الدرس الأول
تفسير سورة الفاتحة كاملة وتفسير سورة البقرة من الآية الأولى إلى الآية السادسة والستين

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على نعمه كلها، الحمد لله على ما علَّم وفهَّم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وحبيبه ومُصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، ربنا تقبَّل منا صلاتنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين.

أيها الإخوة:

إن شاء الله كما وعدتكم سنُحاوِل تفسير هذه الآيات التي قرأناها في صلاة القيام، لكن وفق خُطة مُعجَلة، هذا يقتضي – إن شاء الله – منكم مزيداً من التركيز والانتباه، لأنني لن أُطوِّل في شرح بعض الأشياء وإنما سأعرض لها على سبيل العجلة إن شاء الله تبارك وتعالى.

نبدأ بسورة الفاتحة، سُميت هذه السورة الجليلة بسورة الفاتحة أيها الإخوة والأخوات لأنه يُفتتَح بها المُصحَف خطاً، فهي في ترتيب السور السورة الأولى، وهذا القول لا يتوجَّه إلا على ترجيح قول مَن قال إن ترتيب السور في القرآن توقيفي أُخِذ عن رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، وأنتم تعلمون أن للسادة العلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال، منهم مَن قال ترتيب السور توقيفي ومنهم مَن قال بل توفيقي باجتهاد الصحابة ومنهم مَن قال بعضه توقيفي وبعضه توفيقي، هذا القول يتوجَّه على القول الأول أو على القول الثالث على أن هذه من البعض الذي هو توقيفي، فلذلك سُميت بالفاتحة، وقيل سُميت بالفاتحة لأن الصلاة تُفتتَح بها، وأيضاً من أسمائها كما هو ثابت أم الكتاب، والعرب تُسمي كل أمرٍ يجمع أموراً تتبعه وتنحاز إليه أماً، فالجلدة التي تجمع الدماغ تُسمى أماً، لأنها تجمع الدماغ أو الرأس، والراية التي تكون في مُقدَّم الجيش – في مُقدَّم الخميس أو في مُقدَّم الجيش – تُسمى أماً، لأنهم يأوون إليها وينحازون إليها، وهكذا كل أمرٍ جامعٍ يُسمى أماً، لكن لماذا سُميت الفاتحة أم الكتاب؟ ما هي جامعية الفاتحة؟ قيل لأنها جمعت مقاصد القرآن الكريم والمعاني المُتفرِّقة أصولها ورؤوسها المبثوثة في كتاب الله تبارك وتعالى، وهي أيضاً السبع المثاني، لأنها تُثنى في الصلاة، أي تُقرأ أكثر من مرة، وتُسمى أيضاً بالرُقية، هي سورة الرُقية لما ثبت في الصحيحين وعند أحمد وغيره من حديث أبي سعيد، حديث ذلكم الصحابي – هو ليس أبا سعيد، أبو سعيد روى الحديث، لكن عن صحابي آخر لم يُذكَر اسمه في رواية أبي سعيد أو في حديثه في الصحيحين – الذي رقى سيداً من أسياد العرب، سيداً من سادات العرب كان سليماً، أي ملدوغاً، رقاه بالفاتحة، فجعل له هذا الرجل ثلاثين شاةً وسقاهم لبناً، لكن توقَّف الصحابة في هذا الجُعل، قالوا لا تُحدِثوا شيئاً حتى نأتي رسول الله فنسأله، ولما سألوا الرسول قال ما كان يُدريه أو ما أدراه أنها رُقية؟ انتبهوا! ويُؤخَذ من هذا أن الرُقية لا تكون إذن بكل آية من القرآن كما يظن بعض الناس، لو كانت الرُقية تجوز بكل آية لما سأل النبي هذا السؤال، إذن هناك آيات مُعيَّنة يُمكِن أن تكون للرُقية دون غيرها، قال ما كان يُدريه أو ما أدراه أنها رُقية؟ اضربوا لي بسهم، اقسموا واضربوا لي بسهم.

إذن هي رُقية، تُسمى سورة الرُقية، وهي سورةٌ عظيمةٌ بل هي أفضل سور القرآن العظيم، في البخاري ومُسلِم وعند أحمد عن أبي سعيد بن المُعلى – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال كنت أُصلي فناداني رسول الله عليه الصلاة وأفضل السلام، قال يا أبا سعيد، قال فلم أُجِبه، فلما انفتلت أو انصرفت من صلاتي قال يا أبا سعيد لقد دعوتك، فلِمَ لَمْ تُجِبني؟ فقلت يا رسول الله كنت في صلاة، قال ألم تسمع الله – عز وجل – يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۩؟ من الأنفال، هكذا إذن حتى في الصلاة ينبغي أن تُجيب النبي، انظروا إلى عِظم حقه علينا عليه الصلاة وأفضل السلام! ثم قال لي لأُعلِّمنك قبل أن تخرج من المسجد أعظم سورةٍ في القرآن، قال وحين أردنا أن نخرج قلت له يا رسول الله قلت لي إنك ستُعلِّمني أعظم سورة، قال نعم هي الفاتحة، هي السبع المثاني والقرآن العظيم، أعظم سور القرآن العظيم سورة الفاتحة الجامعة، تجمع مقاصد القرآن الكريم، وأيضاً في حديث آخر أن جبريل – عليه السلام – كان عند رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – إذا سُمِعَ نقيضٌ – صوت هدة كبيرة – فرفع جبريل رأسه إلى السماء ثم قال يا محمد لقد أُنزِلَ عليك نوران لم يُؤتاهما نبيٌ قبلك: الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، ما قرأ حرفاً منهما إلا أُوتيه أو كما قال عليه السلام، أي جبريل، فضائلها كثيرة جداً!

۞ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۞
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، البسملة كما تعلمون اختُلِفَ هل هي آية من الفاتحة أم لا، وهي آية من الفاتحة بلا خلاف أيها الإخوة، بلا خلاف! هل هي آية من كل سورة؟ موضوع فيه خلاف، الخلفاء الأربعة يرون أنها آية من كل سورة، أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وغيرهم يرون أنها آية من كل سورة، الإمام الشافعي والإمام أحمد يريان أيضاً أنها آية من كل سورة، أبو حنيفة ومالك لا يريناها آية حتى من الفاتحة خلافاً للمُتقدِّمين من الصحابة وغيرهم.
۞ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۞

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، العالمون جمع عالم، لا مُفرَد له من لفظه، العالم طبعاً يتضمَّن خلقاً كثيراً، قيل لا يُقال عالم إلا لما يعقل، وقيل بل لما يعقل ولما لا يعقل وهذا أشبا، والعالمون كثيرة جداً، لا نخوض في بعض الروايات الضعيفة التي حاولت أن تُحدِّد عدد العالمين.

۞ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۞

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، اسمان طبعاً من أسماء الله، أيهما أبلغ؟ الأرجح أن الرحمن أبلغ من الرحيم، قال – تبارك وتعالى – وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ۩، وأما الرحمن فهو رحمن بالمُؤمِنين وبغير المُؤمِنين، رحمته عامة للإنس والجان والملائكة والدواب والكافر والمُؤمِن، وأما الرحيم فهو رحيم بالمُؤمِنين، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ – أي دون غيرهم – رَحِيمًا ۩.

۞ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۞

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، هو مالك يوم الدين ومالك غير يوم الدين، لكن لماذا قال هنا مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩؟ هل هناك اختصاص ليوم الدين بمُلك الله تبارك وتعالى؟ لا، وإنما قال مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩ لأنه في يوم الدين لا يملك أحدٌ كائناً مَن كان معه شيئاً ولا يدّعي أحدٌ لنفسه شيئاً، فالمُلك صورةً ومعنىً لله وحده لا إله إلا هو، ما هو الدين؟ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩: مالك يوم الحساب، الدين هو الحساب، أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ۩، أي أئنا لمُحاسَبون، إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ۩، أي غير مُحاسَبين، وفي حديث رواه الترمذي وابن ماجه قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الكيّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، أي حاسب نفسه، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، قال الكيّس مَن دان نفسه، ما معنى دان نفسه؟ أي حاسبها، فالدين هو الحساب، الكيّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها – والعياذ بالله – وتمنى على الله.

۞ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۞

إِيَّاكَ نَعْبُدُ ۩، التفاتٌ من الغيبة إلى المُواجَهة بكاف الخطاب، وكان حقه أن يقول: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياه نعبد وإياه نستعين. التفت من الغيبة إلى المُواجَهة بكاف الخطاب: إِيَّاكَ ۩، لماذا؟ كأنه أيها الإخوة بعد أن أثنينا عليه بما أثنى به عليه نفسه – لأنه حين قال الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩ هو حمد نفسه – يُعلِّمنا ويقول لنا احمدوني وقولوا الحمد لله، والألف واللام في الْحَمْدُ ۩ للاستغراق، الله يستحق أيها الإخوة والأخوات كل الحمد، فاللام هنا للاستغراق، استغراق كل أنواع وصنوف ورُتب الحمد، فكأننا بعد أن أثنينا عليه وحمدناه صرنا قريبين منه وحاضرين بين يديه فخاطبناه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، وهكذا! إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، لماذا قدَّم العبادة وأخَّر الاستعانة؟ لأن العبادة هي المقصود والاستعانة وسيلة إلى المقصود، ومن حق المقصود أن يُقدَّم على وسيلته، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩.

۞ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۞

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، قيل هو القرآن، قيل هو صراط الجنة، قيل هو مُفسَّر هنا بصراط المُنعَم عليهم، قيل هو الإسلام، وكلها معانٍ تؤول إلى معنى واحد، لا تتناقض! تتآزر ولا تتناقص، اهْدِنَا ۩، الهداية نوعان: هداية تبيان وإرشاد ودلالة وهي للجميع، حتى الكفّار الذين كفروا برسالات الأنبياء وبما أتوهم به كانت لهم هذه الهداية، قال – تعالى – وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ – لكن – فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ ۩، هديناهم هداية البيان، بيَّنا لهم، وضَّحنا لهم، هذه هداية للجميع، لمَن أسلم ولمَن كفر، الهداية الثانية هداية التوفيق التي يُودِعها الله قلب مَن شاء مِن خلقه، وهذه ليست حتى للنبي، هذه فقط لله تبارك وتعالى، لا يستطيع أن يُوفِّق إلى الالتزام والعمل والإذعان إلا الله تبارك وتعالى، نحن نسأل الله كلا ضربي ونوعي الهداية، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، سؤالٌ: كيف يطلب المُسلِم الهداية وهو مُهتدٍ ويتلو هذه السورة؟ يتلوها في الصلاة، هل هذا من باب التكرار؟ كلا، ليس من باب التكرار، لكن هذا من باب قولهم اجلس حتى آتيك وهو جالس، أي دُم جالساً، قال – تبارك وتعالى – يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ۩، النبي من المُتقين، ما معنى اتَّقِ اللَّهَ ۩؟ أي زِد ودُم على ذلك، دُم وازدد واستبصر في تقواك، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ۩، كيف؟ هم مُؤمِنون ويُخاطِب مُؤمِنين، يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ۩، أي ماذا؟ دُوموا مُؤمِنين وموتوا مُؤمِنين، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ۩، دُوموا على ذلك حتى الموت وازدادوا تبصراً فيه، ازدادوا تبصراً وتفنناً في فنون وأفانين الهداية، فليست تكراراً إن شاء الله تبارك وتعالى، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩.

۞ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ۞

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ۩، مَن هم هؤلاء المُنعَم عليهم؟ بيَّنهم – تبارك وتعالى – في سورة النساء والقرآن يُفسِّر بعضه بعضاً: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ۩، أحسن ما قيل في بيان المُنعَم عليهم! غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ۩: اليهود، الضالون هم النصارى، بيَّنه الرسول في حديث مشهور عند أحمد، حديث عدي بن حاتم، حين تحدَّث كيف غزا النبي قومه وكيف أخذ عمته وهي أخت حاتم الطائي، في آخره قال له النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – فإن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين هم النصارى، ولا تفسير بعد تفسير رسول الله، لماذا أيها الإخوة؟ لأن سبيل المُؤمِنين، سبيل المُستبصِرين الهُداة المُهتَدين ماذا؟ العلم والعمل، فأما اليهود فعلموا ولم يعملوا فغضب الله عليهم، وأما النصارى فلم يعلموا أصلاً، ضيَّعوا العلم وبالتالي فلم يعملوا، وإن عملوا فعلى جهالة، قال الإمام سُفيان بن عُيينة – شيخ مكة وشيخ الإمام البخاري وشيخ غيره – مَن ضل مِن هذه الأمة عن علمٍ ففيه شبه من اليهود ومَن ضل مِن هذه الأمة على جهلٍ ففيه شبه من النصارى، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم وألا يغضب علينا وألا يُضِلنا. آمين.

من السُنة أن يُقال آمين وهذا حتى في الصلاة خلافاً لبعض فقهاء الكوفة، وفي الصحيح إذا قال العبد آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت هذه هذه غُفِرَ لصاحبها.

سورة البقرة أيها الإخوة، ثبت عن رسول الله هذه التسمية، وفي الصحيحين عن أحد الصحابة قال سمعت الحجّاج – قال الحافظ ابن حجر هو لا يروي عنه لأنه ليس بأهلٍ أن يُروى عنه ولكن يُريد أن يُصحِّح مسلكه – يقول في خُطبة له – وهذا في الصحيحين – في السورة التي ذُكِرَ فيها البقرة، وهذا من حذلقته وتمشدقه، الرسول سماها سورة البقرة، والصحابة سموها كذلك، ولا غضاضة أن تُسمى سورة البقرة، هذا فيه – والعياذ بالله – نزعةٌ مما أصاب المُنافِقين والمُتردِّدين الذين قالوا مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۩، يذكر الذباب ويذكر البعوض ويذكر النمل والنحل، لا تُوجَد مُشكِلة! لله أن يقول وأن يُمثِّل وأن يُسمي بما شاء، هي سورة البقرة، وهي سورة عظيمة، قال فيها السادة العلماء أهل الإحصاء فيها ألف خبر وألف أمر وألف نهي، فيها ألف خبر وألف أمر وألف نهي سورة البقرة!

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – اقرأوا القرآن ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن البيت الذي تُقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان ثلاثة أيام، في حديثٍ آخر إذا قرأها العبد في بيته ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال وإذا قرأها في بيته نهاراً لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام. سورة عظيمة جداً!

قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – اقرأوا الزهراوين: اقرأوا البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة غمامتان أو غيايتان – الغمامة معروفة، الجمع غمام، والغيايتان مُثنى غياية وهي كل ما أظلك من فوقك – أو فرقان من طيرٍ صوافٍ تُظلِان عن صاحبهما. اقرأوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة. والبطلة هم السحرة، ومعنى عدم استطاعتهم البقرة أنهم لا يستطيعون حفظها، أقول هنا وليس المُراد بالحفظ حفظ القلب، لأن الكافر حتى ربما يستطيع ذلك ساحراً كان أو غير ساحر، وإنما هنا الحفظ بمعنى العمل بها، بمعنى العمل بمقاصدها وأوامرها والانتهاء عن مناهيها، وقيل لا ينفذ سحر هؤلاء السحرة في صاحب البقرة، هذا معنى لا تستطيعها البطلة، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

۞ الم ۞

الم ۩، تعلمون هذه المُقطَّعات، حروف التهجي في أوائل السور فيها كلامٌ كثيرٌ جداً جداً، مذهب الخلفاء الأربعة وغيرهم كالإمام الشعبي وأظن أيضاً ابن مسعود من الصحابة أن هذه سر الله فلا يُطلَب، مذهب أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ أن الحروف المُقطَّعة سرٌ من أسرار الله فلا ينبغي تطلبه، لا يعلمه إلا الله، وفيها كلام كثير لا نُطوِّل، لكن العجيب فيها أن هذه الحروف المُقطَّعة تأتي تماماً نصف حروف التهجي، هي ليست كل حروف التهجي، نصف حروف التهجي، وفيها من صفات حروف التهجي – كل الصفات التي درسناها في علم التجويد – النصف، نصف المهموسة، نصف المجهورة، وهكذا وهكذا! نصف المُقلقَّلة، نصف المُفخَّمة، نصف المُرقَّقة، فيها دائماً النصف من كل صفات الحروف سُبحان الله، وهذه الحروف الأربعة عشر مجموعة بعضهم ركَّب منها جُملة: نصٌ حكيمٌ قاطعٌ له سر، ترتيب! طبعاً ليس إعجاز هذا، ترتيب هذا! يُمكِن أن تُرتَب حتى في جُملة مُختلِفة، الم ۩.

۞ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۞

ذَلِكَ الْكِتَابُ ۩، يقصد هذا الكتاب، والأرجح أنه القرآن، لكن لماذا قال ذَلِكَ الْكِتَابُ ۩؟ اللام هنا للبُعد، طبعاً اسم الإشارة فقط ذا والكاف للخطاب، لأنه يُخاطِب محمداً عليه الصلاة وأفضل السلام، يُخاطِبه! لو خاطب أصحابه لقال ذلكم الكتاب، لو خاطب جماعة من الإناث لقال ذلكن الكتاب، لو خاطب اثنين لقال ذلكما الكتاب، ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۩، فاسم الإشارة هو ذا والكاف للمُخاطَب واللام للبُعد، والبُعد إما في المكان وإما في المكانة، هنا البُعد مكان أم مكانة؟ مكانة، كتاب بعيد المكانة، شريف المُقام، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ۩، الريب هو الشك، بعض القرّاء يقف على لَا رَيْبَ ۩، ثم يستأنف فيقول فِيهِ هُدًى ۩، والأفضل أن نقف فِيهِ ۩، نقول لَا رَيْبَ فِيهِ ۩، هنا يُوجَد تعانق الوقفين، الأفضل أن نقرأ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ۩ ثم نستأنف هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۩، على أن يكون إعراب هُدًى ۩ ماذا؟ إما خبر وإما نعت، أي صفة، إما خبر وإما نعت! ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ۩، لماذا رجَّحنا هذا؟ لقوله في الم السجدة: الم ۩ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، إذن فالأرجح أن المعنى ذلك الكتاب لا شك فيه، لا شك فيه بأي اعتبار، لا شك في أنه كلام الله المُنزَّل من عند الله وليس من عند محمد ولا من لدنه عليه الصلاة وأفضل السلام، وقد يقول قائل كيف قال لَا رَيْبَ فِيهِ ۩ مع أنه قد وقع فيع الريب من كثيرين من الناس؟ القرآن يرتاب فيه كثيرون! قيل الجواب: لَا رَيْبَ فِيهِ ۩ من أهل القرآن، من الذين اهتدوا به، بدليل أنه قال هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۩، أليس كذلك؟ حتى الاهتداء به لا يتحصَّل إلا لأهل التقوى، وإلا الذين ضلوا قد ازدادوا بهذا القرآن خساراً، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ۩.

هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۩، تعريف التقوى مشهور، من أجمع تعريفات التقوى هي توقي مساخط الله بتوقي محارم الله، قال عمر بن الخطاب لأُبي بن كعب يا أُبي أخبرني ما التقوى؟ قال يا أمير المُؤمِنين لو كنت سائراً في طريق فيها شوكٌ وفيها ما يضر ماذا كنت فاعلاً؟ كنت أتقوى، قال فهذه التقوى، اتق! اتق كل ما يُمكِن أن يجرح الدين ويجلب مسخطة الرب تبارك وتعالى، وأيضاً من أجمع تعاريف التقوى هي ألا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك، ألا يفتقدك في مواطن الرضا والأمر الشرعي، وألا يراك في مواطن النهي والنكير.

۞ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۞

مَن هم المُتقون؟ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ۩، ما هو الغيب؟ قيل هو الله والملائكة والرُسل أيضاً الذين لم نرهم، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يوماً لأصحابه حين سألوه يا رسول الله هل في أُمتك أُناسٌ أقرب إليك وخيرٌ منا؟ نعم، رجالٌ – طبعاً المقصود رجال ونساء – يأتون من بعدي يُؤمِنون بي ولم يروني، بالغيب! نُؤمِن به هكذا غيباً، فالرُسل أيضاً من ضمن الغيب، فالرُسل والجنة والنار والحساب والصراط والميزان والحشر والنشر من باب الغيب الذي نُؤمِن به إن شاء الله تبارك وتعالى، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ۩، نادر جداً جداً إلا في مُخاطَبة رسول الله أن يقول الله يُصلون، لا تُوجَد آية تقول صلوا، دائماً يقول أقيموا الصلاة! وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ۩، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ۩، دائماً! الله لا يطلب أن نُصلي فقط وإنما يطلب منا أن نُقيم، إقامة الصلاة هي ماذا؟ ما معنى إقامة الصلاة؟ أن نُصليها مُستوفيين أيها الإخوة أركانها وشرائطها ونجهد ما استطعنا في التخشع والتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، هكذا!

وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۩، قيل الزكاة المفروضة، وقيل هذه الآية لا يُعنى بها الزكاة المفروضة، بل تعم كل النفقات زكاةً كانت أو غير زكاة وهذا أقرب، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

۞ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ۞ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۞ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۞

لن نُفسِّر جميع الآيات، فقط بعض المواضع!
۞ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۞

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ۩، بالمُناسَبة الآن بدأ القرآن يتحدَّث عن الكفّار، هذه الآيات يُوجَد منها أربع آياتٍ في المُؤمِنين وآيتان في الكفّار وثلاث عشرة آية في المُنافِقين، أكثر الآيات في المُنافِقين! ولذلك قال السادة العلماء من الذنوب والأخطار الكبار عدم معرفة المُنافِقين، لأنهم يُفسِدون ويصلون من أمة محمد إلى الفساد والإعنات ما لا يصل الكافر المُجاهِر بكفره، ومن هنا خصَّهم القرآن بثلاث عشرة آية وتحدَّث عن الكفّار في آيتين وأنزل فيهم سورة التوبة وأنزل فيها سورة المُنافِقين أو المُنافِقون على الحكاية وأيضاً تحدَّثت عنهم بإسهاب سورة النور، فالقرآن عُنيَ عنواً شديداً بأمر المُنافِقين والعياذ بالله تبارك وتعالى، يقول الله في الكافرين خَتَمَ اللَّهُ ۩، ما هو الختم؟ الختم هو الطبع، كما نختم الكوز – مثلاً – أو الكوب أو الزجاجة بحيث لا يدخل فيها ما هو خارجٌ عنها ولا يخرج منها ما هو داخلٌ فيها والعياذ بالله تبارك وتعالى.

قال أحد التابعين – رضيَ الله عنه وأرضاه – الران أهون من الطبع، والطبع وهو الختم أهون من الإقفال، والإقفال أشد ذلك كله. قال – تبارك وتعالى – أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ۩، القفل هذا والإقفال هو أصعب شيئ والعياذ بالله تبارك وتعالى، القلوب أيها الإخوة مُختلِفة، وسنشرح بعد ذلك أنواع القلوب الأربعة على سبيل أيضاً التذكير والإعجال، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩، غِشَاوَةٌ ۩ هنا مرفوعة مما يُؤكِّد أن الختم ليس على الأبصار، الغشاوة على الأبصار، وأما الختم فمُختَص بماذا؟ بالقلوب وبالأسماع، الختم على القلب وعلى السمع، وأما البصر فعليه – والعياذ بالله – غشاوة تمنعه من الرؤية، تمنعه فيصير كالأعمى، أي يصير صاحبه كالأعمى، لو كان الختم على الثلاثة لكان حقه أن يقول: وعلى أبصارهم غشاوةً على التمييز، لكنه لم ينصبها تمييزاً فجاءت مرفوعة، إذن الغشاوة على الأبصار والختم على القلوب والأسماع، نسأل الله الهداية ونعوذ بالله من الحور بعد الكور.

۞ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۞

وَمِنَ النَّاسِ ۩، الآن شرع في الحديث عن المُنافِقين، فقط آياتان – إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۩ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۩ – في الكافرين، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ۩، هي في المُنافِقين.

۞ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ۞

يُخَادِعُونَ اللَّهَ ۩، يُخَادِعُونَ ۩: يُحاوِلون، الله – عز وجل – لا يُخدَع، بعض العلماء استشكل، كيف يُخَادِعُونَ اللَّهَ ۩ والله لا يُخدَع؟ لجهلهم، لأنهم جهلة بالله أصلاً، المُؤمِن لا يُخادِع الله لأنه يعلم أن الله لا يُخدَع، أليس كذلك؟ ولا يُغالِب الله، لأن مُغالِب الغلّاب مغلوب، المُؤمِن يعلم هذا، لكن المُنافِق لا يعلم لجهله وغلبة الجهل عليه وانطماس بصيرته فهو أصم أعمى أبكم والعياذ بالله تبارك وتعالى، في عمه وفي طغيانه يتردى، فيُحاوِل مُخادَعة الله، لكن الله – تبارك وتعالى – لا يُخدَع، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۩، بماذا يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۩؟ بإظهار الإيمان وإسرارهم وتكتمهم على كفرهم ليُحرِزوا دماءهم والعياذ بالله تبارك وتعالى.

۞ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ۞

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ۩، هو الشك والارتياب، مرض النفاق! هو الشك والارتياب أو الكفر، لأن المُنافِقين قسمان كما وضَّحت الآيات في المثلين: الماء والنار، بعد قليل نشرح ذلك إن شاء الله تعالى.

۞ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۞ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ۞ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ۞

قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۩، السُّفَهَاءُ ۩ جمع السفيه، مَن هو السفيه؟ قيل المرأة وقيل الطفل الصغير، غير صحيح! السفيه هو ضعيف العقل الذي لا يُحسِن النظر لنفسه ولا يُحسِن النظر في مواضع المضار والمصالح، لا يعرف ما يضر وما يصلح وما ينفع، هذا سفيه سواء كان رجلاً أو امراة وسواء كان كبيراً أو صغيراً، لكن ربما يغلب طبعاً في الصغار أكثر بلا شك من أن يكون في الراشدين أو الكبار، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ۩.

 ۞ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ۞

وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ۩، مَن هم شياطين المُنافِقين؟ شياطينهم أحبار اليهود والعياذ بالله، والكفّار أيضاً من أمثالهم كعبد الله بن أُبي بن سلول – لعنة الله تعالى عليه – وأمثاله، مع العلم بأن النفاق لم يكن بمكة، بل كان بمكة عكسه تماماً، بمكة كان بعض المُؤمِنين يُظهِر أنه مع الكافرين ويستسر بإيمانه، أليس كذلك؟ وجوَّز الله لهم أن يقولوا كلمة الكفر عند الفتنة والابتلاء، عكس النفاق تماماً هو الذي كان بمكة، وأما بالمدينة فلم ينجم النفاق ولم يظهر ولم يبزغ إلا بعد معركة بدر، انتبهوا! قبل بدر لم يكن هناك نفاق، لم يكن هناك أي نفاق في المدينة، لكن بعد معركة بدر وانتصار الرسول والصحابة – صلى الله عليه وأصحابه وسلم – قال ابن سلول – لعنة الله عليه – هذا أمر محمدٍ قد توجَّه، أمر محمدٍ قد توجَّه! أي بدأ فعلاً يظهر ويضرب بجِرانه فلابد أن نتخذ خُطة أُخرى، وتعلمون سبب نفاق هذا الرجل الخبيث والعياذ بالله – تبارك وتعالى – منه، وانحاز إلى أحبار يهود والعياذ بالله، لم أقرأ في أي مصدر من المصادر أن بعض أو نفراً من المُهاجِرين كانوا مُنافِقين، النفاق كان في الأوس والخرزج، لم يُوجَد صحابي من المُهاجِرين كان مُنافِقاً، النفاق كان بعد بدر وكان في الأنصار، ليس في كل الأنصار وإنما في بعض الأنصار، في أنفار وشذّاذ من الأوس والخرزج، والرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – ليس كما يظن بعض الناس كان يعلم أسماء جميع المُنافِقين، غير صحيح! النبي أطلعه الله على أسماء أربعة عشر مُنافِقاً فقط وهم الذين ائتمروا به بعد تبوك، إذ كانوا في أعقاب القافلة وائتمروا برسول الله لكي يقتلوه، أرادوا أن يُنفِّروا به ناقته عند عقبة كانت هناك، فأطلعه الله على أمرهم وعلى خبيئتهم وفضحهم بأسمائهم، وهم الذين ائتمن رسول الله حُذيفة بن اليمان – صاحب سر الرسول – على أسمائهم، وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۩، الله قال لَا تَعْلَمُهُمْ ۩، يُوجَد مُنافِقون أنت يا محمد لا تعلمهم، وإنما الله – تبارك وتعالى – كان يصفهم وكان يفضحهم بعض فضيحة بماذا؟ بذكر بعض خصائصهم وبعض طرائقهم وبعض أساليبهم وصفاتهم كلحن القول وأشياء أُخرى، لكن لم يُعيِّنهم بأسمائهم، لأنه ستّير يُحِب الستر تبارك وتعالى، والنبي عاملهم مُعامَلة حسنة، لا يُوجَد مُعامَلة أدخل في باب التسامح وفي باب الإنصاف وفي باب الرحمة أيضاً من هذه المُعامَلة، عمر استأذن الرسول أن يضرب رأس رأس النفاق ابن سلول فالنبي قال أتُريد أن يتحدَّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ وحين مات رأس النفاق النبي صلى عليه، وعمر لم يُعجِبه ذلك، وقال اتركني يا عمر إني قد خُيِّرت فاخترت، أنا اخترت أن أستغفر لهم وأن أُصلي عليهم، وبعد ذلك نزل ماذا؟ نهيه عن الصلاة عليهم، فصلى الله على الرؤوف الرحيم، عليه الصلاة وأفضل السلام.

إذن هؤلاء هم شياطينهم، ما الشياطين؟ كل مارد من الإنس والجن والدواب شيطان، حتى الدابة إذا تمرَّدت وعصت تُسمى شيطاناً، عمر ركب مرة على برذون فهملج به فقال أنزلوني، ما أركبتموني إلا على شيطان، قال الإمام الطبري في تفسيره – رحمة الله عليه – كل مُتمرِّد عاتٍ من الإنس والجن فهو شيطان، هناك شياطين في اليهود، شياطين في النصارى، وشياطين في المُسلِمين، قال – تعالى – شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۩.

إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ۩، بمَن يستهزئون؟ برسول الله وأصحابه!

۞ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۞

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ ۩، مكر الله، استهزاء الله، وأشياء أُخرى كهذه إذا نُسِبَت إلى الله لا يُمكِن أن تُحمَل على محمل اللعب والعبث بالإجماع، لأن هذا لا يليق بالله، وإنما تُستخدَم وتُفسَّر بيانياً بأنها من باب المُشاكَلة، مُقابَلة اللفظ بلفظ من جنسه مع أن المعنى يختلف، قال تبارك وتعالى – فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ۩، الذي اعتدى علىّ ارتكب فعلاً عدواناً، أنا إذا رددت العدوان يُعتبَر هذا عدواناً؟ لا، بالعكس! هذا دفاع وليس عدواناً، سماه الله عدواناً من باب المُشاكَلة، المُشاكَلة في اللفظ، أيضاً: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۩، بالعكس! أنا إذا رددت على سيئة مَن أساء إليّ أُعتبَر قد أسأت؟ بالعكس! قال – تبارك وتعالى – وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ۩، بالعكس! مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ۩، أنا لم أكن مُسيئاً، وإنما سماها الله إساءة من باب المُشاكَلة، هنا هذا أيضاً من باب المُشاكَلة، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۩، الله يقول إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ۩ في النساء، مُشاكَلة! اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ – مُشاكَلة – وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩، متى يستهزئ بهم؟ قيل في الدنيا، وقيل في الآخرة ولعل هذا أرجح، تُفتَح لهم أبواب الجنان ويُطمَّعون في الجنة حتى إذا أتوا غُلِّقَت دونهم الأبواب فيرجعون بحسرة – والعياذ بالله – ما رجع الأولون بمثلها، هكذا يستهزئ بهم الله تبارك وتعالى، هذا مذكور في تفسير سورة الحديد عن ابن عباس وعن غيرهم فيُمكِن أن ترجعوا إليه.

 وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ۩، الطُغيان مُجاوَزة الحد، إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ ۩، كل شيئ إذا جاوز حده يُعتبَر طاغياً، يُعتبَر قد طغى، فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ۩، العمه هو الضلال، أن تضل عن الجادة.

۞ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ۞

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ ۩، دفعوا الهُدى ثمناً للضلالة – والعياذ بالله – فما أبخسها وما أخسرها صفقة! ما أبخسها وما أخسرها صفقة! دفعوا الهُدى ثمناً ليشتروا الضلالة، حتى لا نغلط أيها الإخوة دائماً الباء تدخل على الثمن، اشتروا الدنيا بالآخرة: إذن هم كفّار، لكن اشتروا الآخرة بالدنيا: إذن ضحوا بالدنيا من أجل الآخرة، هذا جيد، هذا مسلك المُؤمِن، الباء دائماً تدخل على الثمن، يغلط فيها كثير من الكاتبين، يقول يستبدل هذا بهذا وهو يُريد العكس تماماً، دائماً الباء تدخل على البدل، أي على المُبدَل منه!

۞ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ۞

مَثَلُهُمْ ۩، ضرب الله للمُنافِقين مثلين: مثلاً نارياً ومثلاً مائياً، المثل الناري في هذه الآية مثل للمُنافِقين الخلّص والعياذ بالله، والمثل المائي مثل للمُنافِقين المُتردِّدين، عندهم نفاق غالب أو قريب من الغالب وعندهم بعض إيمان، يتردَّدون! فصارت القسمة – قسمة المُنافِقين – ثنائية: مُنافِق خالص ومُنافِق مُتردِّد، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فيما أخرجه أحمد وغيره القلوب أربعة: قلبٌ أجرد فيه مثل السراج يُزهِر وقلبٌ أغلف مربوط على غلافه وقلبٌ منكوص أو مُنكَّس وقلبٌ مُصفَّح، فأما القلب الأجرد فيه مثل السراج يُزهِر فقلب المُؤمِن، نسأل الله أن يجعل قلوبنا مثل السراج تُزهِر كالكوكب الدُري، وأما القلب الأغلف المربوط على غلافه – والعياذ بالله – هو قلب الكافر، إقفال وختم كامل والعياذ بالله، وأما القلب المُنكَّس – والعياذ بالله تبارك وتعالى – فهو قلب المُنافِق، أي مُنافِق؟ المُنافِق الخالص، عرف ثم أنكر، بعد ذلك لا يُمكِن أن يدخل في قلبه أي شيئ، مثل الكوز المُجخي، هكذا! تستطيع أن تضع في الكوز المقلوب أي شيئ؟ مُستحيل! هذا المُنافِق الخالص، ضرب الله له مثلاً نارياً، وأما المُنافِق المُتردِّد فهو صاحب القلب المُصفَّح، القلب المُصفَّح – من جهة ومن جهة – فيه إيمان وفيه نفاق والعياذ بالله، إذن يُمكِن أن يكون عند المُؤمِن نفاق، ليس شرطاً أن يكون البعيد مُنافِقاً خالصاً، يُمكِن أن يكون عنده إيمان وعنده نفاق، بحسب! يقول – عليه السلام – فهو قلبٌ فيه نفاق وفيه إيمان، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القَرحة أو القُرحة يمدها – والعياذ بالله – الدم والصديد فأيهما – أي المادتين: إما الماء الطيب وإما الدم والصديد غلبت عليه، أي غلبت على القلب والعياذ بالله، إذن هذا على خطر!

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ۩، ترك لهم ماذا؟ ترك لهم – والعياذ بالله – الدُخان، ترك لهم الدُخان وترك لهم النار من غير ضياء، من غير نور والعياذ بالله تبارك وتعالى، كيف يُضيء لهم؟ بالإطماع! مغانم، نصر للمُؤمِنين، وأي شيئ في صالحهم يُعتبَر مثل النور، يُعجِبهم ويمشون، يُسايرون المُسلِمين، لكن إذا أظلم عليهم بكشف حقائقهم وفضح سرائرهم صاروا كما ذكر الله تبارك وتعالى.

۞ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ۞

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ۩، لَا يَرْجِعُونَ ۩ إلى ماذا؟ إلى ما كانوا فيه من الهُدى، عرفوا الهُدى في البداية ثم تركوه وكفروا، فهم مُنافِقون خلّص.

۞ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۞

 المثل الثاني المائي: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ۩، ما هو الصيّب؟ المطر، قيل هو السحاب، والأول أرجح، الصيّب هو المطر، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ۩، ما هذه الظُلمات؟ ظُلمات الشكوك والريب، وَرَعْدٌ ۩، ما هو الرعد؟ الرواعد هنا هي رواعد القرآن الكريم التي تُخيف المُنافِقين، ومن أوصاف المُنافِقين أنهم قوم جُبناء يفرقون، يخافون من كل شيئ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۩، كلما نزلت آية قالوا ستفضحنا، ستكشفنا، وستُظهِر خبايانا ومشمولاتنا، وهكذا! وَبَرْقٌ ۩، هذا البرق ما هو؟ بعض الوعود التي يستأنسون بها ويرون فيها صالحهم وما يُوافِق أهواءهم، مثل عجيب! يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ۩، طبعاً الأُصبع لا يُمكِن أن يُوضَع كله في الأذن، وإنما يُريد أناملهم، لكن ذكر أَصَابِعَهُمْ ۩ مُبالَغة، مُبالَغة في فعلهم! مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ۩، فهم في قبضته وفي قدرته تبارك وتعالى.

۞ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۞

كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ۩، كما قلنا لكم كلما وافق أهواءهم وأمزجتهم وكان مع مصالحهم مشوا فيه وسايروا المُسلِمين، وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ۩، كما قلنا بعكس ذلك، قَامُوا ۩، أي وقفوا، معنى قَامُوا ۩ وقفوا فلم يتقدَّموا خُطوة.

۞ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۞ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۞

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ۩، المقصود بالبناء هنا السقف، الأرض فراش والسماء سقف، لقوله – تبارك وتعالى – وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ۩.

۞ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا – أي القرآن – فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ۩، سورة البقرة بلا خلاف مدنية، أليس كذلك؟ سورة البقرة بلا خلاف سورة مدنية، تحدى الله الكفّار جميعهم على جميع أصنافهم وألوانهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أن يأتوا بعشر سور، أن يأتوا بسورة من مثله، في السور المكية وفي السور المدنية على سواء، التحدي كان قائماً في المرحلة المكية وفي المرحلة المدنية، ولم يستطع أحدٌ منهم،  وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم ۩، ما معنى الشهداء هنا؟ قيل الشهداء هم الأعوان الذين يُعينونكم، تستظهرون بهم، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ۩، أي مُعيناً، وقيل الشهداء أي الشركاء، وقيل الشهداء أي الحكماء – جمع حكم – من الأبيناء الفصحاء، تُريدون حكّاماً يحكمون، أي قُضاة من أهل الفصاحة وأهل النطق والبيان لكي يحكموا، هل استطعتم أن تأتوا بمثل القرآن أو عجزتم عن ذلك؟ إذن ثلاثة تفسيرات لهذه الكلمة، شهداء: أعوان، شهداء: شركاء، شهداء: حكماء من الفصحاء الأبيناء.

۞ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ۞

فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا ۩، الوَقود هو ما تُوقَد به النار، دائماً الوَقود هو ما تُوقَد به النار، كما نقول وَضوء: هو ما نتوضأ به، سَحور: ما نتسحَّر به، غير وُقود – المصدر – وغير سُحور وغير وُضوء، الوَقود! وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۩، نار غريبة كما ذكر العلّامة الزمخشري في الكشّاف، ما هذه النار التي إذا وُضِعَ فيها الإنسان ازدادت اشتعالاً؟ أي أن بنزينها الناس، نار غريبة جداً، ليست كنار النار، بنزينها هم الناس، إذا وُضِعَ فيها الكفار تزداد اشتعالاً وتغيظاً، وَالْحِجَارَةُ ۩، قيل هي حجارة الكبريت الضخمة السوداء المُنتِنة، وهي شر الحجارة، لماذا؟ لريحها النتنة – والعياذ بالله – ولأنها كلما أُوقِدَ عليها أو وُضِعَت في النار فترة أطول ازدادت حماوةً، وتكتسب الحرارة ولا تكاد تتركها إلا بعد أمد بعيد جداً، أُعِدَّتْ ۩، أي أُرصِدَت، أُعِدَّتْ ۩: هُيئت وأُرصِدَت للكافرين.

۞ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ۩، أي تجري من تحت قصورها وغُرفها، وفي الحديث الصحيح أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، تجري في غير مجارٍ، كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا – أي من الجنة – مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا ۩، ورد في الآثار أن الولدان المُخلَّدين يطوفون بصنوف الفواكه والثمار على أهل الجنة فيأكلون ما شاء الله لهم ثم إذا عادوا إليهم يعودون بنفس الثمار، نفس الهيئة، نفس اللون! فيقولون لقد رُزِقنا هذا آنفاً، أكلنا من هذا قبل ساعة، قبل ساعتين! فيقولون الشكل واحد والطعم مُختلِف، فيأكلون وفعلاً الطعم مُختلِف تماماً، هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا ۩، هذا معنى الآية، قال ابن عباس كما ورد عنه في أكثر من مخرج ليس في الآخرة أو ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، إلا الأسماء فقط! اسمه موز، اسمه كذا، الاسم فقط! اسمه خيار، اسمه عسل، الاسم! الحقيقة تختلف تماماً.

۞ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ۞

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا ۩، الله لا يستنكف، الله لا يستنكف تبارك وتعالى، وقيل إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي ۩ بمعنى لا يترك، لأن مَن استحيَ من شيئ تركه، أليس كذلك؟ لأن مَن استحيَ من شيئ تركه، فهذا من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، من باب إطلاق الملزوم وإرادة لازمه! الملزوم هو الحياء، ولازم الحياء ما هو؟ الترك، مَن استحيَ من شيئ تركه، فيُصبِح معنى الآية ماذا؟ إن الله لا يترك أن يضرب مثلاً ما ولو بالبعوضة، لماذا؟ قيل لأن الله – تبارك وتعالى – لما ضرب هذين المثلين الناري والمائي قال المُنافِقون ماذا أراد رب محمد بهذه الأمثال؟ ما هذه الأمثال التي تقول كذا وكذا؟ فأنزل الله هذه الآية، وقيل لما ذكر الله في كتابه – وهذه السورة مدنية مُتأخِّرة، ليست مكية – النمل والنحل وهذه الأشياء قالوا ما لرب محمد يذكر هذه الأشياء – هذه الكائنات الدقيقة الدنيئة – ويضرب بها الأمثال؟ فالله رد عليهم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۩، هذه مُشكِلة، ما معنى فَمَا فَوْقَهَا ۩؟ هل تعني أقل منها في الحقارة أو أعظم منها؟ قولان مشهوران جداً في مبحث طويل جداً للمُفسِّرين، الأرجح لما في الحديث الصحيح  فَمَا فَوْقَهَا ۩: أي ما هو أكبر منها، لأن البعوضة من أحقر إن لم تكن أحقر الحيوانات كما يقول المُفسِّرون للحديث الذي في الصحيح: ما من شوكة يُشاكها المُسلِم أو المُؤمِن فما فوقها إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها سيئة، ما معنى فما فوقها إذن؟ أشد من الشوكة، أقل شيئ شوكة فما فوقها: أي أكثر من ذلك، إذن هذا هو الجواب الأصح، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

على كل حال تذكرون أنني ذكرت مرة أيها الإخوة – وهذا كلام علمي، من مراجع علمية – أن ضحايا البعوض في تاريخ الإنسانية أعظم من ضحايا جميع الطواعين والأمراض والحروب، كنت أحفظ الرقم – مكتوب عندي في بحث – لكن الآن لا أعرفه، رقم هائل جداً جداً، مليارات! عبر التاريخ الإنساني الذين ماتوا بسبب الأمراض التي ينقلها البعوض أكثر من الذين هلكوا بسبب جميع الحروب والأوبئة والطواعين، إذن هذا الكائن الحقير كائن خطير جداً جداً، هو جُند من جنود ربك، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ ۩، طبعاً الأمثال في القرآن الكريم ما يعقلها إلا العالمون، كان أحد السلف يقرأ القرآن ويبكي فقيل له لِمَن تبكي؟ قال قرأت مثلاً في كتاب الله ولم أفهمه وقد قال الله – تبارك وتعالى – وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ۩، قال لو كنت من العالمين لعقلته، أي لعقلت هذا المثل، هذه المثل لابد أن نتفكَّر فيها طويلاً.

وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ۩، المقصود بـ  الْفَاسِقِينَ ۩ هنا ماذا؟ هم الكفّار، كفر النفاق! حتى لا ننسى أيها الإخوة – انتبهوا – هناك قاعدة مُهِمة جداً في علم العقيدة وفي التفسير، كلمة المُنافِقين والنفاق لا تُذكَر في كتاب الله إلا ويُراد بها نوع من نوعي النفاق، أي نوع؟ النفاق الاعتقادي الذي يُساوي الكفر، لأن النفاق كما تعلمون قسمان: نفاق نظري أو عقدي أو اعتقادي وهو الكفر، وهو الذي سموه الفقهاء بعد ذلك بالزندقة، وهو إبطان الكفر – والعياذ بالله تبارك وتعالى – وإظهار الإيمان، القرآن إذا ذكر النفاق يُريد هذا النفاق، فالنفاق في القرآن هو الكفر والعياذ بالله، هو كفر! وهناك النفاق العملي الذي يُوجَد في الكفّار كما يُوجَد في المُسلِمين، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال: قال – صلى الله عليه وسلم – أربعٌ – أي أربع خصال أو صفات، لأن العدد مُذكَّر طبعاً فلابد أن يكون المعدود مُؤنَّثاً – مَن كُن فيه كان مُنافِقاً خالصاً، ومَن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤْتُمِن خان وإذا حدَّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر، فهذه تُوجَد في المُسلِمين كما تُوجَد في الكفّار، وهذا النفاق لا يُساوي الكفر، هذا النفاق هو نفاق عملي، نفاق عملي! لكن هو من الكبائر، وكل خصال النفاق العملي قال العلماء هي من كبائر الذنوب وليس من صغائر الذنوب، لكن القرآن لم يتحدَّث عن النفاق العملي، يتحدَّث دائماً عن النفاق العقدي، هل هذا واضح؟ هذه قاعدة فاحفظوها إن شاء الله تعالى.

وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ۩، إذن المقصود هنا بالفسق ماذا؟ الفسق يُطلَق على الكفر والشرك وما دونه من سائر المعاصي، وأصل الفسق هو الخروج، يُقال فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرها، والفأرة تُسمى الفويسقة والفاسقة، لماذا؟ لأنها تخرج من جُحر وتدخل في جُحر للتخريب، قال النبي خمسٌ فواسق يُقتَلن في الحِل والحرم، وهذا الحديث في الصحيحين! هذا أصل الفسق، هناك فسق كفر وهناك فسق معصية.

۞ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۞

الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ۩، ما هو عهد الله الذي واثقهم به؟ هؤلاء مُنافِقو أهل الكتاب على الأرجح ومَن تبعهم طبعاً، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ۩، قيل هو العهد الذي أخذه الله عليهم بلزوم الشريعة، وقيل عهد الله – تبارك وتعالى – أنه إذا بُعِثَ محمد فيهم وهم أحياء أن ينصروه وأن يُتابِعوه، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ۩، الأرجح في هذا الذي ذكر الله هو القرابات والأرحام، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ۩، أي من القرابات والأرحام، أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۩.

۞ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۞

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا ۩، أي في ظهور آبائكم أو قبل ذلك، فَأَحْيَاكُمْ ۩ معروف المعنى، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ۩ الموت معروف، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۩ أي يوم القيامة، فهذا بمعنى قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ۩، إذن موتتان وإحياءان.

۞ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۞

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ۩، أي قصد إلى السماء، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ۩، طبعاً هنا يُوجَد إشكال، أي هذه الأكوان خُلِقَ أولاً: الأرض أو السماء؟ ظاهر هذه الآية أن الأرض خُلِقَت أولاً ثم السماء لقوله ثُمَّ ۩، لكن “ثم” لا تأتي دائماً – ليس بالضرورة في اللُغة العربية – لترتيب الفعل، قد تأتي لترتيب الخبر، الخبر عن شيئين مُختلِفين! لكن ترتيب الفعل والتكوين موضوع مُختلِف، ليس شرطاً في قواعد النحو العربي، الله أعلم! لكن أنا نظرت في هذه المسألة من قديم – من سنوات – وذكرتها في مُحاضَرة علمية، يبدو إذا أخذنا هذه الآية مع آية سورة فُصِّلت مع آية سورة النازعات – وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا ۩ – يتحصَّل لنا – والله تبارك وتعالى أعلم – أن الأرض خُلِقَت أولاً ثم السماء، وأما دحو الأرض فتم بعد ذلك، وبعد خلق السماء خُلِقَت ست سماوات أُخرى من السماء هذه! لذلك قال ماذا؟  ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء السماء موجودة –  فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۩، إذن هناك السماء وهناك السماوات، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

۞ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۞

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ۩، إما آدم وإما بنو آدم، الأرجح أن يكون المُراد هنا بنو آدم، ليس آدم وحده وإنما بنو آدم لقوله جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ۩ وقوله وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۩، كل نسل بني آدم هم خلفاء، إذن فيكون خَلِيفَةً ۩ اسم جنس، اسم جنس يدخل فيه آدم وكل أبناء آدم، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، بعض الناس يسأل كيف عرفت الملائكة أن هؤلاء الخُلفاء أو هذا الخليفة سيفعل هذه الأشياء؟ هذا سؤال ليس مُعجِزاً، سبق لهم علم كما قال قتادة بن دعامة، سبق لهم علم بذلك! قد يكون الله هو الذي قال لهم ذلك، قد يكونون استنبطوا ذلك من طبيعة هذا الخلق الجديد، لأنه مخلوق من تراب، الله أخبرهم بأنه سيُخلَق من تراب وسيُستخلَف في الأرض، وهم يعلمون أن من طبيعة هذه الأرض ومَن يتوطَّن أو يُقيم فيها أنه يفسد وينحل، أنا عندي وجهة نظر – أعوذ بالله من كلمة أنا – تقوم على مبدأ آخر: مبدأ التركيب، مبدأ فلسفي، كل شيئ يخضع للتركيب ينحل، هذا مبدأ أرسطي قديم حتى، كل شيئ مُركَّب هو أسرع إلى الانحلال حتى البدن، الذي يعتاد مُنذ الصغر الحمية يكون أقرب إلى الصحة، والذي يعتاد التخليط يكون أقرب إلى التحلل والفساد، فالإنسان هل هو كائن بسيط أو كائن مُركَّب؟ الملائكة من نور، عنصر واحد بسيط، أقرب إلى الصلاح، أليس كذلك؟ لكن الإنسان مخلوق من عناصر مُختلِفة، فيه نفحة من روح الله وفيه طبعٌ بهيمي – والعياذ بالله – وفيه نزغة للشيطان وفيه لمة للملك، مُركَّب! وهو كائن أرضي مخلوق من كل طبقة هذه الأرض، قال – تبارك وتعالى – قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا ۩، وكما تعلمون هذه الآية تقول بطريق الإشارة أن مَن عاش في الأرض وتوطَّن فيها يفسد طبعه حتى لو كان ملكاً فيستدعي الأمر أن يُرسَل إليه ملك من جنسه لإصلاحه، فربما الملائكة بهذه الطريقة فهمت أن هذا الكائن سيفسد، القول في هذه الآية طويل الذيول إن شاء الله تبارك وتعالى، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، إذن نحن أولى أن نكون خُلفاء في الأرض، إذا كان الأمر هو المقصود العبادة والتقديس فنحن نفعل هذا ولا يتأتى منا الإفساد وسفك الدماء.

۞ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، شرحناها في خُطبة طويلة هذه الآية، أليس كذلك؟ وتكلَّمنا فيها كلاماً جديداً، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ ۩، هذا يُؤكِّد أن المعروض ليس الأسماء وإنما المُسميات، علَّم آدم أسماء المُسميات ثم عرض المُسميات وطلب من الملائكة أن يُسموها، ما اسم هذا؟ لم يعرفوا، ما اسم هذا؟ لم يعرفوا، ما اسم هذا؟ لم يعرفوا، فآدم استطاع أن يعرف ذلك كما تعلمون.

۞ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۞ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۞

وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۩، ما الذي أبدته الملائكة؟ هو قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، وما الذي كتمت؟ قيل كانوا قد قالوا لا يخلق الله خلقاً إلا كنا أعلم وأكرم، كتموا هذا في أنفسهم، قالوا في أنفسهم! الله يعلم ذلك، قال أعلم أنكم قلتم في أنفسكم هذا الشيئ وأعلم ما جهرتم به، قد يقول بعض الناس: وهل يتسنى وهل يجوز للملائكة أن تتجاسر وتتجارأ على أن تعترض على الله؟ هي لم تعترض، هنا سؤالهم هذا – أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩ – ليس اعتراضاً، بل هو استفصال واستعلام، أرادوا أن يعرفوا وأن يستفصلوا، أي يعرفوا تفاصيل هذه القضية.

۞ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۞

اسْجُدُواْ لآدَمَ ۩، هم سجدوا لآدم بأمر مَن؟ بأمر الله تبارك وتعالى، فانتفت شُبهة الشرك، الله هو الذي طلب ذلك، وقيل كان سجود تحية، وهو جائزٌ في الأمم والشرائع قبلنا، ولذلك خرَّ أبو يوسف وخالته وإخوانه له سُجداً، هذا كان جائزاً، كان جائزاً في شريعة حتى النصارى، وفي الحديث المشهور عن مُعاذ لما جاء إلى بلاد الشام وجدهم يسجدون لبطارقتهم، إلى آخر الحديث.

 إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى ۩، ما الفرق بين أبى وامتنع؟ كلمة امتنع تعني امتنع لمرة أو مرتين مع إمكان المُراجَعة، لكن كلمة أبى تختلف، يُقال أبى بمعنى أنه امتنع مع الإصرار الكامل، أبى ولن يعود، القرآن دائماً يقول إبليس أبى، لم يقل امتنع وإنما قال أبى، إي لم يفعل وفي نيته ألا يفعل أبداً لعنة الله تعالى عليه، هذا هو الإباء، قال – عليه السلام – في الحديث الصحيح كل الناس يدخلون الجنة – أو قال كلكم – إلا مَن أبى، قالوا ومَن يأبى يا رسول الله؟ قال مَن أطاعني دخل الجنة ومَن عصاني فقد أبى، إلا مَن أبى! إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ۩، قال السادة العلماء: وهكذا كان الكبر أول ذنب عُصيَ به الله، الكبر! ولذلك هو رأس الذنوب، ومن هنا لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة – وفي حديث آخر أو رواية أُخرى مثقال حبة خردل – مِن كبر، لأنه أول ذنب يُبغِضه الله بُغضاً شديداً، الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمَن نازعني واحداً منهما قصمته ولا أُبالي، الكبر لله، العزة الحقيقية لله، إذا أخذت عزتك من الله أهلاً وسهلاً، لكن لا تأخذها من إنسانيتك ومن بشريتك، ومن هنا كانت أشأم كلمة – وهي أشأم كلمة على الإنسان – ما هي؟ أنا، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۩، أنا! وأين قالها؟ قالها في معرض الاستكبار، أنا! أنت؟ ذهب إلى الجحيم والعياذ بالله، لكن في قصة إبليس شيئ مُؤثِّر جداً، تعرفون ما هو؟ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي ۩، لا إله إلا هو، فكِّروا فيها، هذا الذي أبى – لعنة الله تعالى عليه – لم يجد مندوحة ولم يجدو مناصاً حتى في هذا المقام – مقام المُعانَدة والمُناكَدة أن يقول رَبِّ ۩، لأنه يعلم أنه لا يستطيع أن يخرج عن ربوبية الله، عن قهر الله، عن حاجته إلى رحمة الله، أليس كذلك؟ طبعاً! يستطيع الله في الحال – في اللحظة – أن يُعذِّبه عذاب الثقلين، يستطيع الله أن يُعذِّبه عذاباً مُؤبَّداً في الحال، لأنه الرب لا إله إلا هو، فهو يتوسَّل إلى الله  في كفره بقوله رَبِّ ۩، يا رب، يا ربي، يا خالقي، يا رازقي، يا مُدبِّري، يا مالك أمري، يا مالك ناصيتي، إبليس! قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ۩.

۞ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ۞

وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ۩، لآدم وحواء! في هذه الآية قال وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ۩، وفي آية بني إسرائيل – في نفس السورة وقد قرأناها اليوم – قال فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ۩، هنا قال رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ۩، فرق كبير! ما الفرق؟ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ۩: الرغد في كل مكان، في كل بقعة، أينهما تتوجَّه تجد الرغد دائماً من غير بحث، حَيْثُ شِئْتُمَا ۩: تتخيَّر بعد ذلك، لكن حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ۩: لابد أن تبحث أولاً وترى أين هذا الرغد ثم تتناوله، فرق كبير! انظر إلى الدقة القرآنية، هناك قال حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ۩، وهنا قال رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ۩، دقة! كلام الملك لا إله إلا هو.

وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ۩، في مُفحِمات الأقران للسيوطي أكثر من خمسة وخمسين قولاً، أقول وهي غُثاء، كلام فارغ في تعيين هذه الشجرة، ومالنا ولتعيين هذه الشجرة؟ ما الذي نُريد من تعيين هذه الشجرة؟ شجرة الحنطة، شجرة التين، شجرة كذا، كلام فارغ كله، شجرة! شجرة مُعيَّنة كما قال ابن جرير – رحمة الله عليه – مع سعة دائرته وكثرة محفوظه، قال الصحيح شجرة مُعيَّنة نهى الله آدم أن يأكل منها وحواء، هذا هو، لماذا مُحاوَلة تطلب تعيين هذه الشجرة؟ 

۞ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۞

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ۩، في قراءة ابن بهدلة فأزالهما الشيطان، إذن إما من الإزالة وإما من الزلل، على قراءة ابن بهدلة وغيره فأزالهما الشيطان: أي نحَّاهما عَنْهَا ۩، الضمير في عَنْهَا ۩ يعود على ماذا؟ إما على الجنة وإما على الشجرة “أقرب مذكور”، أقرب مذكور هو ماذا؟ الشجرة، وإما يعود على الجنة، وهذا أيضاً غير بعيد، قول قوي قال به جماعة من المُفسِّرين، أما فَأَزَلَّهُمَا ۩ فهي من الزلل، تعرفون الزلل والضلال، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۩، أي آدم وحواء وإبليس وذرياتهم بعضهم لبعض عدو، وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ۩، ما هو هذا الحين؟ يوم القيامة، أي إلى يوم القيامة!

۞ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۞

فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ۩، ما هي هذه الكلمات؟ ذُكِرَت في سورة الأعراف، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، انظروا إلى ذنب آدم وقارنوه بذنب إبليس لعنة الله تعالى عليه، كما تسمعون وكما تعرفون القاعدة الاعتراف يهدم الاقتراف، اعترف آدم، باء بإثمه، باء معصيته فغفر الله له، وأما إبليس فركب رأسه كما يُقال واستكبر وعاند فهلك هلاك الأبد والعياذ بالله.

۞ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۞

قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ۩، ما هو الهُدى؟ ما أتى به الأنبياء، قيل هم الأنبياء والرسول لكن لا، النبي والرسول قيمته بما يأتى به، إذن هو النبي والرسول وما يأتي به من عند الله – تبارك وتعالى – من البيّنات، فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩، ما الفرق بين الخوف والحزن؟ الخوف مما يُستقبَل، أي من أمر الآخرة، فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ۩ مما يستقبلون من أمر آخرتهم،  وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩ على ما فاتهم من أمر دنياهم، هل هذا واضح؟ الخوف مما يأتي والحزن على ما فات، وهذا نظير قوله – تبارك وتعالى – في سورة طه فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۩، لا يضل في دنياه ولا يشقى في آخرته.

۞ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۞ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۞

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩، مَن هو إسرائيل؟ هو يعقوب عليه السلام، سأل النبي اليهود، قال لهم سألتكم أو نشدتكم بالله هل إسرائيل يعقوب؟ قالوا نعم، قال اللهم فاشهد، لماذا؟ قال ابن عباس إسرائيل معناه كعبد الله، أي أنه عبد الله، إسرائيل هو عبد الله، إسرائيل: ئيل هو الله عز وجل، وإسرا رجل أو عبد، أي عبد الله، هو يعقوب عليه الصلاة وأفضل السلام، لماذا ناداهم أو خاطبهم بقوله يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩؟ تحبباً، هذا من باب التحبب ومن باب أيضاً الحث والتحفيز على الطاعة والمُعاوَدة والمُراجَعة، كما نقول يا ابن العالم اتق الله أو يا أخ المُهتَدين، يَا أُخْتَ هَارُونَ ۩، رجل كان يُدعى هارون وهو صالح تقي في قوم مريم، أي يا مَن كنتِ تُشبَّهين بهارون وننسبك إليه، ليس هارون أخو موسى، بينهما مئات السنين طبعاً، سبقها بمئات السنين! فهنا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩ كما نقول يا ابن الهُداة، يا ابن الأجاويد، يا ابن الأكارم مُنّ علينا بشيئ منَّ الله عليك، وهكذا! يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩، أي يا ذُرية الرجل الصالح النبي الرسول يعقوب، اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ۩، ستُذكَر، هي المن والسلوى، وإن جاءوا هم من قوم فرعون، هذا كله من نعم الله، بعض نعم الله وأعظم نعم الله عليهم، وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ۩، قلنا هو العهد الذي أخذ عليهم بالتزام الشريعة وأخذ الكتاب بقوة، أو هو العهد بالتزام الشريعة وما فيها من التبشير بمحمد ومُتابَعته ونُصرته إن بُعِثَ وهم أحياء، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ۩، أي اخشون، الخشية هي الرهبة، انتقل من الترغيب إلى الترهيب، في الأول بدأ بالترغيب ثم انتقل إلى الترهيب، وهذا أصح أقوال العلماء في تفسير معنى كون القرآن مثاني، ما معنى القرآن مثاني؟ معناه يُذكَر فيه الترهيب إلى جانب الترغيب، وهكذا! الصالح إلى جانب الطالح، الطالح إلى جانب الصالح، الجنة إلى جانب النار، هذا أصح أقوال العلماء في معنى أن القرآن مثاني، يُذكَر فيه هذا وهذا، هذا وهذا، هذا وهذا، باستمرار! القرآن كتاب مثاني بهذا المعنى.

۞ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ۞

وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ ۩، هو القرآن الكريم، مُصَدِّقًا ۩: للتوراة والإنجيل، وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۩، كيف وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۩ وهم كفروا ولم يكونوا أول كافر بالإطلاق لأن قد سبقهم من كفّار مكة وغيرهم كثيرون؟ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۩: من بني إسرائيل، بنو إسرائيل لهم خطاب خاص والكفّار لهم خطاب خاص، ولذلك هنا خاطبهم بعنوان ماذا؟ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۩، إذن وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۩ من بني إسرائيل بنبيي وبما جاء به من الكتاب،  وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ۩.

۞ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۞

وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، نهاهم عن آمين.

{وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ۩ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ۩ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ۩}

وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ۩، قيل الصبر هو الصبر المعروف، وقيل هو الصيام، ومن هنا قيل شهر رمضان هو شهر الصبر، في الحديث الذي على ما أذكر رواه ابن حبان وغيره قال – عليه السلام – صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يُذهِبن وحر الصدر، أي سخيمته وكدره، فسماه شهر الصبر، قيل إذن واستعينوا بالصيام والصلاة، وقيل بالصبر، قال عمر بن الخطاب – قدَّس الله روحه الكريمة – الصبر صبران، حسن وأحسن: الصبر على المُصيبة وهو حسن، وأحسن منه الصبر عن المعصية، الصبر “على” المُصيبة حسن والصبر “عن” المعصية – أي أن تحبس نفسك عن معصية الله، لا ترتكب المعصية – أحسن، هذا صبر قوي جداً جداً، وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ۩.

 وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ۩، الضمير هنا للمُؤنَّث: وَإِنَّهَا ۩، قال وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ۩، بعض الناس يظنها الصلاة، مُمكِن! لكن الأرجح الوصية، وَإِنَّهَا ۩، أي هذه الوصية، أن تستعينوا بالصبر والصلاة كبيرة، لا يستطيع كل أحد أن يفي بمُقتضاها، إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ۩: المُتقين الذين يخشون الله تبارك وتعالى، كما قال وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا ۩، ما الضمير هنا في يُلَقَّاهَا ۩؟ أي هذه الوصية، ما يُلقّى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وهذا مُتردِّد في الكتاب العزيز.

۞ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۞

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ ۩، كلمة الظن من الألفاظ الأضداد، أي من ألفاظ الأضداد، تُطلَق بإزاء معنيين، بمعنى الشك والارتياب وبمعنى القطع واليقين، وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ۩، ما معنى فَظَنُّوا ۩؟ فتيقَّنوا، إذن ظن بمعنى شك وأيضاً بمعنى قطع وأيقن، هنا بمعنى ماذا؟ طبعاً أيقن، لأنه يتحدَّث عن الخاشعين الذين يقطعون ويُوقِنون بأنهم ماذا؟ مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، قال  وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۩، كل أمرهم راجع إليه، حياتهم ومماتهم، سعادتهم وشقاؤهم، كل شيئ راجع إلى الله تبارك وتعالى.

۞ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۞

وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۩، أي على عالمي زمانهم، لكل زمان عالم كما يقول ابن عباس وغيره، أليس كذلك؟ ولذلك مريم سيدة نساء العالمين، قيل عالمي زمانها، وهكذا! 

۞ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ۞

وَاتَّقُواْ يَوْمًا ۩، هو يوم القيامة، لاَّ تَجْزِي ۩، أي لا تُغني ومنه الغناء، لا تُغني، أي لا تُفيد، لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ ۩، قال ثلاثة أحجار تُجزيء عنك، أي تغنيك وتكفيك، لاَّ تَجْزِي ۩، أي لا تُغني، نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ۩، الشفاعة معروفة، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ۩، العدل هو الفدية، لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ ۩، إذن العدل هو الفدية، وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ۩، الله أكبر ما أبلغ هذه الآية! إذن هنا لا تستطيع نفس أن تجزي عن نفس، الشفاعة غير موجودة، الفدية غير موجودة، والتناصر مُنقطِع ومُضمحِل، الله أكبر، لا يُمكِن! إذن فقط العمل ورحمة الله، العمل ورحمة الله ثم بعد ذلك شفاعة الصالحين مِن عباد الله مِن أنبيائه فمَن دونهم، غير هذا لا يُمكِن، لا تناصر، لا فدية، لا شفاعة، ولا نفس تُغني عن نفس شيئاً ولا مولى عن مولى شيئاً.

۞ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ۞

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۩، ما معنى يَسُومُونَكُمْ ۩؟ قيل يذيقونكم ويولونكم، وقيل يَسُومُونَكُمْ ۩ من قولهم طبعاً سامه خُطة خسف، أي أذاقه وأولاه خُطة خسف، أي خُطة ذل ومهانة، وقيل يَسُومُونَكُمْ ۩ بمعنى يُديمون عليكم العذاب، أي عذاب غرام، العذاب الغرام هو المُستمِر، عذاب مُستمِر! من قولهم سائمة، تُسمى السائمة لأنها تُديم الرعي، فِيهِ تُسِيمُونَ ۩.

 يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ۩، وفي سورة إبراهيم قال وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ ۩، قال وَيُذَبِّحُونَ ۩، هنا جاءت تفسيرية، هذه الجُملة – يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ۩ – تُفسِّر معنى إساءمة آل فرعون اليهود أو بني إسرائيل العذاب، وفي سورة إبراهيم جاءت معطوفة عليها.

 يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ۩، التذبيح هو ماذا؟ المُبالَغة في الذبح، لم يقل يَذبَحون وإنما قال يُذبِّحون، مُبالَغة، تفعيل!  وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ۩، ما معنى استحياء النساء؟ استبقاؤها حية، لا يعني أخذ شرفها، غير صحيح، وَيَسْتَحْيُونَ ۩ من الحياة وليس من الحياء، وَيَسْتَحْيُونَ ۩ تعني ويقتلون الأطفال الذكور ويتركون البنات، يتركون البنات الصغيرات، لماذا؟ أصل هذه القصة قيل أن فرعون – لعنة الله تعالى عليه – رأى رؤيا قد هالته، رأى كأن ناراً خرجت من أرض بيت المقدس، وتوجَّهت تلقاء مصر فدخلت بيوتها كلها إلا بيوت بني إسرائيل، دخلت بيوت الأقباط واستثنت بيوت بني إسرائيل، فعلم وأُوِّل له ذلك بأن واحداً من بني إسرائيل – لماذا؟ لأنها من بيت المقدس، وأصل هؤلاء من أرض فلسطين، أرض كنعان! أصلهم من هناك، واستثنت أيضاً بيوت الإسرائيليين في مصر – يُبعَث وعلى يده يكون هلاكك وذهاب واضمحلال مُلكك، وبعد ذلك هو جعل يُقتِّل ذكرانهم عاماً ويستبقيهم عاماً وهكذا، والقصة معروفة!

وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ۩، نعمة! انتبهوا فكلمة بَلاء۩ لا تعني شراً، غير صحيح! قال – تعالى – وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۩، البلاء يكون بالشر ويكون بالخير، لكن إذا كان البلاء بالشر نقول ماذا؟ بلوته أبلوه، وإذا كان في الخير نقول ماذا؟ أبليته أُبليه، هنا نقول أبليته أُبليه، لكن إذا كان في الشر نقول بلوته أبلوه، قال – تعالى – وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ۩، وهنا معنى وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ۩، أي في ذلكم نعمةٌ خطيرةٌ وجليلةٌ بإنجائكم من هذا العذاب الأليم.

۞ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۞

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩: هل هذا واضحة؟ 

۞ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ۞

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ۩، قبل أن يتخذوا العجل متى واعد الله موسى هذه الأربعين الليلة؟ بعد إنجائهم من فرعون وآله وإغراق فرعون وجُنده، خرجوا إلى أرض سيناء وواعد الله موسى ذا القعدة كله والعشر الأوائل من ذي الحجة، أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۩ لما تعلمون، ذكرناها مرةً، ولما عاد إليهم وجدهم – والعياذ بالله – قد اتخذوا العجل، عبدوه فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ ۩، نَسِيَ وذهب يطلبه في الطور، نسيَ وذهب يطلب ربه رُغم أن ربه هنا، ترك ربه عندنا، لعنة الله تعالى عليهم، ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ۩.

۞ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۞ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۞ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۞

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ۩، بعد أن عبدوا العجل غضب موسى وغضب الله – تبارك وتعالى – غضباً شديداً، ما هي الكفارة؟ إذا أردتم أن يتوب الله – تبارك وتعالى – عليكم فالكفارة أن تقتلوا أنفسكم، أن يقتل بعضكم بعضاً، فألقى الله عليهم مثل الظُلة، مثل غمامة نزلت عليهم –  نُسميها Nebel أو ضبابة أو غطيطة – شديدة بحيث لا يرى الإنسان حتى مَن أمامه، ثم أخذوا الخناجر ليقتلوا بعضاً، في بعض الروايات الذين عبدوا العجل كانوا جلوساً، لم يقوموا، والذين كفوا ولم يعبدوه لكن لم ينهوا ماذا فعلوا؟ أخذوا الأسلحة والخناجر ثم أقبل كل واحد على مَن أمامه بحيث لا يراه يقتل، وهكذا لم يرتفع عنهم هذا الغمام أو هذه السحابة أو هذه الظُلة إلا بعد أن انصرفوا عن سبعين ألف قتيل، سبعون ألفاً! الحمد لله لم يقع في الأمة مثل هذا التعذيب، لأن أيضاً لم تقع هذه الأمة في مثل هذه المُهلِكات من الشرك والكفر والتجديف والعياذ بالله تبارك وتعالى، سبعون ألفاً! يقول الرواة من الصحابة وغيرهم القتيل تاب الله عليه والقاتل أيضاً تاب الله عليه، القتيل – المقتول – تاب الله عليه وكذلك القاتل، أي تاب الله على مَن قتل وبقيَ حياً وعلى مَن قُتِل وذهب ميتاً، تاب الله على الجميع، وبعد ذلك – وهذا غير واضح لكن هكذا بعض الناس يظن – موسى اختار سبعين رجلاً من قومه – من خيرة هؤلاء القوم، هو تخيَّرهم، أي الأخير فالأخير – وذهب بهم إلى الطور، لماذا؟ لكي يعتذروا إلى رب العزة تبارك وتعالى، من وجاهة القوم! فذهبوا وجلسوا، ولما ذهب موسى وهم ينظرونه – ينظرون إليه – ليُكلِّم ربه – تبارك وتعالى – أُلقيَ على الجبل عموداً – أي عمود من الغيم، من السحاب، وهو عمود شديد -وسمعوا صوتاً، هؤلاء السبعون بدأوا يسمعون مُحادَثة الله لموسى، وأذهلهم ذلك لكن بدل أن يزدادوا إيماناً قالوا يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ۩، طمعوا! أي مثلنا مثلك، مثلما ترى الله نُريد أن نراه، لكن هو لم يره، أنتم سمعتم وهذا يكفي، قالوا لا، نُريد أن نراه، فماتوا من فورهم، لكن كيف؟ لم يموتوا جميعاً، قال – تبارك وتعالى – وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩، قال فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩، كيف فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩؟ يقول الرواة من المُفسِّرين مات بعضهم والبعض الآخر ينظر إليهم، ثم أحيا الله الذين ماتوا أمام الآخرين وأمات هؤلاء أمام الذين أحياهم، ثم أحياهم جميعاً، لا إله إلا الله, آيات عجيبة هذه، هؤلاء الناس الله أعطاهم آيات غريبة، لذلك الله غير مُتحامِل وغير مُتحيِّز ضدهم، أنه فعلاً ضربهم بالذلة والمسكنة واللعنة وتعوَّدهم بأن يسومهم العذاب إلى يوم القيامة، لأنهم كفروا بعد آيات عجيبة جداً وغريبة، فهذا معنى هذه الآيات ومعنى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ۩.

۞ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۞

ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩، ليستوفوا آجالهم، إذن أماتهم عقوبةً ثم بعثهم لكي يستوفوا آجالهم.

۞ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۞

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ۩ في أرض التيه، ما سبب هذا التيه؟ سبب هذا التيه ليس موضوع العجل، موضوع أن موسى أمرهم عن أمر الله أن يدخلوا الأرض المُقدَّسة والراجح فيها أنها بيت المقدس والقول الثاني وهو ضعيف أنها أريحا – طبعاً في التوراة ريحا أو أريحا وليس بيت المقدس، الراجح أنها بيت المقدس، يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ۩ كما في سورة المائدة – فقالوا لا كما تعرفون، فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ۩، فضربهم الله بالتيه، أخذهم في التيه أربعين سنة كاملة، لكن في التيه في صحراء سيناء كان الله يُظلِّلهم بالغمام دائماً – سُبحان الله – رحمةً بهم وكرامةً لموسى ومُعجِزة له، يُظلِّهم بالغمام.

وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ۩، المن يقول ابن عباس كان ينزل على أشجارهم، على الأشجار! والواضح كما في روايات أُخرى أن هذا بعد الفجر وقبل شروق الشمس ينزل، فيأتون يأخذون منه ما شاءوا ليومهم، وكان ممنوعاً أن يأخذوا منه لأكثر من يوم، إذا تعدوا اليوم فسد مُباشَرةً، لا يُؤكَل! كل يوم بيوم – سُبحان الله نعمة إلهية – يأخذون، حتى إذا كان سادس أيام جُمعتهم أخذوا للسادس وللسابع، لأن لا يحل لهم أن يشخصوا لأمر معيشة في سابعهم، أي يوم السبت، لأنه لمحض العبادة والقُربة من الله تبارك وتعالى، ممنوعاً كان، وهكذا! هذا هو المن، في بعض الروايات كان أبيض من الثلج وأحلى من العسل، وإذا وُضِعَ في ماء وأُذيبَ في ماء كان شراباً من أحلى الشراب وهكذا، وَالسَّلْوَى ۩، السلوى قيل هي طائر السُمانى، مُفرَد سُمانى ماذا؟ سُماناة، هذا من فصيلة الدجاجيات وهي معروف في بلادنا، طائر صغير مثل الدرّاج من فصيلة الدجاجيات يعيش في حوض المُتوسِّط وفي أوروبا أيضاً، هكذا كان يأتيهم ويذبحون منه أيضاً لكل يوم، ممنوع لأكثر من يوم، إلا في السادس، يأخذون للسادس وللسابع، كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۩.

۞ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ۞

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ ۩، كما قلنا الراجح هي بيت المقدس وليست أريحا أو ريحا، فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ ۩، أي باب القرية، سُجَّدًا ۩، سُجَّدًا لنصر الله ولفتح الله عليكم، اسجدوا لله تبارك وتعالى، وَقُولُواْ ۩ مُخاطِبين ربكم ومُبتهِلين، حِطَّةٌ ۩ أي مغفرةً، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، كما قال الله لنبيه ومُصطفاه إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۩ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ۩ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ…. ۩، هنا قال حِطَّةٌ ۩، قل اللهم اغفر لي، إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ۩، في الصحيحين عن أم المُؤمِنين عائشة كانت تقول كان النبي يقول في ركوعه وفي سجوده كثيراً سُبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، يتأوَّول القرآن! القرآن قال له هكذا: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ۩ فهو يقول سُبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، يتأوَّول القرآن، في صحيح البخاري وغيره عن أبي هُريرة قال – صلى الله عليه وسلم – إن الله – تبارك وتعالى – أمرهم أن يدخلوا الباب وأن يقولوا حطة فدخلوا على أستاههم – دخلوا بأستاههم، أي بالخلف يحبون حبواً – يقولون حبة في شعرة، والعياذ بالله، يهزأون بأمر الله تبارك وتعالى، فغضب الله عليهم غضباً شديداً، لعنة الله عليهم، وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ۩.

۞ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ۞

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ۩، قالوا حبة في شعرة بدل حطة، وفي رواية حنطة في شعيرة، قالوا حنطة في شعيرة، عقل مادي، فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا ۩، الرجز في كتاب الله غير الرجس، الرجس شيئ والرجز شيئ، الرجز دائماً هو العذاب، الرجز بالزاي هو العذاب، رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ۩، بما كانوا يكفرون، الفسق هنا فسق كفر والعياذ بالله تعالى.

۞ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ۞

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۩، كان حجراً مُربَّعاً له أربع جنبات، فضربه موسى بإذن الله تبارك وتعالى، فانبجست من كل جانب من جوانبه الأربعة ثلاث عيون، في الأول انبجاس، في سورة الأعراف ماذا قال؟ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ ۩، وهنا قال فَانفَجَرَتْ مِنْهُ ۩، مَن يكون أولاً؟ الانبجاس يبدأ قليلاً قليلاً، وهنا عبَّر عن ماذا؟ سُبحان الله، عجيب القرآن هذا، سورة الأعراف مكية، أي قبل، كأنها تحكي المرحلة التي قبل، سورة البقرة مدنية، تحكي الذي بعد، سورة الأعراف تحكي هذه القصة حكايةً، ولا يُخاطِب الله فيها بني إسرائيل، يحكي عنهم حكاية، لكن هنا يُخاطِبهم، لأنهم كانوا في المدينة، عجيب هذا القرآن، عجيب جداً، وهناك يقول – لأنها كانت قبل، أي في مكة – انبجست، وهنا – لأنها كانت بعد – يقول انفجرت، يحكي المرحلة البعدية، أشياء غريبة جداً، غير مأنوسة في كلام البشر، في كل جهة ثلاث عيون، لماذا؟ لأنهم كانوا اثني عشر سبطاً، أليس كذلك؟ الله ضربهم بالفُرقة من يومهم، سُبحان الله! فهناك ثلاث وثلاث وثلاث من كل جانب من جوانب الحجر، وحيثما حلوا أو ارتحلوا يكون معهم هذا الحجر سُبحان الله تعالى، شيئ عجيب، سُبحانه وتعالى، عجيب! كيف من حجر يخرج كل هذا الماء؟ يغسلون ويغتسلون ويرتوون ويشربون وما إلى ذلك، شيئ عجيب! اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ۩، أي كل سبط منهم، مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ۩، لماذا؟ لأن المعصية هي فساد وأي فساد في الأرض! أكبر فساد هو بعصيان الله تبارك وتعالى.

۞ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۞

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ۩، وهو ماذا؟ المن والسلوى، بطروه والعياذ بالله، بطروا هذا الطعام، فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا ۩، البقل معروف، وَقِثَّائِهَا ۩ القثاء الذي يُسمى الآن باللغة الدارجة الخيار والفقوس والعجور بالمصري، كل هذا يُسمى القثاء، وقيل هو نوع من البطيخ لكن يُشبِه الخيار، شيئ طويل اسمه قثاء، الخلاف الحقيقي في كلمة فوم، قيل الفوم هو الثوم، وهذا لتقارب مخرجي الفاء والثاء، فيُمكِن أن يحدث بينهما الإبدال والاستبدال، الفاء والثاء! كما يقولون مغافير – نوع من العسل – ومغاثير، مغافير ومغاثير! وهكذا، فالفوم قيل هو الثوم، وقيل هو كل ما يُؤكَل من البقول، كل ما يُؤكَل من البقول يُسمى فوماً، وقيل هو الثوم، وقيل هو شيئ مُختلِف، وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۩، نفس الشيئ، الباء دخلت على ماذا؟ الذي هو خير، كأنه يدفع ثمناً للفوم والعدس والبصل، قال القرطبي وكانوا قوماً أصحاب أعداس وأبصال، تعوّدوا على الشيئ هذا، أُي نبض لهم العرق القديم، اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۩، اختُلِف في قوله مِصْراً ۩، هل هي مصر هذه – مصر فرعون – أو مِصْراً ۩ تعني بلداً من البلاد؟ فإذا قلنا مصراً وأرادنا بها مصر فرعون لماذا صرفها ومصر لا تنصرف؟ يجوز فيها الوجهان، لماذا؟ لأنها ثلاثية ووسطها ساكن، فيجوز أن تُصرَف ويجوز ألا تنصرف، لا تُوجَد مُشكِلة نحوية، وإذا قلنا مِصْراً ۩ بلداً مُعيَّناً – وهذا الأرجح، رجَّحه أكثر من مُفسِّر، أي بلد، ليست مصر فرعون، أي بلد، ادخلوا بلد – سوف يكون معنى ذلك أن موسى أجابهم: أنتم طلبتم شيئاً دنيئاً وحقيراً موجوداً في كل البلاد وهو أقل من أن أسأل فيه ربي، اذهبوا إلى أي بلد وسوف تجدون ما طلبتم، هنا يُوجَد إشكال لم أر في حدود مُطالعاتي السريعة من المُفسِّرين مَن عرض له، ما هو؟ أنهم كانوا في التيه، وكيف يقول لهم موسى انزلوا إلى مصر فرعون أو أي بلد آخر؟ لا يستطيعون، ولذلك خطر لي – والله تبارك وتعالى أعلم، قد أكون مُصيباً وقد أكون مُخطئاً – أن هذا السؤال وقع في آخر عهدهم بالتيه، وفي القول نبؤة بأن مخرجهم من التيه قريبٌ جداً بعد وفاة موسى، فهذا يكون في آخر شيئ، ربما في آخر أشهر أو في آخر أيام، لكن قبل ذلك صعب جداً، كيف يهبطون مصراً؟ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ۩، فكل أحد يستذلهم، يقول الصحابة لقد بُعِثَ رسول الله وإنهم ليُؤدون الجزى للمجوس، للفرس! أذلاء، وهم في أنفسهم أذلاء، سُبحان الله، وإلى اليوم! هذه حقيقة رُغم ما يبدو من عكسها، سُبحان الله! هنا لكي تنزل الطائرة في مطار فيينا تكون الدنيا كلها حراسات وما إلى ذلك، خوف! أي واحد يهودي يرتعد، لماذا كل هذه الحراسات وهذه الأشياء؟ خائف على نفسه، ذليل ومكروه من كل عباد الله، وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ۩، أي بسبب أنهم، والباء هنا سببية، كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۩، طبعاً هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ ۩ لا مفهوم له، لأن لا يُوجَد قتل لنبي بالحق، لكن هذا من باب مزيد التبكيت والتشنيع عليهم، لو جاز أصلاً وهو لا يجوز – من باب فرض المُحال – قتل نبي بحق فهم لم يقتلوه بحق، لكن لا يجوز أصلاً، فهذا القيد كما يقول الأصوليون لا مفهوم له،  ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۩.

۞ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۞

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ۩، الصابئون اختُلِفَ فيهم، هناك أقاويل كثيرة، قيل هم قوم من أهل الكتاب، قيل هم قوم بين أهل الكتاب – بين اليهود والنصارى – وبين المجوس، قيل هم قوم لا دين لهم، قيل هم عبدة الملائكة، وقيل هم عبدة الكواكب، أقاويل كثيرة! أكثر من ستة أو سبعة، على كل حال هذا كلام المُفسِّرين القدماء، الآن الصابئة عُرِفَت هويتهم جيداً، لا نتحدَّث عنهم، وهم قسمان أو ثلاثة أقسام: الصابئة المندائية أو تُسمى المندانية، والصابئة الحرنانية، والصابئة الحرانية، ثلاثة أقسام! مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ۩.

۞ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۞

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ۩، لم يرد في الكتاب الكريم ولا في صحيح السُنة أبداً – لا في أحاديث صحيحة ولا حسنة – أن الله – تبارك وتعالى – رفع الجبل حقيقةً فوقهم، غير وارد هذا، هذا من كلام بعض الناس، لكن الصحيح أنهم حين ذهبوا مع موسى ليُخاطِب ربه – تبارك وتعالى – وليعتذر أيضاً عن خطيئة قومه اهتز الجبل وانقض لقوله وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ۩، كما قلنا في الأعراف بطريقة الحكاية كله، كله حكاية! هنا بطريقة الخطاب، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ۩، قال كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ۩، كيف؟ كأنه سحابة، كأنه غمامة، وَإِذْ نَتَقْنَا ۩، ما معنى نَتَقْنَا ۩؟ معناها حرَّكنا وأقلقنا وأزعجنا، هذا هو النتق، كالنقض والنقيض، أي نقضنا، له نقيض! أطيط الرحل ونقيض الرحل، نقضناه وأزعجناه وحرَّكناه وصار له نقيض، هكذا!

ثم أنزل الله – تبارك وتعالى – ماذا؟ الغمام، فهم ظنوا أن الجبال في السحاب أو الجبال نفسه يُرى كأنه صار في السحاب، ارتفع كله! وهو لم يرتفع لكن تحرَّك حركة عنيفة جداً جداً حتى لا يكاد يُزايل مكانه وموضعه، هذا هو! خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم ۩ وهو الشريعة والتوراة، بِقُوَّةٍ ۩، ما معنى  بِقُوَّةٍ ۩؟ أي بشرط العمل، لتعملوا بها، يجب أن تعملوا بها، يجب أن تُطبِّقوا ما فيها، هذا معنى بِقُوَّةٍ ۩، وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩.

۞ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ۞ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۞

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ۩، تعلمون هذه القصة، وهي مذكورة أيضاً في سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ۩ إلى آخره، من سورة الأعراف! كان يوم السبت ممنوعاً أن يصطادوا، فماذا يفعلون؟ يأتون ليلة السبت – أي الجمعة ليلاً – فيضعون الشصوص – جمع الشص – والشباك والحبائل في البرك، فتأتي الحيتان يوم السبت – مُعتادة سُبحان الله، بالتعود – فتدخل فتعلق، تنشب بها هذه الشصوص والشباك والأشياء فيتركونها، حتى إذا انقضى يوم السبت وصرنا في ليلة الأحد – أي في الليل، السبت ليلاً – أخذوها، يحتالون! قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا ترتكبوا ما ارتكبت بنو إسرائيل فتنتهكوا ما حرَّم الله بأدنى الحيل، النبي قال لا تفعلوا مثلهم، وفي الحديث الصحيح لعن الله بني إسرائيل، فإن الله حرَّم عليهم الشحوم فجملوها – أي جمَّدوها – ثم باعوها وأكلوا أثمانها، ممنوع! لأن الله إذا حرَّم شيئاً ينبغي أن يُترَك، هم أهل حيل، وهذه الأمة إذا فسدت أو فسد للأسف بعض المُسلِمين صار فيه شبه من بني إسرائيل، يستحل محارم الله بأدنى الحيل، ويصير يحتال على كل شيئ، هذه طريقة بني إسرائيل، ليست طريقة المُسلِمين والعياذ بالله، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا ترتكبوا ما ارتكبت بنو إسرائيل فتنتهكوا ما حرَّم الله بأدنى الحيل، هذه هي القصة، فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۩، قد يسأل مَن ليس له تمرس بهذه الطريقة القرآنية قائلاً كيف كلَّفهم الله أن يكونوا قردة وهم لا يستطيعون كما أنهم لا يودون أن يكونوا قردة؟ لا يُحِبون أن يكونوا قردة ولا يستطيعون أن يمسخوا أنفسهم قروداً، فكيف الله قال لهم كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۩؟ هذا سهل، هذا أمر تكويني، أمر قدري، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۩، الذي يموت يموت بأمر الله، يقول له كُن ميتاً فيموت، هذا هو! كُن حياً، كُن فلاناً، كُن جنيناً، هذه هي! هذا أمر تكويني، هذه كلمات الله التكوينية، ولا يستطيع أحد أن يُجاوِزها، لا يستطيع أحد أن يُخالِفها، أعوذ بكلمات الله – النبي كان يقول – التامات التي لا يُجاوِزهن بر ولا فاجر، لماذا؟ لأنها تكوينية، إذا قالها الله تقع، ولذلك يقول العلماء هي أمر إيجاد لا أمر إيجاب، إذن كلمة كُونُواْ ۩ أمر إيجاد، لا أمر إيجاب، ليست أمراً تشريعياً بمعنى واجب عليكم أن تفعلوا هذا، لا! هذا أمر إيجاد، أي صيروا قردة، فهي في معنى جعلناهم قِرَدَةً خَاسِئِينَ ۩، لماذا قِرَدَةً۩؟ لأن الجزاء من جنس العمل، فالقرد من حيث الشكل ومن حيث الصورة قريب من الإنسان، لكن بعقله ونفسيته وغريزته ليس إنساناً، بعيد جداً، وهم – والعياذ بالله – من حيث الصورة مُؤمِنون، أتباع موسى! ومن حيث الحقيقة كالكافرين وكالمُعانِدين وإلى آخره، فجزاهم الله بجزاء هو من جنس أعمالهم فمسخهم قردةً والعياذ بالله، طبعاً يقول ابن عباس ما كانوا قردةً إلا فواقاً، ما الفواق؟ هل تعرفون الفواق؟ الجُزء الصغير من الزمن، يُقال فواق ناقة، أليس كذلك؟ هي الفترة التي يُريح فيها الحالب الناقة حين يحلبها فقط، فترة بسيطة! لكن ورد عن ابن عباس في رواية أُخرى – ولعل هذا أرجح – أنه قال كانوا قردةً ثلاثة أيام وما كان لمسخٍ أن يعيش فوق ثلاثة أيام، وسُئل النبي عنهم هل أعقبوا؟ قال ما جعل الله لمسخٍ عقباً، لا! لم يحدث هذا، بعض الناس الآن يقولون هؤلاء أحفاد القردة والخنازير، هذا مجاز، أي من باب المجاز، لكن النبي لم يرد عنه في حديث على مبلغ علمي أنه قال عنهم أحفاد القردة أو أبناء القردة كما نقول نحن، ماذا كان يقول؟ يا إخوان القردة، انتبهوا وانظروا إلى دقة النبي، النبي يعلم ماذا يقول، لم يقل يوماً أحفاد القردة فنسأل بعد ذلك هل هم خلَّفوا؟ هل هؤلاء أبناء القرود فعلاً؟ لا! لم يحدث هذا، النبي قال ما جعل الله لمسخٍ من عقب أو عقباً، فالنبي لم يقل يا أبناء أو يا أحفاد القردة والخنازير، كان يقول يا إخوان القردة والخنازير، قال لهم ذلك غير مرة، يا إخوان! لأنهم فعلاً إخوانهم، إخوان القردة والخنازير.

۞ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۞

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً ۩، ما هو النكال؟ هي العقوبة التي تجعل غير الجاني ينكل – أي يتكعمع وينكص – عن أن يأتي مثل جُرمه، يخاف ويرتدع، أي هي الرادع، عقوبة رادعة، لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ۩.

والله – تبارك وتعالى – أعلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(ملحوظة) طلب أحد الحضور أن يسأل الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم سؤالاً فإذن له ورغب فضيلته في أن يُلقي السائل سؤالاً واحداً لأنه لا يُريد أن يفتح باب الأسئلة وقال له: تفضَّل، فقال السائل: سورة الفاتحة متى نزلت؟ وهل نزلت في مواقف مُعيَّنة؟ ثم سأل سؤالاً آخر قائلاً: والسؤال الثاني البسيط هل الله – سُبحانه وتعالى – كان يعلم أن إبليس سيأبى أن يسجد لآدم؟ أجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً: طبعاً طبعاً طبعاً، بالنسبة إلى سورة الفاتحة طبعاً بلا شك الصحيح أن سورة الفاتحة مكية، ليست مدنية، وهي أول سورة نزلت في القرآن الكريم، كيف؟ أول سورة كاملة! طبعاً سورة العلق نزل منها آيات، لكن أول سورة نزلت كاملةً في سبع آيات هي سورة الفاتحة، هل هذا واضح؟ هذه هي، لم تنزل بسبب، هل وُجِدَ سبب مُعيَّن؟ لا، لم تنزل على سبب مُعيَّن مثل العلق أو كذا، لا! هذا هو، بالنسبة إلى هل الله – سُبحانه وتعالى – كان يعلم أن إبليس سيأبى أن يسجد لآدم؟ طبعاً، الله يعلم كل شيئ، لا يُوجَد شيئ حدث في الكون أو سيحدث إلا وهو في سابق علم الله، معروف هذا! وهذا لا يضر، حتى أعمالنا الصالحة والطالحة الله يعلمها، هذا لا يضر، علم الله لا يعني وجوب أن نعمل، انتبه! سُئل عبد الله بن عمر في هذه المسألة فقال قد علم الله – تبارك وتعالى – أنهم يفعلون وما كان علم الله بأنهم يفعلون حاملاً لهم على أن يفعلوا، ابن عمر قال الكلام هذا، كان يفهم هذا – سُبحان الله – من غير تفلسف ومن غير تعمق، يقول العلم نفسه لا يقتضي الجبر، أليس كذلك؟ العلم يقتضي الكشف، العلم صفة كشف، هل فهمت قصدي؟ الله بسعة علمه – وهو طبعاً واسع العلم ومُحيط بكل شيئ تبارك وتعالى – يعلم كل ما سيقع، يعلم أنك باختيارك ستختار أن تفعل كذا وكذا، يعلم ذلك، باختيارك! ليس أنه يعلم ولأنه يعلم يجب أن تفعل، لا! لأن علمه كاشف، أنا دائماً كنت أضرب مثالاً بالمرآة، لو إنسان جلس هنا ومعه مرآة وكان ينظر إلى الأمام وسلَّط المرآة أمامه فسوف يرى مَن يأتي مِن ورائه، هذه المرآة هي العلم فانتبه، المرآة مثل للعلم، هذا مثل العلم، الكشف! فيقول الآن يقدم رجل ضرير، يمشي ومعه عكازة، أمامه حفرة وهو يتوجَّه إليها، تردى فيها، هل هذا الذي يتنبأ أو يقول هذه الأشياء أجبر هذا الأعمى على أي شيئ؟ هو فقط كشف بعلمه عما فعله ويفعله وسيفعله الأعمى، لأن علمه مُحيط، هذا هو العلم، يكشف فقط! مثل النور، لو دخلت بلمبة في غُرفة في ليلة ظلماء وأضأت اللمبة سوف ترى كل أشياء الغُرفة، هل هذا النور خلق الأشياء وأوجدها؟ كشف عنها، العلم يكشف، وهذا معنى قول العلماء العلم صفة كاشفة، لا تقتضي الجبر والإيجاد، هذا شيئ وهذا شيئ، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: