إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العزيز بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ۩ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ۩ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ۩ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لّا يَشْعُرُونَ ۩ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ۩ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ۩ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ۩ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ۩ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ۩ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ۩ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ۩ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ ۩ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ۩ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ۩ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ ۩ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ۩ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ۩ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

أبدأ من حيث انتهيت في الخُطبة السابقة، قال الله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، طبيعةُ الإنسان المُزدوَجة هى جوهرُ دراما الإنسان ومأساة الإنسان، لأنه لا ينطوي فقط على استعدادٍ للخير والتقوى، بل هو مُشتمِلٌ مُنطوٍ أيضاً على استعداد للفجور والعصيان والشر والتهديم والتهويم والسير بلا خُطة والسير في ضلال على غير هدىً والسير بلا انضباط، وكل أولئكم بعض معنى الفجور، من قولهم فجر الراكبُ إذا مال عن سرجه، فالفجور أصله الميل، وبعضهم كأبي هلال العسكري قال أصل الفجور من أفجرتُ السد، السد الذي يُبنى على النهر، ومعنى أفجرتُ السد أي حفرت فيه أو نقبت فيه نقباً عظيماً فانبعث الماء منه كل مُنبعَث، ثم عقَّب أبو هلال – رحمه الله – فقال فكما لا يُقال لمَن أفجر في السد شيئاً صغيراً إنه أفجره لا يُقال أيضاً لمَن أتى ذنباً صغيراً إنه فاجر،إنما الصغور مُختصٌ بالذنوب العظائم وبالذنوب الكبائر، ولذلك إذا اجتمع الفسق والعصيان والفجور فأبشعها وأشنعها الفجور، يليها الفسق، وأدناها العصيان، وهذا إذا اجتمعت، أما إذا تفرقت فقد يُبدَل بعضها من بعض ويحل بعضها محل بعض كما هو الاستعمال، قال الله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۩ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۩، هذا من أخطر – أحبابي في الله – ما لاحظه مَن أشكل عليهم الإنسان، كما قال مرةً أبو حيان التوحيدي إن الإنسان أشكل على الإنسان، التراث الإسلامي سابق بمراحل في الزمن وبمراحل في الأطروحة على التراث الغربي وربما سواه في أشكلة الإنسان، قضايا الإنسان قضايا مُركَّبة ومُعقَّدة بلا شك، والإنسان أشكل على الإنسان فوقف الإنسان يدرس نفسه ووقف الإنسان يُسائل نفسه ووقف الإنسان يُقارِب ذاته ويُحاوِل أن يعي ذاته، لا يأخذ كل شيئ مأخذ المُسلَّمات ومأخذ المقبولات، مأخذ ما يرتاح هو إليه وما يشعر بأنه يُناسِبه أو يُلائمه أو ينسجم مع أهدافه ورغائبه وأغراضه، الإنسان أشكل على الإنسان، من ضمن هذا الإشكال الواسع المُمتَد بل الشاسع المهول هذه الليونة وهذه اللدائنية وهذه المطواعية المُقلِقة والمُخيفة بل المُرعِبة لدى الإنسان، ماذا أُريد بهذه الليونة أو المطواعية؟ أُريد أن أقدس القديسين وأصلح الأولياء قد يهوي، ليس بالضرورة أن يبقى حتى النهاية أقدس القديسين وأصلح الأولياء، لا يُستثنى إلا المعصوم، أي الأنبياء فقط، مَن عدا الأنبياء ليسوا بمعصومين، ولذلك يُمكِن أن يهوي هذا القديس أو هذا الولي أو هذا العارف بالله من حالق، فينتهي به الأمر بوزة عرجاء أو حتى – ماذا أقول؟ – إنساناً محقوراً في السماوات وفي الأرض والعياذ بالله، وهنا لن أُطيل عليكم بتذكيركم بآيات الأعراف التي تقول وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ ۩ إلى أن يقول الله – تبارك وتعالى – في نعته – والعياذ بالله من نعتٍ ومنعوت، أبعده الله من نعتٍ ومنعوت – فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ۩، بعد أن بدأ ولياً من أولياء الله قيل يتوفَّر على معرفة الإسم الأعظم انتهى به الأمر – أكرمكم الله – كلباً مُخسأً، كلباً خاسئاً، قال الله إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ۩، علماً بأن أعاظم الفلاسفة والأدباء والفنانين والمُفكِّرين درسوا هذه المسألة وأرقتهم جداً، وحريٌ بها أن تُؤرِّقني وأن تُؤرِّقكم وأن تُؤرِّقك كل أحد، ليكون السؤال الذي ينطرح ويثور في وجه كل واحدٍ منا في كل مرة وكل حين ليت شعري، إلى ما انتهي؟ كيف سأنتهي؟ هل سأُواصِل مشواري وسفري في تحسين نفسي وفي تعظيم نفسي وفي مُبارَكة نفسي وفي إصلاح نفسي وفي تذهيب نفسي أم أنني أيضاً سأهوي مع مَن هوى والعياذ بالله؟

رينيه ديكارت René Descartes هو صاحب العبارة المشهورة التي تقول أقدس القديسين يُمكِن أن يرتكب أشنع الجرائم، أي وينتهي به الأمر شيطاناً مريداً وعفريتاً عتياً، مطواعية الإنسان شيئ مُخيف، طبعاً على نطاق ضيق وبسيط يُمكِن أن يلحظ الإنسان هذه المطواعية في إطار بعض العادات، هناك أشياء مُعينة أنت الآن لا تُطيقها ولا يُمكِن أن تُطيقها، لكن بعد حين – خاصة إذا لزتك واضطرتك الظروف إلى التعاطي مع هذه العادة – قد تتعاطاها ثم بعد ذلك تنسجم معها تماماً، ولعلك لا تعود تسأل نفسك عجيبٌ وغريبٌ أمري كل الغرابة، كيف طاوعتني نفسي؟ كيف لان قيادها بين يدي وصرت أتعاطى ما كنت لا يُمكِن أن أتصور – مُجرَّد تصور – أن أتعاطاه؟ هذه هى، هذه مطواعية الإنسان، لذلك انتبهوا فهذه المسألة مُهِمة جداً أيضاً في الحكم على الآخرين، لا ينبغي أن نُعنى كثيراً بالحكم على الآخرين وأن نُطلِق فقط الأحكام، كم وكم تكلمت في هذا الموضوع؟ لكن من هذه الزاورية أيضاً ينبغي أن نُعيد التذكير فانتبهوا، لا ينبغي أن نحكم على الآخرين وأن نهتم كثيراً بالحكم على الآخرين، لماذا؟ لأننا مُرشَّحون أن نكون كالآخرين، منطق الحكّام على الناس الذي يقول لو كنت مكانه – أعوذ بالله – ما تصورت أن أفعل فعله هو منطق خاطيء مُبتدأً ومُنتهىً، أنت لست مكانه، كيف يُمكِن لك أن تُطلِق مثل هذا التقرير؟ لو كنت مكانه لم أكن لأفعل فعله بل كنت لأفعل عكس فعله تماماً ولأكونن من الصالحين، أنى لك هذا؟ كيف عرفت؟ أنت الآن لست مكانه، أنت الآن فقير مُعتاز – مثلاً – تتعاطف مع الفقراء وترق للمساكين وللمحاويج وللمُعدمين من الناس فأهلاً وسهلاً، هذا شيئ جميل، تكره كبرياء الأغنياء وترفع الأغنياء على هؤلاء المحاويج المساكين لأنك فقير وهذا مفهوم تماماً، لكن ما أدرانا لو كنت غنياً – لو صرت غنياً – أنك تتخلى بل تكف بهذا المنطق أصلاً ورأساً وتعود تُفكِّر كالأغنياء الآن – كبعض الأغنياء طبعاً، ليس كل الأغنياء وإنما كبعض الأغنياء – وربما بطريقة أشرس وأكثر قسوة منهم؟ وربما أيضاً تزيد أو تزداد تعاطفاً مع الفقراء، لا أحد يدري، المسألة في حيز الاحتمال، لا أنت تدري ولا أنا، لا يدري هذا إلا الله تبارك وتعالى، فقط وحده الذي يدري ماذا كانوا فاعلين هو الله عز وجل، الله الذي يعلم لو أنه وضعك في الشرط الفلاني وفي الظرف الفلاني ما عساها تكون استجابتك، هو وحده يعلم هذا، قال الله وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ۩، الله يعلم هذا، أنهم سيعودون، لكن نحن لا نعلم، هو الذي يعلم، ولا أحد يجوز له أيضاً أن يغتصب هذه الميزة الفريدة من مزايا الله عز وجل، هذه لله وحده، هذا المنطق الذي يقول لو كنت مكانه باطل تماماً، هو منطق استعراضي ومنطق فخور مُزدهٍ فلا يليق بالمُؤمِن المُتواضِع ولا بالإنسان الواعي بذاته، فمرونة الإنسان ولدائنية الإنسان ومطواعية الإنسان مسألة خطيرة جداً، طبعاً والسر فيها قول الله فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا – هذا هو السر، أنه مُلهَم الفجور، عنده لياقة فطرية طبيعية وعنده استعداد طبيعي فطري أن يكون شيطاناً مريداً وأن يفعل أخس الجرائم وأبشع القبائح وأن يقترف كل عظيمة ولا يطرف جفن ويعيش ويموت على هذا، هذا مُمكِن جداً – وَتَقْوَاهَا ۩، هنا يأتي – وهنا انتهينا في الخُطبة السابقة تقريباً – دور الثقافة، على المُجتمَعات الواعية أن تُدرِك هذا، وأعتقد أن هذه المُهِمة – بل هذه المُهِمة التحدي – تقف ضمن المُهِمات الأوائل التي لها أولية وأولوية في المُجتمَعات حتى الدينية وربما بالذات الدينية، هى رقم واحد، لماذا؟ لأنه حين ينجح المُجتمَع المُتدين في إنجاز هذه المُهِمة ينجح في برهنة أن دينه دينٌ صالح وأخلاقي ودين يُحترَم – جديرٌ بالاحترام – وإلا يفشل حتى الدين في رسالته، انتبهوا إلى أن الدين يفشل حتى هنا في رسالته، هذه المُهِمة التحدي أن نُكوِّن ثقافة وأن نبني ثقافة، وهذه الثقافة تتظاهر وتُترجَم أحياناً بل في أحيان كثيرة بشكل مُؤسَّساتي وفي نطق كثيرة جداً كالأدب والفن والفكر والسياسية والخطاب الديني وغيره وغيره وغيره، وتستخدم كل الوسائل، شأنها شأن الثقافة، ثقافة ماذا؟ يُمكِن أن تُدعى بمزاج قرآني ثقافة تقوائية – فَأَلْهَمَهَا ۩ – لأنها ليست ثقافة فاجرة وإنما ثقافة تقوائية، وإذا ذهبنا نستقرأ كتاب الله ونستشيره في كل الموارد التي وردت فيها لفظة التقوى وما اشتُقَ منها وجدنا أن التقوى تُغطي – كما نبَّهت غير مرة – موضوعاتٍ وشؤوناً قد لا يخطر على بال حتى المُتدينين أن التقوى مسيسية العلاقة بها، التقوى أوسع بكثير من أن تُترجِم نفسها فقط في الصلوات وفي الطقوس وفي الزخارف الدينية أحياناً، تُوجَد أشياء أبعد من هذا بكثير، في رأس هذه الأشياء ما فرغنا للتو من التنبيه عليه والإلماع إليه، وهو ماذا؟ وهو أن تتعاطف مع أخيك الإنسان حتى لو كان خاطئاً، حتى لو كان غالطاً، وفرقٌ كبير بين التعاطف مع المُجرِم ومع الغالط ومع الخاطيء ومع المُخطيء وبين التعاطف مع الخطأ ومع الجريمة ومع الغلط، الذي يتعاطف مع الجريمة يُرسِل رسالة في مُنتهى الخطورة تُفيد بأنه مشروع جريمة، قد يتكشف قريباً عن مُجرِم مُخيف مُرعِب، لا أتعاطف مع الجريمة، لكن للأسف بعض المُفكِّرين وبعض الفلاسفة وبعض المُنظِّرين يتعاطفون مع الانحراف ومع الجريمة ومع العتو، وهذا الشيئ خطير جداً، وهو مُفسِد للمجتمع، مُفسِد تماماً للنظام القيمي في المُجتمَع، لكن نحن نتحدَّث فقط عن التعاطف مع المُجرِم ومع الغالط ومع الخاطيء، وندعو له بالهداية ونرجو له الخير في الدُنيا والآخرة، لا نبخل عليه بهذا التعاطف، لكن هذا رهن بماذا؟ باتساعنا الإنساني، هل نحن وسيعون؟ هل لدينا هذا الاتساع الإنساني؟

ترنتيوس Terentius – هذا العبد الروماني الذي أصبح أديباً كبيراً وخلف لنا ست مسرحيات كوميدية عجيبة، والمسرحيات الأخرى ضاعت وغرقت في البحر – كتب مرة يقول أنا إنسان فلا غرابة أن أتفهم كل ما هو إنساني، أنا إنسان أعرف كيف يضعف الإنسان وكيف يخاف وكيف يجبن وكيف يتحطم ويتهشش وكيف يتراجع، أعرف لأنني إنسان، ومَن ذا يقول إنه ليس إنساناً – ملاك مثلاً أستغفر الله أو إله زائف لا يتطرق الخطأ إليه ولا الغلط ولا إرادة الشر – وأن باطنه كظاهره صورة واحدة للطيبوبة وللطيبة والبراءة والطهارة والكمال؟ هذا مُستحيل، هذا ليس الإنسان، الإنسان لا يكون كذلك، هذا كذب، لذلك انظروا إلى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ما أصدقهم، ما أصدقهم مع أنفسهم، طبعاً والذي يصدق مع نفسه يصدق مع الكل، يصدق مع نبيه ومع ربه ومع إخوانه ومع الجمهور، لأنه صادق مع نفسه وحر، والصادق لا يكون إلا حراً – انتبهوا – والعبد لا يُمكِن أن يكون صادقاً، المُستعبَّد في باطنه لا يُمكِن أن يصدق، وهذه تحتاج إلى توضيح، على كل حال بعض الصحابة كانوا يأتون ويُصرِّحون بين يدي رسول الله، يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما يُفضِّل أن يحترق ويُصبِح فحمة – يتفحَّم – على أن يفوه به ويُصرِّح به، كانوا يقولون تأتينا شكوك عجيبة أفكار وريب غريبة جداً يا رسول الله، لكنهم ينفونها ولا يستريحون إليها، والنبي طمأنهم قائلاً ذلك صريح الإيمان، الشيطان يُناوِشكم، فهم كانوا صريحين، إذن نأتي إلى معنى الاتساع، نحن في هذه الخُطبة – بعون الله تبارك وتعالى – وربما في خُطب أخرى نُريد فقط أن نلفت إلى بعض المسائل التي ينبغي أن تُعنى بها الثقافة المنشودة، الآن المُجتمَعات العربية والإسلامية كلها من عند آخرها مدعوة وبلا استثناء إلى إعادة بناء ثقافتها، لا تُؤخَذ الثقافة مأخذ المُسلَّمات ومأخذ المُقدَّسات، كأن يُقال هذه ثقافتنا، لكنها معطوبة، فيها أشياء معطوبة كثيرة وفيها لطخات سود كثيرة، ينبغي أن نهدم ونبني من جديد، أشياء مُعينة ينبغي أن نتخلى عنها، لكن لا وعظاً وتنظيراً وإنما كثقافة كما قلت لكم، وأفضل شيئ أن تتمأسس فتُصبِح هذه الثقافة – إن جاز أن نُسميها الثقافة الوسيعة أو الاتساعية بكل ما تشتمل وتتضمن من معنى الرحمة والكرم والمُسامَحة والتفهم والتعايش والتسامح وإلى آخره – ثقافة بنيوية هيكيلية مُمأسَّسة، كالذي يتكلمون عنه من العنف المُمأسَّس والعنف البنيوي، لا يُصرَّح به ولا يُعطى ضوءاً أخضر في الكلام لكن مُؤسَّسات اجتماعية كثيرة تصدر عنه وتُعزِّزه بطرق خفية ومن الصعب حتى أن تُلاحَق قانونياً في معظم الحالات، هكذا ينبغي أن تكون الثقافة المُمأسَّسة ثقافة اتساعية، وأنا أرى أحبتي في الله – إخواني وأخواتي – أن في الاتساع معنىً إلهياً، لا يتسع هذا الاتساع المُلمَع إليه إلا إنسان علاقته بالله عظيمة، وهو لا يزال يطوي المراحل إلى الله – تبارك وتعالى – ويكدح إلى الله كدحاً، هو إنسان ينمو ويتطور، وبالحري يتناسخ وأن يتناقض، لأنه عالم حي نامٍ، الجامد لا ننتظر منه لا تناقضاً ولا تناسخاً، ضع حجراً أو قطعة حديد ثم عُد إليها بعد سنة وسوف تراه كما هى في نفس الوضعية وبنفس الوضعية، أما الإنسان إن وجدته بعد سنة – وأحياناً بعد عشرين سنة – هو كما هو بنفس الوضعية وفي نفس الوضعية فاعلم إن هذا غير نامٍ، هذا فقد ليس حتى إنسانيته وإنما فقد حياته دون أن يشعر، هو يأكل ويشرب ولكنه ليس حياً بمعنى حياة الروح والوعي، هذا المسكين ميت جامد، ولذلك يُنكِر عليك أنك تتناسخ وأنك تتناقض،كيف تُنكِر علىّ فخري؟ هذا فخري لأنني حي أنمو وأتطور، وبالتالي هذا طبيعي لأنني أنمو وأتطور، في هذا الاتساع – أحبتي في الله – معنىً إلهياً ، لأن الله – تبارك وتعالى – هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ ۩ – وهو الأول والآخر – هو الواسع العليم، وهو أوسع واسع، وسع عباده كلهم، فبعد إذ خلقهم يرزقهم ويرعاهم على أن منهم مَن يكفر به ويُلحِد فيه في ذاته واسمائه وصفاته، ثم يبسط لهم التوبة، يبسط لهم يده – لا إله إلا هو – بالنهار ليتوب مُسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار إلى أن تُشرِق الشمس من مغربها، إلى أن تبرز وتنبعث هذه الآية التي لا ينفع معها إيمان نفساً لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ ۩، ما هذه السعة العجيبة جداً؟ ماذا لو تاب الإنسان قبل وفاته بدقائق على أنه عاش سبعين سنة في الإلحاد والعتو والفجور؟ يقبله ويُدخِله الجنة، ما هذه السعة؟ لا إله إلا الله، سعة عجيبة جداً، فالإنسان الذي يتسع للآخرين ويبسط لهم فرصة ليتغيَّروا ويتحسَّنوا ويتوبوا ويبنوا من جديد فيه معنىً إلهي، هذا إنسان رباني، لذلك كما قال العارفون بالله – عرفنا الله به ودلنا عليه – أعرف الخلق بالحق أرحمهم بالخلق، بقدر قربانك وبقدر قربك من الله – تبارك وتعالى – ومعرفتك بالله تكون ماذا؟ مُتفهِماً أكثر ومُتسامِحاً أكثر ومُتغاضياً أكثر، تغفر وتسمح وتتغاضى وتدعو بالخير، في المُقابِل هناك الضيقون والضيقون جداً، روحهم إبليسية، مُلهِمهم الأكبر إبليس وليس الرحمن لا إله إلا هو، إبليس الذي أقسم – لعنة الله تعالى عليه – وجعل وكده وهدفه وغايته أن يُضِلنا أجمعين إلا مَن استخلص الله برحمته ولرحمته منا، أين هم المُخلَصون؟ باستثناء هؤلاء أقسم – رأسه وستون سيفاً كما يقول العوام – إلا يُغوي عباد الله، فلعنة الله تعالى عليه طبعاً، لهو ضيق جداً، بعض الناس فيه من هذا الضيق ألوان، هذا الطيف واسع جداً جداً جداً، بعض الناس يبلغ بهم اللؤم أنهم لا يتسعون أن يجودوا مما ليس في أيديهم وليس لهم على عباد الله مِمَن تربطهم بهم حتى علاقة مثل صديق أو جار أو أخ أو قريب، كيف هذا؟ ما هذا؟ ما هذا اللؤم العجيب؟ ما هذا الضيق؟ إذا ذهب يدعو لنفسه دعا – ما شاء الله – بما فتح الله، يدعو بالمال وبالعز وبالعلم وبالجمال وبالأولاد وفي الدُنيا وفي الآخرة ولأولاده ولأولاد أولاده ولذُريات ذُرياته وإلى آخره، وهذا جميل فادع، أنت تطلب من من الواسع الكريم لا إله إلا هو، لا يغيض يده فهى سحاّء الليل والنهار، لا يغيضها شيئ، ولو أعطى جميع الخلائق كل ما طلبوا لم ينقص – كما في الحديث المشهور جداً في السُنن – مما عنده شيئ إلا كما ينقص المخيط، الإبرة إذا أُدخِلَت اليم،هل تأخذ منه شيئاً؟ هذا مُلك الله لا إله إلا هو، لكنه إذا ذهب يدعو إلى أخيه أو صديقه أو يجاره يدعو له بأقل مما دعا به لنفسه، وهذا لؤم عجيب جداً، كأنه لا يتصوَّر هذا، كيف أدعو له بمثل ما أدعو به لنفسي؟ يا رجل هل أنت تُنفِق من جيبك؟ هل أنت تُنفِق من كيسك يا رجل؟ ادع له أن يكون مثلك، لن أفترض أنك فعلاً ملائكي النزعة وستدعو له بأن يكون أفضل منك، لن أفترض هذا لأنني لست مُغفلاً، لكن على الأقل ادع له بأن يكون مثلك في العلم وفي الصلاح وفي الأولاد وفي الزوجة الطيبة وفي النعمة وفي العمل الصالح وفي الدنيا والآخرة وله ولأولاده ولذُرياته ولذُريات ذُريات ذُرياته كما تدعو لنفسك وليس بأنقص قيد أنملة، لأنك إنما تُحيل على المليء لا إله إلا هو، أنت لا تُحيل على كنزك يا رجل، لكن الله – عز وجل – لفتنا – الآن لا نحتاج إلى مَن يلفتنا لأن الله سبق ولفتنا – إلى هذه النزعة الشُحية، نزعة قتورة، نزعة الضيق، وكما قلت هى مُستلهَمة من إبليس، إبليس هو الذي يُغذي هذه النزعات – لعنة الله عليه – وليس الرحمن الواسع الكريم لا إله إلا هو، قال الله قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ۩، الله يقول لو أنا ملَّكت أحدكم مفاتح خزائني لن يُنفِق، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، هل خزائن الله تنفذ؟ قال الله مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ ۩، فخزائن باقية ومع ذلك قال لن تُنفِقوا، سيموت العباد بالشر جوعاً وعطشاً وعُرياً، تقول حين أعطي هذا وهذا وهذا ماذا سوف يبقى؟ يا أخي عندك خزائن رحمة الله، لكن هذا الإنسان، فأعوذ بالله مني، أعوذ بالله من الإنسان إذا كان ضيقاً مثل هذا الضيق، لكن في المُقابِل انظروا إلى الجهة الأُخرى، ويتحدَّثون عن الإيمان وعن الدين، هذا هو الدين وهذا الذي يُمكِن أن يُعطيه الدين، الدين يحمل صاحبه – صاحب الدين الحق – على أن يُعطي مَن لا يعرف، لا يعرفهم ولا يعرف أسماءهم ولا أنسابهم ولا عنوانات سكنهم لوهم يعيشون في بلدة أخرى بل في قارة أخرى ومع ذلك يُعطيهم من ماله وعرقه، يُرسِل إليهم عبر آخرين أو عبر أي أسلوب من الأساليب، وهو لا يدري ولكن يُعطيهم ولا يُحِب أن يعرفهم، وأنا أقول لكم المُتدين الحق الرباني لا يُحِب حتى أن يُشكَر، والله يثقل عليه الشكر، لا يُحِب أن تقول له جزاك الله خيراً، هو لا يُحِب هذا وسوف نرى لماذا، لا أُحِب أن تشكرني وأن تقول هذا لي، إن كان من شيئ فهذا لك لكي تنفي عن نفسك الجحود والعقوق، ادع لي بظهر الغيب وادع له بظهر الغيب وادع لها التي أعطتك بظهر الغيب، لكن لا تأت وتشكرني في وجهي، لا أُريد هذا، أنا لا أُحِبه وهو يثقل علىّ، لماذا؟ هذا شيئ عجيب، وهذا غريب جداً في المُؤمِن، كيف يتسع هذا الاتساع؟

ثمة أثر ربما لم نسمعه من سنين طويلة، ذكرناه قبل سنين لكنه مُفيدٌ جداً استدعاؤه في هذا المجال ، وهو أثر ابن بُريدة الذي يقول فيه شتم رجلٌ عبد الله بن عباس – رضى الله تعالى عنهما وأرضاهما، أحد السفهاء – سفهاء الناس – شتم هذا الصحابي الجليل، ابن عم رسول الله وجبل العلم وترجمان القرآن، شتمه فقال له عبد الله بن عباس – انظروا إلى الجواب، هذا شيئ عجيب، هذا الفرق بين الإنسان الراقي والإنسان الذي يترقى، أي يفتعل الرقي ويُمثِّل، الإنسان الذي يُمثِّل بلا شخصية، بلا جوهر شخصية، الآن هو راقٍ لكنه استفزه بعد ساعة وسوف يخرج لك منه إنسان آخر تماماً، لأن ليست هكذا شخصيته، ليست ثابتة على هذا الأساس للأسف، هذا يُمثِّل ويفتعل الرقي، فالراقي راقٍ في كل أحواله – إنكَ لتشتمني يا أخي وإن لفىّ ثلاث خصال، كأنه يقول له حق مَن اتصف بهذه الخصال ألا يُشتَم، انظروا إلى الخصال، هذه خصال الاتساع تماماً، قال الأولى أني أمر على الآية من كتاب الله – تبارك وتعالى – فأعلم فيها علماً – اي بما يفتح الله تبارك وتعالى علىّ – فأود أن يعلم الناس كلهم منها ما علمت، الله أكبر، الله أكبر، حُب الخير للناس، لا يُحِب أن يستأثر حتى يُقال هذا من اجتهاده وهذا من إبداعه وهذا من أسراره وهذا من سبقه، أصبحت القضية صحيفة مثل السبق صحفي، لا يهمه أن يُقال هذا علم ابن عباس وهذا فهم ابن عباس وهذا تفسير ابن عباس، لا يهمه هذا، في هذا المهيع الواسع جرى إمامنا الشافعي الذي قال عبارة تهز، كلما تذكرها المرء والله تهزه، لأنها تضعه في حجمه وتُذكِّره بالمدى الذي أوغل فيه في الصدق، كم نحن صادقون؟ قال لو ددت أن الناس انتفعوا بعلمي هذا ولم يُنسَب إلىّ منه شيئ، هذا شيئ عجيب جداً، والآن الناس يغضبون إذا سرقت منه مقولة أو شيئاً، يغضب الواحد منهم جداً ويقول لك هذا علمي، وعلى كل حال هذا في علم الدُنيا وهذا شأن أهل الدُنيا، ليس شأن أهل الآخرة وليس شأن أهل الدين وليس شأن الذين بنوا مُعامَلاتهم على الإخلاص لله – عز وجل – واكتفوا بعلم الله، الله هو الذي يعلم هذا لمَن وهذا على مَن، هو الذي يعلم، وعلى كال حال ابن عباس قال والثانية أني أسمع بالحاكم – أي بالقاضي، المقصود بالحاكم القاضي، في اللغة وفي لغة الشرع الحاكم لا تعني حاكم الدولة وإنما القاضي، دائماً كلمة حكم وحاكم عنها تعني القاضي – يعدل في القضية فأدعو له – أفرح أن هناك حاكماً قاضياً عادلاً، أفرح أن هناك قاضياً يعدل – ولعلي لا أُقاضي إليه، أي أبداً، ربما لا أحتاجه أن يقضي في أمري مع أحد أخصامي أبداً، ولكن أفرح أن هناك عدل، انظروا إلى عشق القيم، هذا هو الاتساع، قال والثالثة – وهى الأخيرة – وأني لأسمع بالغيث ينزلُ ببلدٍ من بلاد المسلمين فأفرح به – أي بنزوله – وليس فيها من سَّائمة، ليس عندي ماشية ترعى في هذه البلاد التي طرقها الغيث – صيب السماء – لكن أفرح، أفرح بالخير للناس، أُناس آخرون يحتاجون هذا الغيث فالحمد لله أنه نزل، وهذه سعة عجيبة، علماً بأن مثل هذا الأثر يجعلنا نقف لنتساءل هل معنى التسلف – يقول لك على طريقة السلف وهو سلفي – ما نرى وما نسمع أو بعض ما نرى وما نسمع أم هذا هو التسلف؟ مَن أراد أن يكون سلفياً فلتكن لديه مثل هذه الخلائق .هذا هو معنى أن تكون كالصحابة أو تُحاوِل طبعاً لأن مُستحيل أن تكون مثلهم، ولكن تُحاوِل أن تقتدي بالصحابةِ والتابعين، ليس – والله – في تطويل اللحى والجلاليب والمساويك، والله ليس في هذا، وإنما في هذا تماماً، هذا الذي جعلهم أعاظم الناس وأشرف الناس وأكرم الناس وأقرب الناس إلى الله تبارك وتعالى، هذه المعاني، حصر معنى التسلف في بعض زخارف وفي بعض القشور هدرٌ لإنسانية هؤلاء العظماء، تقزيم لإنسانيتهم، هم لم يكونوا أقزاماً، كانوا فعلاً أهرامات، كانوا شوامخ بهذه الإنسانية وبهذا الفهم للدين، حديث النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – الذي يقول فيه لأصحابه ألا أُخبِركم بشراركم؟ شر المسلمين مَن هم؟ الضيقون، الذين لا يتسعون، الضيقون الأنانيون، قالوا بلى يا رسول، قال الذي يأكل وحده – لا يضيف أحداً، لا يُحِب أن يأكل معه من طعامه أو يُصيب من طعامه أحد، يقول لك هذا لي، يعبد الأنا فقط، كل شيئ لي وعندي وبي وأنا، وهذا شيئ مُقلِق ومُقرِف أيضاً، تشمئز النفس من هذا الإنسان – ويجلد عبده – قاسٍ ليس عنده رحمة، لا يشعر بالآخرين طبعاً، كيف يشعر؟ قاسٍ – ويمنع رفده، لا يُعطي أحداً شيئاً، والحكاية لا تقتصر على الأكل فقط وإنما تشمل أي شيئ آخر، يمنع رفده ولا يُعين، قال النبي هذا شرُ المسلمين، ثم أخبرهم بمَن هو شرٌ منه قائلاً الذين لا يقبلون معذرة ولا يُقيلون عثرة، إذا أخطأت في حقه ثم جئت تعتذر لم يقبل منك، إذا عثرت لم يستر عليك ولم يُمشها ولم يُغض، يقول لقد عثر، أرأيتم كيف عثر؟ أرأيتم فضيحته وماذا فعل وماذا قيل فيه؟ الله، ما هذا والعياذ بالله؟ شرير، روح شيطانية، مُلهَم شيطانياً وليس رحمانياً، فمعنى الاتساع مُهِم، لابد أن نتسع، لابد أن نبني ثقافة اتساع، لابد أن نُحدِّد ديننا، وطبعاً الدين غير التدين، أنا أقصد التدين طبعاً، حين أتكلَّم عن الدين بهذه الطريقة أقصد التدين، أي طريقة فهمنا وتعاطينا مع الدين، الدين النص أو الدين في مُستواه النصوصي، لابد أن نُحدِّد تديننا بهذه الطريقة الاتساعية الإيجابية، بعد ذلك المُقابَلة تأتي من تلقائها وهى فاعلة جداً في ميدان التربية، بمعنى ماذا؟ بمعنى أنك إذا حدَّدت التدين على أنه هذا الاتساع – الجود والكرم والتسامح والمحبة وكل معاني الاتساع وهى كثيرة جداً – ثم بعد ذلك رأى طفلك – ابنك – صديقاً له يقسو على الآخر سيقول له هل أنت مسلم؟ هل هذا دينك؟ هذه مُقابَلة جيدة جداً، ليس لأنه بلا لحية نقول له هل أنت مسلم؟ كنا نظنك غير مُسلِم، يا أخي بلا لحية وهو مسلم جيد جداً أيضاً، ليس شيئاً خطيراً، لكن حين يقسو على عباد الله نُذكِّره ونقول هل أنت مسلم؟ الإسلام لا يكون هكذا،الإسلام رحمة، إنسان مُتعنِّت مُتعصِّب، مُتعصِّب بالباطل أيضاً، لأنه مُتعصِّب يتعصَّب لطائفته أو لشيخه أو لحزبه أو لجماعته أو لأهل بلده، وبالباطل أيضاً، ولا يُمكِن أن يرى أخطاءهم ونقائصهم، لكن يرى القذاة في عيون الآخرين مِمَن يعدهم أخصاماً، القذاة يراها ويجعل من الحبة قبة، لكن الجذع – كما قال السيد المسيح عليه السلام – في عين طائفته أو في عين شيخه أو في عين إخوانه لا يرى، والله أكثر من جذع، والله فضائح وبوائق وعظائم لا يُحِبون أن يرونها، ويقول لك الواحد منهم هذا عادي، أحياناً فضائح يخجل منها الإنسان العادي، يخجل منها غير المسلم، يقول لك هذا تطور والرجل مُتطوِّر ولذا يفعل هذا لأن المُتقدِّم يفعل هذا، وهذا شيئ عجيب، هو شيئ لا أخلاقي بالمرة، ومع ذلك يقبلونه بسبب التعصب، لكن لا يُمكِن أن يكون المسلم كذلك، المسلم عادل، تقول الآية الكريمة إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، لماذا توكل عليه النبي الصالح؟ توكل عليه وقال هو حريٌ – لا إله إلا هو – وقمينٌ وخليقٌ بأن يُتوكَّل عليه، لماذا؟ لأنه عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، تقول الآية الكريمة إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، كيف؟ أنا أتوكل عليه لأنه على صراطٍ مستقيم، ما المعنى؟ ما معنى هذه الآية من سورة هود؟ معنى هذه الآية أن الله حقيق وهو الأحق – لا إله إلا هو – ولا أحق منه بأن يُتوكَّل عليه ويُفوَّض الأمر إليه ويُعتمَّد عليه ويُوثَق به الثقة المُطلَقة لأنه على خُطة عدل دائماً – لا إله إلا هو – فلا يتحيف ولا يظلم، الله لا يُمكِن أن يظلم كافراً لصالح مسلم، لا يُمكِن أن يقول لك أنت مسلم وهذا كافر فلا مُشكِلة، كلهم عباده وكلهم عبيده، حسابهم على كفرهم وإيمانهم في الآخرة فانتبهوا، وبعضه يُعجَّل في الدنيا، والعدل عدلٌ في المسلم وفي الكافر وفي المُلحِد وفي كل أحد، تقول الآية الكريمة إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، إذن في العباد إذا أردت أن أضع ثقتي في أحد مَن هو؟ مَن أجدر الناس وأحق الناس أن أضع ثقتي به؟ العادل الذي يحكم ولو على نفسه، يقول أنا أولى بالملام، أنا البادئ، أنا الذي أخطأت، أنا الذي تجاوزت حدي، هذا أثق به وهذا أتخذه سنداً وأخاً وحِرزاً وكنزاً، وإلا لا عدل فلا ثقة، تقول الآية الكريمة إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، إذن هذا هو الاتساع، وفي المُقابِل ذاكم الضيق، ذاكم الضيق فعلاً الذي تضيق النفس حتى عند سماعه فضلاً عن استعراض مُفرَداته.

خطر لي بالأمس سؤال عجيب ما الفرق بين القاتل – الذي يقتل والعياذ بالله وهذه أعظم الجرائم بعد الشرك بالله – وبين الذي يدعو بالموت؟ تقريباً لا فرق، وقد يكون الذي يدعو شراً عند الله من القاتل، كيف؟ هذا شيئ خطير جداً طبعاً، فكرت ووجدت من خلال التجارب في الحياة ومن خلال ما نقرأ ونسمع أن بعض الناس يسير في الخُطة السوء، في خُطة الجريمة والانحراف والفجور، حياته كلها على هذا النحو، لكن لا تتخطى جرائمه التدجيل والخداع والنصب وأكل بعض أموال الناس، ويعيش على هذا، يبدو أن قدرته على الشر محدودة، هذا مُجرِم محدود غير قادر على أن ينفتح بالكامل، يُوجَد في هذا المسكين بقايا الخير، ونسأل الله له ولأمثاله الهداية، لكن في المُقابِل هناك صنف من الناس يتورع أن يأكل فلساً واحداً من أموالك، لا يُمكِن أن يفعل هذا، لا يفعل هذا وهذا جميل وطيب، هذا مطلوب وهو من دلائل الإيمان لكن انتبهوا إلى أننا سوف نأتي الإن إلى شيئ مُناقِض تماماً، لو أكلت منه فلساً واحداً ولو تعديت على طرف بسيط جداً من حقوقه يتمنى لك الموت ويدعو الله عليك بالموت ويبدأ ليل نهار يقول اللهم دمِّره واللهم احرقه، هذا فاجر أيضاً، ومُلحِد في أسماء الله وصفاته، وهذا تذكير بخُطبة إلحاد المُؤمِنين، فكلها كانت تدور على هذا المعنى الخطير، يجب أن نفهم هذا وأن نُربي عليه أولادنا، نقول له واضح من دعائك أنك رجل ما عرفت الله أو امرأة ما عرفتِ الله لحظة، لا يُمكِن أن يُجوِّز لنفسه ويتسامح بأن يدعو على مَن ظلمه قيراطاً بأن يُدمِّره الله مليون قيراط، هو ظلمك في مليم وأنت تدعو عليه بهلاك الدارين في الدنيا والآخرة وأن الله يفعل به وربما بذريته، وأنا سمعت هذا بأذني، سمعت من بعض الناس – والله – يدعو على ذُرية من ظلمه، قلت له لماذا يا أخي الفاضل؟ لماذا تدعو على أولاده؟ قال هكذا أدعو عليه هو وأولاده، وطبعاً الحمد لله أنا مُطمئن جداً أن الله لن يستجيب له في هذا المسكين الظالم الآخر، لن يستجيب له، الله لا يُمكِن أن يستجيب لهذه الأهواء الطائشة التي إن دلت على شيئ فإنما تدعو على انبتات الصلة بالله، لا صلة لهذا بالله، وقد لاحظتُ عبر حياتي كلها أن أولياء الله الذين ثبت لديّ – والله عز وجل حسيب كل أحد – بدلائل كثيرة أنهم فعلاً من أولياء الله لديهم يا أخي تورع أكثر من عجيب وأكثر من غريب في الدعاء على عباد الله، لا يكادون يدعون على أحد وإن ظلمهم وجار عليهم وفعل وفعل، وهذا شيئ غريب جداً جداً، فإن طف صاعهم – كما يُقال – وفاض كاسهم قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، تقول الآية الكريمة وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩ وكفى بها، كفى بها لأنها مُخيفة، الله سيتولى الموضوع لكن بعدل، لأنه عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩، لا إله إلا هو، وأيضاً من رحمته وسعته أنه قد لا يُعاجِل عبده الظالم بعقوبة في الدُنيا لما سبق في علمه من بعض الخير الذي لا يزال عند هذا العبد، فيبسط له يده بالتوبة لعله يتوب، ثم يُرضي صاحب الحق فيتوب الله على الاثنين ويدخلان جميعاً الجنة بإذن الله، الله يُحِب هذا، وينبغي نحن أن نُحِب ما أحب الله، فالدعاء خطير إذن، وينبغي أن تكون التربية على هذا النحو.

قبل أيام شاهدت مقاطع هزتني هزاً ولعلها هى التي أوحت لي بهذا المعنى، هزتني هزاً في مسألة لن أقول تافهة – ليس في العلم توافه – ولكن مسألة فرع فرع فرعية، وهى من مُستحدَثات ومُبتكَرات العصريين، بمعنى أنها خالفت إجماع المُفسِّرين، كل المُفسِّرين السابقين كانوا على رأي، فالآن طبيعي جداً حين يأتي الشيخ الفلاني ويُكرِّر هذا الرأي أن يُقال هذا رأي جمهور المُفسِّرين، لماذا ينبغي أن يكون الرجل عبقرياً مثلك أنت المُنتقِد وأن يهتدي إلى الرأي الجديد الذي ربما لعله لم يسمع به أصلاً وإن سمع به ليس ملزوزاً أن يوافق عليه وأن يُصادِق عليه؟ هذا الشيئ عادي جداً، لو سألتني أنا فأنا رأيي مع جمهور المُفسِّرين، ولو سألته هو أو هى سوف تجد نفس الشيئ، هذا رأي الجماهير، وهذا في مسألة بسيطة جداً جداً، وانظر يا أخي إلى مقطع الفيديو هذا، يأتيك بشيوخ مُعمَّمين وبلحى وأُناس أفاضل وكذا، ثم يُقال لعنة الله عليك يا يهودي ويا كافر ويا مُنافِق ويا كذا وكذا وكذا، بألفاظ والله يعف اللسان عن ذكرها، يلعن المشائخ، لماذا؟ ماذا قال هذا الشيخ؟ إن جازت لعنته لأنه قال بهذا الرأي، فإذن انتبه وافتح عينيك لأنك تلعن كل مُفسِّري الأمة حتى من طائفتك، كل مُفسِّري طائفته – والله – على الرأي نفسه، أنت تلعن ألوف المُفسِّرين من أولياء الله وعباد الله الصالحين، من أجل ماذا؟ من أجل أن يُسوّي حساباته مع بعض المُعاصِرين الذين يُبغِضهم لسبب أو لآخر، بغض النظر يا سيدي حتى لو أبغضته وكرهته أين العدل؟ أين الإنصاف؟ أين تقوى الله تبارك وتعالى ؟ أصبح الدين مهزلة ومسخرة، أستغفر الله العظيم، ما هكذا يُوقَّر الله، أبشع ما في هذا المشهد كله هل تعرفون ما هو؟ الموقف من الله، صورة الله في نظر هؤلاء كيف هى؟ أنه برسم أن يُلبّي هذه الدعوات وهى اجتراءٌ وقح على عدل الله – تبارك وتعالى – وعلى رحمة الله، كيف يُمكِن هذا؟ كيف يخطر لك أن تدعو بمثل هذه الدعاوى؟ إذن أعتقد أن السعة من الموضوعات التي ينبغي أن نُعيد فيها النظر.

مسألة المُسامَحة خطر لي فيها أيضاً خاطرٌ جديد لطيف على ما أحسب إن شاء الله تعالى، ليس المطلوب فقط أن نُسامِح مَن ظلمونا مِمَن هم أمثالنا أو أضعف منا، وهكذا نُغذي في أنفسنا حس التفضل، أننا أفضل منهم، هم أصغر منا سُلطةً، أنا صاحب سُلطة مُتنفِّذ وهم رعية سوقة، أصغر منا علماً أو مالاً أو نسباً أو شهرة أو مقاماً أو اعتباراً وحيثية لكننا سنغفر لهم، سامحهم الله، جميل أن تُسامِح كل مَن ظلمك وكل مَن تعدى، لكن أيضاً مُهِم – وهذا الذي لا نلتفت إليه – أن نُسامِح مَن هم أقوى منا، مَن هم أكبر منا، مَن هم أعظم منا، تقول لي كيف أُسامِحه؟ نعم سامحه، أنت لا تستطيع أن تنال منه بيدك أو حتى بلسانك لكن سامحه، كيف تصل له؟ افترض أنه حاكم أو رجل كبير في الدولة فكيف تصل له أصلاً؟ أين تراه؟ لا تستطيع أن تصل إليه لكي تشفي غيظك، لكنك الآن تُريد أن تُسامِح فسامح، وادع الله أن يُسقِط عنه الذي لك من الحق، قل اللهم إني أشهدك أنا سامحته بحقي، سامحته بعِرضي أو سامحته بمالي أو سامحته بمظلمتي رجاء أن تُسامحني يارب العالمين يوم الدين، كُن هكذا وحس بهذا، طبعاً هذا منطق العبودية، هل تعرف لماذا؟ هنا الآن أنت مُتألِه، فيك روح إلهية، الله – كما يقولون – يُلهِمك الآن معنىً إلهياً، أنت تنظر إليه ليس من منظور الإنسان للإنسان، وإنما من منظور الإنسان للعبد، لأنه عبدٌ مثلك، كلكم تحت سلطان الربوبية وفي قبضة الإلهية، كلكم هكذا وكلكم ضعيف، ألم تسمعوا عن هؤلاء الكبراء العُظماء حين يُحطِّمهم المرض مثل السرطان وغير السرطان؟ كيف يعودون ضِعافاً مساكين زاوين ويطلبون الدعاء مِن كل مَن عرفوه ومَن لم يعرفوه، الواحد منهم عبد مسكين فقير، وقد يُنزَع من مُلكِه طبعاً، وقد يُعدَم أو يُلقى به في السجن، الله أعلم ما مصيره، لكنه عبد – في نهاية المطاف هو عبد – يحتاج إلى المُسامَحة، وطبعاً أنا أُسامِحه نعم لأجله ولأجلي أنا، ولأجلي أنا أكثر، لأجل ألا أبقى مُنطوياً على حقد وعلى مرارة وعلى نزعة ثأرية انتقامية، لا أريد هذا، أشعر أن هذا يضر بإنسانيتي فلا أُحِب هذا، هذا المسكين ضرَّر إنسانيته واستنزفها بظلمه لي ولغيري، لكن أنا لا أُحِب أن استنزف إنسانيتي، أُحِب أن أسمح له وأن أدعو له، وهذا أيضاً له تضمين أخطر من هذا ترددت أن أقوله ولكن سأقوله، إذا فعلت هذا ستشعر برضا عن الله نفسه أكثر، تقول الآية الكريمة رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۩، إذا لم ترض عن الله ماذا سوف تكون؟ ساخط على الله، أستغفر الله، وهنا قد تقول لي هل هذا موجود؟ طبعاً، هل هذا مُمكِن؟ مُمكِن، كثير جداً من الناس – من المسلمين أعني – ساخطون على الله تبارك وتعالى، وهم لا يشعرون بهذا ولا يُحِبون أن يُواجِهوا هذه الحقيقة، لكن هم ساخطون وممرورون، أنا أقول لكم حين نُعوِّد أنفسنا أن نسمح عن الكبراء الأقوياء الذين هم أكبر منا وأقوى منا عما فرط منهم في حقنا فهذا يجعلنا في حالة رضا عن الله تبارك وتعالى، كثير من الملاحدة يُلحِدون – كما تعلمون – ليس لأجل حُجة فلسفية أو معرفية أو علمية بالعكس لأجل موقف نفسي، الواحد منهم يعيش حالة غضب على الله وحالة سخط على الله، هو غضبان – أستغفر الله – مِن الله وعلى الله أن أخذه منه ابنه وحيده، ولأنه غضبان ألحد، قال أين العدل؟ هل أنت تتحدَّثون عن العدل؟ لكن مَن قال لك أن الدُنيا مبنية على العدل؟ هذا يحتاج إلى خُطبة مُوسَّعة جداً، لكن أنا أُعطيكم هذا – كما يُقال – إسلافاً تحت الحساب، فمَن قال لك أن الدُنيا مبنية على العدل؟ هذه أكبر أكذوبة، لم يقل الله مرة واحدة في كتابه هذا، ما رأيكم؟ وماذا أعني بالدُنيا؟ أعني بالدُنيا دُنيا الناس، الناس يتظالمون، الناس في محنة وابتلاء، بعضهم يعدو على بعض، لكن الحساب سيكون يوم الحساب، مَن قال لك إن مبنى الدُنيا على العدل؟ العدل لا يظهر إلا يوم الدين، وهو يوم العدل ويوم القسط – لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ ۩ – حيث لا سُلطة ولا تصرف إلا لله وحده، والله هو العادل لا إله إلا هو، وهو عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ۩ قال الله وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ ۩، فالدُنيا ليس مبناها على العدل، والمسألة تحتاج إلى تفصيل مُهِم فانتبهوا، ومن هنا ألحد الكثير من الناس، يقولون أين العدل؟ لا، الدنيا ليست مبنية على العدل وإنما مبنية على الابتلاء وعلى المحنة وعلى الاختبار، هذه دار اختبار فانتبهوا، هو غضبان على الله أن أخذ منه وحيده أو أخذ منه زوجته التي يُحِبها جداً أو كرثه في ماله أو في صحته وإلى آخره، هو غضبان لكنه لا يعي غضبه هذا، ثم يبدأ يتعلل أو يعتل بما يُسمى بالحُجج العلمية والفلسفية ليعود مُلحِداً عند نفسه وعند الناس، أنت غضبان على الله ولست مُلحِداً عن حجة وعن تفلسف فلابد أن تعي نفسك، مثل هذه الحالة من التدريب والاجتهاد على المُسامَحة – مُسامَحة الكبار الذين ظلمونا وفرطوا في حقوقنا وداسوا علينا – تُعلِّمنا أن نكون أكثر رضاً عن الله تبارك وتعالى، فنصل إلى حالة – نسأل الله أن يُوصِّلنا إليها – رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۩، أي حالة الرضا، بحيث لو استقبلنا أو أُتيح لنا أن نستقبل من أمرنا ما استدبرنا ما اخترنا غير ما اختار الله لنا، وهذا الشيئ عجيب وبديع وكبير جداً، نحن أصغر من هذا وأضعف من هذاولكن هذا هو الرضا، إذا أردت تعريفاً جامعاً مانعاً تقريباً للرضا فإن هذا هو الرضا، لو استقبلت من أمرك ما استدبرت لم ترض بغير ما كتب الله لك.

أيضاً يُذكِّرني مُسامَحة مَن هم أكبر منا بالامتنان لمَن هم أصغر منا، وهذا العكس تماماً، طبيعي أن الناس يمتنون لمَن هم أعظم منهم، الذي يكون أعظم منك في أي شيئ ويُسدي إليك يداً بيضاء – معروفاً أنت تُمعِن طبعاً وتُوغِل في تبجيله وفي الامتنان له وتُرسِل له الرسائل وتقول له يا سيدي ويا كذا وإني لأدعو الله لكم بكذا وكذا، وهذا جميل حتى لا تكون جاحداً – كما قلت – سائراً على قدمين، من أخص خصائص الإنسان أنه جحود، هو جحود طبعاً وسوف نُفصِّل في هذه بُعيد قليل، لكن عليك أيضاً أن تتعلم الامتنان وإظهار الامتنان لمَن هم أصغر منك وأضعف منك وأقل منك في باب أو في أبواب من أبواب الاعتبارات، وهذا عجيب لكنه مُهِم جداً، وخذوا هذا المعنى الجميل اللطيف عن أولادنا، يندر عند الفرد العربي – أنا قلت لكم ثقافتنا بسيطة وسطحية وساذجة قليلاً – أن يشعر بالامتنان لأولاده، وهنا قد يقول أحدهم حدِّثني في موضوع آخر يا رجل، ماذا تقول وتُخبِّص؟ أنا والدهم، هم ينبغي عليهم أن يفعلوا وليس أنا وقد قال تعالى وقال رسول الله، فهمنا لكن افهم فقط وعمِّق نفسك،
إذا أردت قال الله فالله قال الله أيضاً وقال الرسول أشياء في غير وعيك الآن، النبي تحدَّث أيضاً عن مَن أراد أن يبره ولده، هل تُريد البر؟ عليك أنت تبره أيضاً في الأول، فلتبره أنت أولاً، ينبغي أن تعرف حق أولادك عليك وفضل أولادك عليك، كيف تقول الفضل؟ الحقوق فهمناها لكن ماذا عن الفضل؟ الفضل الذي يُوجِب الامتنان فتشعر بالامتنان وبالمنة، ما هو؟ أنا أقول لك أن أعظم منة يا رجل أنهم هنا، أن لك أولاداً، أنت مسكين لكن سل مَن حرمهم من الأولاد عن هذا ، هذا الشيئ يُبكي، هذا يُبكيني – والله – وأدعو دائماً لمَن حرمه الله أن يُعطيه، سل من حرموا من نعمة الولد عن قيمة الولد ومعنى الولد في الحياة، سوف يُقسِمون لك صادقين بغير مثنوية واستثناء أنهم ينسلِخون مِن كل ما أنجزوا من علم ومن مال ومن سلطان حتى خاصة إذا تقدمت بهم الأعمار فانتبه، حين يكون شاباً ربما يكون المال عنده أهم من كل شيئ، حين يخطو حاجز الأربعين – حين ُيجاوِزه – يقول لك خُذ مني كل شيئ، ألست ملكاً؟ خُذ مني مُلكي وخُذ مالي بل خُذ كل شيئ وأعطني ولداً مِن صُلبي يُناديني بابا أو ماما، وأنت عندك خمسة أو ستة أو سبعة، يا رجل أكبر منة لابنك عليك أنه أشعرك بمعنى الوالدية، أي جعلك والداً، ألم تر أنك والد ، وتشعر بمعنى الوالدية أو تشعري بمعنى الأمومة؟ هذا بفضل ابنائك، سوف تقول لي هم لم يختاروا هذا الفضل، لكن أنت أيضاً – أطال الله عمرك – لم تختر أن تُنجِبهم، إذا أردت أن تتحدَّث بهذا المنطق فأنت حتى لم تختر هذا، الله هو الذي اختار ورزق، لكن ينبغي أن نكون بشراً، يجب أن نتواصل كبشر، أي بتواضع البشر، أنا أمتن لأولادي وأشعر بمنتهم أيضاً، بهذا المنطق حين يُقصِّر أولادك في حقك ما الذي يحصل؟ تبلعها بشكل عادي، وهذا من أحلى ما يكون، تبلعها في مرة ومرتين وعشرة وعشرين ومائة وتقول هذا عادي لأنهم أسدوا إلىّ الكثير وقصروا في القليل وهذا طبيعي، لكن حين لا تفهم هذا المنطق ولا تصدر عنه يُجَن جنونك وتقول كيف؟ وتصرخ دائماً وتتمرر وتشكوهم إلى أعمامهم وأخوالهم وأجدادهم وجداتهم وللإصدقاء وللجيران، تقول لهم أرأيتم أولادي العققة؟ إذن تحمل، لكن لو عاملتهم بهذه المُعامَلة وأشعرتهم بفضلهم ومنتهم لأصبحوا أكثر من رائعين، سوف يستوعبون هذا بمرور الوقت ولن يُصدِّقون هذا وسوف تصير طبيعة العلاقة مُختلِفة، قد تقول لي هل هذا ينطبق على الزوجة؟ بنسبة مائة في المائة ينطبق على الزوجة أيضاً فانتبه، الفكر العربي بالذات والفهم السيء للنص الإسلامي ينظر للمرأة على أنها لا شيئ ويُقال المفروض أن تسجد ليل نهار أصلاً وهى ليس لها أي مزية، لكن مَن قال لك هذا الكلام؟ غير صحيح بالمرة هذا الكلام، هذا سوء فهم في النص، لها مزية وأي مزية، وهى طريق إلى هؤلاء الأولاد الذين على ضوء عيونهم ترى دُنيا الله عز وجل، هى الطريق، هى الوسيلة، وهنا قد تقول لي كان يُمكِن لي أن أتزوَّج غيرها، ومن ثم أقول لك لو كانت غيرها لما آتاك هؤلاء بالذات وأنت لا تستبدل الدُنيا وما فيها بهم، أنت تُريد هؤلاء الأولاد بالذات، هم هؤلاء يحملون نصف جينومها Genome، فلولاها لما أتوا، إذن هذا أول مزاياها، هذا أول أفضالها عليك، وطبعاً أنت لك أفضال عليها وهذا أمر عادي، لكن أنت تُطالِب دائماً بأن تُشعِرك هى بالامتنان، وماذا عنك أنت؟ أشعرها بالامتنان، فهى لها فضل، غير طبعاً كل ما تقوم به الزوجة وغير مُجرَّد وفائها لك كان يُمكِن ألا تُحِبك، إذا رزقها الله حبك امتن لهذا، امتن لله أولاً ثم امتن لها ثانياً،حافظت على شرفك وعلى فراشك وعلى سمعتك وعلى مالك، يا أخي هذه منة عظيمة جداً.

فلنتعلم إذن أن نُسامِح مَن هم أكبر، ولنتعلم أن نمتن لمَن هم أدنى منا وأصغر منا،
أنت كاتب كبير وأنا أقول لك امتن لجمهورك، لولا الجمهور الذي اشترى كتابك وقرأه ما كنت كاتباً كبيراً، لعشت ومت دون أن يعرفك أحد، أليس كذلك؟ يُوجَد كتّاب كثر على هذا النحو، وكذلك الحال مع العالم والخطيب والصحفي وما إلى ذلك، فهذا نفس الشيئ، هذا بسبب الجمهور، وحتى القائد المُظفَّر في الجيش ينطبق عليه هذا، لولا الجنود الأشاوس الكُماة الجُشعان الجريئون المُطيعون ما حقق النصر، ما حقق ما حقق، ينبغي أن نمتن لمَن هم في ولايتنا، لمَن هم أدنى منا وأصغر، ينبغي أن نبني هذه الثقافة، ومن ثم قد تقول لي في نهاية المطاف أنا ألمح أن هذه الثقافة فعلاً ثقافة إنسانية، لأن هذا هو الإنسان، الإنسان لا يستغني، قال الله كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۩ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ۩، هذا حين تتسرب منه إنسانيته وهو واضح، هل الله هنا يمدحه أم يذمه؟ يذمه حين يستغنى، مَن الذي يستغني؟ والله لا أحد في غنى عباد الله، أنا أقول لك والله لا أحد في غنى عن الله طبعاً على الإطلاق وأيضاً والله لا أحد في غنى عن عباد الله، ما رأيك؟ لا أحد على الإطلاق مهما كان، وقد لاحظت شيئاً من أعجب ما يكون ولم التفت إليه إلا قُبيل أسبوع تقريباً، ما هو؟ هناك كلمة تُقال عند أهل الله وعند الصالحين وهى لكل شيخ طريقة، لم أفهم هذه الكلمة جيداً، كنا نظنها طريقة ظاهرية، مثل هذا نقشبندي وهذا سطوحي وهذا دسوقي وهذا جيلاني وهذا رفاعي وما إلى ذلك، لكن هذا شيئ مُختلِف تماماً، المقصود بقولهم لكل شيخ طريقة أي طريقة في إنجاز ما أكرمته به السماء، وقد وجدت العجب، بمعنى أنك قد تجد شيخاً مُعيناً له طريقة في شفاء ضروب مُعينة من الأمراض، الله – عز وجل – يُجري على يدي هذا المُبارَك شفاء أمراض مُحدَّدة، وهذا أمرٌ عجيب، لكن مع الأمراض الأخرى يقول لك مُباشَرةً وهو صادق هذا المرض لا حيلة لي به، القدر لم يُكرِّمه به، أكرمه بهذه القائمة من الأمراض ولم يُكرِمه بغير هذه القائمة، لكن ماذا لو مرِضَ هو أو زوجه أو ابنه أو ابنته بالمرض خارج اللائحة؟ يحتاج إلى شيخ آخر، ولي يحتاج إلى ولي، يذهب لغيره ويقول له يا شيخنا انظر، وفعلاً يأتي الولي الآخر ويُجري الله الشفاء على يديه، لا إله إلا الله، لماذا أحوج الله وليه إلى وليه؟ لكي يُقيم عليك دليل العبودية، يقول لك لا تنس أنك عبدٌ، و ملائكتي عباد أيضاً و لا يعصوني فيما آمرهم به، وأنت لا تنس نفسك، الملك لا ينسى، الملك لا يستحسر ولا يضعف ولا يفتر، لكن المُشكِلة أن الإنسان يستحسر ويضعف ويفتر، وهو – كما قلنا في بداية الخُطبة – لين جداً ولدائني ويُمكِن أن يستحيل حتى شيطاناً مَريداً، هو ينسى ومن المُمكِن أن يُفتَن، ومن هنا قيل فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، نسأل الله أن يُثبِّتنا، هذا معنى فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، هل هناك صحابة فُتِنوا أم لا؟ هناك صحابة فُتِنوا، صحابة وليس فقط أولياء، صحابة رأوا رسول الله، والنبي أخبر عنهم وقال هؤلا إذا دخلت أنا الجنة لا أراهم إلى أبد الأبدين، لماذا إذن يا رسول الله؟ هذا حديث أم سلمة بإسناد صحيح عند أحمد، هو في الجنة وهم في النار، قال أنه لن يراهم لأنهم انتهوا، هذا يعني أنهم هلكوا طبعاً، فنسأل الله أن يُثبِّتنا، وهذا المعنى الخطير لموضوع الخاتمة، حسن الخاتمة وسوء الخاتمة، أحسن الله ختامنا جميعاً وجمعوات بفضله ومنه لا بأعمالنا، فهنا الرهان يا إخواني!

يُوجَد معنى آخر – والأفضل ألا نُطيل وإلا سوف ندخل في خُطب أخرى – يتعلَّق بالإصالة، ينبغي أن نتربى أيضاً على ثقافة تكون ثقافة الأصالة، ما معنى ثقافة الأصالة؟ أن يكون هامش الحرية الذي يتحرك فيه عقلي ووجداني وسيعاً جداً، اتركوني بالله عليكم – وهذا الخطاب لأبي وأمي ولأستاذي ولشيخي وإخواني وأوخواتي ولهؤلاء وللمُجتمَع ولأمتي ككل – مع قلبي، قلبي مُطمئن وقلبي نافر فاتركوني، لماذا علىّ أن أُحِب ما تُحِبون، وأن أنفِر مما تنفرون حتى ترضوا عني وتعتبروني امتثالياً ومُتماثِلاً وتعطوني براءة بأنني لست المُتمرِّد ولست الخارج ولست كذا وكذا ثم لا تلعنوني؟ اتركوني حراً، أنا أقول لكم مُجتمَعاتنا العربية لا تفعل هذا، والآن نتحدث عن الحرية السياسية، وطبعاً هى من أمس ما ينبغي، لكن صدِّقوني قبلها حريات كثيرة نحن محرومون منها، واللهالحرية السياسية بغيرها لن تسو شيئاً، ستكون بعد ذلك إذا لم نُنجِز الحريات الأخرى قيداً من القيود أيضاً بمعنى أو بآخر، ولأضرب لكم مثلاً حتى لا ندخل في فلسفيات، قبل تقريباً عشرة أيام سمعنا عن العمل العظيم الذي قام به مُنشيء الفيسبوك Facebook سوكربيرج Zuckerberg – بالإنجليزية يقولون زوكربيرج، وهى طبعاً كلمة ألمانية، سوكربيرج تعني جبل السكر،وفعلاً سكر هذا الشاب ما شاء الله عليه – ابن الحادي والثلاثين الذي أعلن أنه تبرع بتسعة وتسعين في المائة من أسهمه وزوجته طبعاً ذات الأصل الأصفر – لا أعرف هل هى يابانية أم فلبينية، لا أدرى – وهذا يُساوي خمسة وأربعين مليار دولار، لا يهمنا بعد ذلك التحليلات وما قيل عن الضرائب، هذا لا يهمني، لكن يهمني أن أُحسِن الظن في البداية، هذا هزني وأسعدني جداً ودعوت له ولزوجته ولابنته بالسعادة، اللهم أسعدهم في الدنيا والآخرة، هذا عمل عظيم بلا شك، وجدتُ تعليقات ساخرة وسمعتها حتى من بعض الناس على زوجته، طبعاً هذه خمسة وأربعون مليار، فالرجل – ما شاء الله – من أغنى أغنياء الدُنيا، وزوجته من الشعوب الصفراء، ليست على مقاس العربي، ليست على مقاسي ومقاسك، لابد أن تكون غربية أو أوروبية أو أمريكية أو كندية أو شقراء أو طويلة أو بعينيين عسليتين أو خضراوين أو زرقاوين وما إلى ذلك، المُهِم أن بعضهم علق بتعليقات غير مُناسِبة، ففكرت وقلت ما عسانا لو طرحنا سؤالاً؟ هذا السؤال سيضعنا مُباشَرةً أمام مُصيبتنا في أنفسنا التي لم نُواجِهها تقريباً ولا نُحِب أن نُواجِهها، هذه مُصيبة حقيقية، المُصيبة لدينا ليست في هذا الرجل، السؤال ببساطة بخمسة وأربعين مليار ألا يستطيع أن يتزوَّج أجمل جميلات العالم في عينيك وعينيها؟ أكيد طبعاً يستطيع هذا، ملايين الفتيات سيُهرَعن إليه ليكن خدماً عند قدميه، لكنه لم يفعل، إذن هو ليس مُتورِّطاً كما ترى، قد تقول هو مُتورِّط مع هذه الفلبينية وكذا وتضحك، هو ليس مُتورِّطاً، أنت المُتورِّط، أنت مُتورِّط حتى فرطك دون أن تدري،
أنت ضائع دون أن تدري، ما الحكاية؟ الحكاية أن الرجل أصيل، في حبه أصيل، في مشاعره أصيل، هو يعلم حين رأى هذه السيدة الكريمة – يوم رآها – أن قلبه دق لها، لم يدق لي مُمثِّلة من مُمثِّلات هوليوود Hollywood، لم يدق لأي شقراء أو صفراء أو حمراء أو زرقاء أو خضراء، لم يدق لهن لكن لهذه دق، الأرواح جنود مُجنَّدة، هو حر فلماذا تدس أنت أنفك في شأنه العاطفي؟ هل لك علاقة بقلبها أيضاً أيضاً يا عربي؟ هل لك علاقة بهذا يا طاغوت؟ هذا مُهِم لكي تعرف من أين كل هذا الطغيان الذي نحن فيه، أكثر ما يُزعِج ويٌقلِق – والله العظيم – هذا، حين أنظر في نفسي وأنظر في الناس وفي إخواني أقول هم الآن وادعون طيبون لكن ماذا لو استلموا سُلطة؟ ويترجَّح عندي في الأعم أنهم سيكونوا طواغيت، بل أشد من هؤلاء الطواغيت والله العظيم، أعرف علمياً كيف يُمكِن أن يجري هذا الموضوع، فالثقافة معطوبة إلى الآن، ليست ثقافة فيها صدق، ليست أصيلة، ما معنى الأصالة؟ الأصالة أن يكون ما تُظهِره لك حقاً، حين تُظهِر فكرة هل هى فكرتك أم إنك بلعتها وتُردِّدها كماء النوافير؟ ترى الماء وهو يطلع وينزل لكنه نفس الماء، كمية من الماء مُحدَّدة والكل يُردِّدها بعد ذلك كماء النفور، ليس كماء النهر الذي يجري، هذا هو الإبداع، الإبداع ماءُ نهر، التكرار والتقليد والافتعال والإدعاء ماءُ نافورة، هو هذا، الأصالة في العواطف وفي المشاعر أن تُحِب – حين تُحِب – بقلبك أنت لا بقلب أمك، أمي ارتاحت لها لكن ما علاقة أمي بهذا؟ أنا الذي سأتزوج، أنا لم أرتح لها، أمي أحبتها وخالتي قالت وأختي الكبيرة قالت لكن هذا لا يهمني، هاته التي أحببتها سخرت منها أمي وخالتي تقريباً جاءتها حالة إغماء وقالت ابن أختي صام وأفطر على كذا وكذا، ما علاقتك بي؟ العجيب أننا بنينا ثقافة تجعل هاجسنا تصديق توقعات الآخرين منا، هل تعرفون كيف هذا؟ أنت شيخ – سوف أُمثِّل بنفسي – ونحن نتوقَّع من الشيخ أن تكون لحيته كبيرة وأن يلبس الدشداش والعمامة، لكنني لن أفعل هذا، سأُكذِّبك ألف مرة في توقعاتك، لن ألبس كما تُريد، ولن أحكي وأرطم كما تتوقع مني، سأحكي وألبس كما أنا مُقتنِع وكما أنا مُرتاح، إذا كان يوافقك هذا أهلاً وسهلاً، إذا كان لا يُوافِقك لديك غيري، هناك دكاكين كثيرة مفتوحة، هاجسنا أن نُصدِّق توقعات الناس منا، أمي تتوقع أن أُحِب مَن أحبت هى، وهذا غلط طبعاً، لن يصدق هذا التوقع، مع احترامي لكٍ وأنتِ على العين وعلى ألف رأس أيضاً، هذه أمي لكنني لن أفعل، سوكربيرج Zuckerberg أو زوكربيرج Zuckerberg تزوَّج بمَن أحب وهو سعيد، واضح أنه سيكون سعيداً، وواضح أننا تُعساء وسنظل تُعساء حتى نتعلم الأصالة وأن نكون أوفياء لمشاعرنا، لم أُكذِّب مشاعري وأكتب لكي ألعن أحدهم وأنا مُعجَب به؟ هذا مُستحيل، لن ألعنه بل سأترضى عليه وأقول أُحِبه وأرفع له القبعة، سيلعنني قومي ولن يهمني هذا، أنا مُرتاح وهم مُتعَبون، هم كذّابون ومُزيَفون.

انتبه ودائماً صدِّق توقعك من نفسك، استثمر في إنسانيتك وفي شخصيتك، إذا شعرت بشيئ قله، اصدر عنه بغض النظر عن توقعات الآخرين، هذا العبد الذي يرضاه الله، هذا العبد الذي خلقه الله، الله أعطاك الحرية بإزاءه هو – لا إله إلا هو – فلماذا يأخذها إنسان مثلي؟ هل فهمت؟ لماذا؟ مَن أنت؟ الله – عز وجل – شاء أن يجعلني حراً إزاءه، وقال لي يا عبدي تقدر على أن تعبدني وتقدر على أن تُجدِّف في حقي، والحساب يوم الحساب، لكن في الدنيا أعطيتك الحرية، لن أشلك ولن قطع دابرك ولن أكسر فقارك، بل سوف أُعطيك فرصة طويلة لكي تكفر وتُلحِد وتُجدِّف وتكون ما أردت، لأنني شئتك أن تكون حراً، ومن هنا أنت خليفتي في هذا العالم، أي في الأرض، إذن جعلني إزاءه حراً له أكون إزاءك عبداً أو بإزاء المُجتمَع؟ بإسم ماذا؟ لماذا؟ هذا خطأ كبير، فلسنا أصلاء في عواطفنا، وطبعاً بالحري لسنا أصلاء في أفكارنا، نُردِّد ما يُوضَع في أفواهنا وما يُحشى في أدمغتنا حشواً، يحشون رأسك بالجُملة، بالمجراف يجرفون ويحشو لك رأسك بأمور لا هم درسوها ولا سآلوها ولا تقصوا بشأنها ولا أنت درستها ولا سآلتها ولا تقصيت ومع ذلك تُردِّد، فعاد خليفة الله ببغاء أو عاد خليفة الله قرداً في النهاية، أعوذ بالله، حاشاك، لا تسمح لنفسك أن تكون كذلك، فالأصالة مسألة مُهِمة جداً، والأصالة علاقتها بالحرية علاقة ترجمة، هما وجهان لعملة واحدة، إذا وُجِدَت الحرية وُجِدَت أصالة، علماً بأن هذا هو سر الإبداع، لماذا المُبدِعون العظام يُبدِعون؟ لأنهم دائماً يتحركون بأصالة، لا يرى الواحد منهم نفسه مُلزَماً أن يتحرَّك داخل النمط وداخل النموذج Paradigm، هذا النموذج – Paradigm – الكل مُوافِق عليه ويقتنع به الناس العظماء في العلم لكن أنا أرى أنه لا يصلح، فلنُفكِّر في نموذج – Paradigm – آخر، وأعتقد أنني ذات مرة سُقت لكم طرفة لطيفة جداً، وهى تُذكَر فعلاً في هذه الدراسات لأنها تتحدَّث عن الأطر وعن الصندوق وعن النماذج -Paradigms – وعن هذه الأشياء، وهى جميلة جداً جداً جداً، تقول كان يُوجَد رجل بسيط وهو مُزارِع فقير كل يوم ينتقل من بلدة إلى بلدة أخرى، لكن هذه البلدة تتبع دولة، وتلك تتبع الدولة المُجاوِرة، وهناك طبعاً الجمارك لوجود أشياء تُجمرَّك، وكان في كل يوم يُدخِل معه رزمة برسيم كبيرة، وأنتم تعرفون البرسيم وتعرفون هو علف ماذا، هذه حشائش فقط، يبحثون عن أي شيئ آخر ولا يجدون شيئاً، عنده موتوسيكل قديم يضع عليه البرسيم فقط، وكل يوم يخرج إلى هذه البلدة، وبعد فترة اغتنى، ظهرت على هذا الرجل إمارات الغنى وبنى عمارة وصار عنده سيارة، ما القصة؟ من أين لك هذا؟ قال من تجارتي، قيل له أي تجارة؟ البرسيم لا يأتي بكل هذه الأموال، فقال أي برسيم؟ تجارتي في الموتسيكلات، هو في كل يوم كان يُدخِل موتوسيكلاً إلى البلدة، يذهب بالموتوسيكل وعليه البرسيم، لكن الضابط – Officer – الذي يعمل في الجمارك عنده نموذج – Paradigm – محدود في البضاعة، البضاعة التي يحملها هذا الموتوسيكل، لم يخطر على باله مرة أن من المُمكِن أن يكون هذا الموتوسيكل -Motorcycle – نفسه هو البضاعة، ولك أن تتخيَّل هذا، هذا الرجل الذكي فكر بهذه الطريقة واستطاع أن يضرب ضربته لأنه عبقري، هذه هى العبقرية، فكِّر دائماً خارج النموذج Paradigm، وهنا قد تقول لي كيف هذا؟ كُن حراً فقط، لو كنت حراً ستفعل هذا تلقائياً!
قبل أيام جرى بيني وبين بنتي نقاش، هى تدرس السيكولوجي Psychology، فتُحدثنا عن الموهوبين وقلت لها أنا لا أخاف على أي أحد موهوب، الموهبة عطية الله، وسبحان الله هؤلاء العباقرة قلة قليلة جداً، الموهوب لا خوف عليه لأنه يتسم بإصرار وبعناد لا لأجل العناد ولا لأجل الخروج على سواء الصراط ولا لأجل تحدي المُجتمَع وإزعاج المُجتمَع وإنما طبيعته كموهوب وكبعقري تفعل هذا، ولذلك لا خوف عليه، في النهاية هو سيبلغ ويُحقِّق علم الله فيه، فقالت لي يا بابا اليوم البروفيسور Professor حكى نفس الكلام، قال لنا الموهوبون لا يعنيكم من أمرهم الشيئ الكثير، هم سيُحِّققون ذواتهم بطريقةٍ أو بأخرى، وهنا قد تقول لي هل كنت أنا موهوباً وقتلوا موهبتي في المهد لكن بأساليب خارجة عن المُعتاد وهى أساليب اضطهاد حقيقية؟ هذا مُمكِن طبعاً، وفي نهاية المطاف حتى العبقري مُمكِن أن يُقتَل كما قُتِل لافوازييه Lavoisier، قد يُشنَق وتُقصَل رأسه أصلاً، فمن المُمكِن أن يقصلوا رأس موهبتك بطريقة أو بأخرى في الصغر، وهذا شيئ فظيع، فعلينا أن نُوقِّر الحرية – أن نُعيد للحرية توقيرها – وأن نكون أحراراً لنكون أصلاء، أصلاء في أفكارنا وأصلاء في عواطفنا، لا يهولنا كثرة مَن يُخالِفنا ولا يُوحِشنا قلة مَن يُوافِقونا، أسأل الله تبارك وتعالى لي ولكم مزيد الهداية والتوفيق.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم اهدنا فيمَن هديت، وعافنا فيمَن عافيت، وتولنا فيمَن توليت، زِدنا ولا تنقصنا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وأكرِمنا ولا تُهِنا، وارض عنا وأرضنا برحمتك يا أرحم الراحمين، لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه برحمتك وفضلك ومنّك إلهانا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

 (انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (11/12/2015)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقات 3

اترك رد

  • فعلاً أجمل ما في الإنسان أن يعلم أن ما به من نعمة فمن الله وحده لا شريك له و لا حتى النفس .. فكم ما نسمع أناساً يفتخرون بما ليس لهم به يد البتة بل هو هبة الله و ربما هذا سبب مقت الله لنا هذه الآونة .. [ أخلق و يُعبَد غيري و أهبُ و يُشكَر سواي ] .. من يعرف أن ما جاءه من خير هو من الله كتبه الله شاكراً و سيزيده نعيماً لأنه عبَّر بذلك عن عدم استغنائه عن ربه مهما كان حوله من أسباب الترف و القوة فهو في قبضته تعالى و بنفس الوقت يرتاح راحة ما بعدها راحة إذ استودع نفسه و عمله و شأنه كله رباً كريماً قوياً مالكاً مهيمناً قادراً عظيماً فهو متوازن مع من أعلى منه و مع من دونه لا ينظر إليهم إلا و هم في قبضة الله كما هو في قبضته الكل لا يحيد عنها البتة ..

%d مدونون معجبون بهذه: