إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

 أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد: 

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: 

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ۩ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

الحالة العُصابية – إن صح التعبير – الجماعية التي تعيشها شعوبنا العربية والمُسلِمة – حالة تحطيم الذات، تدمير النفس، إهدار الإمكانات والقُدر، تفتيت النسيج الاجتماعي، التعادي والتباغض والتناكر والتنابذ – تشي وتُؤشِّر إلى إمكان أن تتكرَّر في أي وفي كل بلد من بلادنا، عناصرها يبدو أنها مُتوفِّرة، في حالة كمون، تنتظر الشرارة والظروف المُتواتية – وهي يسيرة – لتنتقل من حالة الكمون إلى حالة الظهور، وهذه حالة عجيبة ومُقلِقة.

وقد يعن للمرء أن يتساءل ما دور الخطاب الديني إزاء هذه الحالة؟ وفي الجواب عن هذا السؤال الخطير أود أن أُسارِع بداءةً إلى تسجيل حقيقة معرفتنا وإقرارنا جميعاً بأن الوعظ تأثيره وقتي وسريع، سريع لكنه وقتي، وسرعان ما يتلاشى، نعرف هذا جميعً ونُقِر به، ولذلك لا نُعوِّل كثيراً على الوعظ وعلى المواعظ، ولكن يقتصر دور هذه المواعظ على تذكير أصحاب الاستعدادات واللياقات المُهيأين لأن يتذكَّروا.

ولذلك في الكتاب العزيز يتكرَّر كثيراً لفظ الذكرى والتذكير، لأن الله بلا شك عليم وخبير ومُطلِع على هذه الحالة، أن إلقاء المواعظ والخُطب والتذكير بالنصوص لا يُمكِن أن يُرجى منه أكثر من كونه تذكيراً، هذه حقيقته، لكن مَن ليس مُستعِداً وليس مُهيئاً لأن يتذكَّر – لأنه لم يُنشّأ تنشئة سليمة، ليس عنده ذخيرة أو خزين أو حصيلة يُمكِن التعويل عليها في تذكيره، في إحياء وإيقاظ ضميره – هذا الوضع لا يكاد يُجدي معه شيئاً.

والمُؤهَّل لأن يتذكَّر هو الذي تتوفَّر عنده النية الصالحة والإرادة والعزيمة الماضية على أن يُغيِّر، والتغيير يبدأ من الفهم، على أن يُغيِّر من سلوكاته، ومن طرائق تعاطيه مع الآخر، وهذا كله يبدأ بالفهم، والنص هنا بلا شك والموعظة لها فعل كبير مع أمثال هؤلاء فحسب.

شيوع قيم مُعيَّنة وصدور كثير وربما أكثر الناس عنها يُوقِع في وهم الإنسان أن هذا هو الوضع الطبيعي، وأنني حين أصدر أيضاً عن مثل هذه القيم فهذا وضع معقول وطبيعي، ومن هنا الحاجة دائماً إلى الخطاب الشرعي، يأتي الشرع ليقول لنا لا وكلا أكثر من مرة، هذا ما لا يُرضي الله تبارك وتعالى، هذا ما يُسخِط الله، لماذا؟ لأن كثيراً من المشاكل بل كثيراً من المصائب والبوائق والدواهي إنما تنشأ من الالتباس، التباس الحق بالباطل، التباس النور بالظلام، التباس الصدق بالكذب، والتباس الهداية بالغواية، وحقيقة الهداية رفع الالتباس، كل هدايات السماء جوهرها وحقيقتها رفع الالتباس، لكي لا يكون لأحد من الناس على الله يوم القيامة حُجة، انتهى! لقد ارتفع الالتباس بقول الله تبارك وتعالى.

ولذلك قول الله وقول رسوله – صلى الله عليه وآله وأصحابه – إنما يأتي في هذه الشؤون وفي هذه الأمور واضحاً، بيّناً، ولا يقبل الالتباس، اللبس والالتباس يأتي من التأويل، من توظيف النصوص، ومن جعل الفهم مُعادِلاً للنص، وهذا باطل تماماً، ولذلك على الناس أن يعتمدوا وأن يصطنعوا طريقةً واضحةً جداً في مُكامَعة ومُصارَعة هذا اللتبيس المُتعمَّد.

يندر أن تجد حُكماً إلا وتجد له استثناءات كثيرة جداً جداً، وتبريرات كثيرة جداً جداً، تُوقِعنا في النهاية في الالتباس، فيصير الدم مُباحاً، والأعراض مُباحة، والأموال تُتغوَّل فيها، كل شيئ يصير مُباحاً، بالتبريرات، بأنواع المعاذير، بأنواع التأويلات، وهذا الشيئ يُشبِه أن يكون جناية حقيقية من هؤلاء الذين يقومون بهذا الدور على النصوص وعلى رسالة الدين.

الآن للأسف باسم الدين نُذبَح، باسم الدين نتذابح، باسم الدين نتعادى ونتدابر ونتشانأ ونتقاطع، باسم الدين! انتبهوا، فكأن الدين في نهاية المطاف أصبح الآن هو فقط خزين التبرير والاعتذار عنا، هو الذي يعتذر عن جرائمنا، الدين! مع أن الدين في الأصل ما أنزله الله وما أراده إلا ليُدبِّر أوضاعنا، ليكون هدايةً ورحمةً لنا، فكيف بدلنا هذه الهداية غواية؟ كيف بدلنا هذه الرحمة نقمة؟ شيئ عجيب جداً!

ولذلك ينفع ويُجدي – إن شاء الله تعالى – في أمثال هذه الأوقات العصيبة وهذه الأوقات القابضة القاتمة أن يُعاد التذكير ربما بما لا نزال نسمعه ليل نهار، إلا أن أثره لا أقول مُضمحِل وإنما أحياناً مُنعدِم في سلوكاتنا وفي حياتنا.

هذه الآيات التي تلوناها تُعتبَر دستوراً ومنهاجاً، وهي آيات لا يُمكِن لأحد أن يتسوَّر على حمى صدقيتها الروائية، لأنها من قبيل القرآن، القرآن كله مُتواتِر، إذن كيف يُمكِن أن يتسوَّر عليها؟ بالتأويل، بالتبرير، بالتفلسف، وبفتح هوامش للاستثناءات، تغدو في النهاية القاعدة هي الاستثناء، والاستثناءات – أي الهامشية هذه – هي القاعدة، وهي الصراط المُستقيم الذي لا يعرف الاستقامة، لأنه صراط الإعوجاج والالتواء، هذا شيئ من سر المحنة التي نُعاني منها للأسف في هذه الأيام.

من هذه الأحاديث وهي كثيرة جداً – سنقف هذه الخُطبة على شرح يسير وعاجل لبعض جُمل هذ الحديث الشريف – الحديث الذي خرَّجه الإمام مُسلِم – رضوان الله عليه – في صحيحه، يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا تحاسدوا، نقول هو مُربي أمة، هل نتعاطى معه على أنه مُربي أمة أم نتعاطى معه على أنه يُعطي رُخصاً للأفراد وللأهوية وللأمزجة وللمصالح المُتضارِبة؟ إذا أردنا أن نتعامل معه بحقيقته على أنه مُربي أمة ومُخرِج خير أمة أخرجت للناس – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩ – فلابد أن نفهم خطابه جيداً وأن نحترمه سلوكياً وليس تنظيرياً، سلوكياً! النبي يقول – وقوله حق وصدق، وحقيق وحري أن يُسمَع له وأن يُنعَم النظر فيه – لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المُسلِم أخو المُسلِم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، قال ولا يحقره، ثم قال التقوى ها هنا، قال الراوي ويُشير إلى صدره ثلاث مرات، قال ولا يحقره، ثم قال التقوى ها هنا، ويُشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئٍ مُسلِم من الشر أن يحقر أخاه المُسلِم، كل المُسلِم على المُسلِم حرام، دمه وعرضه وماله.

جُمل مُبينة، واضحة، ناهجة، غير مُلتبِسة، مُحكَمة، غير مُجمَلة، وغير مُشتبِهة، إنها مُحكَمة، شديدة الإحكام، ونبدأ بقوله – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا تحاسدوا، بدأ به لأنه من أمات الشرور، الحسد من أمات الشرور، وهو كما تسمعون دائماً أول ذنب عُصيَ به الله سُبحانه وتعالى، ويكفي الحاسد مذمةً وتقبيحاً لهذه الخصلة الردية الوبيلة في نفسه – والعياذ بالله – أن يعلم أنه وُضِع وسُلِك في قرن واحد مع الشرور الكُبرى التي يُستعاذ بالله منها، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ۩، يُستعاذ من إبليس ومن طوارق الليل والنهار التي تطرق بشر، أليس كذلك؟ يُستعاذ من السحرة أو من السواحر – الساحرات -، ويُستعاذ من الحاسد، نعم! إنه مع هؤلاء الأبالسة، مع هؤلاء الأشرار، يكفيه مذمةً وتقبيحاً لخلصلته ويكفيه إيقاظاً أن يعلم أن هذا الحسد يُهلِكه ويُرديه ولا يُنجيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن لابد أن يقف وقفة صدق مع نفسه، لِمَ يتآكلني الحسد؟ هل مواقفي في قولي، في فعلي، في تركي، في توجيهي النقد، في توجيهي النصيحة، وفي كل شيئ صادرة عن إخلاص وإمحاض النصيحة فعلاً لوجه الله، أم أنها فقط شفاء لغيظ حاسد يتآكله الحسد؟ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩، كلٌ أدرى بنفسه، فتِّش نفسك، يقول لا تحاسدوا.

ولذلك جعله النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – داء الأمم، فقد روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – دب إليكم داء الأمم من قبلكم، ما هو يا رسول الله؟ الحسد والبغضاء، والبغضاء الحالقة، حالقة الدين، لا حالقة الشعر، كما قال في حديث آخر أما إني لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، لا دين لمَن أيضاً – والعياذ بالله – تتآكله البغضاء، الحقد الأسود – والعياذ بالله -، والكره، أنا لا أدري كيف يكره مُسلِم مُسلِماً، أنا أفهم أن يختلف مُسلِم مع مُسلِمين، ليس مع مُسلِم وإنما مع مُسلِمين كثيرين، أفهم هذا تماماً، لكن لا أفهم كيف يكره مُسلِم مُسلِماً، لا أفهم كيف يُمكِن أن يتسبَّب مُسلِم في إيصال الأذى إلى أخيه المُسلِم، حتى وإن آذاك الآخر فلا يكن جزاؤه وقد عصى الله فيك أكثر من أن تُطيع الله فيه، هذا هو التقوى، هنا يُعرَف تقوى الله، بهذه الأشياء تُعرَف التقوى، ليس بالدعاوى، ليس بالكلام، وليس بالعبادات فقط، العبادات مُؤشِّر على التقوى، ولكن تعظيم الحُرمات من أعظم ما يُؤشِّر على تقوى الله، أن يُعظِّم حُرمات الله هذا من تقوى القلوب، تعظيم الحُرمات! كل ما حرَّمه الله وكل ما حد الله له حداً لا يُعتدى ولا يُتجاوز، هنا تعرف إيمانك وتعرف تقواك.

في حال الرضا كلنا مُمتازون، في الحقيقة أكثرنا، حتى في حال الرضا هناك مَن تتآكله أدواء عجيبة غريبة جداً جداً، لا يرضى بحال، لكن ماذا عنا في حال السخط؟ أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا أو في الرضا والغضب، في الخصومة لابد من الالتزام بأدب الخصومة، وهو ألا نتعدى حدود الله تبارك وتعالى.

البغضاء – قال – والكره، الكره هو الذي يحمل صاحبه على الازدراء، على الاحتقار – احتقار الناس -، على التكبر والاستعلاء، على أن يصل إليهم بأذى القول والفعل والإشارة، الكره والعياذ بالله! وفي النهاية ربما إلى البغي ثم الهرج، القتل! وسيأتي هذا في حديث، حديث داء الأمم أيضاً، قال والبغضاء الحالقة، أي هي الحالقة، قال والبغضاء الحالقة، حالقة الدين، لا حالقة الشعر، ثم قال والذي نفس محمد بيده لا تُؤمِنوا – هكذا قال، وأصلها لا تُؤمِنون أو لن تُؤمِنوا، لكن هكذا ملحونة – حتى تحابوا، أفلا أُنبئكم بشيئ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام، قال أفشوا السلام، كلنا نتسالم، نتطارح السلام ونتعادى ونتباغض، هل تعرفون لماذا؟ لأننا نفهم الدين على أنه مُجرَّد طقوس، رموز، إشارات، وعناوين، فرَّغنا الدين من مُحتواه، سنُجرِّب نصيحتك يا رسول الله، ولن تُجدينا، هل تعرفون لماذا؟ جوهر الدين فُرِّغ، يقول له السلام عليكم ثم يغتابه، يأخذه بالأحضان ويقول له يا أخي ويا حبيبي، أسألك الدعاء يا أخي في الله، ثم ينم عليه، ما هذا؟ ما هذا؟ لا مروءة، لا رجولة، لا صدق، ولا وضوح، ما الذي يحصل؟ لأن الدين – كما قلت لكم الدين نفسه – أصبح مخزناً للتبرير، مخزناً يمد الرياء، يمد النفاق، يمد المصلحة، يمد الانتهاز، ويمد اغتيال وانتهاك الحُرمات والحقوق، شيئ غريب جداً، يُصبح لعنة حين يُفرَّغ من مُحتواه.

لذلك هنا دائما الأصل في الروح، في القلب، وفي اللُب، فكِّروا في كل شيئ طبعي – أي طبيعي – أو مصنوع، تقريباً تقريباً كل شيئ قيمته في لُبه، لا في قشره، الفاكهة التي تأكلون قيمتها في لُبها أم في قشرها؟ في لُبها، الأجهزة قيمتها في لُبها، وحتى السيارة التي تركبون قيمتها في هذا الــ Body أو الــ Chassis – كما يقولون – أم في مُحرِّكها وفي قلبها؟ في لُبها، وفي قلبها، الإنسان قيمته في شكله ومنظره وتزاويقه أم في لُبه وفي قلبه؟ في لُبه وفي قلبه، كل شيئ! القرآن الذي تقرأه قيمته في هذه الحروف فقط أم في المعنى الذي تحمله الحروف؟ في المعنى، لذلك أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ۩ والعياذ بالله، كل شيئ إن لم تنفذ إلى لُبه لن تُفيدك هذه التزاويق، ستُضِلك، التزاويق ستُضِلك، نعم! الذي يغتر بجسم السيارة دون أن يُولي المُحرِّك أهميةً سيعقد صفقةً خاسرةً، سيشتري Body خاسراً، سيندم ندامة الكُسعي، لأنه غرَّته التزاويق.

الذي يغتر بتزاويقنا نحن البشر ومن تزاويقنا كلامنا – كلامنا، خُطبنا، واستشهاداتنا من تزاويقنا – سيندم في يوم من الأيام، علينا أن نبحث عن الجواهر، عن اللُب، عن الباطن، وليس عن التزاويق التي لا يُباليها الله بالاً، الله لا ينظر إلى كل هذه التزوايق.

أيها الإخوة:

خير ما يستثمر فيه المرء جُهده ووقته وكده ووكده هي ساحة النفس أو ساحة الروح – إن جاز التعبير -، كل استثمار غير هذا إلى اضمحلال أو إلى زوال أو إلى توريث – يأخذه غيرك -، الذي يبقى معك وأبداً – تعيش وتتعايش معه وبه – هو ماذا؟ ذاتك، نفسك! حتى في الجنة – نسأل الله أن نكون من أهلها وعمّارها، اللهم آمين – وأنت هناك حي مُؤبَّد تتعايش مع ماذا؟ ليس مع نفسي، وليس مع نفس أبي بكر أو عمر، مع نفسك أنت، كيف كانت نفسك هذه؟ آخر درجة استكملتها من درج الكمال في الدنيا ستتمتع بها هناك إلى الأبد، انتبه! إذن أعظم استثمار أن تستثمر في شخصيتك، استثمر في كمالاتك، لكي تعيش بهذه الكمالات في الآخرة، وإلا ستعيش هناك حياة سعيدة رغيدة رضية، ولكن بكمالات منقوصة، بشطر أو بكسور من الكمالات.

بعض الناس ساحة نفسه حديقة ريّانة، غناء، مُخضَرة، بهيجة، ذات بهجة، فيها من أنواع الرياحين والأزاهير والورود، والخضر، حديقة! وهو حريص على أن يزِدها بهجةً وجمالاً دائماً، لأنه من عشّاق الكمالات، الذين غطفت أحاسيسهم وأمزجتهم، وصفت نفوسهم، ورقت طباعهم، وسمت أرواحهم، واتسعت صدورهم، وانداحت منادج نفوسهم، حديقة! سُبحان الله، فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۩، هذه الحديقة سيُفتَح بابها لينظر فيها رب العزة والرسول والمُؤمِنون، إنها مُشرِّفة لأصحابها في الدنيا والآخرة.

وهناك – والعياذ بالله – مَن ساحات نفوسهم مكبات للزبالة والقمامات والنتن والحيض والجيف وكل ما هو وسخ وقذر وحقير وناتن، الغش والكذب والحقد والدجل والمكر والاحتيال والكره والحسد والبغي والظلم وتجاوز الحدود والعُهر والفسق والرذالة والسفالة، ما هذا؟ أعوذ بالله، كيف؟ كيف سيكون حال هذا الإنسان حين تُبلى السرائر – يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩ -؟ يوم يُفتَح باب هذه الساحة على ماذا سيُفتَح؟ لا أدري، وهؤلاء منهم مَن يتزوَّق، يحلق ذقنه كما يُقال، يُهذِّب لحيته، يستعطر، يُسرِّح شعره، يلبس أحسن لباس، لكنه مُنطوٍ على جيف وأقذار، ما هذا؟ لن يُفيدك هذا، وحتى في قلوب المُؤمِنين لن يكون لك وقع، المُؤمِن الصادق الحادس بنور الإيمان لا يُمكِن أن يتأثَّر بك، لا يُمكِن أن يجد قبولاً وهفواً إليك، لا يُمكِن أن يهوي إليك قلبه، مُستحيل! إنه يشعر أن هناك شيئاً غير عادي وغير مقبول، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، انتبه! يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ۩، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ۩، كله! سيخرج هذا.

فانتبه إلى أرضك، أجعلتها حديقة أم مكباً للزبالة؟ إلى أرض نفسك أعني، فأنت خليفة الله في أرض نفسك، هذا خير ما يُستثمَر فيه، وهذا الباقي، هذا الذي ستعيش به إلى الأبد إن شاء الله تعالى، نسأل الله أن يُعيننا على أنفسنا.

فالنبي يقول هذا هو داء الأمم، اعتدنا أن نسمع كلمة المسيحيين الله محبة، والتي تُؤخَذ عن عيسى عليه السلام، الله محبة! أحياناً لم نكن نستوعب هذه الكلمة، أحياناً نستغربها، الله محبة! نقول إنها كلمة مُخالِفين في المِلة والدين، بالعكس! هذه جوهر الدين، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم، بصيغة أُخرى قالها، ما معنى قوله والذي نفس محمد بيده؟ يُقسِم، عيسى قال الله محبة، النبي يُقسِم، يقول والله – أي والله – لا تُؤمِنوا حتى تحابوا، إذن الدين ماذا؟ الدين محبة، الإيمان محبة، والله محبة إذن، هذا هو، نفس المعنى! كيف؟ بعض الناس لا يفهم هذا، بعض الناس قد يظن أنه يقطع الطريق إلى الله بالعبادات، بالأذكار، وبالهينمة، يُهينم ليل نهار بالتسابيح والصلوات والاستغفارات، ويُرضيه هذا ويكفيه، لكن قلبه خراب من الحُب، لا يعرف لُغة الحُب ولُغة الأُلفة، النبي قال المُؤمِن إلف مألوف، ولا خير في مَن لا يألف ولا يُؤلَف، النبي قال لا خير فيه، انظر! هذا مسبار، تختبر به نفسك، هل أنت محبوب؟ هل يُحِبك الناس؟ إذا غبت هل يشتاقون إليك أم يرتاحون منك؟ وتخيَّل وتوهَّم أنك إذا مِت هل يبكون عليك الدمع السخين أم يقولون غفر الله وأراح الله؟

الإمام عليّ – انظروا إلى هذه الوصية، كم تقع في النفس الكاملة أو طالبة الكمال والله! – يُوصي الحسنين عليهما السلام، يقول يا بَني عاشروا الناس مُعاشَرةً إذا غبتم اشتاقوا إليكم، أي يشتاقون إليكم الناس، يُحِبون مجلسكم وحضوركم، لأنكم في خير، ولا يُرى منكم إلا خير، لا يُسمَع منكم إلا خير، لا تصلون إلى الناس إلا بخير، الله أكبر! طبعاً مثل هذا في الناس قليل، صدِّقوني أحياناً أسأل نفسي – وأظن أن كلاً منا يسأل نفسه هذا السؤال – وأجد فيمَن عرفتهم – وهم بالألوف – عدداً قليلاً جداً جداً، لعله للأسف – وهذا مع الجميع – لا يُكمِل أصابع اليد الواحدة، عبر حياتي أجد هناك أُناساً محدودين جداً – لعلهم لا يكونون خمسة فعلاً – فعلاً أشتاق إليهم وأتمنى لو أجلس إليهم كل حين، وحين أنظر إليهم وأنظر إلى هؤلاء لا أجدهم الأعلم ولا الأكثر كرامات أو فتوحات إلهية ولا الأقوى جاهاً أو سُلطاناً ولا الأكثر أموالاً، إنما أجدهم الوادعون المُتواضِعون الطيبون، الذين لم يكن الناس منهم إلا في خير، لا يُؤذون أحداً، لا يغتابون أحداً، لا ينمون على أحد، لا يكرهون أحداً، ولا يذكرهم أكثر الناس إلا بخير، يُقال عن أحدهم فلان بارك الله فيه، طيب، لأنه طيب، فهنيئاً لهم، أتمنى أن أكون مثلهم، هذا أفضل من العلم، أفضل من المال، وأفضل من الجاه، والله أفضل من كل شيئ أن تكون هكذا.

ولذلك احتجت الجنة والنار، فقالت النار أُوثِرْتُ بالمُتكبِّرين والمُتجبِّرين، وقالت الجنة أُوثِرْتُ بالضعفاء والمساكين، أنا ما لي؟ تقول الجنة، ما قصتي هذه كلها؟ الذين يدخلونني كلهم ضعفاء ومساكين، لا يُوجَد ملوك، ولا يُوجَد حتى علماء كبار جهابذة، ألَف الواحد منهم خمسين مُجلَّداً، ليست هذه العبرة أبداً أبداً، العبرة أن تكون ضعيفاً مسكيناً طيباً وادعاً وعبداً صالحاً، قد تكون عالم كبيراً وأنت عبد صالح وادع، هذا مُمكِن، لكن هذا قليل للأسف، قليل!

فقال الله – تبارك وتعالى – مُخاطِباً النار أنتِ عذابي، أُعذِّب بكِ مَن أشاء مِن عبادي، وخاطب الجنة أنتِ رحمتي، أرحم بكِ مَن أشاء مِن عبادي، هذه حكمتي! ماذا؟ أُتريد أن تحتاز جنة الله بالكبر؟ هو له الكبرياء والعظمة، لا يُنازع فيهما، أتُريد أن تحتاز جنة الله بالمال وهو بعض ما في خزائنه؟ كل هذا الكون بعض ما في خزائن الله، خزائن كُن فَيَكُونُ ۩، بماذا تُريد أن تحتاز جنة الله؟ أتُريد أن تحتاز جنة الله بالعلم؟ هل سترجع إلى الله بالعلم، وتقول له يا رب أنا عندي علم، لكنني كنت خُلُوّاً أو خُلَوّاً من الوداعة والطيبة والخير؟ هل ستقول له كان عندي علم، وكنت أتشدق وأتفيهق؟ أترجع إلى الله بهذا؟ هل ستقول له ألَّفت مُؤلَّفات؟ هل ستقول له يارب عندي مائة مُجلَّد في شريعتك؟ هل الله يحتاج هذا؟ مسكين أنت! الله يحتاج أن تكون عبداً وادعاً، عبداً ربانياً.

بالأمس استمعت إلى قصة فعلاً تستدر الدموع وتستزف المآقي، قلت هذا هو الدين، يا ليت لنا شيئ من هذا الدين! يا ليت لنا بعض شيئ من هذا الدين! قصة رجل مُزارِع حدَّثني مَن يعرفه شخصياً، قال هذا الرجل لم يكن يُحِب أن يجلس كثير جلوس مع الناس، يجلس مع نفسه ويهتم بزراعته، ولكن يحضر كل صلاة في أول وقتها ويسمع الأذان، علماً بأنه كان في عريش مصر، كان يعيش في عريش مصر هذا الرجل، رحمة الله عليه رحمة واسعة، قال مُحدِّثي وفي يوم من الأيام أمحلت الأرض، منعت السماء خيرها وغيثها، فقالوا يا حاج فلان – يعرفونه الناس، الناس يعرفونه – لو دعوت الله لنا، فزرعنا كاد يموت، انتهى كل شيئ، ذهب التعب! قال يفعل الله ما يشاء، ثم توجَّه إلى القبلة ورفع يديه، يقول مُحدِّثي ما هو إلا أن وضع يديه ومسح بهما وجهه حتى – والله – جاءت غمامة لا تزيد عن حجم غُرفة، جاءت تسوقها الريح، يراها الناس يا إخواني، الله أكبر يا أخي! أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ۩، هذا هو الدين، دين يراه الناس ويحسونه، كدين محمد وصحبه يا إخواني، دين يُحَس، ليس ديناً يُقال كديننا، أعاننا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما هذا؟ ثم أفرغت كأنها جرة وكُسِرت، يقول مُحدِّثي هذا، النبي والصحابة كانوا يرونها كأفواه العزالي، أي القرب، أفرغت وكادت تُغرِق ما هُنالك، فُهرِعوا إليه قائلين يا حاج فلان ادع ربك أن يُمسِك عنا بعض هذا الخير، فقد كاد يهلك الزرع لشدة الغيث، فقما ودعا ربه فأمسكت من فورها، فدعا الناس له بخير، الله أكبر يا أخي!

رجل مُفترٍ، له بيت على علية هناك يسكنه، يُرسِل فرسه – وهي فرس عتيقة أصيلة، تسوى الكثير، وهو مغرور بها – في قمح هذا الرجل الصالح، فأنذره، يا فلان – قال – أنا أسمح لك أن تُرسِلها في شعيري، الشعير للبهائم، لكن هذا القمح للبشر، غيث البشر هذا، رغيف خُبز البشر، فأمسك فرسك عنا، قال إن شاء الله، رجل منكود منحوس عاثر والعياذ بالله، ثم هو يُرسِلها، كل يوم وليلة يُرسِلها عند الفجر، فلما تمادى هذا الرجل ولم ينزع قال له حذَّرتك، الآن إن حصل شيئ فأنت الملوم، قام الرجل ورفع يديه فوقفت الفرس، لا تريم ساعة وساعتين، فشك صاحبها، فجاء فإذا بها قد عميت، قال يا حاج كذا وكذا، فقال لا، الله ليس لعبة – هكذا بالعامية -، لا أستطيع أن أدعو كل حين بما أُريد، دعوت عليها وهذا الانتقام منك فيها، خيرٌ من أن يكون الانتقام منك أنت، خُذها واذهب، الله أكبر يا أخي، ما هذا؟ هذا هو الدين، هذا هو التقوى، هل عندنا مثل هذه اللياقات الإلهية ومثل هذه الصلات؟ لا، لأنه ليس عندنا مثل هذا الدين، عندنا كلام وطقطقة وكلام، والعياذ بالله حصائد الألسنة، هذا الذي أهلكنا، ثم نزعم أننا مُتدينون.

إذن التحاسد – والعياذ بالله – والتباغض، قال لا تحاسدوا، روى ابن أبي الدنيا عن ابن عمر – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال إبليس – لعنة الله عليه – لنوح – عليه الصلاة وأفضل السلام – يا نوح إنما أُهلِكوا بني آدم بخصلتين، ما هما؟ قال الحسد والحرص، وبالحسد لُعِنت وجُعِلت شيطاناً رجيماً، ولذلك أنا حريص على أن أُوفِّر حظ كل امرئٍ من هذه الخصلة الرديئة، يُعظِّم الحسد في نفسك وأنت لا تدري والعياذ بالله، والحرص ما له؟ قال أُبيح آدم الجنة كلها – أي أُبيحت الجنة كلها لآدم، لكن هذا التعبير أفصح، أُبيح آدم الجنة كلها -، فنلت منه ما نلت بالحرص، حريص يا أخي، الجنة كلها عندك، لا! يُريد ما مُنِع، الله أكبر يا أخي، ألم يكفك كل ما عندك حتى تتطلَّع إلى ما عند غيرك وتحرص على أن تجمعه ثم تمنعه؟ لماذا هذا الحرص؟ أين القناعة؟ أين النفس الراضية؟ لا تُوجَد، هذا ضيق النفس والعياذ بالله، فهذا الحسد وهذا الحرص والعياذ بالله تبارك وتعالى.

روى أبو داود، قال – صلى الله عليه وسلم – إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وفي رواية العُشب، كيف تأكل العُشب؟ بسرعة، بسرعة شديدة جداً جداً، قال الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار العُشب والعياذ بالله، إياكم! قال إياكم والحسد، يُحذِّر منه، قال لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، النجش فُسِّر بمعنين، عام وأخص، أما الأخص فقالوا النجش هو النجش في البيع، وهو أن يزيد مَن لا يُريد شراء السلعة في ثمنها، نفعاً أو منفعةً للبائع أو مُضارةً – أي يتسبَّب في الضرر – بالمُشتري والعياذ بالله، هو لا يُريد أن يشتريها، لماذا يزيد في سعرها؟ قصده أن ينفع صاحب السلعة، حتى يبيعها بما هو أكثر، أو يضر المُشتري، فتُقوَّم عليه بأكثر من ثمنها، لا يجوز يا أخي، هذا ضد النصيحة، هذا من المكر، هذا من الخديعة والعياذ بالله، هذا من الغش، ومن التزييف في الحقيقة، لا تناجشوا، والعياذ بالله.

وأما المعنى العام فهو معنى المكر والمُحايلة والمُخادَعة، لأن أصل النجش إثارة الشيئ بمكر وحيلة وخديعة، أي شيئ تُثيره، مثل إنسان ساكت، تُريد أن تُثيره حتى يعترف بشيئ يُسِره بين أضالعه، لو أثرته أنت ناجش، والنجش مُحرَّم والعياذ بالله، من الذنوب الكبيرة.

ولذلك يُسمى الصائد أو الصيّاد ناجشاً، لأنه يُثير صيده بحيلة وخديعة، هذا المعنى الأعم أو العام للنجش، فيدخل فيه – والعياذ بالله – تحريم كل مُخادَعة ومُحايلة ومكر وخديعة، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – كما رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود، أي مرفوعاً، قال مَن غشنا فليس منا، والمكر والخديعة – أو قال والخداع – في النار، ما معنى المكر في النار؟ يا ليت المكر في النار! المقصود صاحبه، لو كان المكر في النار لأرحنا منه، لا! معنى الحديث بالإجماع المكّار والمُخادِع في نار جهنم، والمكر والخديعة – أو قال والخداع – في النار والعياذ بالله.

روى الترمذي عن أبي بكر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ملعونٌ مَن مكر بمُسلِم أو ضاره، ملعون! ممنوع هذا، ممنوع منعاً شديداً أن تمكر بأخيك المُسلِم، هذا أخوك يا أخي، أين المحبة؟ الإيمان محبة، حتى تحابوا! لو كنت تُحِبه لأحببت له ما تُحِب لنفسك من الخير، كيف تمكر به؟ كيف تخدعه؟ كيف تُخفي عنه الحقيقة حتى تغتال ماله أو تتغوَّل حقه؟ لا يجوز، ملعونٌ – والعياذ بالله – مَن مكر بمُسلِم أو ضاره، لعن! واللعن من علامات الكبائر، من الفوارق التي يُفرَّق بها بين الكبائر والصغائر اللعن، كل ذنب فيه لعن فهو من كبائر الذنوب، انتبهوا! وكبائر الذنوب لا تُغفَر إلا بالتوبة الصادقة، لا بصلاة ولا بصوم ولا بوضوء، إنما بالتوبة الصادقة، أن تنزع عنها، تستحضرها وتنزع عنها، أعانني الله وإياكم على ذلك، فممنوع المكر والخداع، لابد من الصدق، لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا.

أيها الإخوة:

علَّل الله – تبارك وتعالى – لتحريمه أم الخبائث – أعني الخمرة بعلتين، قال إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ۩، علتان! والعلة الأولى منهما ما هي؟ إيقاع العداوة والبغضاء بين جماعة المُؤمِنين بالخمر، لذلك هذه الخمر والميسر مُحرَّمان والعياذ بالله، لأنهما يجعلان المُسلِمين يتباغضون، لا يجوز! لا يجوز أن نتباغض، ينبغي أن نتحاب، هل تعرفون لماذا الله محبة والإيمان محبة ولا يكمل إيمان المُؤمِن حتى يُحِب إخوانه وأهل مِلته؟ لأنه من المُستحيل أن تزعم حُب الله وأنت تكره مَن يُحِبه الله، الله يُحِب عباده المُؤمِنين بلا شك، يُحِب الذاكرين، المُصلين، الوادعين، والطيبين، يُحِبهم! ولماذا لا تُحِبهم أنت؟ لأنك لا تُحِب الله حقاً، فإيمانك منقوص، لو أحببت الله حقاً لأحببت عباده.

أين نحن من مولانا بديع الزمان النورسي – قدَّس الله سره – الذي أفضى إلى أحد تَلاميذه وخِلصانه يوماً بقوله يا فلان إني لأود – أي لو خيَّرني الله – أن يُوحَّد الله وأن يُطيعه كل خلائقه وأن أدخل النار أنا بدلاً عنهم إن كان لابد؟! فالرجل هذا لم يستطع أن يستوعب، هذا منطق عجيب جداً، تحتاج إلى فترة لكي تستوعبه، بعض الناس يحتاج إلى عشرين سنة حتى يستوعب هذا المنطق، لأن هذا لا يُفهَم بالمنطق، يُفهَم بالتجربة، حين ترتقي في محبة الله وطاعته إلى مثل رُتبته ستفهم منطقه، من فرط حُبه وعشقه وصدقه مع الله – تبارك وتعالى – هو يُحِب ماذا؟ يُحِب كل ما يُحِبه الله، الله يُحِب أن يُوحَّد، يُحِب أن يُحمَد، يُحِب أن يُعبَد، ويُحِب أن يُمدَح، ما أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك حمد نفسه في الصحيح، يُحِب أن يُمدَح وأن يُحمَد وأن يُعبَد وأن يُشكَر، وهذا الشيخ الصالح – قدَّس الله روحه الكريمة – يُحِب ماذا؟ يُحِب ما يُحِبه الله، فيود هو أن يُوحِّد الخلائق أجمعون ربهم وأن يحمدوه وأن يشكروه وأن يعبدوه، ففي هذا ماذا؟ محبة الله، في هذا رضا الله، الله يُحِب هذا، الله يرضى هذا، ولو كان هو فداءً لهم في نار جهنم، الله أكبر يا أخي! ما هذه الروح؟ ما هذه النفس؟ هذا الشيئ – كما قلت لكم – لا يُستوعَب، الآن استوعبناه سمعاً، هل نستوعبه ذوقاً؟ صعب جداً جداً، اللهم فرفِّعنا ونقِّلنا في مثل هذه الرُتب، حتى نفهم مثل هذا الكلام الذي يُسمَع ولا يُفهَم، كلام صعب جداً جداً، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم وألحقنا الله بهم.

قال ولا تباغضوا، ولذلك جاءت نصوص قرآنية وحديثية نبوية كثيرة مدارها على قطع شأفة البغضاء والشنآن بين جماعة المُؤمِنين، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين – ألا أُنبئكم بشراركم؟ أي شرار هذه الأمة، هل تعلمون مَن؟ قالوا بلى يا رسول الله، أنبئنا، قال المشاءون بالنميمة، المُفرِّقون بين الأحبة، الباغون البرآء، أو الباغون للبرآء العنت، ثلاث صفات والعياذ بالله! أولها قال المشاءون بالنميمة، حتى الصفتان اللتان على الولي إنما تتفرَّعان من هذه الصفة، من هذه الخصلة الذميمة، المشاءون بالنميمة، لا يدخل الجنة قتات، وهو النمّام، لا يدخل! النبي قال لا يدخل الجنة قتات، لابد – والعياذ بالله – أن يتطهَّر أولاً، حتى وإن كان مُوحِّداً، من أرذل الذنوب والعياذ بالله تبارك وتعالى، لماذا؟ لماذا؟ لأنه ليس كامل الإيمان، هذا ليس مُحِباً لله، لو كان مُحِباً لله لأحب أن يتحاب المُؤمِنون، لأحب أن يُقرِّب بين قلوب المُسلِمين، هذا أكثر ما يُحِبه الله، وهذا منطق النبي، انتبهوا الآن، حديثان مُختلِفان – لا إله إلا الله – ومخرجهما مُختلِف، ولكنهما يلتقيان على معنى واحد.

سيقول أحد المناطقة إذا كان حقاً النبي قال هذا الحديث فحتماً ولزاماً أنه إذا سُئل ما هي أحب الأعمال ومَن هم أحب الخلق إلى الله أن يأتي بضد هذا الوصف، وقد فعل في حديث آخر وفي مُناسَبة أُخرى، لأنه لا ينطق عن الهوى، لا يتكلَّم كلام وعّاظ أمثالنا – كل ساعة نتكلَّم بما نُحِب، بما نشتهي، وبما يخطر في خواطرنا – أبداً، كلام موزون ودقيق، إنه وحي يا إخواني، ذكرى! ذكر من رب العالمين، قال هنا – والعياذ بالله – شرار هذه الأمة المشاءون بالنميمة، المُفرِّقون بين الأحبة، الباغون البرآء، أو الباغون للبرآء العنت – والعياذ بالله – في رواية، أي الذين يكشفون عن عيوب الناس، يبغون لهم العيب، أو هتك عيوبهم، أو التماس عيوب لمَن لا عيب له والعياذ بالله، هؤلاء شر خلق الله، أبغض خلق الله إلى الله، حتى وإن كانوا يُصلون الليل والنهار، لا يجديهم هذا كثيراً عند الله.

في الحديث الآخر – حديث أبي الدرداء – قال – صلى الله عليه وسلم – ألا أُخبِركم بأفضل من الصلاة والصوم والصدقة؟ هل هناك ما هو أفضل من الصلاة؟ النبي يقول نعم، هناك ما هو أفضل من الصلاة، عجيب! إذن هذه ليست طريقتنا وأمثالنا أن نقول ليس الدين مُجرَّد عبادات، قد يكون هناك ما هو أهم من العبادات، هذه طريقة محمد، هو يقول هذا في عشرات الأحاديث، هناك ما هو أفضل منها، لكن طبعاً هذا لا يُسقِط فرضية الصلاة، الصلاة عمود الدين، لكن هناك ما هو أفضل منها، إنه أكثر قُرباً من جوهر الدين، من روح الدين، من حقيقة الإيمان، ومن حقيقة العرفان، ألا أُخبِركم بأفضل من الصلاة والصوم والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال إصلاح ذات البين، عكس النميمة، النميمة إفساد ذات البين، أسوأ الأعمال! في حديث آخر قال إذن أفضل الأعمال ما هي؟ عكس ما تأتي به النميمة، العكس! أنموا خيراً، النبي قال ليس النمّام الذي ينقل خيراً أو ينمي خيراً، هذا ليس النمّام، بالعكس! لذلك جاز في هذا الباب – الصُلح بين المُسلِمين وإصلاح ذات البين – الكذب، اكذب! اكذب وأنت مأجور على كذبك، مأجور على هذا الكذب، ولست بنمّام ولست بكاذب، أنت خير الكاذبين وخير النمّامين، هذا كذب خير ونميمة خير، النبي قال هذه ليست نميمة.

قال إصلاح ذات البين، لماذا يا رسول الله؟ لماذا؟ يُوجَد تعليل منطقي، تعليل في أعلى درجات المنطقية، قال فإن فساد ذات البين هي الحالقة، الله أكبر! مرة أُخرى يقول إذا فسد ما بين المُسلِمين فسوف يُحلَق الدين، أنا مرة قلت لإخواني أستغرب ولا أستطيع أيضاً أن أستوعب الآتي، هل تستطيع أيضاً أن تُواصِل صلاتك وعبادتك والتذاذك بالقرآن الكريم وبالذكر وبأي شيئ وأنت في حال خصام مع إخوانك؟ أنا لا أستطيع، لا أستطيع ولا أعرف كيف يُمكِن هذا، ولذلك – والعياذ بالله – الخصومة مكروهة، ينبغي على المُسلِم الصادق أن يكره الخصومة، وأن يسعى بكل سبيل إلى إزالتها مُباشَرةً يا إخواني، لكن أنا أشك في صدق مَن يدّعي أنه يعبد الله ويُصلي ويقوم وما إلى ذلك وهو في حال خصومة، كيف هذا؟ كيف؟ ليس صحيحاً، هنا يُوجَد شيئ ناقص، يُوجَد شيئ فيه كذب، يُوجَد كذب، في التدين، في الكلام، وفي الدعاوى يُوجَد كذب، مُستحيل! النبي قال فإن فساد ذات البين هي الحالقة، وتعلمون طبعاً – العلم عندكم الآن – تحلق ماذا، تحلق الدين، لا يبقى شيئ من الدين، يبقى الإنسان أقرع من الدين أبداً، خلواً من كل دين والعياذ بالله، فساد ذات البين!

لذلك هذه خير الأعمال، اللهم أعنا على ذلك، اللهم أعنا على ذلك، أي على أن نصل مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ۩ يا إخواني، قال لا تباغضوا، ومن هنا حرَّم الغيبة، طبعاً لأن المُغتاب إذا علم أن أحد إخوانه يغتابه وربما يظن فيه الخير أو كان يظن فيه الخير بلا شك سيقع شيئ من كرهه على الأقل والاستياء من فعله في قلبه، سيحزن المُسلِم، لماذا؟ لماذا يغتابني؟ بعض الناس تقول يا أخي أنا أغتابه، أذكر ما فيه، هذا من الجهالة الغليظة، في صحيح مُسلِم سُئل عن الغيبة فقال ذكرك أخاك بما يكره، قيل يا رسول الله فإن كان فيه؟ قال إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهته، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ۩، هذا أسوأ بكثير من الغيبة، أن تذكره بما ليس فيه، لكي تشنأه ولكي تنتقص منه والعياذ بالله، هذا هو البهتان، كله مُحرَّم، هذا مُحرَّم وهذا مُحرَّم، وهذا أغلظ والعياذ بالله تبارك وتعالى، هذا مُحرَّم أيضاً!

التناجي، في حديث ابن مسعود لا يتناجى اثنان دون الثالث، لماذا؟ فإن ذلك يُحزِنه، وفي رواية من أجل أن ذلك يُحزِنه، النبي لا يُحِب أن يحزن المُسلِم، لماذا يحزن المُسلِم؟ قال لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، كأنه يقول لا تهاجروا، لا تتهاجروا! مأخوذ لا تدابروا من أن يُولي المرء أخاه دُبره، ويُعرِض عنه بوجهه، بمعنى التقاطع، بمعنى الهجران، وتعلمون لا يحل لمُسلِم أن يهجر أخاه المُسلِم فوق ثلاث – والحديث أصله في الصحيحين -، يلتقيان فيُعرِض هذا ويُعرِض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، معروف! ونحن صغار نُكرِّره، لكن للأسف بعضنا لا يُطبِّقه.

في أبي داود هجر المُسلِم سنةً – أي مَن هجر أخاه المُسلِم سنةً، مَن هجر أخاه سنةً، ما إثمه عند الله؟ – كسفك دمه، الله أكبر! أي هل يُبعَث يوم القيامة قاتلاً؟ هل كأنه قاتل؟ نعم، بإثم قاتل، يُبعَث يوم القيامة وكأنه قتل أخاه، وبالمُناسَبة هذه الأشياء خطيرة جداً، لو أحسنا فهمها – لكن لا نُحِب في هذا المقام التنظير والتفلسف – سنعلم أن النبي هنا فعلاً لا يتكلَّم لُغة واعظ أبداً، يتكلَّم لُغة بانٍ لأمة وحضارة، بمعنى أنني إذا هجرت أخي المُسلِم سنةً فكأنني قتلته، هل تعرفون لماذا؟ ما خير – أي أين الخير؟ – في أمة يتدابر ويتهاجر أبناؤها إلى هذه المدى المُتمادي؟ إذن هي أمة خالية من التكامل، خالية من روح الجماعة، من عقل الجماعة، ومن مِزاج الجماعة، إذن خالية من الإنتاجية، من الإنجازية، ومن الفاعلية، أمة كل واحد فيها يعيش في طريقه وعلى طريقته وعلى هواه، هذه ليست أمة.

لذلك ما معنى أن النبي يقول دب إليكم داء الأمم؟ انتبهوا، نحن نفهم أن يحسد وأن يبغض وأن يكره وأن يُعادي امرؤٌ امرأً، نفهم هذا، لكن لا نفهم كيف تتعادى الأمة، والنبي يقول هذا من أدواء الأمم، فكِّروا فيها! واحد يحسد واحداً، هذا مُمكِن، أحد الناس يُبغِض أحدهم، هذا مُمكِن ومفهوم، أحد الناس يُعادي أحدهم، هذا مفهوم، لكن كيف تتعادى الأمة، تتحاسد الأمة، وتتباغض الأمة؟ فكَّرت في هذا، لم أجد جواباً أو لم أحر له جواباً إلا أنه يُؤشِّر إلى تحزب الأمة، حين تتحزب الأمة، شيعاً وأحزاباً، سياسية، طائفية، مذهبية، عقدية، وأيديولوجية، إلى ما هنالك، وطبعاً بعد أن تتحزب – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ۩ – يتفلسفون على بعضهم وعلينا، يقولون لا، نحن مُختلِفون في الظاهر ولكن طريقتنا واحدة، هذا كلام فارغ، أنتم مُتباغِضون يا حبيبي، أنتم مُتشانئون، أنتم مجالسكم غيبة ونميمة ومكر وخديعة، ثم تقولون لنا في الظاهر نحن مُختلِفون، هذا كلام فارغ هذا يا أخي، كلام فارغ! تتحزبون ويتحزبون ثم تتعاودون والعياذ بالله، والآليات معروفة، الهجران، التقاطع، الاستكبار، الاستعلاء، الاستهزاء، التحقير، التخوين، التفسيق، التبديع، والتكفير، ثم نصل إلى البغي والقتل، هذا هو! والنبي يقول هكذا تهلك الأمم، هكذا تُستنزَف طاقات الأمم.

روى الإمام الحاكم أبو عبد الله في المُستدرَك على الصحيحين وغيره، قال – صلى الله عليه وسلم – دب إليكم داء الأمم قبلكم، ما هو يا رسول الله؟ قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتحاسد والتباغض، حتى يكون البغي ثم الهرج، الله أكبر! كأنه يُصوِّر حالتنا اليوم والله، نعم بالضبط تماماً، قيمنا أصبحت ليست روحية، انتبهوا! قليلة جداً، تجدون مُتدينين وربما حتى دُعاة أو علماء دين – بعضهم طبعاً، أعوذ بالله، ليس الكل، مَن قال هلك الناس فهو أهلكهم – لكن القيم والدوافع الحقيقية مادية، مادية! حُب الظهور، حُب المنزلة، حُب الشرف، حُب الإمارة، حُب النقود، وحُب البرستيج Prestige، كلام فارغ! لا يُمكِن أن يفهمه إنسان مُتروحِن وإنسان رباني، ولا يستوعبه بأي حالة من الحالات، قيم مادية! تنافس وتكاثر، مع طبعاً أشر وبطر والعياذ بالله، ثم بعد ذلك تحاسد وتباغض، يُؤدي إلى ماذا؟ إلى البغي، إلى مُجاوَزة الحدود، إلى التعدي – والعياذ بالله – على الحُرمات، خرق حدود الله وتعاطي حُرماته، وبعد ذلك الهرج، ما هو الهرج يا رسول الله؟ في حديث آخر في الصحيح قال القتل، القتل! ومن علامات الساعة القتل، قال حتى لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قُتِل، هل تظنون أن الذي يأتي ويُفجِّر نفسه – مثلاً – في مائة من الناس أو مائتين يدري لماذا يقتلهم؟ مُستحيل، هل هو يعرفهم أصلاً؟ هل يعرف مَن هؤلاء؟ انتهى! قبيل من الناس تُوضَع عليهم لافتة مُعيَّنة، فلنتخلَّص منهم، بعض النظر عن أي شيئ، وبعضهم – بعض هؤلاء الضحايا – قد يكون عند الله – تبارك وتعالى – خيرٌ من مثل هذا، بل قد يكون خير من ملء الأرض من مثل هذا وأمثاله عند الله، يُقتَلون هكذا! طبعاً هذه حالة من ماذا؟ أنا قلت في أول الخُطبة هذه حالة عُصابية، هناك حالة جنون جماعي نعيشها الآن، حالة جنون حقيقية، فلابد أن يكون لكل أصحاب الذكر والنُهى والحجى دور حقيقي في التحذير منها، في تقبيحها، في مذمتها، وفي إيجاد عوامل مُقاوَمة وعوامل إيجاد أيضاً لحالة أُخرى مُختلِفة تماماً، تتواصل فيها الأمة، وتتحابى، وتتسع صدورها، وصدِّقوني مَن كان وجهه إلى الله دوماً هانت عليه الدنيا، لذلك تجدون في كتاب الله كثيراً جداً التعويل على ماذا؟ لابد من اشتراط ماذا؟ اشتراط الإيمان بالله واليوم الآخر، لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۩، طبعاً لأن مَن كان وجهه إلى الله ويتلمَّح ما عند الله هانت عليه الدنيا، هانت عليه خصومة الأخصام، أذيتهم، ومذمتهم، كل شيئ يهون!

هل يعجز أحدكم – النبي يقول – أن يكون كأبي ضمضم؟ ما شأنه يا رسول الله؟ قال هذا كان كلما أصبح يقول اللهم إني تصدَّقت بعرضي على المُسلِمين، مَن يغتابني أقول عنه سامحه الله، مَن يسبني أقول عنه سامحه الله، ومَن يفتري علىّ أقول عنه سامحه الله، يُحِبهم! يُحِب إخوانه، لماذا؟ هو في غنى بعلاقته بالله تبارك وتعالى، أغننا بالافتقار إليك، غنى بالروح والريحان والنعيم المُقيم الذي يعيشه بصدقه مع الله، هو في نهار موصول الضُحى والألق بإخلاصه لله تبارك وتعالى، تهون عليه الدنيا، يتسع صدره، وتطيب نفسه، شيئ عجيب! يجود حتى بالدنيا التي عنده، لا يعنيه شيئ من أمر هذه الدنيا، يعلم أنها مُترحِّلة قريباً، هذا هو الدين، هنا يبدأ الدين، وإلا تُصبِح القيم مادية، قيم تنافس وصراع، وندّعي أننا مُتروحِنون، أي مُتدينون، هكذا!

قال ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، ومعلوم لماذا نهى أن يبيع المرء على بيع أخيه، وفي الحديث الصحيح وأن يخطب على خِطبة أخيه، لأن هذا يُورِث البغضاء والشحناء، اتركني أتمم صفقتي أو أنصرف أو أستقيل، لكن لا تبع على بيعي، ولا تخطب على خِطبتي، كل هذا تنفير من ماذا؟ تنفير مما يُحدِث فجوة بين المُسلِمين، مما يقطع أواصرهم التي أمر الله أن تُوصَل، هكذا!

ثم قال المُسلِم أخو المُسلِم، هل نستحضر هذا؟ هل نستحضر أننا فعلاً إخوة؟ قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ۩، لم يقل إنما المُؤمِنون إخوان، كلمة إخوان هي أُخوة معنوية، إخوان في العلم أو في الدين، لكنه قال إِخْوَةٌ ۩، لا تُقال إِخْوَةٌ ۩ إلا في أخوة أو أخوة النسب والدم، الله أكبر! مُبالَغة واضحة جداً، الله يقول أنتم إِخْوَةٌ ۩، مثل فعلاً مَن هم إِخْوَةٌ ۩ من رحم ومن صُلب واحد، قال أبو تمّام رحمة الله عليه:

إن يَختَلِف ماءُ الوِصالِ فَماؤُنا                            عَذبٌ تَحَدَّرَ مِن غَمامٍ واحِدِ.

أو يَختَلِف نَسَبٌ يُؤَلف بَيْننا                                    دينٌ أقمناهُ مقامَ الوالدِ.

رضيَ الله عنه بهذا البيت، لأنه مُصدِّق لقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ۩، قال إِخْوَةٌ ۩، إِخْوَةٌ ۩ في النسب نحن يا أخي، الله يقول أنتم إِخْوَةٌ ۩ في النسب، كيف هذا؟ أُخوة حقيقية! المُسلِم أخو المُسلِم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، قال لا يظلمه، الله وهو ربنا حرَّم الظلم على نفسه، أفيليق بالعبد أن يظلم أخاه؟ مُستحيل، الظلم ظلمات يوم القيامة والعياذ بالله، أقبح ما يُلقى الله به الظلم بعد الشرك، والشرط ظلم عظيم – إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ۩ – والعياذ بالله.

قال ولا يخذله، روى الإمام أحمد في مُسنَده مَن أُذِل عنده مُسلِم وكان قادراً على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم يقوم الناس لرب العالمين، الله أكبر! على رؤوس الأشهاد الله سيتولى إذلاله، لماذا لم تنصر أخاك وقد كنت قادراً؟ قد يقول يا رب قدَّمت مصلحتي، ماذا قدَّمت؟ قدَّمت مصلحتك! طبعاً هناك مصلحة، مُمكِن حتى تكون مائة يورو، لكنه قدَّمها، حتى يحتاز مائة يورو سكت عن ظلم إنسان من إخوانه في المِلة والدين، لا يأخي! قد يقول قدَّمت مصلحتي، وهي أن أُوثِر السلامة، حتى ربما لا يزعلوا مني، حتى لا يغضبوا، وحتى لا يحردوا علىّ طبعاً، إذن ستُذَل يوم القيامة – الأبعد والعياذ بالله – ومن رب العالمين.

وفي أبي داود أيما مُسلِم خذل أخاه المُسلِم في موضع – وفي رواية في موطن – يُنتقَص فيه من عرضه ويُنتهَك فيه من حُرمته – طبعاً والمعنى كما في حديث أحمد وهو قادر على أن ينصره – إلا خذله الله في موطن – أو قال موضع في رواية – يُحِب فيه نُصرته، أي نُصرة الله، الله سيخذلك طبعاً، الجزاء من الجنس العمل، انتبه!

بالمُناسَبة بعض الناس يظن أن المسائل بالأماني، والله لا، والله لا يا إخواني، والله الجزاء من جنس العمل، والله لقد رأينا أُناساً كانت حالتهم بسيطة، غير ميسورة، ولكنهم يسعون في نفع العباد، إيصال الخير، وإنجاز مهامهم، ففتح الله عليهم فتوحاً عظيماً، الجزاء من جنس العمل، والله حين تبخل يبخل الله عليك، أنت تبخل عن نفسك، كما قال تعالى وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ۩، وحين تُعطي أنت تُعطي لنفسك، كل شيئ تُقدِّمه ستناله في الدنيا قبل الآخرة، انتبه! هكذا الله يُعامِل، ولكن الله لا يعجل بعجلة أحدنا، نحن نظرنا قصير، عند أقدامنا! يقول أحدنا لا، لن أُعطي، لن أُساعِد، لن أنتصر، ولن أفعل، لأن هذا يُؤثِّر علىّ الآن وهنا، إذن ستنظر بعد سنة ماذا سيحصل لك أو بعد عشرين أو بعد ثلاثين أو بعد أربعين أو بعد خمسين، في الدنيا قبل الآخرة، فانتبه وعامل الله بالصدق.

الذي عند الله لا يضيع، كل شيئ عند الله لا يضيع، بعض الناس يتصرَّف كأن فعلاً ما عند الله يضيع، ولذلك يقول لماذا؟ لماذا أسمح؟ لماذا أصفح؟ لماذا أُعطي؟ لماذا أتصدَّق؟ لماذا أفعل هذا والناس لا يشكرون والناس لا يعلمون بما أفعل؟ هل أنت تفعل للناس؟ إن كنت تفعل لله – والله – مقادير الذر عند الله لا تضيع، كله موجود يا حبيبي، كله موجود! وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ۩، الله لا ينسى ولا يُضيِّع شيئاً، كله موجود، أنت ستنساه لكن الله لن ينساه، أي هذا الخير، ولو مثاقيل الذر يا رجل، عاملوا الله بالصدق وبهذا المنطق يا إخواني.

قال ومَن نصر مُسلِماً في موضع – أو قال مُوطِن – يُنتقَص فيه من عرض ويُنتهَك فيه من حُرمته نصره الله في موضع – أو قال مُوطِن – يُحِب فيه نُصرته، اللهم اجعلنا منهم، هذا هو! لا تخذل أخاك المُسلِم، لا تخذله، ولا تُجامِل الناس، لا تُجامِل أي أحد، قل بالحق الذي يُرضي الله، ولو أسخطت الخلائق أجمعين، لا يعنيك سخطهم شيئاً، لا يعنيك! يعنيك الموقف عند الله تبارك وتعالى.

للأسف أدركنا الوقت، لعلنا – إن شاء الله – نُكمِل بقية هذه الخصال في مُناسَبة أُخرى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك، على هذا النبي العربي الهاشمي الكريم، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين الميامين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم إنك أنت أصلحت الصالحين لك فأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك، ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت، ولا تعجيل ما أخَّرت.

اللهم اجعل غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا، وأقِر بذلك عيوننا.

اللهم حقِّق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، إلهنا ومولانا رب العالمين.

لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه، ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه، يا رب العالمين.

اللهم انصر الإسلام وأعِز المُسلِمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم أصلِح ذات بين المُسلِمين، اللهم ألِّف بين قلوبهم وأنزِل عليهم السكينة والروح والإيمان، وأيِّدهم بنصر من عندك، يا رب العالمين.

اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا بائساً ولا يائساً ولا محروماً، أعنا على ذكرك وشُكرك وحُسن عبادتك.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩.

____________

فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ۩، قوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: