إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۩ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ۩ وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ۩ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ۩ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ۩ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ۩ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۩ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ۩ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

نبدأ خُطبة اليوم بالسؤال أو التساؤل عن مُستقبَلنا الروحي والقيمي والأخلاقي – أي مُستقبَل أمتنا الروحي ومُستقبَلها الأخلاقي والقيمي – ولن أُطيل في مُداوَرة هذا السؤال، بل سأُسارِع إلى القول وفق ما أرى وأرجو صادقاً من قلبي أن أكون مُخطئاً تماماً، فالذي أراه وأُقدِّره وأحدس به أن مُستقبَلنا الروحي غائم، وفي الأرجح المُستقبَل الروحي لهذه الأمة ليس على ما يُرام والمُبرِّرات عديدة، والإسلام السياسي لن نخوض فيه الآن، لأن الإسلام السياسي لا يجعل من القضية الروحية أولوية من أولوياته، فأولويته هى السُلطة، وهو يزعم أنه حين يحتاز هذه السُلطة ويستولي عليها ويقتعد مكاناً فيها فإن الأمور كلها ستجري على ما يُرام، وهذا وهمٌ كبير وأشبه أن يكون تفكيراً ساذجاً ولا أريد أن أنعته بأكثر من هذا، فلن يكون كل شيئ على ما يُرام إذا وصلنا إلى السُلطة، وطبعاً يعنينا في هذا المقام – كما قلت لكم – المسألة الروحية والقضية الروحية، فالطرح السياسي أو تسييس الإسلام في مُجمله ينظر نظر استخفاف إلى المسألة برمتها – أي إلى المسألة الروحية – ويقول لك هذا شأن فردي – وبلا شك هو شأن فردي – وأشبه ان يدخل في اختصاصات الدراويش والمُتصوِّفة، فما علاقتنا به؟ ولذلك هم لا يُعنون كثيراً بهذا الشأن، وطبعاً دعوكم من الكليشيهات الجاهزة والأزعومات الفارغة في شكل جُمل مُنمَّطة، أن ديننا كذا وكذا وطريقتنا كذا وكذا، فهذا كلام فارغ، وفي الحقيقة حتى في الأدبيات – أدبيات الإسلام السياسي – تقريباً الروح غائبة، هى في المسلكيات غائبة تماماً، فكيف يتعاطى بعضهم مع بعض؟ وكيف يتعاطون مع الآخرين؟ لا دخالة أبداً للمسألة الروحية، وطبعاً المسألة الروحية تُترجِم نفسها وتُمظهِر ذاتها مُباشَرةً في شكل سلوكات راقية وراقية جداً، بل هى الأرقى، فكلما كانت علاقتك بالله – تبارك وتعالى – أمتن وأصح وأقوى وأكثر عافيةً وسلامةً كلما كنت إنساناً عظيماً مع المسلمين ومع غير المسلمين، فأنت سوف تكون إنساناً كريماً وإنساناً عظيماً، وسوف نُحاوِل أن نشرح هذا وكيف يتم هذا، وكلما ابتعدت عن الله – تبارك وتعالى – وأغرقت في أشياء أُخرى كلما تهششت شخصيتك وأصبحت شخصية مُتداعية وضعيفة وبائسة، وربما أكثر سوءً مما تظن أو مما تتوهم للأسف، فالذي لا يُعيننا على إصلاح أنفسنا إعجابنا بأنفسنا، لكن الكل تقريباً مُعجَب بنفسه رغم أنه يُدرِك أن له بعض الأخطاء، مع أن سلوكه في المُجمل قد يكون مُعظمه سلوكاً خاطئاً وسلوكاً مُتدهوِراً وهزيلاً ومُزلزَّلاً، لكن هو لا يرى إلا بعض الأخطاء البسيطة التي يدفع ثمنها وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فهذه طريقة الإنسان في اصطفاء الأمور وفي النظر إلى الأمور من أي زاوية، فالخطأ الذي يدفع ثمنه يراه ويعترف به، أما الخطأ الذي لا يدفع ثمنه بل ربما يجني لقاء هذا الخطأ مكاسب سريعة لا يُمكِن أن يراه، بل هو سيعتبره من عداد ومن عتاد – أي من عُدة – النجاح، فيقول أن من أسباب النجاح هذا السلوك وهذا الفهم وهذا التصور، وهذه كارثة!

لذلك الكارثة الروحية لابد أن تتظاهر بالكارثة القيمية الأخلاقية، وطبعاً واضح أن حالنا وبالتالي مُستقبَلنا القيمي فيما نرى أيضاً ليس على ما يُرام، فهو يتدهور بشكل سريع وسريع جداً، وخُذوا ما شئتم من القيم كمثال، خُذوا مقطعاً من هذا الجيل ومن أي دولة عربية شئتم، وطبعاً نحن لسنا خبراء بالأمم الإسلامية ولا نعرف كل شيئ بالتفصيل أو بما يُقارِب التفصيل عن أندونيسيا وعن ماليزيا وعن الباكستان وعن مسلمي الهند والصين وعن تركيا وعن الفرس أو إيران، لكن نعرف عن العرب لأن نحن من العرب، فهذا ليس نزعة أبداً وإنما هذا هو الواقع، فلأننا عرب نعرف أنفسنا ونعرف أحوال بلادنا، فخُذوا أي شريحة من أي مُجتمَع عربي وقيسوها و قارنوها بشريحة من هذا المُجتمَع قبل خمسين سنة، لقد كانوا أنبل منا، آباؤنا وأجدادنا قطعاً أنبل منا وأشرف منا وأكثر خوفاً وخشية وتعظيماً وإجلالاً لله منا، فقطعاً كانوا أحسن منا، وعلاقتهم مع الله كانت أفضل وكذلك علاقاتهم الاجتماعية كانت أفضل أيضاً، فكان لديهم الأمانة والصدق والشرف والنزاهة والعفة وإلى آخر القائمة الطويلة النبيلة من هذه القيم، وهذا أفضل بكثير!

ليسأل كلٌ منكم نفسه – وقد سألت نفسي هذا السؤال مرات كثيرة والجواب واحد – هل يوجد ممن تعرف اليوم أحد يُمكِن أن تأتمنه على السر؟ تقريباً لا يكاد يوجد، وكلما اختبرت أحداً وأفضيت إليه بسر ما هى إلا أيام وأحياناً سويعات حتى يعلم القاصي والداني، مرة عن طريق النساء ومرة عن طريق الأطفال ومرة عن طريق المُحِب ومرة عن طريق المُبغِض، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، ومن ثم تقول أين الرجولة؟ أين التربية؟ أين تربى مثل هذا الشخص؟ أين تربى مثل هذا الكائن أو مثل هذا الإنسان؟ تستودعه سراً وتستحلفه بالله فإذا العالمون كلهم على دراية، فهو لا يستطيع ألا يفعل لأنه شخصية هشة، وأنا أُقصِّر الطريق عليكم وأقول لك ارح نفسك ولا تتعنى ولا تُتعِب نفسك، فهذه الشخصية لا يُمكِن أن تكون موضع ثقة في أي موضوع، فبالله العظيم هذا لا يُؤتمَن لا على عرض ولا على مال ولا على دين ولا على دعوة ولا على أي شيئ، لأنها الفضائل لا تتجزأ وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فالإنسان بُنيان وشخصية، هو إسمه شخصية واحدة وليس شخصيات، وبالتالي نحن نتحدث عن شخصية مُتكامِلة، لها أساس ولها رأس كما نقول، فحين يكون بهذه الهشاشة وبهذه الضحالة وبهذا التفكك ينتهي كل شيئ، لا يُمكِن أن يكون موضع ثقة لأي شيئ، فهذا مُستحيل، ودعوكم من الكلام، داؤنا نحن العرب العياء الذي تقريباً لا شفاء منه هو الكلام، فمُعظم أخطائنا وكوارثنا سببها الكلام وعشق الكلام والتنظير للكلام والظن أن الكلام يُبريء الذمة، مثل الكلام في القضية الروحية والكلام في القضية القيمية والكلام في القضية السياسية والكلام في كل شيئ، كلام في كلام في كلام، والكلام ليس عليه ضرائب كما يُقال ولذلك نحن نتكلم كثيراً وننصح كثيراً لأن الكلام مجاني، فأنا مُتأكِّد من أن أكثر أمة تعظ وتُحِب المواعظ هى الأمة العربية، فنحن نعشق المواعظ كثيراً، مشعورة ومنثورة – إن جاز التعبير – أو منظومة ومنثورة، لكن أقل الناس استفادة منها نحن، لأن المسألة ليست مواعظ، المسألة مسألة تربية وتأسيس من الصغر قيل فيه كالنقش على الحجر، أما الكلام مع الكبار فلا قيمة له خاصة من الذين لم يتأسسوا وضيعهم والدوهم وضيعهم الآباء والأمهات ولم يرعوا لله حرمة فيهم ولم ينفحوهم خير ما يُمكِن أن ينفحه ويهبه أبٌ وأم لابنه وهو التربية الصالحة وأن تُعلِّمه كيف يكون إنساناً عزيزً وعفيفاً ونزيهاً وقنوعاً، فلا ينظر إلى ما ليس له ولا يطمع فيما ليس له، وأن يتعفف وأن يحترم نفسه، فالذي يحترم نفسه مُتصالِح مع نفسه أيضاً، وهذا الشخص يُمكِن أن تأتمنه على سرك وعلى عرضك وعلى مالك، وأن تأتمنه على سُلطة وعلى منصب وعلى دين وعلى دعوة وعلى أشياء كثيرة، لكن لماذا؟ لأن مركز الثقل فيه ذاتي، فهو يُوجَد في الداخل، وهو لا يعنيه أن تقول أنت عنه أنه أمين وأنه كذا وكذا أبداً، هو يعينه أن يكون أمام نفسه كذلك.

أحدهم كان طالباً في الجامعة وكان يُحدِّث قائلاً: بيتي كان مضافة للناس، فكل يوم غداء وعشاء لدي، وذات يوم أخطأت الحساب، فإذا بذلك اليوم كان يوم عيد في البلد، والبلد مُغلَقة وكل شيئ فيها مُغلَق، وكنت صائماً وعند المغرب فُوجئت بعدم وجود أي شيئ في البيت ليُحضَّر طعاماً على الإطلاق، فلا شيئ إلا الماء.

ثم وجد رأس بصل – كما يُقال – فماذا يفعل؟ علماً بأن جاره الذي يأكل عنده يومياً تقريباً – كل يوم يتناول عنده الغداء والعشاء – كان على مبعدة منه عشر خطوات فقط لأنه في نفس الشارع، لكنه قال مُستحيل أن أذهب إليه، لأنني إن ذهبت إليه سأذهب بعنوان زائر ضمن زيارة في الله، لكن أنا في الحقيقة سأذهب لأطعم، وبالتالي لن أفعل.

فهو لم يستطع أن يحتمل هذا من نفسه رغم أن صاحبه وجاره لن يراه كذلك أبداً، بل سيراه زائراً جاء عفو الخاطر وسيُقدِّم له طعام الضيف، لكن نظرته إلى نفسه منعته من هذا فقال مُستحيل أن أفعل، وبات على الطوى إلى يومٍ آخر ولم يطعم، فما هذه التربية؟ هذه هى التربية التي يغرسها الأب والأم، فكيف تكون مُحترَماً؟ يجب أن تكون في الداخل مُحترَماً، لا أن تُظهِر الصدق للناس وأنت الأبعد كذا وكذا، وأن تُظهِر العفة للناس والنزاهة وأنت على عكس هذا، فهذه هى التربية ولذلك هى أعظم ما يُمكِن أن نُورِّثه لأبنائنا بأن نُربيهم التربية الحسنة، لا أن نشترى لهم الملابس والسيارات الألعاب والنينتندو Nintendo والأكل والشرب والمصاصات وما إلى ذلك، ليس هذا أبداً، فهذه الأشياء عرضية ويستطيع أن يُوفِّرها كل أب تقريباً على تفاوت، لكن ليست هذه هى وليس هذا هو الشيئ المُهِم، فحتى الحيوانات تُوفِّر الطعام والمأوى والمأمن أيضاً لأولادها، فليس هذا هو المُهِم، لكن المُهِم هو القيم، لأن نجاح الإنسان في الحقيقة في الحياة بمنظوره الذي ينطلق منه والذي يستلهمه في مُعامَلة الآخرين وفي النظر إلى نفسه وإلى الحياة وإلى الوجود كله، فهذا المنظور هو أس هذه القيمة وجذر هذه القيم، وهذا المنظور يُسمى برؤية العالم -WorldView – كما يقولون، أي كيف ينظر هو إلى العالم وإلى وجوده وإلى نفسه وإلى المُجتمَع وإلى الآخرين وإلى الدين وإلى الأخلاق وإلى كل شيئ؟ فهذا هو دور الأب والأم والمُدرِّس – إن وُجِدَ المُدرِّس – والشيخ – إن وُجِدَ الشيخ – وهكذا، إن بقى أحد يعرف كيف يُعلِّم الناس وكيف يُربي الناس، فالمُستقبَل القيمي غائم جداً، وأكثر ما يرفد المُستقبَل القيمي – كما قلت لكم – الروح، لذلك حين تخبو الروح وتنطفيء الروح اقرأ السلام بل صل الجنازة على القيم فقد انتهى كل شيئ، ولا تغتر لا بلحى ولا بصور ولا بشهادات ولا بألقاب ولا بعنوانات، فهذا كله كلام فارغ، فسوف تُفجَع هنا وتُفجَع هنا، وستظل تُفجَع إلى أن تلقى الله، لعدم وجود روح حقيقية ولعدم وجود صلة حقيقية بالله تبارك وتعالى، فهى التي – كما قلت لكم – تُنتِج أعظم إنسان وأكرم إنسان وأنبل إنسان، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق لكن هكذا هى العلاقة الحقيقية بالله تبارك وتعالى.
طبعاً هنا سأسأل سؤالاً له طابع فلسفي، وفي الحقيقة علماؤنا طرحوه وشيوخ الإسلام الكبار طرحوه وأجابوا عنه، ولكن نحن لا نُوافِقهم فيما ذهبوا إليه، فهؤلاء العلماء قرّروا أن التصديق الجازم قد لا يتبعه – أي لا يستتبع بالضرورة – تمام عمل القلب وتمام المشاعر، فهذا ليس شرطاً، أي أن هناك حالة فصام الآن بين التصديق وبين المشاعر، وأنا لا أوافِق على هذا إلى الآن على الأقل، فبحسب منظوري البسيط لا أُوافِق على هذا، فهذا الكلام صحيح وصحيح تماماً بصدد العلاقة مع غير الله، أما بصدد العلاقة مع الله – تبارك وتعالى – فعكس هذا هو الصحيح، لأن بمقدار ما تكون جازماً في تصديقك بمقدار ما يُولِّد هذا التصديق الجازم مشاعر كاسحة، فهى تكتسحك ومن ثم لا تملك إزاءها أي حيلة لأنها تكتسحك رغماً عنك، ومن هنا مُعجِزة الإيمان التي شاهدناها في الصحابة الكرام وفي الأولياء الكبار وفي الأئمة العظام، وهذا شيئ – كما قلت لكم – لا يكاد يُوصَف ولا يُصدَّق، فكيف يُمكِن لبشر من لحم ودم يكون بهذا النبل وبهذه العظمة؟ لأنه مُؤمِن صادق ومُؤمِن حقيقي، فهو ليس من مُؤمِني الكلام ومُؤمِني التنظير ومُؤمِني الدعاوى والأزعومات، بل هو مُؤمِن حقيقي، وسأشرح هذا.

نحن الآن بصدد العلاقة مع غير الله، مثل علاقتنا مع الملوك ومع السوقة ومع العلماء ومع الجهلاء، فنعم من المُمكِن أن يكون هناك نوع من التصديق الجازم، ولكن لا يُوجَد كِفاءه وبإزائه مشاعر تُناسِبه، فأنا أُصدِّق جزماً أن هذا الملك مُسلَّط وجبار وعنيد وإذا حفزته على الغضب ربما ألقى بي في غيابة السجن وربما ضرب عنقي، فأنا أعرف هذا تماماً، وقد رأينا برهانه مائة مرة من خلال هذا الظلم الصادر عن هذا الظالم المُسلَّط، لكنني مع ذلك قد لا أنطوي على مشاعر الإجلال له، فأنا لا أُجِله، وقد لا أخشاه وقد لا أخاف وقد أستفزه وقد أُهينه أيضاً، وهذا يحدث كثيراً، فكل الثوار وكل المُتهوِّرين أيضاً من غير الثوار وكل العلماء الكبار والصادقين فعلوا هذا واستفزوا هؤلاء الملوك المُسلَّطين الظلمة وأهانوهم وجرحوا كبرياءهم ثم لقوا حتفهم، لقوا الحتف الأحمر وهم بسّامين ضاحكين، فلماذا؟!

أكثر ما يستطيع أن يُعاقِب به وأن يُرهِب به هذا الملك المُسلَّط الظالم الجبار العنيد هو أن يقطع الرزق، أي أن يقطع له المُرتَّب، لكن الرزق بيد الله، أويُودِع في السجن وينفي من الأرض ويضرب الأعناق، وهذه الأشياء عند بعض الناس لا تُخيف لأنهم تغلبوا عليها، فهم لا يخافون من الموت ولا يُبالون بالأرزاق ولا يخافون من السجن ولا النفي أبداً، فهؤلاء الجبابرة موجودون، لأن الواحد منهم يعلم علم اليقين أن بيد فلان أن يُعطيه وأن يُغنيه وأن يقضي عنه دينه الذي أهمه وأذله – يعلم هذا ولديه تصديق جازم، خاصة إذا كان فلان هذا من الأغنياء وكان كريماً – ولكنه لن يُظهِر له الذل والخشوع والمسكنة، فلن يفعلها ولن يطلب منه، لأن هناك مشاعر مُختلِفة، فعنده مشاعر ترفع وتعزز على أنه مدين ومحتاج المسكين لكن عزته تمنعه وشرفه الذاتي يمنعه.

إذن مُمكِن يحصل هذا الفصام وهذا الانكسار – حالة الانكسار – بين التصديق وبين المشاعر في علاقة البشر بالبشر، أياً كان هذا البشر، ملكاً كان من الموك أو السوقة، هذا أمر عادي في حق البشر فقط، فلا يُمكِن أن تُحدِّثني عن هذا في حق الله، لكن للأسف بعض مشائخ الإسلام زعموا أن هذا صحيح في حق الله أيضاً، وهذا غير صحيح، هذا نوع من التبرير لكذب إيماننا ولضعف عقائدنا ولتشويهنا لمفهوم الله نفسه – لا إله إلا هو – ولإلحادنا، ومن ثم أنا أُسمِّي خُطبة اليوم بإلحاد المُؤمِنين، كيف يُلحِد مُؤمِن؟!

قال الله وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ ۩، هم قالوا هذه في المُشرِكين، وهذا غير صحيح فهى في المُؤمِنين أيضاً، فحتى المُؤمِن من المُمكِن أن يتورط في الإلحاد، نعم ليس في الإلحاد الكلي بأن يُنكِر وجود الله وإنما في الإلحاد جُزئي بتحريف مفهوم – المفهوم أو المدلول أو المعنى، ليس اللفظ وإنما المفهوم Concept – الله، فالله هذا لفظ، لكن ما هو مدلوله عندك؟ كيف تفهمه أنت؟ قطعاً مدلول الله عندك غير مدلوله عند الرسول في أشياء كثيرة، فمن المُستحيل أن يكون مثله، ومن هنا إيمان الرسول شيئ وإيمانك أنت شيئٌ آخر، فكيف تتعاطى مع الله أنت؟ كيف تفهم الله تبارك وتعالى؟ ما مفهوم الله عندك؟

سأسألكم سؤالاً: لو أردت أن تستوثق من أحدهم بعزيمة يمين – مُشكِلة بينك وبين واحد من الناس وأردت أن تستوثق بعزيمة يمين بمعنى أن يحلف ويُغلِّظ اليمين – ليس فيها شك ولا ارتياب، فبالله عليك لو قال لك “والله، والله، والله العظيم كذا وكذا” هل سيكون تصديقك هنا أعظم أم حين يقول لك “عليك الطلاق من زوجتي” سيكون تصديقك أعظم؟

أنا أجزم بنسبة تسعة وتسعين فاصل تسعة تسعة تسعة إلى انقطاع النفس أن عندما يقول لك “عليا الطلاق” سوف يكون تصديقك أعظم بكثير طبعاً وسوف تُصدِّق ما يقول، لذلك إذا أراد أحدهم أن يعزم اليمين يقول لك هل أحلف لك بالطلاق؟ إذن عليا الطلاق سأفعل كذا، وذلك طبعاً لأن الحالف والمحلوف له كلاهما مُلحِدان في مفهوم الله عز وجل.

لقد خُفِّضَ مفهوم الله في وجداننا وفي مشاعرنا إلى الدرجة التي لم يعد هذا المفهوم يُشكِّل ضمانة حتى في الاحتفاظ بالحقوق المادية التافهة، كأن نتنازع على مائة يورو أو على ألف يورو، فكلمة الله وقولنا “وحياة الله ووالله ووالله العظيم” لا يُشكِّلون أي ضمانة، فهم يحلفون وهم كاذبون، ومع ذلك يُقال لك هؤلاء مُؤمِنون ومشائخ وبلحى والواحد منهم يرتاد المساجد ويُصلي الخمس في الجماعة، وهذا شيئ لا يكاد يُصدَّق، فهذا نوع من الإلحاد في أسماء الله وصفاته، أي في المفهوم، وهذا تماماً كإلحاد الذين يظنون ويُبرهِّنون ظنهم الباطل وظنهم الإجرامي بأن إيمانهم بالله يُعطيهم رخصة لقتل الناس ولذبح الناس وللفحش على الناس ولسب الناس ولتكفير الناس ولزندقة الناس وللقول للناس إما أن تمشوا في طريقنا وإلا فأنتم هدر وأنتم مُباحو الدماء، فأنا أسأل مَن أنت؟ وأنت مَن أنت يا أخي؟ مَن أنت يا مَن تُنزِل نفسك منزلة النبي نفسه ما أنزله الله إياها؟ مَن أنت يا رجل؟ كيف تعمل كمُسيطر على عباد الله وتُؤكِّد أنك مُسيطر وأنك جبار وأنك وكيل وحفيظ وشهيد وأنت لست بشيئ؟ لكن لماذا هو يفعل هذا؟ لانه مُلحِد، ليس مُلحِداً إلحاد النفي بمعنى إنكار وجود الذات الإلهية، وإنما هو مُلحِد في فهمه لله، فهو لم يفهم الله ومن ثم مفهومه لله مُخفَّض ومُشوَه، يقول الله وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ ۩، فهذا هو إذن، ولذلك أنا أقول لكم أن مُستقبَلنا الروحي خطير وغائم وليس على ما يُرام، فإذا كان الإيمان بالله لا يُشكِّل ضمانة لأسترجع مائة يورو من حقي فإذن ما هى الضمانة؟ أين الضمانة؟ سلوا أنفسكم هذا السؤال بصدق وبجد، خُذوا الأمر بجد لأن هذا ليس فلسفة على المنابر وكلاماً يُقال أبداً، فشرع الله يضمن حقوق الناس التي فيها قطع رقاب واسترجاع أموال وتبرئة أعراض بالشهادة بإسم الله والحلف بإسم الله، لكن كل هذا أصبح عند الأمة – إلا ما رحم ربي وكثرهم الله تبارك وتعالى – لا شيئ، فالواحد منهم يحلف لك ويطعن في أعراض الناس، يحلف لك ويطعن في أمانات الناس وفي دين الناس، يحلف بالله ويتغول أموال الناس وحقوقهم بإسم الله، الله أكبر والله المُستعان على ما نحن فيه، فأين الإيمان الحق إذن بالله؟!

إذن المسألة مسألة التصديق، فلا يُوجَد تصديق جازم، هذا كله كذب، فلا تُصدِّقوا كلام بعض مشائخ الإسلام الذين يقولون يُوجَد تصديق لكن لا تُوجَد مشاعر، فهذا غير صحيح، لأننا فهمنا أن في حق البشر من المُمكِن أن يُوجَد تصديق ولا تُوجَد مشاعر تُكافيء التصديق، هذا صحيح وهذا يحصل كثيراً، لكن في حق الله هذا مُستحيل، فمن المُستحيل أن تقول لي أنا مُصدِّق بأنه – لا إله هو – موجود وبأنه رقيب علىّ وبأنه مُسيطر ومالك الملك وبأنه المُجازي والدائن والمُحاسِب ومالك يوم الدين والغفور الرحيم – لا إله هو – وشديد العقاب – وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ۩ – ويُعذِّب ويُهلِك ويُدمِّر مَن شاء ثم لا تخاف عُقبى ما تفعل، وأنا لا أُصدِّق أن تقول لي أنا مُصدِّق بهذا جزماً ولكنني لا أشعر بتلك الخشية منه – لا إله إلا هو – ولا أشعر بذلك التوقير والإجلال له ولا أشعر بعظمته في قلبي بحيث تمنعني أن آخذ ما ليس لي وأن أحلف بإسمه كذباً، فأنا لا أشعر، ولكن أنا أقول لك أنت لا تشعر وأنا أيضاً لا أُصدِّق بأنك تُصدِّق، فأنت مسكين.

هل تعرفون لماذا؟ هل تعرفون ما هو الفرق إذن بين هذه الحالة وبين حالة العلاقة مع البشر؟! سنُوضِّح لماذا، وذلك لأن الله أكبر، وهذا هو معنى الكلمة التي نقولها مع كل ركعة “الله أكبر، الله أكبر”، لكن كيف يكون الله – لا إله إلا هو – أكبر؟ يعني هو أكبر من كبريائك وأكبر من هواك وأكبر من حقدك وأكبر من غضبك وأكبر من حرصك وأكبر من حاجتك و أكبر من كل أدوائك وأهوائك ورغائبك.

مشائخ الإسلام الذين قالوا التصديق الجازم قد لا يستتبع تماما عمل القلب قالوا أن ذلك لاعتراض الأهواء من الحسد والغش والحقد والكبر وإلى آخره، وهذا صحيح في حق البشر لكنه ليس صحيحاً في حق الله أبداً، لأن – كما قلت لكم – أكثر شيئ يُمكِن أن يتهددني به بشر هو أن يضرب رأسي، لكن إذا كنت لا أخاف من الموت لن يستطيع أن يُبرهِّن كبرياءه علىّ، فسوف يضيع هذا وينتهي لأن هذا ليس أكبر مني أبداً حتى وإن كان دولة أو كان رئيساً أو ملكاً أو أياً ما كان، فهو ليس أكبر مني، ولكن الله – لا إله إلا هو – أكبر، لكن قد تقول لي بخصوص هذه المسألة “حتى أنا – أستغفر الله – إزاء الله لا أخاف الموت” وأنا أقول لك أنت مسكين وجاهل، فأنت لم تفهم شيئاً لتُصدِّق به، نعم الملك المُسلَّط يضرب عنقك ثم يُنهيك وتذهب إلى رحمة الله أو تذهب إلى حيث أراد الله بك ولك وينتهي كل شيئ، فهذا لا سلطان له بعد ذلك عليك لأن لا سلطان له على مصيرك الأبدي وعلى روحك، فمُستحيل أن يكون له هذا، لكن الله – تبارك وتعالى – لا يتصرف في زمن وإنما يتصرف في الأبد، فالله – لا إله إلا هو – يتصرف في الأبد كما يتصرف في ملكه الذي لا يعرف حدوده إلا هو، فهو – لا إله إلا هو – مالك الملك، ومن ضمن مُفردات ملكه قلبك ومشاعرك يا مسكين، تقول الآية الكريمة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ۩، فهو يملك منك ما لا تملك أنت من نفسك، هو يملك هذا هو لا إله إلا هو، فالله يملك كبرياءك وغضبك وحاجتك وفقرك وعزتك وعلمك وجهلك – لا إله إلا هو – أكثر مما تملك أنت، بل أنت لا تملك هذه الأشياء وهذه المشاعر وهذه الوجدانات إلا بتملكيك إياه، لذلك تقول أنا لا أخاف الموت لكن هو يُميتك – لا إله إلا هو – ثم لا تفوته ولا تُعجِزه، فتسقط في يده وفي قبضة قدرته ثم هو يتصرف في الأبد، فإن شاء عذَّبك عذاب الأبد وإن شاء أسعدك، فمَن يحول بينه وين هذا؟ لا تستطيع أن تقول “أنا أتعاطى تدريبات يوجاوية روحية ومن ثم سوف أتلغب على الألم”، أنت لا تستطيع أن تفعل هذا يا مسكين لأنه يملك منك ما لا تملكه من نفسك، فهو يستطيع أن يُؤلِمك ألماً لا يحتمله أهل السماوات والأراضين، فتبقى في هذا الألم ومن ثم لا تقل لي عندي قدرة تحمل بحيث أُبرهِّن كبريائي إزاءه، لأنك – والله العظيم – لا تستطيع هذا، ومهما أوتيت من مال ومن سلطان ومن علم ومن جاه ومن نفوذ سوف تكون إنساناً عادياً جداًما لم تُدرِك هذا المعنى، ومن الجيد أن تكون عادياً جداً لأنك قد تكون أقل من عادي، فلا تقل لي أنا عندي الملايين لأنه شيئ عادي بل هو عادي جداً، ولا تقل لي أنا رئيس وأنا ملك لأنه – والله – أقل من عادي، فأنت فقط تكون حكيماً ولا تكون إنساناً عادياً إذا أدركت هذا المعنى، لكن ما هو؟ هو أن تُدرِك حاجتك الدائمة الأبدية الجوهرية لله تبارك وتعالى، فدائماً أنت تحتاجه، لذلك أنا أقول لكم خُذوا الآن معياراً هاماً، فإليكم هذا المعيار الذي أسأل الله أن ينفعني وينفعكم به وهو كيف تستطيع أن تروز وأن تقيس مشاعرك ودموعك التي تُسفَّك من خشية الله أو شوقاً إلى الله وحباً في الله؟ متى تستطيع أن تفعل هذا؟ كيف تستطيع أن تُعيّرها وأن تروزها وأن تُقيّمها؟ أنا أقول لك أن أحسن دموع وأصدق دموع هى التي تبعثها أصدق عواطف وأصدق وجدانات تألهية عبودية تعبدية وذلك حين تكون – تقريباً فيما يبدو لك وللناس – في حالة جيدة ولا بأس لديك، بل حين تكون في أحسن الحالات، فلا تحتاج مزيد مال لأن عندك كل ما تحتاجه وزيادة مئات الأضعاف، والصحة ليس بها شيئ بفضل الله عز وجل، فلديك أحسن صحة ما يجعلك تُحسَد عليها، والأولاد من أحسن ما يكون، فهم ناجحون وسعداء ومُستقيمون وراضيون ومرضيون، والزوجة حسناء وجميلة ورضية ومرضية، فكل شيئ على ما يُرام وليس لديك أي مُشكِلة، فلا هم ولا حزن ولا ما إلى ذلك، بل بالعكس أنت موجود في حالة تبعث أمثالك من الناس – أو غير أشباهك من الناس بالأحرى – على ركوب المعصية وعلى الشهوات والاستكثار من المعاصي والمُنكَرات، فكل شيئ موجود لديك ولا ينقصك شيئ ومن ثم قد تبدأ تعبث و تطلب مزيداً من السعادة و مزيداً من التسلية فتتسلى، لكنك لم تفعل هذا، فأنت في هذه الحالة المثالية – Optimal – أو الأمثالية كما وصفت تشعر بعمق الحاجة إلى رب العالمين وتشتاق إليه وتبكي إجلالاً وخشوعاً، فهذه هى أصدق المشاعر وهذه هى أصدق الدموع، ومن ثم هذه تُؤكِّد أن لك فهماً حقيقاً في الله تبارك وتعالى، فمفهوم الله سليم وصحيح لديك إلى حد بعيد على الأقل إلى الآن، فأنت عبدٌ إذن لأن هذه هى العبودية، تقول الآية الكريمة يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ ۩.

فالله أكبر لا إله إلا هو، وبما أنه هو الأكبر فلا غنى بأحدٍ منا عنه – لا إله إلا هو – أبداً، لا أحد يستغني ولا أحد يستطيع أن يُبرهِّن عزته وكبرياءه وعنفه وغضبه إزاء الله كما يستطيع إزاء البشر، قال الله إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ۩، الله أكبر على مَن قال هذا الكلام، الله أكبر كبيرا، فالله قال مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ۩ لأن عندهم كبر لكن هل تستطيع أن تُبرهِّن كبرك هذا إزائي؟ الله يقول لا تستطيع أن تبلغ هذا الكبر، فأنت تستطيع أن تُبرهِّن كبرياءك إزاء بعض الناس الأذلاء الذين شاءوا أن يكونوا عُبداً لديك لكن لا تستطيع أن تُبرهِّن هذا إزاء عباد الله الصادقين في العبودية، فهم أعزم منك وأقوى منك ومن ثم لا تستطيع لأنهم عباد لله وحده وليسوا لك ولا لأي شيئ آخر، فكيف بإزاء الله – لا إله إلا هو – ذاته؟ مَن يستطيع هذا؟ لو وُجِدَ خلقٌ يعيش خارج ملك الله وخارج سلطان الله وخارج قبضة الله وقدرة الله سوف نقول نعم هذا مُمكِن وهذا يستطيع أن يُبرهِّن عزته إزاء الله، لكن هذا الخلق غير موجود ومُحال أن يكون موجوداً.

إذن نحن مُشكِلتنا الروحية تتمثَّل في أننا ألحدنا في أسماء الله وصفاته، وهذا ليس فتحاً لمبحث عقدي على طريقة علماء السلف والخلف والأشاعرة والحنابلة والجهمية والمُعطِلة،والمُعتزِلة وإنما هذا موضوع آخر تماماً، تقول الآية الكريمة وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ۩، وقوله “يُلْحِدُونَ ۩” يأتي مِن ألحد، أي إذا مال عن القصد والاستقامة، أو مِن لَحَدَ بمعنى مال عن القصد والاستقامة، وقد فرق بينهما الكسائي طبعاً، لكن التفرقة التي أتى بها الكسائي لا تعرفها العربية ولا يعرفها علماء اللغة ماعدا الكسائي ومن ثم قالوا هذا غير صحيح، فألحد مثل لَحَدَ وإن تفاوتت القراءات، فبعضهم يقرأ يُلحِدون مِن ألحد، وبعضهم يقرأ يَلحدون مِن لَحَدَ، وعلى كل حال الإلحاد هو الميل عن القصد أو الاستقامة، ومنه اللحد للقبر، لأنه لا يكون في وسط القبر، وإنما يكون في جانبٍ من القبر، ومن هنا سموه اللحد لأنه مُنحرِف عن عن وسط القبر، وعلى كل حال أصل الإلحاد هو الانحراف، فكل فهم لاسم من أسماء الله ينحرف به الفاهم عما ينبغي في فهم هذا الإسم هو إلحاد، والله هو الذي قال أنه إلحاد طبعاً، فإذن مفهوم الله حساس جداً لأدنى تحريف، وهذا ما لا يتنبه له أكثرنا، لكن لماذا مفهوم الله حساس جداً لأدنى تحريف إذن؟ لأن صفات الله وأسماء الله تعمل بالتآزر، فكيف لا تعمل بالتآزر وهو مالك الملك؟ ومن ثم علينا أن ننتبه الآن لأننا بصدد فهم ليس من يُدبِّر مدرسة أو يُدبِّر الدولة أو يُدبِّر مصنعاً، وإنما نحن بصدد التعاطي مع مَن يُدبِّر الكون مِن آخر نجم في أبعد مجرة في طرف الكون على بُعد تسعين بليون سنة ضوئية إلى أدنى إلكترون Electron أو بروتون Proton أو سمكة في الماء تغوص، وكل هذا يُدبِّره في لا زمن، أي يُديره في الوقت نفسه كما نقول بلغتنا القاصرة، فهذا هو رب العالمين لا إله إلا هو، وهذا هو معنى الله أكبر، فهو أكبر من كل ما تتوهم ومن كل ما تتخيل ومن كل ما تتصور، لذلك أدنى تحريف في إسم من أسمائه وفي صفة من صفاته قد يُبطِّل أشياء كثيرة في اعتقادك وقد يُشوِّه مُعتقَدك وقد يُشوِّه شخصيتك الروحية الإيمانية، ولذلك يقول عز وجل هذه الآية عجيبة والآية مُعجِزة جداً التي تقول وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ۩، كأنه يقول الإلحاد يكون بالذات عند الدعاء، فحين تدعوه إما أن تكون مُؤمِناً صادقاً مُحقِّقاً حقاً وإما أن تكون مُلحِداً، ومن ثم انتبه حين تذهب تدعوه، فقل لي كيف تدعوه وأنا يُمكِن أن أقول لك ما هو مفهومك عن الله عز وجل، فبعض الناس يسأل الله – تبارك وتعالى – ما لا يجوز، علماً بأن هذه النُقطة ذكرتها عدة مرات ولكنني أُعيدها لأن أزمة الأمة من هنا ومن الظلم الذي نحن فيه، فنحن لدينا تبلد غريب جداً جداً للظلم، ومن ثم لا نستشعر الظلم ولا نستشعر الحيف إزاء بعضنا البعض، فيُمكِن أن أهدم أخي بسيئة واحدة مع أنه أتى بمليون حسنة، ومع ذلك أهدمه لأنه أساء مرة، لكن – والله العظيم – لو أن الله عاملك بهذه الطريقة لما نجى منا أحد، فقل لنفسك وأنا سوف أقول لنفسي “أنا رجل مُوبوء، أنا مُصاب بطاعون، أنا الحسد قتلني ولم يقتلني حب الحقيقة وحب الإنصاف، أنا في داخلي مُبغَض وحاسد، وكنت أترقب لأخي الذي أخطأ ذلة، وما صدَّقت أن ظهرت هذه الذلة حتى ذبحته ثم ادّعيت أنني فعلت هذا بإسم الحقيقة”، وهذا يُذكِّرنا بما قاله جبران مرة وهو “كفوا عن قتل الإنسان بإسم الدفاع عن الله”، كفوا واتركوا قتل البشر وذبح البشر وانتهاك البشر بحُجة أنكم تُدافِعون عن مجد الله، فالله – لا إله إلا هو – لا يحتاج مَن يُدافِع عن مجده، وإلا مَن الذي يُمكِن أن ينال الله بأي أذى أو سوء؟ لا أحد يُمكِن أن يفعل هذا، لا الأنس ولا الجن ولا أحد، بل بالعكس دعوا الإنسان وأكرموه حتى يتعرف على الله تبارك وتعالى، لكن هناك تحريف في مفهوم الله للأسف ومن ثم ندعوا الله بما لا يجوز، ومن هنا يجب أن ننتبه إلى أن هذا الدعاء يُؤكِّد أننا نتعامل مع إله – مفهومياً – على أنه إله ظالم وإله يقبل بالظلم، فلماذا يا حبيبي تفعل هذا وهو ليس كذلك؟

سأقول لكم شيئاً عميقاً الآن سريعاً – لأننا للأسف نحن في الشتاء والوقت يُدرِكنا بسرعة – وهو أن في نظريات بعض الفلاسفة الملاحدة مثل الألماني هيجل Hegel وتلميذه فويرباخ Feuerbach الذي هو يُعتبَر أستاذاً ماركس Marx قالوا “لا يُوجَد إله – والعياذ بالله – لأن هذه كلها أسطورة أعوذ بالله – فضلاً عن أن هذا الإله الذي يُؤمِن به المُؤمِنون في شتى الأديان – التوحيدية وغير التوحيدية – مُجرَّد إسقاطات لصورة الإنسان ولشخصية الإنسان ولما يتحقق منها وما لم يتحقق، فهى نوع من النظرة الاستكمالية التي نُسقِطها على هذا الإله الموهوم”، لكن أنا أقترح العكس تماماً، فالإنسان بدأ بالتوحيد وكان الدين سابقاً على كل ثقافة وعلى كل اجتماع، فمن يوم وُجِدَ أول بشر كان مُؤمِناً بالله لا إله إلا هو، فالدين قبل الثقافة وقبل الاجتماع، وحتى الدراسات الانثروبولوجية تُؤكِّد هذا، وإلا ما هو المُجتمَع الذي خلا من الدين ومن النزعة الدينية التدينية؟ فالدين موجود قبل أي ثقافة، لكن ما الذي حصل؟ الذي حصل هو أن البشر هم الذين أتوا إلى مفهوم الله – وهو مفهوم إلى حدٍ ما كان ناجزاً في حدود دُنيا – وحرَّفوه، لكنهم لم يُسقطوا صورتهم على الله وابتدعوا الله أبداً، وإنما أتوا إلى مفهوم ناج ومُوحى به – أي مفهوم وحياني – ثم حرَّفوه، لذلك الله يقول فِطْرَة اللَّه الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لِخَلْقِ اللَّه ۩، فهذا الشيئ رباني وهو موجود في جذر النفس، ولذلك عرفته كل الثقافات وكل المُجتمَعات وكل الطبقات الاجتماعية من الفقراء والأغنياء والملوك والسلاطين وغير ذلك، فالكل عرف الدين وما زال يُعرَف إلى الآن، وذلك لأنه في جذر النفس، فهذه هى الفطرة، ومع ذلك نحن أتينا إلى هذا المفهوم وبدل أن نستلهمه في تكميل نفوسنا وتهذيبها وترقيتها – هذا إسمه النشاط الروحي وهذه هى وظيفة الدين – وتخليصها في الدُنيا وفي الآخرة طبعاً – بأن تتخلص بإذن الله في الدنيا وفي الآخرة وتُصبِح نفوساً كاملة وراشدة ونبيلة وعظيمة – فعلنا العكس وبدأنا نتطرق إلى هذا المفهوم – مفهوم الله – بالتحريف لكي نستمد منه تسويغات ومُبرِّرات لجرائمنا ولوغادتنا ولانحطاطنا ولطمعنا ولحسدنا ولجشعنا وإلى آخره، وهذا ما يحدث للأسف حتى مع المُتدينين في الأديان التوحيدية مثلما حدث مع بني إسرائيل حين قالوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ ۩، فماذا يُريدون من وراء هذه الكلمة؟ ما معنى قولهم نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ ۩؟ لا يُوجَد نسب دموي يربط الله بأحد من خلقه، فهذا كذب، ولكنهم يُريدون أن يقولوا نحن يحق لنا ما لا يحق لغيرنا، ولذلك هم قالوها حين قالوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ۩، أي أننا نقدر على أن نستبيح أعراضه وأمواله بل ودماءه أيضاً مَن ليسوا من أهل ديننا فضلاً عن ألا نُساعِدهم في شيئ ومع ذلك نشعر براحة الضمير.

أنا أقول لكم أن مثل هذا المفهوم المُحرَّف المُخفَّض للإله أو لله – حاشاه وعز ذكره وجل جنابه لا إله إلا هو – هو الذي أوحى لأمثال فويرباخ Feuerbach وهيجل Hegel بالنظرية التي ذكرت لكم، والآن علينا أن ننتبه لكي نرى مفهوم الله في الإسلام، وهكذا ينبغي أن يُقرأ القرآن لكي نرى العظمة القرآنية، فما هو مفهوم الله في القرآن العظيم؟ هو على العكس تماماً، وهو أيضاً عكس نظرة المُتطرِّفين الإسلاميين لله اليوم على طول الخط، ومع ذلك هم يقولون لك هذه هى العقيدة، فهذه عقيدة السُنة والجماعة وعقيدة المسلمين وعقيدة أهل البيت وما إلى ذلك، وهذا الكلام كله يُعَد كلاماً فارغاً، لأن الله ليس كذلك، فالله فعلاً وواقعاً وحقاً وصدقاً وقرآناً هو رب العالمين وليس رب المسلمين فقط، وإنما هو رب الكل، ولذلك هذا الله لا يُمكِن – أستغفر الله – أن تُخفِّض مفهومه كما تهوى، فإذا أردت أن تُلحِد فلتُلحِد إذن لأنك حر، وهذا إلحاد – كما قلنا – جزئي.

المُفكِّر الإنساني الهولندي الكبير إراسموس Erasmus كتب مرةً يقول “ليسوا أولئك الذين يُجازِفون بإنكار وجود الله – سبحانه – أكثر إلحاداً من أولئك الذين يُصوِّرونه مُتزمِّتاً”، فهم يقولون أنه مُتزِّمت ومُتعصِّب ومُتحيِّز لهم، فهم ” أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ”۩، أي أنه لهم وحدهم، فهو ربنا وحبيبنا وإلهنا ومن ثم يعملون ما يشاءون، لكن الآخرون سوف يذهبون إلى ستين داهية، وهذا غير صحيح، تقول الآية الكريمة لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى هذه الآية، فهذه الآية لو مكثت لمدة ألف سنة وأنا أتلوها وأُفسِّرها لن أنتهي منها، وأنا مُقتنِع أن أمتي تقريباً لا تتلوها، فصدِّقوني الأمة لا تتلو هذه الآية أبداً، هى تتلوها طبعاً كتلاوة من سورة النساء ولكنها تقريباً كأنها لا تتلوها، فأنتم لا تتلونها ولا تسمعونها ولا تقفون عندها، في حين أن المفروض أن نتوقَّف عندها إلى أن نموت لأنها آية مُخيفة ومُزلزِّلة، فاترك الآن كتب التفسير والأحاديث وكل هذا الكلام وانتبه إلى كتاب الله، فالله يقول لنا لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ – أي يا أمة محمد – وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ – أي اليهود والنصارى – مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ۩، فما القصة إذن؟

الله قال لك لا تقل لي أنا مسلم مُحمدي لأن هذا عندي لا يُساوي شيئاً، فهذه كلها أماني، ثم قال مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ۩،فلا تقل لي أنا من أهل البيت وأنا شيعي أو أنا من أهل السُنة والجماعة وأنا حنبلي أو أنا مسلم أو مُجاهِد أو غير ذلك، فلا مجال لمثل هذا الكلام عند الله، برِّهِن بأنك إنسان رباني وأنك عبد لله وأنك نفَّاع للبشر، ولا تُطوِّب مفهوم الله لك وحدك، فهذا تطويب واستحواذ، هذه نزعة استحواذية – أستغفر الله العظيم – في الدين، فكل شيئ تستحوذ عليه بإسم الله ثم تستحوذ حتى على إسم الله نفسه وعلى مفهومه وبالتالي تُحرِّفه، لكن الله رفض هذا وقال لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ۩، أي أن هذه اللافتة التي كنت تحملها – لافتة أنني مسلم – لا قيمة لها ومن ثم راحت عليك، وهذا هو الحال مع مَن يحمل لافتة أهل السُنة والجماعة فوالله راحت عليه، وكذلك الحال مع الشيعي الذي يحمل لافتة أهل البيت فقد راحت عليه وانحرق، لأن هذا كله يُعَد كلاماً فارغاً، ومن هنا الله يقول أيضاً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۩، والله هنا يُخاطِب الآن اليهودي والمسيحي والمسلم، فهذه آية قرآنية يجب أن تنتبه إليها لا أن تُحرِّفها وتلعب بها لأنها لا تتفق معك، وهذه الآية واضحة بل أوضح من الواضح نفسه، وبالتالي هذا هو الإيمان الذي يُريده الله، وهو الإيمان الذي يُخرِج إنساناً عظيماً وإنساناً رحيماً وإنساناً يسع قلبه وتسع خيريته الدنيا بأسرها، وليس إنساناً ضيقاً مُتزمِّتاً على طريقة “أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ ۩” فيقول الواحد منهم نحن وفقط أما البقية من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء وهؤلاء لا قيمة لهم، فلا يُعجِبه أي أحد أبداً، ومن هنا قلنا لكم ألف مرة أن كل النزعات الحصرية – والله العظيم – لا تقف عند حد، فهى سوف تظل تضيق وتضيق وتضيق وتضيق حتى لا تتسع في نهاية المطاف إلا لمجنون مُهوَّس يُنادي بها، وقلنا لكم مرة أن أحدهم قال “ليس على وجه الأرض اليوم أي مسلم إلا أنا وشيخي في المُتواجِد في جبال الباكستان”، وغداً سوف يُكفِّر شيخه أيضاً ومن ثم يبقى هو المُسلِم الوحيد، فهذا شيئ من الجنون وشيئ من الهوس، لكن القرآن يقول لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩، فيا عظمة القرآن، هذه عظمة عجيبة غريبة.

إذن نحن نقوم بهذا الإلحاد الذي هو بمثابة اختزال – لن نقول أكثر من اختزال لأننا لا نُعبِّر بتعبيرات غير لائقة، فهذا أكثر شيئ أقوله – وتخفيض وضغط تشويهي لمفهوم الله، لكن هذا في نهاية المطاف بمثابة تشويه لك أنت وليس لله، فالله لا يناله أحد أبداً، وبالتالي هذا التشويه لاعتقادك أنت، فاعتقادك مُشوَّه ودينك مُشوَّه وإيمانك بالله مُشوَّه، وإلا لو وُجِدَ مَن تُجوِّز له علاقته الطيبة بالله والعميقة الصافية بالله أن يترخص ويستحل مرة دماء الناس ومرة أعراضهم ومرة أموالهم وهو يحس براحة الضمير لكان هذا الشخص هو محمد عليه السلام، فوالله العظيم الوحيد الذي كان يحق له أن يكون هكذا، لكن هذا لم يحدث، فالنبي خُوطِب بآية فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۩، وهذه الآية شيبته، ومن ثم قال “شيبتني هود وأخواتها”، فالله يقول له أن الأمر ليس كما تُحِب وتهوى وإنما كَمَا أُمِرْتَ ۩، فلا يُوجَد ترخصات ولا يُوجَد استثناءات، لا تقل لي أنا محمد وأنا حبيبك وبالتالي أنا سوف أفعل ما أُريد وأنت سوف تغفر لي، هذا لا يُمكِن أن يحدث، ولا مجال لمثل هذا الكلام أصلاً، ولذلك نحن غلابة لأننا ملاحدة إلحاداً جزئياً، فالواحد منا لأنه يقوم الليل ويبكي قليلاً يشعر أنه قد قطع تسعة أعشار الطريق إلى الجنة ومن ثم يغتاب هذا وينم على هذا ويشبك هذا بهذا ويأخذ مال هذا ويطعن في عرض هذا ويتطلع على مرأة هذا وهكذا، فتباً لك يا رجل، هل تظن أن الله يحتاج لركعاتك السخيفة ولدموعك الكذابة؟ الله يُريد منك فقط أن تُصبِح إنساناً نبيلاً وإنساناً كاملاً صافياً، وإلا سوف تُصبِح هذه العبادة – والعياذ بالله – طريقاً إلى الفسق والفجور، فأي عبادة هذه؟ وأي دين هذا؟ وأي تسنن ذاك؟

لذلك أنا أقول لكم لابد أن نفتح هذه الملفات وأن نُراجِعها بوضوح صادم وبصراحة مُرة، لكي نقول أن وضعنا الروحي ليس على ما يُرام وحالتنا الروحية مُقلِقة ومُخيفة جداً.

سوف أذكر لكم شيئاً هاماً في خمس دقائق ولكن في الخُطبة الثانية لكي نختم به هذا الجزء، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه توابٌ رحيم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

صلتنا بالغيب ليست صلة تتأتى عبر قرار الإيمان، فالإيمان ليس قراراً، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه جيداً، فلا يُمكِن أن يقول الواحد منا لقد قررت أن أُؤمِن أو قررت أن أعترف بأن الله موجود وأنه كريم ورحيم وأن القرآن حق وأن محمداً حق، فلا والله لا يُمكِن، لأن الأمور لا تجري على هذا النحو، ومن هنا صلتنا بالغيب تأتي عبر برهان الإيمان وليس عبر قرار الأيمان، لأن الإيمان لا يكون قراراً، لكن الإيمان في حالتنا في الحقيقة هو وراثة، فهو شيئ ورثناه من أهلينا وليس قراراً أصلاً، لكن بعد ذلك هل تبرهن هذا الإيمان؟ حين يبدأ يتبرهن هذا الإيمان سوف تضح الصلة بين الشهادة والغيب وبيننا وبين الله وبين العبد وبين الغيب، لكن كيف تتبرهن؟ تتبرهن عبر الدعوة المُستجابة، فهذا هو الدين، وإلا ماذا أفعل؟ ما مِن حيلة، فهذه الصلة تتبرهن عبر الدعوة المُستجابة، ولذلك قال الله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۩ وقال أيضاً وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۩، لكن الله – عز وجل – لا يقبل دعوةً ولا يسمع دعوةً من قلبٍ غافل ومن قلبٍ لاهٍ، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فالله لا يتعاطى مع اللغة – أي مع لغة اللسان – كأن تقول له يا الله خُداي وما إلى ذلك، ولكنه يتعاطى مع لغة القلب، فإذا صح لقلبك أن يقول يا الله وقالها بلغته سوف يقول الله لك مُباشَرةً لبيك عبدي، لكن حين تقول يا الله بمعنى الله الذي حرَّفته مفهومياً سوف يقول لك لست هذا الذي تدعوه وبالتالي أنا لا أستجيب لك ولا أسمعك، ادع إلى أن تموت ولن أستجيب لك، ومن ثم تبدأ تشك لكن هذه مُشكِلتك، فالمُشكِلة عندك وليست عنده لا إله إلا هو، وسل أولياء الله وسل أحباب الله تبارك وتعالى هل يُخيّبهم؟ هل يقطع رجاءهم؟ هل يرد لهم دعوة؟ فلماذا إذن؟ لماذا هم ولسنا نحن؟ والجواب هو لأنهم هم هم ونحن نحن، فنحن الكذبة ونحن الزائفون الدجالون، وهم الصادقون ولذلك هم أحباب الله.

فإذن الإيمان يتبرهن من خلال الدعاء المُستجاب وهذا كان أولاً، أما ثانياً فهناك الرؤيا الصادقة التي قال عنها النبي أنها من بقية النبوة، وذلك حين قال ذهبت النبوة وبقيت المُبشِّرات، علماً بأن الرؤيا الصادقة يراها المُؤمِن وتُرى له.

ثالثاً هناك الإلهام والقذف في الروع بإذن الله تعالى، وفي الحديث القدسي يقول الله أقذف في قلوبهم من نوري فيُخبِرون عني كما أُخبِر عنهم.

رابعاً وليس أخيراً هناك الكرامات وخوارق العادات التي يُكرِم بها الله أولياءه الصالحين، فلا تُفكِّر في سيدك عبد القادر وسيدي الدسوقي بل فكِّر في حالتك أنت مع الله، فمن المُمكِن أن تكون منهم أيها المسكين الأهبل، لكنهم ضحكوا عليك، فكل مُؤمِن من المُمكِن له أن يكون من أولياء الله وأن يُؤيَّد بأشياء ليس لكي يحتاز بها أموال الناس أو لكي يضحك على الناس أو لكي يُقبِّلوا له يديه ورجليه أو لكي يلبس عمامة خضراء أو لكي يفتح له زاوية – ليس لهذا كله أبداً – وإنما لأنها برهان الإيمان، والإيمان مسألة صعبة، وحين يتعرض الإيمان للزلزلة والشك سوف تكون المسألة صعبة وخطيرة، فهذا ليس لعباً، ونحن في عصر الزلزلة وفي عصر الشك الآن، ومُستقبَل شبابنا ومُستقبَل إيماننا – كما قلت لكم – في مهب الريح، فلماذا أقول هذا؟ لأنني قلق وقلق جداً حين أسمع كثيراً جداً من الدعاة اليوم بإسم أنهم عقلانيون وبإسم أنهم علميون – طبعاً المقام لا يتسع لنقاش هذه الأشياء – يسخرون من هذه الأشياء، فهم أصبحوا يسخرون – أقسم بالله – ولا يُقيمون وزناً لرؤيا صادقة، ويضحكون ويقولون هذه مُجرَّد رؤيا وتلك مُجرَّد مرائي وأحلام، وهذا غير صحيح، فكيف تقول هذا يا أخي؟ هذا الشيئ موجود في الدين يا مسكين، والقرآن تحدث عنه، وهناك مملكة نُقِلَت بفضل رؤيا صادقة، ولدينا في القرآن سورة يوسف التي تحدَّثت عن الرؤيا الصادقة، وكان النبي في كل صباح يقول ماذا رأيتم؟ هل أحد منكم رأى رؤيا؟ فهو كان يهتم بهذا الشيئ، لكن نحن لا نهتم ونستسخف ونسخر ونقول هذه كرامات وهؤلاء مجانين، فإذا تحدَّثت لأحدهم عن كرامات يقول لك أنت إنسان دجال أو مجنون أو غير عقلاني أو غير علمي، فلتترك إذن يا حبيبي هذه الأشياء وكُن من العقل والعلم فقط واثبت لنا كيف سيثبت إيمانك، وقل لنا كيف سوف تُثبِّت الإيمان في قلوب أولادك وفي قلوب من تربيهم يا محروم، يا محجوب!

والله العظيم إنهم محرومون ومحجوبون، وإلا أين الصلة؟ أين الدعاء؟ أين الإلهام الصادق؟ أين كل هذا؟

أقول لكم في نهاية المطاف أن كل ما ذكرت من دعوة مُستجابة ورؤيا صادقة وإلهام صادق وكرامة خارقة هى أشياء تعمل عموماً – وهذا الأصل – في مُستوى فردي ذاتي، فهذه ليست أمور اجتماعية، وإنما تحدث بشكل فردي، فتحدث لي وحدي وتحدث لك وحدك وتحدث لها وحدها وهكذا، فهى تحدث لكل أحد بشكل فردي، لكن هل تعرفون لماذا؟ لأنها عطايا الإيمان، فهى براهين الإيمان، والإيمان في نهاية المطاف ليس شأناً اجتماعياً وليس نظرية فلسفية في التغيير وليس أيدولوجية، الإيمان هو علاقة بالله للخلاص، فتتخلص في الدنيا وفي الآخرة بإذن الله تعالى، ففي الدنيا سوف تُصبِح بشراً حقيقياً وإنساناً حقيقياً كاملاً – فالمُؤمِن هو هذا الإنسان الكامل – وفي الآخرة سوف تتخلص وتسعد بالله الذي عرفته في الدنيا، فنسأل الله أن يُعرِّفنا به وأن يدلنا عليه.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا  (15/11/2013)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: