي التي سقت كلباً، رق قلبها وحنت على كلب بلغ به العطش مبلغاً، فنزلت البئر وملأت خفها، ما هو المُهِم في هذا الحديث المعروف في الصحيح؟ شكر الله لها، فغفر لها، بغي! واحد يقول لا، أنا لست بغياً، أنا رجل، لست أُنثى! لا يا أخي، لابد أن تُجرِّد، نُجرِّد من البغي الأُنثى ماذا؟ معنى الإنسان، فيستوي بعد ذلك الذكر والأُنثى، ولنُجرِّد من معنى الأُنثى البغي معنى الإنسان الخطّاء بالزنا والبغاء أو بغيره، وهكذا نُجرِّد معنى الحديث الصحيح ونفهم الحديث.

العقل هو صاحب مُهِمة التجريد، افهموا ولا تكونوا حرفيين وظواهريين، لا يُمكِن أن تسير الحياة إلا بهذه القدرة التجريدية، والنبي يقول مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، لأن أكثر حياتنا زور في زور وتزييف في تزييف وتمثيل في تمثيل وكذب في كذب، هكذا يتداعى بُنيان حتى المُجتمَع والهيئة الاجتماعية، بهذا التزييف، من أعلى مُستويات الساسة والقادة إلى مُستويات العلماء والوعاظ إلى مُستويات العامة والدهماء، حياة زور وتزييف وكذب.

جرِّدوا منه معنى الإثم، الكبير والصغير، يصح لكم فهم الحديث على وجهه، مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، لماذا تصوم إذن عن الطعام وما إلى ذلك؟ تُتعِب نفسك أنت، لا! الله لا يحتاج هذا، لأن الله لا يحتاج أصلاً أن تمتنع أنت عن الطعام والشراب ثم تضع نُقطة، لا! هو يُريد لك هذا، هو لا يحتاج، هو يُريد لك ومن أجلك وبسببك أن تفعل هذا، كيما تنصلح، كما قلنا فُرصة لا تُقادَر، لا يُقادَر قدرها ولا تُقدَّر بثمن، للإصلاح الكياني، المعنوي والمادي – أيها الإخوة والأخوات -، هذا هو، فإذا فهمنا الصوم من هذا المنظور ومن هذه الحيثية نكون قد بدأنا وشرعنا في فهمه – أعتقد – فهماً صحيحاً وفهماً عميقاً، وسوف نتسلَّح بعد ذلك سلاحاً لإصلاح عيوباً ورتق خلالنا ورفو ما وهى من ثوب النفس والروح،  بهذا الصوم – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لكل شيئ زكاة، وزكاة البدن الصوم، هنا قال زكاة البدن، وهذا موضوع الُخطبة الثانية – إن شاء الله – بُعيد قليل، هذا رواه ابن ماجه، ويقول في الحديث الذي رواه أحمد وغيره صوم شهر الصبر – وهو رمضان – وثلاثةِ – بعضهم ضبطها بالرفع، تتجه لي بالكسر، هذا أحسن – أيام من كل شهر يُذهِبن وحر الصدر، إذن هذه التربية ماذا؟ والإصلاح ماذا؟ المعنوي، ما هو وحر الصدر؟ الغش والحقد والحسد وما إلى ذلكم، باطن الإثم! باطن الإثم كيف يذهب؟ بصيام رمضان وثلاثة أيام على الأقل من كل شهر – بإذن الله -، لمَن فهم الصوم، لكن الذي يصوم ويُصلي التراويح وربما في المسجد بين الترويحة والترويحة يغتاب الناس ويتحدَّث عنهم وينفث سمومه ويُحرِّك حسده، هذا ما صام أصلاً ولا صلى ولا عرف شيئاً أبداً، لأن وحر صدره ازداد ولم يذهب، ما المُشكِلة إذن؟ المُشكِلة أنه لم يفهم، هذا يُعذِّب نفسه، يُعنِت نفسه، ولا يصوم، الله غني عن تعذيب نفسه كما قال النبي، الله غني عن تعذيب هذا ومثله نفسه.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يفتح لنا منادح النظر، وأن يُفيض علينا بلوامع الفكر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، آمين، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                              (الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أيها الإخوة والأخوات:

لكل شيئ زكاة، وزكاة البدن الصوم، ما هي الزكاة؟ الزكاة هي تلكم المبالغ والأنصباء التي نُخرِجها من أموالنا تطهيراً، كما قال القرآن الكريم تطهيراً، والتطهير يكون من ماذا؟ من الأوضار والأخباث، ولذلك سُميت هذه الزكوات والصدقات أوضار الناس، وبُنيَ عليه حُرمة أن يتناولها أهل بيت النبوة، لأن الله شرَّفهم أن يتناولوا أوساخ الناس، النبي قال إنما هي أوساخ الناس، قال هذه لا تليق بنا، هذه أوساخ الناس، تُطهِّرهم من أخباثهم وتُطهِّر أموالهم أصلاً من أخباثها وأوضارها، تُطهِّر نفوسهم كما أموالهم من أخباثها وأوضارها.

إذن فهمنا الآن معنى الزكاة على هذا النحو، فكيف يكون الصوم زكاةً للبدن؟ يكون تطهيراً للبدن من أوضاره وأخباثه وبلُغة الطب من سمومه، سموم كثيرة جداً نتناولها، طبعاً كميات السم التي يتسمَّم بها الإنسان المُعاصِر أكثر أضعافاً مُضاعَفة من تلكم التي كان يتسمَّم بها الإنسان قبل مائتي سنة أو قبل ألفي سنة، طبعاً هناك التلوث البيئي بكل أنواعه، كل هذا له أثر، حتى الطعام الذي نتناوله والشراب الذي نشربه كله مُلوَّث ومُسمَّم، مُضدات الأكسدة هذه التي نتناولها كلها سموم خطيرة جداً جداً، ولها علاقة بشتى أنواع السرطانات، مُكسِبات الطعم واللون والرائحة أو المُنكِّهات – إن جازت ترجمتها كذلك – كلها مواد مُسمَّمة، والبدن حين يكون مشغولاً ليل نهار بالهضم وليل نهار بالأيض أو الميتابوليزم Metabolism لا تكون عنده فُرصة أو بالأحرى لا يكون عند الكبد فُرصة أن يتفرَّغ لتصفية البدن من هذه السموم، مشغول بأشياء أُخرى، لكن يختف الأمر إذا توقَّفنا عن الطعام ثنتي عشرة ساعة وأحياناً ثماني عشرة ساعة في الصيف الشديد، ماذا يفعل البدن؟ الكبد يتفرَّغ لتخلية الجسم من هذه السموم، وإعادة عملياتها كما يُقال، يتفرَّغ لإعادة عملياتها.

البدن نفسه بأجهزته المُختلِفة يبدأ ينظر أين هي الأماكن المعطوبة، أين هي الأماكن التي تحتاج إلى الإصلاح، ويبدأ يُعالِجها ويُصلِحها، أكثر من ذلك: الله يقول وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۩، إلى أن يقول وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۩، والسادة المُفسِّرون فهموا من هذه الآية أن هذا يدخل في أولئكم الذين يطيقونه، ومعنى أطاقه أي استطاعه ولكن بجهد ومشقة كبيرين، لا يُقال الآن أنا أطيق حمل الخاتم، ما هذا؟ لا! لا يُقال هذا، ولكن هل تُطيق حمل هذا الحمل؟ أطيقه، أي معنى هذا ماذا؟ بصعوبة، شيخ كبير يُطيق الصوام، ولذلك هناك قراءة يُطوِّقونه، أي وعلى الذين يُطوِّقونه، مثل الغُل، مثل الطوق في العُنق، صعب جداً.

الله قال في حق هؤلاء أيضاً وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۩، ثم قال إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، لأن من الصعب جداً أن يعلموا في ذلكم العصر المُتقدِّم أن هذا خيرٌ لهم، كيف خير لشيخ هِم مُتهدِّم كبير هش أن يصوم؟ لا، العلماء يعرفون مُنذ ثلاثينيات القرن العشرين أن تقليل السعرات – أي الــ Calories، السعرات الحرارية – التي يتناولها الجسم والإنسان مُفيد جداً له صحياً ومُفيد في عملية إطالة العمر، سوف تقول لي إطالة العمر؟ هذا إلحاد! ليس إلحاداً، هذا قرآن، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، الدين  غير حتى بعض كلام العلماء، الدين واضح جداً، القرآن يقول هذا، ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۩، هناك أجلان للإنسان، واضح جداً هذا، يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۩، ولا يزيد في العمر إلا البر، ورأيت ملك الموت جاء يقبض روح شاب، فجاءه بره بوالديه، فأخَّر عنه ملك الموت، وهذا الموضوع تناولناه بتفصيل – بحمد الله – وإسهاب قبل بضع سنوات، لن أعود إليه الآن، لكن هذا هو الدين، هذا هو ظاهر النصوص الإلهية والنبوية.

يقولون له تأثير كبير وملحوظ على تطويل عمر الإنسان والحيوان، أي تقليل السعرات، لماذا؟ لأنكم تعلمون أن الإنسان حين يتناول طعاماً لابد أن تعمل وأن تقوم عملية الهضم والتمثل، الأيض بشكل عام، وهنا لابد ان تبدأ الخلايا تعمل مُستخدِمة الأكسجين Oxygen لإنتاج الطاقة اللازمة في هذه العمليات، وهذا ما يُعرَف بعملية الأكسدة، أي الـــ Oxidation، وعملية الأكسدة دائماً في كل خلية ينتج عنها ما يُعرَف بالــ Free radicals، أي الجذريات الحرة، التي تعمل وتتطاير، تتطاير هي في الخليلة من هنا إلى هنا، تضرب الدي إن إيه DNA، تضرب غشاء الخلية، تتطاير باستمرار، جذريات ملعونة مُهلِكة، هي التي تسبِّب موتنا وشيخوختنا في المدى البعيد، إذا تهرَّأ جدار الخلية ماتت الخلية، ما السر هنا الأساسي؟ هذه الجذريات الحرة، أي الــ Free radicals، وإذا ضربت الدي إن إيه DNA خاصة في أطرافه – أي الــ Telomeres، في الأطراف، تُسمى باللُغة العربية القُسيمات المُتطرِّفة، أي الــ Telomeres – أيضاً تموت الخلية، انتهى الدي إن إيه DNA وذهب كل شيئ، فهذا ما نتج عن عملية الأكسدة، ومن هنا هناك ما يُعرَف بمُضدات الأكسدة، لكي تُحارِب هذه الجذريات الحرة، جميل!

افترض العلماء أننا قللنا كمية الطعام التي يتناولها الإنسان، ماذا لو صام الإنسان – مثلاً – نصف اليوم؟ ماذا لو صام ثنتي عشرة ساعة ولو لم يتناول شيئاً؟ ماذا يكون؟ طبعاً الجسم سيشعر أن هناك حالة ماذا؟ حالة مجاعة، فيُوفِّر عملية إنتاج الطاقة للأوقات الحرجة أو لأوقات الحراجة، وهكذا لا تُوجَد عملية أكسدة، ولا تُوجَد عملية  انطلاق للجذريات الحرة، وتعيش الخلية فترة أطول، جميل!

جرَّب العلماء هذا في التسعينيات، في فُرصة سعيدة ونادرة جداً، فيما يُعرَف بالقُبة الأحيائية الثانية، أي الــ Biosphere 2، التي قام عليها العالم المشهور جداً والــ Pharmakologe – مشهور جداً وهو أمريكي – والفورد  Walford، أعني روي والفورد Roy Walford، وثبت له بعد ذلك – هذه قضية طويلة جداً، موجودة ومُوثَّقة في المراجع العلمية – أن تقليل ما يتناوله الجسم من سعرات حرارية فعلاً يُرمِّم الجسم، الضغط ينزل والكوليسترول Cholesterol، كل عمليات الجسم تُصبِح مُمتازة، وتُصبِح Optimal، أي مثالية، وهذا ثبت له على نفسه وعلى زملائه في القُبة الأحيائية الثانية، كانت هناك قُبة، عملوا لهم قُبة وعاشوا فيها، وهذه قضية معروفة للباحثين.

بعد ذلك ذهب علماء خُطوة أُخرى، جرَّبوا هذا على الجرذان، جرذ – أي فأر كبير، ابن عرس – يُعطى نظاماً أو يُتعامَل معه بنظام غذائي عادي، جرذ آخر لا يُتعامَل معه هكذا، يُتعامَل معه بنظام قليل السعرات، فارتفعت مُتوسِّطات أو ارتفع مُتوسِّط الحياة عند الجرذ الذي يُعالَج بالنظام الجديد من ثلاثين إلى أربعين في المائة، تجربة! ولكن من الجرذ إلى الإنسان قفزة طويلة جداً، إذن لابد أن نمر بحلقة مُتوسِّطة، فمروا بقرود تُسمى قرود المكاك الريسوسي، أي الــ Rhesus macaque monkeys، وجرَّبوا عليها، هذه تعيش في مُختبَرات لعشرين سنة، جميل! أي هذا قريب، مُناسِبة هذه للبحث تماماً، جرَّبوا عليها نفس النظام، وبعد ثنتي عشرة سنة فعلاً القرود التي عوملت بالنظام الجديد – نظام الصيام – حالتها بشكل عام أفضل بكثير من القرود الأُخرى، بل وعاشت أكثر، مات من هذه في عشر سنوات عشرة قرود، ومن القرود التي عوملت بالنظام الجديد أربعة قرود فقط، بفارق ستة قرود، فأصبحت الخُطوة إلى الإنسان قريبة جداً، والآن العلماء على شبه يقين أن الصيام يزيد في ماذا؟ في مُتوسِّط عمر الإنسان، وصدق الله القائل وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، حتى الكبار! وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩. 

ولعل هذا التفسير العلمي يُوضِّح لنا بعض إيضاح أو توضيح لماذا يعيش طويلاً – بحمد الله – أكثر علماء المُسلِمين وخاصة الأتقياء منهم، المُتمسِّكين بآداب الشريعة، حفّاظ الكتاب والسُنة، أهل الصلاح والزُهد، أهل الصيام والقيام، يعيشون أعماراً مُتطاوِلة، تصل إلى ثمانين أو تسعين أو مائة سنة، وبعضهم حتى لا يُجاوِز المائة، وليس كذلك فحسب، إنهم لا يذهبون ثلاثين سنة إلى الأمام ويتجاوزوننا فقط بحسب الزمن، وإنما أيضاً في عافية وحيوية، مُمتَّعين بعقولهم وذاكراتهم، شيئ غريب!

الآن اختبر إنساناً عادياً مِمَن لا علاقة له بالتقوى والالتزام والدين والعلم، تجده في الثمانين تقريباً خرفاً بالكامل، لكن العالم الحق ليس كذلك، كما رأيتم العلّامة البوطي – مثلاً -، هذا قريب من الثمانين، ما شاء الله، يحفظ الكتاب والسُنة والشعر، ومُهتَم بأحوال المُسلِمين وبالسياسة وبالفكر، ويذهب ويجيء على رجليه، ونسأل الله أن يمد في أعمار علمائنا، لأنهم بركاتنا، هؤلاء بركاتنا، ذوو أسناننا، لماذا؟ هذا هو، هناك الصيام والقيام، حتى القيام له تأثير كبير جداً، النوم سبع ساعات أو ست ساعات أو حتى خمس ساعات بشكل مُتواصِل أو أكثر من خمس ساعات بشكل مُتواصِل له تأثير مُضِر جداً على الشرايين وتصلبها، إذن لابد أن تتحرَّك، الذي يقوم الليل لا ينام خمس ساعات بشكل مُتواصِل، هذا غير موجود، خمس ساعات ويقوم، وهكذا! قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في قيام الليل إنه مطردة للداء عن الجسد، صدق رسول الله، طبعاً أهل الصيام وأهل القيام هذا حالهم.

حدَّث الإمام وأختم بهذا ابن حجر الهيتمي – أحمد بن حجر الهيتمي، قدَّس الله سره، المكي الشافعي – في كتابه إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام عن رجل كان معروفاً بكثرة الصلاة والقيام والصيام، اسمه عبد الله بن غالب، لما دُفِن – قدَّس الله سره الكريم – عبق من ترابه أو من تربته شيئ هو أطيب من المسك، وعجب الناس، كل الناس شموا هذا، شيئ أطيب من المسك، من قبره ومن تربته! فرآه أحد إخوانه في المنام، قال يا عبد الله ما هذا الذي عبق وهو أعبق من المسك من تُربتك؟ قال إنه التلاوة والظمأ، تلاوة القرآن والظمأ – أي الصوم -، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه البخاري ومُسلِم عن أبي هُريرة، يقول لخلوف فم الصائم أطيب عند الله – في رواية يوم القيامة، وفي رواية من غيرها – يوم القيامة من ريح المسك، هل انتبهتم إلى النُكتة العجيبة في هذا الحديث؟ تعلمون الحديث الآخر المُخرَّج في الصحيح، أخرجه البخاري وغير البخاري، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما من كلم – أي جُرح – يُكلَم في سبيل الله والله – تبارك وتعالى – أعلم بمَن يُكلَم في سبيله إلا أتى يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك، إنه لون الشهادة، لكن خلوف الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، إذن أيهما أطيب: دم الشهيد أو خلوف الصائم؟ خلوف الصائم.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُحقِّقنا بحقيقة الصيام، وأن يُعيننا على أن نصوم هذا الشهر وغيره كما يُحِب ويرضى – سُبحانه وتعالى -.

اللهم عُد علينا يا عوّاد بفضلك وبرحمتك، يا رؤوف، يا رحيم، يا كريم، يا واسع، يا غني، يا رب العالمين.

اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقياً ولا محروماً.

اللهم بارك لنا فيما بقيَ لنا من شعبان، وبلِّغنا اللهم رمضان، واجعلنا فيه من عتقائك من نار جهنم، والمُسلِمين والمُسلِمين أجمعين، بفضلك ومنّك ورحمتك، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(30/9/2005)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: