إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. مَن يهده الله، فلا مضل له. ومَن يُضلل، فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، ونجيبه من عباده. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المباركين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أحذركم وأحذر نفسي من عصيانه سُبحانه ومخالفة أمره، لقوله عز من قائل مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٍۢ لِّلْعَبِيدِ *.

ثم أما بعد/

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات/

يقول الله جل مجده في كتابه العزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ *

صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلكم من الشاهدين. اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين، اللهم آمين.

إخوتي وأخواتي/

كانت النية أن أستهل هذه الخُطبة باستهلال غير الذي سأفعل لتوي، فبين أنا في تلاوة هذه الآيات الكريمات الجليلات، إذ خطر لي معنى أحسبه لم يخطر لي من قبل، وهذا عجيب! لأنه أوضح من واضح، وأظهر من ظاهر! الآيات تتحدث عما يُبشَّر به المؤمنون المُستقيمون الصالحون، من بُشريات الخير، على ألسنة أملاك الله – سُبحانه وتعالى، وسلام الله عليهم أجمعين -.

وحين يسمع المؤمن أو المؤمنة مثل هذا النبأ؛ نبأ البُشرى والتبشير الملائكي العُلوي، تطمح نفسه إلى معرفة السبيل الأقصر والأضمن لنيل مثل هذا الشرف العظيم الكريم. ما هي السبيل أن نكون من عباد الله الذين تُبشِّرهم الملائكة ساعة ارتحالهم عن هذه الدنيا، عن دار الغرور؟ الآيات تستتلي بعد ذلك، لتُجيب عن هذا السؤال المُفترض، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا *، أن تكون من دُعاة الخير، الذين يدعون إلى الله على بصيرة وبيّنة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المُنكر.

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ *، ثم قال وَعَمِلَ صَالِحًا *، جمع العمل إلى القول، ولم يكتف بالقول وحده، شأن أنفار من الناس – والعياذ بالله -، يظنون أن ذممهم تبرأ أمام الله تبارك وتعالى في هذا الباب بمُجرد الدعوة والبيان! كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ *. مَن دعا إلى الخير، كان حريا به أن يكون من أعجل الناس إليه. ومَن دعا إلى بر، كان قمينا به أن يكون من أسبق الناس إليه. ومَن نهى عن شر، كان واجبا عليه أن يكون من أنهى الناس أو أشد الناس انتهاء عنه وانكفافا عنه بالكُلية. وإلا كان أمره ونهيه وبالا عليه، كما في حديث أسامة بن زيد – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما -.

وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *. وكأن هذا القيل الإلهي الكريم، الذي عقَّب به ذكر الدعوة إلى الخير وعمل الصالحات، كأنه إشارة إلى تحقيق النية! وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *، فأنا إنما أدعو، حين أدعو، وإنما أنشط وأجتهد في عمل الصالحات، حين أعمل، إنما أفعل ذلك كله ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، الذي أسلمت وجهي له، إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *، هذا العمل ليس للرياء، ليس للناس، ليس للمحمدة، ليس لأي شيء آخر، غير وجه الله تبارك وتعالى، حقيقة الإسلام! هذه حقيقة الإسلام، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *، هذا هو! الآية عجيبة جدا!

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *، ثم عقَّب، فقال وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ *. حري بمَن تحقق بالدعوة إلى الخير وعمل الصالحات وإسلام الوجه لله، ألا يصرف نفيس العُمر، وثمين الأوقات، في مُقابلة السيئات بالسيئات. حري به ألا يجعل من حياته محكمة قائمة مُنتصبة على مدى الليل والنهار! قال، فرددت عليه! وفعل، فكافأته بفعله مثلما فعل! وكال لي، فكلت له بالكيل نفسه! الله يقول هذه علامة سيئة، ليست هذه شارة ولا علامة المُتحققين بالاستقامة، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا *. حري بنفائس الأعمار – أيها الإخوة -، وثمائن الأوقات، ألا تُزجى وألا تُضيع في هكذا مُكامعات ومُقارعات، إنما تليق بأهل الدنيا، بطلّاب الدنيا، لا بطلّاب الآخرة.

قال وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ *. ادْفَعْ *؛ لكي تظل ناشطا مُجتهدا في مُواترة ومُواصلة العمل على سبيل الهُدى والاستقامة – اللهم اجعلنا مِمَن تحقق بذلك، بفضلك ومنّك -. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *، كسَبته أو كسِبته *** إلى جانب الصالحين المُستقيمين، بعد أن كان في زُمرة الهالكين – والعياذ بالله -.

ثم قال تبارك وتعالى وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا *. السير في هذه الدرب، في هذه السبيل، لا يستطيعه إلا مَن صبر نفسه وحبسها على طاعة الله تبارك وتعالى، وأوعدها ما وعد الله به عباده الصالحين، مما سيُعقبهم في أُخراهم، بدءا من برازخهم، بصالح ما أسلفوا وبر وحسن ما قدموا واجتهدوا.

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ *. لا إله إلا الله! وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ *، نفس المعنى! وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *، نفس الشيء! قال إمامنا أبو عبد الله الشافعي – رضيَ الله عنه وأرضاه – لو لم تنزل إلا هذه السورة وحدها – يعني سورة وَالْعَصْرِ * – على المسلمين، لكفتهم. هذه تكفي من القرآن كله، هذا جوهر التدين، هذا لُب المسألة، لُب اللُباب يا إخواني! كل البشر خاسرون، الله يقول ويُقسم! الواو واو القسم هنا؛ وَالْعَصْرِ *، ولله أن يُقسم بما شاء من خلقه، لا إله إلا هو! وأما نحن، فلا يسوغ إلا أن نُقسم به، أو أن نُقسم إلا به، فلا يسوغ أن نُقسم إلا به، لا إله إلا هو! وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *، كلهم في خسار، صفقاتهم مغبونة خاسرة – والعياذ بالله -، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *.

إخوتي وأخواتي/

كنت أُريد أن أستهل خُطبتي هذه بحديث وجيز عن معنى موت الأمهات، ما معنى أن تموت أمك؟ هذا من المعاني التي نسمع بها، ونُعزّي فيها – أيها الإخوة -، نُعزّي مَن مات له أحد الوالدين، وخاصة الأم، ولسنا نقف عليه، ولا نخبره، ولا نبلغ عُمقه ودركه، إلا بأن نعيشه. أسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم بفضله ومنّه وكرمه وبره وجوده وعطائه مَن مات من أمهات المسلمين والمسلمات، وأن يُطيل وأن يُبارك في أعمار مَن بقيَ منهن، وأن يرزق أولادهن برهن على الوجه الذي يُرضيه.

معنى أن تموت الأم يا إخواني، أنك لأول مرة في حياتك ستعلم ما هو الحُزن، ما هو الألم، ما هي المُصيبة، ما هو الخسر! الأم؟ الأم بالذات. لو ماتت الزوجة، يسعك أن تتزوج بعدها غيرها. لو مات الابن، وهو أعز عزيز، فربما لك غيره من الأبناء. أو البنت، فربما جاد عليك القدر بسواها من البنات. لو مات الأخ، فلعلك أن تكون ذا إخوة. لو ماتت الأخت، ففي غيرها من أخواتها منها عوض أو بعض عوض. وهلم جرا! لكن الأم، ثم الأب، فيهما صفات الأحدية. ومن هنا قرن الله تبارك وتعالى الأمر بالوفاء بحقهما، بالأمر بالوفاء بحقه، لا إله إلا هو! وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ *، فهو الواحد الأحد، وحقه أعظم حق، وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ *. لِمَ الوالدان بالذات؟ فيهما صفات الأحدية. لا عوض من الأم، ثم لا عوض من الأب، على أن حق وحظ الأم أعظم من حظ الأب وحقه، لا شك! وكأنه مُثلث، كما في الحديث الصحيح؛ أي الناس أحق بحُسن صحابتي؟ قال أمك. ثم أي؟ قال أمك. ثم أي؟ قال أمك. ثم أي؟ قال أبوك. ثلاث مرار للأم، ومرة واحدة للأب. وهذا معلوم، ولا نخوض في تعليله، فالناس يتشاركون فهمه – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

بفقد الأم يا أحبتي، يا إخواني، ستُدرك لأول مرة في حياتك، أن العالم لم يكن جميلا؛ لأن الجمال أصيل فيه! العالم كان جميلا؛ لأن فيه أمك. العالم جميل بالأم، ولو كان بينك وبينها مفاوز وبحار ومُحيطات! ما دامت موجودة في هذا العالم، تدعو لك، وتأنس بذكرك، وتشتاق إلى لُقياك، وتتمنى لك الخير، وأنت منها على ذُكر وفي بال طوال الوقت، فالعالم جميل، وأنت لا تدري! العالم مُنير، وأنت في آخر الدنيا، أنت في الطرف القصي منها، وهي في الطرف المُقابل، جميل؛ لأنها موجودة.

هذا ليس كلام الشعراء، ولا كلام الحالمين. ستلمسه وتعيشه، حين تُولي أمك. سترى أن العالم فقد نوره، لم يعد ذلك العالم! وأشك أنه سيعود يوما! وهذا أوحى بمعنى عجيب وعزيز جدا! وهو أن الأم – والله تبارك وتعالى أعلم – قد تكون أعظم باب من أبواب تعرف الله على العبد بالرحمة! على أننا نعيش في ليلنا ونهارنا، وفي كل أوقاتنا، في فيوض رحمات الله تبارك وتعالى، مع كل نفس، ومع كل طرفة جفن! ومع ذلك أعظم ما تعرف به الله علينا من الرحمة المسوقة عبر خلقه، إنما كان ذلك عبر الأم – أيها الإخوة -!

ولذلك حين ترتحل الأم، يُصبح العالم – أيها الإخوة – وقد تبدى على حقيقته! لا أُنس فيه، بل هو موحش، لا نور حقيقيا فيه، على أن الشمس ساطعة مُنيرة! لا تكاد تُضيء شيئا! هناك ظُلمة تلف هذا العالم، هناك وحشة تغلغلت في حناياه، هناك قباحة تسربت إلى أنحائه. حتى الألوان – أيها الإخوة – حالت ونصلت، فقدت بريقها وجاذبيتها، وأصبحت باهتة، غير جذّابة! كل شيء يتغير، لا إله إلا الله! على أن هذا الأمر – أيها الإخوة – لا ينبغي أن يُكتفى بالوقوف عنده. سعيد مَن لا يزال والداه، أو أحدهما، في قَيد الحياة. سعيد، سعيد، سعيد!

وللأسف كأين من مرة سمعنا مثل هذه المعاني، ومثل هاتيكم المواعظ، على أن مَن انتفع بها أقل من القليل! وأندر من النادر! ستعود إليك، تُلح عليك، بألم مُمض، وبحُزن ساحق، حين تموت الأم. ستُدرك أنك لم تكن تفهم ما معنى الأم! أبر البررة، حين تُولي أمه، يشعر أنه أعق العققة! يشعر أنها كانت تستأهل وتستحق أن يجعل عُمره كله لها، بين يديها، بل بين قدميها! لكن مَن الذي يفعل؟ لا أحد تقريبا! لذلك أبر البررة سيستشعر – أيها الإخوة – بالتأثم العظيم، أنه كان من العققة! على أنها – رضيَ الله عن أمهاتنا جميعا أو جمعاوات – كانت تشهد بأنه من أبر البررة، ولا يكف لسانها عن الترضي عليه، آناء الليل وأطراف النهار، بل في كل الأوقات. هو سيشعر أنه عاق، ولم يكن بارا!

لكن ما هي العِبرة من العَبرة – أيها الإخوة -؟ عِبرتي من عَبرتي! الأم المُباركة تعيش مُباركة في حياتها، وتُولي مُباركة، وتترك البركات في إثرها ومن ورائها! اذكروا محاسن موتاكم، بركات الأمهات المسلمات الصالحات كثيرات جدا – بفضل الله -! من بركات أمي – رضيَ الله عنها وأرضاها، ورضيَ الله عن أمهاتنا جمعاوات، من صالحات المؤمنات المُباركات – أنها لم تدع قيام الليل تقريبا طيلة خمسين سنة! على أنها في آخر عُمرها أسنت، وأبدنت، وتعبت تعبا شديدا، وكانت حركتها؛ لكي تأخذ الطهارة وتتوضأ لقيام الليل، ربما تأخذ منها ساعة، أو قريبا من ساعة! على أنها لا تدع هذا القيام، قُرابة نصف قرن! فجزاها الله خيرا أن أورثتنا هذه البركة.
من بركات أمي – أيها الإخوة، وأقول هذا للأمهات اللائي لا يزلن صغيرات في السن! في الثلاثين، في الأربعين! هلممن، هلممن إلى الخير، وأقبلن إلى البر، وباركن أنفسكن وذُرياتكن، باركن أولادكن؛ أبناءكن وبناتكن، باركن الحياة، طيّبن الحياة والعيش، بطاعة الله تبارك وتعالى – رقة القلب. ولست وأنا على منبر رسول الله أُبالغ، إذا قلت تقريبا لم أُصادف في حياتي أرق قلبا منها، حتى على مَن آذاها، حتى على مَن أضر بها، حتى على مَن أساء إليها! مُجرد أن تراه في لحظة انكسار أو في لحظة افتقار، حتى تسيل دموعها، وتعفو عن كل شيء! فأسأل الله أن تكون أورثتنا هذه الرقة، وهذا اللُطف الروحاني. رقة قلب عجيبة – أيها الإخوة -، ودمعة سريعة! ما أقرب منها! لا أقرب من هذه الدمعة!

وأُثلث بواحدة، ولا أُطيل، فلست في مقام النعي، ولا في مقام التقريظ، و: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *؛ عفة النفس. وصدِّقوني، عِبرة هذا الكلام – أيها الإخوة – أن في الوالدين، في الأُسرة الصغيرة القريبة، من العلم والأدب والتربية، والله ما لا يُعطيك إياه لا أستاذ ولا كتاب. والله لو كنت أعلم الناس، وأقرأ الناس، وأحفظ الناس، هذا لا يُغنيك عن العلم والتأدب الذي تتلقاه مُنذ نعومة الأظفار على يد الأم والأب. عفة قل أن رأيت، وسأكون صادقا إن قلت لم أر في حياتي، مثلها! عفة نفس عجيبة غريبة! أورثتنا إياها بركة من بركاتها. ولذلك هذه العفة – أيها الإخوة – تجعل صاحبها قويا إزاء شهواته؛ شهوات البطن، والفرج، وما سواهما من الشهوات، أو ما سواها من الشهوات.

كانت ربما تسمع كلمة أو كُليمة، بخصوص فاكهة مُعينة، مأكول مُعين، فتقول لا أذوقه سنة أو سنتين! ثم تمضي لا تذوقه سنتين كاملتين! عفة عجيبة! كرامتي، احترامي، مثابتي، فوق كل هذه الشهوات، فوق كل هذه الأشياء. هذا ما نحتاج أن نُربي عليه أولادنا، لا أن نُربيهم على الجشع، وعلى الطمع، وعلى التوسع في المآكل والمشارب والشهوات، كأننا – أكرمكم الله – لم نُخلق إلا للإمتاع والالتذاذ – أيها الإخوة -، كشأن الآخرين، الذين وصفهم الله؛ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا *. أُعيذني وإياكم من مثل هذا الوصف – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

وحين أتى الموت – أيها الإخوة -، أتى الموت افتلاتا، كما في التعابير النبوية! إني أمي افتُلتت نفسها يا رسول الله – يقول سعد بن عُبادة -، وكنت غائبا. أتى الموت افتلاتا، لم يكن مرقوبا، ولم يكن مُنتظرا. لم يُسبق بمرض طويل، تطاولت أيامه! مُجرد اعتلال بسيط – أيها الإخوة -، اعتلال بسيط قبل يوم، وفي اليوم التالي لقيت ربها. لقيت ربها، وهي في الحمام تأخذ الطهارة، تتوضأ لصلاة الضُحى.

قبل ليلتين عشت سويعة صعبة جدا، وأنا أُتابع مقطعا في اليوتيوب Youtube، أبكاني بُكاء مُرا! عن سيدة – غفر الله لها، ولكل مُذنب من المسلمين – لقيت الله وهي – والعياذ بالله – في فاحشة! والله أبكاني هذا؛ شفقة عليها، وخوفا من مثل مصيرها على بعض أبنائنا وبناتنا. الله أكبر! يُبعث المرء على ما مات عليه، الله أكبر! هناك مَن يموت ساجدا راكعا، هناك مَن يموت مُتهيأ لصلاته بطهارته، هناك مَن يموت وهو يزور مريضا، أو يُعطي صدقة، أو يشهد جُمعة، أو يشهد جماعة. وهناك مَن يموت وهو يحتسي الخمر، وهو على فاحشة – والعياذ بالله -.

وكلمة لأبنائي وبناتي، لإخواني وأخواتي الصغار، الذين يعيشون في هذا العصر، أعانهم الله عليه! أعانكم الله على هذا العصر، أعانكم الله على ما تلقون من فتن الليل والنهار، وكيد الفسّاق والفجّار، آناء الليل وأطراف النهار، بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ * – والعياذ بالله تبارك وتعالى -! يا أبنائي ويا بناتي، يا إخوتي ويا أخواتي؛ الفاحشة شيء أفظع من أن يُستخف بأمرها! الفاحشة، الزنا، اللواط – والعياذ بالله -، تُنجس المرء، تتركه كومة من الدنس، من النجاسة.

حتى لا يُقال يُبالغ، فقط اقرأوا قول الله تبارك وتعالى في صفة عباد الرحمن؛ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا *…إلى أن يقول – انتبهوا! واكتفى الله هنا بثلاثة ذنوب، بثلاث خطايا – وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ *، الشرك! ليس بعد الكفر ذنب، ليس بعد الشرك ذنب. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ *، القتل – والعياذ بالله -! ونحن في زمن استحر فيه القتل، واستخف الناس، حتى المسلمون، حتى بعض أبناء المسلمين، بالقتل! وهو شيء فظيع، مُفظع، مُخيف! لا نُريد أن نتكلم. فقط نتكلم، ونحن الآن في حديث البُشريات – إن شاء الله تعالى -، نحن نُريد أن نتحدث عن حديث البُشريات، نحن نُريد أن نعظ أنفسنا وأحبابنا ومَن بلغ بنهج السبيل أو ببيان السبيل التي هي أقصر وأضمن سبيل إلى أن نكون كذلك حين نلقى الله تبارك وتعالى.

تقول لي نلقى الله؟ نعم. الموت هو لقاء الله. حين تموت، أنت ترتحل إلى الله مُباشرة. حين تموت، أن ترتحل إلى الله. يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ *، بماذا؟ بالموت. إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ *، إلى أين يُساق؟ إلى الله. في أي يوم؟ يوم الموت. كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ *، أي النفس، التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *، مَن يرقيه؛ حتى يعود إلى الحياة، حتى يُمسك الرمق؟ جاء الموت، انتبهوا! أمي حين جاءها الموت، وجاءت الإسعاف، وضعوا لها الأكسجين، فجعلت تُنحيه، وترفع السبابة. هي ترى، تقول لهم انتهى، انتهى! هذا موت، هذا ليس مرضا، ليس ذبحا. نحت الأكسجين، وفعلت هكذا؛ رفعت السبابة، عدة مرات! جاء، انتهى كل شيء، أجل!

الأمم لها آجال، الجمادات، الجبال، الأنهار، المُحيطات، الأرض، الكون! له أجل، كل شيء له أجل. الله خلق السماوات والأرض بماذا؟ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ *. أجل! لها أجل. الأرض لها أجل، الأمم لها آجال، الأفراد لهم آجال. هذا مما يُخفف، بعض ما يُخفف، على المؤمن، المُصاب بالحميم، المُصاب بالحبيب، المُصاب بالأم، بالأب، بالأخ، بالأخت، بالصديق، بالزوجة، بالابن، بالبنت، بالشيخ، بالأستاذ! أنه في علم الله، سابق في علم الله، مُقدر في علم الله، مُراد لله. وإذا جاء الأجل، فلا يستأخر صاحبه سويعة، ولا يستقدم ساعة، أبدا! هو الأجل، انتهى.

إذن يا إخوتي نعود إلى ما كنا فيه؛ نقول القتل شيء فظيع، مُفظع، مُخيف – والعياذ بالله -! يبدو أنه أعظم الذنوب بعد الكفر بالله! القتل! لذلك ثنّى الله به؛ الشرك، ثم القتل. في هذا الدين العظيم – أيها الإخوة، ونحن في طريق البُشريات كما قلت، في طريق البُشريات – حذار، ثم حذار، ثم حذار، أن تؤذي مخلوقا لا يستحق الأذى، مسلما أو غير مسلم!

استمعت إلى أحد العائدين من الموت، وأنا أنصح بمُتابعة هذه المقاطع المُباركة، التي فيها قصص حقيقية، حكايا واقعية، لمَن يُسمون بالعائدين من الموت، على أن المُصطلح يحتاج إلى تحرير، وربما يُفيد العود – إن شاء الله – إلى خُطبة الموتى يتكلمون! هؤلاء لم يموتوا الموت الذي يدخلون به عالم البرزخ؛ ومن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *، هؤلاء لم يدخلوا مرحلة البرزخ. هذا قبل ذلك، قبل ذلك! على أن فيه عظة بالغة، وفيه فوائد كثيرة! من أجزلها أن يعرف المرء بالإجمال مصيره؛ هل هو من الناجين، أو هو من الهالكين؟ هل بُشِّر – أيها الإخوة – بُشرى الخير، أو بُشرى الشر – والعياذ بالله تبارك وتعالى -؟ هو هذا!

إذن استمعت إلى هذا الشخص – أيها الإخوة -، وإذا به في اللحظات التي فارق فيها عالمنا هذا، رأى الآتي؛ (طبعا مرة أُخرى لأحبابي، إخوتي وأخواتي، لأبنائي وبناتي؛ لا تغتروا بكلام الملاحدة، وكلام الماديين، الذين – والله الذي لا إله إلا هو – مهما اجتهدوا، ومهما بالغوا، ومهما تعززوا وأخذتهم العزة بالإثم، لن يستطيعوا أن يُثيروا عجاجة حقيقية أمام هذه البراهين، التي بها بلغ الله حُجته على عباده. انس! إياك أن تغتر بقول للبروفيسور Professor فلان الفلاني، عالم الأعصاب، حامل جوائز كذا وكذا، الذي قال كل هذا مُجرد نشاطات دماغية! نشاطات دماغية؟ هذه نشاطات استكبارية – والعياذ بالله – من أمثالكم! تعلمون لماذا؟ لأن هؤلاء الذين ذهبوا وعادوا، أخبروا بأشياء، لا يُمكن أن يُخبر بها الدماغ، مهما كان ناشطا! ولا يُخبر بها إلا جوهر، فارق البدن، ثم حلّق في العالم بحُرية تامة أو شبه تامة.)

أحد هؤلاء العائدين، حين عاد إلى الحياة، قال لزوجته لِمَ خمشت وجهك حين بلغك نبأ موتي؟ قالت ما فعلت. قال بلى، فعلت، اكشفي عن وجهك – وكانت مُنتقبة -. هي لم تشعر، وإذا بها قد خمشت وجهها. قال لإخوته وأخواته ماذا فعل الكبش الأبيض، الذي أردتم أن تذبحوه؟ قالوا عن أي كبش تتحدث؟ قال الكبش الأبيض، من صفته كذا وكذا وكذا. قالوا أنت الآن تُخيفنا! كيف عرفت هذا؟ هذا إنما كان في الدار، وأنت في المُستشفى. قال أنا كنت عندكم، رأيت كل شيء. وحدثهم بكل شيء! ثم قال لأخيه الكبير، الذي أبى أن تُرفع عنه أجهزة الإنعاش – أبى، قال لا. وكان ميتا، القلب مُتوقف، كل شيء مُتوقف! كان ميتا. قال لا أسمح -، قال له يا أخي رأيتك حين خرجت وأنت تبكي، وكان الجو مطيرا، ثم أويت إلى جُندي. يبدو أنه كان على قارعة الطريق، يحرس أو يقوم بمهمة. أويت إلى الجُندي، وبين يديه نار أوقدها، فجلست إليه تبكي، وسألك، وقال لك، وقلت له. قال له عجيب! هذا شيء لا يكاد يُصدق! مَن أخبرك؟ قال أنا، لم يُخبرني أحد، أنا كنت معكما.

ويقول لك نشاطات دماغية! حُجة الله بالغة. يا أبنائي، يا بناتي، يا إخوتي؛ والله الذي لا إله إلا هو، والله عظمت حسرتي بموت أمي على إخوتي غير المُستقيمين من المسلمين، على أخواتي غير المُستقيمات من المسلمين! عظمت حسرتي جدا، والله الذي لا إله إلا هو! كما والله الذي لا إله إلا هو أخذني الحُزن والألم على مَن ألحد من الناس، على مَن كفر، وركب رأسه، وظن أنه يأتي ببُرهان وحُجة ودليل! أنت يا أخي تُضيع نفسك. لا أقول أكثر من هذا! أنت تخسر أبديتك، استيقظ. أيقظ الله كل مَن أخلص النية في طلب الحق، أيقظه الله ودله على الحق.

هذه الوقائع لا تُعد ولا تُحصى، لا يُحصيها إلا الله، والناس فيها مُشتركون، والناس فيها مُشتركون على اختلاف أديانهم ومللهم ونحلهم! الذين عادوا من الموت بالملايين حول العالم، وكلهم، أو مُعظمهم، اتفق له أشياء مثل هذه، لا تفسير لها، إلا بأن جوهرا مُفارقا للبدن، هو الذي تحرر، وتابع كل شيء، في مشهد وسيع، وأُفق مُنداح. لم يعد للزمان اعتبار، ولا للفضاء والمكان اعتبار. إنها الروح يا سادة، إنها النفس يا إخواني، إنها النفس يا إخواني التي ينبغي أن نخدمها حقا، وأن نعمل لها، لا لهذا البدن الفاني البالي، الذي عما قليل سيأكله الدود، سيصير طعاما للديدان! على أنه ليس الجميع.

وعُذرا عن هذا الاستقصاء الذي أوجبه ربما المقام، أعود إلى ما كنت فيه؛ ليس القتل فقط، هذا الدين يقول لك إياك أن تصل بأذى إلى مخلوق! أحد الذين عادوا من الموت، وعاد تائبا، واستقام على السبيل – أيها الإخوة -، عُذِّب بألوان من العذاب، بحسب ذنوب مُعينة، وهذا في حياة قبل برزخية، لم تكن برزخية أصلا! ولعلها من عالم المثال. ومن ضمن ما نوقش فيه، وشُدد عليه فيه، أنه نظر ذات يوم، وهو جالس في الباص Bus، أي الأتوبيس، إلى أحد الناس، نظرا حادا! هكذا! قيل له لماذا نظرت إلى أخيك هذه النظرة؟ الله أكبر! طبعا! ستقولون يا ويلنا! فعلا يا ويلنا! ويا خيبتنا! ويا خسارنا!

يجلس أحدنا مع إخوانه وخلانه، فلا يطيب لهم الحديث، إلا بأكل أعراض الناس! فلان وفلانة! يا ويلنا! يا خسارنا! ويا ما أطيب المجالس يا إخوتي، يا ما أُحيلا المجالس، التي تنعقد، وربما تستطيل وتُسهب، ثم يقوم الناس ويتفرقون، لم يتفرقوا إلا عن ذكر، وإلا عن كلام في بر! ما أحلاها! نسأل الله أن يُكثّرها وأن يُباركها، وأن يُعيننا عليها. والله تجلس وأنت مُرتاح جدا، وتقوم وملء إهابك السكينة والوقار والجمال. أنت إنما كنت تخترف في جنة نعيم الحسنات، دون أن تدري! تقطف من هنا حسنة، من هنا حسنة، من هنا حسنة! السلام عليكم، سُبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. ختام المجلس! كفّارة المجلس! وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *…السورة! هذا هو! هذا الذي يليق بكَ، هذا الذي يليق بكَ، بكِ، بي، بنا جميعا! أن نستعد للآخرة، كفى! كفى يا إخواني أن نغش أنفسنا! لا أقول أكثر من هذا. كفى أن نُخادع أنفسنا! كفى أن نُضيع أعمارنا في دين مُمزق، دين مُهلهل، دين كالثوب المُخرق! نحتاج إلى دين سليم، دين صحيح، يُوجب – إن شاء الله، بفضل الله وكرمه – لنا البُشرى، حين نلقى الله. والموت كما قلت لكم لقاء الله. مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ *…إذن لقاء الله هو الموت، المساق إلى الله الموت، واضح يا إخواني؟

إذن حتى النظرة؟ حتى النظرة! وهذا يُذكّرني بحديث الإمام أبي القاسم الطبراني، من حديث عبد الله بن عمرو – رضيَ الله تعالى عنهما -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين – مَن نظر إلى أخيه نظرة يُخيفه بها في غير حق، كان حقا على الله أن يُخيفه يوم القيامة. مرة أُخرى يا خسارنا! نظرة يا رسول الله؟ نظرة. رسول المحبة – عليه السلام -، رسول السلام، قال لك لا يسعك أن تنظر نظرة إلى عبد من عباد الله، لتُخيفه بها في غير حق. لماذا؟ أتستطيل عليه؟ بماذا؟ بسُلطانك؟ بقوتك؟ بماذا إذن؟ بعشيرتك؟ إياك! وهذا حديث مُهم جدا لرجال الأمن والشرطة والمباحث، مُهم جدا! إذا غرتك قدرتك، فتذكر قدرة الله عليك، تذكر فقرك وحاجتك إلى الله يوم تُدلى في حُفرتك قريبا. والمصير قريب، وأقرب مما نظن والله! أقرب والله مما نظن!

وفي حديث ابن عمر – رضيَ الله عنهما، ذاك عن ابن عمرو! هذا في حديث ابن عمر! وأيضا عند الطبراني – مَن نظر إلى أخيه نظرة، يُفزعه، أو قال يُخيفه، بها، كان حقا على الله ألا يؤمّنه يوم الأفزاع. يوم الفزع الأكبر، يُبعث مُفزّعا، خائفا، يرتعد! لماذا؟ لأنه نظر مرة إلى أخيه نظرة يُخيفه بها. ستقولون ما العمل؟ ما المخلص؟ التوبة الصادقة. فعلت هذا؟ بعضهم سيقول أنا ضربت، أنا ضربت الناس، مددت يدي على الناس، بصقت عليهم، أنا لعنتهم، أنا سببتهم، أنا دمرت حياة بعض الناس! ما المخلص؟ التوبة الصادقة. الحق نفسك.

الله قال وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *. ثلاثة أشياء؛ الشرك، والقتل، والزنا. الزنا الذي تُريد لنا المُسلسلات والأفلام والنت Net واليوتيوب Youtube وكل مصادر ما يُعرف بوسائل التواصل أن تُصوره على أنه شيء عادي، نوع من الثقافة، نوع من الفهلوة والشطارة! دنس، نجاسة – والعياذ بالله -، طريق جهنم، مُنزلق جهنم. إياك أن تلعب في هذه الأشياء!

إياك أن تنظر نظرة إلى فتاة أو امرأة لا يرضاها الله تبارك وتعالى! اتق الله. هل تُحب أن ينظر أحد إلى أمك أو أختك أو ابنتك هذه النظرة؟ فإياك أن تنظرها أنت! كُن عفيفا، تعلم العفة، تعلم الرجولة، تعلم أن ترقب الله، فالله رقيب عليك. أنت تنسى، وهو لا ينسى. أنت تغفل، وهو لا يغفل، لا إله إلا هو! أنت تتعامى، وهو بكل شيء بصير. إياك! وسترى غِب هذا قريبا، يوم تُدلى في حُفرتك، أقرب مما تتخيل! إياك أن تُصوّر لنفسك أن القيامة بعيدة، وأنني قد أموت، وربما أمكث في قبري مليون سنة! حتى لو مكثت مليار سنة، الزمن بعد الموت لا دور له. الذي مات الآن، والذي مات قبل مليون سنة – لو كان هناك بشر قبل مليون سنة -، واحد! وحين تقوم الساعة، سيُقسم الجميع مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ *، سَاعَةٍ ۚ *! انتهى كل شيء. الزمن في الدنيا له دور، بُعد الزمن! بمُجرد الموت، ليس له دور. ينتهي الزمان! ساعة كسنة، وسنة كمليون سنة، انتهى! فالأمر قريب، لقاء الله قريب جدا جدا! الميزان، الصُحف، الحساب، أقرب مما تتخيل!

قال وَلا يَزْنُونَ *. وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *. لذلك أقول أيضا لمَن تتعرى، أو تمشي شبه عارية، وهي تعلم أنها لا تُريد بهذا إلا أن تفتن قلوب المُراهقين، قلوب الرجال، مُتزوجين وعزابا؛ يا ويلك! يا ويلك من الله تبارك وتعالى! يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ *، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ *. ماذا تقولين لربك؟ عشت – البعيدة – شيطانة؟ أُريد أن أشيع الفاحشة في الناس، أُريد أن أُغري الناس بالفاحشة، مَن لم يقدر علي، قدر على غيري، ومَن لم يقدر علي ولا على غيري – والعياذ بالله -، سلك سُبلا مُنحرفة أُخرى، لا يعلمها إلا الله! وأنت السبب؟ الله أكبر! وكل هذا في صحيفة أعمالك، مسكينة أنتِ، والله مسكينة يا أختي، والله أُشفق عليكِ، أُقسم بالله، حزين لأجلك! لنتق الله في أنفسنا.

قال وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *، فسره بقوله يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ *. الله أكبر! لم يقل يُعذب! يُضَاعَفْ *! عذاب الشرك مُضاعف، عذاب القتل مُضاعف، وعذاب الزنا الذي جعلوه وكأنه شيء عادي، مثل شرب الماء! يزني ويذهب لكي يُصلي، يزني ويستغفر الله، يزني ويصوم! ما شاء الله! أين تعلمت هذا؟ انتبهوا يا إخواني، انتبهوا! وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ *. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا *. إذن ما الحل؟ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا *. انتهى! يُوجد حل! توبة، توبة لا يعود بها في الذنب بعد ذلك، حتى يعود اللبن في الضرع، كما قال عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه وأرضاه -، توبة صادقة، ليست كتوبة المُتلاعبين! سُئل الإمام أحمد عن رجل أذنب، فاستغفر، ثم عاد، فأذنب، فاستغفر، ثم عاد! قال هذا كالمُستهزئ بربه. نعم! قال تائب هذا؟ هذا يلعب. قال! هذا! هذا كالمُستهزئ بربه. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً *…ماذا؟ الله قال نَّصُوحًا *. لم يقل توبوا فحسب! تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا *. قال عمر – رضوان الله عليها – هي التي لا يعود صاحبها في الذنب، حتى يعود اللبن في الضرع. هل يُمكن أن يخرج اللبن من ضرع الشاة أو البقرة، ثم يعود؟ مُستحيل، مُستحيل، مُستحيل! معروف! هذه هي التوبة النصوح. نسأل الله أن يمنّ علينا بتوبة نصوح. اللهم تُب علينا لنتوب.

وإياكم يا إخواني وإياي وإياكن – والله الذي لا إله إلا هو – من أن تغرنا الأماني! تعرفون ما الذي يُحزن؟ يُحزن أن كثيرا من الناس – لا أُحب أن أقول أكثر الناس – يقضون حياتهم، إلى ساعة الرحيل بالوفاة، وهم يعيشون بالأماني! تُوجد صلاة؟ مرة نعم ومرة لا، أو لا تُوجد صلاة. صلاة بنسبة مئة في المئة؟ لا، مرة نعم ومرة لا، ومرة نعم ومرة لا، حسب الظروف، وحسب المزاج، أو لا يُصلي نهائيا. وهكذا مع بقية الفرائض! أما الذنوب، فالله أعلم، لا إله إلا هو! لكن الله غفور رحيم، الله كريم، الله جواد، الله مُحب، الله…الله…الله…! هذا صحيح، لكن هناك موازين، مثقال ذرة من خير سوف يُرى، مثقال ذرة من شر سوف يُكتب ويوزن، وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ *.

أقول هذا وفي بالي والله ما…ماذا أقول؟ ما يكاد يشق مرارتي! من سماعي كلام أحد الذين خرجوا من طريقة صوفية! صوفية؟ هذا التصوف؟ لو أردت أن أُلخص التصوف بشيء واحد، لقلت التصوف هو كل ما يجعلك أتقى وأخشى لله وأعرف به. حاشا لله أن تكون مِمَن عرف الله أدنى معرفة، ثم أنت تعود بعقيدة تعتقدها أو قول تقوله على كلام الله بالنقض والتكذيب، بل هذا هو سبيل الزندقة!

طريقة صوفية، للأسف مؤسسها مات قبل سنتين، كم حزنت! أمره إلى الله! والعياذ بالله شيء مُخيف مُرعب! والذين في الأثر لم يتوبوا ولم يرعووا! يزعمون وزعم المؤسس أن كل مَن أخذ البيعة منه والعهد، سيدخل الجنة مع رسول الله. ليس بعد الرسول، معه أيضا! الرسول لن يسبقه إلى الجنة! لماذا؟ لماذا؟ أنت مَن؟ ستقول لي قد يكون! لا، لن يكون. تعرفون لماذا؟ لأن هذا الشيخ وطريقته يُبيحون لمشايخ الطريقة هتك أعراض المسلمات، مِمَن يأخذن العهد عليهم! ما رأيكم؟ يزعمون بهذا أنهم يُطهرونهن، ويُعطيهن طبعا مقاما عاليا عند الله! إن لم تكن هذه الزندقة، فقولوا لي ما هي الزندقة؟ هذه هي الزندقة! إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا *.

قال لي أحد الأحباب أمس ألا يُمكن أن يتسع لهم عند الله عُذر بجهلهم؟ قلت له أشك! لست أقطع على غيب أمر لا يعلم حقيقته إلا الله، لكن أشك جدا! وهو لا يسأل عن المشايخ، يسأل عن المخدوعين من النساء، وأزواجهن، الذين يُقدمون بناتهم ونساءهم قرابين لهذا الراسبوتين Rasputin وإخوانه! شيء كما قلت لكم يصدع القلب، والله العظيم! ما الذي يحصل؟ وطبعا في المُقابل هناك من أهل الظاهر – يُسمونهم أهل الظاهر – مَن يتلبس بالفواحش، ومنهم مَن هو مُتزوج بأربع نساء، ولا أزيد، وأبى الله إلا أن يفضحهم. هذا من أهل الظاهر ويرتكب الفاحشة، وهذا من أهل الباطن والتصوف ويتزندق! ما الذي حصل؟ لا إله إلا الله! تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

قلت له والله أشك؛ لأن الله تبارك وتعالى سيقول لهم يوم القيامة المسألة كانت واضحة للغاية! قلت وقلتم! مَن هو الذي يُمكن أن يسعك أن تستمع لقوله، وتُهدر قول الله؟ لا أحد، حتى النبي! ما رأيك؟ على أن النبي يستحيل أن يقول قولا يُضاد به قولا لله. ولذلك العلماء كأين من حديث قالوا في سنده كالنهار! سند مُمتاز، مُتصل، بنقل العدول الضابطين، ثقات! والحديث شاذ بالمرة، مُنكر! لماذا؟ لأنه خالف القرآن، على وجه لم يُمكن تأويله، بحيث يتفق مع القرآن. نضرب به عُرض الحائط، ولا كرامة! على أنه منسوب لمَن؟ لرسول الله. وبأي أسانيد؟ بسند كضوء النهار. قالوا! هذا موضوع ثان! فكيف لما يأتيني فلان وعلان، من مشايخ الجهل، في القرن الخامس عشر الهجري؟ وأعلم وتعلمون أنه لو طُلب إليه أن يتلو سورة قصيرة من كتاب الله، للحن فيها بعدد كلماتها! نحن نستمع إليك، ونُهدر كلام ربنا؟

ولذلك النبي قال أهل النار خمسة! تعلمون مِمَن هو من أهل النار، الذي يستحق النار، من هذه الأمة؟ الضعيف! الذين هم فيكم تبع! لا يبتغون مالا ولا ولدا! ولا زبر لهم! ما معنى هذا؟ أي ناس ضعفاء، لا يطلبون مكانة، ولا يطلبون أموال، ولا يطلبون وظائف، ولا يطلبون سُلطانا! لكن لا زبر له! ما معنى لا زبر له؟ لا عقل تاما له، يمنعه من مواقعة ما يُسخط الله. هؤلاء بالذات الذين يكونون أدوات في يد الظلمة، وفي يد الفجرة والفسقة. يقول له افعل، فيفعل! يقول له أحللت لك الزنا، فيزني! أحللت لك الخمر، فيشرب! النبي بشّرهم وقال هؤلاء من أهل النار. لم يقل جهلة، (غلابة)، مساكين، لم يكونوا يعلمون. لا يُوجد مسلم لم يعلم ولا يعلم أن الله له كلام، له كتاب، لا إله إلا هو! إذا قال الله، لم يكن بعد قوله لأحد قول، انتهينا! أليس كذلك؟ ما العبث هذا بدين الله عز وجل؟

على فكرة، على أني وإياكم وإياكن نُمارس شيئا من هذا الغرور، دون أن ندري! ما رأيكم؟ كل إنسان يعيش وقد بسط لنفسه ومد لنفسه حبل الأماني! يُقصّر، يرتكب بعض المُحرمات، صغرت أم كبرت! ثم يُمنّي نفسه؛ أنني عند الله – إن شاء الله – من المقبولين، بل لعلني من المُقربين! يُمنّي نفسه! هذا يُوشك – والعياذ بالله – أن يُخاطب كما يُخاطب المُنافقون؛ وَغَرَّتْكُمُ ٱلْأَمَانِىُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ *، نعوذ بالله أن نكون من المُغترين في أمر الله وفي دين الله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ *. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد، إخوتي وأخواتي/

وصلا لحديث أن الموت ليس إفناء، وليس إنهاء، إنما هو بوابة للحياة الأبدية، الحياة حقا! الحياة الحقانية تبدأ بالموت، أما نحن في هذه الحياة الدنيوية القصيرة الوجيزة، إنما نحن في مُهلة اختبار، فقط لكي نمهد للآخرة، لكي نعمل للآخرة. مَن نجا هناك – اللهم اجعلني وإياكم والمسلمين جميعا، من الناجين والفائزين الفالحين، أيها الإخوة -، ينجو ولكن التفاوت في المقامات.

لما تُوفيَ شيخ الإسلام، الإمام عبد الله بن المُبارك، رؤيَ في المنام بعد حين، فقيل له ما فعل الله بك يا فلان؟ فقال الحمد لله، الحمد لله، غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب. اللهم اجعلنا كذلك يا رب، بفضلك ومنّك. غفر لي مغفرة أحاطت بكل ذنب! فقيل له فما فعل سُفيان الثوري؟ قال بخ بخ! ذاك في الذين قال الله فيهم مع: النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا *. اللهم اجعلنا منهم يا رب، بفضلك ومنّك.

قال جميل بن مُرة، أحد أصدقاء التابعي البصري العابد الخشن – كان خشنا جدا على نفسه في ذات الله – مورق العجلي، أبو المُعتمر! قال كنت له كالأخ، وكان يأتيني وآتيه، فتواصينا يوما مَن مات قبل صاحبه، تراءى له في المنام؛ ليُخبره ما فُعل به. لا إله إلا الله! هذا همهم، همهم النجاة. قال فتُوفيَ أخي مورق قبلي، فرأت أهلي فيما يرى النائم – لم ير هو، جميل بن مُرة، إنما أهله، زوجه – أن مورقا أتى وطرق الباب، كما كان يفعل في الدنيا، ففتحت له، كما كانت تفتح في الدنيا، وقالت له ادخل يا أبا المُعتمر، حتى يأتي أخوك جميل. فقال كيف أدخل، وقد ذقت الموت؟ أنا ميت، أنا لم آت؛ لكي أزور وأقعد في مجالس دنيوية. وإنما أتيت؛ لأُخبر أخي بما صنع الله بي، فإن هو عاد، فأخبريه أن الله جعلني في المُقربين. الله أكبر! اللهم اجعلنا من هذه الفئة.

المُقربون – أيها الإخوة – في أمة محمد ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ *، اللهم اجعلنا من هؤلاء القليلين. فإن لم نكن منهم، فلا أقل أن نكون من أصحاب اليمين! ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ *. أما المُقربون، فهم قلة في الآخِرِينَ *. في الصحابة والتابعين وتلكم الأجيال والطيبة كانوا كثرة – ما شاء الله -، أما في هذه الأزمان المُتأخرة، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، فهم قلة. اللهم اجعلنا من هذه القلة القليلة، اللهم اجعلنا من هذه! لكن الأمر كما قلت لكم، الأمر محكوم بميزان يا إخواني.

يا فاطمة بنت محمد اعملي لنفسك، لا أُغني عنك من الله شيئا. يا ربي ها هو شيخ في القرن الخامس عشر يقول أحبوني وعاهدوني، تدخلوا الجنة، كتفكم بكتف محمد! وأباح لهم الفواحش! والنبي يقول لفاطمة اعملي يا فاطمة بنت محمد لنفسك، لا أُغني عنك من الله شيئا. وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا *! لَقَدْ أَحْصَاهُمْ *، حكاية كتف وما كتف وهم، عيشوا في الأماني، عيشوا في الكذب على الله، حتى تبدهكم الحقائق الصاعقة الصادمة.

مالك بن دينار، تعرفون مالك بن دينار، البصري، العابد الكبير، وقصته العجيبة في التوبة! مالك بن دينار ذات يوم يُحدث، يقول رأيت مسلم بن يسار – عابد أهل البصرة! مسلم بن يسار أستاذ الحسن البِصري! لما مات مسلم بن يسار، صاح الحسن البِصري وا معلماه! وا معلماه! هذا مسلم بن يسار، من عيون العابدين، قدس الله سره -، لما مات مسلم بن يسار، رأيته في النوم ذات ليلة، فقلت له يا مسلم ما صنع الله بك؟ ما فُعل بك؟ قال يا مالك لقينا أهوالا شدادا، وزلازل عظاما. لا إله إلا الله! قال فقلت ثم ماذا؟ قال فما يكون من الكريم؟ عفا عن السيئات، وأثبت الحسنات، وتحمل عنا، لا إله إلا هو! ثم شهق مالك بن دينار شهقة، غُشيَ عليه. حُمل إلى بيته، وقد صُدع قلبه. مكث أياما، ثم مات! هذا سبب موت مالك بن دينار، هذه الرؤيا لما رآها. مسلم بن يسار يقول لقينا أهوالا شدادا، وزلازل عظاما!

ولعلي أختم بقصة صحابيين جليلين، من الصحابة! الصعب بن جثامة وعوف بن مالك – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما -. وهذه القصة كما قال الأئمة صحيحة، صحت عن حماد بن سلمة، عن ثابت، وهو البُناني، عن شهر بن حوشب! أن الصعب بن جثامة كان مؤاخيا – كان أخا في الله – لعوف بن مالك – رضيَ الله عنهما وأرضاهما -. صحابيان كريمان! وتواصيا مَن مات أولا قبل صاحبه، ترايا له في المنام؛ ليُخبره بما فُعل به. يبدو أن هذه كانت سُنة الصالحين، لا إله إلا الله! يقضون حياتهم، يتعاونون على البر، ويتواصون بهذه الوصية! مَن مات أولا، طمأن أخاه عليه.

على فكرة، مَن ذاق موت حميمه، بعد أن يستوعب الصدمة، ويعلم أن حميمه لن يعود، ذهب ولن يعود! يبقى ربما أياما – بعض الناس ربما يبقى حتى أسبوعين -، ينتظر أن يعود مَن مات، بمُعجزة إلهية، فلا يعود! بعد أن يُوقن أنه لن يعود، يُصبح همه كله أن تأتيه البُشرى بأن حميمه نجا، والله العظيم! أبدا ينقطع عنك الفكر الطفولي الساذج؛ يا ليته معنا ليأكل من هذه الأُكلة أو الأكلة! أفكار أطفال! يا ليته معنا ويعيش هذه الساعة الطيبة! أفكار أطفال! انتهى! الدنيا لا تسوى في الآخرة جناح بعوضة، لكن كل الهم يُصبح؛ يا ليت البُشرى تأتيني بنجاته وفوزه وفلاحه! يا ليت! فقط، هذه الأُمنية! وتُصبح تتندس الأخبار؛ هذا رأى رؤيا، هذا رأى في المنام، هذا كذا!

المُهم، يقول فمات الصعب أولا – الصعب بن جثامة مات أولا قبل عوف بن مالك -، فأُريه أخوه عوف بن مالك في المنام، فقال له يا صعب ماذا لقيت بعدنا؟ قال الحمد لله، غُفر لنا بعد المشايب. أسأل الله أن يكون المُراد بها؛ لأننا شبنا في الإسلام، أسأل الله! وألا يكون المُراد بها ما قاله بعض العلماء؛ يعني بعد أن مررنا بأشياء تُشيب الولدان! كما في حديث مسلم بن يسار.

أنا أختي عاشت مريضة – رحمة الله عليها -، عاشت مريضة مُذ كان سنها تقريبا سبع سنوات، إلى أن لقيت الله، حوالي أربعة عقود، أكثر من أربعة عقود، في الآلام والتباريح والشلل! وكان أكبر ما تطلبه من الدنيا أشياء تُشترى بثلاثة وأربعة وخمسة يوروات، هذه دنياها! لم تطلب لا عمارة، ولا سيارة، ولا زوجا، ولا أولادا! تخيل! وكانت مُحافظة على صلواتها كلها – بفضل الله تبارك وتعالى -. رأيتها أو أُريتها في المنام، بعد وفاتها بحين، زارتني في البيت! قلت لها يا أختاه ما فعل الله بك؟ قالت لي يا أخي الأمر أصعب مما تظنون. والله العظيم! هذا قطع قلبي. قالت لي يا أخي الأمر أصعب مما تظنون. وهي كانت محزونة! ثم قالت لي ولكن ما عسى الله يفعل بي وبمثلي فلان – رجل فاضل خيّر، مشلول أيضا، كان مثلها -؟ أي كأنها تقول نحن خُفف عنا ونجونا؛ لأن أين سيئاتنا؟ أي على ماذا نُحاسب؟ كما قلت لكم أختي هذه حين كانت تُوصيني، الآن أستذكر، أكثر شيء طلبته مني مرة أنواعا من العسل، أي عسل بعشرة يوروات، بخمسة يوروات، الكيلو! معاجين أسنان! هذه حاجتها من الدنيا! نحن انظر بماذا متعنا الله وماذا أعطانا، أعاننا الله، أعاننا الله على لقاء الله، اللهم تُب علينا لنتوب. مسألة خطيرة يا إخواني!

المُهم، فقال له بعد المشايب، غُفر لنا. قال عوف بن مالك ورأيت في عُنقه لُمعة سوداء! يُوجد سواد هنا! فقلت له ما هذه اللُمعة السوداء؟ قال عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي. لا إله إلا الله! صحابي، وكان مع رسول الله، وغزا معه، وقاتل معه؟ طبعا، أنت مِت وعليك دين! كيف بمَن يعيش بالديون؟ كيف مَن يموت وهو مدين لعشرات الناس؟ أعاننا الله فقط، أعاننا الله.

رحم الله الشيخ الرجل الصالح الطيب فتحي الصافي، السوري الذي مات قُبيل سنوات بالسرطان – رضيَ الله عنه وأرضاه -. يتحدث بلُغته المُحببة الطبيعية التلقائية الجميلة الصادقة – نحسبه كذلك، والله حسيبه -، يُحدث عن أحد أصدقائه، قال قال لي يا شيخ فتحي أنا الحمد لله مُستعد للموت. قلت يا رجل؟ كيف إذن مُستعد؟ قال له الحمد لله مُستعد، أنا مُستعد للموت. أنا أعددت زوادتي – الزوادة يأخذها المُسافر -، زوادتي معي. قلت له كيف؟ قال لا يُوجد شيء من بر الوالدين تركته – كل شيء اسمه بر والدين فعلته -، ولا أحد له علي ليرة سورية دين أبدا – بفضل الله -، فأنا مُستعد للقاء الله. قال والله بعد أسبوع مات! رضيَ الله عنه وأرضاه، ما هذا؟ بعد أسبوع! قال الكلام هذا، وبعد أسبوع كان ميتا هو، كان مُستعدا. هذا مُستعد، انتبهوا! فكونوا مُستعدين. لا يبيتن أحدكم ليلته، إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه، الوصية! انتبه، إياك أن تؤجل! لا تضمن.

فقال في عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي، فهي في قرن لي، فأدها إليه. ثم قال لي يا أخي يا عوف لا يمر بأهلي شيء في الدنيا، إلا وقفت عليه وعلمت به، وقد ماتت لهم قبل أيام هرة. قطة، قطة منزلية لهم! ماتت. قال! وأما بنتي فلانة، فتموت لست. أي لست ليال، أو ستة أيام، من هذه الرؤيا، تموت بنتي. فاستيقظ عوف بن مالك، قال وقلت إن في هذا لمعلما. فأتيت دار أخي الصعب بن جثامة، طرقت عليهم، فاستقبلوني وقالوا ما هكذا يخلف المرء أخاه في أهله! لم تأت إلينا مُذ مات أخوك! قال فاعتلت – أي اعتذرت – بما يعتل بمثله الناس! مشغول وكذا ويعلم الله الحوائج والدنيا! اعتذرت. قال! ثم سألتهم عن أحوالهم وعن أمورهم، وأتيت إلى الغُرفة، حيث القرن. ما هو القرن؟ الكنانة! كنانة السهم أو الأسهم، تُسمى القرن. قالت فأنزلتها، فانتثلتها، فإذا فيها صُرة، وفيها عشرة دنانير. أهله لا يعلمون بها! التي استسلفها من اليهودي. قال فأخذتها، وأخبرتهم بشأنها! هذه أخذها أخي الصعب من يهودي، أمرني بأدائها إلى اليهودي.

قال فأتيت اليهودي، فقلت له هل تطلب أخي صعبا بشيء؟ قال رحم الله صعبا – اليهودي -، فقد كان من خيرة أصحاب محمد. قال رجل صالح هذا، أنا تعاملت معه، وهو ما شاء الله! قلت هل تطلبه بشيء؟ قال نعم، اقترض مني عشرة دنانير. قال فوضعتها بين يديه. قال هي والله بأعيانها! ليست بديلة منها، هي نفسها، أنا أعطيته هذه الصُرة! هي والله بأعيانها! قال فأعطيتها إياه. لا إله إلا الله! بعد الموت؟ بعد الموت.

قال لك الدماغ! نشاطات في الدماغ! هذه نشاطات في الدماغ، قولوا هذا للماديين والملاحدة! الحمد لله أن جعلنا من أمة محمد، الحمد لله أن ورثنا هذا الميراث وهذه التركة، قبل حكايا العائدين من الموت في القرن الخامس عشر الهجري، من قديم هذا يحدث في أمة محمد، مُتواتر – بفضل الله عز وجل -.

قال ثم سألتهم عما حدث لهم، فأخبروني، حتى أخبروني بالهرة التي ماتت. فقلت هذه الثانية! ثم قلت لهم أين بنت أخي؟ بُنيته الصغيرة! فدعوا بها! قالوا هي تلعب! فدعوا بها، فمَسِستها – مَسَّ، يَمَسُ، والماضي مَسِستُ، وليس مَسَستُ! فمَسِستها، وضعت يدي عليها -، فإذا هي محمومة! فقلت استوصوا بها معروفا. قال فماتت بعد ستة أيام. لا إله إلا الله! أي الموتى أحيانا يُخبرون بأشياء!

هذا الباب فيه أشياء كثيرة جدا، ضاق المقام عن ذكرها، لعلي – إن شاء الله تعالى – أُفيض فيها وبسردها، لكن في موضع آخر.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وفقها ورشدا. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أجرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارا، اجزهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات مغفرة ورضوانا، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك إنك سميع قريب مُجيب الدعوات.

اللهم اخلف علينا في مصائبنا، في أحبائنا وأودائنا، خيرا منها، برحمتك يا أرحم الراحمين، وألهمنا الصبر والسلوان. اللهم لا تحرمنا أجورهم، ولا تفتنا بعدهم، برحمتك يا أرحم الراحمين. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ *. اللهم حبب إلينا وإلى أولادنا وأزواجنا وإخواننا وأخواتنا وقراباتنا ** وأصحابنا وأخينا فيك، حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، برحمتك يا أرحم الراحمين. احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعزتك أن نُغتال من تحتنا. اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واقض حوائجنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله/

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *، فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *، وأقم الصلاة.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: