إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله –  سُبحانه وتعالى وجل ثناؤه – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ۩

آمين، صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

إذا صرفنا النظر عن الخلاف المشهور في البسملة وهل هي آية من الفاتحة أو ليست بآية؟ فقد وقع الاتفاق على أن الحمدلة – الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ – هي أول آيات هذا الكتاب العظيم، إذا غضضنا النظر عما ذُكِر، فهي أول كتابه وهي آخر دعوات المُوحِّدين، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، لا دعوة بعدها في جنات النعيم – إن شاء الله تبارك وتعالى – أجمعين، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، فما حقيقة هذا الحمد الذي هو أول كتابه وآخر دعاء المُؤمِنين في جنات النعيم والرضوان المُقيم؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، لا إله إلا هو! وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ ۩، سُبحانه وتعالى، وله المُلك كله.

قبل أن نُجيب عن هذا السؤال الجديد نود أن نعرف معنى الحمد لُغةً، ما معنى الحمد؟ حمدته، أحمده، حمداً، ما معنى الحمد لُغةً؟ حمد فلان فلاناً أو حمد فيه كذا من خصائله وخلاله أو حمد كذا من الأشياء، الحمد لُغةً هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، هو الثناء! إذن الثناء جنس للحمد، هو أعم منه، لذلك المدح أيضاً هو ثناء، فالثناء هو جنس، يدخل تحته الحمد، ويدخل المدح، هو الثناء باللسان، إذن هو من عمل اللسان، إذن الحمد هو بعض عبودية اللسان، بعض عبودية هذا اللسان! هذا اللسان لم يُخلَق للكذب والغيبة والنميمة وسفساف الأقوال والمُهاتَرات، بالعكس! خُلِق ليقول خيراً، وليدل على خيرٍ، ليحمد الله ويُسبِّح بحمده، سُبحانه وتعالى.

والثناء باللسان على الجميل، أي على الوصف الجميل، الاختياري! لأن ما لا اختيار للمرء فيه لا يُعَد من كمالاته التي يُحمَد بسببها وعليها، وهذا شيئ عجيب، هذا يُفيد – أيها الإخوة والأخوات – أن حيثية أكثر كمالاتنا هي حيثية نقصنا، شيئ عجيب، ومثل هذا لا يرد على الله مُطلَقاً، لا إله إلا هو! حيثية الكمال هي حيثية الكمال، نحن حيثية أكثر كمالاتنا هي حيثية نقائصنا، فنحن نُثني على إنسان بأنه طويل القامة، صبوح الوجه مثلاً، ذكي الفؤاد، هذه بلا شك ولا ريب كمالات، لكنه لم يخلقها في نفسه، لم يشأها لنفسه، الذي شاءها وخلقها وقدَّرها ورزقها الله تبارك وتعالى، فدلت هذه الكمالات على ماذا؟ على افتقار هذا المُكمَّل إليها، لأنه ناقص.

ولذلك إذا أردنا لُغةً وضعيةً – كما يُقال – أو مُرشَّدة دقيقة فبالحري أن يُقال هذا مُكمَّل وليس كاملاً، لكن اللُغة صدر مجازها يتسع لهذا ولما هو أوسع منه بكثير، فنقول كامل على سبيل المجاز، ولذلك السيد المسيح – عليه الصلاة وأفضل السلام – لما وُصِف بالصلاح وبعضهم ترجمها بالكمال – وصف أحدهم المسيح بالكمال، في بعض الترجمات العربية بالصالح، بعضها تُرجِم بالكامل، ويبدو أن هذا هو الأوفق، لأن كل الأمم المِلية تتسامح بلا شك بل تتوارد على وصف الصادقين المُستقيمين بالصُلّاح، وبأنهم سادة صالحون، فما الذي يُنكِره عيسى من هذا؟ فيبدو أن الترجمة الأدق هي الكامل – قال لمُحدِّثه لا تدعني كاملاً، لأنه ليس أحد بكامل إلا هو، لا إله إلا هو! هذا هو، أما نحن فالكامل فينا مُكمَّل، ومعنى كونه مُكمَّلاً أنه ناقص، أصله النقص، يا ليت كان الأمر كذلك! بل أصله العدم، أصلنا جميعاً العدم، فطبعاً نحن كائنات مُكمَّلة، هذا مَن عنده شيئ من كمال، فهو مُكمَّل وليس بكامل، فعجب أن تكون حيثية الكمال هي حيثية النقص، ذكي الفؤاد مَن الذي وهبه هذا الذكاء؟ رب العالمين، إذن كان مُفتقِراً إليه، ليس عنده منه شيئ، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۩، فنحن النقصة، أما هو – جل في عليائه، سُبحانه وتعالى، وفي سماء مجده – فحيثية كماله حيثية كماله، ذات لا كالذوات، وأسماء وصفات لا كالأسماء ولا ككل الصفات، سُبحانه وتعالى، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ۩.

إذن هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، أي على الوصف الجميل الاختياري، معنى الاختياري الذي يكون باختيار الممدوح أو المحمود، أي بفعله، بفعله مُختاراً وليس مُضطَراً، ولذلك لا يُقال نحمد لفلان طوله، لا يصح! وإنما نمدح له، لكن لا نحمد طوله، لأن طوله ليس من أفعاله الاختيارية، هو من فضائله، لكنه ليس من فواضله، إذا كان من فواضله يصح أن نقول حمدناه، فنحن نحمد فيه ونحمد له كذا وكذا، إذا كان من الفواضل! أما إذا كان من الفضائل التي ليس له فيها اختيار فلا، إنما يُقال نمدحه، ولا يُقال نحمده.

الله – سُبحانه وتعالى – إذن له الحمد كله، لماذا؟ لأن كل النعم وكل الفواضل ليست تُعرَف إلا من لدن الله سُبحانه وتعالى، وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ ۩، وهي النعم التي اعتاد العلماء – علماء العقيدة والتفسير – أن يُجمِلوها تحت عناوين أو في عناوين ثلاثة، نعمة الإيجاد، نعمة الإعداد، ونعمة الإمداد، وليست تشذ نعمة عن هذا التصنيف الثلاثي، كل نعمة أخطرتها فؤادك أو قدحتها في ذهنك لابد أن تنضوي تحت لواء من هذه الألوية الثلاثة، إما أن تكون مُتعلِّقة بنعمة الإيجاد، إما أن تكون مُتعلِّقة بنعمة الإعداد، الإعداد ظاهرياً أو الإعداد باطنياً، كل خصائص الإنسان ونحائزه وغرائزه وملكاته وقواه ولياقاته من باب الإعداد، كلها من باب الإعداد، من باب الإعداد والتقدير الإلهي! إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ۩، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۩، وفي قراءة فَعَدَّلَكَ (بالتشديد)، وهي صحيحة، نعمة الإعداد! بعد ذلك نعمة الإمداد، فنحن مُفتاقون مُفتقِرون إلى مدده – سُبحانه وتعالى – ومُوالاة نعمه علينا في كل نفس، بل فيما هو أقل من ذلك.

بالأمس كنت أتحدَّث مع بعض أحبابي في الله، وذكرنا هذا غير مرة، أن الإنسان قد تُزايله نعمة الله في لمحة بصر، إي والله! في لمحة بصر، أعظم هذه النعم التي يتشبَّث بها الناس نعمة الحياة، لأنها ظرف لكل شيئ، الحياة ظرف لكل شيئ! ظرف لكل ما أُعِد له الإنسان في هذه النشأة، الحياة هي الظرف الزماني، لذلك كانت أعظم هذه النعم بهذا الاعتبار، يُمكِن – (ملحوظة) حدث خطأ فني أدي إلى إعادة ما قاله الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، وذلك من 11:33 إلى 13:57) – أن تكون نعمة الحياة أعظم من نعمة الهداية إذا اجتمعا بهذا الاعتبار، لأنها ظرف للهداية مبدأً وفعلاً ومُنتهىً، بهذا الاعتبار قد تكون أعظم.

لذلك قال النبي نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ، الزمن! الظرف الزمني، الحياة، هذه النعمة – كما نعلم جميعاً – تُزايل الإنسان في لحظة، الإنسان يموت في لحظة، جارة لنا ماتت وهي تُكلِّم أهلها، هذا كثير! آلاف الحالات، كانت تُكلِّمهم وبصوت مُرتفِع جهير، كانت تُكلِّم بعض أحفادها وحفيداتها وتطلب وتمزح، ثم إذا بها تُنكِّس برأسها هكذا، حرَّكوها فإذا هي ميتة، زايلتها النعمة في لحظة، لا تقل لي أنا قوي، أنا جيد، أمامي مُستقبَل! أمامك الجهل، هذا جهل، هذا من قلة عقل الإنسان، أأمامك المُستقبَل؟ أي مُستقبَل؟ مَن يضمن لك هذا المُستقبَل؟ مَن الذي يضمن لك هذا المُستقبَل؟ أعندك كتاب من عند الله أنك تعيش سنة أُخرى أو خمسين أو ستين سنة؟ بعض الناس – والله – يُؤمِّل أكثر من ستين سنة أن يعيش، يكون عمره خمسين سنة ويُؤمِّل أن يعيش أكثر من ستين سنة مُستقبَلاً، مَن الذي ضمن لك هذا؟ الجهل، قرأ عمر مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩ ثم قال غرَّه – والله – جهله، إنه جاهل ومغرور، جاهل ومغرور! تقول أمامي المُستقبَل، أمامي الفُرصة المُتجدِّدة، ليس أمامك إلا الأمل والسراب الخادع أبداً، وهكذا نعمة العقل، لأن الحديث جرى بمُناسَبة تحديث بعضهم لي عن حالة عجيبة اعترته، كاد عقله يُزايله فيها في لحظة، وأقسم بالله على هذا، قال لو فعلت كذا لزال عقلي، وأنا أعلم أنني لو فعلت كذا لزال عقلي، فقلت أعرف هذا تماماً، لأن هذا حدث مع مجموعة من أصدقائي، زايلتهم عقولهم في لحظة، أحدهم دخل الحمام فلم يخرج، فراث علينا، فلما استعجلناه كان مجنوناً، جُنَّ في هذه اللحظة، نعم! وخرج مجنوناً، طالب يدرس الهندسة، وبُعِث به إلى أهله مجنوناً، نعم! ليس شرطاً أن يُجَن الإنسان على مراحل، في لحظة يُسلَب هذه النعمة.

لذلك نحن نعيش في مدد من نعم الله الموصولة علينا، مدد مُستمِر، إذا انقطع عنك ضياء العقل تُجَن، إذا انقطع عنك ضياء العصب والعضل تُشَل، في لحظة تُشَل! يقولون  جُلِط أو غير هذا من هذه المُصطلَحات، لا يعنينا هذا، المُهِم أنه شُل، شُل في لحظة! يُقعَد في لحظة، يُصبِح مُقعَداً، يُكمِل حياته وهو مُقعَد، وحينها وحينها فقط سيُلقِّننا دروساً وفلسفات عُظمى في معنى نعمة أن تمشي، ونعمة أن تتحرَّك، ونعمة أن تقبض بأناملك على شيئ، سيُلقِّننا دروساً ما خطرت على بال واحد منا، لأن هذه النعمة حين زالت استشعر قيمتها، ليس سهلاً أن تمشي على رجلين، ليس سهلاً! ليس شيئاً عادياً أن تمشي على رجلين، لكنك للأسف تعصي الله بهاتين الرجلين، ليس سهلاً أن تمشي على رجلين، لكنك تمشي بهما إلى حيث حرَّم الله، ولست تستحي ولا تخشى، ليس سهلاً أن تنطق وأن تتكلَّم، هناك مَن هم بُكم خُرس، وهناك مَن أُخرِسوا، هناك مَن يُخرَس أيضاً ويُسلَب نعمة البيان، بعض الناس يُخرَس خرساً جُزئياً، أعرف رجلاً كان سليط اللسان، لا ينجو أكثر مَن حوله مِن شره إلا أن يكون فوقه سُلطةً وسُلطاناً، سلب الله فمه ماءه، فيحتاج دائماً إلى أن يشرب الماء حتى يتكلَّم كلمة، حالة غير عادية! جفت عنده كل هذه الغُدد اللُعابية، فليست تُفرِز شيئاً، لا يستطيع أن يتنفَّس ولا أن يتبلَّع ريقه – لأنه بلا ريق – ولا أن يتكلَّم، يحتاج دائماً إلى ماء حتى يتكلَّم معك كلمة، قلت هكذا لأن لسانه كان طويلاً جداً في عباد الله، يسب هذا ويلعن هذا ويسخط على هذا بالحق وبالباطل ليل نهار، ألهذا خلق الله لك هذا اللسان؟ بعض الناس لسانه لسان شيطان، يُغري به بالمعصية والعياذ بالله، يراك مُستقيماً طيباً عفيفاً، فيُغريك بلسانه لتركب المعصية كما يركبها هو، شيطان أنت؟ إبليس أنت – والعياذ بالله – أم من أعوانه؟ لماذا؟ لماذا يا عبد الله؟

ولذلك ينبغي ألا نُغتَر بحلم الله علينا، صحيح هو حليمٌ، كريمٌ، عفوٌ – لا إله إلا هو -، لكن أيضاً هو في نفس الوقت يُؤاخِذ ويأسف، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ۩، يأسف ويغضب – لا إله إلا هو – ويسخط، وإذا أدركت السخطة إنساناً أحالته لعنةً في الدنيا والآخرة، فحذاري أن تُدرِك أحدنا سخطة الله والعياذ بالله تبارك وتعالى، اللهم إنا نعوذ بجلالك وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وأركان السماوات والأرض أن تغضب في الدنيا أو في الآخرة يا رحمن، يا رحيم.

في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد قال – صلى الله عليه وسلم – قالت السماوات أي ربنا ائذن لنا – أن نسقط كسفاً على بني آدم، السماوات غضبى، غضبانة منا ومن أفعالنا ومن حماقاتنا ومن جهلنا ومن كفراننا، فإنهم قد أكلوا خيرك ومنعوا شُكرك، وتقول البحار أي ربنا ائذن لنا أن نُغرِق بني آدم، فإنهم قد أكلوا خيرك ومنعوا شُكرك، لا حمد ولا شكور، إنما كُفر، نسير في كون الله، في نعمة الله، برحمة الله، ونتقلَّب في نعم الله – تبارك وتعالى – السابغة، ثم نعصيه صباح مساء! ولا نستحي، فالسماوات والأرض تتبرأ منا، تشمئز منا، ثقلنا عليها! وتقول الجبال أي ربنا ائذن لنا أن نُطبِق على بني آدم، فإنهم قد أكلوا خيرك ومنعوا شُكرك، فيقول دعوهم، لو خلقتموهم لرحمتموهم، الله أكبر! لأنه الخالق، كما قلت مرة علاقتنا بنا أكبر بكثير – بكثير – من علاقة أب بولده أو أم بولدها، إنها علاقة من نوع آخر، ليس لها ضريع، ليس لها نظير، إنها علاقة الخالق بالمخلوق، وهي ليست علاقة من حيث الأصل تقوم على القهر والإجبار والإعنات والتعذيب، كلا! تقوم على الرحمة والعطاء والكرم والنفح والحظ والإمداد والتسهيل، ولكن إلى حين وبقدر، كل شيئ بقدر، فيقول دعوهم، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنهم عبادي، أكبر بكثير من قول الوالد إنهم أولادي، بكثير بكثير! أو قول الأم إنهم أولادي، يقول عبادي، أنا خلقتهم، صنعة يدي، فأحلم عليهم وأُمهِلهم، لكن يا أيها المحلوم عليه، يا أيها المُمهَل والممدود له في حبل الإمهال إلى متى؟ إلى متى؟ ألا تستحي من هذا الرب الكريم إذن؟ أنت لا تخشاه، لكن ألا تستحي منه؟ أنت لا تستحي منه، لكن ألا تُحِبه؟ بعد أن أعطاك ويُعطيك كل ما أنت فيه ألا تُحِبه؟ والمُحِب لمَن يُحِب مُطيع، عليك أن تُطيعه إذن وأن تخلع وأن تنزع عن مُواصَلة المعصية، لكن – انتبه – هو يقول فإنهم عبادي، إن تابوا إلىّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم، وهنا ما يُخوِّف، طبيبهم! الطبيب أحياناً قد يُضطَر إلى بتر عضو من أعضائك، لأنه أنتن، Gangrene فيه يقولون، أي غرغرينا، أنتن! قد يُضطَر الطبيب إلى البتر رحمة بك، الطبيب ليس مُنتقِماً، الطبيب ليس مُجرِماً وليس قاتلاً، لكنه طبيب، لمصلحتك سيُضطَر الطبيب أن يبتر عضواً من أعضائك، وعليك بعدها أن تشكر له، لا أن تلعن هذا الطبيب، وهكذا قد يبتر الله نعمة عُظمى مما أنعم عليك، لكي يُطبِّبك، لكي يُعالِجك، لأنك لم تُرِد أن تأتي إليه بالحُسنى وباليُسر، لم تُرِد! وأمهلك ودلَّلك ومدَّ لك وقال لك تعال تعال ألف مليون مرة، خمسون أو ستون سنة وأنت لم تأت، ماذا إذن؟ لم تأت بالحُسنى، إذن لابد أن تأتي بوسيلة علاجية أُخرى، أن يُعدِمك بعض ولدك، أن يُعدِمك مالك، أن يُعدِمك بصرك، أن يُعدِمك قوتك، وتحت قوتك توهم ما تُريد، قوة العضل، قوة الوقاع عند الرجال، أي قوة! نعم، تُسلَب منك، وتُصبِح عاجزاً، عاجزاً جنسياً، عاجزاً جسدياً، عاجزاً عقلياً، عاجزاً نفسياً، وتكون مُصاباً بالاكتئاب والسوداء، تضيق الدنيا عليك كلها بما رحبت، جراء ماذا؟ وكفاء ماذا؟ ما قدَّمت يداك، ولا تزال تُقدِّم إلى وقت قريب، ستُسلَب! انتبه، فهذه الكلمة مُخيفة جداً، وإن لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم، لا تظن أن هذه كلمة تحبب، هي من حيث الباعث ومن حيث المعنى للتحبب أيضاً، لكن من حيث الأساليب والوسائل مُخيفة جداً جداً، كما قلنا في شأن الطبيب الذي يبتر ويقطع أحياناً، وقد يقطع أكثر من عضو، بعض الناس تُقطَّع أربعة أطرافه، يظلون هكذا كالصناديق، صندوق برأس! لأنه لا بقاء له إلا بهذا، بعض الناس هكذا يُقطَّع الله كل أوصاله، يأخذ ولده وجاهه وعزه وسُمعته الطيبة وماله وقوته وسعادته، ويبقى هكذا كماً مُهمَلاً حتى يعود إلى الله، فإن لم يعد ضاعف الله عليه، فإن لم يعد فجهنم بالانتظار، انتبه! هذا شيئ مُخيف.

إذن لا تغتروا بحلم الله هكذا بالمُطلَق، لأن هذا نوع من الجهل والاغترار بالله، الله كما هو حليم وعفو وكريم – وهذا أكثر ما يُعامِلنا به – لكنه بالمُقابِل – وإن كان الأقل والأقل جداً – هو أيضاً مُنتقِم ويُؤاخِذ ويُحاسِب، فلابد أن نُحضِر هذا أذهاننا دائماً حتى يعتدل سيرنا.

إذن نعود إلى تعريف الحمد، الله – تبارك وتعالى – مُستحِق للحمد كله، سُبحانه وتعالى! لماذا؟ لأنه ما من نعمة إلا وهي من لدنه، ما من نعمة إلا وهي من لدنه! وأيضاً له صفات الكمال كلها، كل صفات الكمال! بعضهم يقول فهل يجوز أن نحمد الله على صفاته الذاتية؟ أي الحياة، القدرة، الإرادة، العلم، السمع، البصر، والكلام، ما يُعرَف بصفات الذات، لأن هذه الصفات ليست اختيارية، هذه الصفات ليس اختيارية لأن الاختيار يُعطي إمكان الوجود، وهذه ليست مُمكِنة وإنما واجبة، هذه من باب الواجب كما يقول علماء الكلام، الحق أنه يُحمَد عليها أيضاً باعتبارات، إما باعتبار آثارها وفواعلها والتي هي اختيارية وإن لم تكن هي بأعياناه اختيارية، وإما لأن – وهذا ما أرتاح إليه – الله – تبارك وتعالى – لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩، لا في الذات ولا في الأسماء والصفات، لذلك حمده الذي يستحقه غير الحمد الذي يستحقه مَن يُحمَد منا أو ما يُحمَد من خلقه، كل ما حُمِد أو يُحمَد من خلقه يستحقه بعنوان التعريف الذي أوردنا أولاً، بالأفعال الطيبة الاختيارية، بالصفات الجميلة الاختيارية، وفهمنا لماذا، لأنها فعلاً موارد للمدح، موارد للحمد! أما الرب – لا إله إلا هو – فوجوده كله الواجب هو خير، محض خير! الخير المُطلَق والكمال المُطلَق، فيُمدَح ويُحمَد من حيث هو، لذاته! يُحمَد حمداً غير مشوب بالعلل، أما حمد المخلوقين فهو مشوب بالعلل.

ومن هنا – أيها الإخوة والأخوات – علم الله – تبارك وتعالى – أنه لا يستقل أحدٌ من خلقه بحمده، ولا حتى محمد سيد خلقه، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، سيد العارفين وسيد العابدين وسيد الحامدين المُسبِّحين لا يستقل بحمد الله تبارك وتعالى، لا يستطيع! وهو القائل – وعن حقٍ وتحققٍ – لا أُحصي ثناءً عليك، لا يستطيع! أنت كما أثنيت على نفسك، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۩.

لذلك هذه السورة الجليلة والعجيبة – وهي من أجمع السور، وليس ينبغي إلا أن تكون من كلام رب الناس ورب المُتكلِّمين سُبحانه وتعالى، سورة الحمد! الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ – بدأها بحمد نفسه بنفسه لنفسه، وهذا الحمد ثابت له أزلاً، أزلاً حمد نفسه بنفسه لنفسه، فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، والجُملة خبرية، واضح أنها خبرية! الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، لكن ماذا عن جهة الإعراب في الْحَمْدُ ۩؟ الألف واللام في الْحَمْدُ ۩ هل هي للجنس – لجنس الحمد من حيث أتى – أم لاستغراق كل أفراد الحمد وما عساه يُحمَد به أم للعهد – وهو شيئان: محامد العباد له وحمده لنفسه، ولسنا نعهد من حمده إلا هذين النوعين، حمده لذاته ومحامد العباد له، فهذا ما يُعرَف بالعهد -؟ بعضهم قال للاستغراق، جُملة طائلة من المُفسِّرين! والزمخشري رجَّح أنها للجنس وهذا أوفق، ليس لأنه مُعتزِلي – فيها نُكتة اعتزالية دقيقة – وإنما لسبب آخر، لماذا؟ هذه الجُملة وإن كانت خبرية لكنها تُراد للإنشاء، وهذا عند أكثر المُفسِّرين، ومعنى قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩ تعليم لنا، أي قولوا أنتم أيضاً ماذا؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، أي احمدوا الله تبارك وتعالى، فهي خبر لكن يُراد منه ماذا؟ الإنشاء، كما قال تعالى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ۩، أي على الوالدات أن يُرضِعن أولادهن، فهو خبر يُراد منه الإنشاء، يُراد منه الأمر والتوجيه.

مُستحيل إذن إذا كان يُراد منه المعنى الإنشائي أن تكون الألف واللام هنا إلا بتأويل بعيد – أن تكون لماذا؟ – للاستغراق، مَن الذي يستطيع أن يُحصي مُفرَدات وآحاد المحامد؟ لا أحد، مَن الذي يستطيع أن يُحصي مُفرَدات وآحاد المحامد التي تُنشأ منه أو يُنشئها غيره؟ لا أحد، هنا ندخل في خطأ معنوي كبير، ولذلك الأرجح أن تكون الألف واللام للجنس، جنس الحمد! أي كل ما حقه أن يُعتبَر وأن يُعَد حمداً هو ثابت لله من حيث أتى، عرفناه أو لم نعرفه، قرع أسماعنا أو لم يقرعها، خطر على بال منا أو لم يخطر، فهذا أوفق! الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، اللام في لِلَّهِ ۩ يُمكِن أن تكون للمُلك، يُمكِن أن تكون للاستحقاق، جنس الحمد مُستحَقٌ لله، يُمكِن أن تكون للاختصاص، هناك ثلاثة وجوه، وهنا ثلاثة وجوه، وهذا معنى قول المُفسِّرين هذه الجُملة القصيرة الخبرية فيها احتمالات تسعة، هي هذه الاحتمالات، هناك الــ الْ ۩ قد تكون لوجوه ثلاثة، وهنا اللام لوجوه ثلاثة، وثلاثة في ثلاثة يُساوي تسعة، فهذه الآية تُؤوَّل على تسعة وجوه، وعلى المُفسِّر الحاذق أن يختار وجهاً منها وأن يُبرِّر وأن يُسوِّغ اختياره، الألف واللام هي للجنس، واللام هنا في لِلَّهِ ۩ للاستحقاق، هذا هو الأرجح والأقوى، والله – تبارك وتعالى – أعلم، جنس الحمد مُستحَقٌ لله من حيث أتى، ما خطر على بالنا وما لم يخطر على بالنا.

حمد – تبارك وتعالى – نفسه، لأنه لا يستقل أحد بحمده، رحمةً به منا علَّمنا أن نحمده على النحو الذي حمد به نفسه، رحمةً! تخيلوا لو أنه كلَّفنا بحمده، وقال افتنوا في ذلك، أي تفننوا، افتنوا في ذلك أنتم يا مُكلَّفون، كيف؟ كنا سنتهوَّك، وكنا سنتفاوت، مما يُصيب بعضنا بالحُزن وبالأسى، لأن بعضنا مَن أُوتيَ بلاغةً في القول ومَن أُوتيَ نفاذاً في الفكر ونفوذاً في البصيرة سيبلغ من المحامد ما لا يبلغه غيره، فيحزن ويأسى الآخر، لكن صاحب التكليف – لا إله إلا هو – ومُكلِّف العباد سوى بينهم، فقال قولوا الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، هذه تكفي، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، وزيدوا بعد ذلك ما شئتم، فالله هو الذي فعل وفعل وفعل كما يُعلِّمنا القرآن الكريم، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض ۩، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ۩، في هذه السورة الجليلة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، لماذا يُحمَد؟ لأنه كذا وكذا وكذا وكذا، هذا المعنى! هذا معنى هذه الآيات الجليلة، لأنه رب العالمين، لأنه رحمن رحيم، لأنه مالك ليوم الدين، فهو حقيقٌ بالحمد كله، بجنس الحمد، لا إله إلا هو! هكذا القرآن يُعلِّمنا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۩، الحمد لله على نعمة الهداية، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۩، الحمد لله على نعمة الولد، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، إذن الحمد لله على الاختصاص بنعمة المُلك، نعمة السؤدد، نعمة العلم، ونعمة الجاه والسُلطان بالحق، وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ۩! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، نتعلَّم الموارد هكذا!

ما الفرق بين الحمد وبين المدح؟ لاح لكم، المدح أعم، المدح يكون على الاختيار وعلى غير الاختيار، لذلك أن تمدح إنساناً لطوله أو تمدح طوله، وتمدح صباحة وجهه، وليس له فيها اختيار، أليس كذلك؟ لكن لا تحمده على ذلك، إنما تمدحه على ذلك، إنما تمدحه! فالمدح أعم من ماذا؟ من الحمد، وإن زعم الزمخشري أنهما أخوان مُترادِفان، الأكثر على أنهما ليسا مُترادِفين، كل حمد مدح ولا عكس، ليس كل مدح حمداً، أليس كذلك؟ الأخص هو الذي يدخل في الأعم وليس العكس، كل حمد مدح، ولكن ليس كل مدح حمداً.

ما الفرق بين الحمد والشكر؟ زعم ابن جرير أنهما أخوان أيضاً مُترادِفان، قال والدليل عليه أنك تقول – أي صحة قولك – الحمد لله شكراً، أي الحمد لله شكراً على نعمه وأياديه البيض، لا إله إلا هو! وهذا ليس بسديد كما قال ابن عطية، بالدليل نفسه! حين تقول الحمد لله شكراً فأنت خصصته – تبارك وتعالى – بالحمد على نعمة من نعمه، فعلمنا أن الحمد غير الشكر، ولهذا الصحيح أن الفرق بينهما أن الشكر لا يكون إلا بإزاء النعمة، هناك نعمة فتقتضي شكراً، أما الحمد فيكون بإزاء النعمة وبإزاء غير النعمة، أي بإزاء الفواضل – النعم – وبإزاء الفضائل، فأنت تحمد الله – تبارك وتعالى – لأنه قدير، لأنه عليم، لأنه خبير، لأنه حكيم، وتحمد الله أيضاً لأنه أعطاك ومنحك كذا وكذا وكذا وكذا، أي على الفضائل – الكمالات – وعلى الفواضل – ما يعود عليك من نعمه، هذا معنى الفواضل – أيضاً، فهذا هو الحمد، أما الشكر فلا يكون إلا بإزاء ماذا؟ الفواضل، إذن أيهما أعم؟ الحمد، الحمد أعم من الشكر، لكن بعض العلماء قال لا، الشكر أعم، وهو قول صحيح أيضاً، لماذا؟ الحمد أعم باعتبار مُتعلَّقه، أي أسبابه، باعتبار أسبابه والبواعث عليه، ما الذي يبعث على حمد الله؟ كمالات الله التي لا تتناهى ولا تُحصى، لا إله إلا هو! كما يبعث على الحمد أيضاً ويجعله مُستحَقاً لله فواضل الله، نعم الله، أياديه، لا إله إلا هو! ونعمه السوابغ، هذا كثير، أما الشكر فقط يتعلَّق بأياديه ونعمه السوابغ، إذن بهذا الاعتبار الحمد أعم، لكن الموارد أو الوسائل – كما نقول بلُغة اليوم الوسائل – ماذا عنها؟ كيف نحمد الله؟ باللسان، كيف نذكر الله؟ باللسان وبالقلب وبالجوارح، أيهما أعم إذن؟ الشكر، الشكر باعتبار ما يكون به أعم، وباعتبار الباعث عليه أخص، والحمد باعتبار الباعث عليه – لماذا نحمده؟ للكمالات وللنعم – أعم، وباعتبار ما يكون به أخص، فقط باللسان! فقلنا هو الثناء باللسان، فلا تناقض بين القولين إن شاء الله تعالى، وعليه تُحمَل أحاديث كثيرة، النبي يقول الحمد رأس الشكر، وقال ابن عباس الحمد لله كلمة كل لسان شاكر، فجعله من الشُكر، لأن الشُكر أيضاً باللسان، قال الشاعر:

وما كان شكري وافياً بنوالكم                         ولكنني حاولت في الجهد مذهبا.

أفادتكم النعماء مني ثلاثة                             يدي ولساني والضمير المُحجَّبا.

قال يدي ولساني والضمير المُحجَّبا، فأكَّد أن الشكر يكون بالثلاثة كلها، يكون بهذه وبهذه وبهذه، أما الحمد فلا يكون إلا باللسان.

روى الطبراني عن النواس بن سمعان، قال سُرِقت ناقة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – الجدعاء، كانت تُلقَّب بالجدعاء، سُرِقت! فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لئن ردها الله علىّ لأشكرن ربي، قال لأشكرن ربي! قال النواس بن سمعان فرُدَّت عليه، فقال الحمد لله، وانتظر أهله وصحبه أن يُحدِث صوماً أو صلاةً أو نحوهما، أي صدقة وما إلى ذلك، لأنه قال لأشكرن ربي، فلما لم يفعل ظنوا أنه نسيَ فذكَّروه، قالوا له يا رسول الله أنت قلت كذا وكذا، وقد رد الله الجدعاء، قال ألم أقل الحمد لله؟ إذن الحمد لله شكر، الحمد لله شكر، لأن الشكر يكون بماذا؟ باللسان وذلك بالقول، أي بقولك الحمد لله، يكون بهذا، وبهذا الاعتبار الشكر أعم من الحمد، بهذا الاعتبار! باعتبار ما يكون به، أي وسائله، وليس البواعث.

نعود، الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه مُسلِم عن أبي مالك الأشعري الطهور شطر الإيمان، طبعاً هنا أي دين وأي مِلة جعلت الطهارة نصف الإيمان إلا هذا الدين؟ فحق هذه الأمة أن تكون أنظف الأمم، وأنضر الأمم وجوهاً، وأنقاها ثوباً، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ۩، وأن تأخذ زينتها عند كل صلاة، أي عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ۩ كما قال تبارك وتعالى، فهل تفعل؟ الجواب متروك لنا، الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، الله أكبر! تملأ الميزان، الحمد لله تملأ الميزان، وسُبحان الله والحمد لله تملأن أو قال تملأُ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمُعتِقها أو مُوبِقها، صلى الله على مَن هذا كلامه، واضح – واضح من هذا اللحن ومن هذا النظم – أن هذا كلام نبوي، والله لا يقوله أحد، لا يستطيع أحد أن يقول مثل هذا الكلام، تستطيعون أن تقولوا شعراً وأن تكتبوا نثراً وأن تُدبِّجوا إنشاءات وخُطباً، لكن لا يستطيع أحد أن يقول مثل هذا الكلام، والقرآن حُجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمُعتِقها أو مُوبِقها، الله أكبر! كل الناس يسعى، كلنا نسعى ونتحرَّك، في ماذا؟ النبي يقول فبائع نفسه، سعينا هذا يُحصَّل ويُلخَّص ويُحوصَل في كلمة، عقود! أنت تُبرِم عقداً، إن أبرمته مع الله – إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم ۩ – وبعت نفسك لله فقد أعتقتها، هذا معنى فبائع نفسه فمُعتِقها، الذي يبيعها لله أعتقها من نار جهنم، وكلمة فمُعتِقها النبي لم يذكر مُتعلَّقها، لم يقل مُعتِقها من نار جهنم، صدِّقوني مُراد، تقريباً كل الشرّاح قالوا مُعتِقها من جهنم، لكن خطر لي أنه مُعتِقها ليس فقط من جهنم، وإنما مُعتِقها من جهنم الدنيا ومن جهنم الآخرة، مُعتِقها من الهوى، من رق الهوى، من رق الشهوة، من رق الذل، من رق الحرص، من رق الطمع، من رق الخوف من غير الله تبارك وتعالى، ومن رق كل رق! النبي قال فمُعتِقها وتركها بغير قيد، تركها مُطلِقة! قال فمُعتِقها، من ماذا؟ من كل هذا، وفي الآخر طبعاً مُعتِقها من نار جهنم، اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنّك، قال فمُعتِقها أو مُوبِقها، أو مُهلِكها والعياذ بالله، مُهلِكها في الدنيا وفي الآخرة في جهنم، هذا الذي أبرم العقد مع مَن؟ مع إبليس، الذي باع نفسه للشيطان وللهوى هذا – والعياذ بالله – بائع نفسه، لكن ليس للرحمن، وإنما للشيطان، فأوبق نفسه، كلام بليغ وجيز جامع مانع وعجيب، دستوري! هذا الكلام دستوري، دستور حياة، دستور هداية والله العظيم! اللهم انفعنا بهذا الكلام، لو نفعنا الله بشطر هذا الكلام لتغيَّرت حياتنا، المدار على العمل.

خطر لي وأنا قادم إلى هذا المسجد المُبارَك شيئ، كلما تعمَّقت في نص الكتاب أو نص السُنة وفي جوهره وروحه علمت أن الدين في النهاية هو تجربة، الدين لابد أن يكون تجربة حقيقية، تجربة روحية! الدين إذا لم يستحل إلى تجربة حقيقية وشخصية – فيها عنصر شخصي، عنصر تفرد حقيقي لكل واحد منا – فمعنى ذلك أنك لم تبلغ حقيقة الدين، لست بالمُتدين الذي يرضاه الله، لم تعرف الدين ما هو، وصدِّقوني هذا العنصر بالذات الشخصي – عنصر الخبرة والتجربة – هو الذي يُغنينا عن مُجلَّدات وأطنان من البراهين الفلسفية والعلمية والإعجازية والمنطقية والأنثروبولوجية لكي نُثبِت صحة الدين، وغيرك أيضاً عنده براهين مُماثَلة أو قريبة أو أضعف، على كلٍ لابد من التجربة، كيف مثلاً؟

نحن الآن نتحدَّث عن الحمد، وله علاقة بالشكر، حين يقول الله – تبارك وتعالى – لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۩ تستطيع أن تختبر هذا في نفسك، والله العظيم تستطيع أن تختبره في نفسك، الله يُحدِث لك نعمة، أحدِث لها شكراً، والله أنت مُستأهِل للزيادة، وستكون في زيادة، الشاكر في زيادة، افهم هذا! الله أحدث لك نعمة فكفرتها، أمهلك ولم تعد، ستُسلَبها، عاجلاً أو آجلاً، وجرِّب! لم تُسلَب نعمة إلا بكفرها، لا تقل لي غير ذلك، هذا كلام فارغ، مُستحيل! لا تُوجَد نعمة أنعم الله عليك بها وسُلِبتها إلا بهذا السبب، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۩، لأن الدنيا ليست الدار النهائية للجزاء، انتبه! هذه بعض الأجزية العاجلة البسيطة، فنستطيع هذا، وهناك ما هو أعجب من هذا، حين قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۩، هل قال سأُجيب دعوة الداعي؟ لم يقل هذا! لو قال سأُجيب سيخرج لنا كل صوفي عارف لكي يقول هو قال سأُجيب يوم القيامة، لا! هو قال أُجِيبُ ۩، الآن وفي هذه الدار، وأحياناً الآن وهنا، ترى إجابته مُباشَرةً في اللحظة والله، والله العظيم في اللحظة تراها، في اللحظة! في اللحظة ترى إجابة الله تبارك وتعالى، وتعلم بعد ذلك علم اليقين أنه موجود سميع بصير مُجيب، مَن الذي لباني يا أخي؟ مَن الذي أخذ بأعين الأعداء عني؟ أعماهم وأنا أمشي بينهم هكذا! مَن؟ مَن؟ أليس الله تبارك وتعالى؟ مَن إلا الله تبارك وتعالى؟ 

الذين لهم دعوات أجابها الله رأوا العجب فيها، هذه اسمها تجربة ذاتية، ليست ككلامي الآن، هذا كلام الذي أقوله لكم، كلام! مَن جرَّبه منكم علمه علم تجربة وخبرة، مر به ولا يحتاج إلى كلامي، وهذا الذي جعله يُوقِن أن الله موجود، وأنه أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ۩، ولذلك هو – عز وجل – دلنا على نفسه، أرادنا أن نخوض هذه الطريقة الاستدلالية العجيبة التي لا يخوضها تسعة وتسعون في المائة على الأقل من البشر ولا يعرفونها حين قال أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ۩، مَن؟ قال أنا، أنا وحدي، كيف ‌سنعرف هذا؟ إذا جرَّبناه، إذا لجأنا إليه حقاً ولبانا – لا إله إلا هو – وكشف السوء الآن وهنا، نعلم أنه موجود، بعد ذلك ليذهب كل الملاحدة وكل الفلاسفة وكل المُتهوِّكين وكل المُتشتِّتين وكل المُتنطِّعين إلى حيث أرادوا، إن جحيم الدنيا أو جحيم الآخرة، لا يعنينا أين يذهبون، نحن مُوقِنون أنه موجود، لقد لبانا، لقد لبانا وسمعنا، هذه الطريقة التي جعلت بعض عُتاة الملاحدة يُذعِنون لرب العالمين وأن يصطلحوا معه وأن يُعيدوا حسابه!

حدَّثتكم بقصة الأستاذ الجامعي الدمشقي السوري، وهذه قريبة، من سنوات يسيرة جداً! كان مُلحِداً، يسخر من كل الإيمان، من كل صنوف الأديان والمِلل، ورزقه الله على كبر بُنية صغيرة، كانت منه بمحل السمع والبصر، بل بمحل الروح في البدن، تخلَّل حُبها! ثم أُصيبت بمرض عُضال، لا يُصيب مَن يُصيبه إلا حالة – قالوا – في المليون حالة، في كل مليون حالة تُصاب حالة، اختارها الله تبارك وتعالى، وعضَّلت بالأطباء، أي أعضلت الأطباء، أو عضَّلت الأطباء، لم يعرفوا! وهذا الرجل في يوم من الأيام – وهو دائماً يسخر من الدين، وحرارة البنت دائماً في الأربعين، دائماً في الأربعين! لا مُضاد حيوي ولا مُسكِّنات ولا غير هذا، كلام فارغ كله، أربعون! وعلى وشك أن تموت في كل لحظة، الأطباء قالوا لا يُوجَد أمل، لا يُوجَد أي أمل! هي تنتظر المنية، تنتظر منيتها، لا أمل ولا حل –  قال لماذا؟ وبعضهم أوحى له بهذا الشيئ، قال لماذا لا أقوم أغتسل – وزوجته أعانته على ذلك – وأُصلي ركعتين وأدعوه إن كان موجوداً يُبرهِن لي على أنه موجود؟ أنا أُريد ابنتي هذه، ابنتي بالدنيا وما فيها، يقول أُريد ابنتي! وقام الرجل – قام، هدى الله قلبه – واغتسل ولبث ثوباً أبيض نظيفاً، وقام يستقبل قبلة الرحمن لأول مرة في حياته، هذا الأستاذ الجامعي لأول مرة يستقبلها! ودعا الله، فإذا بزوجته تُهرَع إليه وهي لم تعلم أنه الآن يُصلي، لم تعرف ماذا فعل الآن، هي أوحت إليه ربما مع غيرها في يوم من الأيام قريب، لكن لم تعلم أنه فعل هذا الليلة، كانت عند ابنتها تتحسَّس حراراتها وتسهر عليها، جاءت تُهرَع إليه فرحةً مُستبشِرة، تقول له أبشِر، أبشِر! وصُدِمت به على السجادة، ما هذا؟ قال لها هل انخفضت الحرارة؟ فقالت نعم، وفجأة! فجعل يبكي وتبكي، قال إذن هو موجود، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ۩.

هكذا خُذوا الإيمان، هكذا خُذوا الدين، تجربة حقيقية خوضوها ونمّوها وكبِّروها وثمِّروها مع رب العالمين، كفى أن نأخذ الدين خُطباً وإنشائيات ودروساً وكُتباً وتأليفات ومُحاجات وسجالات كلامية وحركية وكلام فارغ، الدين – الدين الحقيقي – لابد أن يكون هذه التجربة، ومن معين هذه التجربة، ومن نار هذه التجربة، تأتي كل أثمار الدين المُبارَكة على الحياة وعلى الأفراد وعلى الجماعات من هنا، إذا أخطأن هذا صدِّقوني الدين سيغدو وصفة من الوصفات تخضع للتجريب الناجح أو الفاشل، وهذه مأساة المُسلِمين، مثلهم مثل غيرهم، مثل أي ربما أيديولوجيا أُخرى! فلابد أن نعود وأن نصطلح مع الله على هذا النحو.

قال الحمد لله تملأ الميزان، ولهذا اختلف العلماء أيهما أفضل: سُبحان الله أو الحمد لله؟ والأكثرون على أن الحمد لله أفضل، لماذا؟ لأن الحمد إثبات الكمال لله، أما التسبيح فهو سلب النقص عن الله، التسبيح سلب النقص، سُبحان الله، ليس له شريك، سُبحان الله، لم يتخذ ولداً، سُبحان الله ليس له زوجة، سُبحان الله، لا يظلم، أي السلب، السلوب! التسبيح هو نفي، أيهما أثبت، أيهما أكمل وأدخل في الكمال: الإثبات أم النفي؟ الإثبات، لكن العبد الفقير – وأسأل الله أن يكون هذا حقاً – عنده تحقيق جديد في المسألة، أنا أزعم أن الحمد يتضمَّن التسبيح أيضاً، الله هو الذي قال هذا، قال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ۩، وحق هذه الأوصاف أن يُسبَّح لأجلها، لكنه أمرنا بالحمد، فدلنا على أن التسبيح مشمول في الحمد، فمَن حمد الله فقد أثنى عليه وسبَّحه، والقرآن يقول هذا، وهذا لم يُلتفَت إليه من قبل، وأسأل الله أن يكون حقاً، والقرآن ناطق به.

ولذلك أعتقد أن الذي جعل العلماء يغفلون عن هذا التحقيق أنهم حكَّموه تعريفاً يستند إلى اللُغة، وهي بلا شك يُستنَد إليها – أي الوضعية – في تعريف الحمد، لكن ما انتبهنا إليه أن حق الله – تبارك وتعالى – حمداً أن يُحمَد بما لا يُقاس بحمد المخلوقين، لذلك يُحمَد حتى على صفاته الذاتية غير الاختيارية، ونحن لا نُحمَد إلا على الاختياري، لأنه ليس كمثلنا، فحقه في حمد مُطلَق من كل القيود التي يُقيَّد بها حمد المحمودين من أمثالنا، ولذلك أيضاً يُحمَد على السلوب، وليس يُحمَد على الإثباتات فقط، يُحمَد على الإثباتات ويُحمَد على السلوب، فيدخل فيه.

ولأن الحمد أكمل وأفضل من التسبيح لم يرد التسبيح في الكتاب والسُنة وحده هكذا بالمُطلَق، ورد دائماً مقروناً بالحمد، وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ۩، سُبحان الله وبحمده ۩، دائماً! أو مقروناً باسم من أسماء الجلال والعظمة، سُبحان ربي العظيم، سُبحان ربنا العظيم، سُبحان الحليم الكريم، وليس وحده! أما التحميد فورد كثيراً جداً بل فُتِحت به سور خمس، طالعها أو طواليعها الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، وفاطر، سور خمس افتتحها الله بالحمدلة! الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ۩، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۩، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ۩، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، شيئ عجيب!

أيهما أفضل: التحميد أم التهليل – لا إله إلا الله -؟ اختلف العلماء كما حكى ابن عبد البر، قال الإمام النخاعي لا كلام أكثر تضعيفاً من الحمد لله، قال الثوري لا يُضاعَف من الكلام شيئٌ كالحمد لله، وربما يشهد له حديث أبي هُريرة عند الإمام أحمد وغيره، قال – صلى الله عليه وآله وسلم – إن الله اصطفى من الكلام أربعاً، سُبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال العبد سُبحان الله كُتِبت له عشرون حسنة أو مُحيت عنه عشرون خطيئة، وإذا قال لا إله إلا الله مثل ذلك، وإذا قال الله أكبر مثل ذلك، وإذا قال الحمد لله كُتِبت له ثلاثون حسنة أو مُحيت عنه ثلاثون خطيئة، فدل هذا بظاهره على أن الحمدلة أعظم وأفضل من الهيللة، أي من التهليل، من لا إله إلا الله، والله أعلم! هناك مَن يُعارِضه، كحديث أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله، لكنه تأويل، وأيضاً هناك أحاديث الملأ – ملأ السماوات والأرض وملأ الميزان – على اختلافها، اتفقت كلها على أن الحمد لله تملأ الميزان، واختلفوا في تأويلها، فقال بعضهم تملأ الميزان ضرب مثل، أي لو كانت جسماً من الجسوم وُوضِعت في كِفة الميزان لرجحت بها، لملأتها! وقيل أجرها يملأ الميزان، وهذا قريب جداً، نعم أجرها – أجر هذا القول – يملأ الميزان، وقيل الحمد لله تتشكَّل جسماً، لأن الله – عز وجل – عنده قدرة أن يُحيل الأعراض إلى جواهر، كعمل الإنسان الصالح يتشكَّل له إنساناً طيباً في قبره، والطالح يتشكَّل إنساناً قبيح المنظر وكريه الريح في قبره، والموت يتشكَّل في شكل كبش على الصراط، أليس كذلك؟ وهلم جرا! فكذلك هذا القول يتشكَّل جسماً ويُوضَع في الميزان، فليس من باب ضرب المثل، إنما من باب الإخبار عن حقيقة غيبية، حقيقة إيمانية!

قبل أن نُغادِر هذا المقام أُحِب أيضاً أن أُشير إلى شيئ خطر لي في تفسير هذه السورة الجليلة، أي سورة الحمد، سورة الفاتحة! وهي جوهر الصلاة، في صحيح مُسلِم قال الله – تبارك وتعالى – قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ قال الله تعالى حمدني عبدي، وإذا قال الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ قال الله تعالى أثنى علي عبدي، وإذا قال مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩ قال مجدني عبدي، وقال مرة فوض إلي عبدي، فإذا قال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩ قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ۩ قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، وتحدَّث عن الفاتحة، فسمى الفاتحة صلاةً، لذلك قال النبي كل صلاةٍ لا يُقرَأ أو لم يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام، روح الصلاة الفاتحة، انتبهوا!

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ إن كانت آية، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، كل هذا أخبار، كل أولئكم خبر أو أخبار، وهنا كلها تتحدَّث عن ماذا؟ عن غائب، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، أي هو الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ ۩، الحمد له، إلى آخره! إلى أن يقول إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩، اختلف! لم يقل إياه نعبد وإياه نستعين، حق الكلام لو كان يُوالى على نسق أن يقول ماذا؟ إياه نعبد وإياه نستعين، فليهدنا الصراط المُستقيم، فليهدنا هو! لكن الكلام صار ماذا؟ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۩ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، هذا يُسمى في علم البيان بالالتفات، التفات! أي انتقال، نُقلة أو قفزة، انتقل من الغيبة إلى ماذا؟ إلى الخطاب، لماذا؟ خطر لي أن أقصر طريق يرفع المرء والعابد والعابدة إلى مقام المُشاهَدة وهو أرقى مقامي الإحسان – الإحسان مقامان: مُشاهَدة ومُراقَبة، المُشاهَدة بأن تعبد الله كأنك تراه، كأنك تراه! أنت تُشاهِده، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه المُراقَبة، تعلم أنه يرقبك – هو طريق الحمد، فأقصر طريق تبلغ بالإنسان أرفع مقامي الإحسان – وأعني المُشاهَدة – هي هذه الطريق، طريق ماذا؟ طريق الحمد، التحقق بحمد الله، كأنه قال لنا مَن حمد الله وتحقَّق به على النحو المطلوب استحال أن عنده الغيب إلى شهادة، فصار يعبد الله كأنه يراه، فإذا دعاه لباه، قال هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، سأُلبيه! لكن على أن تكون من أهل هذه المقام، تنتقل من الغيبة إلى المُشاهَدة بفضل سلوك طريق ماذا؟ الحامدين.

اللهم اجعلنا من عبادك الحامدين حق الحمد، وأوزِعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأصلِح لنا في ذُرياتنا، إنا تُبنا إليك وإنا من المُسلِمين.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                                   (الخُطبة الثانية)

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:

روى أبو داود، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كل عمل لم يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر، ولذلك لم يزل المُسلِمون يُسمون كل كلام نفيس عالي المقام لم يُحمَد الله في أوله أو في طالعه بالأبتر، كما سموا خُطبة زياد بن أبي سُفيان في البصرة بالبتراء، كانت خُطبة عصماء بليغة لكن نسيَ أن يحمد الله في طالعها، فلقَّبوها بالبتراء، وهي حقاً بتراء، قطعاء! كأنه لا صلة لها، بدل أن نقول لا ذنب لها نقول لا صلة لها، بتراء قطعاء جدعاء جذماء، وكلها ألفاظ واردة عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

وعن أنس قال: قال – صلى الل عليه وآله وسلم – لو أن الدنيا بحذافيرها أُوتيها عبد مُؤمِن ثم أُوتيَ الحمد لله لكانت الحمد لله خيرٌ من الدنيا، الله أكبر!

قبل أن نُتِم هذه الخُطبة نسأل ما معنى هذا الحديث؟ بعض الناس يفهم أنه إن آتاه الله الأموال الغديقة الغزيرة الكثيرة والجمال والسُلطان والهيل والهيلمان وأسبغ عليه النعم فإنه يُبرئ ذمته ويخرج من عُهدتها بترداد أو بترديد الحمد لله، الحمد لله! هذا مطلوب، لكن لا، ليس معنى الحديث هذا، انتبه! ليس معنى الحديث هذا، معنى الحديث كقوله – تبارك وتعالى – الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ۩، نفس الشيئ! فالرسول لم يقل شيئاً أكثر مما قال الله في سورة الكهف، ولذلك قال السادة العلماء كالعلّامة القرطبي – قدَّس الله سره الكريم، وقد أحسن جداً في فهم الحديث – الآتي، قال معنى الحديث لو أن عبداً ساق الله الدنيا بحذافيرها إليه – أي هذا أوسع الناس مُلكاً، أملك الناس مُلكاً – ثم أُوتيَ على أثر ذلك – أي وُهِب، الله وهبه – نعمة أن يقول الحمد لله، فالحمد لله أفضل مما أُوتيَ، هذا معناه! ليس أنه يخرج من عُهدة ما أُوتيَ بقول الحمد لله، ثم نُخرِّب الدين ونُفرِّغه، لا يُخرِج زكاوات، لا يُعطي في الوجوه، لا يرضخ، ثم يقول أنا من الحامدين ولا أُسأل عن هذا، هذا كلام فارغ، الدين لا يكون هكذا، انتبه! ولكن كلمة الحمد لله لو كان يعقل هو وعنده ميزان أفضل له من هذه الدنيا التي أُوتيها ولم يستخدمها طبعاً في طاعة الله، كما أنه لم يعص الله فيها، دُمية هكذا! كُدمية محض، فإذن لا، الحمد لله أفضل، لقوله تعالى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ۩، بمعنى أن الدنيا بحذافيرها تفنى، أما الحمد لله فتبقى.

قد يقول قائل لماذا قال الحمد لله؟ سُبحان الله أيضاً أفضل منها، الله قال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ۩، الله أكبر أفضل! فلماذا قال هذا؟ قال هذا للعلاقة بين النعمة وبين ما تستوجبه من شكر، نوع من لفت النظر، ولأن الحمد لله – كما طرق أسماعكم أو مسامعكم – تملأ الميزان، فيبدو أنها أفضل فعلاً من الهيللة، والتوحيد داخل في الحمد لله بلا شك، لأنها حمد ليست للرب وإنما حمد للإله، والإله هو الرب المعبود، الإله هو الرب المعبود بحق، لا إله إلا هو! فدخل فيه ماذا؟ عطاء الربوبية، كما دخل فيه عطاء الألوهية، ودخل فيه التوحيد.

اللهم إنا نسألك أن تفتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً.

اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، اللهم إنا نسألك أن تُعيننا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك، يا كريم، يا عفو، يا رحيم، يا رب العالمين.

اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا محروماً، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام وأن تُعِز المُسلِمين، وأن تُعلي بفضلك كلمتي الحق والدين.

(ملحوظة) النهاية مقطوعة للأسف الشديد.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: