إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى من قائل – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إلهي وسيدي ومولاي، نعمك لا تُحصى، وآلاؤك لا تُستقصى، لا تُعَد ولا تُحَد، هذا وإن من أجل نعم الله يا إخواني وأخواتي على هذه الأمة المرحومة المُصطفوية أن أمهل أمثالنا وأجَّل إخواناً لنا وأخوات ليصوموا هذا الشهر الكريم، ليشهدوه وليصوموه، تعبداً لله وطلباً لوجهه ومرضاته – سُبحانه وتعالى -، هذا من أجل نعمه وأخطرها وأشرفها وأعظمها.

وذلكم أن السيد الجليل – صلى الله تعالى عليه وآله وأصحابه وسلم – قال فيما صح عنه مما أخرجه الشيخان من رواية أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – الصلوات الخمس، والجُمعة إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر، فمَن أسعده الله – سُبحانه وتعالى – بصيام هذا الشهر الكريم فقد كفَّر عنه ذنوب سنة ماضية، أعني صغائرها كما نص عليه – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، بمُجرَّد إدراكه هذا الشهر الكريم وصومه تُكفَّر له ذنوب سنة كاملة، فهذا من أعظم رحمات الله، لم تُقدَّم هذه الرحمة لمَن تولى وأدبر قبل أن يُدرِك الشهر، ولله حكمة وتقدير في كل شيئ – سُبحانه وتعالى -.

شهر – أُذكِّر بما تعرفون وألفت إلى ما تألفون – تُفتَّح فيه أبواب الجنة على ما في الصحيحين أيضاً من رواية أبي هُريرة مرفوعاً، وتُغلَق فيه أبواب النار، وتُصفَّد فيه الشياطين، وفي أحاديث أُخرى ويُناد مُنادٍ – أي من قبل الرحمن، جل في عُلاه – يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتقاء – أي من نار جهنم – في كل ليلة، فاللهم اجعلنا منهم، فضل عظيم ورحمة جسيمة ونعمة سابغة، نسأل الله أن يُواليها علينا، وأن يبسطها، وأن ينشرها، وأن يمد لنا – سُبحانه وتعالى – من عطائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

يصوم الناس في هذا الشهر فرحين مُستبشِرين، للرسام العظيم إتيان دينيه Étienne Dinet – رحمة الله عليه – الذي تحوَّل إلى الإسلام وتسمى بناصر الدين لوحة مُعجِبة باسم ترقب الهلال، هذا رمق وتلمَّح بل تعمَّق في الإسلام مظاهر جمالية كثيرة جداً، جعلته يتحوَّل عن ديانته إلى هذا الإسلام بعُمق وبمحبة وبشغف – رحمة الله عليه -، ويُوصي أن يُدفَن في أرض الجزائر المُجاهِدة، أي ناصر الدين أو إتيان دينيه Étienne Dinet – رحمة الله عليه -، له لوحة مُعجِبة باسم ترقب الهلال، أي هلال رمضان، يُصوِّر فيها جماعة من شيوخ المُسلِمين ومن كهلتهم أو كهولهم وصبية صغاراً بأعين لهفانة عجلى أو مُستعجِلة ومُتوسِّلة، هكذا تُقرأ هذه اللوحة، تتوسَّل الهلال، أن يبرز من مكمنه، كأنها بهذا التلهف والتوسل والتحنان الغامر تدعو هذا الشهر، تُريد أن تستخرجه، تُريد أن تستخرجه من مخبئه، لماذا هذا الحرص؟ ولماذا هذه الفرحة الغامرة عند هذه الأمة بما يراه غيرهم حرماناً وتعذيباً ومشقةً وتحريجاً؟ هذه الأمة تُقابِله بفرحة غامرة وبسرور، إن دل هذا على شيئ ولهو حقيقٌ أن يدل على أكثر من شيئ فإنما يدل على فهم عام مُبهَم ومُجمَل – في الجُملة – لدى هذه الأمة المرحومة، أن مُقتضيات الروح تُقدَّم على مُقتضيات البدن، أن تجليات الروح جديرة بأن تُعلى فوق مقام رغائب ونزائع البدن والجسد، هذه الأمة تفهم هذا، ونفهم أن هذا وقت وظرف ومُناسَبة لكي تقتص الروح لنفسها من هذا الجسد الشهوان، لكي تسترد الروح بأيدي العبادة، بأيدي الذكر، وبأيدي الامتناع التعبدي والكف الملكوتي الصمداني ما استلبه البدن بأيدي الشهوات، تفهم الأمة هذا حتماً بالجُملة.

ولذلك هذه أمة حين يفرح غيرها بالمطاعم والمشارب والمناكح تفرح هي بتجليات الروح، خاطب الله أمةً وهي أمة بني إسرائيل من قبل بقوله اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ۩، يُشير إلى المن والسلوى، إلى غذاء الأبدان، لا الأرواح والنفوس، وخاطب هذه الأمة بقوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ۩، قال فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ۩، إنها أمة قريبة إلى الله، إنها أمة ربانية، وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ۩، إنها أمة مُتألِّهة، أمة راقية شفيفة لطيفة، أمة الذوق، أمة العشق، أمة الحُب، أمة الرحمة، أي هذه الأمة، رحمني الله وإياكم وسائر إخواننا وأخواتنا المُسلِمين والمُسلِمات بطاعته، وباعدنا عما يُسخِطه من سائر مساخطه ومغاضبه، لا إله إلا هو، هكذا! الأمة تُدرِك هذا.

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ۩، هذه الأمة تلبيةً بطريقة تكوينية قدرية وبطريقة ذوقية وجدانية أضافت إليها تلبيةَ الشارع فيما شرع أمراً ونهياً وإباحةً وعفواً، هذه الأمة بهذه الطريقة تفرح بفضل الله، وتفرح برحمة الله، تفرح بهذا أشد وأكثر من فرحها بالمُشتهيات والملاذ، ملاذ العيش! نرى هؤلاء الصوّام الأتقياء – من أهل التقوى والرغبة، من أهل الحُب والعشق، ومن أهل الوجد والذوق – بعد أن يتصرَّم الشهر يفرحون لوجه، ويحزنون لوجوه، لما يفتقدون من رحمات الله، إنهم في ليالي هذا الشهر كما أيضاً في أيامه يُطالِعون معاني ربانية، ويُنازِلون أحوالاً ملكوتية، هم يُطالِعون معاني ربانية، ويُنازِلون – هذه مُنازَلات الروح – أحوالاً ملكوتية، من الصعب والبعيد جداً أن يُطالِعوها وأن يُنازِلوها في غير رمضان.

ولذلك وسَّط الله – سُبحانه وتعالى – أو جعل في وسط السياق – سياق آيات الصيام، وهن خمس آيات كريمات كالدُرر والجواهر والأعلاق النفيسة الثمينة – قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۩، كأنه يقول أقرب ما يكون العبد من ربه وهو مُتشبِّه به، الصيام تشبه بالرب – لا إله إلا هو -، الصيام تشبه بالله، الله ليس له زوجة يتعاطى معها الشهوة – وحاشاه، لا إله إلا هو، جل في عليائه، نُسبِّحه تسبيحاً -، وليس يَطعم، بل يُطعِم – لا إله إلا هو -، فيَرزق، ولا يُرزَق، لا يتعاطى شيئاً من هذه المُشتهيات، لأنه الكامل كمالاً مُطلَقاً – لا إله إلا هو – والغني غنى تاماً، فالعبد يُحاوِل سحابة نهاره أن يتشبَّه بالرب، فلا يتعاطى الشهوتين، وجُمّاع الإمساك إنما هو إمساك عن هاتين الشهوتين، بل له قوله – سُبحانه وتعالى – فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ۩، هذه الشهوة الأولى، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ۩، هذه الشهوة الثانية، أي شهوة المطاعم والمشارب وشهوة الجسد وقُربان الأهل، لذلك يتشبَّه العبد بالرب.

ولعل هذا بعض ما يُشير إليه الحديث الرباني أو القدسي الجليل، وهو مُخرَّج في الصحيحين أيضاً من رواية أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، يقول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – حكايةً عن ربه – عز وجل – كل عمل ابن آدم له، وفي رواية كل عمل ابن آدم يُضاعِف، هذه رواية مُسلِم، الحسنة بعشر أمثالها، قال الله – عز وجل – إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، قال من أجلي، ولذلك نسبه إلى نفسه نسبة تشريف، الصوم لي – يقول -، إلا الصوم، فإنه لي، نسبة تشريف، وقد بحثوا بحثاً مُطوَّلاً، وتناولنا أطرافاً من بحثهم ودُررهم في خُطب سابقة في مثل هذه المُناسَبة، وهنا فقط نُذكِّر بأن من ألطفها وأغوصها وأعمقها قول مَن قال الصيام تشبه بالرب – لا إله إلا هو -، الصيام تشبه بالله، طبعاً! تشبه بالملأ الأعلى من الملائكة المُكرَّمين، الذين لا يتعاطون هذه الشهوات ولا ينزعون إليها بطبيعتهم، تشبه بعالم ملكوتي، بعالم نوراني، بعالم الكمالات، هذا من جانب، وهناك جوانب أُخرى كثيرة.

أيها الإخوة:

هذه الأمة تُبرهِن لنفسها وللعالمين أنها أمة قوية، بعض غير المُسلِمين من الغربيين خصوصاً يعجب لهذا، وبعضهم حتى دخل الإسلام لما رأى من قوة العبد المُسلِم، هذه القوة التي تبعثه من فراشه الدفيء الوثير الرافه في أعماق فصل الشتاء، حيث البرد والزمهرير الشديدان، تبعثه فيقوم يتوضأ بالماء، حاراً كان أم بارداً، ويُؤدي فرض ربه طواعيةً وحُباً وشوقاً، لكن هذه الأمة – كل هذه الأمة من المُكلِّفين والمُكلَّفات – تُبرهِن للعالم أنها أقوى أمة، كأمة! قد يُوجَد في آحاد غير هذه الأمة مَن لهم إرادات وعزائم تقطع الصخر والحديد، نعم! لكن كأمة في مجموعها لا تُوجَد أمة على وجه البسيط في قوة إرادة هذه الأمة، لو عقلت الذي تأتيه والذي تتقرَّب إلى الله به، كيف؟ لأن مُجرَّد الإمساك عن شهوات الطعام والشراب وما كان في معناها كالدخائن أو السجائر كما يُقال لمَن كان مُدمِناً مُبتلىً – أسأل الله العافية لي ولإخواني جميعاً ولأخواتي – يحتاج إلى إرادة، فضلاً عن شهوة قُرب الأهل سحابة النهار، وقد تمتد وتنبسط هذه السحابة فتُغطي ثماني عشرة أو عشرين ساعة في بعض البلاد، وفي بعضها أكثر من هذا حتى، كأقصى الشمال الأوروبي – مثلاً -، أكثر من عشرين ساعة، وهم يفعلون هذا، هذه الإرادة قوية جداً، هذه الإرادة ليست هشة، هذه الإرادة تُبرهِن للإنسان المُسلِم بل تُعيد إليه ثقته وإيمانه بنفسه، تقول له عليك أن تكون واثقاً بنفسك ومن نفسك، عليك أن تستعلن بإيمانك بنفسك، أنت إنسان راق، أنت إنسان قوي، أنت إنسان جبّار عالٍ، لست إنساناً ضعيفاً ولا هشاً ولا مُحطَّماً ولا يائساً ولا مُحبَطاً، أنت قوي، لكن عليك أن تفهم ما هو الصوم ومقصده وحكمته، التي بلا شك وحتماً تتعدى هذا الحرمان الظاهري، هذا التعليق لفعل الشهوات وإتيانها، تتعدى هذا التعليق، تتعداه بمراحل، وبنا أن نبحث في جوانب من هذه المغازي والمقاصد – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

إن أسوأ ما يُكرَث به الإنسان، إن أسوأ ما يُكرَث ويُصاب به الإنسان هو فقدانه للثقة في نفسه، حين يكفر بنفسه، حين يرى أنه لا شيئ، لا يُساوي شيئاً، ليس له وزن، ليس له اعتبار، مثل هذا الإنسان خطير حقاً، لا بمعنى شريف، خطير بمعنى بالغ الضعف والخطر، هذا لا يمتنع من كبير أو صغير، يُمكِن أن يُقارِف أي جريمة – والعياذ بالله -، انتهى! لقد كفر بنفسه، هذا الإنسان لا يعنيه أن يُقال له – الأبعد – إنك تدليت إلى أُفق حيواني بهيمي، لا يعنيه! لأنه كفر بنفسه، يأتي الصوم لينتشلنا من هذه الكارثة، ويقول كلا، لست ذلك الإنسان المُحطَّم الضعيف الهش، إنك قوي، قوي جداً، وأكثر مما تظن، إنك مُستطيع حين تُريد، إنك جبّار حين تعزم، مَن ذا يستطيع أن يمتنع عن هذه الشهوات عشرين ساعة أو بضع عشرة ساعة ويستطيع أن يأتيها وأن يتعاطاها ولكنه لا يفعل؟!

ولذلك جهة من جهات تأويل الحديث فإنه لي، أي لما تبرهن من الإخلاص به، أي لما تبرهن من إخلاص العابد بهذه العبادة، بالصوم! فإن الإخلاص بالصوم بالذات أظهر منه في سائر العبادات، الصوم أظهر، لأنه مُجرَّد امتناع وكف، في الظاهر عمل سلبي، امتناع! إنه لا يفعل شيئاً، إنه يترك أن يفعل، وهذا لا يطلع عليه إلا الله، يستطيع أن يفعل، ولا يطلع على خرقه لهذه العبادة إلا الله أيضاً، ولكنه لا يفعل، لا يفعل! يكون وحده ويستطيع أن يفعل، ولكنه لا يفعل، ولذلك الصوم إعادة تأهيل، هو Rehabilitation، إعادة تأهيل للإرادة وللعزيمة الإنسانية في المُسلِم، إعادة تأهيل لها بعد أن تكون ضعفت وتهششت وتخرقت وتهالكت وذوت، يُعاد تأهيلها بالصوم.

ترون أن أبوينا – عليهما السلام – آدم وحواء لو كانا صائمين يوم تعاطيا ما تعاطيا من قُربان الشجرة المُحرَّمة أكانا يفعلان؟ كلا، لنجونا، لظللنا في الجنة، لما برحنا الجنة، لو أنهما كانا صائمين، حتماً ستسقط كل دعاوى إبليس، ستنكشف كل ألاعيبه وتلبيساته، لن ينفعه القسم والحلف بالله، حتى إن كان صادقاً، لا بأس، ها نحن نترك المُباح، ونعلم أنه مُباح حقاً وصدقاً، وهو مُباح لنا، نتعاطاه بعد أن تضيف الشمس للغروب، تتدلى هي ونتعاطاه، هو مُباح بلا شك، لا نحتاج إلى إبليس لكي يُقسِم لنا أنه مُباح، نعلم أنه مُباح، ولكننا لن نتعاطاه، لماذا؟ لأننا صوّام، في هذه اللحظة ونحن صوّام نحن أرقى وأجل وأقوى من أبوينا آدم وحواء، أرقى منهما، نحن في جُنة وحصن أكثر منهما، ولذلك يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – الصوم جُنة، هذا في الصحيحين، وعند الإمام الطبراني الصوم جُنة وحصن من حصون المُؤمِنين، حصن يتحصَّن به المُؤمِن وجُنة، كهذه الطاقة، الدرع السابغة، يجتن بها الإنسان، من ماذا؟ يحتمي ويتقي بها، يتقي بها الشهوات والخطيئات، ويتقي بها غضب الله والنار يوم القيامة – إن شاء الله تعالى -.

ولذلك في الصحيحين وللصائم فرحتان يفرحهما، هذا لفظ البخاري، وللصائم فرحتان يفرحهما: فرحة عند فطره، وفرحة حين يلقى ربه، اللهم نسألك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا الجُلى أن تجعلنا من عبادك الذين تُفرِّحهم يوم يلقونك، بقبولك عباداتهم، بقبولك الصوم منهم مبروراً مُشحَّراً مُجرَّداً لوجهك الكريم.

في الصحيحين من رواية أبي هُريرة – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً – أي طلباً للأجر والقُرب والرضوان من لدن الله وعند الله تبارك وتعالى، هذا معنى احتساباً، لا يحتسب شيئاً لدى الناس ولا عند الناس، يحتسب أجره وثوابه عند الله، لا إله إلا هو – غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، وفي الصحيحين من روايته أيضاً – رضيَ الله تعالى عنه – مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً – أي مَن صلى التراويح – غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، فضل عميم! لا يُحرَم إلا محروم، اللهم لا تجعلنا فينا شقياً ولا محروماً، اللهم عُد بهذه الأمة – بشبابها وشوابها وشيبها وصغارها وذكورها وإناثها – إليك عوداً حميداً، وخُذ بنواصيهم إلى ما يُرضيك عنهم يا رب العالمين، اللهم لا تجعل فيهم محروماً، أي والله، يشقى المسكين هذا المرحوم، ولماذا يكون هكذا؟ لماذا يدأب في إهلاك نفسه؟ أمر مُحزِن، هكذا إذن!

إذن تُعيد إلينا الثقة، ولكن هنا سؤال، لابد أنه راوض بعضكم على الأقل أو بعضكن، إذا كان الصوم يُرمِّم ويُعيد تأهيل إرادة المُسلِم وعزيمته فلماذا نرى هذا المُسلِم ذاته – القوي كما تقول يا أخي، القوي الجبّار، المُعانِد للباطل، المُوافِق السهل الذلول الليّن للحق ومع الحق، بفضل الله تبارك وتعالى – يخرق جُنة الصوم؟ لماذا نراه يخرق جُنة هذا الصوم بالغيبة، بالنميمة، وبإتيان المُحرَّمات – المُحرَّمات في النظر والمُحرَّمات الأُخرى – وهو صائم؟! عجيب أمر هذا المُتناقِض، يمتنع عما أباح الله، ولكنه يخرق جُنة عبادته بما حرَّم الله، أتمتنع عما أباح الله – الأكل والشُرب وقُربان الأهل من المُباحات، وتستحيل بالنية طاعات – فقط؟ كيف تمتنع عنها ومنها – وهذا حسن منك – في رمضان وحين تكون صائماً لكنك تأتي المُحرَّمات، فلا تتورَّع ولا ترعوي ولا تتأثَّم ولا تتحرَّج – لا تشعر بحريجة ولا تستشعر إثماً -؟! هذا عجيب جداً.

والجواب لابد أن يكون – والله تبارك وتعالى وحده عنده العلم والحُكم – أو بالأحرى لعل الجواب – لنكن مُتواضِعين – يكمن في حقيقة فهمنا للصوم، يبدو أننا نفهمه بطريقة جُزئية وبطريقة مُختزِلة مُبتسَرة، تُضيِّع المقصود والمغزى، تُضيِّع المعنى وتُحافِظ على الرسم والصورة، يظن مثل هؤلاء الذين يخرقون صومهم بالمعاصي – والعياذ بالله – وهم صائمون أشياء خاطئة، طبعاً بعض الناس يُحاوِل أن يتورَّع سحابة النهار، لكنه يتلبَّث وينتظر بشهواته الليل، يقول بعد أن يختم الليل قد انتهى، مسكين! كأنه يصوم فقط في النهار، الصوم هذا في النهار، وفي الليل لا يُوجَد صوم، يُطيع الله في النهار، وفي الليل تُوجَد معصية، مسكين هذا، مُتناقِض هذا، ضيَّع كل شيئ هذا، ضيَّع كل شيئ!

طبعاً هذا – كما قلت – حقيقة فهمه معطوبة – فيها عيب، معيبة – للصوم، يظن أن الصوم هو فقط هذا الامتناع الظاهري عن مُقارَبة الشهوات، لا أكثر ولا أقل، الامتناع! أن تترك الطعام والشراب والنساء، بعد ذلك تنظر إلى حرام، تلبس حراماً، تقول حراماً، وتفعل حراماً، لا بأس، ليس من المُفطِّرات هذا، ليس طعاماً، مسكين هذا، هذا الفهم الطقوسي، هذا الفهم الميت، والفهم المادي للدين، وأيضاً هو في نفس الوقت عينه على ماذا؟ عينه على الأجر، يُريد الأجر، ويظن أن الأجر منوط بالامتناع الظاهري، يقول أنا امتنعت، أربثت نفسي، فلأتقاض ربي أجري يوم القيامة، لا أكثر ولا أقل.

وفي الحقيقة أن القرآن الكريم ذكر أجراً من نوع مُختلِف، اقرأوا آيات الصيام، اقرأوا الخمس الآيات الكريمات، هل ذكر الله فيهن أجراً بمعنى حسنات إزاء سيئات – مثلا ً-؟ ما ذكر هذا، ذكر أجراً من نوع مُختلِف، ذكر أجراً لطيفاً جداً، اسمه الدنو والقُربان من رب العزة – لا إله إلا هو -، تُصبِح مُقرَّباً، عبداً مُزلَفاً، ازدلف فأُزلِف، تقرَّب فقُرِّب إلى الله – تبارك وتعالى -، دعوته لا تُرَد، دعوته مُستجابة، عبدٌ – كما قلنا – يُنادِم الغيب، يُنازِل أحواله الملكوتية الصمدانية، أي هذا العبد، استعان بهذه العبادة اللطيفة، بهذه العبادة الربانية، على تحصيل هاته الأثمار الشريفة، ولذلك قال – كما قلنا – في وسط السياق وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩.

موسى حين أراد الله – تبارك وتعالى – أن يُزلِفه وأن يُكلِّمه أمره أن يصوم، هكذا! كان الله قادراً على أن يُكلِّمه وهو قادر لا يزال في أي لحظة، لكن موسى غير مُتهيئ، غير مُتهيئ وهو موسى، ويحمل قلب موسى الكريم، غير مُتهيئ، لابد أن تصوم، حين تصوم تتهيأ لهذه المُنازَلة، لتلكم المُطالَعة، وفعلاً كلَّمه بعد أربعين ليلة، لأنه جرح صومه بالسواك، فقال لا، هذا خطأ منك يا موسى، عليك أن تستأنف عشراً أُخرى، فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۩، وكلَّمه الله – تبارك وتعالى -، وأنزل عليه الألواح مكتوبة بخط القُدرة، هكذا!

وأنتَ أيها المُسلِم وأنتِ أيتها المُسلِمة أمامك نفس الشيئ، لكن كلٌ بحسب مقامه، بحسب حاله، وبحسب تهيئه، بهذا الصوم تتهيأ وتتهيئين لمُنادَمة الملأ الأعلى ومُنازَلة هذه الأحوال الملكوتية الصمدانية – بإذن الله تبارك وتعالى -، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، قال أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۩، ثم قال فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ۩، هذه هي الطريق.

والجزاء الثاني التقوى، قال لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، قال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، وختم السياق كله – خامس الآيات – بقوله كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، الله أكبر‍! ومن لطيف ما في كتاب الله – تبارك وتعالى – أنه – سُبحانه وتعالى – أعقب السياق بآية، لعل سر النُكتة في التعبير بالأكل فيها يظهر لنا الآن، وهي قوله – جل من قائل – وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، ما سر أنه أتبع آيات الصيام مُباشَرةً على الولي بهذه الآية؟ فكأنه يقول غير معقول وغير مُتصوَّر أنه يمتنع عن أكل الحلال وتعاطي الحلال ثم يأتي ويأكل الحرام، الله أكبر، نعم! ولذلك عبَّر بهذا، هنا ظهر سر النُكتة في كونه عبَّر بقوله وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ۩، كيف تصوم ثم تأتي تأكل أموال الناس بالباطل؟! كيف؟!

بعض الناس يصوم عما أحل الله، ويُفطِر على تمر وماء ولحم وسمك وأرز أتى به من أموال الناس بالباطل، كيف هذا؟! يقول أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره – مثل هذا الذي يصوم عن حلال مُباح ويُفطِر على ما حرَّم الله ما مثله إلا كمثل الذي يبني قصراً ويهدم مصراً، يبني قصراً، بالصوم سحابة النهار، ويهدم مدينة كاملة أو قطراً كاملاً، أي مصراً – من الأمصار -، بالفطر على ما حرَّم الله، الله يقول وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ۩، كيف؟! إذن أنت ما علمت ولا عرفت ولا تذوقت ولا وقعت ولا سقطت على مغزى الصوم، أنت ما صُمت، أنت أمسكت، أنت امتنعت، أنت عذَّبت نفسك.

يقول – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه أيضاً للمرة الخامسة أو السادسة من رواية أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، يقول مَن لم يدع قول الزور – في البخاري هذا – والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، أنت تقول الزور، وتعمل بالزرو، لماذا تُعذِّب نفسك؟ الصوم لم يأت لكي يكون تعذيباً، الصوم ليس مُباراة ولا مُسابَقة، مَن يستطيع أن يُمسِك أطول؟! ليس مُباراة بيننا أبداً، الصوم إمساك لمعنى آخر، لتربية الإرادة، لترويض الإرادة، لكي تُوافِق وتُطابِق أمر الله، شرع الله فيما أمر وفيما نهى – لا إله إلا هو -، هذا هو، هكذا! لا يُؤمِن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، الصوم يُعين على ذلك، الصوم يُعين على ذلك وهذا بعض مغازي الصوم، وهذا المغزى يصلح للفقير وللغني، للرئيس والمرؤوس، للعالم والجاهل، وللكبير والصغير، كلنا يحتاج أن تُروَّض إرادته، لا أحد يقول أنا عندي نفس مُطمئنة، لا تطمئن إلا بالخير، وهي تفزع وتنزع أبداً عن الشر، مُستحيل! لست بمعصوم، أنت تتحدَّث عن معصوم، لست ذلك المعصوم ولست هو – إن جاز التعبير -، لسته ولست هو، إذن تحتاج إلى ما يُروِّض إرادتك وإلى ما يُعيد تأهيلها – بإذن الله تبارك وتعالى -، هذا هو، هذه حكمة تنطبق على الجميع، حكمة المُواساة لا تنطبق على الجميع، الغني يواسي الفقير بماله، الفقير المسكين يواسي مَن؟ لكنها موجودة، لكن يختص بها الفقراء، انتبهوا! يختص بها الفقراء، وهكذا، لكن هذه الحكمة عامة.

التقوى، التقوى التي جعلها العلّامة الأزهري الكبير الشيخ الدكتور والفيلسوف محمد عبد الله دراز أم الفضائل في أطروحته التي نال بها درجة الدكتوراة من السوربون Sorbonne قبل أكثر من سبعين سنة تقريباً بامتياز وأسلم بعض المُشرِفين عليها، وهي دستور الأخلاق في القرآن – في القرآن العظيم وفي القرآن الكريم -، انتهى وخلص الدكتور الكبير – رحمة الله عليه رحمة واسعة، وأسعده الله فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ۩ -، انتهى إلى أن التقوى هي أم الفضائل الإسلامية، حكم لها بالأُمية أو بالأمومة والمركزية، تتكثَّف وتتداعى إليها كل الفضائل الإسلامية والمناقب الخُلقية، التقوى! ولذلك كانت وصية الله لعباده الصالحين وللأمم أجمعين، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۩.

يقول أبو سعيد الخُدري جاءني رجل فسألني، قال أبا سعيد أوصني، فقلت لقد سألتني عما سألت عنه رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، قلت يا رسول الله أوصني، والمعنى بماذا؟ أوصني وصية جامعة، أوصني بوصية جامعة مانعة، يلتئم بها أطراف الخير بل الخيور والمبرات كلها، فقال – صلى الله عليه وسلم – عليك بتقوى الله، فإنه – بالتذكير، كأنه يقول الأمر أو الشأن، أي هذا الأمر أو هذا الشأن، وإلا فالتقوى مُؤنَّثة – رأس كل شيئ، الله أكبر! والتقوى قيل فيها ما قيل، وهو حسن جميل، وأُلِّفت فيها مُصنَّفات بحيالها وبرؤوسها، ولكن أحسن القول فيها قول الله – تبارك وتعالى -، لُب لُباب التقوى، إعادة تأهيل الضمير الإنساني، تعظيم رقابة المرء على نفسه، جوانياً وبرانياً، باطنياً وظاهرياً، في الخلاء والملاء، يشهد لهذا المعنى اللطيف قوله – عز من قائل – في سورة الأنبياء وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ۩ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ۩، الله أجاب، الله الذي عرَّف، الله الذي اعتنى بالتحديد، هذا هو التحديد، أي الــ Definition بالإنجليزية أو بالألمانية مع اختلاف طريقة النطق، التحديد والتعريف، يقول لِّلْمُتَّقِينَ۩، مَن المُتقون؟الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ۩، الذي يخشى ربه بالغيب هو صاحب الضمير اليقظان، صاحب الضمير الصاحي الذي لا ينام، صاحب الضمير القوّام الذي لا يُحابي ولا يتملق ولا يُداهِن، هناك ضمائر مطاطة، تتسع لما يشتهي المرء، وتضيق عما يهوى الله ورسوله، هذا ضميري – يقول -، ضمير غير مُرتاح، فلا كان ولا كان ضميره، ألا تعساً وبئساً لهذا الضمير وأشكاله من ضمائر، أهذه ضمائر؟ فالضمير تقويمه بشرع الله، حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، اعرض نفسك على كتاب الله، لا تتلاعب، لا تتلاعب ولا تُخادِع نفسك، ومُخادِع الله دائماً مخدوع، كما أن مُغالِبه مغلوب، لا تُخادِع الله أبداً، وقوِّم ضميرك بالكتاب والسُنة، بصريح الدين وصحيحه، الحرام لا يئيض حلالاً، والحلال لا يصير حراماً، لماذا تتلاعب؟ الضمير المطاطي.

ولذلك علماء الاجتماع مثل دوركايم Durkheim وليفي-بريل Lévy-Bruhl يقولون الضمير صنعة المُجتمَع، كلامهم صحيح إذا تعلَّق الضمير بضمير غير المُسلِم، أما ضمير المُسلِم العارف بالله، المُتصِل بالله، المُهتدي بالله، والمُتنوِّر بأنوار الله، فلا، ليس كذلك، لا والله، ضمير هذا المُسلِم يقضي على المُجتمَع وعلى ثقافته وعلى سائده وعلى عُرفه، وقد يصل بصاحبه إلى حبل المشنقة، ولا يعود، ما هذا الضمير؟! هذا الضمير يُسقِط كل نظريات دوركايم Durkheim وليفي-بريل Lévy-Bruhl وسائر علماء الاجتماع الغربيين، يُسقِطها! يقولون الضمير صنعة اجتماعية، ولذلك نجد الضمير يُيبيح شيئاً وفي ثقافة أُخرى يُحرِّمه، ديننا عنده صِبغة عالمية، أبداً! قيمه ذات طابع عالمي كوني، لا يُمكِن إلا هذا، لا تقل لي هذا غير مُسلِم، فأنا أستبيح عرضه، مُستحيل! لا تقل لي هذا غير مُسلِم، فأنا أستبيح ماله، مُستحيل! لا يُمكِن هذا أبداً، هذا غير موجود.

نعود، إذن التقوى، الله يقول لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ۩، وهذا الصائم الذي خرق جُنة صومه نظر فقط إلى ظاهر الامتناع والتعذيب، لم ينظر إلى التقوى وإلى التزكية، قال – تبارك وتعالى – هذا، الله ما بعث نبياً إلا بعثه لهذا المقصود، ما هو؟ أن تزكو النفوس، معناها أن هدف الدين الإلهي بشكل عام من لدن آدم وانتهاء بالخاتم – صلى الله عليه وآل كل وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – هو ماذا؟ هدف الدين الإلهي وجوهره ولُب لُبابه شيئ واحد، ما هو؟ ترقية الإنسان إلى الكمال المُقدَّر له، البلوغ بالإنسان مبلغ الكمالات، الإنسان الكامل! وهذا لا يكون إلا الإنسان الرباني، ليس العابد طقوسياً وشعائرياً، لا! الإنسان الرباني بشكل عام، اسمه هذا ماذا؟ التزكية، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۩ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ۩، والدليل على ما أقول قوله – تبارك وتعالى – قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ۩ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ ۩ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ۩ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۩ إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ ۩ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ۩، ما معنى هذا؟ معنى هذا أن ما في الصُحف الأولى – ما في كل الأديان وشرائعها – هو ماذا؟ ما هو؟ تزكية النفس، لا يُفلِح الإنسان إلا إذا تزكى، مَن الفائز في المُسابَقة؟ مَن الناجي في الامتحان والابتلاء؟ هو مَن؟ المُتزكي، مَن زكى نفسه، دعوة إبراهيم – خليل الرحمن – رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۩، وقد فعل الله – تبارك وتعالى -، إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ۩، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ۩، تزكية! لابد من التزكية، رمضان أتى لتزكية النفس.

إذن نعود، لماذا يمتنع عما أباح الله ويتعاطى ما حرَّم الله؟ لسوء فهمه، لانعطاب فهمه لمغزى الصوم، لو فهم الصوم أنه فُرصة للتزكية والترقية ولتربية الضمير – حقيقة التقوى، هذه هي، تربية الضمير حقيقة التقوى، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهمْ بِالْغَيْبِ۩ – لاختلف حاله تماماً، ولذلك يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر، ورب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، النبي يقول لست صائماً، أنت مُمسِك، أنت مُمتنِع، أنت مُعذِّب لنفسه، لكن لن تُبعَث صائماً يوم القيامة، لن يشفع فيك صيامك، لأنك لم تصم، مَن لم يدع قول الزور… الحديث! وسُقناه قُبيل قليل، هذا الصوم، هذا هو الصوم، لابد أن نُعيد النظر تماماً عملياً في مغزى الصوم.

مولانا جلال الدين الرومي – قدَّس الله سره – يقول إن أولئك الذين يُهرَعون إلى الخمور والمُسكِرات إنما يفعلون ذلك هروباً من الاختيار، انظر إلى هذا الفيلسوف العارف بالله، هذا صحيح! يقول الذين يتعاطون مُحرَّمات الإسكار – على اختلافها الآن، الهيروين والمُخدِّرات من أنواع مُختلِفة – يهربون من الاختيار، يقول أنا أفهم أنهم يهربون من الاختيار، ومعنى – أقول – هروبهم من الاختيار ماذا؟ هروبهم من إنسانيتهم، الإنسان لا يعود إنساناً إذا أصبح قطعة حجر أو شمساً أو قمراً في فلكه دوّراً، لا! الإنسان إنسان بحمله الأمانة، الإنسان إنسان بقُدرته على المُفاضَلة والمُحاكَمة والاختيار، أُريد ولا أُريد، سأسلك هذه وأجفو هذه، هذه هي الإنسانية، فالذين يسكرون ويُخمِّرون عقولهم بهذه المُخدِّرات المُختلِفة يهربون من إنسانيتهم ويهربون من اختيارهم.

سأذهب بهذا المعنى المولوي إلى مدى أبعد وألطف – أيها الإخوة والأخوات -، فاسمحوا لي، هناك سؤال الآن، بعضنا يهرب – والعياذ بالله – أو بعض الناس – حاشاكم – يهرب إلى المُخدِّرات والمُسكِرات، ومُعظمنا يهرب إلى الطعام والشراب والنساء، أليس كذلك؟ حين يشعر بالخيبة وبالإحباط يذهب إلى المطبخ، من أجل الأكل والشرب، بعض الناس يأكل في اليوم أربع مرات، شيئ عجيب! فإذن أين الوقت الثمين؟ ألا يُوجَد وقت للعلم؟ ألا يُوجَد وقت للتربية؟ ألا يُوجَد وقت للعبادة؟ ألا يُوجَد وقت للتفكير؟ ألا يُوجَد وقت للتأمل؟ لا يُوجَد وقت لكل هذا، أكل! كلما شعر بالخيبة، بالإحباط، بالزهق، بالنرفزة، وبوقت فراغ، يملأه بالأكل، شيئ يقزقزه، شيئ يقضمه، شيئ يهضهمه، وشيئ ينتشه، مأكولات! ما شاء الله، يهتم كثيراً بهذا الشيئ، فلسفة خاصة، غريب جداً! لماذا؟ هذا هروب، هذا هروب وهذا معروف، لماذا نهرب إلى الطعام والشراب والشهوات؟ نهرب من ماذا؟ إلى ماذا؟ واضح، لكن من ماذا؟ نهرب من مُواجَهة ما ينبغي أن يُواجَه، من بحث ما يلزم أن يُبحَث، من طلب ما هو جدير بالطلب، أن نطلبه، نترك كل هذا، نهرب طلباً للذة، سرعان ما يتكشَّف أنها زائفة، ليست ما قصدنا، لا! ليس هذا هو، يأكل ويُتخَم المسكين وينام، فيسوء نومه، وتسوء أحلامه، فيقوم مُتنكِّداً، يُنغِّص على زوجه وعلى أولاده، فيعود إلى الأكل والشرب، حياة عجيبة جداً، حياة مُختَلة مُختبِطة مُختلَطة.

لعل هذا الهروب سببه أو سره على طريقة التحليل النفس والله أعلم – هذا اجتهاد مني – عائد إلى فترة طفولتنا، إلى فترة الطفولية والغرزية، أشبه بالبهيمية البريئة، لماذا؟ الطفل حين كان يتألَّم من شيئ – ومُعظَم ألم الأطفال الرُضع من الجوع والعطش – كان يبكي، ويُعبِّر عن ألمه، فأول ما تُهرَع إليه أمه أن تُلقِمه الثدي، فيسكت! بلا شك ارتبط في وعي الطفل وفي لا وعيه أن الآلام والتباريح والعذابات والخيبات تُسكَّن بماذا؟ بمطعوم أو مشروب، ويكبر الإنسان، دون أن يعي هذه الحقيقة ودون أن يشق الطوق عنها كما يُقال ودون أن يتعالى عليها سيبقى يسلك سلوك الرضيع، يتألَّم من أي شيئ فيُهرَع إلى المطبخ، لذلك أتى الصوم، ليقول له لا، هذا الهروب لا نُريده، سنُعفيك منه على مدى ثلاثين يوماً، لن تهرب إلى الطعام والشراب والمناكح، لا! هذا انتهى الآن سحابة النهار، اهرب إلى شيئ آخر، الآن أمامك فُرصة أن تسلك سُبلاً أُخرى، تطلب بها ومن خلالها السعادة، تطلب منها المطلوب، تطلب بها المطلوب، تبحث فيها عن الذي عُلِّق بحثه، لم يُبحَث إلى الآن، تُواجِه فيها الحقائق، وتُواجِه فيها نفسك، طبعاً!

هذه فُرصة – والله – يا إخواني، بعض الناس الراقين العارفين يُمارِس هذا، الصوم فُرصة ملائكية بل ملكوتية لمُمارَسة الفكر وحدس الحقائق، وكما قلت مُنادَمة الغيب، ومعرفة النفس، ومُطالَعة حتى مشهد النعمة، هناك مُصطلَح في العلوم الإنسانية يُسمونه كسر الأُلفة، اسمه كسر الأُلفة! الأُلفة حاصلة لماذا؟ حاصلة بالاعتياد، صدِّقني الذي يقول لك الحمد لله، الله أنعم علىّ بزوجة صالحة بارة وبأولاد طيعين مبرورين وبرزق وافر وبنعمة سابغة وبصحة وافية وله الحمد والمنّة، صدِّقني ما لم يذق طعم الحرمان ولو المُؤقَّت من هذه الأشياء هو لم يعرف حقيقتها وحقيقة الإنعام بها عليه، يتكلَّم كلاماً كالأطفال، يقول الحمد لله، يا ربي لك الحمد، كلام فارغ! الكلام كله هذا فارغ، دون أن تندك في الحقائق – أنا هكذا أُعبِّر عنه –  لن تُدرِك الحقائق، دون أن تندك وأن تنغرس في الحقيقة – أنت بنفسك، بوجودك، بمشاعرك، بعقلك، وبسلوكك – لن تُدرِك الحقائق، انتبه!

نحن – أتحدَّث عن نفسي وعن سائر الوعاظ أصحاب المنابر – أخيب الناس والله العظيم، نحن ينبغي أن نُقوِّم أنفسنا من أقل الناس تأثيراً في الناس، صدِّقوني! من أقل الناس، هل تعرفون لماذا؟ لأن مشاكل مُعظَم الناس ليست نابعة من أنهم لا يفهمون، هم يفهمون، وبعضهم يقول والله كل ما ذكرته أعرفه، سمعته منك ومن غيرك، وقرأته، وأعرف أحسن منه، نعم! لكن هل تسلك وفقه أم لا؟ هنا الانكسار يحدث في الشخصية، الانكسار! أين يحدث الانكسار؟ في فارق واضح جداً أو في شرخ أو في فارق الشرخ بين ما نجده ونستشعره وبين ما نعقله ونُدرِكه، يُدرِك أن هذا قبيح، وأن هذا حرام، وأن هذا سيء، ولا ينبغي أن يُتعاطى، ولا أن يُقترَف، يُدرِك هذا! أتُريد أن تعظه أنت وأن تُذكِّره؟ هو يأتيك بأحاديث أكثر، يأتيك بآيات أكثر، يأتيك بقصص وحكايا أكثر.

بعض الناس يكون عالماً، شيخاً كبيراً، وهو يأتي هذه المعاصي، انتبهوا! مُشكِلة هذه، مُشكِلة حقيقية، من أين تنبع المُشكِلة؟ من أن وجدانه ومن أن إرادته أضعف وأُفقها أنزل وأوطأ من أُفق ماذا؟ الإدراك والفهم، فيحصل الانكسار في الشخصية والكسر، يأتي الصوم لكي يُعيد الاعتبار لماذا؟ للفهم أم للوجدان والإرادة؟ للوجدان والإرادة، سأُثبِت لك أنك تستطيع حين تعزم، عزيمة مبدئية، تستطيع! جدلية العزم هذه، تستطيع! جرِّب وحاول وستنجح، وقد نجحنا، ننجح والحمد لله من أربعين سنة أو من ثلاثين سنة أو من خمسين سنة كما هو الحال عند بعضنا، أليس كذلك؟ نصوم كل سنة ثلاثين يوماً عن كل هذه المُشتهيات، إذن نستطيع أن نصوم عما هو أدنى منها، يُمكِن مُعالَجة هذا الكسر، لكن لا بالوعظ، كمثل قولي هذا، هذا لا يُفيد، صدِّقوني! لا يُفيد، بماذا؟ بالصوم، بالعبادة، بمُنازَلة هذه التجربة، بخوض التحدي، ليس بالكلام، بخوض التحدي.

هل تعرف أن لو كان الصوم تطوعاً لما صام أكثرنا؟ أنا أقول لك تماماً هذا، لو كان الصوم على البدل كأن تُعطي فدية لفدى أكثرنا، لقال لك أحدهم يا أخي هذا صعب، جرَّبت ووجدت أنه والله مُستحيل، لا! ليس مُستحيلاً، لكن لما كان واجباً اختلف الأمر، وانظر إلى رحمة الله، هذه الآية تُبكيني دائماً، كل سنة في مثل هذه المقامات أتذكَّرها وتُبكيني، يقول أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩، يا الله، يا الله، يا لرحمة الله، يا للُطف الله، لماذا يقول أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩؟ كأنه يتلطَّف بنا ويقول يا عبادي لا يهولنكم أمر الشهر، شهر! نقول هذا شهر، شهر رمضان، ونتحدَّث عن صيام شهر رمضان، يقول هي أيام معدودات، جرِّب فقط، ستتصرَّم وحياً سريعاً، جرِّب يا عبدي، يتلطَّف بنا، ثم إنه كان يتطلَّف قبلها فقال الآتي، قال قبلها كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ۩، أي لم نختصكم بهذه العبادة المُبهِظة الثقيلة، لا! كل الأمم الإلهية نحن فرضنا هذا عليها وكلَّفناهم بهم، نحن فرضنا هذا عليهم وكلَّفناهم به وأنتم شأنكم شأنهم وهي أيام معدودات، حاولوا، أنتم ستسطيعون، لماذا؟ ما هذه الرحمة الإلهية؟ حنان غامر والله العظيم، أنا أقرأ في أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩ حناناً إلهياً غامراً يُبكيني، يجعل المرء يسبح في دموعه، ويقفز في بحر هذه الدموع قفزات إلى الله – تبارك وتعالى -، حرص إلهي عجيب علينا، لكي نزكو، لكي نرقى، لكي نُصبِح بشراً، لكي يُصبِح واحدنا أو أحدنا إنساناً سوياً، لكي تلتئم الشخصية، لكي تلتئم ويُعالَج هذا الشرخ والانكسار، لكي يكون الوجدان والإرادة فوق مُستوى حتى الإدراك والوعي – بإذن الله تعالى -، هذا هو، فانجح في كل تحدٍ.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعيننا على ذكره وشُكره وحُسن عبادته.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

 

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أيها الإخوة والأخوات:

إذن وبجُملة واحدة نختم بها، طالب ترونه لا يستطيع إنجاز دراسة، يقول لا أستطيع، أفشل في الامتحانات، هذا لم يصم، ولم يتعلَّم حكمة الصوم، لو صام كما أراد الله لأنجز هذا المشروع بسهولة، لأنه صاحب إرادة حديدية، بل تغل الحديد، واحد يقول لا أستطيع أن أبتعد عن هذه المعصية، وبعض الناس يُقارِف الكبائر، انتبهوا! شيئ خطير جداً جداً، بعض الناس – والعياذ بالله – يُقارِف الكبائر، ليس فقط الكبائر بل الفواحش من الكبائر، لماذا يا رجل؟ ولك زوجة وعندك أعراض وعندك بنت، ألا تخشى على عرضها؟ أليس لك عقل؟ أليس لك نُهى؟ أليس لك لُب وفهم؟ ما زنى غيور قط يا مُسلِم، ألا تستحي من نفسك؟ ألا تستحي من الله؟ ألا تستحي غداً من رسول الله حين يراك؟ لن نتحدَّث عن رب العزة، فهذا شيئ مُختلِف تماماً، هذا شيئ ثانٍ، شيئ ثانٍ فقط! الحياء والخجل من رب العزة غداً سوف يجعلنا عظاماً تتقعقع، ليس عليها مزعة لحم، هذا ليس العذاب الإلهي والسخط الإلهي إلى الآن، وإنما الخجل، يقول لك أحدهم لا أستطيع، لماذا يا رضيع؟ رضيع أنت، رضيع! لا تزال ترتضع ثدي الشهوات، يشعر بالزهق، يقول إنه زهق، زهقان! فيخرج إلى الفاحشة، رضيع! وفهمتم كيف يكون التحليل النفسي هنا، رضيع! إذن لا يزال يُفكِّر بلا شعور رضيع، لم يصم يوماً هذا شهراً لله، لو صام حقاً وعلم ما هو الصيام لانتهى الأمر، ولقال أستطيع في رمضان، إذن وفي غير رمضان أنا مُستطيع، أستعين بالله على ذلك، منه العون، لا إله إلا هو!

إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى                             فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ.

إذن لا تُصدِّق مَن يقول لك أُواقِع الفاحشة، ولا أستطيع تركها، أقول له لا تستطيع لأنك رضيع، لست راشداً، لست ناضجاً، لست رجلاً يا أخي، لست امرأة راشدة، ينبغي أن تكون أقوى من هذا، بضربة واحدة تقطع مع الشر، لكن هذه الضربة يُربيها الصيام، انتبه! يُهيء لها الصوم، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ۩، تتقون غضب الله، تتقون مساخط الله، نار الله، الخطيئات، والسيئات، وذلك بالصوم، بالصوم! هذا إذا عرفنا كيف نصوم وما هو مغزى الصيام.

الذي يقول لا أستطيع أن أفعل العبادات – لا أستطيع أن أُصلي الصلاة في أوقاتها، لا أستطيع أن أتصدَّق يا أخي، يدي تُخالِفني، تُخالِف عن أمري، تكز، تكز وتتراجع – أقول له لا، تستطيع لو أردت، لو صُمت.

إذن الآن لدينا موسم وفُرصة لا أقول ذهبية، وإنما ربانية، ما ذهبية وفضية؟ هذا كلام فارغ، فُرصة ربانية – بإذن الله -، لكي نُعيد تأهيل أنفسنا، تأهيل الإرادة والعزيمة – بإذن الله تبارك وتعالى -، الانتصاف للروح، الانتصاف للنفس، الانتصاف لشرف الآدمية، لعلو الإنسانية فينا، من هبوط وتدني البهيمية والغرزية فينا، لا! نُريد أن ننتصف – إن شاء الله -، وأن نُعيد الأمور إلى أنصبائها وإلى موازينها – بإذن الله -.

اللهم إنا نسألك بجلالك وبقُدسك أن تُنوِّر ضمائرنا، وأن تُقدِّس سرائرنا، اللهم حقِّق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالسعادة آجالنا، وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير قيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين، أعِنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، واجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قُدرتك، حتى لا نُحِب تعجيل ما أخَّرت ولا تأخير ما عجَّلت، واجعل غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 

فيينا 21/8/2009

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: