إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ۩ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ۩ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ۩ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ۩ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
إخواني وأخواتي:

روى الإمامان البخاري ومسلم – رحمهما الله تعالى – عن أبي هريرة وعن أنس بن مالك – رضيَ الله تعالى عنهما – أن رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً – قال يأتي الشيطانُ أحدكم فيقول مَن خلق كذا وكذا؟ وفي روايةٍ عند مسلمٍ مَن خلق السماوات والأرض؟ فيقول أي العبد المسئول أو المُوسوَّس له الله،فيقول – أي الشيطان لعائن الله عليه مُتتابِعة – فمَن خلق الله؟ قال عليه الصلاة وأفضل السلام فمَن وجد ذلك فلينتهي، فليُمسِك.

هذا السؤال الإبليسي الذي يُلقيه الشيطانُ الرجيم الملعون لا أحسبُ أن أحداً أفلت منه، من كبيرٍ أو صغير ومن مُؤمِنٍ أو كافر ومن مُتعلِّمٍ أو جاهل، فهذا السؤال يثور في ذهنِ كل أحد، ولذلك قال يأتي الشيطانُ أحدكم، وهذا السؤالُ يظنه بعض الناس أخطر الأسئلة على الإطلاق، وهو بلا شك خطير، ولكن أن يكون أخطرها هذا محلُ بحثٍ، وهو خطيرٌ لأنه ألقى بجماعة من كبار المُفكِّرين ومشاهير الفلاسفة في مهاوي النفي والإلحاد، فالفيلسوف الإنجليزي الشهير هربرت سبنسر Herbert Spencer في كتابه المباديء الأولى يرى أن طريقة المُتدينين جميعاً ملاحدةً ومُتألهين أومُتدينين بالمعنى المعروف – علماً بأنه يُسمي الجميع مُتدينين، فهذا مُتدين بالنفي وهذا مُتدين بالإثبات، هكذا هو سماهم – ليست تُجدي شيئاً لأنها تنتهي إلى نُقطةٍ لا تُشكِّل تفسيراً ولا تعليلاً، يقول سبنسر Spencer فالمُلحِد يقفُ في النهاية عند المادة ويراها علة ذاتها، وهذا لا يُفسِّر شيئاً، وهذا غير صحيح، هى مادة أزلية لا بداية لها وهى علة نفسها، وهذا لا يُفسِّر شيئاً، أما المُؤلِهة – أي المُؤمِن بالله تبارك وتعالى – يقف الواحد منهم في نهاية المطاف عند الله الذي من المفروض أن يكون خالقاً ومُبدِعاً وصانعاً لهذا الوجود، ويراه علة ذاته، وهذا لا يُفسِّر شيئاً، فلماذا إذن؟ لأن قانون العلية يطلب لكل معلولٍ علة، فكيف يُقال المادة معلولة وهى علة ذاتها؟ وكيف يُقال الله – عز وجل – علة لكل شيئ ولا علة له؟ وعلى كل حال هذا ما قاله سبنسر Herbert Spencer، وهذا الإيراد أورده من قبل الفيلسوف الألماني الأشهر كانط Kant صاحب نقد العقل المحض، كما أخذ به فلاسفة كثيرون للأسف الشديد، فالفيلسوف البريطاني المُلحِد برتراند راسل Bertrand Russell في كُتيبه الشهير “لماذا لست مسيحياً؟” يقول كنت مُقتنِعاً في البداية ببرهان العلة الغائية أو ما يُعرَف ببرهان النظام أو النظم والآن يُعرَف ببرهان التصميم – Argument Design – حتى بلغت الثامنة عشرة من عمري، فوقعت على هذه العبارة للفيلسوف الإنجليزي الشهير جون ستيوارت ميل John Stuart Mill في كتابه السيرة الذاتية – Autobiography – التي يقول فيها كان أبي يُردِّد ويقول إن سؤال مَن خلق الإنسان؟ أو مَن خلقني؟ لا معنى له، لكن لماذا لا معنى له؟ هذا السؤال سؤال فارغ بلا معنى، وإن كان من جهة نحوية صحيحاً ولكنه من جهة فلسفية ومنطقية ليس له معنى، فهذا هو والد جون ميل John Mill – علماً بأن الفيلسوف النافعي جون ميل John Mill هو صديق بنتام Bentham – إذن،ثم قال لأن الجواب العتيد والمطروق عنه الله، وهنا بسذاجة طفل يثور سؤال – حتى الطفل يسأله وليس الفيلسوف الكبير – فمَن خلق الله؟ أنت تقول الله خلقني إذن فمَن خلقه؟ لا جواب إذن لا خالق، هكذا بكل بساطة!

يقول برتراند راسل Bertrand Russell ولما وقعت على هذه الجملة كففتُ عن قناعتي الأولى وصرت مُلحِداً، ولاأزال إلى اليوم مُلحِداً مُقتنِعاً بغباء هذا الجواب، إذن دليل التصميم أو دليل النظام ودليل العلة الغائية هو دليل غبي مُتهافِت طفولي ساذج، لكن هل هذا صحيح؟ علماً بأن عالم الرياضيات والفيلسوف والمُربي وعالم الاجتماع وداعية السلام الشهير برتراند راسل Bertrand Russell ليس فيلسوفاً من حجم وسيط أو صغير، فهذا السؤال نفسه الذي أشار إليه المُصطفى المحمد – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله – يتردَّد باستمرار، إنه مشغلة لكبار الفلاسفة، كما أنه محارة للعوام وعموم المُثقَّفين، فهو يُوجِب لهم الحيرة والتردد والتشكك، وطبعاً العوام ضناً بإيمانهم يكعون وينكصون، يكبتون هذا السؤال ويهربون منه ويفرون، أما الذين يُواجِهونه فمن عائدٍ بإيمان وثيق ومن ظافرٍ بالخيبة والخسران، وعلى كل حال هناك النفي والحيرة والتشكك والتردد على اختلاف الناس، إذن هو سؤالٌ خطير لا شك، لكن كيف الجواب عن هذا السؤال؟ الجواب سيكون مُسهَباً ويكون نوعاً من التطواف في قضايا علمية وقضايا فلسفية – وفقَّني الله وأعانكم الله – أيضاً، بعضه سيفهمه بعضٌ وبعضه لن يفهمه إلا الأقل، لأن هذا الجواب يُرجى ويُقصَد منه أن يكون لمَن حيَّره هذا السؤال، ليس فقط لهذا الجمهور الكريم – أكرمكم الله جميعاً بفضله – وإنما لمَن حيَّره هذا السؤال بشكل عام، وللأسف الشديد يبدو – كما قلت غير مرة وكما تقرأون وتُتابِعون في الفضائيات وفي الشبكة العنكبوتية – أن المد الإلحادي يزداد في العالم العربي، فهو يزداد حقيقةً وبشكلٍ مُقلِق، وأنا يومياً تأتيني اتصالات من أشخاص مُثقَّفين وبعضهم علماء وأكاديميون يتكلَّمون في هذه القضية، حيث تُوجَد مُعاناة حقيقية، لذا نحن نتكلَّم في هذه القضايا وقد يغمض الكلام ويصعب قليلاً ويعمق ويطول ويعترض أو يستطيل بداراً – كما كان يقول أدباؤنا كأبي حيان وغيره – لأن يُلحِد كثيرٌ من أبنائنا وبناتنا، أي أننا نتكلَّم بداراً أن يُلحِدوا، فنحن نقيم السدود دون هذا الطوفان الإلحادي الذي نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُنقِذ منه شبابنا وشوابنا والأجيال الحاصلة والأجيال الجائية، وهو المأمول في إجابة دعائنا وفي إرشادنا إلى ما يُحِبه ويرضاه، فالأمر جد والأمر خطير، ولنبدأ بالجانب الأسهل وهو الجانب العلمي.

ليس الشأن مع الماديين عموماً والملاحدة خصوصاً أيسر ولا أهون منه لدى المُؤلِّهة، فشأنهم أيضاً صعبٌ جداً، فعلى الماديين وعلى الملاحدة أن يعيِّنوا مبدأً لهذا الوجود، وعليهم أن يُفسِّروا لنا كيف نشأ هذا الوجود، ولكن انتبهوا إلى أن قبل مُدةٍ ليست مديدة إلى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان الأمر أهون عليهم، لماذا؟ كانوا يهرفون بعقيدة أزلية المادة ويقولون أن المادة أزلية، لكن كيف هى أزلية؟ كيف تتسع عقولكم لتقبل هذا الاعتقاد الذي يقول بأن المادة أزلية؟ بمعنى أن لا بداية لها وأنها لم تزل كما يقول المُتكلِّمون ولاتزال، فليس لها بداية وبالتالي ليس لها نهاية، فهم يقولون أنها أزلية أبدية صرمدية كما تتسع عقولكم للقبول بعقيدة الله الأبدي، فأنتم تقولون يُوجَد إله أبدي ليس له بداية ونحن نقول تُوجَد مادة أبدية، فهكذا هم يقولون ولكنني أُسارِع إلى تسجيل المُلاحَظة التالية لأننا هنا سنتعاطى بطريقة علمية في النقاش، فسوف أقول أي الفرضيتين أقدر على تفسير الوجود: مادة أبدية أم إله أبدي؟ والفرق كبير بين المادة كما يُصوِّرها المُؤمِنون بها وبين الإله كما يُصوِّره المُؤمِنون به، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فأي الفرضيتين أقدر على تفسير الوجوج إذن؟ سوف نرى الجواب وعلمياً، أي بمنطق علمي، وسوف نراه أيضاً بمنطق فلسفي، لأن العلم وحده لا يكفي، وعموماً الأسئلة النهائية العلم يفشل في مواجهتها، هذا مُستحيل لأن العلم لا يستطيع هذا، الأسئلة النهائية دائماً ترمي بنا في خضم أجوبه وافتراضات واقتراحات لا نهائية، علماً بأنني سوف أُوضِّح هذا لأنه يحدث باستمرار، وفي النهاية عليك أن تقبل باللامُتناهي، سواء أكان هذا اللامُتناهي هو الله – تبارك وتعالى – أو المادة في تصويرٍ لها أو خط من السلاحف لأن الأرض مُستقرة على متن سلحفاة، والسُلحفاة على سلاحف أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية وفقاً إلى هذه الخُرافة السخيفة، ولكنها أيضاً خُرافة اللامتناهي، وهى تقول يُوجَد سطرٌ أو خطٌ لا نهاية له من السلاحف، وكل سُلحفاة تُفضي إلى أخرى وهكذا، أو القوانين اللانهائية وإلى آخره، لكن لماذا؟ كما يقول العالم الفيزيائي الشهير الإنجليزي الأصل طبعاً والمُدرِّس والمُقيم حالياً في أستراليا بول ديفيز Paul Davies لأن العالم الفيزيائي والوجود الفيزيائي لا يجد جذره في الفيزياء ولا في العالم الفيزيائي، بل في ما وراء الفيزياء، في شيئ يتجاوز المادة وحتى قوانين وحالات المادة، علماً بأننا سوف نشرح هذا أيضاً علمياً، ولذلك هذه الأسئلة في النهاية تُلقي بالعالم في ساحة الفلسفة رغماً عنه، أما إذا أراد ألا يتفلسف فعليه ألا يبحث هذه المسائل أيضاً، ولا يتكلَّم بجواب لا نفياً ولا إثباتاً، فقط يقول أنا عالم وقُصاري أن أبحث في عالم الحس وفي ما تناله وتُباشِره التجربة، أما ما لا تُباشِره التجربة فليس من اختصاصي،ولكنهم لا يفعلون هذا، فالعلماء مُعظمهم يتحوَّلون إلى فلاسفة، وإن كان مُعظمهم فلاسفة ضعفاء وأحياناً سخفاء مثل ستيفن هوكينغ Stephen Hawking، فهم فلاسفة سخفاء جداً، وسوف ترون اليوم كيف يتكلَّم الفلاسفة في هذه القضايا وكيف يتكلَّم العلماء، يُوجَد فرق ٌكبير كما بين السماءِ والأرض، فتفكير الفيلسوف أعمق وأدق وأكثر إحكاماً وأدخل وأوغل في التجريد العقلي لأنه فيلسوف، ولذلك كان أذكى أذكياء البشر هم الفلاسفة وليس العلماء، ويليهم – كما قلت مرة – الفنانون ثم يليهم العلماء،فالعلماء في الرُتبة الثالثة، أي أنهم ليسوا في الرُتبة الأولى ولا حتى الثانية، ولذا الفنان أذكى من العالم، ولكن أذكى الكل هو الفيلسوف، وبديهي ألا يكون رجل الدين الغربي الأذكى، فهذا مُستحيل طبعاً، فلا يُمكِن أن يكون الواعظ الغربي هو الأذكى ولذلك هو يغضب من هذا التصنيف، فهو مُتأخِّر جداً عن كل هؤلاء، ولكن إذا أحسن أن يفهم لغة هؤلاء سوف يكون على خيرٍ كثير وعلى خيرٍ عميم.

نعود الآن إلى العلم، فأزلية المادة الآن تقريباً في منطق العلم هى أسطورة من أساطير الأولين والآخرين لأنها ظلت حية إلى بداية القرن العشرين، فهى أسطورة عفت ودرست لم تعد مقبولة، وإلا كيف تكون المادة أزلية؟ هذا مُستحيل.

نحن لدينا القانون الثاني للديناميكا الحرارية الثيرموديناميكس Thermodynamics،أي القانون الثاني المعروف بقانون كارنو Carnot، والقانون الثاني للديناميكا الحرارية باختصار ينص على أن الحرارة في الوجود أو في الكون تنتقل من الأجسام الساخنة إلى الأجسام الباردة، وهذا معروف ولذلك نحن الآن إذا قبضنا على شيخ ساخن سنشعر بسخونته فنُلقيه وننبذه عنا، لماذا؟لأن الحرارة انتقلت منه إلينا، واليد أبرد منه، والعكس صحيح، فحين تُصافِح زميلك يقول لك يدك ساخنة، وأنت تقول له لأن يدك باردة،وإذا حدث العكس لقلت له يدك دافئة، أي لأن يدك أقل دفئاً، وهذا هو باختصار تبسيط مبدأ قانون الإنتروبيا Entropy أو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، وهذا القانون يقتضي أيضاً أن في عملية انتقال الحرارة على هذا النحو وبهذا الشكل دائما حين تدخل الطاقة المُتاحة – باللغة السورية تقريباً الميسورة، فهم يقولون الطاقة الميسورة – في عملية تحول حراري يُفقَد منها دائماً، فتُصبِح طاقة غير مُتاحة، أي كما نقول الفاقد، وباختصار في النهاية سيصل الكون إلى نُقطة التوازن الثيرموديناميكي Thermodynamic أو التوازن الحراري، وهى النقطة المعروفة بالموت الحراري، فالكون سيموت حرارياً أو يتموَّت حرارياً، وهى النُقطة أيضاً المعروفة بنُقطة الإنتروبيا Entropy العُظمى الأقصوية، وهى نُقطة فوضى مُطلَقة هائلة، لكن باختصار ما هو الموت الحراري أو التوازن الثيرموديناميكي Thermodynamic؟ هو أن تبلغ درجة حرارة الكون الصفر المُطلَق، وهو الصفر على تدريج كلفن Kelvin أو ناقص مائتين ثلاثة وسبعين على سلسيوس Celsius، وهى الدرجة التي نتعاطى بها، وعند الصفر المُطلَق كل شيئ يتوقَّف، حركات الجسيمات والذرات وأجزاء الذرة وكل شيئ يتوقَّف، فإذن تنتهي الحيا، تنتهي العمليات الطبيعية والعمليات الكيمياوية وينتهي الوجود كما نعرفه، وقد يقول لي أحدكم ما علاقة هذا بذاك؟ ما دخالة هذا كله في أبدية الكون وأزلية الكون أو لا أزلية الكون؟ الدخالة واضحة جداً، فلو كان الكون أزلياً يعني لا نهاية له في الماضي كان بلغ الكون التموت الحراري من بلايين بلايين بلايين حتى انقطاع النفس السنين، ولا ما وُجِدنا إلى اليوم لكي نتحدَّث عن التموت الحراري، فالكون ليس ميتاً حرارياً، وهذا يعني أن الكون شاب أو طفل، فالله أعلم من متى هذا، هم يقولون هو مخلوق من 13,7 مليار سنة، أي أن عمره يصل إلى ثلاثة عشر الف مليون وسبعمائة مليون سنة، وهذا تقدير دقيق جداً دعمته تجارب علمية دقيقة أيها الإخوة، فهذا هو الكون، وليس لا نهاية له، فإذن أزلية المادة أصبحت أسطورة، وحتى الكيمياء الجيولوجية – Geological Chemistry – التي تُقدِّر أعمار الأشياء الآتية إلينا من الأجرام السماوية البعيدة -أجزاء من شُهب ونيازك – كما تُقدِّر أعمار الطبقات الأرضية – جيولوجيا الأرض وكيمياء الطبقات الأرضية – تقول لنا حسب اعتماد معايير وآليات كثيرة من ضمنها النشاط الإشعاعي والتحلل الإشعاعي أن الكون ليس أزلياً، لكن لماذا؟ لأن لو كان أزلياً لما وجدنا تحللاً إشعاعياً ولانتهى التحلل الإشعاعي أو ما يُعرَف بالـ Decay، أي كان انتهى، فلا يُوجَد Decay، لماذا؟ لأنه أزلي، ولكن مازالت المواد تتحلَّل، وهذا يعني أن الكون فتي، فهذا هو العلم إذن، هذا علم وليس فلسفة ولا افتراضات وهمية، فإذا قلت لا أنا أقبل بأن الكون أزلي لا بداية له فلتقبل، أنت حر ولكن العلم لا يقبل هذا.

ثالثاً وأخيراً حتى لا نُطوِّل في قضية أزلية الكون تُوجَد نظرية الانفجار العظيم أو الانفجار الكبير الـ Big Bang Theory، علماً بأن مُعظم علماء الكونيات – الكوزمولوجيا Cosmology – أو معظم الكوزمولجيين يقبلون اليوم بأن الكون له بداية، لا يقولون بأن الكون أزلي ليس له بداية كما كان يعتقد كثيرون، وقد اعتقد ماركس Marx وإنجلز Engels ومن قبلهم اعتقد كانط Kant هذا للأسف الشديد،فكانط Kant كان يعتقد بأزلية الكون، وأرسطو Aristotle وابن سينا والفرابي وابن رشد وابن الطفيل وابن باجة كلهم اعتقدوا بأزلية المادة، وهذا غير صحيح،فهذا أمر عجيب، لكن العلم هو الذي أبطل هذه الفلسفة وأبطل هذا الاعتقاد ودحض هذا اليقين الفارغ.

نظرية الـ Big Bang تقول باختصار أن الكون عمره 13,7 مليار سنة، وأن قبل ذلك كان لا يُوجَد كون، لكن كيف هذا؟ ما القضية؟ شرحناها أكثر من مرة بل عشرات المرات، ولكن باختصار لأننا سوف نستل منها شيئاً أو نفتح باباً نعبر من خلاله إلى مسألة أخرى من مسائل خُطبة اليوم علمياً ونحن نتعاطى علمياً مع مسألة مَن خلق الله عياذاً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ۩.

يقولونالكون قبل هذه المُدة كان عبارة عن شيئ مُتفرِّد، أي Singularity، وهذه يُسمونها الشذوذ، وأنا أسميها الشُذيذة المُتفرِّدة المُتوحِّدة، فلماذا؟ لماذا نعتوه هذا الشيئ أو هذا الإكس (X) بأنه Singularity؟ لأنه يخرق كل القوانين وكل الجدر الفيزيائية، فهناك جُدر – Walls أو Wände – فيزيائية ممنوع أن تُخترَق، لماذا؟ لأن اختراقها يعني إبطال قوانين الفيزياء وإبطال العقل، فالعقل العلمي سوف يقف عاجزاً حالة إذ، علماً بأن كلها تقريباً لها علاقة بالعالم الألماني الكبير مُؤسِّس فيزياء الكم أو ميكانيكا الكم ماكس بلانك Max Planck، ومن هنا يُقال لك زمان بلانك Planck ومسافة بلانك Planck وكثافة بلانك Planck، وكل هذه الجُدر البلانكية تُخترَق في الـ Singularity، أي أنها مُخترَقة، بمعنى أن هذه القوانين الحالية لا تنطبق عليها ولا تُفسِّر شيئاً، فهى تتوقَّف إذن، علماً بأن زمان بلانك Planck يُساوي عشرة مرفوعة إلى أس ناقص خمسة وأربعين، وهذا لا يُمكِن للفيزياء أن تتعاطى معه، فمع عشرة مرفوعة إلى الأس ناقص خمسة وأربعين تعجز الفيزياء ويعجظ عقلنا هنا، ورياضياتنا تتوقَّف وتتجمَّد وتفشل تماماً، فهذا لا يُمكِن أبداً، لكن الـ Big Bang يتعاطى مع هذا الشيئ، وهذا أمر عجيب، ثم أنه بعد ذلك قال لك أن مسافة بلانك Planck تُساوي عشرة أس ناقص ثلاثة وثلاثين سنتيمتراً،وطبعاً هذه الـ Singularity من رُتبة عشرة أس ناقص أربعة وثلاثين سنتيمتراً، معناها أنها فعلاً شاذة، وبعد هذا الزمان يبدأ تعاطي العقل والقوانين والفهم لهذه المسائل، أما كثافة بلانك Planck تُساوي عشرة مرفوعة إلى أس ثلاثة وتسعين جرام لكل سنتيمتر مُكعَّب، فنحن الآن نتحدَّث عن الكثافة وعن الحجوم، والكثافة هذه عشرة أس ثلاثة وتسعين جرام، أي بلايين بلايين بلايين بلايين بلايين بلايين بلايين الكيلو جرامات في السنتيمتر المُكعَّب، أف وهذا شيئ رهيب، فهل تعرفون هذا السنتيمتر المُكعَّب بهذه الكثافة كم يزن؟ أثقل من كل الكون، طبعاً لأن هذه هى الشُذيذة ومنها جاء الكون، فهى أثقل من كل الكون وهذا خرق لجدار بلانك Planck، الكون كان أكثر بدرجة من هذه الكثافة – وهذا أمر عجيب – ثم حدثت الفرقعة، والآن الشروط البدئية – كما يُقال في علم الفيزياء وفي علم الطبيعة – مُتوافِرة موجودة، فهو قال لك هذه هى الشروط البدئية، لكن عن أي شروط بدئية تتحدَّث؟ نحن في الحالة العادية نتحدَّث عن شروط بدئية محكومة بماذا؟ بالمُحيط وبالبيئة الطبيعية وبالجُملة وبالنظام، أليس كذلك؟وهى شروط قابلة لأن تُدرَس، لكن هنا الشروط البدئية شيئ مُختلِف تماماً، فهذا لا يُعزى إلى شيئ قبله ولا يُفسَّر ببيئة أو نظام، لا تُوجَد بيئة ولا يُوجَد نظام، هناك Singularity، وهذا شيئ يُجنِّن، ولكن نحن نُسجِّل إعجابنا وانبهارنا ودهشتنا – حقيقةً – بهذه العقول الضخمة الهائلة العظيمة، أي بعقول هؤلاء القوم التي تبحث على هذا النحو في نشأة الوجود، فما هذا الذكاء يا أخي؟ ما هذا الإصرار؟ ما هذه العبقرية؟ ما هذا الخيال؟ وهذا كله في مُقابِل السذاجة والسطحية والبلادة والغباوة والأساطير والخُرافات، لكن هذا هو العلم، هو شيئ مُخيف يتجاوز الخيال بمراحل، لا يُوجَد خيال يُمكِن أن يطفر إلى مثل هاته المدايات أو في مثل تلك المدايات، أي لا يستطيع الخيال أن يبلغ تلك المدايات، فهو يكع عنها ويتراجع ويجبن، لأن الخيال ليس لديه طاقة لأن يفعل هذا، فالشروط البدئية أيضاً هى شروط شاذة تماماً، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن حين حدثت هذه الفرقعة وبدأ الكون يتسع – وهو إلى اليوم لايزال يتسع ويمتد – نشأ الكون كما نعرفه، أي نشأ الكون كما يعرفه العلماء، ومَن أراد أن يقف بالتفصيل من غير أن يُوغِل في التخحصص ليقف على كتاب الفيزيائي المُلحِد ستيفن واينبرج Steven Weinberg الدقائق الثلاث الأولى، فهو يُفصِّل لك تفصيلاً يُمكِن أن يفهمه إنسان غير مُتخصِّص في هذا العلوم كيف بدأ الكون ينشأ وكيف تكوَّنت الدقائق الصغيرة ثم المادة بشكل عام والذرات وما إلى ذلك، والهيدورجين Hydrogen كعنصر وإلى آخره، ثم نشأت الحياة ونشأ الوعي، ونحن هنا نتكلَّم عن هذه القضية، حيث يقول العلماء يبدو أن هناك توافقاً دقيقاً جداً جداً بين القوانين وبين الشروط البدئية التي هى شروط غير مُعطاة بطريقة نفهمها لكنها وُجِدَت هكذا كما يقولون بطريقة خام، فهى موجودة هكذا، لكن مَن أوجدها؟ يقولون لا نعرف، هناك قوانين، وفق هذه القوانين تم التوليف بين القانون وبين الشروط البدئية لينتج لنا الوجود كما نعرفه اليوم وندرسه، لكن مَن الذي قام بهذه التوليفة؟ ثم أن السؤال الصعب والصعب جداً بعد ذلك والذي ينبغي على كل مُلحِد أن يُجيب عنه إذا أراد أن يُلحِد عن علم لا عن جهل وعن إرادة فارغة هو مِن أين أتت هذه القواني؟ مَن الذي قنَّن هذه القوانين؟ للأسف بعض الفيزيائيين الملاحدة اقترحوا أن القوانين وُجِدَت بوجود الكون، فمع الانفجار العظيم بدأت تتكوَّن هذه القوانين، وهذا الكلام فارغ فلسفياً وعقلياً، وعلمياً إلى حد بعيد هو كلام فارغ، فهل تعرفون لماذا؟ لأنها لو كانت كذلك لعجزت عن إحداث التوليفة المطلوبة، وهى توليفة جاءت بشكل ناعم جداً بلغة الرياضي الإنجليزي الكبير روجر بنروز Roger Penrose، فهى أتت بطريقة ناعمة جداً Very Smoothly، ومن هنا يتحدَّث عن الرنين ويقول هذا هو الرنين المُتناغِم، لماذا؟ لأن لو لم تحدث هذه التوليفة لما وُجِدَ الكون كما نراه الآن ونرصده، ولكان ما كان هو كونٌ آخر – كما يقول روجر بنروز Roger Penrose في كتابه أباطرة العقل الحديث – كوناً من الأهوال، مُجرَّد ثقوب سوداء ومُصطرِعة في الكون، وطبعاً الثقوب السوداء الإنتروبيا Entropy فيها أقصوية، هناك فوضى – Chaos – تامة وليس كوناً مُتناغِماً وفيه حياة وحياة عاقلة مُتفلسِفة عالمة مُجرِّبة مُفترِضة، فإذن لو صح زعم هؤلاء وكانت هذه القوانين وُجِدَت بوجود الكون لما أمكنها ولا أمكننا أن نُفسِّر كيف قام هذا التوليف أو التركيب، ثم لكانت هذه القوانين عاجزةً أن تُفسِّر لنا نشوء الكون، لأنه لا ينشأ إلا وفق توليفة وإلا وفق خُطة، أي أنهم يتحدَّثون عن ماذا؟ عن مُخطَّط – Blueprint – أو خارطة مُعيَّنة، ويقولون حين ندرس الكون واضح أننا نُواجِه أو أننا بإزاء مُخطَّط – Blueprint – أو خارطة، وبعضهم طاب له أن يُشبِّه هذه العملية بماكينة مُعيَّنة كالتي تفرم اللحم وكالتي تصنع السجق – Wurst – وإلى آخره، فهناك مُدخَلات – Inputs – وهناك مُخرَجات وهناك نظام مُعيَّن للتعاطي Processing تتعلَّق بكيفية إتمام العملية وهذه الصيرورة، فإذن نحن عندنا مُدخَلات، لكن ما هى هذه المُدخَلات؟ شروط بدئية Initial Conditions، والشروط البدئية – كما قلنا – شاذة، فهى شاذة وليس لها نظير وغير مسبوقة بزمان ولا مسبوقة بمثال، وهذا معنى قول الله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، ومعنى بَدِيعُ ۩ أنه يخلق على لا مثال لا إله إلا هو، وتخيَّلوا لو أن البشرية – وهذا مُحال بل أمحل المُحال – نجحت في يوم من الأيام أن تُحدِث انفجاراً كبيراً – هذا لو صحت نظرية الـ Big Bang تماماً – ومن هذا الانفجار الكبير الذي صنعوه في معمل بدأ يتوسَّع كون ما، كون عجيب تنشأ فيه حياة، فإننا سوف نقول أن هذا لا ينفي وجود الله، وسنتخيَّل أن الله – تبارك وتعالى – يقول لهم هذا جميل جداً، أنتم مُقلِّدون بارعون لكن اصنعوا كونكم بانفجار آخر وبطريقة أخرى ليست بطريقتي، أنتم درستم طريقتي وأنتم تُقلِّدون طريقتي، لكن أنا لم اُقلِّد أحداً، أليس كذلك؟ وهذا هو معنى قول الله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، فأنت ستبقى مُقلِّداً، مُجرَّد مُقلِّد وهذا أصلاً أمحل المحال، فأمحل المحال أن تصنع كوناً من انفجار كبير في معمل أو حتى في فراغ رباعي أو فراغ أينشتاوي، وعلى كل حال لا علاقة لنا بهذا، فنترك هذا إذن ونعود لكي نقول أن المُدخَلات هى الشروط البدئية، لكن داخل هذه الماكينة كيف تجري العملية؟ بقوانين فيزيائية، فهناك قوانين، ومن ثم السؤال يثور من فوره هو مَن قنَّن القوانين؟ هناك قوانين لكن مَن قنَّن القوانين؟ مَن وضع القوانين؟ من أين أتت هذه القوانين؟ أما المُخرَجات فما هى؟ المُخرَجات عقل أو عالم كما ترون، كون مُتناغِم ونظام، فلا يُوجَد Chaos وإنما كوزموس Cosmos، وكلتاهما كلمتان يونانيتان، علماً بأن Chaos معناها فوضى أو شواش أو هيولة أو حالة هولانية، وأما الكوزموس Cosmos فهو نظام وجمال، وإلى اليوم نقول – سبحان الله – الجمال والجلال، صفات الله الجمالية وصفات الله الجلالية، فالجلال في كيف خلق الله هذا الوجود، لأن هذا الوجود مخلوقاً، وعظمة هذا الكون بادية، تقول الآية الكريمة لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ۩، وتقول الآية الكريمة تَبَارَكَ الَّذِي – مُبارَك لا إله إلا هو – بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۩، وكذلك يُوجَد الجمال، ومن هنا يقولون Cosmetics، أي أدوات التجميل، فهى أتت من كلمة كوزموس Cosmos، وعلى كل حال يُوجَد جلال وجمال، Chaos and Cosmos، وهذا شيئ وهذا شيئ، وهذه هى المُخرَجات إذن وهذا هو سؤال القوانين.

سنُغادِر نُقطة العلم بإيضاح أخير حتى نأتي إلى الفلسفة الصعبة التي نعوذ بالله منها إلا ما هدى إلى الله تبارك وتعالى، وعلى كل حال يقترح بعضهم أن تقرأ تحصينات وتعويذات قبل أن تقرأ الفلسفة ولا بأس في هذا، فنحن دائماً نتحصَّن بالله ونلوذ بجنابه لا إله إلا هو، وكما قيل:
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى                     فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ.

فهذا صحيح، والمُرادُ مُختلِف، لكن هناك مسألة مُهِمة جداً، فالتطوريون يقفزون لك أو يقفز أحد أو جماعة من التطوريين مثل ريتشارد دوكنز Richard Dawkins – العالم الكبير في الأحياء والفيلسوف المُتهافِت والسخيف جداً إلى حد السُخف – لكي يقول لك الانتخاب الطبيعي – Natural Selection – أو الانتقاء الطبيعي، لكن كيف تُريد أن تُفسِّر نشأة الكون بانتقاء طبيعي؟ سوف أُظهِر لكم حجم ومدى التهافت والسُخف في مثل هذا الاقتراح الذي يقول بالانتخاب الطبيعي، فلا يُوجَد انتخاب طبيعي، لكنهم أيضاً يُفسِّرون كل شيئ بالانتخاب الطبيعي، وضحكوا على بعض الناس وجروهم إلى الإلحاد والنفي والإنكار، لكن باختصار الانتخاب الطبيعي آلية على ما يبدو فيها نوع من الذكاء وقدر وحظوظ من النجاح في تفسير بعض الظواهر الحيوية البيولوجية، وهم يُضرِبون أمثلة في هذا الصدد، وأنا سأضرب مثالاً، وهذا المثال موحٍ وناجح، فما هو سر نجاح الدب القطبي في الاستمرار في الحياة والعيش في مكانه هناك في عالم الثلوج والبياض؟ واضح أن السر الأول هو كونه أبيض – الدب القطبي أبيض – طبعاً، ويقول علماء الأحياء التطورية الدب لم يكن قبل ملايين السنين أبيض هناك، فالدب كان دباً رمادياً أو بُنياً، أي أنه كان مُلوَّناً، وحين يتربَّص لفريسته ويسعى إليها في أكثر الأحيان كان يفشل، لماذا؟ لأن لونه واضح جداً، علماً بأنني سأشرح لكم ما هو الانتخاب الطبيعي وكيف يعمل الانتخاب الطبيعي، لكن على كل حال كان لونه واضحاً جداً، فالفريسة أو الطريدة حين تراه تهرب منه، وطبعاً لابد أنه كان أحياناً يُباغِتها ويقتلها، فيتحصَّل على غذائه ليوم أو ليومين أو حتى ربما لأسبوع، وهذا جميل جداً، لكن بطفرة – Mutation – تغيَّر لونه، فهم يقولون هناك طفرات تحدث أحياناً، وهذه الطفرات موجودة لكن كم منها النافع؟ أقل من واحدة في المائة، فهى أقل من هذا وخاصة في عالم الحيوان، بخلاف عالم النبات، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أهمية هذا في علم الأحياء، فهم يقولون هناك طفرة حدثت مثلما تحدث بعض الطفرات؟ لكن لماذا تحدث الطفرات أصلاً؟ هذه قضية كبيرة أيضاً في علم الحياة، فالكون يتدخَّل فيها والأشعة الكونية تتدخَّل والميونات – في الفيزياء – تتدخَّل وكل هذه الدقائق العجيبة تتدخَّل في إحداث الطفرات، وهذا موضوع آخر، لكن على كل حال تحدث طفرة نتيجتها دب أبيض، أي يُولَد الدب أبيضاً، وذلك في واحد من بين إخوانه، وهذا الدب الأبيض سيثبت سريعاً أنه أحسن تكيفاً من غيره، فسوف تكون حظوظه أوسع وأكثر في اصطياد فرائسه وطرائده، وبالتالي سوف يعيش أطول إذن، لكن الدبب الأخرى ربما تموت بالجوع وبالشر كما نقول باللغة العامية، فهم يسمون الجوع شر مثلما يقول أهل ليبيا، وهو فعلاً شر، بل هو من شر الشر، وعلى كل حال ستموت هذه الدببة بالشر، لكن هذا أيضاً له حظٌ في أن يتناسل لأنه عاش، وكلما عاش أطول تناسل أكثر، وهكذا بعد ألوف السنين تكثر الدببة البيضاء، وتدنثر الدببة البُنية أو المُلوَّنة، إلى أن تندثر من عند آخرها ولا يبقى إلا الدب الأبيض، وهذا كلام جميل جداً، وبحسب منطق التطور والانتقاء الطبيعي هذا كلام منطقي تطورياً، وصحيح أنه يُفسِّر أشياء كثيرة هذا، ولكن هذا موضوع آخر، فالسؤال الآن كيف يحدث الانتخاب الطبيعي أو الانتقاء الطبيعي أو الاصطفاء الطبيعي؟ هذا الـ Selection كيف يحدث؟ يحدث ضمن شروط مُعيَّنة، وفي رأس هاته الشروط وجود مجموعة يجري عليها الانتقاء الطبيعي، أي أن الأمر لا يُمكِن أن يتعلَّق بدب واحد، إذا مات دب واحد بني انتهت الحكاية وانتهى الفيلم وانتهى كل شيئ، لكن لابد من وجود مجموعة من الدببة بالعشرات أو بالمئات أو بالألوف أو بمئات الألوف ويجري عليها الانتقاء في زمنية طويلة، فمن المُمكِن أن تمر عشرة آلاف سنة دون أن تحدث الطفرة، ولكن في حالة العدد الكبير سوف يندثر مَن يندثر ويموت مَن يندثر، ولاتزال الدببة عائشة، فهذا الشرط مُهِم جداً في فهم آلية الاصطفاء الطبيعي، وهو وجود مجموعة كبيرة من الأفراد التي من المُفترَض أو المفروض أن يجري عليها الانتقاء الطبيعي، لكن السؤال الآن هل كان هناك لدينا من هذه الـ Singularity أو بيضة الكون أو شُذيذة الكون الألوف منها أو الملايين وتم تفجير هذه أو انفجار هذه وهذه وهذه وهذه وهذه وهذه – نحن لا ندري كيف هذا، هذا الانتخاب غير طبيعي، هو انتخاب كوني Cosmic Selection، فيُمكِن أن نُسميه بالانتخاب الكوني – ثم تم انتخاب أحد هذه الأكوان؟ لا يقول بهذا علماء الكوزمولوجيا Cosmology أو علماء الكونيات، فنحن لدينا فقط شُذيذة واحدة، لكنهم قالوا أن هذا غير صحيح وأن هناك نظريات تُثبِت هذا، وللأسف فيها تعقيد، أولاً هناك نظرية الحالة المُستقرة Steady State theory، ثانياً هناك نظرية الأكوان المُتوازية أو الأكوان المُتعايشة وهى لا نهائية، لكنما قصة هذه وهذه؟ باختصار حتى نذهب إلى الفلسفة أو نمضي إلى الفلسفة نقول أن قصة نظرية الحالة المُستقرة – Steady State theory – هى بمثابة التفاف أوهروب من المُشكِلة، وقد وضعها ثلاثة إنجليز أيضاً وهم بوندي Bondi – هيرمان بوندي Hermon Bondi – وتوماس جولد Thomas Gold – جولد Gold الذهبي – وفريد هويل Fred Hoyle الفيزيائي والرياضياتي الكبير المُلحِد، لكن ماذا قالوا؟ قالوا لا تُوجَد بداية أصلاً، فليس ثمة بداية للكون وكذلك ليس للكون نهاية، فالكون موجود أبداً، لكن ماذا عن القانون الخاص بكارنو Carnot والثيرموديناميكس Thermodynamics وما إلى ذلك؟ قالوا لا نأبه لا بكارنو Carnot ولا ثيرمو Thermo لأن نحن لدينا فكرة أتى بها فريد هويل Fred Hoyle، فما هى؟ الحقل التخليقي أو حلق الخلق Creation Field، وهذه قصة كبيرة، فهذا الحلق – Field – يعمل – علماً بان هذه كلها مسائل افتراضية وخيالية -على إنتاج وتخليق جسيمات – جسيمات المادة – وبالتالي يتسع الكون باستمرار لتعويض الكثافة الناقصة فتُخلَق مادة باستمرار، والكون وسطياً في كل مكان وفي كل لحظاته عبر الزمان هو هو، أي أنه لا يتغيَّر.

إذن أنا الآن بسَّطت لكم باختصار وبجُمل بسيطة نظرية الحالة المُستقرة، ولكن هذه النظرية مكثت عشر سنوات ضد نظرية الـ Big Bang ثم ماتت بالسكتة القلبية، آخر مسمار دُقَّ في نعشها سنة ألف وتسعمائة وخمس وستين، لماذا إذن؟ هذا حدث لما اكتشف العلماء إشعاع الخلفية، وهو المعروف بإشعاع الخلفية الكونية Cosmic Background Ray، وأنتم تتذكرون أن في التسعينيات أرسلوا المسبار الفضائي الذي كان إسمه كوب COBE إلى الفضاء، لكن ما معنى COBE؟ معنى كوب COBE المُستكشِف إشعاعي الخلفية الكونية Cosmic Background Ray Explorer، لكن لماذا حدث هذا؟ وما هى قضية الإشعاع هذا؟ علماً بأن هذا اكتشفه العلماء وسُجِّلَوه ورُصِدوه، فهذا كله خضع للرصد الكامل، فهذا الإشعاع وُجِدَ أن الكون كله – هذا الفراغ الكوني أو الفضاء الكوني الفسيح السحيق – يسبح في إشعاع بارد جداً، فهو درجة حرارته قريبة من الصفر المُطلَق لأنها تصل إلى ناقص مائتين وسبعين، أي أعلى من الصفر المُطلَق فقط بثلاث درجات، ولو كان الأمر أقل من ثلاث درجات سوف يتموَّت هذا الكون حرارياً، وفهم العلماء القصة وقالوا هذا من مُخلَّفات الـ Big Bang، علماً بأن العالم بنزياس Penziaz والعالم ويلسون Wilson أخذا جائزة نوبل Nobel لعملهما على إشعاع الخلفية الكونية وتفسير الشواش في الموجات الراديوية، وهذه قصة طويلة جميلة بل هى مُغامَرة، فإحدى أجمل مُغامَرات العلم الكوزمولوجي Cosmology الحديث هى مُغامَرة بنزياس Penziaz وويلسون Wilson وكيف أنهما حصلا على نوبل Nobel بسبب هذه المُغامَرة – Adventure – العلمية الجميلة والرائعة جداً، فهنا ثبت أن الـ Big Bang صحيحة وأن الـ Steady State تُعتبَر كلاماً فارغاً، لكن الحالة المُستقرة – Steady State – تقول أيضاً الكون وسطياً هو هو، لكن بالتلسكوبات Telescopes وحتى الضوئية قبل ذلك ثبت أن الكون ليس هو هو وسطياً، فهذا غير صحيح بالمرة، وهذا رأي العين، فنحن رأيناه رأي العين، لذا ليس هو بل هو مُتفاوِت بحسب جريان الزمن، فنجم من النجوم – مثلاً – ليس هو كذاته قبل اثنين بليون سنة، هذا مُستحيل، فهذا مُختلِف طبعاً ورأينا هذا بالرصد، فانتهت هذه النظرية!

آخر شيئ سوف آخذه هو نظرية العوالم، فبالله عليكم اسمعوا هذه النظرية العجيبة، فهم لكي يفروا من الاعتراف بالله قالوا أشياء غريبة، لكن طبعاً هم لم يفعلوا هذا دائماً على نظريات عقدية، فهذه نظريات علمية ولكن تُوجَد توجيهات عقدية ووثوقية، فهذا الأمر موجود، وعلى كل حال هم قالوا أن العوالم كثيرة جداً بل لا نهائية – وهذا أمر عجيب – أيضاً، وما عالمنا هذا – Unsere Cosmos – وما كوننا هذا إلا واحد من بين تشكيلة لا نهائية، وهذا شيئ عجيب، أي أننا وقعنا أيضاً في اللانهاية، وتذكَّروا كلامي هذا، فكلما أردنا أن نصل إلى أجوبة نهائية بصدد خلق الوجود ونشأة الكون انجررنا وتورَّطنا في اللانهاية، ويُقال اقبل اللانهاية، فإما أن تكون الله وإما أن تكون للأكوان المُتعدِّدة – Multiverse Universes – التي تعمل بشكل مُتوازٍ Parallel، فهى مُتعايشة وهى لا نهائية، علماً بأنني لن أشرح لكم كيف تمت هذه النظرية ومَن الذي اقترحها وما هى الصعوبات التي واجهتها لكن سأقول باختصار أن العلماء يقولون أن الأسوأ في هذه النظرية هو أنها لا تُفسِّر شيئاً، لأنها يُمكِن أن تُبرِّر كل شيئ حتى التفكير غير العقلاني وغير العلمي، هذه النظرية يُمكِن أن تذبح العلم نفسه، فهى سوف تُصبِح نظرية غير علمية بالطريقة هذه، وهذا هوالأسوأ فيها، كما أن الأمر الذي تم تمويهه وزخرفته واختداع الناس بإخفائه هو أن هذه العوالم المُتوازية اللانهائية لا يُمكِن الترجيح نظرياً بينها إلا احتكاماً إلى القوانين الطبيعية والقوانين الفيزيائية المعروفة لنا، وإلا فوجود عوالم منطقية لا نهائية غير مقبول، فلا يُمكِن للمنطق أن يخترع هذا إلى ما شاء، علماً بأننا نتكلَّم من مُنطلَق العلم والفيزياء الكونية، ولذلك في النهاية هذه النظرية ساقطة، ثم أنها ساقطة لاعتبار علمي منهجي، وهو اعتبار البساطة – اعتبار البساطة العلمية – أو ما يُعرَف بحد أوكام Occam أو بموس أوكام Occam أو بنصل أوكام Occam’s razor، وهذا النصل أو هذا المبدأ من مباديء المنهجية العلمية يقول إذا أمكن تفسير أي شيئ بمبدأ بسيط أو بخطوة واحدة فلا يصح أن يُفسَّر بخطوتين، أي أن التفسير بخطوتين يُعَد فاشلاً لكن التفسير بخطوة واحد يُعَد ناجحاً، الآن بالله عليكم – علماً بأن هذا لم أقله أنا، وإنما قاله مئات من علماء الفيزياء والفيزياء الكونية في القرن العشرين والحادي والعشرين – أيهما ابسط: أن تُؤمِن بلا نهائي واحد وهو كلي القدرة والعلم والحكمة والخلق وإلى آخره وإسمه الله أو الإله، أم أن تُؤمِن بأكوان لا نهائية مُتعدِّدة في مُنتهى التعقيد كما يقول العلماء – علماء الفيزياء – لك؟ هذه النظرية في مُنتهى التعقيد، فإذن هذه النظرية إذا نزلنا على مُقتضى نصل أوكام Occam ينبغي أن تكون ماذا؟ مرفوضة كفرضية حتى إزاء فرضية الإله الواحد اللانهائي المُطلَق – لا إله إلا هو – الخالق للكون، فهو أعظم بساطة بكثير كفرضية من نظرية أكوان لانهائية مُتعدِّدة مُتعايشة، هذا كلام فارغ، ويجب أن نقول هذا حتى لا يُخدَع الناس بالعلم، فالناس يقولون لك هذه قضية علمية قال بها فلان وعلان، لكن هذا لا يعنينا، فهناك تضمينات – Implications – وهناك لوازم للكلام العلمي، وهنا يبدأ يتدخَّل العقل!

نأتي الآن إلى النصف الثاني، وأرجو أن يُيسِّر الله علىّ بيانه وعليكم إداركه وفهمه،من ناحية فلسفية اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ۩ فمَن خلق الله؟ قالوا لك يُوجَد تناقض، فجان بول سارتر Jean-Paul Sartre قال هذا كلام فارغ ومُتناقَض، يقصد عقيدة الإله، لكن لماذا يا سارتر Sartre؟ قال سارتر Sartre وهو أحد آباء الوجودية المُلحِدة وتلميذ المُلحِد هايدجر Heidegger لأن جعل الشيئ علةً لنفسه تناقض، وهذا صحيح، فجعل الشيئ علةً لنفسه تناقض، كأن يُقال الله خلق، فمَن خلق الله؟ هل الله خلق نفسه؟ هذا تناقض، فهكذا فهم جان بول سارتر Jean-Paul Sartre صاحب الوجود والعدم، لكنكم سوف ترونه طفلاً صغيراً يحبو، فهو لم يفهم مباديء الفلسفة العقلية، ما رأيكم؟ الفيلسوف العظيم سارتر Sartre لم يفهم المباديء الأولى – ABC – للفلسفة العقلية ولا للاهوت ولا لعلم الكلام المسيحي واليهودي والإسلامي، فهو لم يفهم هذا بل لم يفهم منه شيئاً، ولذا قال لك هذا تناقض، تماماً كما تقول أنا خلقت نفسي، فإذن أنت كنت موجوداً حال أنك معدوم ولذا هذا تناقض، وهذا الكلام صحيح، فإذا قلنا بأن الله علة نفسه سوف يكون هذا خطأ، لكن هل تعرفون أين يكمن الخطأ؟ يكمن الخطأ – بتبسيطٍ كبير إلى آخر حد – في القول بأن كل موجود لابد له من علة، وطبعاً نحن نُؤمِن بمبدأ أو بقانون العلية، فكل ظاهرة لابد لها من سبب وكل معلول لابد له من علة، فنحن نُؤمِن بهذا، والعقل الإنساني يشتغل هكذا، وكل مَن يقول لك أنا لا أؤمِن بالعلية هو ينتحر عقلياً مُباشَرةً، وسوف تقول له بكلمة واحدة لماذا لا تُؤمِن بالعلية؟ ومن ثم سوف يقول لك سأُوضِّح لك، فقل له لا تُوضِّح شيئاً لأنك انتحرت أنت الآن وانهزمت، لأنك تعتقد أنك حين تُوضِّح لي فسوف تُقنِعني، إذن أنت تُؤمِن بالعلية، وبالتالي لا تستطيع أن تقول هذا، فلا قيام للفكر ولا قيام للعقل فضلاً عن قيام العلم بغير مبدأ العلية، ومن ثم عليكم أن تنتبهوا إلى أن لا يستطيع أحد أن يضرب هذا المبدأ مهما حاو ، لأنه وهو يضربه سوف يُبرهِن عليه، فوهو يضربه بما يضربه به سوف يُقيم البراهين والأدلة عليه، وهذا واضح وجميل، وعلى كل حال نحن نُؤمِن بالعلية، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن صياغة مبدأ العلية على هذا النحو – وهى الصياغة الخاطئة – الذي يقول أن كل موجود لابد له من علة هو أمر غير صحيح، ونحن نقول باختصار أن كل ظاهرة أو كل ناقص أو كل مُحتاج لابد له من علة ولكن لا نقول كل موجود، فالله موجود ولا يحتاج إلى علة، لذا نحن نقول كل ظاهرة أو كل ناقص أو كل مُحتاج ولا نقول كل موجود، لكن المُلحِد قد يقول لك هذه سفسطة لفظية، فصحيح هى سفسطة لكن كما يراها هو، أما نحن فنُريد أن نتعمَّق الآن .

الفلاسفة العقليون المُؤلِّهون بحثوا من قديم هذه المسألة بغير ذكاء، فهم لم ينتظروا أن ياتي كانط Kant وسبنسر Spencer وجون سيتورات مل   John Stuart Mill وبرتراند راسل Bertrand Russell وجان بول سارتر Jean-Paul Sartre وأمثال هؤلاء، ولكنهم بحثوها من قديم وبذكاء شديد وتجريد عقلي يشهد بجبروت هذا العقل المُوحِّد المُؤلِّه، وقالوا المسألة تنحل إلى شطرين، الشطر الأول لماذا وُجِدَت باء؟ وكان الجواب لوجود ألف، وذلك بافتراض أن ألف هى علة باء،علماً بأن هذه القضايا الفلسفية مُشكِلة ولذلك نُوضِّحها حتى لا يختلط الأمر على مَن يستمع بعد ذلك أو يرى.

أبي وأمي ليسوا عللاً لي، فهذه شروط مُعِّدة، علماً بأن العلة لها مفهوم فلسفي مُعمَّق جداً – ولكن هذا درس آخر – وقد شرحناها في دروس الفلسفة، وعلى كل حال أبي وأمي ليسوا عللاً، هذه شروط مُعِّدة مُمهِّدة، ولكن العلة تكون على نحوٍ مُختلِف، وسوف تفهمون العلة وفلسفة العلة اليوم بشكل فلسفي مُعمَّق – إن شاء الله – ومبُسَّط بإذن الله.

إذن وُجِدَت باء لوجود ألف، وهذه المسألة يُوافِق عليها الكل ويتكفَّل العلم بتفصيلِ آحادها، فالعلم يقول لك لماذا يغلي الماء – مثلاً – عند درجة مائة، فهو يقول لك لماذا يغلي وكيف يتم هذا الموضوع، والعلم يقول لك لماذا ينبت الشجر وكيف يصل الماء إلى أعالي الشجرة على ارتفاع خمسين أو ستين متراً وما يتعلَّق بالضغط الاسموزي Osmotic Pressure، فالعلم يشرح لك كيف هذا ويُوضِّح كيف تُكوِّن أوراق الأشجار الطاقة والغذاء، فهو يقول لك أن هذا بسبب التمثيل الضوئي أو تمثيل الكلوروفيل Chlorophyll، فالعلم يشرح لك هذا، ويشرح لك كيف يتجلَّط الدم – وهذه المسألة مُعقَّدة جداً – وإلى آخره، فهذه المسألة مُتفَّق عليها على كل حال، أما الشطر الثاني فهو لماذا تحتاج باء إلى ألف؟ هنا العلم يتراجع ويقول أننا الىم دخلنا في الفلسفة ودخلنا في الميتافيزيق Metaphysics، وبالتالي لا علاقة لي بهذا، فيجب أن ننتبه إلى الآتي، لماذا تحدث باء؟ لأن ألف موجودة، لماذا تحتاج باء إلى ألف؟ العلم هنا يرفع الراية البيضاء ويقول لك هذه المسألة ميتافيزيقية وأنا كعلم لا علاقة لي، لكن لماذا؟ العلم حتى نكون دقيقين منهجياً – من ناحية حتى منهجية الفهم والنقاش والحوار- يُعنى ويتعاطى ويُباشِر القضايا القابلة للرصد والتجريب، فهذا هو العلم من حيث أتى، فالعلم التجريبي هو هكذا، والعلم يرى موضوع علة ويرى موضوع المعلول، ولكن موضوع العلية وسر الاحتياج ومناط احتياج المعلول إلى علته بمثابة قضايا غيرموجودة في حق الخارج أو في ساحة الخارج، ففي الخارج ماذا يُوجَد عندي؟ موجود عندي – مثلاً – حرارة وماء وغليان، فالعلم يبحث في هذه المسألة إذن، لكن لا يُوجَد لدي شيئ إسمه الاحتياج وميلاك أو مناط أو سر أو سبب احتياج المعلول إلى علته، هذا غير موجود، فحقيقة العلية فلسفياً غير موجودة في الخارج، الموجود هو العلة والمعلول، والعلم يتعاطى مع هاته الأشياء وانتهى كل شيئ.

الآن السؤال الثاني هو ما ميلاك أو ما هو سر أو ما هو مناط أو ما هوسبب احتياج المعلول إلى علته؟ العلم يقول لك هذه المسائل أنا لا أفهمها ولا علاقة لي بها، ومن ثم نحن نقول له أحسنت، تأخَّر من حيث أخَّرك الله، رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، ورحم الله عالماً عرف قدر نفسه، فليتقدَّم السيد الحكيم الفيلسوف Philosopher، فالفيلسوف سوف يتقدَّم ويقول لك بعد اللات والّلتيّا وبعد الدراسات وبعد أن صدَّعنا أدمغتنا وأدمغة العالمين تحصَّل لدينا ثلاث نظريات – وفي الحقيقة هى أربع نظريات – الآن، النظرية الأولى وهى أشدها تهافتاً وأظهرها بطلاً وزيفاً، وهى نظرية قال بها الماديون ومن المُتأخِّرين الماديين بعض الفلاسفة الماركسيين، حيث قالوا أن ميلاك احتياج المعلولات إلى عللها صرف الموجودية ومحض الشيئية، فكل شيئ كشيئ مُحتاج، وكل موجود موجود مُحتاج، وقالوا أن المادة لا تُستحدَث من العدم، فلا ينتج شيئ من لا شيئ، إذن هم آمنوا بالعلية أم لم يُؤمِنوا؟ آمنوا بالعلية، هم قالوا لا ينتج شيئ من لا شيئ، والله يقول هذا صحيح، فالله يقول لا ينتج شيئ من لا شيئ، تقول الآية الكريمة أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ۩، فلابد من وجود شيئ، ولكن يُصبِح السؤال الآن هو أننا سنفترض أن في حالة الكون كله تُوجَد هذه الشُذيذة – Singularity – والتي خرقت كل الجُدر الفيزيقية، فمَن الذي أوجدها؟ ما مبدأها؟ ما علتها؟ نحن نقطع بأنه الله تبارك وتعالى، ولدينا أدلة علمية وفلسفية، والقرآن يقول أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۩، فهو ردَّ على مَن؟ على جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، الله قال له هذا كلام فارغ أصلاً وأنا لا أقول به ولا يقول به مُؤمِن بي ولا فيلسوف عرف كتابي وديني، فنحن لا نقول الشيئ علة نفسه والله علة نفسه، هذا غير صحيح، فالله ليست علة نفسه لكن الله علة غيره، وما مِن شيئ هو علة ذاته، فهذا التصوير خاطيء أصلاً، وهذا كذب على الأديان وعلى اللاهوت أو علم العقائد، وعلى كل حال نعود لكي نقول أنهم قالوا بصرف الموجودية ومحض الشيئية، لأنه شيئ فإذن هو مُحتاج، لأنه شيئ ولأنه موجود، لكن كيف عرفتم هذا؟ قالوا هذا لم يثبت بالفلسفة، فنحن لا نُؤمِن بالميتافيزيق Metaphysics، ولكنه ثبت بالتجريب وبالتجربة المعملية، فنحن وجدنا أن كل شيئ يحتاج إلى علة، وقلنا أن من المُؤكَّد أن كل الأشياء التي استقريناها تحتاج إلى أسباب وعلل، فنحن قلنا هذا بالمنطق الاستقرائي، فالأشياء التي استقريناها – لا تقل استقرأناها، لأن معنى استقرأناها أننا طلبنا منها أن تقرأ لنا، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه، فيُقال استقرأ واستقرى، ومن هنا أقول استقريت وهى مُشتَقة من Induction، أي بأسلوب الاستقراء وليس بالاستنباط Deduction – وجدناها كلها تحتاج إلى أسباب وعلل ومن ثم طردنا الحكم وعمَّمنا الحكم، فقلنا كل شيئ بما هو شيئ وبما هو موجود يحتاج إلى ذلك، وهذا غير صحيح، ثم أنهم تقدَّموا خطوة حمقاء إلى الأمام بعد ذلك – هذه حماقة طبعاً، فهؤلاء الماركسيون والملاحدة ضعفاء جداً في الفلسفة – وقالوا هؤلاء المُؤلِّهة المُؤمِنون بالله – نحن نقول الله تبارك وتعالى وعز وجل وجل مجده – يُؤمِنون بالصدفة، أي أن إيمانهم بالله هو إيمان بالصدفة، لكن لماذا يُقال هذا؟ كيف يكون الإيمان بالله هو إيمان بالصدفة؟ قالوا لك لأن الصدفة هى أن يُوجَد ويحصل ويقع موجود نسبته إلى الوجود والعدم مُتساوية، فيوجَد بلا سبب، ثم قالوا عن المُؤلِّهة أن الله عندهم كذلك، فهو موجود لكن نسبته إلى الوجود والعدم مُتساوية، فهو وُجِدَ بلا سبب ولم يُوجِده أحد وهو صدفة، لذا الإيمان بالله عند المُؤمِنين صدفة، فما هذه الفلسفة الحمقاء؟ هذه فلسفة مُضحِكة، إذا قرأ أحدهم لمدة خمسة أيام فلسفة عقلية سوف يضحك على هذا كثيراً، لماذا إذن؟ سوف نُوضِّح السبب ثم نمضي.

السبب الأول لأن التجريب لا يُمكِن أن يقطع بقول في هذه المسألة، فلا يُوجَد – كما قلت لكم – في الخارج علة ومعلول، فهو ليس جوهر العلية وليس هو ضرورة العلية أو إمكان العلية وليس هو ميلاك الاحتياج، وهنا العلم يتحدَّث، فلا تقل لي التجربة دلتني لأن التجربة لم تدلك، دلتك فلسفة ميتافيزيقية زائفة وسخيفة وقاعدة مشلولة جامدة تتعلَّق بفلسفتك الغبية، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه الآن، ثم أن من ناحية فلسفية يحصل العكس، لو صح أن نجعل صرف الموجودية ومحض الشيئية ميلاك لشيئ هل تعرفون ما عساه يكون هذا الشيئ؟ الاستغناء وليس الاحتياج، لأنه موجود ولأنه شيئ، أي الشيئ بما هو شيئ لا بحيثيات أخرى لموجوديته – انتبهوا هذه فلسفتنا العقلية – وإنما بما هو شيئ وبما هو موجود، وهذه الموجودية والشيئية يصح – إن صح – أن تُجعَل ميلاكاً لماذا؟ للاستغناء وعدم الاحتياج، والحال أنهم جعلوها ميلاكاً للاحتياج، وهذا خبط وخلط فلسفي، علماً بأن في أواخر القرن العشرين تم – بفضل الله – نقاش بين بعض كبار فلاسفة الإسلاميين المُؤهلين وبين بعض كبار أدمغة الماركسيين على مُستوى العالم على هذا النحو أو شبيه من هذا النحو، وبفضل الله انتهوا إلى الإسلام فلسفياً، فلا تشكوا في قدرة هذه الفلسفة وهذه الأفكار الجبَّارة، هذه أفكار جبَّارة ودقيقة جداً جداً جداً جداً، فمن الصعب جداً أن تدحضها إلا بغباء شديد، غباء مَن لا يفهمها جيداً، لذلك عليكم أن تنتبهوا وألا تتعجلوا ولا ترتابوا، وهذا هو ما قالوه على كل حال.

مَن قال لكم أن المُؤلِّهة – والله هذا لا يحدث مع يهودي أو مسيحي أو مسلم – آمن بالله على أن الله من باب المُمكِنات؟ الذي تستوي نسبته إلى الوجود والعدم باعتدال هو المُمكِن، أي مثلي ومثلك ومثل الكون ومثل الـ Singularity ومثل أي شيئ في الوجود ماعدا الله، أما الله لم يقل أحد مُؤلِّه مُؤمِن بالله أن نسبته إلى الوجود والعدم تتساوى باعتدال، فهذا غير صحيح بالمرة أصلاً، وهذا لم يقل به أحد، فنحن نُؤمِن بالله على أنه لازم الوجود، أي ضروري الوجود وواجب الوجود، علماً بأننا سوف نُعرِّف ما معنى لازم أو واجب أو ضروري الوجود، فهذاعلى كل حال خطأ آخر وهذه هى النظرية الأولى، وهى كلام فارغ وقد انتهينا منها!
النظرية الثانية هى نظرية المُتكلِّمين الإسلاميين – علماء الكلام – الذين قالوا ميلاك الاحتياج إلى العلة هو الحدوث، أي لماذا يحتاج المعلول إلى علة؟ قالوا أن ميلاك الاحتياج هو الحدوث، لكن ما معنى الحدوث؟ أي الكون بعد أن لم يكن، سواء كان للجوهر أو للأعراض، فلو سخَّنت الماء سوف يصير ساخناً، وهذا حدث طبعاً، وبلغة الفيزياء هو واقعة Event، فهو حدث من الأحداث لأنه كان بارداً وصار ساخناً، ولذا هذاحادث كما يقولون، فهل الحرارة حادثة أو غير حادثة الآن؟ الحرارة حادثة، وقد يُوجَد جسم مُعيَّن قابل للتفرقع مثل قنبلة ما، ثم أنها تفرقعت أو انفجرت بعد ذلك، فهذا حدث لابد له من علة، والحدوث هو ميلاك الاحتياج، لكن هل نحن كمخلوقات حادثون أو غير حادثين؟ حادثون، فنحن خرجنا من من الليس إلى الأيس . كما يقول ابن رشد وابن طفيل، أي أنناخرجنا من العدم إلى الوجود، لكن ما معنى الحادث؟ هو المُمكِن الذي تستوي نسبته إلى الوجود والعدم، فهذا الحدوث نفسه إذن هو الميلاك – ميلاك الاحتياج – الآن.

هذا الكرسي موجود هنا، ثم أننا وجدناه في المكتب بعد ذلك، فهذا حدث هنا، ولا يُمكِن أن تقل لي أن الكرسي أصبح في المكتبة وحده دون أن يُحرِّكه أحد، فهذا مُستحيل، لابد من وجود علة، فحتى لو كان أصبح هذا الكرسي في المكتب وحده سوف يكون السبب في هذا هو أنه روبوت Robot في شكل كرسي، وهو مُبرمَّج على القيام بهذا، ففي الساعة ثلاثة إلا ربع – مثلاً – يتحرَّك ويدخل المكتب بحسب البرمجة، إذن هل تُوجَد علة أو لا تُوجَد؟ تُوجَد علة لوجود حدث، فلا يأت لي رجل أهبل ويقول لي هذا روبوت Robot، لأن لا تُوجَد مُشكِلة في كونه هكذا، فنحن نأخذ أعماق الأشياء، وعلى كل حال قال المُتكلِّمون أن مناط الاحتياج هو الحدوث، أي كون هذه الأشياء حادثة وكون أعراضها حادثة فيها أيضاً وفي جوهرها.

هذه كانت ثاني نظرية، أما ثالث نظرية فهى نظرية الفلاسفة الإسلاميين وبالذات ابن سينا وحتى ابن رشد وأكثر هؤلاء إلى القرن الحادي عشر الهجري، فهم قالوا أن ميلاك الاحتياج وسر الاحتياج وما يُفسَّر به هذا الاحتياج إلى العلة هو الإمكان الذاتي، أي أنه يُفسِّر لماذا يحتاج المعلول إلى علته، وهذه هى مسألتنا، فإذا كنت تُريد أن تُجيب عن سؤال مَن خلق الله؟ ابحث هذه المباحث الأول، وانتبه إلى أن هكذا يكون البحث الفلسفي، فهذا ليس مُجرَّد كلام مثل كلام الجرائد والصحف والنقاشات في التلفزيونات Televisions، هذا بحث علمي فلسفي دقيق، وعلى كل حال هم قالوا ميلاك الاحتياج هو الإمكان الذاتي، لكن ما معنى الإمكان الذاتي؟ الإمكان الماهوي،ولكي أُبسِّط هذا سأقول أن المفاهيم عموماً تنقسم إلى قسمين، هناك مفاهيم أولية،وهناك مفاهيم ثانية أو ثانوية، المفاهيم الأولية هى المفاهيم الماهوية، مثل هذا الكرسي أو هذا الحجر أو هذا الرجل وهكذا، فهذه هى الماهيات، وهذه يُسمونها بالمفاهيم الأولية، وبعد ذلك عندنا مفاهيم ثانية أو ثانوية وهى قسمان، هناك مفاهيم ثانوية فلسفية وهناك مفاهيم ثانوية منطقية، فلابد أن تُميِّز بين المفهوم الماهوي والمفهوم الفلسفي، علماً بأنك يُمكِن ببساطة أن تفعل هذا في أول درج البحث ثم تُغيم الأمور بعد ذلك مثلما غامت على كانط Kant، فكانط Kant لم يُميِّز أحياناً بين دروب هذه المفاهيم الثلاثة ولذا وقع في خطأ، فتخيَّلوا أن كانط Kant يقع في هذا، هذا العقل الضخم وهذه الماكينة – Machine – المُفكِّرة وقعت في خطاً، لأن هذه القضايا دقيقة جداً جداً جداً جداً.

نأتي الآن إلى الإمكان الماهوي والإمكان الذاتي، فما المقصود بالإمكان الذاتي؟ قلنا قُبيل قليل هناك من الموجودات ما وجودها – إذا نظرنا إلى رُتبتها الذاتية – أو وجوده عين ذاته، فالوجود هو الماهية، ولا يُوجَد عندنا تفكيك يقول بوجود وماهية ووجود زائد ماهية، بعد ذلك سوف نبحث في مسألة مَن عنده الأسبقية والأصالة، هل الماهية عندها الأسبقية فنقول بأصالة الماهية أم الوجود فنقول مع ملا صدرا بأصالة الماهية؟ هو وجوده عين ذاته، وهذا يُوجَد منه موجود واحد فقط وهو رب العالمين، لكن للأسف بعض الفلاسفة الإسلاميين قالوا بوجود العقول القاهرة وجعلوها على نحو آخر، وهذا غير صحيح، فنحن لا نُسلِّم بهذا، وعلى كل حال يُوجَد موجود واحد وحيد وجوده عين ذاته، لكن كيف نُثبِت هذا؟ هذا الموضوع طويل، فلابد أن نخوض في أصالة الوجود ثم في برهان الصديقين، علماً بأننا سنأتي على هذا في سلسلة مطرقة البرهان بإذن الله، لكن كل شيئ في وقته.

ما معنى أن وجوده عينُ ذاته؟ معنى هذا عدم وجود خلاء أو فاصلة بين الاثنين، وهذا معناه أنه لا يحتاج إلى مَن يُوجِده ومَن يُعبِّيء الخلاء.
الرُتبة الثانية هى رُتبة موجودات نسبتها إلى الوجود – نفترض الوجود على اليمين والعدم على اليسار للتبسيط، أي مجازاً فقط، فهذا مجاز فلسفي ليس أكثر – مُتساوية أو مُتعادِلة، فعلى اليمين يُوجَد خلاء وعلى اليسار يُوجَد خلاء، ولو رأينا هذا الشيئ مُعتدِل النسبة إلى الوجود والعدم صار في حاق الوجود سوف نقطع مُباشَرةً أن علةً ما هى التي أخرجته من هذه النُقطة الاعتدالية إلى الوجود فملأت هذا الخلاء، وهذا الخلاء يُسمونه الإمكان الذاتي أو الخلاء الذاتي أو الإمكان الماهوي في لغة الفلسفة العقلية، هذا المُمكِن كان مُمكِناً بالذات وصار الآن موجوداً – أي واجباً – بالغير، فمَن الذي يُحدِث الأشياء ويملأ هذا الخلاء؟ هو واجب الوجود – لا إله إلا هو – الذي ليس بين وجوده وبين ذاته أي خلاء أصلاً، فلا يُوجَد وجود وماهية تتفكَّك وما إلى ذلك،لأن وجوده عين ذاته لا إله إلا هو، هو القادر وحده – هو المبدأ القادر وحده – على هذا، وإلا تبقى الأشياء كلها في حيز العدم، فانتبهوا إلى أن الآن عندنا خلاء على اليسار، وعلى اليمين عندنا علة نقلته من الإمكان الذاتي إلى الوجوب بالغير، أي مُمكِن بالذات واجب بالغير أو صار واجباً بالغير، وهناعلى اليسار مُمكِن بالذات ويبقى مُحالاً بالغير، لماذا؟ لعدم العلة، واحفظوا هذه العبارة التي تقول علة العدم عدم العلة، فلماذا هذا الشيئ معدوم؟ لعدم وجود علة أوجدته لكي تملأ هذا الخلاء.

هذه نظرية الإمكان الذاتي والإمكان الماهوي، وردَّ هؤلاء – كابن سينا – على المُتكلِّمين القائلين بأن الحدوث هو ميلاك الاحتياج وقالوا هذا غير صحيح لأن العقل لا يُفرِّق بين حادث حدث بعد أن لم يكن أو استمر حدوثه إلى لا بداية، فهم قالوا العقل لا يُفرِّق ومن ثم يحتاج في الأمرين إلى علة، وهذا الكلام يحتاج إلى النقاش، فنقاش الفلاسفة والمُتكلِّمين مسألة إيضاً تحتاج إلى نقاش، وعلى كل حال أنا أعرض لكم النظريات.
لكي أُبسِّط المسألة الثانية سأذكر لكم شيئاً هاماً، يُقال أيضاً في الفلسفة العقلية كل ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات، فاحفظوا هذا المبدأ الفلسفي الذي يقول كل ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات وسوف أُبسِّط لكم هذا الآن، لكن كيف هذا؟ قد يسألك سائل قائلاً لماذا هذا الشاي هو حلو جداً؟ هل الشاي من حيث هو حلو أو غير حل؟ غير حلو بل بالعكس هو أقرب إلى المرارة، فالشاي لو مضغت أوراقه سوف تجده مُراً، ولكننا نضع الشاي مع الماء وبعد ذلك نُضيف العسل أو السكر، وهو يسأل لماذا هذا الشيئ حلو جداً؟ فماذا يكون الجواب إذن؟ ما هى العلة؟ ما علة حلاوة هذا الشاي؟ السكر، فالآن كون الشاي حلواً هل هذه صفة ذاتية للشاي؟ هذا مُستحيل، ونحن رأينا قبل قليل الصفة الذاتية له، وهو أنه ليس حلواً، بل هو أقرب إلى المرارة، فإذن كون الشاي حلواً ليس صفةً ذاتية، إذن هذه صفة عرضية، أي عرضت له وحدثت فيه بعد أن لم تكن، وكل ما بالعرض لابد في النهاية أن ينتهي إلى ما بالذات، وحتى لا نُطوِّل النقاش ونُسهِب سوف نقول بعد ذلك لماذا السكر حلو؟ كأننا نقول لماذا السكر سكر؟ هو هكذا لأن كل ما بالعرض لابد في النهاية أن ينتهي إلى ما بالذات، وكذلك البحث، لماذا كان الله هو المبدأ الذي أعطى الأشياء وجودها وملأ الخلاء؟ هو بالذات قادر على هذا – لا إله إلا هو – ووجوده هو عين ذاته، أما هذه الأشياء وجودها ليس عين ذواتها، يُوجَد تفكيك بين الماهيات وبين الوجودات.
آخر نظرية وهى ربما تكون الأقوى هى نظرية الإمكان الوجودي، فالنظرية الثالثة كان إسمها الإمكان الذاتي أو الماهوي، لكن هذه إسمها نظرية الإمكان الوجودي، وسوف نختم بها – إن شاء الله – ومن ثم نكون بلغنا الغاية في خُطبة اليوم على ما اتسع له الوقت، فما هى نظرية الإمكان الوجودي؟ هى طبعاً فرع القول بأصالة الوجود، وهى نظرية مُعقَّدة وكبيرة ودقيقة وعميقة ولكننا سنُبسِّطها بتبسيط مُمتاز، فكيف هذا؟ ملا الصدرا – رحمة الله تعالى عليه – صاحب الفلسفة المُتعالية أو الفلسفة الصدرائية فكَّر تفكيراً عميقاً وحلَّل مبدأ العلية فلسفياً لأنه حاول أن يفهم ما هى العلية، وفقط بتحليلة مبدأ العلية استطاع أن يقع على الجواب عن مسألتنا، أي مسألة ما هو ميلاك الاحتياج إلى العلة ولماذا المعلولات تحتاج إلى علل، فهذه مسألة كبيرة وهائلة، فهى السر لكن مفتاح جواب مَن خلق الله يُوجَد هنا، فإذا لم تفهم هذا سيكون من الصعب أن تفهم الجواب فانتبه إذن، العلية ما هى؟ هى ضربٌ أو لونٌ من الترابط، حيث يُوجَد شيئ مُرتبِط بشيئ، وكما قلنا باء مُرتبِطة بألف، فألف هو الذي أوجد باء، وهذا ضربٌ من الارتباط، ولو فكَّرنا في ألوان وصنوف الارتباطاتكارتباط السرج بالفرس سنجد هذا الارتباط، فنحن وضعنا السرج على الفرس ومن ثم وُجِدَ ارتباط وتعالق بين السرج والفرس، فالسرج على الفرس، ثم يُوجَد ارتباط كارتباط الراكب – الفارس – بفرسه وعليها سرجه، فهذا أيضاً ارتباط، وكل أنواع الارتباطات يُمكِن أن نضرب لها أمثلة على هذا النحو، مثل ارتباط الخاتم بالأصبع أو ارتباط القلم بيد الكاتب أو حتى ارتباط ما يجري على الورقة بالقلم المُرتبِط بدوره بيد الكاتب أو ارتباط الإشارة التي تُحرِّك العضلة في اليد بالدماغ، فهى مصدرها الدماغ وهذا ارتباط أيضاً، وإلى آخره طبعاً، فكل صنوف وألوان الارتباطات إذا حلَّلتموها وجدتموها تتحدَّث عن طرفين ورابطة Connection، أي طرف أول وطرف ثانٍ ورابطة بينهما، وفي كل هذه الصنوف من الارتباطات لاحظ الملا صدرا – رحمة الله تعالى عليه – أن كلاً من الطرفين له وجود مُستقِل عن الطرف الآخر، فيُوجَد – مثلاً – عندي خاتم ويُوجَد عندي أصبع في اليد، يُوجَد عندي قلم ويُوجَد عندي ورقة، يُوجَد عندي سرج ويُوجَد عندي فرس، يُوجَد عندي فرس ويُوجَد عندي فارس، فهذا شيئ وهذا شيئ وهذا شيئ وهذا شيئ وإلى آخره، أشياء مُستقِلة في وجودها عن بعضها البعض، وهذا يصدق على كل أنواع الارتباطات حاشا وماعدا وباستثناء نوع واحد فقط، فما هو؟ الارتباط العلي، فانتبهوا إذن وانظروا إلى العمق والبساطة والجمال في الفكر الفلسفي، نحن الآن نتحدَّث عن الارتباط العلي، وخذوا أمثولة أو مثال الشاي الحلو جداً، هل يستطيع الواحد منكم أن يُفكِّك بين حلاوة الشاي وبين ارتباط جزئيات الشاي بجزئيات السكر؟ هذا لا يُمكِن، إذن الارتباط العلي يكون فيه المعلول موجوداً وجوداً علائقياً أو تعلقياً، ووجود هذا المعلول كحلاوة الشاي هى عين الارتباط، فهى ذات الارتباط أو الارتباط ذاته، بمعنى أنك إذا حذفت الارتباط أو حذفت العلة سوف يُحذَف المعلول وينعدم المعلول، هو هذا.

ملا صدرا قال لك هذا هو الوجود العلائقي أو التعالقي، ثم قال لك كل ما في الوجود باستثناء طبعاً مُوجِد الوجود وجوداته أو وجوده هو وجود تعلقي، أي وجود عللي أو علّي، وهذا أمر عجيب، أي أن ماذا تقول النظرية؟ تقول أن ميلاك الاحتياج إلى العلة هو الوجود ذاته من حيث كونه تعلقياً، فكل موجود بما هو موجود وجوداً تعلقياً – وما من موجود إلا ووجوده تعلقي – هو مُحتاجٌ إلى العلة، ولذلك بقيَ المبدأ الأول الذي يُفسِّر لنا كل شيئ ووجوده غير مُحتاج إلى العلة، لأن وجوده عين ذاته هو الله تبارك وتعالى.

إذن باختصار وبكلمة واحدة نقول أن فلسفياً وعلى أساس أيضاً من العلم – كما في النصف الأول من الخُطبة – لا يصح أن يُقال كل موجود يحتاج إلى علة، فهذا خطأ، وإنما ينبغي أن نقول كل موجود وجوداً تعلقياً هو مُحتاجٌ إلى العلة، والله وجوده ليس تعلقياً، فماعدا الله من العرش إلى الفرش كلها وجودات تعلقية ولذا هى مُحتاجة إلى العلل، فنُسلسل هذه العلل لنصل إلى علة العلل أو العلة الأولى أو المبدأ الأول وهو الخالق – لا إله إلا هو – الذي ليس له علة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، فيا فوز المُستغفِرين!

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد، إخواني وأخواتي:

أنا أعلم أن هذه الخُطبة غامضة إلى حدِ ما وخاصة الجزء الأخير ولكن – إن شاء الله – يأتي تفصيلها بل تفاصيلها في سلسلة الرد على الإلحاد والملاحدة – مطرقة البرهان – بإذن الله تبارك وتعالى، وهذه كانت واحدة.

قبل أن أُغادِر هذا المقام المُبارَك أُحِب – أيها الإخوة – في ثلاث جُمل أولاً أن أُواسي شيخنا الشيخ العلَّامة الفاضل الدكتور أحمد الكبيسي الذي يتعرَّض لحملة شرسة مسعورة شنعاء جعلته كذا وكذا وكذا وكذا مما يعف لساني عن النطق به لمُجرَّد أنه كما كان حالنا بفضل الله عز وجل نطق باعتقاده وما توصَّل إليه فهمه وإدراكه في قضية مُعاوية بن أبي سفيان، وأقسم العلَّامة الكبيسي بالله العظيم – وقد سمعتموه – أن كل ما تُعانيه الأمة اليوم إنما هو بسبب مُعاوية، فجُنَّ جنون مَن لا يُحسِن النقاش ولا يُحِب أن يعرف الحقيقة ولا يستطيع أن يُدافِع عن باطله، ونحن من هنا مع ملايين – بإذن الله – في العالم الإسلامي والعربي نشفع تأييدهم ودعمهم بتأييدنا ودعمنا للشيخ العلَّامة أحمد الكبيسي، ونرجو له من الله – تبارك وتعالى – التوفيق، ونقول له كما علَّمنا وكما يُعلِّم غيرنا كُن مع الله ولا تُبالي، الحق أحق أن يُتبَع، وسيتلو الكبيسي آخرون كثيرون إن شاء الله تعالى، والحبل على الجرَّار كما يُقال، فالأمر رهن بأن تقرأ وأن تفهم فقط وأن تُحاكِم الأدلة وسوف تنتهي – والله أعلم – إن أردت الحق إلى مثل هذه الحقيقة.

ثانياً أيضاً نُريد أن نُعلِن عن تضامننا ووقتنا القلبية والوجدانية بل العقلية أيضاً التضامنية مع الدكتور الفاضل الشيخ طارق السويدان، حيث تُشَّن عليه حملة مسعورة هذه الأيام وتُريد أن تنال من عِرضه في شخص ابنته الفاضلة – وأنا أعرفها شخصياً – ميسون الأديبة المُفكِّرة الفيلسوفة الرائعة والعفيفة مثل أمها وأبيها، وهذا شيئ عجيب جداً، حيث يُراد الطعن في عِرضها والطعن في ممشاها وفي مسلكها للنيل من أبيها وتحطيمه فقط لأنه رجل مُصلِح يُحِب أن يُجدِّد ويُحِب أن يُنوِّر، فهو لديه آراء مُختلِفة ولديه وجهات نظر مُختلِفة، لكن متى يقبل بعضنا بعضاً؟ متى يرحم بعضنا بعضاً؟ متى نرحم هذه الأمة وتعف ألسنتنا ونترك هذا البذاء وهذه القباحات؟ ثم يتحدَّثون عن لسان بذيء ويقولون لسان عدنان إبراهيم بذيء ولسان أحمد الكبيسي القذر، وهذا أمر عجيب جداً، عليكم أن تشتموا أين تفوح القذارة، وواضح جداً من أين تفوح القذارة، فنسأل الله الهداية لنا ولجميع المسلمين والمسلمات.

أما المسألة الثالثة لا أعلم ما هى – الله أعلم – لأنني نسيت والله، وهى ليست عن سوريا كما قال أحدكم الآن، فسوريا لها الله تبارك وتعالى، في سوريا الآن على ما بلغنا مُحيَت بلاد كاملة، قرى وبلاد مُحيَت عن الخريطة بالكامل، وأنا لم أكن لأُصدِّق هذا لو استمعت إليه في الفضائيات، ولكن أخبرني به إخوة سوريون بشكل – والله العظيم – شخصي، وهم يعيشون في تلك البلاد وأهلهم ذهبوا هناك فذابوا وعُدِموا وفُنوا، قالوا لي يا شيخ – والله الذي لا إله إلا هو – بلاد كاملة فنيت، فليس فيها أحد بالمرة، ثم يتحدَّث بشار الملعون هذا وأمثاله عن وجود مُؤامَرة، فلعنة الله على المُؤامَرة والمُتآمِرين، ولعنة الله على الجريمة والمُجرِمين أيضاً وعلى ذبَّاحي شعوبهم ومُبيدي البلاد والعباد، أين الإنسانية؟ نسأل الله ألا ينجح المُخطَّط الاستعماري الهيمني الداخلي والخارجي لأن من الواضح أن سوريا تسير إلى التقسيم، وكما نرى يبدو أن بشار هذا مُستعِد أن تُقسَّم سوريا في النهاية، فإذا فشل في المُحافَظة على وحدتها بالجرائم والمذابح وإبادة البلاد والعباد هو مُستعِد أن يُصنَع له دولة مُعيَّنة أنتم تعرفونها ولها عاصمة لكي يبقى فيها، فهناك بعض الدلائل تُشير إلى هذا، ولذا نسأل الله ألا تُقسَّم سوريا، فلو تقسَّمت سوف تكون كارثة على العرب وعلى المسلمين والله العظيم، كارثة من الكوارث فعلاً، والملف السوري يحتاج إلى مزيد ومزيد ومزيد من الصدق والإخلاص والواقعية حتى السياسية والصدق مع النفس والصدق مع الحقائق، فيا سوريا لك الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (6/4/2012)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقات 4

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: