الدرس الثاني
تفسير سورة البقرة من الآية السابعة والستين إلى الآية العشرين بعد المائة

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، صل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد إمام النبيين وقائد المُرسَلين وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.

بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

۞ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۞ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرُونَ ۞ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ۞ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ۞ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۞ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۞

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً…. ۩ إلى آخر الآيات، هذه الآيات الكريمات أيها الإخوة والأخوات هي الآيات التي تحكي قصة البقرة والتي بها سُميت هذه السورة الجليلة، فما هي قصة هذه البقرة؟ روى الإمام ابن أبي حاتم – رحمة الله عليه – عن عَبيدة – هكذا اسم، ليس عُبيدة وإنما عَبيدة – السلماني ومثله ابن جرير أو نحوه ابن جرير، مُختصَر هذه القصة أنه كان هناك شيخٌ كبيرٌ من بني إسرائيل، ويبدو أنه كان له شيئٌ من المال، فجاء ابنٌ لأخيه – أي ابن أخيه – فقتله ليلاً، ثم احتمله ووضعه أمام بيت من بيوت أقاربه الآخرين، ولما أصبح غدا يُطالِب بدمه، ابن أخيه القاتل هذا غدا من الصباح يُطالِب بدم عمه! مَن الذي قتل عمه؟ وهكذا! فوقع بينهم المُدارأة وتبادل التُهم: أنتم قتلتموه، لا بل أنتم الذين قتلتموه، وكادت تحدث فتنةٌ كبير، فقال بعض الحلماء منهم وأصحاب العقول والحجى كيف تختلفون ونبي الله – وهو موسى عليه السلام – بين ظهرانيكم، فأتوا موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – فأمرهم – عليه السلام – عن أمر ربه أن يذبحوا بقرة، والقضية أن يذبحوا بقرة ثم يضربوا هذا الميت بأي عضوٍ منها، طبعاً العضو في الواقع كان مُعيَّناً لكن لم يُعيِّنه القرآن ولا السُنة الصحيحة فلا نتكلَّف تعيينه، لا يهمنا! لكن في الحقيقة كان عضواً مُعيَّناً، ضربوه بعضو مُعيَّن، ما هو؟ لا يعنينا هذا كثيراً، وهنا أيها الإخوة كما تعلمون شدَّدوا فشدَّد الله عليهم، ولو ذبحوا أي بقرة وقعت لهم لأجزأهم ذلك أو لأجزأ عنهم، لكنهم بدأوا يتمشدقون ويتمعقلون: اذكر لنا ما هذه البقرة وما هية هذه البقرة، وهذا سؤال يدل على غباوة مُستحكِمة، هو قال “بقرة” هكذا! قال “بقرة” هكذا فكانت تُجزيء أي بقرة، فيسألون عن ماهية البقرة، مَا هِيَ ۩، ماهية البقرة يعلمها حتى البقر من بني البشر، لكنهم أشد غباوة حتى من البقر والعياذ بالله، وإلى اليوم بحمد الله هؤلاء اليهود فعلاً أشد خلق الله غباوة، وفعلهم هذا الذي يسعون به وبواسطته – إن شاء الله تبارك وتعالى – إلى تسريع استئصالهم واجتثاثهم يدل على أنهم أصحاب غباوة مُستحكِمة، جاك تني Jack Tenney السيناتور Senator الأمريكي المشهور في كتابه الأُخوة الزائفة فعلاً قال هؤلاء من أغبى خلق الله، لأن القوم إذا كانو ضعافاً وكانوا قليلي العدد ويدّعون بعد ذلك ويأخذون دور الأستاذية والسيادة في كل أمة كبيرة يدخلون بين ظهرانيها هذا دليل ما بعده دليل على أنهم قومٌ أغبياء، قومٌ سُفهاء، لا عقل لهم.

على كل حال سألوا عن ماهية البقرة، مَا هِيَ ۩، ماهية البقرة معروفة، كماهية الحمار وماهية الفرس وماهية كل شيئ، مَا هِيَ ۩، فبدأ الله يُشدِّد عليهم، قال هي ليست بفارض وليست ببكر، الفارض هي الكبيرة، والبكر هي الصغيرة التي لم يطرقها الفحل أو فحلٌ، هي بين ذلك، وفي العادة ما كان من الحيوان بين ذلكم يكون أقواه وأحسنه لحماً، فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرُونَ ۩، لم يكتفوا وأرادوا اللون، مَا لَوْنُهَا ۩، ولو ذبحوا أي بقرة بأي لون لأجزأت عنهم، الله – تبارك وتعالى – قال: صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ۩، شديدة الصُفرة، تكاد تبيض، هذا معنى صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ۩، تكاد تبيض من شدة الصُفرة، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ۩، واللون الأصفر فعلاً ثابت علمياً – فيزيائياً – يُريح النظر، المُهِم هذه البقرة غير موجودة، نادرة جداً جداً، بحثوا بحثوا بحثوا ولم يجدوا إلا بقرة واحدة فعلاً صفراء فاقعة اللون، الآن سأتحدَّث عن نبئها وخبرها.

في التوراة هي بقرة حمراء، لعل هذا من خطأ التعريب كما قال الحفّاظ أو لعله من تحريفهم هم، والقرآن أصدق قيلاً، القرآن أصدق خبراً وقيلاً، القرآن قال صفراء والتوراة تقول حمراء البقرة الحمراء! على كل حال مرة أُخرى عادوا يسألون عن الماهية، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ۩، فقال لهم: بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ۩، ثلاثة أوصاف! لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ۩، ما معنى لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ۩ باختصار؟ معناها ليست بقرة ذلولاً، غير مُذلَّلة، لم يُذلِّلها أصحابها بالحرث، لأنهم لو كانوا يُثيرون بها الأرض – أي يحرثون عليها بمعنى يحرثون بها الأرض – لأصبحت ذلولاً، إذن هي بقرة مُكرَّمة، مُعزَّزة عند صاحبها، لم يستذلها ولم يُذلِّلها بماذا؟ بالحراثة، فهذا معنى هذا التركيب العجيب: لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ۩، ليست لا ذلول شيئ وتُثير الأرض شيئ آخر، لا! تركيب واحد هذا، هل فهمتم؟ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ۩، أي لم تُذلَّل بحراثة الأرض، لم تُذلَّل بتثوير الأرض، لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ۩، ما معنى وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ۩؟ أيضاً لا تُستخدَم في السقاية، لا يُسنى عليها، هكذا يُقال يُسنى على الدابة أو يُسنى على الجمل، لا يُسنى عليها، لا تسقي الحرث، مُسَلَّمَةٌ۩، أي كاملة مُعافاة، ليس فيها عيب، لاَّ شِيَةَ فِيهَا ۩، لا عيب فيها.

قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ۩، قصة البقر فعلاً مع البقرة، فَذَبَحُوهَا ۩، شارون Sharon أليس بقرة؟ شامير Shamir أليس بقرة؟ قوم من البقر حقيقةً بصراحة، لكن نحن زعماؤنا قرود، هذه المُشكِلة فقط، وإلا لانتصرنا عليهم من قديم، نحن نُحارِب بقراً بزعامة قرود، رحمة الله على شيخنا محمد الغزّالي، والله كان يقول نحن خُضنا معارك لو قادنا فيها قرود لانتصرنا، لكن يقودنا مَن هم أندل وأرذل وأسوأ من القرود، ولذلك لا يُوجَد نصر تحت زعامة هؤلاء، خلَّصنا الله منهم قريباً غير بعيد – أي والله – وأبدلنا خيراً منهم. اللهم آمين، وإلا بقر هؤلاء اليهود، شارون Sharon هذا فعلاً بقرة، بقرة! لا تُوجَد سياسة ولا يُوجَد وعي، الآن هم بحمد الله يشترون كراهية العالم، اليهود الآن يشترون كراهية العالم كل العالم، وهذا من بقريتهم، وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ۩، يُوجَد فرق بين ما كاد يفعل وكاد ألا يفعل، يُروى عن ابن عباس أنه قال في تفسير وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ۩ كادوا ألا يفعلوا، وأنا أشك أن الحبر يقول هذا، أبداً! بالعكس كل إنسان عنده قليل من الذائقة العربية لا يُفسِّر هذه الآية هذا التفسير، فرقٌ كبير بين ما كاد يفعل وكاد ألا يفعل، أيهما أبلغ في ظنكم؟ وما كاد تعني أنه لم يُقارِب الكيدودة، حتى الكيدودة هو لم يُقارِبها، أي أنه لم يقترب أن يُفكِّر في أن يفعل، هل فهمتم؟ لكن كاد ألا يفعل تعني أنه فعل ولكن مع تردد، هذه ليست كتلك، هذه أقل! أقل بكثير في المُبالَغة، قال – تبارك وتعالى – في سورة النور إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۩، فرق كبير بين لم يكد يراها وكاد ألا يراها، على كل حال في المقامين هو رأى، وهنا في المقامين كادوا ألا يفعلوا، وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ۩، في المقامين هم فعلوا، لكن أيهما أبلغ في نفي الفعل والتهمم بالفعل؟ نفي الكيدودة أبلغ، نفي الكيدودة أبلغ من نفي الفعل مع الكيدودة، الكيدودة تسبق الفعل منفياً، لا! نفي الكيدودة أبلغ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۩، هذا يعني أنه رآها، لكن لم يكد – أي لم يقترب – أن يراها، فكان بعيداً جداً جداً من رؤيتها، لكن كاد ألا يراها تعني أنه رآها لكن بقليل من الصعوبة، أقل صعوبةً، هل هذا واضح؟ هذا الفرق بين كاد إلا يفعل وبين لم يكد يفعل، وفي المقامين هو فعل، إذن هذا التفسير أنا أشك أنه يثبت عن ابن عباس، وأكيد لو حاكمناه إسنادياً لما ثبت عن الحبر رضوان الله تعالى عليه، مع أن بعض المُعاصِرين انتخبه على أنه تفسير من أحسن ما تُفسَّر به الآية، غير صحيح! وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ۩، أي كانوا أصلاً يُفكِّرون ألا يفعلوا هم، وبصعوبة – صعوبة بعيدة – فعلوا ذلك.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ۩، هذه هي القصة، فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۩، قيل معنى ادارأتم أي تبادلتم التُهم، وهذا قوي جداً، هذا من أقوى التفاسير، تبادلتم التُهم! كل إنسان يدرأ التُهمة عن نفسه ويُلقيها على غيره: أنتم القتلة، أنتم كذا! هذه بداية القصة، كما يُقال الآن في لغة المسرح والسينما Cinema هذا خطف من الخلف، أليس كذلك؟ أتى لنا بمشهد خلفي ثم أتى لنا ببداية القصة، ما قصة البقرة وما البقرة؟ خطف من الخلف هذا بلُغة السينما Cinema والمسرح، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۩، أي تُخفون.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ ۩، أي الميت، بِبَعْضِهَا ۩، وهذا الذي حصل حين أتوا بهذه البقرة وكانت عند رجلٍ يتيم – يُقال – وحيد أمه وليس له من المال إلا هذه البقرة الصفراء، وقد أعزها وأكرمها، قالوا نُريد البقرة، قال والله لا أبيعكم إياها إلا بملء مسكها ذهباً، حين تُذبَح نأتي بالجلد ونملأه ذهباً، هل تُريدون هذا؟ قالوا نعم، وقد عرف القصة، الله هكذا بهدلهم وهم يستأهلون، قال هل تُريدون هذا؟ إن أردتم سأوافق وإن لم تُريدوا لن أوافق، فقالوا نعم، وفعلاً أعطوا هذا الإنسان اليتيم الذي كان وحيد أمه وباراً بأمه ملء مسكها – أي إهابها، أي جلدها – ذهباً وذبحوها، أخذوا أي عضو منها – لم يُعيِّن القرآن الكريم كما قلنا ولسنا بحاجة أن نُعيِّنه أو نبحث في تعيينه – وضربوا الميت، في رواية أظن عن السُدي – المُهِم – فحييَ أحسن ما كان حياةً، حياة حقيقية، يتكلَّم وما إلى ذلك، مُعجِزة لموسى عليه السلام، مُعجِزة وآية من آيات الله الباهرة، فسألوه يا فلان مَن قتلك؟ قال فلان ابن أخي، ثم عاد ميتاً كأنه لم يحيا، في لحظة بقدرة الله تبارك وتعالى، شيئ عجيب، وانتهت! وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۩.

۞ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۞

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ۩، يبدو أن هذا ليس من شرطه أن يتعلَّق بهذه القصة، لكن في بعض التفاسير جعلوه مُتعلِّقاً بهذه القصة، أن هؤلاء – هذا القاتل وإخوانه – بعد أن رأوا هذه الآية الباهرة العجيبة الفالجة – بعد أن رأوها وعاد الرجل ميتاً – ماذا قالوا؟ قالوا لا، الأمر فيه شك ويُمكِن أن يكون غيرنا فعل ذلك، خرب الله بيتهم، ما هذا؟ هذا ميت أحياه الله وحكى! أتُشكِّكون فيه؟ طبعاً هم كذَّبوا، كذّبوا الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ شيئ عجيب، أمة عجيبة، لعنة الله تعالى عليهم، والله ما نصرهم الله علينا إلا بذنوبنا، أمة مثل هذه الأمة تنتصر على أمة لا إله إلا الله؟ هذا يعني أن فينا خلل كبير وعطب، نحن مُسلِمون وهذا جيد لكن يبدو أننا كثيراً ما أخذنا من الإسلام أسماء ورسوم، أسماء ورسوم وطقوس هكذا! وإلا مُستحيل أن مثل هذه الأمة القليلة المرذولة الشاذة الغبية البليدة السفيهة التي آذنها الله بحرب مُستمِرة عليها أن تفعل هكذا بأمة لا إله إلا الله؟ ما الذي يحدث هنا؟ يُوجَد خلل كبير جداً في أمة لا إله إلا الله والله، ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۩، ما معنى هذا الترديد: كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ۩ والمفروض أن الله – تبارك وتعالى – يعلم هل هي في قسوة الحجارة أو أشد من الحجارة؟ قيل هنا أَوْ ۩ ليست للترديد، أي ليست للتشكيك: كذا أو كذا، الله يعلم كذا أو كذا على القطع وليس على الترديد، ليس على وجه الترديد، وإنما قيل هي بمعنى بل، بمعنى بل! فالمعنى هي كالحجارة بل أشد قسوة، وهذا موجود في كلام العرب ولا نأتي بشواهد، الشواهد كثيرة حتى في كتاب الله، وقيل هي بمعنى أن قلوب هؤلاء – وهذا قول راجح ورجَّحه ابن جرير في تفسيره رحمة الله عليه مع توجيهه لغيره، وجَّه القول الذي قلته بمعنى بل ووجَّه غيره ورجَّح هذا، وهو راجح إن شاء الله تعالى – بعضها كالحجارة وبعضها أشد من الحجارة، بعض قلوبهم كالحجارة وبعض قلوب آخرين أشد من الحجارة، هذا هو! أي لا تخرجون عن قسوة القلوب، فبعضكم قلبه كالحجر قسوةً وبعضكم أشد من الحجارة قسوةً، هذا هو، جميل هذا.

 وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ۩، إذن الحجارة فعلاً أقل قسوةً من قلوب أكثر هؤلاء، وطبعاً هنا يُوجَد ترتيب تنازلي، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء – أقل من الأنهار – وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، بعض العلماء زعم أن هذه الآية من قبيل المجاز وهذا غير صحيح، لماذا من قبيل المجاز؟ أنا لا أرى أي فرق بين القلب البشري وبين الحجر، لماذا؟ ما مزية القلب البشري؟ نفس الشيئ! هذا مخلوق لله وهذا مخلوق لله، إذا شاء الله – تبارك وتعالى – أن يُودِع هذا الحجر الصوان الصلد الصفوان الخشية والخشوع حتى والفهم يستطيع ذلك، ما المُشكِلة؟ ولو كان الله – تبارك وتعالى – خلق لنا في صدورنا قلوباً من صفوان أو من حجارة وخلق الحجارة من لحم ودم لاستغربنا، كيف هذا اللحم والدم يُمكِن أن تُوضَع فيه الخشية؟ المفروض أن الحجارة التي تخشى! هذه المسألة بالجعل، الله يجعل ما شاء فيما شاء تبارك وتعالى، فلا علينا أن نجعلها مجازاً، لا ينبغي علينا أن نجعلها من قبيل المجاز، في سورة الكهف فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ۩، قال يُرِيدُ ۩، نسب الإرادة للجدار، أليس كذلك؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ۩، كل شيئ يسجد لله، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ۩ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ۩، الكل يسجد لله، الكل! وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۩، في الصحيحين حين عاد الرسول قال أُحد جبل يُحِبنا ونُحِبه، يُحِب! يُحِب الرسول ويُحِب الصحابة، إذن عنده حتى مشاعر لكن بطريقة أُخرى، ليست كالمشاعر البشرية، وهذا في الصحيحين، قال أُحد جبل يُحِبنا ونُحِبه، النبي كان يستقبل المطر أول ما ينزل بيديه ويقول إنه حديث عهدٍ بربه، يضع باكورة التمر على عينيه لنفس السبب، لأنها حديثة عهد بربها، في صحيح مُسلِم إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلِّم علىّ بعنوان النبوة والرسالة، يقول السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا رسول الله، حجر! وهذا في مُسلِم، في الصحيح! وحديث جذع النخلة الذي كان يخطب عليه رسول الله مُتواتِر، حديث مُتواتِر لا نستطيع إنكاره أبداً، هذا الجذع حن لرسول الله وأخرج حنيناً كالعُشراء، أي كالناقة العُشراء، يحن! والنبي نزل من على منبره الشريف واحتضنه، التزمه وقال لولا أني فعلت به هذا لتصدع، لانشق من حنينه وشوقه لما فقد من ذكر الله عليه، إذن لماذا نقول مجاز؟ مجاز ماذا؟ ليس مجازاً، فعلاً تُوجَد حجارة على هذا النحو، ثم إن الله قال لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا ۩، الله قال خَاشِعًا ۩، قال هنا خَشْيَةِ اللَّهِ ۩، هناك قال خَاشِعًا ۩، يُوجَد خشوع، تُوجَد خشية في هذه الأشياء، فيا حسرةً على قلوب هي أشد قساوة من الحجارة ومن الجبال، يا حسرةً! هذا القلب ما خلقه الله لكي يكون حجراً وإنما لكي يكون قلباً ينبض بالرحمة، بالخشية، وبالمعاني الطيبة، فنسأل الله أن يُعطينا وينفحنا.

۞ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۞

أَفَتَطْمَعُونَ ۩ أيها المُسلِمون، يا أصحاب محمد، أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ۩، من بعد ما فهموه الفهم الصحيح، إذن هم لم يُؤتوا من قبل جهلهم، عندهم علم وعرفوا الأشياء، إذن ليست المسألة بالعلم وحده، المسألة أيضاً بالصدق مع الله، تأخذ العلم لكي تعمل به، العلم الذي لا ينفع وبال على الإنسان، وهم يعلمون أنهم ماذا؟ يُحرِّفون ويتنكَّبون سواء السبيل.

۞ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ۞

وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم ۩، يعنون أصحاب محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم ۩، أي ليُخاصِموكم، يقولون هذا موجود لديكم في التوراة وهذه حُجة عليكم يوم القيامة، فإنهم إن حاججوكم بما في أيديكم من الكتاب الذي جاء القرآن مُصدِّقاً له خاصموكم يوم القيامة، سُبحان الله! أنتم تخدعون وتُخفون الحقائق عن أصحاب محمد فهل تخفى على الذي لا تخفى عليه خافية؟

۞ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۞

أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۩، ما هذه الغباوة المُستحكِمة؟ غباوة، غباوة مُستحكِمة!

۞ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ۞

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ۩، جمع أُمي، قيل الأُمي الذي لا يُحسِن الكتابة والقراءة، أُمي لأنه بقيَ على الحالة التي خرج عليها من بطن أُمه، ولذلك يُقال له أُمي، يُنسَب إلى الأُم: أُمي، لأنه على نفس الحالة التي خرج عليها من رحم أُمه، من بطن أُمه، فهذا معنى أُمي، ولذلك قيل النبي أُمي لأنه كان لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة وأفضل السلام، وقال إنا أُمةٌ أُمية لا نكتب ولا نَحسُب، علماً بأن نَحسُب أفصح من نَحسِب، ليست نَحسِب، من الظن!

 لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ۩، فيها تفسيران مشهوران، إِلاَّ أَمَانِيَّ ۩ جمع أُمنية، أي يتمنون على الله تبارك وتعالى، وهذه صفة المغرورين، صفة المغرورين الذين ابتعدوا من الكيس أو الكياسة، يتمنون على الله بغير حق، وقيل لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ۩ أي التوراة والإنجيل، إِلاَّ أَمَانِيَّ ۩ إلا تلاوت، فتمنى كتاب الله أي تلاه، قال – تبارك وتعالى – في سورة الحج وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ۩، والآية أيضاً فيها تفسيران، تَمَنَّى ۩ من الأُمنية، أي الأمل والتأميل، تَمَنَّى ۩ من التلاوة، ففيها تفسيران مشهوران، ما معنى لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ۩ إلا تلاوةً؟ تلاوة يخرون عليه صُماً وعُمياً، لا يفهمون ما فيه كحال بعض المُسلِمين الآن، يقرأون القرآن والقرآن يلعنهم، لماذا؟ يقرأ القرآن وربما يحفظه ويُصلي بالناس ويعمل بعكسه تماماً، إذا القرآن يقول لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ۩ وأنت تظلم عباد الله فهذا يعني أنك تلعن نفسك، تقرأ آية تلعنك، أليس كذلك؟ إذا القرآن يقول لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ۩ وأنت تكذب وحياتك كذب الأبعد – أو هو يكذب الأبعد – فهذا يعني أن القرآن يلعنك، هذا معنى رُب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه، فهذا وصف من أوصاف بني إسرائيل، أنهم لا يعلمون الكتاب إلا تلاوات، مُجرَّد تلاوة، لكن يخرون عليه صُماً وبُكماً وعُمياً ومأواهم جهنم والعياذ بالله.

۞ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ۞ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۞

وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۩، الأرجح في تفسيرها إلا أيام عبادتنا للعجل قالوا، هم يُفصِّلون حسابهم عند الله، هم يُفصِّلون! سُبحان الله أماني، يتمنون على الله، هذا نوع من الأماني، قالوا نحن سنمكث في جهنم – والعياذ بالله – مُدة عبادتنا للعجل، سألهم الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – قائلاً يا معشر اليهود نشدتكم أو سألتكم بالله مَن أبوكم؟ قالوا أبونا فلان، قال كذبتم، أبوكم فلان، قالوا صدقت يا أبا القاسم وبررت، لعنة الله عليهم، يعرفونه! يُريد أن يعلموا إذا كان نبياً أو لا، لو كان نبياً فسوف يعرف، لو لم يكن نبياً فلن يعرف، كذّابون! وماذا بعد؟ قال لهم نشدتكم الله – تبارك وتعالى – هل تجدون في كتابكم أنكم تدخلون جهنم؟ قالوا نعم، قالوا صحيح، قال ومَن يخلفكم فيها؟ قالوا أنت وأصحابك يا محمد، قال كذبتم، والله لتدخلن ولن نخلفكم فيها أبداً إن شاء الله، كذبوا! وسألهم وكم ستمكثون؟ قالوا مُدة عبادتنا للعجل، قال كذبتم، كذّابون! يتمنون أن ندخل جهنم خلفهم، لا! غير صحيح.

يقول الله رداً عليهم قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ ۩، أي بهذه الأُمنية، عَهْدًا۩، فالله لا يخلف العهد، لكن لا هذا ولا ذاك، لا يُوجَد عهد والله لن يُخلِف هذا العهد المزعوم.

۞ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞

بَلَى ۩ إضراب عن هذا التمني الفارغ، الله يقول لا ليس الأمر كما تظنون، بل الأمر كذلك، القضية كذلك، مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ۩ قيل هي الشرك، وقيل هي السيئة بالمُطلَق إذا أحاطت بصاحبها، وطبعاً أكبر سيئة تُحيط هي الشرك بلا شك، الشرك مُباشَرةً يُحيط بالإنسان والعياذ بالله، بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ۩، اكتنفته من جميع جوانبه أو جميع جنباته، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩، والعياذ بالله بحيث لا يجد معدىً ولا مناصاً ولا مفراً من هذه الخطايا، ومن هنا أيها الإخوة يحسن أن نُذكِّر بمُحقَّرات الذنوب، المُحقَّرات هي الذنوب الصغيرة التي نحتقبها ونرتكبها ولا نُباليها، لماذا؟ لأنها صغيرة، النبي شبَّهها في الحديث الثابت بماذا؟ بأعواد الحطب، بالأضغاث، أي عيدان الحطب والقش الصغيرة، يجمعها القوم السفر أو المُسافِرون فينضجون عليها لحمهم في قدرهم، وهكذا مُحقَّرات الذنوب، أنت تحتقرها وتقول هي صغيرة، لكن صغير مع صغير مع صغير يُكوِّنون كبيراً، قال:

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً                                   إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى.

حصى مع حصى يتكوَّن جبل، وهكذا!

۞ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞

وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۩، المعنى واضح.

۞ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ۞

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ۩، هو كل ما حسَّنه الله – تبارك وتعالى – من الأخلاق القولية والعملية، قال الحسن البِصري في تفسيرها – رحمة الله تعالى عليه – وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ۩: الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، ونقول الأمر والنهي يكون بمعروف أيضاً، مَن أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومَن نهى عن مُنكَر فليكن نهيه بمعروف أيضاً، والصفح والحلم والمغفرة والتجاوز وكل خُلق سني وجميل، هذا معنى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ۩، قال في الإسراء – تبارك وتعالى – وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ۩، حتى في المزح، هذه فائدة! حتى إذا أردت أن تُمازِح أخاك لا تُمازِحه بما يمس شخصه، دائماً اجعل مزحك بعيداً عن شخصية الإنسان: أشياء أُخرى، حكايات، أشياء تتعلَّق بأي شيئ آخر، لكن ليس بشخص الإنسان، لماذا؟ لأن الشيطان ينزغ، الآن قد يضحك ويتضاحك إليه وبعد ساعة يأتيه الشيطان قائلاً هو حقَّرك، لو لم يكن يراك صغيراً لما تجرأ عليك بهذه الكلمة، ومن ثم قد تحدث مُشكِلة كبيرة فيقطع ما بينكما بسبب مزحة واحدة والعياذ بالله، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ۩.

۞ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۞

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم ۩، لم يقل ولا يُخرِج بعضكم بعضاً، قال وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم ۩، قال تعالى فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ۩، قال تعالى وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۩، آيات كلها لابد أن تُفسَّر بطريقة مُعيَّنة، ما معنى ذلك؟ كل أهل المِلة أيها الإخوة الأفاضل والأخوات كالنفس الواحدة، وفي الحديث الصحيح مثل المُؤمِنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد…. إلى آخره، تعرفون الحديث، فكل أهل المِلة كالجسد الواحد، وهذا معنى فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ۩ ومعنى وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۩، لماذا؟ لأن أهل الملة كالنفس الواحدة، هذا معنى وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ۩، قال  ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۩.

۞ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۞ 

ما قصة هاتين الآيتين الجليلتين السابقتين؟ قصة هاتين الآيتين الكريمتين أيها الإخوة والأخوات عن يهود – والعياذ بالله – كانوا بالمدينة، كان في المدينة يهود بني قُريظة ويهود قينقاع ويهود النضير أو بني النضير، فأما يهود بني قينقاع فكانوا حُلفاء أو مُتحالِفين مع الخزرج، ويهود النضير ويهود بني قُريظة كانوا مع الأوس، وهكذا! وكان يقع الاحتراب والاقتتال بين الأوس والخزرج، فهؤلاء يكونون مع حلفائهم وهؤلاء يكونون مع حلفائهم، وربما قتل يهوديٌ يهودياً، وربما وقع بعض هؤلاء في أسر الأوس وبعض هؤلاء في أسر الخزرج أعدائهم، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها سعوا في فكاك أسر إخوانهم من المدينة عند غرمائهم، عند أعدائهم، لماذا؟ قالوا عملاً بالتوراة، مكتوب في التوراة لا تترك أخاك اليهودي أسيراً عند قوم، الله أكبر! أنتم استحللتم قتالهم، أنتم ذبحتموهم، ولصالح مَن؟ حلفائكم سواء كانوا الأوس أو الخزرج، أي يُوجَد انفصام في فهم الدين، مثلما يحدث الآن في الأمة الإسلامية، يُوجَد شيئ قريب من هذا، عندنا بعض نُظم الحُكم تُشرِّد الأبناء والبنات، تُفرِّق الأرض، وبعد ذلك السفارات إذا ظُلِمَ ابن البلد في الخارج هنا أو سُجِن تبدأ تُطالِب به، كيف يحدث هذا؟ هذا ابننا وواحد مننا ويحمل جنسيتنا، أنتم شرَّدتم الملايين، أتُطالِبون بواحد؟ نفس الشيئ! ففينا شبه أيضاً من بني إسرائيل، وبعضهم لا يُطالِب والعياذ بالله، فهذه قصة هاتين الآيتين الجليلتين، ولذلك الله قال أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۩، بعض الكتاب يُحرِّم عليكم أن يقتل بعضكم بعضاً وأن يُخرِج بعضكم بعضاً من ديارهم، هذا نص التوراة، أليس كذلك؟ وأيضاً التوراة تأمركم إذا وجدتم يهودياً في الأسر أن تفتكوه من أسره، فآمنتم بهذه وكفرتم بالأولى، هذا معنى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۩.

 فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۩، وهذه آية مُخيفة، تعني أن مَن تنكَّب بعض الشريعة وبعض الدين يُصاب بالخزي في الدنيا، كان من دعاء المُصطفى – عليه الصلاة وأفضل السلام، علماً بأنه كثيراً ما كان يدعو بهذا الدعاء – اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ۩، النبي كان يستعيذ من الشيئين، فكأنه يستعيذ بالله من ماذا إذن؟ من تجزيء الدين، من تعضية الدين، من تشعيب الدين وتقسيمه وتزريته، كأنه يقول يا رب إني أُعيذ نفسي وأُمتي بك من أن نُجزيء الدين فنُؤمِن ببعضه ونكفر ببعض، لأن مَن فعل ذلك ضربه اله بالخزي في الدنيا وبالعذاب في الآخرة، خزي وعذاب والعياذ بالله!

۞ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ۞

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ۩، كما قلنا إذن الآخرة هي الثمن، فبئس ما اعتاضوا لأنفسهم وبئس ما نذروا لأنفسهم. 

۞ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۞

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ۩، أي التوراة، وَقَفَّيْنَا ۩، ما معنى وَقَفَّيْنَا ۩؟ أي وأتبعنا أو وأردفنا، وكلٌ قريب، أتبعنا أو أردفنا وهكذا، كلٌ قريب، كما قال – تبارك وتعالى – ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ ۩، هذا معناها، وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۩، ما المقصود بِالرُّسُلِ ۩ هنا؟ الرُسل من بني إسرائيل، لا يدخل فيهم محمد عليهم السلام، فقط – لأنه يُخاطِب بني إسرائيل الآن – الرسل من بني إسرائيل، وكان آخرهم عيسى ابن مريم عليهما الصلوات والتسليمات، آخر رُسل بني إسرائيل هو عليهما الصلوات وأفضل السلام، قال وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ۩، لماذا ذكره؟ من باب ذكر الخاص بعد العام، وإلا عيسى داخل في قوله وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۩، لكن هكذا من باب ذكر الخاص بعد العام نوَّه به فذكره بحِدته أو على حدة أو برأسه أو بحياله، كما قال أيضاً – اليوم تلونا هذا – مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ۩، جبريل وميكال من الملائكة، هذا من باب ذكر الخاص بعد العام، وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ۩، من باب ذكر العام بعد الخاص، ذكر جبريل في الأول ثم ذكر الملائكة، وهذا كثير في لُغة العرب وفي كتاب الله تبارك وتعالى.

وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۩، مَن هو روح القدس؟ هو جبريل، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ۩ في سورة النحل، روح القدس هو جبريل، النبي في الصحيح دعا لحسان بن ثابت، قال اللهم أيِّده بروح القدس – في رواية ثبِّته بروح القدس – كما نافح عن نبيك، أي كما ذب عن نبيك ودافع، فهذا هو روح القدس، قال اهجهم وروح القدس يُؤيِّدك، روح القدس هو جبريل عليه السلام، أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ۩، هذه هي المسألة، المسألة ليست تطلب الحق، المسألة مسألة التشهي ومُتابَعة الهوى، الهوى النفساني! إذا شيئ يهوونه فإنهم يعترفون به وينزلون على مُقتضاه، إذا كانوا لا يشتهونه أو لا يتشهونه فإنهم يكفرون به، مسألة هوى والعياذ بالله، أُمة هوى!  فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۩.

۞ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ۞

وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۩، ما معنى قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۩؟ أي قلوبنا في أكنة والعياذ بالله، أي قلوبنا مطبوع عليها، قلوبنا مختوم عليها، اعترفوا والعياذ بالله، وقرأ الحبر ابن عباس وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلُفٌ “بضمتين مُتواليتين”، جمع غِلاف، أي قلوبنا أوعية للعلم فلا نحتاج إلى علمك يا محمد ولا إلى كلامك ولا إلى كتابك، اختلف التفسير إذن، قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۩ أي في أكنة مطبوع عليها، مختوم عليها، لا تفقه والعياذ بالله، لا تفقه، لا تُدرِك، لا تفهم، أما قُلُوبُنَا غُلُفٌ “بضمتين مُتواليتين، على الولي” – قراءة ابن عباس – جمع غِلاف، أي قلوبنا أغلفة، أي أوعية، أوعية للعلم، أوعية للفهم والإدراك، فلا نحتاجك إلى كتابك، لكن الله أكذبهم فقال بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه ۩، ليست المسألة كما قالوا أنها غُلُفٌ أو غُلْفٌ ۩، المسألة أن الله لعنهم، أي طردهم وأبعدهم تبارك وتعالى، بسبب كفرهم، قال بِكُفْرِهِمْ ۩.

 فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ۩، هذه لابد أن نقف عندها، مما معنى فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ۩؟ فيها بحث طويل جداً لُغوي، لكن باختصار فيها تفسيران، فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ۩ أي إيمانهم قليل، آمنوا ببعض الأشياء وكفروا بأشياء كثيرة، وقول آخر فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ۩ بمعنى منهم عدد قليل هو الذي آمن وأكثرهم كفر، إذن فيها وجهان، أن الذين آمنوا به – موضوع الإيمان – أشياء قليلة جداً جدا، التي يهوونها ويشتهونها، والقول الثاني أن العدد الذي آمن منهم – أي الأشخاص، باعتبار الشخوص – كان قليلاً.

۞ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ۞

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ۩، ما هو هذا الكتاب؟ القرآن، القرآن مُصدِّق لما في التوراة والإنجيل من التبشير بمحمد وغير ذلك، أشياء كثيرة وخاصة التبشير بمحمد عليه الصلاة وأفضل السلام، قد يقول أحدكم هذا الآن مُحرَّف، لكن حتى التوراة الآن المُحرَّفة فيها تبشير بمحمد واضح وفي مواضع بحمد الله تبارك وتعالى، إلى يوم الناس هذا سُبحان الله، يأبى الله إلا أن يُقيم حُجته، في التوراة يقولون أتى الله – تبارك وتعالى – من طور سيناء وظهر بسعير واستعلن بفاران، طور سيناء معروف: موسى، سعير هي جبال بيت المقدس: عيسى، فاران جبال مكة، معروفة في اللُغة العربية، حتى في مُعجَم البكري”مُعجَم ما استعجم” فاران هي جبال مكة، ما معنى استعلن بفاران؟ محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، موسى، عيسى، ومحمد، وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ۩ وَطُورِ سِينِينَ ۩ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ۩، أليس كذلك؟ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ۩: محلة ماذا هذه؟ محلة عيسى عليه السلام، وَطُورِ سِينِينَ ۩: هي موسى، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ۩: محمد، نفس الشيئ! هذه السورة كالبُشرى التي في التوراة. 

وَكَانُواْ مِن قَبْلُ ۩، من قبل أن يأتيهم هذا الكتاب العزيز “القرآن الكريم”، يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ۩، ما قصة الاستفتاح؟ كما تعلمون وكما قلنا بعضهم كان حليفاً للأوس وبعضهم كان حليفاً للخزرج، وكان إذا وقع الاقتتال بين الأوس والخزرج يستفتح اليهود على الأوس أو على الخزرج بحسب مَن حالفوه منهم ، يقولون ليُبعثن نبي آخر الزمان فينا ولنقتلنكم معه قتل عادٍ وإرمٍ، وكانوا يظنون أنه يُبعَث منهم، أي من بني إسرائيل، فلما بُعِثَ من العرب – من بني إسماعيل – استكبروا وحسدوهم فكفروا به والعياذ بالله تبارك وتعالى، كفروا به! يُروى عن مُعاذ بن جبل – رضوان الله تعالى عليه – وعن بشر بن البراء بن معرور أخي بني سلمة أنهما قالا لليهود يا معشر يهود اتقوا الله واخشوه، فإن الله – تبارك وتعالى – قد أخبركم بمحمد وجاء القرآن مُصدِّقاً لما معكم فاتقوا الله، فماذا كان جواب أحد قادة هؤلاء أو أحد أحبارهم؟ قال والله ما عرفنا في محمد شيئاً مما ذكر الله، أي أن الآيات غير بيّنة فيه، العلامات غير واضحة، والعلامات كلها في رسول الله، والعياذ بالله منهم، فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ۩، وفي الصحيح وفي غير الصحيح أيضاً – لكن هذا في البخاري وفي مُسلِم – أن عبد الله بن سلَام أو سلّام كان يوماً يختلف – أي يقطع ثمار حديقته – وسمع بمقدم النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فجاء وحيا رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، المُهِم وقع ذكر جبريل في كلام النبي، فقال ابن سلَام أو سَّلام يا محمد هذا عدو اليهود، قال رسول الله لا، أهذا عدو اليهود؟ كيف يكون عدواً لليهود؟ قال هذا ينزل بالعذاب وبالنقمة دائماً على اليهود، أي جبريل، طبعاً لأنهم أعداء الله وجبريل هو رسول الله، قال لا، وأنزل الله – تبارك وتعالى – الآية التي سنتلوها بعد قليل: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ۩، على كل حال ثم قال يا محمد أسألك ثلاث مسائل فإن أجبتها آمنت بك وصدَّقت أنك رسول من عند الله، ما هي أول أشراط الساعة؟ وما هو أول طعام أهل الجنة؟ وما الذي ينزع الولد إلى أبيه أو أُمه؟ فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أخبرني بها جبريل آنفاً، هذا هو الذي وقع من جبريل على كل حال، قال أخبرني بها جبريل آنفاً، فقال له يا محمد هذا عدو اليهود… إلى آخره، ثم قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – أما أول أشراط فنارٌ تخرج تحشر الناس إلى محشرهم، النار هذه في آخر الزمان، قال وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، هذا يهز رأسه مُستغرِباً، صحيح فعلاً، وهذا لا يعرفه إلا الندرة من أحبار اليهود الكبار جداً كابن سلّام هذا، لا يعرف هذا أي إنسان أبداً، معلومات دقيقة جداً وعجيبة، غير مُمكِن! مما استأثر به أحبار اليهود هذا، لا يعرفه الناس العامة، قال وأما الذي ينزع الولد إلى أبيه فإنه إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة نزع إلى أبيه، والعكس طبعاً صحيح، إذا غلب ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أُمه، وهذا له تفسير علمي سنذكره، ذكرناه مرة وسنذكره – إن شاء الله – في درس آخر بعد ذلك، أي بعد رمضان، تفسير علمي بيولوجي، تفسير غريب! فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسولٌ من عند الله، مُستحيل! قال ولكن يا رسول الله إن اليهود قومٌ بُهت – أصحاب بُهتان، يفترون الكذب هكذا بصفاقة – وإنهم إن يعلموا بإسلامي يكذبوا علىّ أو يبهتوني – قال يكذبوا علىّ أو يبهتوني – فلا تُخبِرهم حتى أكون أنا الذي أفعل، قال لك ذلك، واختفى هكذا خلف الحائط ثم جاء نفر من يهود، قال واسألهم عني، فقال لهم ما تقولون أو ما تعدون عبد الله بن سلّام فيكم؟ قالوا هو سيدنا وابن سيدنا، عالمنا وابن عالمنا في رواية، وخيرنا وابن خيرنا، أي أحسن واحد فينا هذا، قمة! فخرج وقال أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوا شرنا وابن شرنا، مُباشَرةً! قال ألم أُخبِرك يا رسول الله؟ قلت لك هؤلاء أُناس أصحاب أهواء والعياذ بالله تبارك وتعالى، خلَّصنا الله منهم وخلَّص البشرية منهم والعياذ بالله، أعني من المُعتدين منهم طبعاً.

۞ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ۞

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ۩، الغضب الأول بسبب ماذا؟ بسبب كفرهم وتحريفهم للتوراة، والغضب الثاني بسبب ماذا؟ كفرهم وتحريفهم للقرآن وكفرهم بمحمد، غضب في الأولى وغضب في الآخرة والعياذ بالله،  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ۩.

۞ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۞

 قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ ۩، هم ادّعوا أنهم لا يُؤمِنون إلا بالحق الذي أُنزِلَ عليهم، أنهم يتطلَّبون الحق، الله قال كذبتم، غير صحيح، ليست المسألة أنكم تطلبون الحق في التوراة وترون القرآن مُبطِلاً، لا! ولو كان ذلك كذلك فلِمَ إذن قتلتم أنبياءكم من بني إسرائيل؟ وكانوا مُصدِّقين للتوراة، أليس كذلك؟ وكلهم أنبياء هذه التوراة، أحسن جواب، عجيب! أسلوب القرآن الكريم في المُحاجة قوي جداً وقاطع ووجيز، لا يدخل في مُقدِّمات، لأن إذا كثرت المُقدِّمات ضاع النتيجة، مُباشَرةً المُقدِّمة هي النتيجة، أهذه حُجتكم؟ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩، أنتم قتلتم أنبياءكم وهم أنبياء التوراة، فالمسألة ليست تطلب الحق وأنكم تزعمون أن التوراة فيها الحق وأن القرآن مُبطِل ولكنها مسألة تشهي والأهواء تركبونها والعياذ بالله.

۞ وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ۞

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ۩، هذه مُهِمة جداً، ما معنى وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ۩؟ ما معنى مِن بَعْدِهِ ۩؟ من بعد أن ذهب موسى إلى الطور -انتبهوا – وليس من بعد موت موسى، غير صحيح! بدليل أنهم اتخذوا العجل في حياة موسى، وقصته معهم واضحة جداً، لذلك دائماً نُنبِّه ونقول حين نقرأ القرآن يجب أن ننتبه، لا نعتبر كل شيئ مفهوماً، أليس كذلك؟ نحتاج إلى عقلية سؤال دائماً، نتساءل! لكن للأسف نقرأ ونظن أن كل شيئ واضح عندنا وهو غير واضح، أشياء كثيرة جداً ليست واضحة، فينبغي أن نتساءل عند كل كلمة هل نفهمها على وجهها أو لا نفهمها؟ فمعنى مِن بَعْدِهِ ۩ أي من بعد أن ذهب لمُناجاة ربه في الطور، أي موسى عليه الصلاة وأفضل السلام، هل هذا واضح؟ هذا هو، كما قال – تبارك وتعالى – في سورة الأعراف وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا ۩، هذه هي! تعني أنه لما ذهب اتخذوا العجل، مِنْ بَعْدِهِ ۩ أي من بعد أن ذهب للمُناجاة، من بعدما ذهب للمُناجاة! وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ۩.

۞ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ۞

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ۩، شرحنا هذا أمس، كيف كان الرفع؟ ليس رفعلاً حقيقياً وإنما بنتق الجبل ونقضه وزلزلته، ثم غشاه الله بالسحاب فصار كأنه مرفوعاً في الهواء، هذا معنى رفع الطور. 

قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ۩، انظروا إلى حجم المُعانَدة والعياذ بالله، وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ۩، أي حُب العجل تشرَّبته قلوبهم والعياذ بالله، تشرَّبت حُب الشرك.

۞ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞

قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ ۩، أنتم تزعمون هذا، أليس كذلك؟ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ ۩، وهذه من أقوى الآيات ومن براهين الإعجاز ومن علائم النبوة، عجيبة جداً، ووقع نظيرها مع مَن؟ مع نصارى نجران، أليس كذلك؟ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ۩، نَبْتَهِلْ ۩ تعني ماذا؟ ندعو، نضرع إلى الله بالدعاء، هذا معنى المُباهَلة، أي الدعاء، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ۩، ماذا كان جواب النصارى “نصارى نجران”؟ قالوا لا يا أبا القاسم، ثم قال كبيرهم والله الذي لا إله إلا هو لو باهلتموهم وعُدتم لما وجدتم لا مالاً ولا أهلاً، طبعاً لأن النبي جاء وجاء بفاطمة – عليها السلام – وبالحسن والحُسين ورأوا – ما شاء الله – فاطمة والحسن والحُسين، بدور، أقمار! أبناء نبي يا أخي، أبناء نبي، من لحم نبي، رأوا الوجوه هذه فقالوا مُستحيل، لا يُباهِل هؤلاء أحد إلا أخذه الله أخذ عزيز مُقتدِر، والله – قالوا – لو باهلتموهم وعُدتم لما وجدتم لا مالاً ولا أهلاً، الله سيُهلِك كل ذُريتكم، قالوا اسكتوا، لا نُريد، ورفضوا المُباهَلة، فضرب النبي عليهم الجزية وأرسل معهم أمين هذه الأمة أبا عُبيدة بن الجرّاح لكي يكون مسؤولاً عنهم ويأخذ منهم الجزية، أعني نصارى نجران، هكذا! هذه الآية في معنى ما وقع من مُباهَلة نصارى نجران التي رفضوها وكعوا عنها، النبي قال لهم جيد، هيا يا يهود، هيا يا معشر يهود، هيا نتباهل، هيا نتمنى الموت، أنا سأدعو بالموت، أتمنى إذا كنت مُبطِلاً أن يُميتني الله من ساعتي، من فوري! وأنتم أيضاً ادعوا بذلك، إذا كنتم مُبطِلين لن تفعلوا، فقالوا لا، يعرفون أنهم مُبطِلون، في الخبر والذي نفسي بيده لو تمنوا الموت لماتوا من فورهم ولرأوا مقاعدهم في نار جهنم، لكن هو بلاغ، هو من أقسام الضعيف، لكن هذا ثبت بأسانيد صحيحة عن ابن عباس، وثبت بلاغاً عن رسول الله كما قال أبو جعفر في تفسيره، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين، قال بلغنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال – هذا بلاغ، إذن ضعيف – والذي نفسي بيده لو تمنوا الموت لماتوا من فورهم ولرأوا مقاعدهم في نار جهنم، مُباشَرةً في نفس اللحظة، وهم يعرفون أنهم مُبطِلون فرفضوا ذلك، رفضوا ذلك والعياذ بالله تبارك وتعالى.

۞ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ۞

وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۩، طبعاً لأنهم خرَّبوا آخرتهم وعمروا دنياهم، فهم يكرهون بالحري أن ينتقلوا من العُمران إلى الخراب، والآية التي بعدها مُعتلِقة بها أشد الاعتلاق.

۞ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۞

قال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ۩، لماذا؟ قال أسلافنا الصالحون حبَّبتم إليهم الخطايا طول العمر، صحيح والله! الإنسان إذا عمر أحواله وأوقاته بذكر الله – تبارك وتعالى – وكان من الصالحين أحب لقاء الله، صار يتمنى الموت، كانت إحدى العارفات تقول ألا موتٌ يُباعُ فأشتريه؟ بالمال! تُحِب لقاء الله، بلال قال لزوجته لا تقولي واحزناه بل وفرحاه وطرباه، غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، يُحِب الموت! مُعاذ بن جبل يبكي كان وهو يموت، ظنوا أنه يبكي خرعاً وفزعاً من الموت، قال لا، والله ما أبكي إلا على ليالي الشتاء الطويلة كنت أقومها في سبيل الله، كان يقوم في الليل، يُحِب القيام في الليل، فقد القيام، فقد الأُنس بالله في الدنيا، ولذلك كان يبكي، فقط! قال لا أبكي على غراس الأشجار وعلى جري الأنهار وإنما أبكي على ليلة طويلة أقومها بين يدي الله تبارك وتعالى، ثم قال مُخاطِباً الموت حبيبٌ جاء على فاقة، لا أفلح اليوم الندم، أنا سعيد جداً جداً أنني سأرتحل، سأذهب إلى ربي، قال حبيبٌ – عن الموت قال حبيبٌ، يُحِبه – جاء اليوم على فاقة – أي مُشتاق أنا أشد الشوق وفي أشد الحاجة والفقر إلى الموت، فقير إليه -، لا أفلح اليوم الندم، رضيَ الله عنه وأرضاه، قال لا تُوجَد ندامة والحمد لله، عملنا ما استطعنا، لكن اليهود كانوا على العكس من هذا، وحتى الخاطئين من أمة محمد لا يُحِبون الموت، لماذا؟ يخاف الواحد منهم من الموت جداً، إلى أين سينتقل؟ يُوجَد حساب ويُوجَد عذاب ويُوجَد دفتر أسود كبير، وهكذا قال أسلافنا حبَّبت إليهم الخطايا طول العمر، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ۩، ولم يقل على الحياة، قال عَلَى حَيَاةٍ ۩، أي أي حياة مهما كانت منزورة ومهما كانت محقورة تكون جيدة، لو أُعطوا ساعة زائدة فسوف يكون هذا جيداً، لو عاشوا في الذل فسوف يكون هذا جيداً، لو عاشوا في الهوان فسوف يكون هذا جيداً، لو عاشوا حياة أرانب وسخلان وحملان فسوف يكون هذا جيداً، أحسن من الموت، هذا معنى عَلَى حَيَاةٍ ۩.

وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ۩، حتى من المُشرِكين الذين ليس لهم كتاب يتشرَّفون ويعتزون بالانتساب إليه، ومع ذلك هم أكثر منهم، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ۩، هذا مما يُخطيء فيه العامة، يُخطيء فيه العامة وبعض حتى المُتكلِّمين، هذا من الأفعال المبنية للمجهول، هناك أفعال دائماً تُبنى للمجهول ولن يُسمَع منها بناء للفاعل، الذي يُعمِّر مَن هو؟ الله، والإنسان دائماً مُعمَّر، لا يُوجَد إنسان يُعمِّر إنساناً، نقول فلان عمَّر مائة سنة، غير صحيح، ما هذا؟ ما عمَّر، كيف عمَّر؟ الله عمَّره، الله يُعمِّرنا ونحن مُعمَّرون، أليس كذلك؟ ولذلك يُقال فلان عُمِّرَ وهو مُعمَّر، هو رجل مُعمَّر، أي عمَّره الله، للعلّامة محمد بن علان الصديقي المُتوفى سنة ألف وسبع وخمسين تقريباً للهجرة كتاب لطيف جداً اسمه إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل، كتاب مُمتاز، جمع كل هذه الأفعال المبنية للمجهول، أي Passive، كلها مبنية للمجهول! مثل ازدُهيَ فلان وجُنَّ فلان، لا نقول جَنَّ، نقول جُنَّ، وأشياء كثيرة مثل هذه، مثل هُزِلَ:

لَقَـدْ هَـزُلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا                   كُلاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ مُفْلِـسِ.

الكل يقول لقد هَزَلَت، ليست هَزَلَت – غير صحيح – وإنما هُزِلَت، مبني للمجهول، وكذلك هُرِعَت، وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ۩، لا نقول هَرَعَ إلى كذا أو هَرَعَت سيارات الإسعاف، غلط! نقول هُرِعَت سيارة الإسعاف وهُرِعَ إلى المكان، كله مبني للمجهول، هذا منه: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ۩، كل هذا واضح.

۞ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۞

قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ ۩، فهمتم القصة وعرفتم لماذا، لماذا يدّعون أن جبريل هو عدو لهم؟ لأنه ينزل بلعنتهم وبعذابهم دائماً، الله يقول فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۩، أي من التوراة، وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۩.

۞ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ۞

مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ۩، تعلمون أن مَن كفر برسول من رُسل الله كأنما كفر بالرُسل جميعاً، مَن كفر بملك من ملائكة الله كأنما كفر بأملاك الله جميعاً، هم كانوا يدّعون أن جبريل عدوهم، يدّعون أن جبريل عدوٌ لهم وأن ميكائيل حليف واد لهم، هذا حبيبنا – قالوا – ميكائيل، هذا جيد، أما جبريل لا، الله قال لا، لا يُوجَد تفريق بين جبريل وميكائيل، جبريل من عن الله وميكائيل من عند الله، مَن كفر بجبريل فقد كفر بميكائيل حتى وإن ادّعيتم أنه وادٌ ومن ذوي ودكم ومن أحبائكم، غير صحيح! كفرتم بجبريل فكفرتم بجميع الأملاك، فهذا سر أن الله قرن ذكر جبريل بميكائيل.

طبعاً ميك وجِبر أو جُبر أو جَبر لهم معانٍ، وطبعاً جُبرائيل تُنطَق تقريباً بأنحاء كثيرة، أكثر من عشرة أنحاء، أكثر من عشرة وجوه في نطق هذه الكلمة، وأحياناً بالهمزة: جُبرائيل، وأحياناً بغير الهمزة: جِبريل، جُبرايل، أكثر من عشرة وجوه، على كل حال كلها معناها كما قال ابن عباس – إسرا وميك وجِبر أو جُبر، كلها معناها ماذا؟ – عبدٌ، وإيل هو الله، فكلهم عبدي الله، وبعض المُفسِّرين عكس، لكن طبعاً الآن في اللغة العبرية فعلاً إيل هو الله عز وجل، وبيت إيل! إيل هو الله تبارك وتعالى، هو المعبود عز وجل.

فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ۩، هذا واضح.

۞ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ۞ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ۞ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۞

وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ۩، مَن هو هذا الرسول؟ هو محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالقرآن الذي صدَّق ما عندهم من التوراة، نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۩، ما هذا الكتاب الذي نبذوه؟ القرآن، ومُمكِن أيضاً – هذا واضح جداً والآية تحتمل ذلك – التوراة، لماذا؟ لأن التوراة تُصدِّق أيضاً القرآن وتشهد له وتُبشِّر بمحمد وهم تنكَّروا لها، وهذا قوي جداً، لماذا؟ لما جاء الرسول بالقرآن حاكمهم إلى توراتهم، فجاءت التوراة شاهدة ومُصدِّقة للقرآن، فكفروا بها، جُزء منهم كفر ونبذها، وتحاكموا إلى كتاب آصف، كتاب آصف كتاب في السحر، يزعمون أنه منسوب إلى آصف بن برخيا عليه السلام، الرجل الصالح الذي عُلِّم الاسم الأعظم، وهذا كتاب في السحر، وفعلاً جاء هذا الكتاب مُناقِضاً ومُناكِداً للقرآن، قالوا هذا الكتاب، نحن نُؤمِن بالكتاب هذا، التوراة لا، فكفروا حتى بتوراتهم والعياذ بالله، هذا معنى الآية بدليل ما بعدها.

۞ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ۞

وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ۩، هذه الآية اسمها آية ماذا؟ السحر، أعجب آية في كتاب الله، أكثر آية اختلف عليها المُفسِّرون وذكروا فيها من وجوه التفسير المُختلِفة والمُتضارِبة أحياناً هي هذه الآية، حتى قيل يُمكِن أن يُفرَّع فيها أكثر من مليون خلاف ومسألة، نظرية! شيئ عجيب، آية غريبة فيها خلافات مُعقَّدة بشكل غير طبيعي، وقد قرأت مرة أن أحد علماء المُسلِمين صنَّف مُجلَّداً كبيراً – مُجلَّد في حوالي أربعمائة صفحة – فقط يُفسِّر هذه الآية، أربعمائة صفحة في تفسير آية واحدة، آية عجيبة سنذكر بعض ما فيها، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ۩، ما قصة سُليمان والسحر وهاروت وماروت وبابل؟ ما القصة هذه؟ باختصار لما أُنزِل السحر مع الملكين وقع ابتلاء لهما، وهذا قول أكثر أسلافنا، أكثر العلماء فعلاً قالوا أن ملكين كريمين من ملائكة الله نزلا وابتُليا، الله ابتلاهما، لكن قصة الزُهرة هذه – أنهما عشقا امرأة تُسمى الزُهرة وزنيا بها وبعد ذلك والعياذ بالله عاقبهما الله وعلَّقهما من شعورهما في قعر بئر في بابل ومُسِخَت هي إلى الكوكب المعروف بفينوس Venus أو الزُهرة – رواية موضوعة بلا مرية، هي فرية بلا مرية، كلام فارغ هذا للأسف، في كُتب الإسرائيليين، ليس عندنا أي شيئ يشهد لهذه الرواية الباطلة السخيفة، أعني رواية الزُهرة، لكن هما ملكان – هذا عند أكثر أسلافنا من المُفسِّرين – طلبا أن ينزلا إلى الأرض ابتلاءً، وابتُليا ولم ينجحا في الابتلاء، وهنا قد يقول لي أحدكم أن الملائكة معصومة، لكن هذا استثناء، استثناء! وبالذات لأنهما آثرا أن ينزلا مع البشر ويعيشا مع الناس حياة أُخرى، وقلنا أمس قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا ۩، ستفسد طبيعتهم ربما!

على كل حال هذا الأرجح، وهناك تفسير آخر سنذكره بعد قليل، ونزل هذا السحر، وكان هذا السحر يُتلى، كيف؟ لأن شياطين الجن كانت تركب ظهور ومتون بعضها بعضاً وتسترق السمع من السماء الدُنيا، لأن الله – تبارك وتعالى – إذا ألقى بالأمر نُقِّل هذا الأمر من سماء إلى سماء تنزلاً حتى يبلغ السماء الدُنيا، تتحدَّث به الملائكة، ببعض قضاء الله الجُزئي: قضى الله أن يموت فلان أو أن يتزوَّج فلان أو أن يرحل فلان أو أن يصل فلان من سفر وإلى آخره، وكانت هذه الشياطين تُقِر – أي تُلقي – هذه المعلومات الغيبية في آذان أوليائهم من الكهنة، فلما غبر زمان طويل وهم مُصدِّقونهم بدأت الشياطين تستغل هذه الثقة وهذه المصدقية المبنية بعد فترة طويلة فبدأت تزيد الكذب في خبر السماء، فيلتقطون الكلمة ويزيدون فيها سبعين كذبة والعياذ بالله، والناس يُصدِّقون والكهنة تُصدِّق، وكُتِب هذا الشيئ في كُتب، وصار شائعاً في الناس أن الشياطين يعلمون الغيب، وهذه الكُتب عندهم وفيها بعض علم الشياطين وهو من علم الغيوب، ولما جاءت النوبة لسُليمان الملك النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أخذ هذه الكُتب الباطلة ووضعها كلها في صندوق وحفر لها أو احتفر لها حُفرة عميقة تحت عرشه، تحت كرسيه، وأمر بأن يُنادى في الناس أنه لا يُلقى أحد أو لا يُلفى أحد يزعم أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربنا عُنقه، كفر وشرك هذا، هذا كلام فارغ، لا يعلم الغيب إلا الله تبارك وتعالى، وانتهت إلى هذا الأمد فتنة السحر وشائعة أن الشياطين تعلم الغيب.

ما الذي حصل؟ توفى الله نبي الله سُليمان عليه الصلاة وأفضل السلام، وبعد حين – حين درس العلم ومات العلماء والذين كانوا يعرفون حقيقة هذا الأمر – تمثَّل الشيطان لجماعة من بني إسرائيل في صورة شيخ كريم كبير، وقال لهم هل أدلكم على كنزٍ لا تأكلونه؟ ما معنى هذا؟ أي كنز لا يفنى، لا ينتهي، هذا معنى لا تأكلونه، قال لهم هل أدلكم على كنزٍ لا تأكلونه؟ فقالوا نعم، قال هنا احتفروا تحت كرسي النبي الملك، يُوجَد كنز عجيب وفيه نبأ الغيب، قالوا تكذب، قال إن كنت كاذباً فاقتلوني، فأنا في أيديكم، أي بين أيديكم، وقد وقف بعيداً، لماذا؟ لأن كان هذا المكان لا يصل إليه أحد من الشياطين إلا أحرقه الله بشهاب، ممنوع من الشياطين لكن للأسف غير ممنوع للبشر للفتنة، فتنة! الله سيبلغ أمره في العباد، فاحتفروا وأخذوا الصندوق فإذا هو كما قال، وذهب إبليس! وانتشر هذا السحر في الناس والعياذ بالله، وصار اليهود وصار بنو إسرائيل يزعمون أن سُليمان كان ساحراً، ويُردِّدون مقالة إبليس التي قالها لهم حين قال إن سُليمان كان يضبط – أي يحكم – الإنس والجن والطير وكل الأشياء ويُسخِّرها بهذا السحر المدفون، فخُذوا مُلك سُليمان واعملوا مثله، وصدَّقوا ذلك! فالله برأ النبي الملك من هذه التُهمة ومن هذا الباطل فقال وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ۩، هل فهمتهم القصة كيف؟ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۩، قيل هاروت وماروت – هما اسمان طبعاً أعجميان ولذلك لم ينصرفا هنا: هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۩ لأنهما أعجميان، للعالمية والعُجمة – هما اسما هذين الملكين، وقيل غير ذلك، الإمام القرطبي كان يرى أن في الآية نفياً، يقول وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ۩، تُوجَد جُملة اعتراضية لا محل لها من الأعراب، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ۩، ثم عطف الله على النفي الأول: وما كفر سُليمان وما أُنزِلَ على الملكين، لا سُليمان كفر ولم تنزل ملائكة تُعلِّم الناس السحر، هذا رأي مَن؟ العلّامة المُفسِّر المُحدِّث أبي عبد الله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم، وأطال النفس في الانتصار لهذا، وزعم الحافظ ابن كثير أن فيه من التكلف ما فيه، قال فيه تكلف ولف ودوران وما إلى ذلك، ورأي أكثر السلف ما قدَّمنا لكم، ولن نطوِّل على كل حال.

وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ۩، هذان الملكان، حَتَّى يَقُولاَ ۩، لهذا الأحد، إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ۩، الله أمرهما بهذا القول، نحن فتنة، ابتلاء! نحن ابتُلينا وأنت مُبتَلون بنا وبهذا السحر، فَلاَ تَكْفُرْ ۩، هذه الآية اتخذها حُجة مَن قال بتكفير مُتعلِّم السحر وليس فقط مَن يعمل به، قالوا مَن تعلَّم السحر فقد كفر، لأن الآية تقول ماذا؟ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ۩، وليس دليلاً قطعياً، هذا في شُبه دليل، لكن ليس دليلاً قطعياً، لماذا؟ لأن الآية تحتمل إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ۩ بتصديق هذا السحر واتخاذه واصطناعه والعمل به، أو لا تكفر كشرط لتعلم السحر، لماذا؟ يُروى عن السُدي وعن غيره – مروي عن كثير من أسلافنا من التابعين وغيرهم – أنهم كانوا إذا أرادوا أن يتعلَّموا منهما يقول هذا الملكان للطالب اذهب إلى المكان الفلاني، هناك رماد فبُل عليه، ثم ارجع وحدِّثنا بما رأيت، فكان إذا سبقت له الشقاوة من الله وكان غير محفوظ وغير راشد وما إلى ذلك يذهب – أكرمكم الله – ويبول على الرماد، فإذا بال خرج من جوفه – أي من فؤاده ومن قلبه – نور ساطع فيذهب إلى السماء، فيقول يا ويلي، ما هذا؟ ويدخل – والعياذ بالله – ظُلمة مُنتِنة في مسامعه وفي جميع أنحائه، وهو الكفر والشيطنة، انتهى هذا! انتهى إلى الأبد والعياذ بالله، وبالمُناسَبة السحرة الحقيقيون وليس الدجّالين الذين يأكلون عيشاً بالكذب على الناس لا يكونون إلا كفرة، الساحر الساحر فعلاً لا يكون إلا كافراً، والشياطين لا تُعلِّمه حتى يكفر ويأتي من وجوه الكفر الأشياء الفظيعة المُستفظَعة المُستشنَعة المُستنكَرة والعياذ بالله، كأن يبول على القرآن أو يستجمر به – والعياذ بالله – أو يبول على الخبز أو يسلح عليه – أشياء عجيبة – أو يسجد للشيطان سجوداً حقيقياً، أي سجود عبادة، كفر حقيقي والعياذ بالله، هذا الساحر الحقيقي! وهؤلاء قلة، السحرة الحقيقيون قلة، والساحر لا يُفلِح حيث أتى، لا تجد ساحراً غنياً ومُهندَماً ويركب سيارة مرسيدس Mercedes وما إلى ذلك، الساحر وضعه من أسوأ ما يكون – سُبحان الله – لقوله تعالى وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ ۩، طبعاً قد يقول أحدكم لا، هناك سحرة مثل هوديني Houdin وديفيد كوبرفيلد David Copperfield وعندنا ما شاء الله كثَّر الله هذا الشر في بلادنا، كثير جداً هذا في بلادنا، هؤلاء موجودون بكثرة وبنوا عمائر وما إلى ذلك، هؤلاء كذّابون، يضحكون على الناس، هؤلاء ليسوا سحرة، ربما يكون عندهم علاقة مع الجن – نعم هذا مُمكِن – ويعرفون بعض الأشياء الواقعية لكنهم ليسوا سحرة، السحر أفظع من ذلك، وبعضهم سحرة، هذا موجود ولا نُنكِره، بعضهم سحرة، بدليل بعض أعمالهم أنها تنفذ في الناس، ومن ضمنا – هذا في السحر الأكبر، ما هو؟ بعد الشرك والكفر، ما هو؟ – التفريق بين الأزواج، هنا قد يقول لي أحدكم هذه ليست مُشكِلة كبيرة، لكنها مُشكِلة كبيرة جداً، في صحيح مُسلِم يضرب الشيطان – لعنة الله عليه – عرشه على الماء ثم يبعث سرياه – أي الجنود، يومياً هذا، هذه وظائف يومية – فإذا عادوا سألهم ماذا فعلتم؟ بماذا رجعتم؟ فيقول أحدهم لم أعد حتى تركت فلاناً وقد قال كذا كذا، أي جعلته يقول كذا كذا، فيقول له لم تصنع شيئاً، ما هذا؟ كلام فارغ، لم تصنع شيئاً، لم تأت بشيئ، حتى يأتيه أحدهم فيقول لم أترك فلاناً حتى فرَّقت بينه وبين زوجه، وقع طلاق! فيلتزمه – يأخذه من كتافه – ويقول نعم أنت، أنعم أنت، أي Bravo قال له، Bravo  أو Voila، نعم أنت، نعم أنت.

أكثر شيئ يُحِبه الشيطان بعد الشرك بالله ما هو؟ التفريق بين الأزواج، فيا ما شاء الله هناك أُناس وخاصة بعض النساء – ولتسمع الأخوات، هذا الشيئ مُخيف – يجعلن وكدهن وجُل سعيهم في التفريق بين الأزواج والعياذ بالله، إفساد! تقول إحداهن للمرأة هو الذي أذلك، هو الذي أهانك، لا يفعل من أجل شيئاً، لا يرى عندك كذا، ومن ثم تجعلها تكره زوجها، وهذا ضرب من ضروب السحر، السحر ثمانية أضرب، مَن أراد أن يتعمَّق فيها فليعد إلى التفسير الكبير للفخر الرازي: مفاتيح الغيب، ثمانية أضرب من ضمنها سحر الكلام، الكلام طبعاً يسحر والله، والله أحياناً سحر الكلام أنفذ من سحر إبليس، تأتي امرأة خبيثة عجوز هرمة مُجرِّبة شيطانة خيتعور وتجلس إلى امرأة شابة غِريرة غير فطنة خمس دقائق فتقلب رأسها بالكامل ويقع الطلاق، أليس كذلك؟ وتفعل أشياء أغرب من هذا، ولذلك قال العقاد – وأعتقد هذه الكلمة نيتشه Nietzsche نفسه، فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche فيلسوف ألمانيا، لا نُريد أن نذكر في المجلس الأسماء السخيفة هذه، المُهِم ماذا قال؟ – إن الشيطان أعار عقله للمرأة، المرأة التي تُحِب أن تُفسِد – إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ۩ – الشيطان قال لها تفضَّلي عقلي هدية  من غير جزية، هيا اشتغلي به، عندها أشياء غريبة، فهذا نوع من السحر والعياذ بالله، وسُبحان الله قد قال النبي – عليه السلام – إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة، وهو في الصحيح، أحياناً الكلام يسحر الإنسان، الكلام يسحر! يخلب لُبك بالكلام، أليس كذلك؟ هذا موجود.

وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ۩، لكن السحر لا ينفذ إلا إذا أذن الله، كله بإذن الله تبارك وتعالى، وتعرفون قصصاً كثيرة، وأما كيف يقع السحر وكيف ينفذ؟ شيئ غريب، الزوج الذي كان يرى زوجته كما يُقال أجمل وأبهى من القمر يراها في شكل قردة والعياذ بالله، وهي بعد ذلك تراه في كل شكل حصان أو حمار، أنا أعرف قصصاً حقيقياً عن هذا، وتُقسِم الأخت المسكينة وتبكي تقول أُقسِم بالله أراه حصاناً وصوته صوت حصان، لا أستطيع أن أسمع صوته، سحر والله! وحين فُك هذا السحر جعل الرجل يبكي والمرأة تبكي، كيف هذا؟ رجعت زوجتي طبيعية، سحر! لعنة الله عليهم، موجود هذا، يدفعون لهم مالاً من أجل الشيئ هذا، كله كلام فارغ.

۞ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۞

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ۩، اليهود ألقوا في روع النصارى – الأوس والخزرج – أن هذه الكلمة تُقال للشريف من الرجال، للأنبياء وللملوك، نقول للواحد منهم راعنا، لا نقول له اسمعنا، يضحكون عليهم! والنصارى كانوا يقولون للرسول راعنا، يا رسول الله راعنا، راعنا! اسمع لنا وانظر إلينا، أي انتبه إلينا، استمع إلينا، واليهود كانوا يقولونها ويُورون بها الرعونة، أي – أستغفر الله العظيم، اللهم غفراً – أنه أرعن، لعنة الله عليهم، كلمة تحتمل معنيين، أليس كذلك؟ تورية:

خَاطَ لي زَيْدٌ قِبَاء                                ليتَ عينيه سِوَاء.

والله لا نعرف دعا على عينيه بالمرض أم دعا لهما بالصحة، هذه مثل تلك، راعنا! ماذا تُريدون أنتم؟ راعنا من المُراعاة والرعاية أم من الرعونة؟ قالوا نحن نقولها وينتهي الأمر، طبعاً هم يقولونها كما كانوا يقولون السام عليكم يا محمد، السام عليك! السام عليكم يا مُسلِمين، وماذا يقصدون؟ الموت، لأن السام هو الموت، فهكذا يُوهِموننا أنها هي السلام، والنبي علَّمنا أن نقول ماذا؟ وعليكم، جيد! نقول وعليكم فنُستجاب فيهم ولا يُستجابون فينا – بإذن الله – لأنهم هم الذين بدأوا وظلموا، يدعون على رسول الله بالموت والعياذ بالله – وعلى المُسلِمين، فالنبي قال ماذا؟ لسنا مُتفحِّشين ولا بذيئين، لما عائشة قالت وعليكم اللعنة يا إخوان القردة ويا كذا قال لها لا تقولي هذا يا عائشة، لا داعٍ للسب والشتم هذا، لكن قولي وعليكم، فهذا هو، الله قال لا، لا تُشابِهوهم واتركوا هذه الكلمة، ما دام هذه الكلمة بدأت تُستخدَم استخداماً مُزدوَجاً – إما وإما – فاتركوها، وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۩.

۞ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ۞

مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ۩، ما شاء الله الآن جمعهم ماذا؟ الحقد والحسد على المُسلِمين والنبي، جمعهم بمَن؟ بالمُشرِكين، هذا هو فعلاً، ولذلك حتى في سورة النساء أن اليهود – والعياذ بالله – حين سُئلوا مَن أقوم هدياً ومَن أحسن سبيلاً ومَن أرشد: محمد أو كفّار قريش وعبّاد الأصنام؟ قالوا لا، كفّار قريش طبعاً، قالوا أحسن والعياذ بالله، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ۩، قالوا هؤلاء أهدى، أهدى من محمد، أصحاب بُهتان فعلاً، فجمعهم الحسد والحقد، والحسد أكثر شيئ والعياذ بالله.

۞ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ۞

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ۩، موضوع طويل موضوع النسخ، باختصار النسخ معناه ماذا؟ لدى جماهير العلماء والمُفسِّرين وعلماء القرآن – إلى آخره – النسخ هو رفع حُكم الآية، رفع حُكم الآية مع استبقاء ماذا؟ تلاوتها، هذا هو النسخ، وأما رفع الحُكم مع التلاوة أو رفع التلاوة دون الحُكم – سأقولها وأجري على الله – لا أُؤمِن به حقيقةً مع أنه مكتوب في كل كُتب المُسلِمين، لا أُؤمِن بهذا، لأن القرآنية لا تثبت إلا بالتواتر، أنا لا يستطيع عقلي أن يُصدِّق أن آية نزلت وكانت تُتلى ثم ارتفعت بعد ذلك ولم تعد لا تُتلى الآن وحُكمها قد يكون مرفوعاً أو غير مرفوع مثل آية الشيخ والشيخة، أليس كذلك؟ بماذا ثبت الكلام هذا؟ بحديث آحاد عن صحابي أو صحابيين، ورواه أيضاً جمعٌ ليس بالغفير عن هؤلاء أو عن هذين أو هذا الصحابي، حديث آحادي، كيف تُثبِت لي نزول آية وأنها ارتفعت بالكامل بحديث آحاد؟ والقرآنية لا تثبت إلا بماذا؟ إلا بالتواتر، أليس كذلك؟ فهذا الكلام فيه نظر حقيقةً، وقد نظر فيه بعض العلماء من قديم، مثل ابن ظفر في الينبوع، العلّامة الكبير ابن ظفر في كتابه الينبوع قال هذا الكلام، وهو كلام مُقنِع حقيقةً، فأنا غير مُطمئن إلى تقرير هذا المعنى وإن قرَّره كل العلماء تقريباً باستثناء ابن ظفر وأمثاله، غير مُطمئن للشيئ هذا، لكن آية موجودة ولا نعمل بما فيها من حُكم لأنه نُسِخ – نُسِخ إلى حُكم أكثر تخفيفاً وأكثر رحمةً، بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۩ إن شاء الله – فنعم هذا مُمكِن، لله أن يفعل ذلك، لكن النسخ بالمعنى الثاني الله أعلم بحقيقته.

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ۩، والنسخ هو الإزالة أو النقل، النقل يُعتبَر نسخاً، والإزالة تُعتبَر نسخاً، يُقال نسخ الخلية – خلية الشمع – إذا نقل مُحتوياتها، ونسخت الشمس الظل إذا أزالته، أَوْ نُنسِهَا ۩، وقُرِأت أيضاً أو ننسأها، فإذا كانت نُنسِهَا ۩ – هذه القراءة المشهورة والصحيحة المُتواتِرة – فهي من النسيان، وإذا أخذنا بقراءة ننسأها فهي من التأخير، بعض العلماء المُعاصِرين – وأنا أُحبِّذ أن تعودوا إلى كلامهم وأن تقرأوه، مثل الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه ومَن لف لفه، وكان من أواخرهم الشيخ محمد الغزّالي – يُفسِّرون هذه الآية وما يليها على أنها في الآيات التكوينية وليس في الآيات التشريعية، وعندهم تحقيق جميل جداً وحُجج من أقوى ما يكون، والله هو كلام جدير بالنظر وجدير بالاعتبار، وقد يرصد الله ويدخر بعض الفضل وبعض العلم وبعض التحقيق لبعض المُتأخِّرين ما لم يُؤته بعض المُتقدِّمين أو حتى كل المُتقدِّمين، مُمكِن! فاقرأوا كلام محمد عبده والشيخ الغزّالي وغيرهما، كلام جميل جداً في أن المقصود هنا بالنسخ في الآيات التكوينية، ما المُراد بالآيات التكوينية؟ أي المعاجز، مُعجِزة عيسى أو موسى، لأن بعض الناس كانوا يقولون لماذا محمد ليس عنده مثل موسى؟ لماذا ليس عنده مثل عيسى فيُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى؟ فالله قال مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ – تكوينية – أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ ۩، المسألة لها علاقة بالقدرة والكون،  وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ۩.

۞ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ۞

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ۩، موسى كان يُسأل أيضاً هذه الآيات التكوينية، عندهم تحقيق طويل، المُهِم عودوا إليه إن شاء الله تبارك وتعالى، هذه الآية واضحة.

۞ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞

فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۩، كان النبي ومِن ورائه أصحابه دائماً يُؤمَرون من لدن الله بالعفو والصفح عن مُشرِكي قريش – مُشرِكي العرب – وعن اليهود ومَن لف لفهم، الصفح والعفو! حتى أذن الله بالقتال والقتل، لكن بحق – إن شاء الله – وبعدل.

۞ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۞

وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ۩، أيضاً واضحة.

۞ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞

وَقَالُواْ ۩، أي اليهود والنصارى، لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۩، مُجرَّد أماني واضحة. 

۞ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۞

بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، نفس الشيئ المُتعلِّق بالخوف والحُزن وقد فسَّرناه أمس.

۞ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۞

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۩، هذه الآية الكريمة سبب نزولها أن نصارى نجران حين قدموا على الرسول – عليه السلام – جاء نفر من اليهود – من أحبار اليهود – وجلسوا في المجلس مع اليهود ومع نصارى نجران، فقام اليهودي – وهو اسمه رافع حُريملة – وقال أنتم معشر النصارى لستم على شيئ وما أُوتيتم شيئاً، ثم تكلَّم وسب عيسى والإنجيل والعياذ بالله، كفر بعيسى، كله كلام فارغ هذا وعبط وما إلى ذلك، فرد عليه مَن؟ أحد الوفد من نصارى نجران، قال أنتم معشر اليهود لستم على شيئ وأنتم مُبطِلون، وسب موسى – والعياذ بالله – والتوراة، والرسول يستمع! وأنزل الله هذه الآية، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۩، أي كتاب؟ الكتاب المُقدَّس Bibel، وفيه التوراة وفيه الإنجيل، أنتم يا يهود تقرأون التوراة والتوراة فيها تبشير بعيسى، أليس كذلك؟ موجود فيها التبشير بعيسى أيضاً من قبل محمد، والإنجيل فيه تصديق لناموس موسى عليه السلام، وعيسى يقول بشكل واضح أنا ما جئت لأنقض الناموس، أليس كذلك؟ فعيسى أيضاً من بني إسرائيل ومُصدِّق لموسى، أتقرأون الكتاب المُقدَّس ويسب بعضكم بعضاً وتسبون أنبياء بعضكم البعض؟ شيئ عجيب!  

كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ۩، مَن المقصود بقوله الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ۩؟ قال بعض المُفسِّرين من التابعين هم قومٌ قبل اليهود وقبل النصارى، ربما قد بُعِثَ فيهم أنبياء آخرون وقال بعضهم في بعض مثل هذا القيل أو مثل هذا القول، وقيل المقصود بهذا الكلام كفّار قريش، قالوا مثل هذا الكلام عن محمد، قالوا محمد ليس على شيئ، هذا كلام فارغ والقرآن كله أساطير، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ۩، قيل هذا وقيل هذا، فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۩.

۞ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ۩، مَن هم؟ هم كفّار قريش، هذا الراجح الصحيح، لأنهم منعوا النبي عام الحُديبية وأصحابه أن يأتوا البيت ليحجوا ويعتمروا، منعوهم! قالوا لا، والنبي قال هذا البيت لا يُمنَع من أحد، النبي قال أنه رأى ظلماً، ما هذه الغطرسة؟ ما هذه العنجهية؟ قال كان هذا البيت لا يُمنَع – حتى في الجاهلية – أحد، وإن كان الرجل ليلقى قاتل أبيه أو قاتل أخيه، فما يمنعه ذلك من أن يُخلي بينه وبين البيت، يقول له البيت هذا شيئ ثانٍ، أنتم الآن منعتم رسول الله؟ خراب هذا، فساد كبير جداً من حقد كفّار قريش، فالله قال هؤلاء بلغوا في الظُلم الغاية، يُقال في الشر غاية وفي الخير آية، لا نقول آية في الظلم وإنما غاية في الظلم، بلغوا في الظلم الأمد، الغاية! فقال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ۩، كيف يكون خرابها؟ بمنع الصالحين الذين يعمرونها بذكر الله وبالعبادة والإخلاص فتخرب، لأنها لا تعمر بالأبدان وإنما تعمر بالأرواح وبالذكر، بالصالحين وليس فقط بمُجرَّد الأبدان كما في الأثر عن الحسن البِصري – عنا في أمة محمد في آخر الزمان، ربما الآن ويكون عن بعضنا إن شاء الله  وليس الكل – الذي يقول مساجدهم عامرة بأبدانهم وخراب من ذكر الله، تجد أُناساً يذهبون إلى المساجد وحين يخرجون يرتكبون الكذب والغيبة والنميمة ويأكلون الحرام ويخونون الأمانة ويخونون الأعراض ويخونون الأسرار، وهم خارجون من الصلاة، ما هذا؟ هذا يعني أنها مساجد خربانة، لا تكون عمرانة إلا بالتقوى، بالإخلاص، بالخشية، وبالعبادة الحقيقة لله، هكذا! نسأل الله أن يعمر بنا وبإخواننا وأخواتنا مساجده.

أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ۩، قيل هذا خبر، ولا يمتنع أن يكون خبراً، ظاهره أنه خبر، الله يقول مَا كَانَ لَهُمْ ۩، أي يُخبِر أنه لن يدخلوها إلا خائفين، فهذا تبشير بأن الفتح سيكون لرسول الله، وقيل لا، هذا ظاهره الخبر وباطنه الطلب، أي أنه خبر صورةً وإنشاء معنىً، فيكون المعنى لا تخلوا بينهم وبين البيت ولابد أن تُخوِّفوهم، وهذا الذي حصل بحمد الله، بعد أن فتح المُصطفى المُصدَّق – عليه السلام – مكة بعث في العام التاسع – تعرفون أنه بعث أبا بكر وبعد ذلك أرسل علياً – مَن نادى في الناس أنه لا يحجن البيت بعد العام مُشرِك ولا يطوفن بالبيت عُريان، أليس كذلك؟ وفعلاً صاروا خائفين مُفزَّعين، لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، ولذلك استبشروا، إذا رأيتم أي عدو من أعداء الله سواء كان منا أو من الإسرائيليين أو من الأمريكان – إذا رأيتم أي عدو – يتعدى بعدوانه إلى بيوت الله، إلى منارة ذكر الله – تبارك وتعالى – وإلى الرَكع السُجد فهو – إن شاء الله تبارك وتعالى – قريب من أن يُنفِذ الله فيه وعده ووعيده، خزي في الدنيا – إن شاء الله – وفي الآخرة، الحمد لله، وهذا متى يكون؟ هذه آية عجيبة، لا يكون إلا إذا كان جهادهم ومُقاوَمتهم ومُناضَلتهم من الرُكع السُجد أصحاب الأيدي المُتوضئة، فهم يصبون جام غضبهم على بيوت الله، الحمد لله، جيد! حربهم أصبحت الآن مع أولياء الله ومع الله مُباشَرةً، الله قال لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩.

۞ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۞

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩، اختُلِفَ في سبب نزول هذه الآية، لدينا عدة أقوال، القول الأول: قيل نزلت هذه الآية بعد أن هاجر الرسول وأصحابه إلى المدينة ومكث ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، إذن المُدة التي استقبل فيها النبي بيت المقدس كم هي؟ ليست ستة عشر أشهر أو سبعة عشر شهراً وإنما أكثر من ذلك، الفترة التي صلى بمكة زائداً ستة عشر أو سبعة عشر شهراً بالمدينة، هل هذا واضح؟ هذه الفترة كلها استقبل فيها بيت المقدس، لكن النبي قلبه يهوى ويُحِب ماذا؟ أن يستقبل البيت العتيق، كان يُحِب هذا ودائماً يخرج وينظر في السماء ويتحيَّن ويترقَّب، فأنزل الله قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ۩، الآية من سورة البقرة وستأتي إن شاء الله تعالى، وقيل بعد أن أمره الله باستقبال البيت غضب اليهود وقالوا ما بال محمد وأصحابه صُرِفوا عن قبلتنا؟ ما الذي ولاهم عن قبلتنا؟ فأنزل الله يقول وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۩، بيت المقدس لي والكعبة لي وأنا حُر أن أُوجِّه عبادي حيث شيئت، قيل هذا السبب، وقيل نزلت هذه الآية الإخوة في صلاة التطوع، وليس في صلاة الفريضة، في صلاة التطوع! فأن مَن صلى مُتطوِّعاً في سفر وكان على دابة يستقبل بها القبلة أو يستدبر أو يُصلي مُشرِّقاً أو يُصلي مُغرِّباً لا بأس، لكن كل هذا في التطوع، كان ابن عمر – هذا في الصحيحين – يفعل هذا، تذهب به الدابة هكذا وهو يُصلي، يقول رأيت الرسول يفعله، في صلاة التطوع مُمكِن ألا تستقبل القبلة، لا تُوجَد أي مُشكِلة والله أعلم، فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۩.

۞ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ۞

وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۩، مَن هم؟ الضمير هنا في وَقَالُواْ ۩ يعود على مَن؟ مَن هم؟ (ملحوظة) قال بعض الحضور النصارى واليهود، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم ومُشرِكي قريش أيضاً، الكل! هذه شملت اليهود والنصارى والمُشرِكين، وَقَالُواْ ۩ جميعاً، بكتت كل هؤلاء جميعاً بضربة واحدة، وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۩، لماذا؟ لأن مُشرِكي قريش قالوا اتخذ الملائكة إناثاً، أي بناتٍ، اتخذ الملائكة إناثاً تعني بناتٍ، وطبعاً كلمة ولد تُطلَق على الذكر والأُنثى، أليس كذلك؟ ولد! لم يقل ذكراً أو ابناً، قال وَلَدًا ۩، تدخل فيها البنات والأبناء، فكفّار قريش قالوا اتخذ الملائكة بناتٍ له، وطبعاً اليهود قالوا – طائفة منهم طبعاً، ليس كل اليهود وإنما طائفة من اليهود – عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ۩، والنصارى في مُعظَمهم قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۩، الله قال كل هذا كذب، وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ۩، قال سُبْحَانَهُ ۩، في الحديث الصحيح الثابت قال – صلى الله عليه وسلم – يقول الله – تبارك وتعالى – يُكذِّبني ابن آدم وليس له ذلك – ما ينبغي له أن يُكذِّبني – ويشتمني ابن آدم وليس له ذلك، أما تكذيبه إياي فزعمه أني لا أستطيع أن أبعثه، لا! أستطيع أبعثه، لماذا لا؟ أستطيع من لا شيئ، ورأينا أمس الآية الغريبة جداً جداً وعرفنا كيف الله أهلك اليهود وبعثهم وهم ينظرون، هذه السورة الغريبة ذُكِرَ فيها تقريباً في خمسة مواضع آيات على البعث سنذكرها في حينها، خمسة مواضع في سورة البقرة وحدها، هذا موضع منها – وأما شتمه إياي فقوله اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۩، قال وسُبحاني في جلالي أن أتخذ صاحبةً أو ولداً، مُستحيل قال، لماذا؟ ما الجواب؟ سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، والذي يكون له ما في السماوات والأرض أيتخذ ولداً؟ كل ما في السماوات وكل ما في الأرض مخلوق لي، مكوَّن بمشيئتي، بــ كُن ۩، أليس كذلك؟ فكيف يُشارِكني؟ كيف تكون زوجتي؟ كيف يكون ابني؟ أصلاً هو مخلوق، أي كان بعد أن لم يكن، أو بتعبير الفلاسفة صار في الأيس بعد أن كان في الليس، هكذا تعبير ابن رشد ومَن مثله، هذا كان في الليس، ليس شيئاً، هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ۩، فصار في الأيس بعد أن كان في الليس، فكيف تقول لي اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۩؟ ثم إن لكي يتخذ الرب الجليل – اللهم غفراً – صاحبة لابد أن تكون…. ماذا نقول؟ أستغفر الله العظيم، لا نقدر على التعبير، أنقول من جوهره؟ أنقول من جنسه؟ أنقول من نوعه، أنقول من طبعه؟ كل هذا غلط، كله غلط! لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، أليس كذلك؟ وأين هذه الصاحبة؟ غير موجودة! ولكي يتخذ ولداً الأمر نفسه، ثم أنه لا يتخذ صاحبة ولا يتخذ ولداً إلا وهو مُحتاج إلى ذلك، فهل الله مُحتاج؟ هو له ما في السماوات وما في الأرض، فهذا كلام فارغ كله.

كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ۩، القنوت لها اثنى عشر معنىً في اللُغة العربية وهذا معروف، تجدونها في أي كتاب في الفقه في مبحث القنوت، في الكتب المُوسَّعة والحواشي، ذكرها أبو بكر بن العربي أيضاً في الأحكام، لها اثنى عشر معنىً، وذكرها الحافظ في فتح الباري، لكن هنا كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ۩، قيل كلٌ له عابدون وهذا أولاً، ثانياً قيل كلٌ له مُخلِصون، ثالثاً قيل الكل يدعوه ويبتهل إليه ويطلب منه، هم الفقراء وهو الغني، هذا معنى الآية، القنوت الدعاء، هذا المعنى! ورابعاً قيل كلٌ له مُطيعون يوم القيامة، ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ۩، الكل يُطيع ويُجيب، لا يُمكِن أن يقول أحد لا فأنا لا أُريد أن أُبعَث، هذا معنى الآية والله أعلم.

۞ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ۞

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، بديع فعيل بمعنى مُفعِل، أي مُبدِع، هو الذي أبدع، أي خلقهم على غير أُنموذج يُحتذى أو مثال يُحتذى أو مثال سابق، من لا شيئ، أي لأول مرة! هذا معنى البداعة.

۞ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۞

وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ ۩، اختُلِفَ فيهم أيضاً، ومن أشهر ما قيل فيهم هم كفّار قريش، المُشرِكون قالوا ماذا؟  لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ ۩، وهذا طبعاً مذكور في سور أُخرى، أن كفّار قريش في الإسراء وفي غيرها قالوا مثل هذا، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۩، المُشرِكون من أمثالهم قالوا مثل هذا القول، سُبحان الله! ذكرت لكم مرة في خُطبة – شيئ غريب – أنني قرأت للأديب هكسلي Huxley شيئاً غريباً، وكان مُلحِداً هو، كان تطورياً ومُلحِداً، عنده كتاب اسمه الدين بلا وحي Religion without Revelation، يقول دين بلا وحي، الفكرة كلها ما هي؟ ماذا يقول؟ يقول لو نحن أردنا أن نُؤمِن بالدين وأن هناك إلهاً يتصل بعالم الأرض وبالناس فأنا لا أستطيع أن أستوعب هذا الشيئ لأن أنا أصلاً أتوق إلى ذلك، فليتخذني أنا نبياً ويُوحي لي بشكل شخصي حتى أُصدِّق هذه الفكرة، قلت سُبحان الله، منطق الشرك القديم هو نفس منطق الشرك الحديث، والباعث ما هو؟ الكبر النفسي، مُستكبِر! لماذا محمد بالذات؟ لماذا لست أنا؟ أليس كذلك؟ لماذا موسى؟ لماذا لست أنا؟ لماذا عيسى؟ وهذا يحدث لكثيرين فانتبهوا، هذا باب من أبواب الكفر والعياذ بالله، باب عجيب جداً.

أُمية بن أبي الصلت تعرفونه، كان من شعراء ثقيف في الطائف، وكان شاعراً مُوحِّداً، يُوحِّد الله تبارك وتعالى، أليس كذلك؟ وحنيفاً مُسلِماً كان، وكان يعلم أن نبياً سيُبعَث في آخر الزمان، لكن يُطمِع نفسه أنه ربما يكون هو النبي، فلما بُعِثَ رسول الله ماذا فعل؟ كفر أُمية بن أبي الصلت، كفر بالرسول والعياذ بالله، وجعل في المعارك حتى مثل بدر يُشجِّع كفّار قريش وغيرهم على رسول الله وأصحابه، وبالأمس كان مُوحِّداً وفيه قال النبي آمن شعره وكفر قلبه، وما أبلغ هذه العبارة! قال آمن شعره وكفر قلبه، كبر! وهذا مثله، لماذا لا يُكلِّمنا نحن؟ لماذا لا يُنزِّل علينا نحن؟ لماذا محمد وغير محمد؟ كبر! نعوذ بالله من الكبر، وكذلك نفس الشيئ مع اليهود، اليهود كفروا بمحمد، لماذا؟ لأنه لم يكن من بني إسرائيل، لماذا من العرب؟ لماذا ليس منا؟ فكفروا به كبراً وحسداً، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۩، نفس المنطق يقول الله، نفس المنطق ونفس البواعث، قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ۩.

۞ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ۞ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ۞

هذا واضح إن شاء الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، الحمد لله وصل اللهم وسلم على رسول الله، السلام عليكم ورحمة الله.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: